الكتاب: البيان والتبيين المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ) الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت عام النشر: 1423 هـ عدد الأجزاء: 3   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- البيان والتبيين الجاحظ الكتاب: البيان والتبيين المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ) الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت عام النشر: 1423 هـ عدد الأجزاء: 3   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الجزء الاول مقدمة عامة كتاب البيان والتبيين من أضخم مؤلفات الجاحظ، وهو يلي كتاب الحيوان من حيث الحجم ويربو على سائر كتبه. وإذا كان كتاب الحيوان يعالج موضوعا علميا فإن كتاب البيان والتبيين ينصب على معالجة موضوع أدبي. ولكن الجاحظ في هذين الكتابين، شأنه في جميع كتبه، ينحو منحى فلسفيا. فهو لا يقتصر في كتاب الحيوان على أخبار الحيوانات وخصالها وطباعها، بل يتطرق إلى موضوعات فلسفية كالكمون والتولد، والجواهر والأعراض، والجزء الذي لا يتجزأ، والمجوسية والدهرية الخ. وفي كتاب البيان والتبيين لا يكتفي بعرض منتخبات أدبية من خطب ورسائل وأحاديث وأشعار، بل يحاول وضع أسس علم البيان وفلسفة اللغة. إن إبراز هذه الناحية الفلسفية في آثار الجاحظ هو الذي حداني على تأليف كتاب «المناحي الفلسفية عند الجاحظ» ، وإعادة النظر في رسائله العديدة وإخراجها في طبعة جديدة تضمها جميعا، وتمتاز بتبويب دقيق ومقدمات وشروحات وافية. وهو الذي يحفزني الآن على إعادة طبع كتاب البيان والتبيين. لقد طبع هذا الأثر الثمين مرارا، وخير تلك الطبعات تم على يدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 حسن السندوبي، وعبد السلام هارون. وقد بذلا مشكورين جهدا في التحقيق والشرح والفهرسة. ولكنهما أغفلا ناحيتين هما المنحى الفلسفي والتبويب. أما المنحى الفلسفي فسأعالجه في المقدمة والشرح. وأما التبويب فأعني به تجزئة الكتاب ووضع عناوين لموضوعاته وفقره. إن العناوين التي نلفيها في الطبعات السابقة قاصرة، ولا تنطبق في معظمها على الموضوعات التي يدور حولها الكلام، وهي على الأرجح من وضع النساخ الذين قبسوها من بداية الفقر. وأما تجزئة الكتاب فلم يقطع بها بشكل نهائي ومنطقي. لقد قسمه السندوبي ثلاثة أجزاء، وقسمه عبد السلام هارون أربعة وترجح بين تقسيم المؤلف، وتقسيم المصنف، ويعنى به الناسخ أحمد بن سلامة بن سالم المعري، الذي فرغ من عمله سنة ثلاث وثمانين وستماية هجرية، فأثبت الاثنين معا: فالجزء الثاني ذو بدايتين، بداية أولى حسب تجزئة المؤلف أي الجاحظ، وبداية ثانية حسب تجزئة المصنف، وبينهما 207 صفحات فقط. أما الجزء الثالث فقد اتفق المؤلف والمصنف والمحقق في بدايته ولكن المحقق انفرد عنهما بأن اجتزأ نحو مائة صفحة من آخره وجعلها جزءا رابعا مع الفهارس. والواقع أن الجاحظ جعل الكتاب في ثلاثة أجزاء، والدليل على ذلك أنه ابتدأ كلا من الجزء الثاني والثالث بعبارة تعلن بدايته وانتهاء سابقه. فالجزء الثاني يبدأ بالعبارة التالية: «أردنا أبقاك الله أن نبتدئ صدر هذا الجزء الثاني من البيان والتبيين بالرد على الشعوبية في طعنهم على خطباء العرب وملوكهم ... » . وفي مطلع الجزء الثالث نلفي العبارة التالية المماثلة: «هذا أبقاك الله الجزء الثالث من القول في البيان والتبيين ... » . ولقد اعتمدنا على هذا الدليل الواضح والتزمنا بتجزئة المؤلف وقسمنا الكتاب ثلاثة أجزاء. ويعني الجاحظ بالبيان الدلالة على المعنى، وبالتبيين الإيضاح. وقد عرف الكتاب خير تعريف بقوله الوارد في مطلع الجزء الثالث: «هذا أبقاك الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الجزء الثالث من القول في البيان والتبيين، وما شابه ذلك من غرر الأحاديث، وشاكله من عيون الخطب، ومن الفقر المستحسنة، والنتف المستخرجة، والمقطعات المتخيرة، وبعض ما يجوز في ذلك من أشعار المذاكرة والجوابات المنتخبة» . وهكذا نلفي في كل جزء من أجزاء الكتاب الثلاثة بحثا في البيان والتبيين، ومجموعات من الأحاديث والخطب والمقطعات والجوابات والأشعار. ولقد التزم الجاحظ هذا التصميم وقصد إليه قصدا ليجنب القارىء الملل أو السأم بتنويع الموضوعات. وقد عبّر عن ذلك بقوله: «وجه التدبير في الكتاب إذا طال أن يداوي مؤلفه نشاط القارىء له، ويسوقه إلى حظه بالاحتيال له، فمن ذلك أن يخرجه من شيء إلى شيء ومن باب إلى باب، بعد أن لا يخرجه من ذلك الفن، ومن جمهور ذلك العلم» «1» . بهذا برر الجاحظ طرقه الموضوعات ذاتها في كل جزء من أجزاء الكتاب. فموضوع علم البيان وفلسفة اللغة توزع على الأجزاء الثلاثة: في الجزء الأول تحدث عن مفهوم البيان وأنواعه، وآفات اللسان، والبلاغة والفصاحة. وفي الجزء الثاني تحدث عن الخطابة وطبقات الشعراء. وفي الجزء الثالث تكلم على أصل اللغة وقيمة الشعر. وفي كل جزء من الأجزاء الثلاثة أورد أبو عثمان منتخبات من كلام الأبيناء، خطبا ومقطعات وأحاديث ورسائل وأشعارا، نسبها إلى مختلف طبقات الناس: عقلاء وحمقى، نساك ومتهتكين، أعراب ومتحضرين، رؤساء وسوقة. وإذا سئل الجاحظ: لم لم تجمع كلامك على البيان وفلسفة اللغة في مكان واحد من الكتاب؟ ولم لم تضم أخبار الزهاد والنساك وأقوالهم في باب واحد ولم وزعت أخبار النوكى وأقوالهم على الأجزاء الثلاثة، ولم عدت إلى الكلام على الخطابة والخطباء مرارا وبعثرت خطبهم هنا وهناك الخ ردد صاحبنا الجواب ذاته واعتل بالعلة ذاتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ألّف الجاحظ كتاب البيان والتبيين (القسم الأول منه) في الفترة التي اتصل فيها بالقاضي أحمد بن أبي دؤاد المعتزلي النزعة (بعد 232 هـ) ونال عليه جائزة سنية تبلغ خمسة آلاف دينار، وأتمه بعد انتقاله إلى البصرة عند ما طعن في السن «1» . وقد شرع بتأليفه بعد كتاب الحيوان كما يتضح من كلام الجاحظ ذاته حيث يقول: «كانت العادة في كتاب الحيوان أن أجعل في كل مصحف من مصاحفه عشر ورقات من مقطعات الأعراب ونوادر الأشعار لما ذكرت عجبك بذلك فأحببت أن يكون حظ هذا الكتاب من ذلك أوفر إن شاء الله» «2» . ويلاحظ أن الجاحظ تناول موضوع البيان في مقدمة الحيوان والجزء الأول من البيان والتبيين مرددا الأفكار ذاتها، وإذا كانت مقدمة «الحيوان» كتبت بعد الفراغ من تأليفه فهل يعني ذلك أنه طرق الموضوع على عجل في مقدمة «الحيوان» ثم استأنف التوسع فيه في «البيان والتبيين» ؟. مهما كان من أمر فقد جاء كتاب البيان والتبيين استجابة لاهتمام العرب في ذلك العصر بصناعة الكلام لأن الكلام هو الوسيلة المثلى لنشر المبادىء السياسية والعقائد الدينية في زمن كثرت المذاهب واشتد الصراع بين زعمائها واحتدم الجدل بين أنصارها. فمست الحاجة إلى التمرس بالخطابة والمناظرة وإلى وضع أصول لها تتعلم أو يرجع إليها. وقد أشار الجاحظ إلى النشاط الذي بدأ يبذل في تعليم أسس الخطابة حيث يقول: «مرّ بشر بن المعتمر بإبراهيم بن جبلة بن مخرمة السكوني الخطيب، وهو يعلم فتيانهم الخطابة، فوقف بشر، فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد أو ليكون رجلا في النظارة، فقال بشر: اضربوا عما قال صفحا واطووا عنه كشحا، ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه» «3» . كما أشار إلى حاجة المتكلم الماسة إلى البيان لأنه مضطر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 للاحتجاج على أرباب النحل وزعماء الملل وأنه لا بد له من مقارعة الأبطال ومن الخطب الطوال «1» . وقد يخطر على الذهن افتراض آخر وهو محاكاة الجاحظ أرسطو في معالجة هذا الموضوع. لقد بحث أرسطو في الحيوان فجاء الجاحظ يطرق الموضوع ذاته، وبحث أرسطو في الخطابة وفي الشعر، فهل أراد الجاحظ معارضته في هذا المضمار أيضا؟ من الثابت أن كلا الرجلين بحثا الموضوع ذاته، ولكن الخلاف بينهما في الآراء والمنهج كبير. ولم يكن الجاحظ من المعجبين بأرسطو، وقد انتقده مرارا في كتاب الحيوان وفي كتاب الحيوان وفي كتاب البيان والتبيين. لنسمعه يقول عن أرسطو: «ولليونان فلسفة وصناعة منطق، وكان صاحب المنطق نفسه بكيء اللسان غير موصوف بالبيان مع علمه بتمييز الكلام وتفصيله ومعانيه وبخصائصه ... » . أضف إلى ذلك أنه لم يذكر أنه اطلع على كتاب الخطابة لأرسطو أو على كتاب الشعر، بينما ذكر كتاب الحيوان لأرسطو مرارا عديدة. لقد تكلم الجاحظ على صفات الخطيب مثل أرسطو ولكنه اهتم على عكس أرسطو بظاهره ولم يحفل بباطنه وأخلاقه. ورأى أن أهم صفات الخطيب جهارة الصوت وسعة الفم ورباطة الجأش وسكون الجوارح وقلة اللحظ، وأبشع عيوبه العي أو الحصر ثم اللثغة واللحن واللكنة والتشديق والتقعيب والتزيد. وتحدث على غرار أرسطو عن أنواع الخطب ولكنه لم يتعمق في ذلك كأرسطو واكتفى بذكر بعضها دون توقف مثل خطبة المحافل، وخطبة النكاح، وخطبة الوعظ. وبحث في بناء الخطبة كأرسطو، ولكنه اقتصر على الناحية الفنية ولم يحفل بالناحية الفكرية. فلاحظ أن الخطبة تكون طويلة أو قصيرة، وتبدأ بالتحميد والتمجيد وإلا عدت بتراء، وتوشح بآي القرآن وإلا سميت شوهاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وأسهب في الكلام على شرط البلاغة في الخطبة وهي تعني إبلاغ المعنى إلى السامع بكلام واضح فصيح موافق لمقتضى الحال. بيد أن الجاحظ طرق ناحية لم يحفل بها أرسطو هي الموازنة بين الموهبة الخطابية عند مختلف الأمم. وقد رأى أن العرب أخطب الأمم قاطبة لحضور بديهتهم وزرابة لسانهم وفطرتهم المطبوعة. وتنبه إلى مكانة الخطيب الخطيرة التي بدأت ترتفع منذ العصر الأموي بينما أخذت مكانة الشاعر تنحط. وعزا سبب ذلك إلى اتخاذ الشعر مطية للتكسب وإلى تعاظم شأن الخطابة للحاجة إليها ولمعالجتها أمورا سياسية ودينية خطيرة. وأوضح رأيه بقوله: «كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم ويضخم شأنهم ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب في فرسانهم ويخوف من كثرة عددهم ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة وتسرعوا إلى أعراض الناس صار الخطيب عندهم فوق الشاعر ... » «1» . وثمة سبب آخر دعا المتكلمين إلى الاهتمام بعلم البيان واللغة العربية لأن اللغة العربية لغة القرآن الذي ينطوي على الوحي والشريعه وعليه مدار أبحاثهم، وعلى قدر تضلعهم منها يكون إدراكهم لمعاني القرآن وتمكنهم من تأويل آياته وقد عبر الجاحظ عن هذه الناحية بقوله: «فللعرب أمثال وانتقادات وأبنية، وموضع كلام يدل عندهم على معانيهم وإرادتهم. ولتلك الألفاظ مواضع أخر ولها حينئذ دلالات أخر. فمن لم يعرفها جهل تأويل الكتاب والسنة والشاهد والمثل، فإذا نظر في الكلام وفي ضروب من العلم وليس هو من أهل هذا الشأن هلك وأهلك» «2» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 ونستطيع إضافة سبب آخر حمل الجاحظ على وضع «البيان والتبيين» هو الرد على الشعوبية التي طعنت في بلاغة العرب وموهبتهم الخطابية. وقد كرس لهذه الغاية قسما لا بأس به من الكتاب (باب العصا في الجزء الثالث) . ويمكننا القول إن كتاب البيان والتبيين أقدم وأهم محاولة لدراسة علم البيان وفلسفة اللغة. ويعتبر الجاحظ رائدا في هذا المضمار لمن جاء بعده أمثال ابن فارس وابن جني والسيوطي. وقد سبق فرديناد دي سوسر إلى القول بأن فقه اللغة يجب أن يكون فرعا من علم أوسع يشتمل على مختلف أنواع الدلالات سماه الجاحظ علم البيان حيث يقول: «والبيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته ويهجم على محصوله، كائنا ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان الدليل، لأن مدار الأمر والغاية التي يجري القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام. فبأي شيء بلغت الأفهام وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع» «1» . وقد حصر الجاحظ أنواع البيان بخمسة لا تزيد ولا تنقص هي اللفظ والإشارة والعقد والخط والحال. وهو يعتبر الإشارة بالجوارح كاليد والطرف والحاجب مرفقا كبيرا يعين الناس في أمور يحاولون سترها عن البعض دون البعض. ولولاها لم يستطيعوا التفاهم في معنى خاص الخاص «2» . أما الخط أو الكتابة فهو وسيلة التبيين في الكتب، ونقل المعرفة عبر الزمان والمكان، ولولاه لا ندثر العلم. ومن ثم كانت أهمية الكتب وأفضليتها لأن الكتاب يدرس في كل زمان ومكان بينما لا يعدو اللسان سامعه «3» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ولا يقل الحساب أهمية عن الخط، وبه تعرف منازل القمر والشمس والنجوم وعدد السنين والأيام الخ. أما النصبة فهي الحال الناطقة بغير اللفظ والمشيرة بغير اليد. وذلك ظاهر في خلق السماوات والأرض، وفي كل صامت وناطق وجامد ونام ومقيم وظاعن وزائد وناقص. فالدلالة التي في الموات الجامد كالدلالة التي في الحيوان الناطق، فالصامت ناطق من جهة الدلالة، والعجماء معربة من جهة البرهان» «1» . بقي اللفظ، أهم وسائل البيان، وقد تحدث عنه الجاحظ بإسهاب ودرسه دراسة عميقة شاملة. وقوام اللفظ الصوت، فكل لفظة تتألف من مجموعة مقاطع، وكل مقطع يتألف من مجموعة حروف، وكل حرف عبارة عن صوت. والصوت ينتج عن حركات اللسان في الفم. يقول الجاحظ موضحا ذلك: «والصوت هو آلة اللفظ والجوهر الذي يقوم به التقطيع وبه يوجد التأليف، ولن تكون حركات اللسان لفظا ولا كلاما موزونا أو منشورا إلا بظهور الصوت، ولا تكون الحروف كلاما إلا بالتقطيع والتأليف» «2» . ويعتني الجاحظ بملاحظة العلل التي تعتري البيان وأهمها الحبسة واللثغة واللكنة واللحن. والحبسة عقدة تصيب اللسان فلا يستطيع المرء النطق بسهولة، ويثقل عليه الكلام، فينتج عن ذلك عدم القدرة على التعبير جيدا عن أفكاره وإفهام الآخرين. وكان موسى يعاني من هذه العقدة فسأل الله حين بعثه إلى فرعون بإبلاغ رسالته أن يحل تلك العقدة التي كانت في لسانه أو الحبسة التي كانت في بيانه «3» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 أما اللثغة فأكثر شيوعا وأقبح مظهرا، وتقوم بإبدال حرف بحرف آخر، وقد أحصى الجاحظ الحروف التي تدخلها اللثغة فوجدها أربعة هي القاف والسين واللام والراء. فاللثغة التي تعرض للقاف يجعل صاحبها القاف طاء فيقول طلت بدل قلت. واللثغة التي تعرض للسين يجعل صاحبها السين ثاء، فيقول: أبو يكثوم بدل أبي يكسوم، ويقول بثم الله بدل باسم الله. أما اللثغة التي تقع في اللام، فيجعل بعض أصحابها اللام ياء ويقول اعتييت بدل اعتللت، وجمي بدل جمل. ويجعل بعضهم الآخر اللام كافا فيقول مكعكة في هذا بدل ما العلة في هذا. وأما اللثغة التي تقع في الراء فتتم بأربعة أحرف هي الياء والغين والذال والطاء. ويقول أصحابها عمي بدل عمرو، أو يقول عمغ بدل عمرو، أو يقول مذة بدل مرة، أو يقول مظة بدل مرة «1» . واللكنة هي إدخال حروف العجم في حروف العرب. وهي علة تقع للأعاجم الذين يتكلمون العربية. فالنبطي الذي نشأ في سواد الكوفة مثلا قد يتكلم العربية المعروفة ويتخير ألفاظه وتجود معانيه، ومع ذلك يعلم السامع لكلامه ومخارج حروفه أنه نبطي، وكذلك الخراساني والأهوازي. والسندي الذي تعلم العربية كبيرا يجعل الجيم زايا، والنبطي يجعل الزاي سينا فيقول سورق بدل زورق، ويجعل العين همزة. وهذه اللثغة التي تعتري الأعاجم تختلف عن اللثغة التي تعتري الصبيان أو الشيوخ ومن ينشأ من العرب مع العجم. وأهم مظاهر هذه اللكنة أبدل السين شيئا والطاء تاء والحاء هاء. «قال فيل مولى زياد لسيده مرة «اهدوا لنا همار وهش» يريد حمار وحش، فقال زياد: ما تقول ويلك! قال: اهدوا إلينا أيرا، يريد عيرا، فقال زياد: الأول أهون، وفهم ما أراد» «2» . ومن علل اللسان التمتمة والفأفأة واللفف واللجلجة والحكلة. والتمتام هو الذي يتعتع في التاء، والفأفاء هو الذي يتعتع في الفاء، والألف هو الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 يدخل بعض كلامه في بعض، واللجلاج هو الذي يبطىء في كلامه وينقص منه. وذو الحكلة هو الذي لا يبين كلامه ويعجز عن اللفظ حتى لا تعرف معانيه إلا بالاستدلال «1» . أما اللحن فهو الخطأ في تحريك حروف الكلمة من ضم وكسر وفتح وسكون. وقد شاع اللحن في العصر العباسي بسبب اختلاط العرب بغيرهم من الشعوب الأعجمية التي أرادت أن تتكلم العربية فلم تستطع المحافظة على سلامتها من الخطأ في اللفظ والحركات. وقد أورد الجاحظ أمثلة كثيرة على هذه الظاهرة اللغوية. يقول: «قال بشر بن مروان، وعنده عمر بن عبد العزيز لغلام له: ادع لي صالحا. فقال الغلام: يا صالحا. فقال له بشر: الق منها ألف. قال له عمر: وأنت فزد في الفك ألفا» «2» . ولم يقتصر اللحن على الأعاجم الذين تكلموا العربية ولا على المدن التي كثر فيها الاختلاط بين العرب والأعاجم، بل فشا بين العرب الأقحاح وبين أهل الأمصار التي تعتبر معقل العربية مثل المدينة «ثم اعلم أن أقبح اللحن لحن أصحاب التقعير والتقعيب والتشديق والتمطيط والجهورة والتفخيم، وأقبح من ذلك لحن الأعاريب النازلين على طرق السابلة، وبقرب مجامع الأسواق. ولأهل المدينة ألسن ذلقة، وألفاظ حسنة وعبارة جيدة، واللحن في عوامهم فاش، وعلى من لم ينظر في النحو منهم غالب» «3» . لم يكتف الجاحظ بملاحظة وجوه الخطأ التي تقع في اللفظ بل راح يبحث، بفضوله العلمي، عن علاقتها باللسان والأسنان والتنفس والشفاه التي تشترك في إخراج الحروف معتمدا على السماع والملاحظة والتجربة. فالشفة الفلحاء أو العلماء تؤثر في حسن التلفظ، يقول الجاحظ مشيرا إلى ذلك «وقال عمر بن الخطاب رحمه الله في سهيل بن عمرو الخطيب: يا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 رسول الله، انزع ثنيتيه السفليين حتى يدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيبا أبدا، وإنما قال ذلك لأن سهيلا كان أعلم من شفته السفلى» «1» . وأثر الأسنان في البيان أوضح وأقوى، فسقوط بعض الثنايا يشوه اللفظ وخير من سقوطها جميعا إذا استحال وجودها جميعا. وتدل الملاحظة والتجربة «على أن سقوط جميع الأسنان أصلح في الإبانة عن الحروف، منه إذا سقط أكثرها، وخالف أحد شطريها الشطر الآخر، وقد رأينا تصديق ذلك في أفواه قوم شاهدهم الناس بعد أن سقطت جميع أسنانهم وبعد أن بقي منها الثلث أو الربع» «2» . أما اللسان فهو آلة الكلام الرئيسية، وكلما كان سليما جاء اللفظ صحيحا، وكلما ازداد حجمه بحيث يصك جوانب الفم ويملأه لم يترك خلاء لمرور الهواء كان أوفى بالغاية. وفي هذا الرأي يوافق الجاحظ الفيلسوف اليوناني أرسطو، ويطبق ذلك على الإنسان والحيوان. يقول الجاحظ: «وقال أهل التجربة، إذا كانت في اللحم الذي في مغارز الأسنان تشمير وقصر سمك ذهبت الحروف وفسد البيان، وإذا وجد اللسان من جميع جهاته شيئا يقرعه ويصكه، ولم يمر في هواء واسع المجال وكان لسانه يملأ جوبه فمه، لم يضره سقوط أسنانه إلا بالمقدار المغتفر، والجزء المحتمل. ويؤكد ذلك قول صاحب المنطق، فإنه زعم في كتاب الحيوان أن الطائر والسبع والبهيمة كلما كان لسان الواحد منها أعرض كان أفصح وأبين وأحكى لما يلقن ولما يسمع كنحو الببغاء والغداف وغراب البين وما أشبه ذلك ... » «3» . ويقسم الجاحظ اللفظ إلى طبقات كما ينقسم الناس أنفسهم إلى طبقات فمنه الجذل والسخيف، ومنه المليح والحسن، ومنه القبيح والسمج، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 والخفيف والثقيل. ومن حيث الفصاحة يوجد ثلاث مراتب: الغريب الوحشي، والفصيح، والسوقي المبتذل. وخيرها اللفظ الفصيح الذي يقع وسطا بين الغريب الوحشي والسوقي المبتذل «وكما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميا وساقطا سوقيا، فكذلك لا ينبغي أن يكون غريبا وحشيا إلا أن يكون المتكلم بدويا أعرابيا، فإن الوحشي من المتكلم يفهمه الوحشي من الناس كما يفهم السوقي رطانة السوقي ... » «1» . ومن صفات اللفظ الفصيح توافق الحروف ضمن الكلمة الواحدة. وقد لاحظ أبو عثمان أن في العربية حروفا لا تجتمع، فالجيم لا تقارن الطاء ولا القاف ولا الغين في تقديم أو تأخير، والزاي لا تقارن الطاء أو السين أو الضاد أو الدال بتقديم أو تأخير «2» . وتقتضي الفصاحة أيضا عدم تنافر الكلمات ضمن الجملة الواحدة. وإذا تنافرت الألفاظ صعب النطق بها وبدت غير متلائمة وغير متوافقة. من ذلك قول الشاعر: وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر وقد ظن البعض لجهلهم بعلم البلاغة أن هذا البيت من أشعار الجن لأن المرء لا يستطيع إنشاده ثلاث مرات في نسق واحد دون أن يتعتع أو يتلجلج «3» . ومقياس الفصاحة في نظر الجاحظ القرآن وكلام الأعراب، إذ فيهما تحققت الفصاحة بأعلى مستوياتها، فاعتبرا المثال الأعلى للكلام الفصيح. فكل كلام أشبههما عدّ فصيحا، وكل كلام اختلف عنهما نأى عن الفصاحة. يقول الجاحظ مشيرا إلى ذلك: «قال أهل مكة لمحمد بن مناذر الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ليست الفصاحة لكم معاشر أهل البصرة لغة فصيحة، إنما الفصاحة لنا أهل مكة. قال ابن مناذر: أما ألفاظنا فأحكى الألفاظ للقرآن وأكثرها له موافقة، فضعوا القرآن بعد هذا حيث شئتم» «1» ويفهم من هذا أن الحكم في الخلاف بين فصاحة لغة أهل مكة والبصرة إنما هو القرآن. وكذلك الحال بالنسبة إلى لغة أهل البادية التي اعتبرت مرجعا في الفصاحة «وشأن عبد قيس عجب، وذلك أنهم بعد محاربة إياد تفرقوا فرقتين: ففرقة وقعت في عثمان وشق عمان، وهم خطباء العرب، وفرقة وقعت إلى البحرين وشق البحرين وهم أشعر قبيل العرب، ولم يكونوا كذلك حين كانوا في سرة البادية وفي معدن الفصاحة. وهذا عجب» «2» . بعد دراسة اللفظ المفرد نصل مع الجاحظ إلى اللفظ المركب، ونلج باب البلاغة وقد استعرض صاحبنا مختلف التعريفات التي أعطيت للبلاغة، وقارن بين مفاهيمها عند الفرس والهنود واليونان والعرب. وفي ذلك دليل على شمول ثقافته وبعد نظرته. وقد استقى مفهوم البلاغة عند الفرس من معاصره الفارسي الأصل سهل بن هارون، واستقى مفهومها عند الهند من صحيفة بهلة الهندي معاصره أيضا، وأخذ مفهومها عند العرب عن صحار بن عباش العبدي في كلام له مع معاوية الذي سأله عن البلاغة فقال: الإيجاز. والإيجاز يعني الإجابة دون خطأ أو إبطاء. كما استشهد عليها بقول بعض الأعراب الذي سئل عن البلاغة فقال: الإيجاز في غير عجز والإطناب في غير خطل «3» . ويفضل الجاحظ التعريف التالي للبلاغة: «وقال بعضهم- وهو أحسن ما اجتبيناه ودوناه- لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه ولفظه معناه، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك» «4» . ومعنى ذلك أن الكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 البليغ هو الكلام الذي يبلغ المعاني التي في رأس المتكلم إلى عقل السامع. ولا يتأتى له ذلك إلا إذا كان واضحا وعلى أقدار المعاني. وبذا يخالف الجاحظ مفهوم البلاغة السائد أي الإيجاز. إن الكلام البليغ ليس هو الكلام الموجز وليس الكلام المسهب بل الكلام المساوي للمعاني «وإنما الألفاظ على أقدار المعاني، فكثيرها لكثيرها، وقليلها لقليلها، وشريفها لشريفها، وسخيفها لسخيفها، والمعاني المصغرة البائنة بصورها وجهاتها تحتاج من الألفاظ إلى أقل ما تحتاج إليه المعاني المشتركة والجهات الملتبسة» «1» . ومن شروط البلاغة موافقة الكلام لمقتضى الحال أو للموضوع الذي يجري فيه الكلام. «ويجب على المتكلم أن يوازن بين المعاني وأقدار المستمعين وأقدار الحالات فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاما ولكل حالة من ذلك مقاما» «2» . ومن شروط البلاغة متانة العبارة التي تعني ربط ألفاظ الجملة ببعضها ربطا محكما لا هلهلة فيه ولا خلل «فأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه قد أفرغ إفراغا وسبك سبكا واحدا، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان» «3» . ومن شروط البلاغة الطبع، وهو يعني الموهبة وعدم التكلف. وإذا كان الكلام صحيح الطبع بعيدا عن الاستكراه ومنزها عن الاختلال، مصونا عن التكلف صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة..» «4» وقد ركز الجاحظ على شرط الطبع عملا بفلسفته الطبيعية التي تفسر الفن كما تفسر المعرفة والأخلاق بالطباع كما صدر في جميع آرائه عن مذهبه الاعتزالي الوسطي المنزلة بين المنزلتين- وطبق ذلك على البلاغة والفصاحة، فاعتبر خير الكلام ما وقع وسطا بين الوحشي والسوقي، وما وقع وسطا بين الإيجاز والإطناب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وأوضح مذهبه هذا بقوله: «فالقصد في ذلك تجنب السوقي والوحشي، ولا تجعل همك في تهذيب الألفاظ وشغلك في التخلص إلى غرائب المعاني. وفي الاقتصاد بلاغ وفي التوسط مجانبة للوعورة وخروج من سبيل من لا يحاسب نفسه» «1» . وينظر الجاحظ في أصل اللغة، ويذهب إلى أنها توقيف، أو وحي من الله. فجد العرب إسماعيل بن إبراهيم ألهم العربية على غير التلقين والتمرين وهو في الرابعة عشرة من عمره. ويقدم عدة أدلة على أنها توقيف: منها كلام عيسى في المهد، وإنطاق الله يحيى بالحكمة صبيا، وكلام حواء وآدم. ومعنى ذلك أن الإنسان يحتاج ليتفاهم مع بني جلدته إلى اللغة، وحواء وآدم لم يعلمهما أحد اللغة، فكان لا بد من أن يلهمهما الله إياها. وإذا لم يكن إسماعيل أول عربي تكلم العربية فينبغي أن يكون ثمة أب آخر للعرب كان أول عربي من جميع بني آدم تكلم العربية. ومنها ما تفوّه به ذئب اهبان بن أوس، وغراب نوح وهدهد سليمان، والنملة وحمار عزيز وقد أنطق الله هذه الحيوانات بقدرته وسخرها لمعرفته، فلم لا يكون الإنسان مثلها قد أنطقه الله بمشيئته؟ ويربط الجاحظ تعلم اللغة بالمعرفة، ويذهب إلى أن الإنسان يعرف الأمور طباعا بواسطة ما منحه الله من ذكاء، ولا يحول دونه والمعرفة سوى موانع كالأخلاط الأربعة وسوء العادة والشواغل العارضة وخرق المعلم وإذا أزال الله تلك الموانع وصفى ذهن الإنسان وقعت المعرفة «2» . وثمة دليل آخر على أن الله مصدر اللغة، هو وجود ألفاظ في القرآن لم يعرفها عرب الجاهلية، إنها من اختراع الله الذي أوحى بها إلى النبي. يقول مشيرا إلى ذلك: «وقد علمنا أن قولهم لمن لم يحج صرورة، ولمن أدرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الجاهلية والإسلام مخضرم، وقولهم لكتاب الله قرانا، وتسميتهم للتمسح بالتراب التيمم، وتسميتهم للقاذف بفاسق. إن ذلك لم يكن في الجاهلية. وإذا كان للنابغة أن يبتدئ الأسماء على الاشتقاق من أصل اللغة كقوله «والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد» وحتى اجتمعت العرب على تصويبه وعلى اتباع أثره، وعلى أنها لغة عربية، فالله الذي هو أصل اللغة أحق بذلك» «1» . ويبدو أن الجاحظ استند في مذهبه إلى القرآن والسماع ونظريته القائلة أن المعرفة تحدث طباعا. وقد اقتفى أثره ابن فارس في كتابه «الصاحبي في فقه اللغة» ولكن خالفه ابن جني الذي قال إن اللغة اصطلاح، والسيوطي الذي قال إنها تقليد. ولكن أبا عثمان لم يستطع أن ينكر ما طرأ على اللغة العربية من تطور. فقد دخلت عليها ألفاظ أعجمية بسبب اختلاط العرب بغيرهم من الشعوب. فأهل المدينة لما نزل فيهم ناس من الفرس، علقوا بألفاظ فارسية فسموا البطيخ الخربز، والسميط الرزدق، والمصوص المزوز. وكذلك أهل الكوفة تأثروا بلغة الفرس الذين احتكوا بهم فسموا المسحاة البال وسموا الحوك الباذروج، وسموا القثاء خيارا الخ ... «2» . وهناك ألفاظ جديدة أوجدها المتكلمون وعلماء اللغة في العصر العباسي عن طريق الاشتقاق أو النحت أو الاصطلاح للتعبير عن المعاني الفلسفية والعلمية الجديدة مثل الجوهر والعرض والهوية والهذية الخ. يقول الجاحظ موضحا هذه الناحية: « ... وهم المتكلمون تخيروا تلك الألفاظ لتلك المعاني، وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم، فصاروا في ذلك سلفا لكل خلف، وقدوة لكل تابع. ولذلك قالوا العرض والجوهر وأيس وليس، وفرقوا بين البطلان والتلاشي، وذكروا الهذية والهوية والماهية وأشباه ذلك. وكما وضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الخليل بن أحمد لأوزان القصيد وقصار الأرجاز ألقابا لم تكن العرب تتعارف على تلك الأعاريض بتلك الألقاب، وتلك الأوزان بتلك الأسماء، كما ذكر الطويل والبسيط والمديد والوافر والكامل وأشباه ذلك، وكما ذكر الأوتاد والأسباب والخرم والزحاف. وقد ذكرت العرب في أشعارها السناد والاقواء والاكفاء، ولم أسمع بالايطاء. وقالوا في القصيد والرجز والسجع والخطب، وذكروا حروف الروي والقوافي، وقالوا: هذا بيت وهذا مصراع ... وكما سمى النحويون فذكروا الحال والظروف وما أشبه ذلك؛ لأنهم لو لم يضعوا هذه العلامات لم يستطيعوا تعريف القرويين وأبناء البلديين علم العروض والنحو. وكذلك أصحاب الحساب قد اجتلبوا أسماء جعلوها علامات للتفاهم» «1» . وقد شعر الجاحظ بثقل الحمل الذي حملته اللغة العربية عند ما نقلت إليها مختلف العلوم المعروفة في اللغات اليونانية والفارسية والهندية، ودعا إلى عدم تكليف اللغة ما ليس في طاقتها، وقد عبر عن ذلك بقوله: «وليس ينبغي أن نسوم اللغات ما ليس في طاقتها ونسوم النفوس ما ليس في جبلتها، ولذلك يحتاج صاحب المنطق إلى أن يفسره لمن طلب من قبله علم المنطق» «2» . ويشير الجاحظ إلى حركة الترجمة التي نشطت في عصره ويرى أن الترجمان يجب أن يكون عالما باللغة المنقولة والمنقول إليها «3» . ويرى أن الشعر لا يترجم وإذا ترجم ذهب سحره وتقطع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه «4» . وثمة ناحية أخيرة عالجها الجاحظ هي تعلم اللغة. وقد رأى أن ثمة صعوبات تعترض المتعلم ترجع إلى طبيعة اللغة ذاتها وكثرة مفرداتها وثقل مخارجها، كما ترجع إلى جهل المتكلم بمدلولاتها. ولكن أعون الأسباب على تعلمها فرط الحاجة إليها «5» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وقد سبق علماء التربية في العصر الحديث إلى دراسة تعددية اللغة وأدرك قبل جان جاك روسو ودكرولي أن اجتماع لغتين أو أكثر على لسان واحد يسيء إليهما معا فلا يستطيع المتكلم بهما أن يتضلع منهما أو يأمن تنازعهما إياه «1» . ومعنى ذلك أن اللغة الأم تشكل طريقة التفكير لدى الطفل الذي يكتسب اللغة، وليس للفكر سوى طريقة واحدة. وإذا حاولنا تعليمه لغتين أو أكثر تنازعت هذه اللغات السيطرة على تفكيره ونافست اللغات الأخرى في أن تكون هي طريقة التفكير عنده. ولذا نصح دكرولي بأن لا نعلم الطفل قبل العاشرة سوى لغته الأم خشية أن تحل محلها لغة أجنبية أخرى. عدا البيان وفلسفة اللغة عالج الجاحظ في كتابه موضوعين آخرين هما الزهد والشعوبية. وقد استأثرت حركة الزهد باهتمام الجاحظ فتكلم عليها في أجزاء الكتاب الثلاثة. في الجزء الأول أورد مجموعة من مواعظ النساك، وفي الجزء الثاني ذكر أسماء الزهاد الذين عرفوا بالبيان أمثال عامر بن عبد القيس، وصلة ابن أشيم، وعثمان بن أوحم، ومؤرق العجلي، ومالك بن دينار، ويزيد الرقاشي، ورابعة القيسية، ومعاذة العدوية، وأم الدرداء الخ. كما أتى على ذكر بعض المتصوفة أمثال هاشم الأوقص، وأبي هاشم الصوفي، وصالح بن عبد الجليل. وفي الجزء الثالث كرس للزهد بابا واسعا أثبت فيه قدرا كبيرا من أقوالهم ومواعظهم؛ وأهم هؤلاء الزهاد الحسن البصري الذي أكثر من ذكر أقواله ومواعظه؛ ثم أبو حازم الأعرج، وأبو عبد الحميد، وعمر بن عبد العزيز، وعمرو بن عبيد أحد مؤسسي الاعتزال، وعلي بن أبي طالب، ومحمد الباقر. ولا ينسى الشعراء الذين نظموا أشعارا في الزهد أمثال أبي العتاهية وأبي نواس والطرماح بن حكيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 واهتمام الجاحظ بالزهاد لا يدل على رضاه عنهم أو تأييد مذهبهم فلقد كان ينتقدهم نقدا لاذعا ويرميهم بالهروب من العمل واللجوء إلى التواكل والكسل. ويعتبر تصرفاتهم لا تمت إلى الإيمان بصلة ولا تزيد فيه شيئا. ويعكس رأيه فيهم قول أعرابي ذكر عنده رجل «بشدة الاجتهاد وكثرة الصوم وطول الصلاة فقال: هذا رجل سوء، أو ما يظن هذا أن الله يرحمه حتى يعذب نفسه هذا التعذيب؟» «1» . أما الشعوبية فتعني تعصب كل شعب لقوميته وحضارته، وبغض العرب، وقد اشتدت هذه الحركة في العصر العباسي ولا سيما الزمن الذي عاش فيه الجاحظ، ونجمت عن تعدد الشعوب التي ضمها المجتمع العباسي من فرس وزنج وروم وهنود إلى جانب العرب الذين يمثلون الأمة الحاكمة. فكانت محاولة هذه الشعوب إثبات وجودها والادلال بمآثرها وحضاراتها والبرهنة أن العرب ليسوا أفضل من سائر الأمم بل هم دونها شأنا. وقد أعار الجاحظ الحركة الشعوبية اهتماما كبيرا فتحدث عنها في كتب عديدة: الحيوان، رسالة النابتة، رسالة فضل السودان على البيضان، رسالة الترك وعامة جند الخلافة، وكتاب البيان والتبيين. ولا يهمنا في هذه المقدمة سوى ما ورد حولها في كتاب البيان والتبيين. خصّص الجاحظ للشعوبية قسما من الجزء الثالث عنوانه كتاب العصا، أورد فيه مطاعن الشعوبية على العرب والرد عليها. لقد طعنت الشعوبية على العرب أخذهم المخصرة عند إلقاء الخطب. واحتجت بقولها إنه لا يوجد بين العصا والخطبة سبب، وأن العصا لم توجد للخطابة بل للقتال أو الهش على المواشي. وأنها لا تنفع الخطيب في شيء، وهي تلهي السامع. والعرب قوم رعاة اعتادوا على حمل العصا في رعي مواشيهم فنقلوا تلك العادة إلى خطابتهم. وطعنت الشعوبية على العرب ضعف ملكتهم الخطابية، وقالت إنهم لا يضاهون الفرس واليونان والهنود في مضمار الخطابة والبلاغة. والدليل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 ذلك أن للفرس كتبا ورسائل محبرة مثل كتاب كاروند وسير الملوك، ولليونان كتبا في المنطق والحكمة، وللهنود كتبا في الحكمة والاسرار وليس للعرب مثل تلك الرسائل والكتب. وفيما يتعلق بالحرب رمت الشعوبية العرب بجهلهم فنون الحرب والأسلحة. فهم لا يتقنون تنظيم الجيوش ولا يعرفون الكمين والميمنة والميسرة والقلب والجناح، والقتال في الليل. ولا يحسنون استعمال الأسلحة التي يحسنها الفرس كالنفاضة والدراجة والرتيلة والعرادة، والمنجنيق والدبابة. ثم إن رماح العرب رديئة النوع لا تضارع رماح الفرس الجيدة «1» . وقد رد الجاحظ على مطاعن الشعوبية فقال إن الرماح العربية أجود من الرماح الفارسية وهي متنوعة منها النيزك والمربوع والمخموس والتام. وليس صحيحا أن العرب لا يحسنون القتال في الليل، إنهم يقاتلون في الليل كما يقاتلون في النهار. أما الرسائل المنسوبة إلى الفرس فليست صحيحة، وهي منحولة ولدها أمثال ابن المقفع وسهل بن هارون وعبد الحميد وغيلان ونسبوها إلى قومهم الفرس. أما ملكة العرب الخطابية فأمر ظاهر جلي لا يحتاج إلى برهان. ويكفي أن نأخذ بيد الشعوبي وندخله بلاد العرب الخلص، معدن الفصاحة، ونوقفه على خطيب مصقع أو شاعر مفلق ليعلم الحق ويبصر الشاهد عيانا. صحيح أن للهند كتبا مخلدة ولكنها لا تضاف إلى رجل معروف، وأن لليونان فلسفة وصناعة منطق ولكن صاحب المنطق كان بكيء اللسان، وأن للفرس خطباء ولكن كل كلام للفرس إنما هو ثمرة التفكير والدراسة وكد الخاطر. أما العرب فكلامهم وليد البديهة والإلهام، لا يعانون فيه جهدا ولا يجيلون فكرا. ولذلك يقطع الجاحظ بأن العرب أخطب الأمم «2» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ويختم الجاحظ هذا الجدل بالإشارة إلى الدافع الذي حمل هؤلاء العجم على بغض العرب والتنقص من شأنهم، إنه دافع نفسي يرجع إلى الحسد الجاثم على قلوبهم كما يرجع إلى كره الإسلام الذي جاء به العرب. والجاحظ، وإن انتصر للعرب ضد الشعوبية، لم يرتكب الخطأ الذي ارتكبته، فهو يذهب إلى أن الأمم ينبغي أن تكف عن البغضاء والتعصب لمزاياها، وأن تتعاون وتتآلف لأن لكل أمة مزايا ونقائص «1» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 [باب عيوب البيان] [العي] قال أبو عثمان عمرو بن بحر، رحمه الله: اللهمّ إنّا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذ بك من التكلّف لما لا نحسن كما نعوذ بك من العجب بما نحسن، ونعوذ بك من السّلاطة والهذر، كما نعوذ بك من العيّ والحصر. وقديما ما تعوذوا بالله من شرهما وتضرعوا إلى الله في السلامة منهما. وقد قال النّمر بن تولب «1» : أعذني ربّ من حصر وعيّ ... ومن نفس أعالجها علاجا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وقال الهذلي «1» : ولا حصر بخطبته ... إذا ما عزّت الخطب وقال مكّيّ بن سوادة «2» : حصر مسهب جريء جبان ... خير عيّ الرجال عي السكوت وقال الآخر: مليّ ببهر والتفات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل أصابع ومما ذموا به العي قوله: وما بي من عي ولا أنطق الخنا ... إذا جمع الأقوام في الخطب محفل وقال الراجز وهو يمتح بدلوه: علقت يا حارث عند الورد ... بجابىء لا رفل التردّي ولا عييّ بابتناء المجد «3» وهذا كقول بشار الأعمى «4» : وعيّ الفعال كعي المقال ... وفي الصمت عيّ كعي الكلم وهذا المذهب شبيه بما ذهب إليه شتيم بن خويلد في قوله «5» : ولا يشعبون الصدع بعد تفاقم ... وفي رفق أيديكم لذي الصّدع شاعب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 ومثل هذا قول زبّان بن سيار «1» : ولسنا كأقوام أجدوا رياسة ... يرى مالها ولا يحسّ فعالها يريغون في الخصب الأمور ونفعهم ... قليل إذا الأموال طال هزالها وقلنا بلا عي وسسنا بطاقة ... إذا النار نار الحرب طال اشتعالها لأنهم يجعلون العجز والعي من الخرق، كانا في الجوارح أم في الألسنة. وقال ابن أحمر الباهلي: لو كنت ذا علم علمت وكيف لي ... بالعلم بعد تدبّر الأمر وقالوا في الصمت كقولهم في المنطق. قال أحيحة بن الجلاح: والصمت أجمل بالفتى ... ما لم يكن عيّ يشينه والقول ذو خطل إذا ... ما لم يكن لب يعينه وقال مخرّز بن علقمة: لقد وارى المقابر من شريك ... كثير تحلم وقليل عاب صموتا في المجالس غير عيّ ... جديرا حين ينطق بالصواب وقال مكّيّ بن سوادة: تسلّم بالسكوت من العيوب ... فكان السكت أجلب للعيوب ويرتجل الكلام وليس فيه ... سوى الهذيان من حشد الخطيب وقال آخر: جمعت صنوف العي من كل وجهة ... وكنت جديرا بالبلاغة عن كثب أبوك معمّ في الكلام ومخول ... وخالك وثاب الجراثيم في الخطب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وقال حميد بن ثور الهلاليّ «1» : أتانا ولم يعدله سحبان وائل ... بيانا وعلما بالذي هو قائل فما زال عنه اللّقم حتى كأنه ... من العي لما أن تكلم باقل سحبان مثل في البيان، وباقل مثل في العي، ولهما أخبار. وقال الآخر: ماذا رزينا منك أمّ الأسود ... من رحب الصدر وعقل متلد وهي صناع باللسان واليد وقال آخر: لو صخبت شهرين دأبا لم تمل ... وجعلت تكثر من قول وبل حبّك للباطل قدما قد شغل ... كسبك عن عيالنا قلت أجل تضجّرا مني وعيا بالحيل قال: وقيل لبزرجمهر بن البختكان الفارسي «2» : أي شيء أستر للعييّ؟ قال: عقل يجمله. قالوا: فإن لم يكن له عقل. قال: فمال يستره. قالوا: فإن لم يكن له مال؟ قال: فإخوان يعبرون عنه. قالوا: فإن لم يكن له إخوان يعبرون عنه؟ قال: فيكون عييا صامتا. قالوا: فإن لم يكن ذا صمت. قال: فموت وحي خير له من أن يكون في دار الحياة. وسأل الله عز وجل موسى بن عمران، عليه السلام، حين بعثه إلى فرعون بإبلاغ رسالته، والإبانة عن حجته، والإفصاح عن أدلته، فقال حين ذكر العقدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 التي كانت في لسانه، والحبسة التي كانت في بيانه: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي. وأنبأنا الله تبارك وتعالى عن تعلق فرعون بكل سبب، واستراحته إلى كل شغب، ونبهنا بذلك على مذهب كل جاحد معاند، وكل محتال مكايد، حين خبرنا بقوله: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ. وَلا يَكادُ يُبِينُ. وقال موسى عليه السلام: وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي وقال: وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي رغبة منه في غاية الإفصاح بالحجة، والمبالغة في وضوح الدلالة، لتكون الأعناق إليه أميل، والعقول عنه أفهم، والنفوس إليه أسرع، وإن كان قد يأتي من وراء الحاجة، ويبلغ أفهامهم على بعض المشقة. ولله عز وجل أن يمتحن عباده بما شاء من التخفيف والتثقيل، ويبلو أخبارهم كيف أحب من المحبوب والمكروه. ولكل زمان ضرب من المصلحة ونوع من المحنة، وشكل من العبادة. ومن الدليل على أن الله تعالى حل تلك العقدة، وأطلق ذلك التعقيد، والحبسة، قوله: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي إلى قوله: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى . فلم تقع الاستجابة على شيء من دعائه دون شيء، لعموم الخبر. وسنقول في شأن موسى عليه السلام ومسألته، في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله. وذكر الله تبارك وتعالى جميل بلائه في تعليم البيان، وعظيم نعمته في تقويم اللسان، فقال: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ ، وقال تعالى: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ ، ومدح القرآن بالبيان والإفصاح، وبحسن التفصيل والإيضاح، وبجودة الإفهام وحكمة الإبلاغ، وسماه فرقانا كما سماه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 قرانا. وقال: عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ، وقال: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وقال: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ، وقال: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا. وذكر الله عز وجل لنبيه عليه السلام حال قريش في بلاغة المنطق، ورجاحة الأحلام، وصحة العقول، وذكر العرب وما فيها من الدهاء والنكراء والمكر، ومن بلاغة الألسنة، واللدد عند الخصومة، فقال تعالى: فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ . وقال: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا . وقال: وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ ، وقال: آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ . ثم ذكر خلابة ألسنتهم، واستمالتهم الأسماع بحسن منطقهم، فقال: وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ. ثم قال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا مع قوله: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ. وقال الشاعر في قوم يحسنون في القول ويسيئون في العمل، قال أبو حفص: أنشدني الأصمعي للمكعبر الضبي «1» : كسالى إذا لاقيتهم غير منطق ... يلهّى به المحروب وهو عناء وقيل لزهمان: ما تقول في خزاعة؟ قال: جوع وأحاديث! وفي شبيه بهذا المعنى قال أفنون بن صريم التغلبي: لو أنني كنت من عاد ومن إرم ... غذيّ قيل ولقمان وذي جدن لما وقوا بأخيهم من مهولة ... أخا السكون ولا حادوا عن السنن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 أنى جزوا عامرا سوأى بفعلهم ... أم كيف يجزونني السوأى من الحسن أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به ... رئمان أنف إذا ما ضن باللبن رئمان، أصله الرقة والرحمة. والرؤوم أرق من الرؤوف. فقال: «رئمان أنف» ، كأنها تبر ولدها بأنفها وتمنعه اللبن. ولأن العرب تجعل الحديث والبسط، والتأنيس والتلقي بالبشر، من حقوق القرى ومن تمام الإكرام به. وقالوا: «من تمام الضيافة الطلاقة عند أول وهلة، وإطالة الحديث عند المواكلة» . وقال شاعرهم، وهو حاتم الطائي: سلي الجائع الغرثان يا أم منذر ... إذا ما أتاني بين ناري ومجزري هل أبسط وجهي أنه أول القرى ... وأبذل معروفي له دون منكري وقال الآخر. إنك يا ابن جعفر خير فتى ... وخيرهم لطارق إذا أتى ورب نضو طرق الحي سرى ... صادف زادا وحديثا ما اشتهى إن الحديث جانب من القرى وقال الآخر: لحافي لحاف الضيف والبيت بيته ... ولم يلهني عنه غزال مقنع أحدثه إن الحديث من القرى ... وتعلم نفسي أنه سوف يهجع ولذلك قال عمرو بن الأهتم «1» : فقلت له أهلا وسهلا ومرحبا ... فهذا مبيت صالح وصديق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وقال آخر: أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ... ويخصب عندي والمحل جديب وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ... ولكنما وجه الكريم خصيب ثم قال الله تبارك وتعالى في باب آخر من صفة قريش والعرب: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا وقال: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ وقال: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ . وقال: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ. وعلى هذا المذهب قال: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ . وقد قال الشاعر في نظر الأعداء بعضهم إلى بعض: يتقارضون إذا التقوا في موقف ... نظرا يزيل مواطىء الأقدام وقال الله تبارك وتعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ، لأن مدار الأمر على البيان والتبيين، وعلى الأفهام والتفهم. وكلما كان اللسان أبين كان أحمد كما أنه كلما كان القلب أشد استبانة كان أحمد. والمفهم لك والمتفهم عنك شريكان في الفضل، إلا أن المفهم أفضل من المتفهم وكذلك المعلم والمتعلم. هكذا ظاهر هذه القضية، وجمهور هذه الحكومة، إلا في الخاص الذي لا يذكر، والقليل الذي يشهر. وضرب الله عز وجل مثلا لعيّ اللسان ورداءة البيان، حين شبه أهله بالنساء والولدان، فقال تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ . ولذلك قال النمر بن تولب: وكل خليل عليه الرعا ... ث والحبلات، ضعيف ملق الرعاث: القرطة. والحبلات: كل ما تزينت به المرأة من حسن الحلى، والواحدة حبلة. وليس، حفظك الله، مضرة سلاطة اللسان عند المنازعة، وسقطات الخطل يوم إطالة الخطبة بأعظم مما يحدث عن العيّ من اختلال الحجة، وعن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الحصر من فوت درك الحاجة. والناس لا يعيرون الخرس، ولا يلومون من استولى على بيانه العجز. وهم يذمون الحصر، ويؤنبون العيّ، فإن تكلفا مع ذلك مقامات الخطباء، وتعاطيا مناظرة البلغاء، تضاعف عليهما الذم وترادف عليهما التأنيب. ومماتنة العيّ الحصر للبليغ المصقع، في سبيل مماتنة المنقطع المفحم للشاعر المفلق «1» ، واحدهما ألوم من صاحبه، والألسنة إليه أسرع. وليس اللجلاج «2» والتمتام، والألثغ والفأفاء، وذو الحبسة والحكلة «3» والرتة «4» وذو اللفف «5» والعجلة، في سبيل الحصر في خطبته، والعييّ في مناضلة خصومه، كما أن سبيل المفحم عند الشعراء، والبكي «6» عند الخطباء، خلاف سبيل المسهب الثرثار، والخطل المكثار. ثم اعلم- أبقاك الله- أن صاحب التشديق والتقعير «7» والتقعيب من الخطباء والبلغاء مع سماجة التكلف، وشنعة التزيد، أعذر من عييّ يتكلف الخطابة، ومن حصر يتعرض لأهل الاعتياد والدربة. ومدار اللائمة ومستقر المذمة حيث رأيت بلاغة يخالطها التكلف، وبيانا يمازجه التزيد. إلا أن تعاطي الحصر المنقوص مقام الدرب التام، أقبح من تعاطي البليغ الخطيب، ومن تشادق الأعرابي القح وانتحال المعروف ببعض الغزارة في المعاني والألفاظ، وفي التحبير والارتجال، إنه البحر الذي لا ينزح، والغمر الذي لا يسبر، أيسر من انتحال الحصر المنخوب إنه في مسلاخ «8» التام الموفر، والجامع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 المحكك «1» ، وإن كان النبي صلّى الله عليه وآله قد قال: «إياي والتشادق» ، وقال: «أبغضكم إليّ الثرثارون المتفيهقون» «2» ، وقال: «من بدا جفا» ، وعاب الفدادين والمتزيدين، في جهارة الصوت وانتحال سعة الأشداق، ورحب الغلاصم وهدل الشفاه، وأعلمنا ان ذلك في أهل الوبر أكثر، وفي أهل المدر أقل فإذا عاب المدري بأكثر مما عاب به الوبري «3» ، فما ظنك بالمولد القروي والمتكلف البلدي. فالحصر المتكلف والعيي المتزيد، ألوم من البليغ المتكلف لأكثر مما عنده. وهو أعذر، لأن الشبهة الداخلة عليه أقوى. فمن أسوأ حالا- أبقاك الله- ممن يكون ألوم من المتشدقين، ومن الثرثارين المتفيهقين، وممن ذكره النبي صلّى الله عليه وآله نصا، وجعل النهي عن مذهبه مفسرا، وذكر مقته له وبغضه إياه. [لثغة واصل بن عطاء وأخباره] ولما علم واصل بن عطاء «4» أنه ألثغ فاحش اللثغ، وإن مخرج ذلك منه شنيع، وأنه إذا كان داعية مقالة، ورئيس نحلة، وأنه يريد الاحتجاج على أرباب النحل وزعماء الملل، وأنه لا بد له من مقارعة الأبطال، ومن الخطب الطوال وأن البيان يحتاج إلى تمييز وسياسة، وإلى ترتيب ورياضة، وإلى تمام الآلة وإحكام الصنعة، وإلى سهولة المخرج وجهارة المنطق، وتكميل الحروف وإقامة الوزن، وإن حاجة المنطق إلى الحلاوة والطلاوة، كحاجته إلى الجزالة والفخامة، وإن ذلك من أكثر ما تستمال به القلوب، وتثنى به الأعناق، وتزين به المعاني، وعلم واصل أنه ليس معه ما ينوب عن البيان التام، واللسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 المتمكن والقوة المتصرفة، كنحو ما أعطى الله تبارك وتعالى نبيه موسى عليه السلام من التوفيق والتسديد، مع لباس التقوى وطابع النبوة، ومع المحنة والاتساع في المعرفة، ومع هدي النبيين وسمت المرسلين، وما يغشيهم الله به من القبول والمهابة. ولذلك قال بعض شعراء النبي صلّى الله عليه وآله: لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بداهته تنبيك بالخبر ومع ما أعطى الله تبارك وتعالى موسى، عليه السلام، من الحجة البالغة، ومن العلامات الظاهرة، والبرهانات الواضحة، إلى أن حل الله تلك العقدة وأطلق تلك الحبسة، وأسقط تلك المحنة. ومن أجل الحاجة إلى حسن البيان، وإعطاء الحروف حقوقها من الفصاحة- رام أبو حذيفة إسقاط الراء من كلامه، وإخراجها من حروف منطقه، فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه، ويناضله ويساجله، ويتأتى لستره والراحة من هجنته، حتى انتظم له ما حاول، واتسق له ما أمل. ولولا استفاضة هذا الخبر وظهور هذه الحال حتى صار لغرابته مثلا، ولطرافته معلما، لما استجزنا الإقرار به، والتأكيد له. ولست أعني خطبه المحفوظة ورسائله المخلدة، لأن ذلك يحتمل الصنعة، وإنما عنيت محاجة الخصوم ومناقلة الأكفاء، ومفاوضة الإخوان. واللثغة في الراء تكون بالغين والذال والياء، والغين أقلها قبحا، وأوجدها في كبار الناس وبلغائهم وأشرافهم وعلمائهم. وكانت لثغة محمد بن شبيب المتكلم، بالغين، فإذا حمل على نفسه وقوم لسانه أخرج الراء. وقد ذكره في ذلك أبو الطروق الضبي فقال: عليم بإبدال الحروف وقامع ... لكل خطيب يغلب الحق باطله وكان واصل بن عطاء قبيح اللثغة شنيعها، وكان طويل العنق جدا، ولذلك قال بشار الأعمى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ما لي أشايع غزالا له عنق ... كنقنق الدوّ إن ولى وإن مثلا «1» عنق الزرافة ما بالي وبالكم ... أتكفرون رجالا أكفروا رجلا فلما هجا واصلا وصوب رأي إبليس في تقديم النار على الطين، وقال: الأرض مظلمة والنار مشرقة ... والنار معبودة مذ كانت النار وجعل واصل بن عطاء غزالا، وزعم أن جميع المسلمين كفروا بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله، فقيل له: وعلي أيضا؟ فأنشد: وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا قال واصل بن عطاء عند ذلك: «أما لهذا الأعمى الملحد المشنف «2» المكني بأبي معاذ من يقتله. أما والله لولا أن الغيلة سجية من سجايا الغالية «3» ، لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه، ويقتله في جوف منزله وفي يوم حفله، ثم كان لا يتولى ذلك منه إلا عقيلي أو سدوسي» . قال إسماعيل بن محمد الأنصاري، وعبد الكريم بن روح الغفاري: قال أبو حفص عمر بن أبي عثمان الشمري: ألا تريان كيف تجنب الراء في كلامه هذا وأنتما للذي تريان من سلامته وقلة ظهور التكلف فيه لا تظنان به التكلف، مع امتناعه من حرف كثير الدوران في الكلام. ألا تريان أنه حين لم يستطع أن يقول بشار، وابن برد، والمرعث، جعل المشنف بدلا من المرعث، والملحد بدلا من الكافر، وقال: لولا أن الغيلة سجية من سجايا الغالية، ولم يذكر المنصورية ولا المغيرية «4» ، لمكان الراء، وقال: لبعثت إليه من يبعج بطنه، ولم يقل: لأرسلت إليه، وقال: على مضجعه، ولم يقل: على فراشه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وكان إذا أراد أن يذكر البر قال: القمح أو الحنطة. والحنطة لغة كوفية والقمح لغة شامية. هذا وهو يعلم أن لغة من قال بر، أفصح من لغة من قال قمح أو حنطة. وقال أبو ذؤيب الهذلي: لا درّ دري إن أطعمت نازلهم ... قرف الحتيّ «1» وعندي البر مكنوز وقال أمية بن أبي الصلت في مديح عبد الله بن جدعان: له داع بمكة مشمعل ... وآخر فوق دارته ينادي إلى ردح من الشيزي عليها ... لباب البر يلبك بالشهاد «2» وقال بعض القرشيين يذكر قيس بن معديكرب ومقدمه مكة في كلمة له: قيس أبو الأشعث بطريق اليمن ... لا يسأل السائل عنه ابن من أشبع آل الله من بر عدن وقال عمر بن الخطاب رحمه الله: «أترون أني لا أعرف رقيق العيش؟ لباب البر بصغار المعزى» . وسمع الحسن رجلا يعيب الفالوذق، فقال: «لباب البر، بلعاب النحل، بخالص السمن، ما عاب هذا مسلم!» . وقالت عائشة: «ما شبع رسول الله صلّى الله عليه وآله من هذه البرة السمراء حتى فارق الدنيا» . وأهل الأمصار إنما يتكلمون على لغة النازلة فيهم من العرب، ولذلك تجد الاختلاف في ألفاظ من ألفاظ أهل الكوفة والبصرة والشام ومصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 حدثني أبو سعيد عبد الكريم بن روح «1» قال: قال أهل مكة لمحمد بن المناذر الشاعر: ليست لكم معاشر أهل البصرة لغة فصيحة، إنما الفصاحة لنا أهل مكة. فقال ابن المناذر: أما ألفاظنا فأحكى الألفاظ للقرآن، وأكثرها له موافقة، فضعوا القرآن بعد هذا حيث شئتم. أنتم تسمون القدر برمة وتجمعون البرمة على برام، ونحن نقول قدر ونجمعها على قدور، وقال الله عز وجل: وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ . وأنتم تسمون البيت إذا كان فوق البيت علية، وتجمعون هذا الاسم على علالي، ونحن نسميه غرفة ونجمعها على غرفات وغرف. وقال الله تبارك وتعالى: غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ وقال: وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ . وأنتم تسمون الطلع الكافور والا غريض ونحن نسميه الطلع. وقال الله تبارك وتعالى: وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ . فعد عشر كلمات لم أحفظ أنا منها إلا هذا. ألا ترى أن أهل المدينة لما نزل فيهم ناس من الفرس في قديم الدهر علقوا بألفاظ من ألفاظهم، ولذلك يسمون البطيخ الخربز، ويسمون السميط الرزدق «2» ، ويسمون المصوص المزور «3» ، ويسمون الشطرنج الاشترنج، في غير ذلك من الأسماء وكذلك أهل الكوفة، فإنهم يسمون المسحاة بال، وبال بالفارسية. ولو علق ذلك لغة أهل البصرة إذ نزلوا بأدنى بلاد فارس وأقصى بلاد العرب كان ذلك أشبه، إذ كان أهل الكوفة قد نزلوا بأدنى بلاد النبط وأقصى بلاد العرب. ويسمي أهل الكوفة الحوك الباذروج «4» ، والباذروج بالفارسية، والحوك كلمة عربية. وأهل البصرة إذ التقت أربع طرق يسمونها مربعة، ويسميها أهل الكوفة الجهار سوك، والجهار سوك بالفارسية. ويسمون السوق والسويقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 «وازار» ، والوازار بالفارسية. ويسمون القثاء خيارا، والخيار بالفارسية. ويسمون المجدوم ويذي، بالفارسية. وقد يستخف الناس ألفاظا ويستعملونها وغيرها أحق بذلك منها. ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر في القرآن الجوع إلا في موضع العقاب أو في موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر. والناس لا يذكرون السغب ويذكرون الجوع في حال القدرة والسلامة. وكذلك ذكر المطر، لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في موضع الانتقام. والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وبين ذكر الغيث. ولفظ القرآن الذي عليه نزل أنه إذا ذكر الأبصار لم يقل الأسماع، وإذا ذكر سبع سموات لم يقل الأرضين. ألا تراه لا يجمع الأرض أرضين، ولا السمع أسماعا. والجاري على أفواه العامة غير ذلك، لا يتفقدون من الألفاظ ما هو أحق بالذكر وأولى بالاستعمال. وقد زعم بعض القراء أنه لم يجد ذكر لفظ النكاح في القرآن إلا في موضع التزويج. والعامة ربما استخفت أقل اللغتين وأضعفهما، وتستعمل ما هو أقل في أصل اللغة استعمالا وتدع ما هو أظهر وأكثر، ولذلك صرنا نجد البيت من الشعر قد سار ولم يسر ما هو أجود منه، وكذلك المثل السائر. وقد يبلغ الفارس والجواد الغاية في الشهرة ولا يرزق ذلك الذكر والتنويه بعض من هو أولى بذلك منه. ألا ترى العامة أن ابن القرية «1» عندها أشهر في الخطابة من سحبان وائل. وعبيد الله بن الحر «2» أذكر عندهم في الفروسية من زهير بن ذؤيب. وكذلك مذهبهم في عنترة بن شداد، وعتيبة بن الحارث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ابن شهاب. وهم يضربون المثل بعمرو بن معديكرب، ولا يعرفون بسطام بن قيس «1» . وفي القرآن معان لا تكاد تفترق، مثل الصلاة والزكاة، والجوع والخوف، والجنة والنار، والرغبة والرهبة، والمهاجرين والأنصار، والجن والإنس. قال قطرب: أنشدني ضرار بن عمرو «2» قول الشاعر في واصل بن عطاء: ويجعل البر قمحا في تصرفه ... وجانب الراء حتى احتال للشعر ولم يطق مطرا والقول يعجله ... فعاذ بالغيث إشفاقا من المطر قال وسألت عثمان البري «3» : كيف كان واصل يصنع في العدد، وكيف كان يصنع بعشرة وعشرين وأربعين، وكيف كان يصنع بالقمر والبدر ويوم الأربعاء وشهر رمضان، وكيف كان يصنع بالمحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر وجمادى الآخرة ورجب؟ فقال: ما لي فيه قول إلا ما قال صفوان: ملقن ملهم فيما يحاوله ... جم خواطره جواب آفاق وأنشدني ديسم «4» قال: أنشدني أبو محمد اليزيدي: وخلة اللفظ في الياءات إن ذكرت ... كخلة اللفظ في اللامات والألف وخصلة الراء فيها غير خافية ... فاعرف مواقعها في القول والصحف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 يزعم أن هذه الحروف أكثر تردادا من غيرها، والحاجة إليها أشد. واعتبر ذلك بأن تأخذ عدة رسائل وعدة خطب من جملة خطب الناس ورسائلهم، فإنك متى حصلت جميع حروفها، وعددت كل شكل على حدة، علمت أن هذه الحروف الحاجة إليها أشد. قال أبو عثمان: فمن ذلك ما خبرنا به الأصمعي قال: أنشدني المعتمر ابن سليمان لإسحاق بن سويد العدوي: برئت من الخوارج لست منهم ... من الغزال منهم وابن باب «1» ومن قوم إذا ذكروا عليا ... يردون السلام على السحاب ولكني أحب بكل قلبي ... وأعلم أن ذاك من الصواب رسول الله والصديق حبا ... به أرجو غدا حسن الثواب وفي مثل ذلك قال بشار: ما لي أشايع غزالا له عنق ... كنقنق الدو إن ولى وإن مثلا ومن ذلك قول معدان الشميطي «2» : يوم تشفى النفوس من يعصر اللؤ ... م ويثني بسامة الرحّال «3» وعدي وتيمها وثقيف ... وأميّ وتغلب وهلال لا حرورا ولا النواصب تنجو ... لا ولا صحب واصل الغزال «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وكان بشار كثير المدح لواصل بن عطاء قبل أن يدين بشار بالرجعة، ويكفر جميع الأمة. وكان قد قال في تفضيله على خالد بن صفوان «1» وشبيب ابن شيبة «2» ، والفضل بن عيسى، يوم خطبوا عند عبد الله بن عمر بن عبد العزيز والي العراق: أبا حذيفة قد أوتيت معجبة ... في خطبة بدهت من غير تقدير وإن قولا يروق الخالدين معا ... لمسكت مخرس عن كل تحبير لأنه كان مع ارتجاله الخطبة التي نزع منها الراء، كانت مع ذلك أطول من خطبهم. وقال بشار: تكلفوا القول والأقوام قد حفلوا ... وحبروا خطبا ناهيك من خطب فقام مرتجلا تغلي بداهته ... كمرجل القين لما حف باللهب وجانب الراء لم يشعر بها أحد ... قبل التصفح والإغراق في الطلب وقال في كلمة له يعني تلك الخطبة: فهذا بديه لا كتحبير قائل ... إذا ما أراد القول زوره شهرا فلما انقلب عليهم بشار ومقاتله لهم بادية، هجوه ونفوه، فما زال غائبا حتى مات عمرو بن عبيد. وقال صفوان الأنصاري: متى كان غزال له ابن حوشب ... غلام كعمرو أو كعيسى بن حاضر «3» أما كان عثمان الطويل ابن خالد ... أو القرم حفص نهية للمخاطر «4» له خلف شعب الصين في كل ثغرة ... إلى سوسها الأقصى وخلف البرابر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 رجال دعاة لا يفلّ عزيمهم ... تهكم جبار ولا كيد ماكر إذا قال مروا في الشتاء تطوعوا ... وإن كان صيف لم يخف شهر ناجر بهجرة أوطان وبذل وكلفة ... وشدة أخطار وكد المسافر فأنجح مسعاهم وأثقب زندهم ... وأورى بفلج للمخاصم قاهر «1» وأوتاد أرض الله في كل بلدة ... وموضع فتياها وعلم التشاجر وما كان سحبان يشق غبارهم ... ولا الشدق من حيي هلال بن عامر ولا الناطق النخار والشيخ دغفل ... إذا وصلوا إيمانهم بالمخاصر ولا القالة الأعلون رهط مكحّل ... إذا نطقوا في الصلح بين العشائر «2» بجمع من الجفين راض وساخط ... وقد زحفت بدّاؤهم للمحاضر - الجفان: بكر وتميم. والروقان: بكر وتغلب. والغاران: الأزد وتميم. ويقال ذلك لكل عمارة من الناس، وهي الجمع، وهم العمائر أيضا: غار. والجف أيضا: قشر الطلعة-. تلقب بالغزال واحد عصره ... فمن لليتامى والقبيل المكائر ومن لحروري وآخر رافض ... وآخر مرجي وآخر جائر وأمر بمعروف وإنكار منكر ... وتحصين دين الله من كل كافر يصيبون فصل القول في كل موطن ... كما طبّقت في العظم مدية جازر تراهم كأن الطير فوق رؤوسهم ... على عمة معروفة في المعاشر وسيماهم معروفة في وجوههم ... وفي المشي حجاجا وفوق الأباعر وفي ركعة تأتي على الليل كله ... وظاهر قول في مثال الضمائر وفي قص هداب واحفاء شارب ... وكور على شيب يضيء لناظر وعنفقة مصلومة ولنعله ... قبالان في ردن رحيب الخواصر «3» فتلك علامات تحيط بوصفهم ... وليس جهول القوم في علم خابر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وفي واصل يقول صفوان: فما مس دينارا ولا صر درهما ... ولا عرف الثوب الذي هو قاطعه وفيه يقول أسباط بن واصل الشيباني: وأشهد أن الله سماك واصلا ... وأنك محمود النقيبة والشيم ولما قام بشار بعذر إبليس في أن النار خير من الأرض، وذكر واصلا بما ذكره به صفوان: زعمت بأن النار أكرم عنصرا ... وفي الأرض تحيا بالحجارة والزند وتخلق في أرحامها وأرومها ... أعاجيب لا تحصى بخط ولا عقد «1» وفي القعر من لج البحار منافع ... من اللؤلؤ المكنون والعنبر الورد كذلك سر الأرض في البحر كله ... وفي الغيضة الغناء والجبل الصلد ولا بد من أرض لكل مطير ... وكل سبوح في الغمائر من جد «2» كذاك وما ينساح في الأرض ماشيا ... على بطنه مشي المجانب للقصد «3» ويسري على جلد يقيم حزوزه ... تعمج ماء السيل في صبب حرد «4» وفي قلل الأجبال خلف مقطم ... زبرجد أملاك الورى ساعة الحشد وفي الحرة الرجلاء تلفى معادن ... لهن مغارات تبجس بالنقد «5» من الذهب الإبريز والفضة التي ... تروق وتصبي ذا القناعة والزهد وكل فلز من نحاس وآنك ... ومن زئبق حي ونو شاذر يسدي «6» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وفيها زرانيخ ومكر ومرتك ... ومن مرقشيشا غير كاب ولا مكدي «1» وفيها ضروب القار والشب والمها ... وأصناف كبريت مطاولة الوقد «2» ترى العرق منها في المقاطع لائحا ... كما قدّت الحسناء حاشية البرد ومن إثمد جون وكلس وفضة ... ومن توتياء في معادنه هندي وفي كل أغوار البلاد معادن ... وفي ظاهر البيداء من مستو نجد وكل يواقيت الأنام وحليها ... من الأرض والأحجار فاخرة المجد وفيها مقام الخل والركن والصفا ... ومستلم الحجاج من جنة الخلد وفي صخرة الخضر التي عند حوتها ... وفي الحجر الممهي لموسى على عمد «3» وفي الصخرة الصماء تصدع آية ... لام فصيل ذي رغاء وذي وخد «4» مفاخر للطين الذي كان أصلنا ... ونحن بنوه غير شك ولا جحد فذلك تدبير ونفع وحكمة ... وأوضح برهان على الواحد الفرد أتجعل عمرا والنطاسي واصلا ... كأتباع ديصان وهم قمش المد وتفخر بالميلاء والعلج عاصم ... وتضحك من جيد الرئيس أبي الجعد وتحكي لذى الأقوام شنعة رأيه ... لتصرف أهواء النفوس إلى الرد وسميته الغزال في الشعر مطنبا ... ومولاك عند الظلم قصته مردي - يقول: إن مولاك ملاح، لأن الملاحين إذا تظلموا رفعوا المرادي-. فيا ابن حليف الطين واللؤم والعمى ... وأبعد خلق الله من طرق الرشد أتهجو أبا بكر وتخلع بعده ... عليا وتعزو كل ذاك إلى برد كأنك غضبان على الدين كله ... وطالب ذحل لا يبيت على حقد «5» رجعت إلى الأمصار من بعد واصل ... وكنت شريدا في التهائم والنجد «6» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 أتجعل ليلى الناعظية نحلة ... وكل عريق في التناسخ والرد عليك بدعد والصدوف وفرتني ... وحاضنتي كسف وزاملتي هند «1» تواثب أقمارا وأنت مشوه ... وأقرب خلق الله من شبه القرد ولذلك قال فيه حماد عجرد «2» بعد ذلك: ويا أقبح من قرد ... إذا ما عمي القرد ويقال إنه لم يجزع بشار من شيء قط جزعه من هذا البيت. وذكر الشاعر وذكر أخويه لأمه فقال: لقد ولدت أم الأكيمه أعرجا ... وآخر مقطوع القفا ناقص العضد «3» وكانوا ثلاثة مختلفي الآباء والأم واحدة، وكلهم ولد زمنا «4» . ولذلك قال بعض من يهجوه: إذا دعاه الخال أقعى ونكص ... وهجنة الأقراف فيه بالحصص» وقال الشاعر: لا تشهدنّ بخارجي مطرف ... حتى ترى من نجله أفراسا «6» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وقال صفوان الأنصاري في بشار وأخويه، وكان يخاطب أمهم: ولدت خلدا وذيخا في تشتمه ... وبعده خززا يشتد في الصعد ثلاثة من ثلاث فرقوا فرقا ... فاعرف بذلك عرق الخال في الولد الخلد: ضرب من الجرذان يولد أعمى. والذيخ: ذكر الضباع، وهو أعرج. والخزز: ذكر الأرانب، وهو قصير اليدين لا يلحقه الكلب في الصعد. وقال بعد ذلك سليمان الأعمى، أخو مسلم بن الوليد الأنصاري الشاعر، في اعتذار بشار لإبليس وهو يخبر عن كرم خصال الأرض: لا بد للأرض إن طابت وإن خبثت ... من أن تحيل إليها كل مغروس وتربة الأرض إن جيدت وإن قحطت ... فحملها أبدا في أثر منفوس وبطنها بفلّز الأرض ذو خبر ... بكل ذي جوهر في الأرض مرموس - الفلّز: جوهر الأرض من الذهب والفضة والنحاس والآنك وغير ذلك-. وكل آنية عمت مرافقها ... وكل منتقد فيها وملبوس وكل ماعونها كالملح مرفقة ... وكلها مضحك من قول إبليس وقال بعض خلعاء بغداد: عجبت من إبليس في كبره ... وقبح ما أظهر من نيّته تاه على آدم في سجدة ... وصار قوادا لذريته وذكره بهذا المعنى سليمان الأعمى، اخو مسلم الأنصاري، فقال: يأبى السجود له من فرط نخوته ... وقد تحول في مسلاخ قواد وقال صفوان في شأن واصل وبشار، وفي شأن النار والطين في كلمة له: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وفي جوفها للعبد أستر منزل ... وفي ظهرها يقضي فرائضه العبد تمج لفاظ الملح مجا وتصطفي ... سبائك لا تصدا وإن قدم العهد وليس بمحص كنه ما في بطونها ... حساب ولا خط وإن بلغ الجهد فسائل بعبد الله في يوم حفله ... وذاك مقام لا يشاهده وغد أقام شبيب وابن صفوان قبله ... بقول خطيب لا يجانبه القصد وقام ابن عيسى ثم قفاه واصل ... فأبدع قولا ما له في الورى ند فما نقصته الراء إذ كان قادرا ... على تركها واللفظ مطرد سرد ففضل عبد الله خطبة واصل ... وضوعف في قسم الصلات له الشكد «1» فأقنع كلّ القوم شكر حبائهم ... وقلل ذاك الضعف في عينه الزهد قد كتبنا احتجاج من زعم أن واصل بن عطاء كان غزالا، واحتجاج من دفع ذلك عنه، ويزعم هؤلاء أن قول الناس واصل الغزال، كما يقولون خالد الحذّاء، وكما يقولون هشام الدستوائي «2» . وإنما قيل ذلك لأن الإباضية «3» كانت تبعث إليه من صدقاتها ثيابا دستوائية، فكان يكسوها الأعراب الذين يكونون بالجناب، فأجابوه إلى قول الاباضية، وكانوا قبل ذلك لا يزوجون الهجناء، فأجابوه إلى التسوية وزوجوا هجينا، فقال الهجين في ذلك: إنا وجدنا الدستوائيينا ... الصائمين المتعبدينا أفضل منكم حسبا ودينا ... أخزى الإله المتكبرينا أفيكم من ينكح الهجينا «4» وقال: إنما قيل ذلك لواصل لأنه كان يكثر الجلوس في سوق الغزالين، إلى أبي عبد الله مولى قطن الهلالي، وكذلك كانت حال خالد الحذّاء الفقيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وكما قالوا: أبو مسعود البدري، لأنه كان نازلا على ذلك الماء. وكما قالوا: أبو مالك السدي، لأنه كان يبيع الخمر في سدة المسجد. وهذا الباب مستقصى في كتاب «الأسماء والكنى» ، وقد ذكرنا جملة منه في كتاب «أبناء السراري والمهيرات» . [حروف اللثغة] ذكر الحروف التي تدخلها اللثغة وما يحضرني منها: قال أبو عثمان: وهي أربعة أحرف: القاف، والسين، واللام، والراء. فأما التي هي على الشين المعجمة فذلك شيء لا يصوره الخط! لأنه ليس من الحروف المعروفة، وإنما هو مخرج من المخارج، والمخارج لا تحصى ولا يوقف عليها. وكذلك القول في حروف كثيرة من حروف لغات العجم، وليس ذلك في شيء أكثر منه في لغة الخوز. وفي سواحل البحر من اسياف فارس ناس كثير، كلامهم يشبه الصفير. فمن يستطيع أن يصور كثيرا من حروف الزمزمة والحروف التي تظهر من فم المجوسي إذا ترك الإفصاح من معانيه، وأخذ في باب الكناية وهو على الطعام؟! فاللثغة التي تعرض للسين تكون ثاء، كقولهم لأبي يكسوم: أبي يكثوم، وكما يقولون بثرة، إذا أرادوا بسرة. وبثم الله إذا أرادوا بسم الله. والثانية اللثغة التي تعرض للقاف، فإن صاحبها يجعل القاف طاء، فإذا أراد أن يقول: قلت له، قال: طلت له، وإذا أراد أن يقول قال لي، قال: طال لي. وأما اللثغة التي تقع في اللام فإن من أهلها من يجعل اللام ياء فيقول بدل قوله: اعتلك: اعتييك، وبدل جمل: جمى. وآخرون يجعلون اللام كافا، كالذي عرض لعمر أخي هلال، فإنه كان إذا أراد أن يقول: ما العلة في هذا، قال: مكعكة في هذا. وأما اللثغة التي تقع في الراء فإن عددها يضعف على عدد لثغة اللام، لأن الذي يعرض لها أربعة أحرف: فمنهم من إذا أراد أن يقول عمرو، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 عمي، فيجعل الراء ياء. ومنهم من إذا أراد أن يقول عمرو، قال: عمغ، فيجعل الراء غينا. ومنهم من إذا أراد أن يقول عمرو، قال: عمذ، فيجعل الراء ذالا. وإذا أنشد قول الشاعر «1» : واستبدت مرة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد قال: واستبدت مذة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد فمن هؤلاء علي بن الجنيد بن فريدي. ومنهم من يجعل الراء ظاء معجمة، فإذا أراد أن يقول: واستبدت مرة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد يقول: واستبدت مظة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد ومنهم من يجعل الراء غينا معجمة، فإذا أراد أن ينشد هذا البيت قال: واستبدت مغة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد كما الذي لثغته بالياء، إذا أراد أن يقول: «واستبدت مرة واحدة» يقول «واستبدت مية واحدة» . وأما اللثغة الخامسة التي كانت تعرض لواصل بن عطاء، ولسليمان بن يزيد العدوي الشاعر، فليس إلى تصويرها سبيل. وكذلك اللثغة التي تعرض في السين كنحو ما كان يعرض لمحمد بن الحجاج، كاتب داود بن محمد، كاتب أم جعفر، فإن تلك أيضا ليست لها صورة في الخط ترى بالعين، وإنما يصورها اللسان وتتأدى إلى السمع. وربما اجتمعت في الواحد لثغتان في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 حرفين، كنحو لثغة شوشي، صاحب عبد الله بن خالد الأموي، فإنه كان يجعل اللام ياء والراء ياء. قال مرة: مو ياي ويي ايي. يريد مولاي ولي الري. واللثغة التي في الراء إذا كانت بالياء فهي أحقرهن وأوضعهن لذي المروءة، ثم التي على الظاء، ثم التي على الذال فأما التي على الغين فهي أيسرهن، ويقال إن صاحبها لو جهد نفسه جهده وأحد لسانه، وتكلف مخرج الراء على حقها والإفصاح بها، لم يك بعيدا من أن تجيبه الطبيعة، ويؤثر فيها ذلك التعهد أثرا حسنا. وقد كانت لثغة محمد بن شبيب المتكلم، بالغين، وكان إذا شاء أن يقول عمرو، ولعمري، وما أشبه ذلك على الصحة قاله، ولكنه كان يستثقل التكلف والتهيؤ لذلك، فقلت له: إذا لم يكن المانع إلا هذا العذر فلست أشك أنك لو احتملت هذا التكلف والتتبع شهرا واحدا أن لسانك كان يستقيم. فأما من تعتريه اللثغة في الضاد وربما اعتراه أيضا في الصاد والراء حتى إذا أراد أن يقول مضر قال مضى، فهذا وأشباهه لاحقون بشوشي. وقد زعم ناس من العوام أن موسى عليه السلام كان ألثغ، ولم يقفوا من الحروف التي كانت تعرض له على شيء بعينه. فمنهم من جعل ذلك خلقة، ومنهم من زعم أنه إنما اعتراه حين قالت آسية بنت مزاحم امرأة فرعون لفرعون: «لا تقتل طفلا لا يعرف التمر من الجمر» . فلما دعا له فرعون بهما جميعا تناول جمرة فأهوى بها إلى فيه، فاعتراه من ذلك ما اعتراه. وأما اللثغة في الراء فتكون بالياء والظاء والذال والغين، وهي أقلها قبحا وأوجدها في ذوي الشرف وكبار الناس وبلغائهم وعلمائهم. وكانت لثغة محمد بن شبيب المتكلم، بالغين، فإذا حمل على نفسه وقوم لسانه أخرج الراء على الصحة فتأتى له ذلك. وكان يدع ذلك استثقالا أنا سمعت ذلك منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 قال: وكان الواقدي «1» يروي عن بعض رجاله، أن لسان موسى كانت عليه شأمة فيها شعرات. وليس يدل القرآن على شيء من هذا، لأنه ليس في قوله: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي دليل على شيء دون شيء. [الفأفأة والتمتمة] وقال الأصمعي: إذا تتعتع اللسان في التاء فهو تمتام، وإذا تتعتع في الفاء فهو فأفاء. وأنشد لرؤبة بن العجاج: يا حمد ذات المنطق التمتام ... كأن وسواسك في اللمام حديث شيطان بني هنام وبعضهم ينشد: يا حمد ذات المنطق النمنام وليس ذلك بشيء، وإنما هو كما قال أبو الزحف «2» : لست بفأفاء ولا تمتام ... ولا كثير الهجر في الكلام وأنشد أيضا للخولاني في كلمة له: إن السياط تركن لأستك منطقا ... كمقالة التمتام ليس بمعرب فجعل الخولاني التمتام غير معرب عن معناه، ولا مفصح بحاجته. [اللفف] وقال أبو عبيدة: إذا أدخل الرجل بعض كلامه في بعض فهو ألف، وقيل بلسانه لفف. وأنشدني لأبي الزحف الراجز: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 كأن فيه لففا إذا نطق ... من طول تحبيس وهم وأرق كأنه لما جلس وحده ولم يكن له من يكلمه، وطال عليه ذلك، أصابه لفف في لسانه. وكان يزيد بن جابر، قاضي الأزارقة «1» بعد المقعطل، يقال له الصموت، لأنه لما طال صمته ثقل عليه الكلام، فكان لسانه يلتوي، ولا يكاد يبين. وأخبرني محمد بن الجهم أن مثل ذلك اعتراه أيام محاربة الزط «2» ، من طول التفكر ولزوم الصمت. قال: وأنشدني الأصمعي: حديث بني قرط إذا ما لقيتهم ... كنزو الدبا في العرفج المتقارب «3» قال ذلك حين كان في كلامهم عجلة. وقال سلمة بن عياش «4» : كأن بني رألان إذ جاء جمعهم ... فراريج يلقى بينهن سويق فقال ذلك لدقة أصواتهم وعجلة كلامهم. [اللجلجة] وقال اللهبي في اللجلاج: ليس خطيب القوم باللجلاج ... ولا الذي يزحل كالهلباج «5» ورب بيداء وليل داج ... هتكته بالنص والإدلاج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وقال محمد بن سلام الجمحي: كان عمر بن الخطاب، رحمه الله، إذا رأى رجلا يتلجج في كلامه، قال: «خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد» . [الحبسة والحكلة] ويقال في لسانه حبسة، إذا كان الكلام يثقل عليه ولم يبلغ حد الفأفاء والتمتام. ويقال في لسانه عقلة، إذا تعقل عليه الكلام. ويقال في لسانه لكنة، إذا أدخل بعض حروف العجم في حروف العرب، وجذبت لسانه العادة الأولى إلى المخرج الأول. فإذا قالوا في لسانه حكلة فإنما يذهبون إلى نقصان آلة المنطق، وعجز أداة اللفظ، حتى لا تعرف معانيه إلا بالاستدلال. وقال رؤبة بن العجاج: لو أنني أوتيت علم الحكل ... علم سليمان كلام النمل وقال محمد بن ذؤيب «1» ، في مديح عبد الملك بن صالح: ويفهم قول الحكل لو أن ذرة ... تساود أخرى لم يفته سوادها وقال التيمي في هجائه لبني تغلب: ولكن حكلا لا تبين ودينها ... عبادة أعلاج عليها البرانس [النحنحة والسعلة] قال: وأنشدني سحيم بن حفص، في الخطيب الذي تعرض له النحنحة والسعلة، وذلك إذا انتفخ سحره، وكبا زنده، ونبا حده، فقال: نعوذ بالله من الإهمال ... ومن كلال الغرب في المقال ومن خطيب دائم السعال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وأنشدني ابن الأعرابي: إن زيادا ليس بالبكيّ ... ولا بهياب كثير العيّ وأنشدني بعض أصحابنا: ناديت هيذان والأبواب مغلقة ... ومثل هيذان سنّى فتحة الباب «1» كالهندواني لم تفلل مضاربه ... وجه جميل وقلب غير وجاب «2» وقال آخر: إذا الله سنى عقد شيء تيسرا وقال بشر بن المعتمر «3» ، في مثل ذلك: ومن الكبائر مقول متتعتع ... جم التنحنح متعب مبهور وذلك أنه شهد ريسان، أبا بحير بن ريسان، يخطب. وقد شهدت أنا هذه الخطبة ولم أر جبانا قط أجرأ منه، ولا جريئا قط أجبن منه. [الخطباء الشعراء] وقال الأشل الأزرقي- من بعض أخوال عمران بن حطان الصفري القعدي- في زيد بن جندب الإيادي خطيب الأزارقة، وقد اجتمعا في بعض المحافل، فقال بعد ذلك الأشل البكري: نحنح زيد وسعل ... لما رأى وقع الأسل ويل أمه إذا ارتجل ... ثم أطال واحتفل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وقد ذكر الشاعر زيد بن جندب الإيادي، الخطيب الأزرقي، في مرثيته لأبي داود بن حريز الإيادي، حيث ذكره بالخطابة وضرب المثل بخطباء إياد، فقال: كقس إياد أو لقيط بن معبد ... وعذرة والمنطيق زيد بن جندب وزيد بن جندب هو الذي قال في الاختلاف الذي وقع بين الأزارقة: قل للمحلين قد قرت عيونكم ... بفرقة القوم والبغضاء والهرب كنا أناسا على دين ففرقنا ... طول الجدال وخلط الجد باللعب ما كان أغنى رجالا ضل سعيهم ... عن الجدال وأغناهم عن الخطب إني لأهونكم في الأرض مضطربا ... ما لي سوى فرسي والرمح من نشب وأما عذرة المذكور في البيت الأول فهو عذرة بن حجيرة الخطيب الإيادي. ويدل على قدره فيهم، وعلى قدره في اللسن وفي الخطب، قول شاعرهم: وأي فتى صبر على الأين والظما ... إذ اعتصروا للوح ماء فظاظها «1» إذا ضرجوها ساعة بدمائها ... وحل عن الكوماء عقد شظاظها «2» فإنك ضحاك إلى كل صاحب ... وأنطق من قس غداة عكاظها إذا شغب المولى مشاغب معشر ... فعذرة فيها آخذ بكظاظها «3» فلم يضرب هذا الشاعر الإيادي المثل لهذا الخطيب الإيادي، إلا برجل من خطباء إياد، وهو قس بن ساعدة. ولم يضرب صاحب مرثية أبي داود بن حريز الإيادي المثل إلا بخطباء إياد فقط، ولم يفتقر إلى غيرهم، حيث قال في عذرة بن حجيرة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 كقس إياد أو لقيط بن معبد ... وعذرة والمنطيق زيد بن جندب وأول هذه المرثية قوله: نعى ابن حريز جاهل بمصابه ... فعمّ نزارا بالبكا والتحوب «1» نعاه لنا كالليث يحمي عرينا ... وكالبدر يعشي ضوؤه كل كوكب وأصبر من عود وأهدى إذا سرى ... من النجم في داج من الليل غيهب «2» وأذرب من حد السنان لسانه ... وأمضى من السيف الحسام المشطب «3» زعيم نزار كلها وخطيبها ... إذا قام طأطأ رأسه كل مشغب سليل قروم سادة ثم قالة ... يبذون يوم الجمع أهل المحصب كقس إياد أو لقيط بن معبد ... وعذرة والمنطيق زيد بن جندب في كلمة له طويلة. وإياهم عنى الشاعر بقوله: يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرقباء قال: أخبرني محمد بن عباد بن كاسب، كاتب زهير ومولى بجيلة من سبي دابق، وكان شاعرا راوية، وطلابة للعلم علامة، قال: سمعت أبا داود ابن حريز يقول وقد جرى شيء من ذكر الخطب وتحبير الكلام واقتضابه، وصعوبة ذلك المقام وأهواله، فقال: «تلخيص المعاني رفق. والاستعانة بالغريب عجز، والتشادق من غير أهل البادية بغض، والنظر في عيون الناس عي، ومس اللحية هلك، والخروج مما بني عليه أول الكلام إسهاب» . قال: وسمعته يقول: «رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وجناحاها رواية الكلام، وحليها الإعراب، وبهاؤها تخير الألفاظ. والمحبة مقرونة بقلة الاستكراه» . وأنشدني بيتا له في صفة خطباء إياد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرقباء فذكر المبسوط في موضعه، والمحذوف في موضعه، والموجز، والكناية والوحي باللحظ ودلالة الإشارة. وأنشدني له الثقة في كلمة له معروفة: الجود أخشن مسا يا بني مطر ... من أن تبزّكموه كف مستلب ما أعلم الناس إن الجود مدفعة ... للذم لكنه يأتي على النشب قال: ثم لم يحفل بها، فادعاها مسلم بن الوليد الأنصاري، أو ادعيت له. وكان أحد من يجيد قريض الشعر وتحبير الخطب. وفي الخطباء من يكون شاعرا ويكون إذا تحدث أو وصف أو احتج بليغا مفوها بينا، وربما كان خطيبا فقط وبيّن اللسان فقط. فمن الخطباء الشعراء، الأبيناء الحكماء: قس بن ساعدة الإيادي. والخطباء كثر، والشعراء أكثر منهم، ومن يجمع الشعر والخطابة قليل. ومنهم: عمرو بن الأهتم المنقري، وهو المكحل، قالوا: كأن شعره في مجالس الملوك حلل منشورة. قيل لعمر بن الخطاب رحمه الله: «قيل للأوسية أي منظر أحسن؟ فقالت: قصور بيض في حدائق خضر» ، فأنشد عند ذلك عمر بن الخطاب، بيت عدي بن زيد العبادي: كدمى العاج في المحاريب أو كال ... بيض في الروض زهره مستنير قال: فقال قسامة بن زهير: «كلام عمرو بن الأهتم آنق، وشعره أحسن» . هذا، وقسامة أحد أبيناء العرب. ومن الخطباء الشعراء: البعيث المجاشعي، واسمه خداش بن بشر بن بيبة. ومن الخطباء الشعراء: الكميت بن زيد الأسدي، وكنيته أبو المستهل. ومن الخطباء الشعراء: الطرماح بن حكيم الطائي، وكنيته أبو نفر. قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 القاسم بن معن: قال محمد بن سهل راوية الكميت: أنشدت الكميت قول الطرماح: إذا قبضت نفس الطرماح أخلقت ... عرى المجد واسترخى عنان القصائد قال: فقال الكميت: أي والله، وعنان الخطابة والرواية. قال أبو عثمان الجاحظ: ولم ير الناس أعجب حالا من الكميت والطرماح. وكان الكميت عدنانيا عصبيا، وكان الطرماح قحطانيا عصبيا. وكان الكميت شيعيا من الغالية، وكان الطرماح خارجيا من الصفرية. وكان الكميت يتعصب لأهل الكوفة، وكان الطرماح يتعصب لأهل الشام. وبينهما مع ذلك من الخاصة والمخالطة ما لم يكن بين نفسين قط، ثم لم يجر بينهما صرم ولا جفوة ولا إعراض، ولا شيء مما تدعو هذه الخصال إليه. ولم ير الناس مثلهما إلا ما ذكروا من حال عبد الله بن يزيد الإباضي، وهشام بن الحكم الرافضي «1» ، فإنهما صارا إلى المشاركة بعد الخلطة والمصاحبة. وقد كانت الحال بين خالد بن صفوان وشبيب بن شيبة، الحال التي تدعو إلى المفارقة بعد المنافسة والمحاسدة، للذي اجتمع فيهما من اتفاق الصناعة والقرابة والمجاورة، فكان يقال: لولا أنهما أحكم تميم لتباينا تباين الأسد والنمر. وكذلك كانت حال هشام بن الحكم الرافضي، وعبد الله بن يزيد الإباضي، إلا أنهما أفضلا على سائر المتضادين، بما صارا إليه من الشركة في جميع تجارتهما. وذكر خالد بن صفوان شبيب بن شيبة فقال: «ليس له صديق في السر، ولا عدو في العلانية» ، فلم يعارضه شبيب. وتدل كلمة خالد هذه على أنه يحسن أن يسب سب الأشراف. ومن الشعراء الخطباء: عمران بن حطان، وكنيته أبو شهاب، أحد بني عمرو بن شيبان أخوة سدوس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 فمن بني عمرو بن شيبان مع قلتهم من الخطباء والعلماء والشعراء عمران ابن حطان رئيس القعد من الصفرية، وصاحب فتياهم، ومفزعهم عند اختلافهم. ومنهم: دغفل بن حنظلة النسابة، الخطيب العلامة. ومنهم القعقاع بن شور. وسنذكر شأنهم إذا انتهينا إلى موضع ذكرهم إن شاء الله. ومن الخطباء الشعراء: نصر بن سيار، أحد بني ليث بن بكر، صاحب خراسان، وهو يعد في أصحاب الولايات والحروب، في التدبير، وفي العقل وشدة الرأي. ومن الخطباء الشعراء العلماء: زيد بن جندب الإيادي، وقد ذكرنا شأنه. ومن الخطباء الشعراء: عجلان بن سحبان الباهلي، وسحبان هذا هو سحبان وائل، وهو خطيب العرب. ومن الخطباء الشعراء العلماء، وممن قد تنافر إليه الأشراف: أعشى همدان. ومن الشعراء الخطباء: عمران بن عصام العنزي، هو الذي أشار على عبد الملك بخلع عبد العزيز أخيه، والبيعة للوليد بن عبد الملك، في خطبته المشهورة وقصيدته المذكورة. وهو الذي لما بلغ عبد الملك بن مروان قتل الحجاج له قال: ولم قتله، ويله؟ ألا رعى له قوله فيه: وبعثت من ولد الأغر معتب ... صقرا يلوذ حمامه بالعرفج فإذا طبخت بناره أنضجتها ... وإذا طبخت بغيرها لم تنضج وهو الهزبر إذا أراد فريسة ... لم ينجها منه صياح مهجهج «1» ومن خطباء الأمصار وشعرائهم والمولدين منهم: بشار الأعمى، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 بشار بن برد، وكنيته أبو معاذ، وكان من أحد موالي بني عقيل. فإن كان مولى أم الظباء على ما يقول بنو سدوس، وعلى ما ذكره حماد عجرد، فهو من موالي بني سدوس. ويقال إنه من أهل خراسان نازلا في بني عقيل. وله مديح كثير في فرسان أهل خراسان ورجالاتهم. وهو الذي يقول: من خراسان وبيتي في الذرى ... ولدى المسعاة فرعي قد بسق وقال: وإني لمن قوم خراسان دارهم ... كرام وفرعي فيهم ناضر بسق وكان شاعرا راجزا، وسجاعا خطيبا، وصاحب منثور ومزدوج. وله رسائل معروفة. وأنشد عقبة بن رؤبة، عقبة بن سلم، رجزا يمتدحه به، وبشار حاضر، فأظهر بشار استحسان الأرجوزة، فقال له عقبة بن رؤبة هذا طراز يا أبا معاذ لا تحسنه. فقال بشار: ألمثلي يقال هذا الكلام؟ أنا والله أرجز منك ومن أبيك ومن جدك. ثم غدا على عقبة بن سلم بأرجوزته التي أولها: يا طلل الحيّ بذات الصمد ... بالله خبّر كيف كنت بعدي وفيها يقول: اسلم وحييت أبا الملد ... لله أيامك في معدّ وفيها يقول: الحر يلحى والعصا للعبد ... وليس للملحف مثل الرد وفيها يقول: وصاحب كالدمل الممد ... حملته في رقعة من جلدي وما درى ما رغبتي من زهدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 أي لم أره زهدا فيه ولا رغبة. ذهب إلى قول الأغر الشاعر: لقد كنت في قوم عليك أشحة ... بنفسك، لولا أن من طاح طائح يودون لو خاطوا عليك جلودهم ... وهل يدفع الموت النفوس الشحائح والمطبوعون على الشعر من المولدين بشار العقيلي، والسيد الحميري، وأبو العتاهية، وابن أبي عيينة. وقد ذكر الناس في هذا الباب يحيى بن نوفل وسلما الخاسر، وخلف بن خليفة «1» . وأبان بن عبد الحميد اللاحقي أولى بالطبع من هؤلاء، وبشار أطبعهم كلهم. ومن الخطباء الشعراء ومن يؤلف الكلام الجيد، ويصنع المناقلات الحسان ويؤلف الشعر والقصائد الشريفة، مع بيان عجيب ورواية كثيرة، وحسن دل وإشارة: عيسى بن يزيد بن دأب، أحد بني ليث بن بكر، وكنيته أبو الوليد. ومن الخطباء الشعراء ممن كان يجمع الخطابة والشعر الجيد والرسائل الفاخرة مع البيان الحسن: كلثوم بن عمرو العتابي، وكنيته أبو عمرو، وعلى ألفاظه وحذوه ومثاله في البديع يقول جميع من يتكلف مثل ذلك من شعراء المولدين كنحو منصور النمري، ومسلم بن الوليد الأنصاري وأشباههما. وكان العتابي يحتذي حذو بشار في البديع. ولم يكن في المولدين أصوب بديعا من بشار، وابن هرمة. والعتابي من ولد عمرو بن كلثوم، ولذلك قال: إني امرؤ هدم الإقتار مأثرتي ... واجتاح ما بنت الأيام من خطري أيام عمرو بن كلثوم يسوّده ... حيا ربيعة والأفناء من مضر أرومة عطلتني من مكارمها ... كالقوس عطلها الرامي من الوتر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 ودل في هذه القصيدة على أنه كان قصيرا بقوله: نهى ظراف الغواني عن مواصلتي ... ما يفجأ العين من شيبي ومن قصري ومن الخطباء الشعراء الذين قد جمعوا الشعر والخطب، والرسائل الطوال والقصار، والكتب الكبار المخلدة، والسير الحسان المدونة، والأخبار المولدة: سهل بن هارون بن راهيوني «1» الكاتب، صاحب كتاب ثعلة وعفرة، في معارضة كتاب كليلة ودمنة، وكتاب الإخوان وكتاب المسائل، وكتاب المخزومي والهذلية، وغير ذلك من الكتب. ومن الخطباء الشعراء علي بن إبراهيم بن جبلة بن مخرمة، ويكنى أبا الحسن وسنذكر كلام قس بن ساعدة وشأن لقيط بن معبد، وهند بنت الخس، وجمعة بنت حابس، وخطباء إياد، إذا صرنا إلى ذكر خطباء القبائل إن شاء. الله. ولإياد وتميم في الخطب خصلة ليست لأحد من العرب، لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله هو الذي روى كلام قس بن ساعدة وموقفه على جمله بعكاظ وموعظته، وهو الذي رواه لقريش والعرب، وهو الذي عجب من حسنه وأظهر من تصويبه. وهذا إسناد تعجز عنه الأماني وتنقطع دونه الآمال. وإنما وفق الله ذلك الكلام لقس بن ساعدة لاحتجاجه للتوحيد، ولإظهاره معنى الإخلاص وإيمانه بالبعث. ولذلك كان خطيب العرب قاطبة. وكذلك ليس لأحد في ذلك مثل الذي لبني تميم، لأن النبي عليه السلام لما سأل عمرو بن الأهتم عن الزبرقان بن بدر «2» قال: «مانع لحوزته، مطاع في أدنيه» . فقال الزبرقان: «أما إنه قد علم أكثر مما قال، ولكنه حسدني شرفي» . فقال عمرو: «أما لئن قال ما قال فو الله ما علمته إلا ضيق الصدر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 زمر المروءة لئيم الخال، حديث الغنى» ، فلما رأى أنه خالف قوله الآخر قوله الأول، ورأى الإنكار في عيني رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: «يا رسول الله، رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت، وما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الآخرة» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله عند ذلك: «إن من البيان لسحرا» . فهاتان الخصلتان خصت بهما إياد وتميم، دون جميع القبائل. ودخل الأحنف بن قيس على معاوية بن أبي سفيان، فأشار له إلى الوساد فقال له: اجلس. فجلس على الأرض، فقال له معاوية: وما منعك يا أحنف من الجلوس على الوساد؟ فقال يا أمير المؤمنين، إن فيما أوصى به قيس بن عاصم المنقري ولده أن قال: «لا تغش السلطان حتى يملك، ولا تقطعه حتى ينساك، ولا تجلس له على فراش ولا وساد، واجعل بينك وبينه مجلس رجل أو رجلين، فإنه عسى أن يأتي من هو أولى بذلك المجلس منك فتقام له، فيكون قيامك زيادة له، ونقصانا عليك» . حسبي بهذا المجلس يا أمير المؤمنين، لعله إن يأتي من هو أولى بذلك المجلس مني، فقال معاوية: «لقد أوتيت تميم الحكمة، مع رقة حواشي الكلم» . وأنشأ يقول: يا أيها السائل عما مضى ... وعلم هذا الزمن العائب إن كنت تبغي العلم أو أهله ... أو شاهدا يخبر عن غائب فاعتبر الأرض بسكانها ... واعتبر الصاحب بالصاحب وذهب الشاعر في مرثية أبي دؤاد في قوله: وأصبر من عود وأهدى إذا سرى ... من النجم في داج من الليل غيهب إلى شبيه بقول جبار بن سلمى بن مالك بن جعفر بن كلاب، حين وقف على قبر عامر بن الطفيل فقال: «كان والله لا يضل حتى يضل النجم، ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 يعطش حتى يعطش البعير، ولا يهاب حتى يهاب السيل، وكان والله خير ما يكون حين لا تظن نفس بنفس خيرا» . وكان زيد بن جندب أشغى أفلح «1» ولولا ذلك لكان أخطب العرب قاطبة. وقال عبيدة بن هلال اليشكري في هجائه له: أشغى عقبناة وناب ذو عصل «2» ... وفلح باد وسن قد نصل وقال عبيدة أيضا فيه: ولفوك أشنع حين تنطق فاغرا ... من في قريح قد أصاب بريرا «3» وقد قال الكميت: تشبه في الهام آثارها ... مشافر قرحى أكلن البريرا وقال النمر بن تولب في شنعة أشداق الجمل: كم ضربة لك تحكي فاقراسية ... من المصاعب في أشداقه شنع» القراسية: بعير أضجم «5» . والضجم اعوجاج في الفم، والفقم مثله. والروق: ركوب السن الشفة. وفي الخطباء من كان أشغى، ومن كان أشدق، ومن كان أروق، ومن كان أضجم، ومن كان أفقم. وفي كل ذلك قد روينا الشاهد والمثل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وروى الهيثم بن عدي عن أبي يعقوب الثقفي، عن عبد الملك بن عمير، قال: قدم علينا الأحنف بن قيس الكوفة، مع المصعب بن الزبير، فما رأيت خصلة تذم في رجل إلا وقد رأيتها فيه: كان صعل الرأس أحجن الأنف، أغضف الأذن «1» ، متراكب الأسنان، أشدق، مائل الذقن، ناتىء الوجنة، باخق العين «2» ، خفيف العارضين، أحنف الرجلين، ولكنه كان إذا تكلم جلى عن نفسه. ولو استطاع الهيثم أن يمنعه البيان أيضا لمنعه. ولولا أنه لم يجد بدا من أن يجعل له شيئا على حال لما أقر بأنه إذا تكلم جلى عن نفسه. وقوله في كلمته هذه كقول هند بنت عتبة، حين أتاها نعي يزيد بن أبي سفيان، فقال لها بعض المعزين: إنا لنرجو أن يكون معاوية خلف من يزيد، فقالت هند: «ومثل معاوية لا يكون خلفا من أحد، فو الله إن لو جمعت العرب من أقطارها ثم رمي به فيها، لخرج من أي أعراضها شاء» . ولكنا نقول: المثل الأحنف يقال: «إلا أنه كان إذا تكلم جلى عن نفسه» ؟ ثم رجع بنا القول إلى الكلام الأول فيما يعتري اللسان من ضروب الآفات. قال ابن الأعرابي: طلق أبو رمادة امرأته حين وجدها لثغاء، وخاف أن تجيئه بولد ألثغ، فقال: لثغاء تأتي بحيفس ألثغ ... تميس في الموشيّ والمصبّغ الحيفس: الولد القصير الصغير. وأنشدني ابن الأعرابي كلمة جامعة لكثير من هذه المعاني، وهي قول الشاعر: اسكت ولا تنطق فأنت حبحاب «3» ... كلّك ذو عيب وأنت عياب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 إن صدق القوم فأنت كذاب ... أو نطق القوم فأنت هياب أو سكت القوم فأنت قبقاب «1» ... أو أقدموا يوما فأنت وجاب «2» وأنشدني في هذا المعنى أيضا: ولست بدميجة في الفرا ... ش وجابة يحتمي أن يجيبا ولا ذي قلازم عند الحياض ... إذا ما الشريب أراب الشريبا الدميجة: الثقيل عن الحركة. والقلازم: كثرة الصياح. وأنشدني: رب غريب ناصح الجيب ... وابن أب متهم الغيب ورب عياب له منظر ... مشتمل الثوب على العيب وأنشدني أيضا: وأجرأ من رأيت بظهر غيب ... على عيب الرجال ذوو العيوب. [أثر الأسنان في البيان] وقال سهل بن هارون: «لو عرف الزنجي فرط حاجته إلى ثناياه في إقامة الحروف، وتكميل آلة البيان، لما نزع ثناياه» . وقال عمر بن الخطاب رحمه الله في سهيل بن عمرو الخطيب: «يا رسول الله، انزع ثنيتيه السفليين حتى يدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيبا أبدا. وإنما قال ذلك لأن سهيلا كان أعلم من شفته السفلى. وقال خلاد بن يزيد الأرقط: خطب الجمحي خطبة نكاح أصاب فيها معاني الكلام، وكان في كلامه صفير يخرج في موضع ثناياه المنزوعة، فأجابه زيد بن علي بن الحسين بكلام في جودة كلامه، إلا أنه فضله بحسن المخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 والسلامة من الصفير، فذكر عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر، سلامة لفظ زيد لسلامة أسنانه، فقال في كلمة له: قلت قوادحها وتمّ عديدها ... فله بذاك مزية لا تنكر ويروى: «صحت مخارجها وتم حروفها» . المزية: الفضيلة. وزعم يحيى بن نجيم بن معاوية بن زمعة، أحد رواة أهل البصرة. قال: قال يونس بن حبيب، في تأويل قول الأحنف بن قيس: أنا ابن الزافرية أرضعتني ... بثدي لا أجد ولا وخيم أتمتني فلم تنقص عظامي ... ولا صوتي إذا جد الخصوم قال: إنما عنى بقوله عظامي أسنانه التي في فمه، وهي التي إذا تمت تمت الحروف، وإذا نقصت نقصت الحروف. وقال يونس: وكيف يقول مثله: «أتمتني فلم تنقص عظامي» وهو يريد بالعظام عظام اليدين والرجلين وهو أحنف من رجليه جميعا. مع قول الحتات له: «والله إنك لضئيل، وإن أمك لورهاء» . وكان أعرف بمواقع العيوب وأبصر بدقيقها وجليلها. وكيف يقول ذلك وهو نصب عيون الأعداء والشعراء والأكفاء، وهو أنف مضر الذي تعطس عنه، وأبين العرب والعجم قاطبة. قالوا: ولم يتكلم معاوية على منبر جماعة منذ سقطت ثناياه في الطست. قال أبو الحسن وغيره: لما شق على معاوية سقوط مقادم فيه قال له يزيد ابن معن السلمي: «والله ما بلغ أحد سنك إلا أبغض بعضه بعضا، ففوك أهون علينا من سمعك وبصرك» . فطابت نفسه. قال: وسألت مباركا الزنجي الفاشكار «1» ، ولا أعلم زنجيا بلغ في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الفشكرة مبلغه، فقلت له: لم تنزع الزنج ثناياها؟ ولم يحدد ناس منهم أسنانهم؟ فقال: أما أصحاب التحديد فللقتال والنهش، ولأنهم يأكلون لحوم الناس، ومتى حارب ملك ملكا فأخذه أسيرا أو قتيلا أكله، وكذلك إذا قاتل بعضهم بعضا أكل الغالب منهم المغلوب. وأما أصحاب القلع فإنهم قالوا: نظرنا إلى مقادم أفواه الغنم فكرهنا أن تشبه مقادم أفواهنا مقادم أفواه الغنم، فكم تظنهم- أكرمك الله- فقدوا من المنافع العظام بفقد تلك الثنايا. وفي هذا كلام يقع في كتاب الحيوان: وقال أبو الهندي في اللثغ: سقيت أبا المطرّح إذ أتاني ... وذو الرعثات منتصب يصيح شرابا تهرب الذبان منه ... ويلثغ حين يشربه الفصيح وقال محمد بن عمرو الرومي، مولى أمير المؤمنين: قد صحت التجربة وقامت العبرة على أن سقوط جميع الأسنان أصلح في الإبانة عن الحروف، منه إذا سقط أكثرها، وخالف أحد شطريها الشطر الآخر. وقد رأينا تصديق ذلك في أفواه قوم شاهدهم الناس بعد أن سقطت جميع أسنانهم، وبعد أن بقي منها الثلث أو الربع. فمن سقطت جميع أسنانه وكان معنى كلامه مفهوما: الوليد بن هشام القحذمي صاحب الأخبار. ومنهم أبو سفيان بن العلاء بن لبيد التغلبي، وكان ذا بيان ولسن. وكان عبيد الله بن أبي غسان ظريفا يصرف لسانه كيف شاء، وكان الإلحاح على القيء قد برد أسنانه، حتى لا يرى أحد منها شيئا إلا أن تطلع في لحم اللثة، أو في أصول منابت الأسنان. وكان سفيان بن الأبرد الكلبي كثيرا ما يجمع بين الحار والقار، فتساقطت أسنانه جمع، وكان في ذلك كله خطيبا بينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وقال أهل التجربة: إذا كان في اللحم الذي فيه مغارز الأسنان تشمير وقصر سمك «1» ذهبت الحروف وفسد البيان. وإذا وجد اللسان من جميع جهاته شيئا يفرعه ويصكه، ولم يمر في هواء واسع المجال، وكان لسانه يملأ جوبة فمه، لم يضره سقوط أسنانه إلا بالمقدار المغتفر، والجزء المحتمل. ويؤكد ذلك قول صاحب المنطق «2» ، فإنه زعم في كتاب الحيوان أن الطائر والسبع والبهيمة كلما كان لسان الواحد منها أعرض كان أفصح وأبين، وأحكى لما يلقن ولما يسمع، كنحو الببغاء والغداف وغراب البين، وما أشبه ذلك، وكالذي يتهيأ من أفواه السنانير إذا تجاوبت، من الحروف المقطعة المشاركة لمخارج حروف الناس. وأما الغنم فليس يمكنها أن تقول إلا «ما» . والميم والباء أول ما يتهيأ في أفواه الأطفال، كقولهم: ماما، وبابا، لأنهما خارجان من عمل اللسان، وإنما يظهران بالتقاء الشفتين. وليس شيء من الحروف أدخل في باب النقص والعجز من فم الأهتم، من الفاء والسين إذا كانا في وسط الكلمة فأما الضاد فليست تخرج إلا من الشدق الأيمن، إلا أن يكون المتكلم أعسر يسرا، مثل عمر بن الخطاب رحمه الله، فإنه كان يخرج الضاد من أي شدقيه شاء. فأما الأيمن والأعسر والأضبط، فليس يمكنهم ذلك إلا بالاستكراه الشديد. وكذلك الأنفاس مقسومة على المنخرين، فحالا يكون في الاسترواح ودفع البخار من الجوف من الشق الأيمن، وحالا يكون من الشق الأيسر، ولا يجتمعان على ذلك في وقت إلا أن يستكره ذلك مستكره، أو يتكلفه متكلف، فأما إذا ترك أنفاسه على سجيتها لم تكن إلا كما قالوا. وقالوا: الدليل على أن من سقط جميع أسنانه أن عظم اللسان نافع له، قول كعب بن جعيل ليزيد بن معاوية، حين أمره بهجاء الأنصار، فقال له: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 «أرادي أنت إلى الكفر بعد الإيمان، لا أهجو قوما نصروا رسول الله صلّى الله عليه وآله وآووه، ولكني سأدلك على غلام في الحي، كافر كأن لسانه لسان ثور» . يعني الأخطل. وجاء في الحديث: «إن الله تبارك وتعالى يبغض الرجل الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل الباقرة الخلا بلسانها» . قالوا: ويدل على ذلك قول حسان بن ثابت، حين قال له النبي عليه السلام: «ما بقي من لسانك؟» . فأخرج لسانه حتى قرع بطرفه طرف أرنبته، ثم قال: «والله إن لو وضعته على شعر لحلقه، أو على صخر لفلقه، وما يسرني به مقول من معد» . وأبو السمط مروان بن أبي الجنوب بن مروان بن أبي حفصة، وأبوه وابنه في نسق واحد، يقرعون بأطراف ألسنتهم أطراف أنفهم. وتقول الهند: لولا أن الفيل مقلوب اللسان لكان أنطق من كل طائر يتهيأ في لسانه كثير من الحروف المقطعة المعروفة. وقد ضرب الذين زعموا أن ذهاب جميع الأسنان أصلح في الإبانة عن الحروف من ذهاب الشطر أو الثلثين، في ذلك مثلا، فقالوا: الحمام المقصوص جناحاه جميعا أجدر أن يطير من الذي يكون جناحاه أحدهما وافرا والآخر مقصوصا. قالوا: وعلة ذلك التعديل والاستواء، وإذا لم يكن ذلك كذلك ارتفع أحد شقيه وانخفض الآخر، فلم يجذف ولم يطر. والقطا من الطير قد يتهيأ من أفواهها أن تقول: قطاقطا. وبذلك سميت ويتهيأ من أفواه الكلاب العينات والفاءات والواوات، كنحو قولها: وو وو، وكنحو قولها: عف عف. قال الهيثم بن عدي: قيل لصبي: من أبوك؟ فقال: وو وو، لأن أباه كان يسمى كلبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 قال: ولكل لغة حروف تدور في أكثر كلامها كنحو استعمال الروم للسين، واستعمال الجرامقة للعين «1» . وقال الأصمعي: ليس للروم ضاد، ولا للفرس ثاء، ولا للسرياني ذال. [تنافر الألفاظ والحروف] قال: ومن ألفاظ العرب ألفاظ تتنافر، وإن كانت مجموعة في بيت شعر لم يستطع المنشد إنشادها إلا ببعض الاستكراه. فمن ذلك قول الشاعر: وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر ولما رأى من لا علم له أن أحدا لا يستطيع أن ينشد هذا البيت ثلاث مرات في نسق واحد فلا يتعتع ولا يتلجلج، وقيل لهم إن ذلك إنما اعتراه إذ كان من أشعار الجن، صدقوا بذلك. ومن ذلك قول ابن يسير في أحمد بن يوسف حين استبطأه: هل معين على البكا والعويل ... أم معز على المصاب الجليل ميّت مات وهو في ورق العيش ... مقيم به وظل ظليل «2» في عداد الموتى وفي عامري الدن ... يا أبو جعفر أخي وخليلي لم يمت ميتة الوفاة ولكن ... مات عن كل صالح وجميل لا أذيل الآمال بعدك إني ... بعدها بالآمال حق بخيل كم لها وقفة بباب كريم ... رجعت من نداه بالتعطيل «3» ثم قال: لم يضرها، والحمد لله، شيء ... وانثنت نحو عزف نفس ذهول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فتفقد النصف الأخير من هذا البيت، فإنك ستجد بعض ألفاظه يتبرأ من بعض. وأنشدني أبو العاصي قال: أنشدني خلف الأحمر في هذا المعنى: وبعض قيض القوم أولاد علة ... يكد لسان الناطق المتحفظ «1» وقال أبو العاصي: وأنشدني في ذلك أبو البيداء الرياحي: وشعر كبعر الكبش فرق بينه ... لسان دعي في القريض دخيل أما قول خلف: وبعض قريض القوم أولاد علة فإنه يقول: إذا كان الشعر مستكرها، وكانت ألفاظ البيت من الشعر لا يقع بعضها ممائلا لبعض، كان بينها من التنافر ما بين أولاد العلات. وإذا كانت الكلمة ليس موقعها إلى جنب أختها مرضيا موافقا، كان على اللسان عند إنشاد ذلك الشعر مؤونة. قال: وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه قد أفرغ واحدا، وسبك سبكا واحدا، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان. وأما قوله «كبعر الكبش» ، فإنما ذهب إلى أن بعر الكبش يقع متفرقا غير مؤتلف ولا متجاور. وكذلك حروف الكلام وأجزاء البيت من الشعر، تراها متفقة ملسا ولينة المعاطف سهلة، وتراها مختلفة متباينة، ومتنافرة مستكرهة، تشق على اللسان وتكده، والأخرى تراها سهلة لينة، ورطبة مواتية، سلسة النظام، خفيفة على اللسان، حتى كأن البيت بأسره كلمة واحدة، وحتى كأن الكلمة بأسرها حرف واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وقال سحيم بن حفص: قالت بنت الحطيئة للحطيئة: «تركت قوما كراما ونزلت في بني كليب بعر الكبش» . فعاتبهم بتفرق بيوتهم. فقيل لهم: فأنشدونا بعض ما لا تتباين ألفاظه، ولا تتنافر أجزاؤه. فقالوا: قال الثقفي: من كان ذا عضد يدرك ظلامته ... إن الدليل الذي ليست له عضد تنبو يداه إذا ما قل ناصره ... ويأنف الضيم إن أثرى له عدد رمتني وستر الله بيني وبينها ... عشية آرام الكناس رميم «1» رميم التي قالت لجارات بيتها ... ضمنت لكم ألا يزال يهيم ألا رب يوم لو رمتني رميتها ... ولكن عهدي بالنضال قديم وأنشدوا: ولست بدميجة في الفرا ... ش وجّابة يحتمي أن يجيبا ولا ذي قلازم عند الحياض ... إذا ما الشريب أراب الشريبا وقال أبو نوفل بن سالم لرؤبة بن العجاج: يا أبا الجحاف، مت إذا شئت. قال: وكيف ذلك؟ قال: رأيت عقبة بن رؤبة ينشد رجزا أعجبني. قال: إنه يقول، لو كان لقوله قران! وقال الشاعر: مهاذبة مناجبة قران ... منادبة كأنهم الأسود وأنشد ابن الأعرابي: وبات يدرس شعرا لا قران له ... قد كان نقّحه حولا فما زادا وقال الآخر، بشار: فهذا بديه لا كتحبير قائل ... إذا ما أراد القول زوره شهرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 فهذا في اقتران الألفاظ. فأما في اقتران الحروف فإن الجيم لا تقارن الظاء ولا القاف ولا الطاء ولا الغين، بتقديم ولا بتأخير. والزاي لا تقارن الظاء ولا السين ولا الضاد ولا الذال، بتقديم ولا بتأخير. وهذا باب كبير. وقد يكتفي بذكر القليل حتى يستدل به على الغاية التي إليها يجري. [اللكنة] وقد يتكلم المغلاق الذي نشأ في سواد الكوفة بالعربية المعروفة، ويكون لفظه متخيرا فاخرا، ومعناه شريفا كريما، ويعلم مع ذلك السامع لكلامه ومخارج حروفه أنه نبطي. وكذلك إذا تكلم الخراساني على هذه الصفة، فإنك تعلم مع إعرابه وتخير ألفاظه في مخرج كلامه، إنه خراساني. وكذلك إن كان من كتاب الأهواز. ومع هذا إنا نجد الحاكية من الناس يحكي ألفاظ سكان اليمن مع مخارج كلامهم، لا يغادر من ذلك شيئا. وكذلك تكون حكايته للخراساني والأهوازي والزنجي والسندي والأجناس وغير ذلك. نعم حتى تجده كأنه أطبع منهم، فإذا ما حكى كلام الفأفاء فكأنما قد جمعت كل طرفة في كل فأفاء في الأرض في لسان واحد. وتجده يحكي الأعمى بصور ينشئها لوجهه وعينيه وأعضائه، لا تكاد تجد من ألف أعمى واحدا يجمع ذلك كله، فكأنه قد جمع جميع طرف حركات العميان في أعمى واحد. ولقد كان أبو دبوبة الزنجي، مولى آل زياد، يقف بباب الكرخ، بحضرة المكارين «1» ، فينهق، فلا يبقى حمار مريض ولا هرم حسير، ولا متعب بهير إلا نهق. وقبل ذلك تسمع نهيق الحمار على الحقيقة، فلا تنبعث لذلك، ولا يتحرك منها متحرك حتى كان أبو دبوبة يحركه. وقد كان جمع جميع الصور التي تجمع نهيق الحمار فجعلها في نهيق واحد. وكذلك كان في نباح الكلاب. ولذلك زعمت الأوائل أن الإنسان إنما قيل له العالم الصغير سليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 العالم الكبير، لأنه يصور بيديه كل صورة، ويحكي بفمه كل حكاية، ولأنه يأكل النبات كما تأكل البهائم، ويأكل الحيوان كما تأكل السباع وإن فيه من أخلاق جميع أجناس الحيوان أشكالا. وإنما تهيأ وأمكن الحاكية لجميع مخارج الأمم، لما أعطى الله الإنسان من الاستطاعة والتمكين، وحين فضله على جمع الحيوان بالمنطق والعقل والاستطاعة. بطول استعمال التكلف ذلت جوارحه لذلك. ومتى ترك شمائله على حالها، ولسانه على سجيته، كان مقصورا بعادة المنشأ على الشكل الذي لم يزل فيه. وهذه القضية مقصورة على هذه الجملة من مخارج الألفاظ، وصور الحركات والسكون. فأما حروف الكلام فإن حكمها إذا تمكنت في الألسنة خلاف هذا الحكم. ألا ترى أن السندي إذا جلب كبيرا فإنه لا يستطيع إلا أن يجعل الجيم زايا ولو أقام في عليا تميم، وفي سفلى قيس، وبين عجز هوازن، خمسين عاما. وكذلك النبطي القح، خلاف المغلاق الذي نشأ في بلاد النبط، لأن النبطي القح يجعل الزاي سينا، فإذا أراد أن يقول زورق قال سورق، ويجعل العين همزة، فإذا أراد أن يقول مشمعل، قال مشمئل. والنخاس يمتحن لسان الجارية إذا ظن أنها رومية وأهلها يزعمون أنها مولدة بأن تقول ناعمة، وتقول شمس، ثلاث مرات متواليات. والذي يعتري اللسان مما يمنع من البيان أمور: منها اللثغة التي تعتري الصبيان إلى أن ينشئوا، وهو خلاف ما يعتري الشيخ الهرم الماج «1» ، المسترخي الحنك، المرتفع اللثة، وخلاف ما يعتري أصحاب اللكن من العجم، ومن ينشأ من العرب مع العجم، فمن اللكن ممن كان خطيبا، أو شاعرا، أو كاتبا داهيا زياد بن سلمى أبو أمامة، وهو زياد الأعجم. قال أبو عبيدة: كان ينشد قوله: فتى زاده السلطان في الود رفعة ... إذا غير السلطان كل خليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 قال: فكان يجعل السين شيئا والطاء تاء، فيقول: «فتى زاده الشلتان» . ومنهم سحيم عبد بني الحسحاس، قال له عمر بن الخطاب رحمه الله وأنشد قصيدته التي يقول أولها: عميرة ودع إن تجهزت غاديا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا فقال له عمر: لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك. فقال له: ما سعرت. يريد ما شعرت، جعل الشين المعجمة سينا غير معجمة. ومنهم عبيد الله بن زياد والي العراق، قال لهانىء بن قبيصة: أهرري سائر اليوم! يريد أحروري. ومنهم صهيب بن سنان النمري، صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله كان يقول: إنك لهائن، يريد إنك لخائن. وصهيب بن سنان يرتضخ لكنة رومية، وعبيد الله بن زياد يرتضخ لكنة فارسية، وقد اجتمعا على جعل الحاء هاء. وازدانقاذار لكنته لكنة نبطية، وكان مثلهما في جعل الحاء هاء. وبعضهم يروي أنه أملى على كاتب له فقال: اكتب: «الهاصل ألف كر «1» » فكتبها الكاتب بالهاء كاللفظ بها فأعاد عليه الكلام، فأعاد الكاتب. فلما فطن لاجتماعهما على الجهل قال: أنت لا تهسن أن تكتب، وأنا لا أهسن أن أملي، فاكتب: «الجاصل ألف كر» : فكتبها بالجيم معجمة. ومنهم أبو مسلم صاحب الدعوة، وكان حسن الألفاظ جيد المعاني، وكان إذا أراد أن يقول: قلت لك، قال: كلت لك. فشارك في تحويل القاف كافا عبيد الله بن زياد. كذلك خبرنا أبو عبيدة. قال: وإنما أتي عبيد الله بن زياد في ذلك أنه نشأ في الأساورة عند شيرويه الاسواري، زوج أمه مرجانة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وقد كان في آل زياد غير واحد يسمى شيرويه. قال: وفي دار شيرويه عاد علي بن أبي طالب زيادا من علة كانت به. فهذا ما حضرنا من لكنة البلغاء والخطباء والشعراء والرؤساء. فأما لكنة العامة ومن لم يكن له حظ في المنطق فمثل فيل مولى زياد فإنه قال مرة لزياد «اهدوا لنا همار وهش» . يريد حمار وحش. فقال زياد: ما تقول ويلك! قال: «أهدوا إلينا أيرا» . يريد عيرا. فقال زياد: الأول أهون! وفهم ما أراد. وقالت أم ولد لجرير بن الخطفي، لبعض ولدها: «وقع الجردان في عجان أمكم» «1» ، فأبدلت الذال من الجرذان دالا وضمت الجيم، وجعلت العجين عجانا. وقال بعض الشعراء في أم ولد له، يذكر لكنتها: أول ما أسمع منها في السحر ... تذكيرها الأنثى وتأنيث الذكر والسوءة السوآء في ذكر القمر لأنها كانت إذا أرادت أن تقول القمر، قالت: الكمر. وقال ابن عباد: ركبت عجوز سندية جملا، فلما مضى تحتها متخلعا اعتراها كهيئة حركة الجماع، فقالت: هذا الذمل يذكرنا بالسر. تريد أنه يذكرها بالوطء، فقلبت السين شينا والجيم ذالا. وهذا كثير. وباب آخر من اللكنة. قيل لنبطي: لم ابتعت هذه الأتان؟ قال: «أركبها وتلد لي» فجاء بالمعنى بعينه ولم يبدل الحروف بغيرها، ولا زاد فيها ولا نقص، ولكنه فتح المكسور حين قال وتلد لي، ولم يقل تلد لي. قال: والصقلبي يجعل الذال المعجمة دالا في الحروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 باب البيان [حد البيان] قال بعض جهابذة الألفاظ ونقاد المعاني: المعاني القائمة في صدور الناس المتصورة في أذهانهم، والمتخلجة في نفوسهم، والمتصلة بخواطرهم، والحادثة عن فكرهم، مستورة خفية، وبعيدة وحشية، ومحجوبة مكنونة، وموجودة في معنى معدومة، لا يعرف الإنسان ضمير صاحبه، ولا حاجة أخيه وخليطه، ولا معنى شريكه والمعاون له على أموره، وعلى ما لا يبلغه من حاجات نفسه إلا بغيره. وإنما يحيي تلك المعاني ذكرهم لها، وأخبارهم عنها، واستعمالهم إياها. وهذه الخصال هي التي تقربها من الفهم، وتجليها للعقل، وتجعل الخفي منها ظاهرا، والغائب شاهدا، والبعيد قريبا. وهي التي تلخص الملتبس، وتحل المنعقد، وتجعل المهمل مقيدا، والمقيد مطلقا، والمجهول معروفا، والوحشي مجلوفا، والغفل موسوما، والموسوم معلوما. وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة، وحسن الاختصار، ودقة المدخل، يكون إظهار المعنى. وكلما كانت الدلالة أوضح وأفصح، وكانت الإشارة أبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وأنور، كان أنفع وأنجع. والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الذي سمعت الله عز وجل يمدحه، ويدعو إليه ويحث عليه. بذلك نطق القرآن، وبذلك تفاخرت العرب، وتفاضلت أصناف العجم. والبيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يغضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله كائنا ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان الدليل، لأن مدار الأمر والغاية التي يجري القائل والسامع، إنما هو الفهم والأفهام، فبأي شيء بلغت الأفهام وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع. ثم اعلم- حفظك الله- أن حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ، لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية، وممتدة إلى غير نهاية، وأسماء المعاني مقصورة معدودة، ومحصلة محدودة. [أدوات البيان الخمس] وجميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ، خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد: أولها اللفظ، ثم الإشارة، ثم العقد، ثم الخط، ثم الحال التي تسمى نصبة. والنصبة هي الحال الدالة، التي تقوم مقام تلك الأصناف، ولا تقصر عن تلك الدلالات، ولكل واحد من هذه الخمسة صورة بائنة من صورة صاحبتها، وحلية مخالفة لحلية أختها، وهي التي تكشف لك عن أعيان المعاني في الجملة، ثم عن حقائقها في التفسير، وعن أجناسها وأقدارها، وعن خاصها وعامها، وعن طبقاتها في السار والضار، وعما يكون منها لغوا بهرجا، وساقطا مطرحا. قال أبو عثمان: وكان في الحق أن يكون هذا الباب في أول هذا الكتاب، ولكنا أخرّناه لبعض التدبير. وقالوا: البيان بصر والعي عمى، كما أن العلم بصر والجهل عمى. والبيان من نتاج العلم، والعي من نتاج الجهل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وقال سهل بن هارون: العقل رائد الروح، والعلم رائد العقل، والبيان ترجمان العلم. وقال صاحب المنطق: حد الإنسان: الحي الناطق المبين. وقالوا: حياة المروءة الصدق، وحياة الروح العفاف، وحياة الحلم العلم، وحياة العلم البيان. وقال يونس بن حبيب: ليس لعيي مروءة، ولا لمنقوص البيان بهاء، ولو حك بيافوخه أعنان السماء. وقالوا: شعر الرجل قطعة من كلامه، وظنه قطعة من علمه، واختياره قطعة من عقله. وقال ابن التوأم: الروح عماد البدن، والعلم عماد الروح، والبيان عماد العلم. قد قلنا في الدلالة باللفظ. فأما الإشارة فباليد، وبالرأس، وبالعين والحاجب والمنكب، إذا تباعد الشخصان، وبالثوب وبالسيف. وقد يتهدد رافع السيف والسوط، فيكون ذلك زاجرا، ومانعا رادعا، ويكون وعيدا وتحذيرا. والإشارة واللفظ شريكان، ونعم العون هي له، ونعم الترجمان هي عنه. وما أكثر ما تنوب عن اللفظ، وما تغني عن الخط. وبعد فهل تعدو الإشارة أن تكون ذات صورة معروفة، وحلية موصوفة، على اختلافها في طبقاتها ودلالاتها. وفي الإشارة بالطرف والحاجب وغير ذلك من الجوارح، مرفق كبير ومعونة حاضرة، في أمور يسترها بعض الناس من بعض، ويخفونها من الجليس وغير الجليس. ولولا الإشارة لم يتفاهم الناس معنى خاص الخاص، ولجهلوا هذا الباب البتة. ولولا أن تفسير هذه الكلمة يدخل في باب صناعة الكلام لفسرتها لكم. وقد قال الشاعر في دلالات الإشارة: أشارت بطرف العين خيفة أهلها ... إشارة مذعور ولم تتكلم فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا ... وأهلا وسهلا بالحبيب المتيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وقال الآخر: وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه وفي الناس من الناس ... مقاييس وأشباه وفي العين غنى للمر ... ء أن تنطق أفواه وقال الآخر في هذا المعنى: ومعشر صيد ذوي تجلّه ... ترى عليهم للندى أدلّه وقال الآخر: ترى عينها عيني فتعرف وحيها ... وتعرف عيني ما به الوحي يرجع وقال آخر: وعين الفتى تبدي الذي في ضميره ... وتعرف بالنجوى الحديث المعمسا وقال الآخر: العين تبدي الذي في نفس صاحبها ... من المحبة أو بغض إذا كانا والعين تنطق والأفواه صامته ... حتى ترى من ضمير القلب تبيانا هذا ومبلغ الإشارة أبعد من مبلغ الصوت. فهذا أيضا باب تتقدم فيه الإشارة الصوت. والصوت هو آلة اللفظ، والجوهر الذي يقوم به التقطيع، وبه يوجد التأليف. ولن تكون حركات اللسان لفظا ولا كلاما موزونا ولا منثورا إلا بظهور الصوت، ولا تكون الحروف كلاما إلا بالتقطيع والتأليف. وحسن الإشارة باليد والرأس، من تمام حسن البيان باللسان، مع الذي يكون مع الإشارة من الدل والشكل «1» والتقتل والتثني «2» ، واستدعاء الشهوة، وغير ذلك من الأمور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 قد قلنا في الدلالة بالإشارة. فأما الخط، فمما ذكر الله عز وجل في كتابه من فضيلة الخط والإنعام بمنافع الكتاب، قوله لنبيه عليه السلام: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ . وأقسم به في كتابه المنزل، على نبيه المرسل، حيث قال: ن. وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ، ولذلك قالوا: القلم أحد اللسانين. كما قالوا: قلة العيال أحد اليسارين. وقالوا: القلم أبقى أثرا، واللسان أكثر هذرا. وقال عبد الرحمن بن كيسان: استعمال القلم أجدر أن يحض الذهن على تصحيح الكتاب، من استعمال اللسان على تصحيح الكلام. وقالوا: اللسان مقصور على القريب الحاضر، والقلم مطلق في الشاهد والغائب، وهو للغابر الحائن، مثله للقائم الراهن. والكتاب يقرأ بكل مكان، ويدرس في كل زمان، واللسان لا يعدو سامعه، ولا يتجاوزه إلى غيره. وأما القول في العقد، وهو الحساب دون اللفظ والخط، فالدليل على فضيلته، وعظم قدر الانتفاع به قول الله عز وجل: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ . وقال جل وتقدس: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ. الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ . وقال جل وعز: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ . وقال: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ. والحساب يشتمل على معان كثيرة ومنافع جليلة، ولولا معرفة العباد بمعنى الحساب في الدنيا لما فهموا عن الله عز وجل معنى الحساب في الآخرة. وفي عدم اللفظ وفساد الخط والجهل بالعقد فساد جل النعم، وفقدان جمهور المنافع، واختلال كل ما جعله الله عز وجل لنا قواما، ومصلحة ونظاما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وأما النصبة فهي الحال الناطقة بغير اللفظ، والمشيرة بغير اليد. وذلك ظاهر في خلق السموات والأرض، وفي كل صامت وناطق، وجامد ونام، ومقيم وظاعن، وزائد وناقص. فالدلالة التي في الموات الجامد، كالدلالة التي في الحيوان الناطق. فالصامت ناطق من جهة الدلالة، والعجماء معربة من جهة البرهان. ولذلك قال الأول: «سل الأرض فقل: من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبك حوارا، أجابتك اعتبارا» . وقال بعض الخطباء: «أشهد أن السموات والأرض آيات وآلات وشواهد قائمات، كل يؤدي عنك الحجة ويشهد لك بالربوبية موسومة بآثار قدرتك، ومعالم تدبيرك، التي تجليت بها لخلقك، فأوصلت إلى القلوب من معرفتك ما أنسها من وحشة الفكر، ورجم الظنون. فهي على اعترافها لك، وافتقارها إليك شاهدة بأنك لا تحيط بك الصفات ولا تحدك الأوهام، وإن حظ الفكر فيك، الاعتراف لك» . وقال خطيب من الخطباء، حين قام على سرير الاسكندر وهو ميت: «الاسكندر كان أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس» . ومتى دل الشيء على معنى فقد أخبر عنه وإن كان صامتا، وأشار إليه وإن كان ساكتا. وهذا القول شائع في جميع اللغات، ومتفق عليه مع إفراط الاختلافات. وقال عنترة بن شداد العبسي جعل نعيب الغراب خبرا للزاجر: حرق الجناح كأن لحيي رأسه ... جلمان بالأخبار هش مولع الحرق: الأسود. شبه لحييه بالجلمين، لأن الغراب يخبر بالفرقة والغربة ويقطع كما يقطع الجلمان. وأنشدني أبو الرديني العكلي، في تنسم الذئب الريح واستنشائه واسترواحه: يستخبر الريح إذا لم يسمع ... بمثل مقراع الصفا الموقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 المقراع: الفأس التي يكسر بها الصخر. والموقع. المحدد. يقال وقعت الحديدة إذا حددتها. وقال آخر، وهو الراعي: إن السماء وإن الريح شاهدة ... والأرض تشهد والأيام والبلد لقد جزيت بني بدر ببغيهم ... يوم الهباءة يوما ما له قود وقال نصيب في هذا المعنى، يمدح سليمان بن عبد الملك: أقول لركب صادرين لقيتهم ... قفا ذات أوشال ومولاك قارب «1» قفوا خبرونا عن سليمان إنني ... لمعروفه من أهل ودان طالب «2» فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب وهذا كثير جدا. [أحسن الكلام] وقال علي رحمه الله: «قيمة كل امرئ ما يحسن» . فلو لم نقف من هذا الكتاب إلا على هذه الكلمة لوجدناها شافية كافية، ومجزئة مغنية، بل لوجدناها فاضلة عن الكفاية، وغير مقصرة عن الغاية. وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه، وكان الله عز وجل قد ألبسه من الجلالة، وغشاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه، وتقوى قائله. فإذا كان المعنى شريفا واللفظ بليغا، وكان صحيح الطبع، بعيدا من الاستكراه، ومنزها عن الاختلال مصونا عن التكلف، صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة. ومتى فصلت الكلمة على هذه الشريطة، ونفذت من قائلها على هذه الصفة، أصحبها الله من التوفيق ومنحها من التأييد، ما لا يمتنع معه من تعظيمها صدور الجبابرة، ولا يذهل عن فهمها معه عقول الجهلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وقد قال عامر بن عبد قيس: «الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان» . وقال الحسن رحمه الله، وسمع رجلا يعظ، فلم تقع موعظته بموضع من قلبه، ولم يرق عندها، فقال له: «يا هذا، إن بقلبك لشر أو بقلبي» . وقال علي بن الحسين بن علي رحمه الله: لو كان الناس يعرفون جملة الحال في فضل الاستبانة، وجملة الحال في صواب التبيين، لأعربوا عن كل ما تخلج في صدورهم، ولوجدوا من برد اليقين ما يغنيهم عن المنازعة إلى كل حال سوى حالهم. وعلى أن درك ذلك كان لا يعدمهم في الأيام القليلة العدة، والفكرة القصيرة المدة، ولكنهم من بين مغمور بالجهل، ومفتون بالعجب ومعدول بالهوى عن باب التثبت، ومصروف بسوء العادة عن فضل التعلم. وقد جمع محمد بن علي بن الحسين صلاح شأن الدنيا بحذافيرها في كلمتين، فقال: «صلاح شأن جميع التعايش والتعاشر، ملء مكيال ثلثاه فطنة، وثلثه تغافل» . فلم يجعل لغير الفطنة نصيبا من الخير، ولا حظا في الصلاح لأن الإنسان لا يتغافل إلا عن شيء قد فطن له وعرفه. وذكر هذه الثلاثة الأخبار إبراهيم بن داحة، عن محمد بن عمير. وذكرها صالح بن علي الأفقم، عن محمد بن عمير. وهؤلاء جميعا من مشايخ الشيع، وكان ابن عمير أغلاهم. وأخبرني إبراهيم بن السندي، عن علي بن صالح الحاجب، عن العباس ابن محمد قال: قيل لعبد الله بن عباس: أنّى لك هذا العلم؟ قال: «قلب عقول، ولسان سؤول» . وقد رووا هذا الكلام عن دغفل بن حنظلة العلامة. وعبد الله أولى به منه. والدليل على ذلك قول الحسن: إن أول من عرف بالبصرة ابن عباس، صعد المنبر فقرأ سورة البقرة، ففسرها حرفا حرفا، وكان مثجا يسيل غربا. المثج: السائل الكثير، وهو من الثجاج. والغرب، ها هنا: الدوام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 هشام بن حسان وغيره، قال: قيل للحسن: يا أبا سعيد، إن قوما زعموا أنك تذم ابن عباس. قالوا: فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: إن ابن عباس كان من الإسلام بمكان، إن ابن عباس كان من القرآن بمكان، وكان والله له لسان سؤول، وقلب عقول، وكان والله مثجا يسيل غربا. قالوا: وقال علي بن عبد الله بن عباس: من لم يجد مس الجهل في عقله، وذل المعصية في قلبه، ولم يستبن موضع الخلة في لسانه، عند كلال حده عن حد خصمه، فليس ممن ينزع عن ريبة، ولا يرغب عن حال معجزة، ولا يكترث لفصل ما بين حجة وشبهة. قالوا: وذكر محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، بلاغة بعض أهله فقال: إني لأكره أن يكون مقدار لسانه فاضلا على مقدار علمه، كما أكره أن يكون مقدار علمه فاضلا على مقدار عقله. وهذا كلام شريف نافع، فاحفظوا لفظه وتدبروا معناه، ثم اعلموا أن المعنى الحقير الفاسد، والدني الساقط، يعشش في القلب ثم يبيض ثم يفرخ، فإذا ضرب بجرانه ومكن لعروقه، استفحل الفساد وبزل، وتمكن الجهل وقرح «1» ، فعند ذلك يقوى داؤه، ويمتنع دواؤه، لأن اللفظ الهجين الردي، والمستكره الغبي، أعلق باللسان، وآلف للسمع، وأشد التحاما بالقلب من اللفظ النبيه الشريف، والمعنى الرفيع الكريم. ولو جالست الجهال والنوكى، والسخفاء والحمقى، شهرا فقط، لم تنق من أوضار كلامهم، وخبال معانيهم، بمجالسة أهل البيان والعقل دهرا، لأن الفساد أسرع إلى الناس، وأشد التحاما بالطبائع. والإنسان بالتعلم والتكلف، وبطول الاختلاف إلى العلماء، ومدارسة كتب الحكماء، يجود لفظه ويحسن أدبه، وهو لا يحتاج في الجهل إلى أكثر من ترك التعلم، وفي فساد البيان إلى أكثر من ترك التخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ومما يؤكد قول محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، قول بعض الحكماء حين قيل له: متى يكون الأدب شرا من عدمه؟ قال: إذا كثر الأدب، ونقصت القريحة. وقد قال بعض الأولين: «من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه، كان حتفه في أغلب خصال الخير عليه» . وهذا كله قريب بعضه من بعض. وذكر المغيرة بن شعبة عمر بن الخطاب رحمه الله فقال: «كان والله أفضل من أن يخدع، وأعقل من أن يخدع» . وقال محمد بن علي بن عبد الله بن عباس: «كفاك من علم الدين أن تعرف ما لا يسع جهله، وكفاك من علم الأدب أن تروي الشاهد والمثل» . وكان عبد الرحمن بن إسحاق القاضي يروي عن جده إبراهيم بن سلمة، قال: سمعت أبا مسلم يقول: سمعت الإمام إبراهيم بن محمد يقول: يكفي من حظ البلاغة أن لا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع. قال أبو عثمان: أما أنا فأستحسن هذا القول جدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 باب البلاغة [حد البلاغة] الحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلّى الله على محمد خاصة، وعلى أنبيائه عامة. خبرني أبو الزبير كاتب محمد بن حسان، وحدثني محمد بن أبان- ولا أدري كاتب من كان- قالا: قيل للفارسي: ما البلاغة؟ قال: معرفة الفصل من الوصل. وقيل لليوناني: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام. وقيل للرومي: ما البلاغة؟ قال: حسن الاقتضاب عند البداهة، والغزارة يوم الإطالة. وقيل للهندي: ما البلاغة؟ قال: وضوح الدلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وقال بعض أهل الهند: جماع البلاغة البصر بالحجة، والمعرفة بمواضع الفرصة. ثم قال: ومن البصر بالحجة، والمعرفة بمواضع الفرصة، أن تدع الافصاح بها إلى الكناية عنها، إذا كان الإفصاح أوعر طريقة، وربما كان الإضراب عنها صفحا أبلغ في الدرك، وأحق بالظفر. قال: وقال مرة: جماع البلاغة التماس حسن الموقع، والمعرفة بساعات القول، وقلة الخرق بما التبس من المعاني أو غمض، وبما شرد عليك من اللفظ أو تعذر. ثم قال: وزين ذلك كله، وبهاؤه وحلاوته وسناؤه، أن تكون الشمائل موزونة، والألفاظ معدلة، واللهجة نقية. فإن جامع ذلك السن والسمت والجمال وطول الصمت، فقد تم كل التمام، وكمل كل الكمال. [مفهوم البلاغة عند سهل بن هارون] وخالف عليه سهل بن هارون في ذلك، وكان سهل في نفسه عتيق الوجه، حسن الشارة، بعيدا من الفدامة، معتدل القامة، مقبول الصورة، يقضى له بالحكمة قبل الخبرة، وبرقة الذهن قبل المخاطبة، وبدقة المذهب قبل الامتحان وبالنبل قبل التكشف. فلم يمنعه ذلك أن يقول ما هو الحق عنده وإن أدخل ذلك على حالة النقص. قال سهل بن هارون: لو أن رجلين خطبا أو تحدثا، أو احتجا أو وصفا وكان أحدهما جميلا جليلا بهيا، ولباسا نبيلا، وذا حسب شريفا، وكان الآخر قليلا قميئا، وباذّ الهيئة دميما «1» ، وخامل الذكر مجهولا، ثم كان كلامهما في مقدار واحد من البلاغة، وفي وزن واحد من الصواب، لتصدع عنهما الجمع وعامتهم تقضي للقليل الدميم على النبيل الجسيم، وللباذ الهيئة على ذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الهيئة، ولشغلهم التعجب منه عن مساواة صاحبه به، ولصار التعجب منه سببا للعجب به، ولصار الإكثار في شأنه علة للإكثار في مدحه، لأن النفوس كانت له أحقر، ومن بيانه أيأس، ومن حسده أبعد. فإذا هجموا منه على ما لم يكونوا يحتسبونه، وظهر منه خلاف ما قدروه، تضاعف حسن كلامه في صدورهم، وكبر في عيونهم لأن الشيء من غير معدنه أغرب، وكلما كان أغرب كان أبعد في الوهم وكلما كان أبعد في الوهم كان أطرف، وكلما كان أطرف كان أعجب، وكلما كان أعجب كان أبدع. وإنما ذلك كنوادر كلام الصبيان وملح المجانين، فإن ضحك السامعين من ذلك أشد، وتعجبهم به أكثر. والناس موكلون بتعظيم الغريب، واستطراف البعيد، وليس لهم في الموجود الراهن، وفيما تحت قدرتهم من الرأي والهوى، مثل الذي زهّد الجيران في عالمهم، والاصحاب في الفائدة من صاحبهم. وعلى هذا السبيل يستطرفون القادم عليهم، ويرحلون إلى النازح عنهم، ويتركون من هو أعم نفعا وأكثر في وجوه العلم تصرفا، وأخف مؤونة وأكثر فائدة ولذلك قدّم بعض الناس الخارجي «1» على العريق، والطارف على التلبد وكان يقول: إذا كان الخليفة بليغا والسيد خطيبا، فإنك تجد جمهور الناس وأكثر الخاصة فيهما على أمرين: إما رجلا يعطي كلامهما من التعظيم والتفضيل، والإكبار والتبجيل، على قدر حالهما في نفسه، وموقعهما من قلبه، وإما رجلا تعرض له التهمة لنفسه فيهما، والخوف من أن يكون تعظيمه لهما يوهمه من صواب قولهما، وبلاغة كلامهما، ما ليس عندهما حتى يفرط في الإشفاق، ويسرف في التهمة. فالأول يزيد في حقه للذي له في نفسه، والآخر ينقصه من حقه لتهمته لنفسه، ولإشفاقه من أن يكون مخدوعا في أمره. فإذا كان الحب يعمي عن المساوىء فالبغض أيضا يعمي عن المحاسن. وليس يعرف حقائق مقادير المعاني، ومحصول حدود لطائف الأمور، إلا عالم حكيم، ومعتدل الأخلاط عليم، وإلا القويّ المنة، الوثيق العقدة، والذي لا يميل مع ما يستميل الجمهور الأعظم، والسواد الأكبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وكان سهل بن هارون شديد الإطناب في وصف المأمون بالبلاغة والجهارة، وبالحلاوة والفخامة، وجودة اللهجة والطلاوة. وإذا صرنا إلى ذكر ما يحضرنا من تسمية خطباء بني هاشم، وبلغاء رجال القبائل، قلنا في وصفهما على حسب حالهما، والفرق الذي بينهما ولأننا عسى أن نذكر جملة من خطباء الجاهليين والإسلاميين، والبدويين والحضريين، وبعض ما يحضرنا من صفاتهم وأقدارهم ومقاماتهم، وبالله التوفيق. ثم رجع القول بنا إلى ذكر الإشارة. وروى أبو شمر «1» عن معمّر أبي الأشعث «2» ، خلاف القول الأول في الإشارة والحركة عند الخطبة، وعند منازعة الرجال ومناقلة الأكفاء. وكان أبو شمر إذا نازع لم يحرّك يديه ولا منكبيه، ولم يقلب عينيه، ولم يحرّك رأسه، حتى كأن كلامه إنما يخرج من صدع صخرة. وكان يقضي على صاحب الإشارة بالافتقار إلى ذلك، وبالعجز عن بلوغ إرادته. وكان يقول: ليس من حق المنطق أن تستعين عليه بغيره، حتى كلمه إبراهيم بن سيار النظام «3» عند أيوب بن جعفر، فاضطره بالحجة، وبالزيادة في المسألة، حتى حرّك يديه وحل حبوته، وحبا إليه حتى أخذ بيديه. وفي ذلك اليوم انتقل أيوب من قول أبي شمر إلى قول إبراهيم. وكان الذي غرّ أبا شمر وموّه له هذا الرأي، أن أصحابه كانوا يستمعون منه، ويسلمون له ويميلون إليه، ويقبلون كل ما يورده عليهم، ويثبته عندهم، فلما طال عليه توقيرهم له، وترك مجاذبتهم إياه، وخفت مؤونة الكلام عليه- نسي حال منازعة الأكفاء ومجاذبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الخصوم. وكان شيخا وقورا، وزمّيتا ركينا «1» ، وكان ذا تصرف في العلم، ومذكورا بالفهم والحلم. [مفهوم البلاغة عند الهند] قال معمّر، أبو الأشعث: قلت لبهلة الهندي أيام اجتلب يحيى بن خالد أطباء الهند، مثل منكة وبازيكر وقلبرقل وسندباد وفلان وفلان: ما البلاغة عند الهند؟ قال بهلة: عندنا في ذلك صحيفة مكتوبة، ولكن لا أحسن ترجمتها لك، ولم أعالج هذه الصناعة فأثق من نفسي بالقيام بخصائصها، وتلخيص لطائف معانيها. قال أبو الأشعث: فلقيت بتلك الصحيفة التراجمة فإذا فيها: أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة. وذلك أن يكون الخطيب رابط الجأش، ساكن الجوارح، قليل اللحظ، متخير اللفظ، لا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة ولا الملوك بكلام السوقة. ويكون في قواه فضل التصرف في كل طبقة، ولا يدقق المعاني كلّ التدقيق، ولا ينقح الألفاظ كل التنقيح، ولا يصفها كل التصفية، ولا يهذبها غاية التهذيب، ولا يفعل ذلك حتى يصادف حكيما، أو فيلسوفا عليما، ومن قد تعوّد حذف فضول الكلام، وإسقاط مشتركات الألفاظ، وقد نظر في صناعة المنطق على جهة الصناعة والمبالغة، لا على جهة الاعتراض والتصفح، وعلى وجه الاستطراف والتظرف. قال: ومن علم حق المعنى أن يكون الاسم له طبقا، وتلك الحال له وفقا، ويكون الاسم له لا فاضلا ولا مفضولا، ولا مقصرا، ولا مشتركا، ولا مضمّنا، ويكون مع ذلك ذاكرا لما عقد عليه أول كلامه، ويكون تصفحه لمصادره، في وزن تصفحه لموارده، ويكون لفظه مونقا، ولهول تلك المقامات معاودا. ومدار الأمر على أفهام كل قوم بمقدار طاقتهم، والحمل عليهم على أقدار منازلهم، وأن تواتيه آلاته، وتتصرف معه أداته، ويكون في التهمة لنفسه معتدلا، وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 حسن الظن بها مقتصدا، فإنه إن تجاوز مقدار الحقّ في التهمة لنفسه ظلمها، فأودعها ذلة المظلوين، وإن تجاوز الحق في مقدار حسن الظن بها، آمنها فأودعها تهاون الآمنين. ولكل ذلك مقدار من الشغل، ولكل شغل مقدار من الوهن، ولكل وهن مقدار من الجهل. وقال إبراهيم بن هانىء، وكان ماجنا خليعا، وكثير العبث متمردا. ولولا أن كلامه هذا الذي أراد به الهزل يدخل في باب الجد، لما جعلته صلة الكلام الماضي. وليس في الأرض لفظ يسقط البتة، ولا معنى يبور حتى لا يصلح لمكان من الأماكن. قال إبراهيم بن هانىء: من تمام آلة القصص أن يكون القاص أعمى، ويكون شيخا بعيد مدى الصوت. ومن تمام آلة الزّمر أن تكون الزامرة سوداء. ومن تمام آلة المغني أن يكون فاره البرذون. برّق الثياب عظيم الكبر، سيء الخلق. ومن تمام آلة الخمار أن يكون ذميا، ويكون اسمه أذين أو شلوما، أو مازيار، أو ازدانقاذار، أو ميشا، ويكون أرقط الثياب، مختوم العنق. ومن تمام آلة الشعر أن يكون الشاعر أعرابيا، ويكون الداعي إلى الله صوفيا. ومن تمام آلة السؤدد أن يكون السيد ثقيل السمع، عظيم الرأس. ولذلك قال ابن سنان الجديدي، لراشد بن سلمة الهذلي: «ما أنت بعظيم الرأس ولا ثقيل السمع فتكون سيدا، ولا بأرسح فتكون فارسا» . وقال شبيب بن شيبة الخطيب، لبعض فتيان بني منقر: «والله ما مطلت مطل الفرسان، ولا فتقت فتق السادة» . وقال الشاعر: فقبّلت رأسا لم يكن رأس سيد ... وكفا ككف الضبّ أو هي أحقر فعاب صغر رأسه وصغر كفه، كما عاب الشاعر كف عبد الله بن مطيع «1» العدوي، حين وجدها غليظة جافية، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 دعا ابن مطيع للبياع فجئته ... إلى بيعة قلبي لها غير آلف فناولني خشناء لما لمستها ... بكفي ليست من أكف الخلائف وهذا الباب يقع (في كتاب الجوارح) «1» مع ذكر البرص والعرج والعسر والأدر والصلع والحدب والقرع، وغير ذلك من علل الجوارح. وهو وارد عليكم إن شاء الله بعد هذا الكتاب. وقال إبراهيم بن هانىء: من تمام آلة الشيعي أن يكون وافر الجمة، صاحب بازيكند «2» . ومن تمام آلة صاحب الحرس أن يكون زمّيتا قطوبا أبيض اللحية، أقنى أجنى «3» ، ويتكلم بالفارسية. وأخبرني إبراهيم بن السندي قال: دخل العماني الراجز على الرشيد، لينشده شعرا، وعليه قلنسوة طويلة، وخف ساذج، فقال: إياك أن تنشدني إلا وعليك عمامة عظيمة الكور وخفان دمالقان «4» . قال إبراهيم: قال أبو نصر: فبكر عليه من الغد وقد تزيّا بزي الأعراب، فأنشده ثم دنا فقبّل يده، ثم قال: يا أمير المؤمنين، قد والله أنشدت مروان ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته، وأنشدت المنصور ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته، وأنشدت المهدي ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته. وأنشدت الهادي ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته. هذا إلى كثير من أشباه الخلفاء وكبار الأمراء، والسادة الرؤساء، ولا الله إن رأيت فيهم أبهى منظرا، ولا أحسن وجها، ولا أنعم كفا، ولا أندى راحة منك يا أمير المؤمنين. وو الله لو ألقي في روعي أني أتحدث عنك ما قلت لك ما قلت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 قال: فأعظم له الجائزة على شعره، وأضعف له على كلامه، وأقبل عليه فبسطه، حتى تمنى والله جميع من حضر أنهم قاموا ذلك المقام. [مفهوم البلاغة عند العرب] ثم رجع بنا القول إلى الكلام الأول. قال ابن الأعرابي: قال معاوية بن أبي سفيان لصحّار بن عياش العبديّ «1» . ما هذه البلاغة التي فيكم؟ قال: شيء تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا. فقال له رجل من عرض القوم: يا أمير المؤمنين، هؤلاء بالبسر والرطب، أبصر منهم بالخطب. فقال له صحار: أجل والله، إنا لنعلم أن الريح لتلقحه، وأن البرد ليعقده، وأن القمر ليصبغه، وإن الحر لينضجه. وقال له معاوية: ما تعدون البلاغة فيكم؟ قال: الإيجاز. قال له معاوية: وما الإيجاز؟ قال صحار: أن تجيب فلا تبطىء، وتقول فلا تخطىء. فقال له معاوية: أو كذلك تقول يا صحار؟ قال صحار: أقلني يا أمير المؤمنين، ألا تبطىء ولا تخطىء. وشأن عبد القيس عجب، وذلك أنهم بعد محاربة إياد تفرقوا فرقتين: ففرقة وقعت بعمان وشقّ عمان، وهم خطباء العرب، وفرقة وقعت إلى البحرين وشقّ البحرين، وهم من أشعر قبيل في العرب، ولم يكونوا كذلك حين كانوا في سرّة البادية وفي معدن الفصاحة. وهذا عجب. ومن خطبائهم المشهورين: صعصعة بن صوحان، وزيد بن صوحان، وسيحان بن صوحان. ومنهم صحار بن عياش. وصحار من شيعة عثمان، وبنو صوحان من شيعة علي. ومنهم مصقلة بن رقبة، ورقبة بن مصقلة، وكرب بن رقبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وإذا صرنا إلى ذكر الخطباء والنسابين، ذكرنا من كلام كل واحد منهم بقدر ما يحضرنا، وبالله التوفيق. قال لي ابن الأعرابي «1» : قال لي المفضل بن محمد الضبي: قلت لأعرابي منا: ما البلاغة؟ قال لي: الإيجاز في غير عجز، والإطناب في غير خطل. قال ابن الأعرابي: فقلت للمفضل: ما الإيجاز عندك؟ قال: حذف الفضول، وتقريب البعيد. قال ابن الأعرابي، قيل لعبد الله بن عمر: لو دعوت الله لنا بدعوات. فقال: اللهم ارحمنا وعافنا وارزقنا! فقال له رجل: لو زدتنا يا أبا عبد الرحمن. فقال: نعوذ بالله من الإسهاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 تراجم البلغاء [إياس بن معاوية] ذكر ناس من البلغاء والخطباء والأبيناء والفقهاء والأمراء ممن كان لا يكاد يسكت مع قلة الخطأ والزلل منهم: زيد بن صوحان. ومنهم: أبو واثلة إياس ابن معاوية المزنيّ «1» ، القاضي القائف، وصاحب الزّكن، والمعروف بجودة الفراسة. ولكثرة كلامه قال له عبد الله بن شبرمة «2» : «أنا وأنت لا نتفق. أنت لا تشتهي أن تسكت وأنا لا أشتهي أن أسمع» . وأتى حلقة من حلق قريش في مسجد دمشق، فاستولى على المجلس، ورأوه أحمر دميما باذّ الهيئة، قشفا، فاستهانوا به فلما عرفوه اعتذروا إليه وقالوا له: الذنب مقسوم بيننا وبينك، أتيتنا في زيّ مسكين، تكلمنا بكلام الملوك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ورأيت ناسا يستحسنون جواب إياس بن معاوية حين قيل له: ما فيك عيب غير أنك معجب بقولك. قال: أفأعجبكم قولي؟ قالوا: نعم. قال: فأنا أحقّ بأن أعجب بما أقول، وبما يكون مني منكم. والناس، حفظك الله، لم يضعوا ذكر العجب في هذا الموضع. والمعيب عند الناس ليس هو الذي لا يعرف ما يكون منه من الحسن. والمعرفة لا تدخل في باب التسمية بالعجب، والعجب مذموم. وقد جاء في الحديث: «إن المؤمن من ساءته سيئته وسرّته حسنته» . وقيل لعمر: فلان لا يعرف الشر. قال: «ذاك أجدر أن يقع فيه» . وإنما العجب اسراف الرجل في السرور بما يكون منه والإفراط في استحسانه، حتى يظهر ذلك في لفظه وفي شمائله. وهو الذي وصف به صعصعة بن صوحان، المنذر بن الجارود، عند علي بن أبي طالب رحمه الله، فقال: «أما إنه مع ذلك لنظار في عطفيه، تفّال في شراكيه، تعجبه حمرة برديه» . قال أبو الحسن: قيل لإياس: ما فيك عيب إلا كثرة الكلام. قال: فتسمعون صوابا أم خطأ؟ قالوا: لا، بل صوابا. قال: «فالزيادة من الخير خير» . وليس كما قال، للكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية، وما فضل عن قدر الاحتمال ودعا إلى الاستثقال والملال، فذلك الفاضل هو الهذر، وهو الخطل، وهو الإسهاب الذي سمعت الحكماء يعيبونه. وذكر الأصمعي أن عمر بن هبيرة لما أراده على القضاء قال: إني لا أصلح له. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنني عييّ، ولأني حديد. قال ابن هبيرة: أما الحدة فإن السوط يقوّمك، وأما الدمامة فإني لا أريد أن أحاسن بك أحدا، وأما العيّ فقد عبرت عما تريد. فإن كان إياس عند نفسه عييا فذاك أجدر بأن يهجر الإكثار. وبعد فما نعلم أحدا رمى إياسا بالعيّ، وإنما عابوه بالإكثار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وذكر صالح بن سليمان، عن عتبة بن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث، قال ما رأيت عقول الناس إلا قريبا بعضها من بعض، إلا ما كان من الحجاج ابن يوسف، وإياس بن معاوية، فإن عقولهما كانت ترجح على عقول الناس كثيرا. وقال قائل لإياس: لم تعجل بالقضاء؟ فقال إياس: كم لكفك من أصبع؟ قال: خمس. قال: عجلت. قال: لم يعجل من قال بعد ما قتل الشيء علما ويقينا. قال إياس: فهذا هو جوابي لك. وكان كثيرا ما ينشد قول النابغة الجعدي: أبى لي البلاء وأني امرؤ ... إذا ما تبينت لم أرتب قال: ومدح سلمة بن عياش، سوار بن عبد الله «1» ، بمثل ما وصف به إياس نفسه حين قال: وأوقف عند الأمر ما لم يضج له ... وأمضى إذا ما شك من كان ماضيا وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله، إلى عديّ بن أرطأة: إنّ قبلك رجلين من مزينة، فولّ أحدهما قضاء البصرة. يعني بكر بن عبد الله المزني وإياس بن معاوية. فقال بكر: والله ما أحسن القضاء، فإن كنت صادقا فما يحل لك أن توليني، وإن كنت كاذبا إنها لأحراهما. وكانوا إذا ذكروا البصرة قالوا: شيخها الحسن، وفتاها بكر. وقال إياس بن معاوية: لست بخب والخب لا يخدعني. وقال: الخبّ «2» لا يخدع ابن سيرين، وهو يخدع أبي ويخدع الحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ودخل الشام وهو غلام، فتقدّم خصما له، وكان الخصم شيخا كبيرا، إلى بعض قضاة عبد الملك بن مروان، فقال له القاضي: أتقدم شيخا كبيرا؟ قال: الحق أكبر منه. قال: اسكت. قال: فمن ينطق بحجتي. قال: لا أظنك تقول حقا حتى تقوم. قال: لا إله إلا الله، (أحقا أم باطلا؟) . فقام القاضي فدخل على عبد الملك من ساعته، فخبره بالخبر، فقال عبد الملك: اقض حاجته الساعة وأخرجه من الشام، لا يفسد عليّ الناس. فإذا كان إياس وهو غلام يخاف على جماعة أهل الشام، فما ظنك به وقد كبرت سنه، وعضّ على ناجذه. وجملة القول في إياس أنه كان من مفاخر مضر، ومن مقدمي القضاة، وكان فقيه البدن، دقيق المسلك في الفطن، وكان صادق الحدس نقابا «1» ، وكان عجيب الفراسة ملهما، وكان عفيف الطعم، كريم المداخل والشيم، وجيها عند الخلفاء، مقدما عند الأكفاء. وفي مزينة خير كثير. ثم رجعنا إلى القول الأول. ومنهم ربيعة الرأي «2» ، وكان لا يكاد يسكت. قالوا: وتكلّم يوما فأكثر وأعجب بالذي كان منه، فالتفت إلى أعرابي كان عنده فقال: يا أعرابيّ: ما تعدون العيّ فيكم؟ قال: ما كنت فيه منذ اليوم. وكان يقول: الساكت بين النائم والأخرس. [عبد الله بن حفص] ومنهم عبيد الله بن محمد بن حفص التيمي «3» . ومحمد بن حفص هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ابن عائشة، ثم قيل لعبيد الله ابنه: ابن عائشة. وكان كثير العلم والسماع، متصرفا في الخبر والأثر. وكان من أجواد قريش، وكان لا يكاد يسكت، وهو في ذلك كثير الفوائد. وكان أبوه محمد بن حفص عظيم الشأن، كثير العلم، بعث إليه ينخاب خليفته في بعض الأمر، فأتاه في حلقته في المسجد، فقال له في بعض كلامه: أبو من أصلحك الله؟ فقال له: هلا عرفت هذا قبل مجيئك! وإن كان لا بد منه فاعترض من شئت فسله. فقال له: إني أريد أن تخليني. قال: أفي حاجة لك أم في حاجة لي؟ قال: بل في حاجة لي. قال: فألقني في المنزل قال: فإن الحاجة لك. قال: ما دون إخواني ستر. [محمد بن مسعر] ومنهم محمد بن مسعر العقيليّ، وكان كريما كريم المجالسة، يذهب مذهب النساك، وكان جوادا. مرّ صديق له من بني هاشم بقصر له وبستان نفيس، فبلغه أنه استحسنه، فوهبه له. ومنهم أحمد بن المعذل بن غيلان، كان يذهب مذهب مالك رحمه الله، وكان ذا بيان وتبحر في المعاني، وتصرف في الألفاظ. [الحسن بن سهل] وممن كان يكثر الكلام جدا الفضل بن سهل، ثم الحسن بن سهل في أيامه. وحدثني محمد بن الجهم وداود بن أبي داود قالا: جلس الحسن بن سهل في مصلّى الجماعة، لنعيم بن خازم، فأقبل نعيم حافيا حاسرا وهو يقول: ذنبي أعظم من السماء، ذنبي أعظم من الهواء، ذنبي أعظم من الماء قالا: فقال له الحسن بن سهل: على رسلك، تقدمت منك طاعة، وكان آخر أمرك إلى توبة، وليس للذنب بينهما مكان، وليس ذنبك في الذنوب بأعظم من عفو أمير المؤمنين في العفو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 ومن هؤلاء علي بن هشام، وكان لا يسكت، ولا أدري كيف كان كلامه. قال: وحدّثني مهدي بن ميمون، قال: حدثنا غيلان بن جرير، قال: كان مطرّف بن عبد الله يقول: «لا تطعم طعامك من لا يشتهيه» . يقول: لا تقبل بحديثك على ما لا يقبل عليه بوجهه. وقال عبد الله بن مسعود: «حدّث الناس ما حدجوك بأبصارهم، وأذنوا لك بأسماعهم، ولحظوك بأبصارهم، وإذا رأيت منهم فترة فأمسك» . [ابن السماك] قال: وجعل ابن السماك «1» يوما يتكلم، وجارية له حيث تسمع كلامه، فلما انصرف إليها قال لها: كيف سمعت كلامي؟ قالت: ما أحسنه، لولا أنك تكثر ترداده. قال: أردده حتى يفهمه من لم يفهمه. قالت: إلى أن يفهمه من لا يفهمه قد ملّه من فهمه. عباد بن العوام، عن شعبة عن قتادة قال: مكتوب في التوراة: «لا يعاد الحديث مرتين» . سفيان بن عيينة، عن الزهري قال: «إعادة الحديث أشد من نقل الصخر» . وقال بعض الحكماء: «من لم ينشط لحديثك فارفع عنه مؤونة الاستماع منك» . وجملة القول في الترداد، أنه ليس فيه حد ينتهي إليه، ولا يؤتى على وصفه. وإنما ذلك على قدر المستمعين، ومن يحضره من العوام والخواص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وقد رأينا الله عز وجل ردد ذكر قصة موسى وهود، وهارون وشعيب، وإبراهيم ولوط، وعاد وثمود. وكذلك ذكر الجنة والنار وأمور كثيرة، لأنه خاطب جميع الأمم من العرب وأصناف العجم، وأكثرهم غبي غافل، أو معاند مشغول الفكر ساهي القلب. وأما أحاديث القصص والرقة فإني لم أر أحدا يعيب ذلك. وما سمعنا بأحد من الخطباء كان يرى إعادة بعض الألفاظ وترداد المعاني عيّا، إلا ما كان من النخار بن أوس العذري، فإنه كان إذا تكلم في الحمالات «1» وفي الصفح والاحتمال، وصلاح ذات البين، وتخويف الفريقين من التفاني والبوار- كان ربما ردد الكلام عن طريق التهويل والتخويف، وربما حمى فنخر. [جعفر بن يحيى] وقال ثمامة بن أشرس «2» : كان جعفر بن يحيى أنطق الناس، قد جمع الهدوء والتمهل، والجزالة والحلاوة، وافهاما يغنيه عن الإعادة. ولو كان في الأرض ناطق يستغني بمنطقه عن الإعادة. وقال مرة: ما رأيت أحدا كان لا يتحبّس ولا يتوقّف، ولا يتلجلج ولا يتنحنح، ولا يرتقب لفظا قد استدعاه من بعد، ولا يلتمس التخلص إلى معنى قد تعصّى عليه طلبه، أشد اقتدارا، ولا أقلّ تكلفا، من جعفر بن يحيى. وقال ثمامة: قلت لجعفر بن يحيى: ما البيان؟ قال: أن يكون الاسم يحيط بمعناك، ويجلي عن مغزاك، وتخرجه عن الشركة، ولا تستعين عليه بالفكرة. والذي لا بد له منه، أن يكون سليما من التكلف، بعيدا من الصنعة، بريئا من التعقد، غنيا عن التأويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وهذا هو تأويل قول الأصمعيّ: «البليغ من طبق المفصل «1» ، وأغناك عن المفسّر» . وخبرني جعفر بن سعيد، رضيع أيوب بن جعفر وحاجبه، قال: ذكرت لعمرو بن مسعدة «2» ، توقيعات جعفر بن يحيى، فقال: قد قرأت لأم جعفر توقيعات في حواشي الكتب وأسافلها فوجدتها أجود اختصارا وأجمع للمعاني. قال: ووصف أعرابي أعرابيا بالإيجاز والإصابة فقل: «كان والله يضع الهناء مواضع النقب «3» » . يظنون أنه نقل قول دريد بن الصمة، في الخنساء بنت عمرو بن الشريد، إلى ذلك الموضع، وكان دريد قال فيها: ما إن رأيت ولا سمعت به ... في الناس طالي أينق جرب متبذلا تبدو محاسنه ... يضع الهناء مواضع النقب ويقولون في إصابة عين المعنى بالكلام الموجز: «فلان يفل المحز، ويصيب المفصل» . وأخذوا ذلك من صفة الجزار الحاذق، فجعلوه مثلا للمصيب الموجز. وأنشدني أبو قطن الغنويّ، وهو الذي يقال له شهيد الكرم، وكان أبين من رأيته من أهل البدو والحضر: فلو كنت مولى قيس عيلان لم تجد ... عليّ لمخلوق من الناس درهما ولكنني مولى قضاعة كلها ... فلست أبالي أن أدين وتغرما أولئك قوم بارك الله فيهم ... على كلّ حال ما أعفّ وأكرما جفاة المحز لا يصيبون مفصلا ... ولا يأكلون اللحم إلا تخذما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 يقول: هم ملوك وأشباه الملوك، ولهم كفاة فهم لا يحسنون إصابة المفصل. وأنشدني أبو عبيدة في مثل ذلك: وصلع الرؤوس عظام البطون ... جفاة المحزّ غلاظ القصر ولذلك قال الراجز: ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزّار على ظهر وضم وقال الآخر، وهو ابن الزبعري: وفتيان صدق حسان الوجو ... هـ لا يجدون لشيء ألم من ال المغيرة لا يشهدو ... ن عند المجازر لحم الوضم وقال الراعي في المعنى الأول: فطبقن عرض القفّ ثم جزعنه ... كما طبقت في العظم مدية جازر «1» وأنشد الأصمعي: وكف فتى لم يعرف السلخ قبلها ... تجور يداه في الأديم وتجرح وأنشد الأصمعي: لا يمسك العرف إلا ريث يرسله ... ولا يلاطم عند اللحم في السوق وقد فسر ذلك لبيد بن ربيعة، وبيّنه وضرب به المثل، حيث قال في الحكم بين عامر بن الطفيل، وعلقمة بن علاثة: يا هرم بن الأكرمين منصبا ... أنك قد أوتيت حكما معجبا فطبّق المفصل واغنم طيبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 يقول: احكم بين عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة بكلمة فصل، وبأمر قاطع، فتفصل بها بين الحق والباطل، كما يفصل الجزار الحاذق مفصل العظمين. وقد قال الشاعر في هرم: قضى هرم يوم المريرة بينهم ... قضاء امرىء بالأولية عالم قضى ثم ولى الحكم من كان أهله ... وليس ذنابي الريش مثل القوادم ويقال في الفحل إذا لم يحسن الضّراب: جمل عياياء، وجمل طباقاء. وقالت امرأة في الجاهلية تشكو زوجها: «زوجي عياياء طباقاء، وكل داء له دواء» . حتى جعلوا ذلك مثلا للعيي الفدم، والذي لا يتجه للحجة. وقال الشاعر: طباقاء لم يشهد خصوما ولم يقد ... ركابا إلى أكوارها حين تعكف «1» وذكر زهير بن أبي سلمى الخطل فعابه فقال: وذي خطل في القول يحسب أنه ... مصيب فما يلمم به فهو قائله عبأت له حلما وأكرمت غيره ... وأعرضت عنه وهو باد مقاتله وقال غيره: شمس إذا خطل الحديث أوانس ... يرقبن كل مجذّر تنبال الشمس، مأخوذ من الخيل، وهي الخيل المرحة الضاربة بأذنابها من النشاط. والمجذّر: القصير- والتنبال: القصير الدنيء. وقال أبو الأسود الدؤلي، وكان من المقدمين في العلم، واسم أبي الأسود ظالم بن عمرو: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وشاعر سوء يهضب القول ظالما ... كما اقتمّ أعشى مظلم الليل حاطب يهضب: يكثر. والأهاضيب: المطر الكثير. اقتمّ: افتعل من القمامة. وأنشد: أعوذ بالله الأعزّ الأكرم ... من قولي الشيء الذي لم أعلم تخبّط الأعمى الضرير الأيهم وقال إبراهيم بن هرمة «1» ، في تطبيق المفصل- وتلحق هذه المعاني بأخواتها قبل: وعميمة قد سقت فيها عائرا ... غفلا ومنها عائر موسوم طبّقت مفصلها بغير حديدة ... فرأى العدو غناي حيث أقوم [ثمامة بن أشرس] وهذه الصفات التي ذكرها ثمامة بن أشرس، فوصف بها جعفر بن يحيى، كان ثمامة بن أشرس قد انتظمها لنفسه، واستولى عليها دون جميع أهل عصره وما علمت أنه كان في زمانه قروي ولا بلدي، كان بلغ من حسن الأفهام مع قلة عدد الحروف، ولا من سهولة المخرج مع السلامة من التكلف، ما كان بلغه. وكان لفظه في وزن إشارته، ومعناه في طبقة لفظه، ولم يكن لفظه إلى سمعك بأسرع من معناه إلى قلبك. قال بعض الكتاب: معاني ثمامة الظاهرة في ألفاظه، الواضحة في مخارج كلامه، كما وصف الخريمي شعر نفسه في مديح أبي دلف، حيث يقول: له كلم فيك معقولة ... إزاء القلوب كركب وقوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وأول هذه القصيدة قوله: أبا دلف دلفت حاجتي ... إليك وما خلتها بالدلوف ويظنون أن الخريمي إنما احتذى في هذا البيت على كلام أيوب بن القريّة حين قال له بعض السلاطين: ما أعددت لهذا الموقف؟ قال: «ثلاثة حروف كأنهن ركب وقوف: دنيا، وآخرة، ومعروف» . [شبيب بن شيبة] وحدثني صالح بن خاقان، قال: قال شبيب بن شيبة: «الناس موكّلون بتفضيل جودة الابتداء، وبمدح صاحبه، وأنا موكل بتفضيل جودة القطع، وبمدح صاحبه. وحظ جودة القافية وإن كانت كلمة واحدة، أرفع من حظ سائر البيت» . ثم قال شبيب: «فإن ابتليت بمقام لا بد لك فيه من الإطالة، فقدم أحكام البلوغ في طلب السلامة من الخطل، قبل التقدم في أحكام البلوغ في شرف التجويد. وإياك أن تعدل بالسلامة شيئا، فإن قليلا كافيا خير من كثير غير شاف» . ويقال إنهم لم يروا خطيبا قط بلديا إلا وهو في أول تكلفه لتلك المقامات كان مستتقلا مستصلفا أيام رياضته كلها، إلى أن يتوقح وتستجيب له المعاني، ويتمكن من الألفاظ، إلا شبيب بن شيبة، فإنه قد ابتدأ بحلاوة ورشاقة، وسهولة وعذوبة، فلم يزل يزداد منها حتى صار في كل موقف يبلغ بقليل الكلام ما لا يبلغه الخطباء المصاقع بكثيره. قالوا: ولما مات شبيب بن شيبة أتاهم صالح المري «1» ، في بعض من أتاهم للتعزية، فقال: «رحمة الله على أديب الملوك، وجليس الفقراء، وأخي المساكين» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وقال الراجز «1» : إذا غدت سعد على شبيبها ... على فتاها وعلى خطيبها من مطلع الشمس إلى مغيبها ... عجبت من كثرتها وطيبها [عودة إلى مفهوم البلاغة عند العتابي وعمرو بن عبيد وابن المقفع] حدثني صديق لي قال: قلت للعتابيّ: ما البلاغة؟ قال: كل من أفهمك حاجته من غير إعادة ولا حبسة ولا استعانة فهو بليغ، فإن أردت اللسان الذي يروق الألسنة، ويفوق كل خطيب، فإظهار ما غمض من الحق، وتصوير الباطل في صورة الحق. قال: فقلت له: قد عرفت الإعادة والحبسة، فما الاستعانة؟ قال: أما تراه إذا تحدث قال عند مقاطع كلامه: يا هناه، ويا هذا، ويا هيه، واسمع مني واستمع إلي، وافهم عني، أو لست تفهم، أو لست تعقل. فهذا كله وما أشبهه عيّ وفساد. قال عبد الكريم بن روح الغفاري، حدثني عمر الشمري، قال: قيل لعمرو بن عبيد: ما البلاغة؟ قال: ما بلغ بك الجنة، وعدل بك عن النار، وما بصرك مواقع رشدك وعواقب غيك. قال السائل: ليس هذا أريد. قال: من لم يحسن أن يسكت لم يحسن أن يستمع، ومن لم يحسن الاستماع لم يحسن القول. قال: ليس هذا أريد. قال: قال النبي صلّى الله عليه وآله: «أنا معشر الأنبياء بكاء» أي قليلو الكلام. ومنه قيل رجل بكيء. وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله. قال: قال السائل: ليس هذا أريد. قال: كانوا يخافون من فتنة القول، ومن سقطات الكلام، ما لا يخافون من فتنة السكوت ومن سقطات الصمت. قال السائل: ليس هذا أريد. قال عمرو: فكأنك إنما تريد تخير اللفظ، في حسن الإفهام، قال: نعم. قال: إنك إن أوتيت تقرير حجة الله في عقول المكلفين، وتخفيف المؤونة على المستمعين وتزيين تلك المعاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 في قلوب المريدين، بالألفاظ المستحسنة في الآذان، المقبولة عند الأذهان، رغبة في سرعة استجابتهم، ونفي الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة، على الكتاب والسنة، كنت قد أوتيت فصل الخطاب واستوجبت على الله جزيل الثواب. قلت لعبد الكريم من هذا الذي صبر له عمرو هذا الصبر؟ قال: قد سألت عن ذلك أبا حفص فقال: ومن كان يجترىء عليه هذه الجرأة إلا حفص بن سالم. قال عمر الشمري: كان عمرو بن عبيد لا يكاد يتكلم، فإذا تكلم لم يكد يطيل. وكان يقول: لا خير في المتكلم إذا كان كلامه لمن شهده دون نفسه. وإذا طال الكلام عرضت للمتكلم أسباب التكلف، ولا خير في شيء يأتيك به التكلف. وقال بعضهم- وهو من أحسن ما اجتبيناه ودوّناه- لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك. وكان مويس بن عمران «1» يقول: لم أر أنطق من أيوب بن جعفر، ويحيى بن خالد. وكان ثمامة يقول: لم أر أنطق من جعفر بن يحيى بن خالد. وكان سهل بن هارون يقول: لم أر أنطق من المأمون أمير المؤمنين. وقال ثمامة: سمعت جعفر بن يحيى يقول لكتّابه: «إن استطعتم أن يكون كلامكم كله مثل التوقيع فافعلوا» . وسمعت أبا العتاهية يقول: «لو شئت أن يكون حديثي كله شعرا موزونا لكان» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وقال إسحاق بن حسان بن قوهيّ «1» : لم يفسّر البلاغة تفسير ابن المقفع احد قط. سئل ما البلاغة؟ قال: البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة. فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون شعرا، ومنها ما يكون سجعا وخطبا، ومنها ما يكون رسائل. فعامة ما يكون من هذه الأبواب الوحي فيها، والإشارة إلى المعنى، والإيجاز، هو البلاغة. فأما الخطب بين السماطين، وفي إصلاح ذات البين، فالإكثار في غير خطل، والإطالة في غير إملال، وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته. كأنه يقول: فرّق بين صدر خطبة النكاح وبين صدر خطبة العيد، وخطبة الصلح وخطبة التواهب، حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه، فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناك، ولا يشير إلى مغزاك، وإلى العمود الذي إليه قصدت، والغرض الذي إليه نزعت. قال: فقيل له: فإن مل السامع الإطالة التي ذكرت أنها حق ذلك الموقف؟ قال: إذا أعطيت كلّ مقام حقه، وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك المقام، وأرضيت من يعرف حقوق الكلام، فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو، فإنه لا يرضيهما شيء. وأما الجاهل فلست منه وليس منك. ورضا جميع الناس شيء لا تناله. وقد كان يقال: «رضا الناس شيء لا ينال» . قال: والسنّة في خطبة النكاح أن يطيل الخاطب ويقصر المجيب. ألا ترى أن قيس بن خارجة بن سنان، لما ضرب بصفيحة سيفه مؤخّرة راحلتي الحاملين في شأن حمالة داحس والغبراء «2» ، وقال: ما لي فيها أيها العشمتان «3» ؟ قالا له: بل ما عندك؟ قال: عندي قرى كلّ نازل، ورضا كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ساخط، وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب، آمر فيها بالتواصل وأنهى فيها عن التقاطع؟ قالوا: فخطب يوما إلى الليل فما أعاد فيها كلمة ولا معنى فقيل لأبي يعقوب: هلا اكتفى بالأمر بالتواصل عن النهي عن التقاطع؟ أو ليس الأمر بالصه هو النهي عن القطيعة؟ قال: أو ما علمت أن الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والكشف. قال: وسئل ابن المقفع عن قول عمر رحمه الله: «ما يتصعدني كلام كما تتصعدني خطبة النكاح» قال: ما أعرفه إلا أن يكون أراد قرب الوجوه من الوجوه، ونظر الحداق من قرب في أجواف الحداق. ولأنه إذا كان جالسا معهم كانوا كأنهم نظراء وأكفاء، فإذا علا المنبر صاروا سوقة ورعية. وقد ذهب ذاهبون إلى أن تأويل قول عمر يرجع إلى أن الخطيب لا يجد بدا من تزكية الخاطب، فلعله كره أن يمدحه بما ليس فيه، فيكون قد قال زورا وغرّ القوم من صاحبه. ولعمري إن هذا التأويل ليجوز إذا كان الخطيب موقوفا على الخطابة. فأما عمر بن الخطاب، رحمه الله، وأشباهه من الأئمة الراشدين، فلم يكونوا ليتكلفوا ذلك إلا فيمن يستحق المدح. وروى أبو مخنف، عن الحارث الأعور «1» ، قال: «والله لقد رأيت عليا وإنه ليخطب قاعدا كقائم، ومحاربا كمسالم» . يريد بقوله: قاعدا، خطبة النكاح. وقال الهيثم بن عديّ: لم تكن الخطباء تخطب قعودا إلا في خطبة النكاح. [توشيح الخطب بآي القرآن والأشعار] وكانوا يستحسنون أن يكون في الخطب يوم الحفل، وفي الكلام يوم الجمع آي من القرآن، فإن ذلك مما يورث الكلام البهاء والوقار والرقة، وسلس الموقع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 قال الهيثم بن عديّ: قال عمران بن حطّان: إن أول خطبة خطبتها، عند زياد- أو عند ابن زياد- فأعجب بها الناس، وشهدها عمي وأبي. ثم إني مررت ببعض المجالس، فسمعت رجلا يقول لبعضهم: هذا الفتى أخطب العرب لو كان في خطبته شيء من القرآن. وأكثر الخطباء لا يتمثلون في خطبهم الطوال بشيء من الشعر ولا يكرهونه في الرسائل، إلا أن تكون إلى الخلفاء. وسمعت مؤمّل بن خاقان، وذكر في خطبته تميم بن مرّ، فقال: «إن تميما لها الشرف العود، والعز الأقعس، والعدد الهيضل «1» . وهي في الجاهلية القدام، والذروة والسنام. وقد قال الشاعر: فقلت له وأنكر بعض شأني ... ألم تعرف رقاب بني تميم وكان المؤمّل وأهله يخالفون جمهور بني سعد في المقالة، فلشدة تحدّبه على سعد وشفقته عليهم، كان يناضل عند السلطان كل من سعى على أهل مقالتهم، وإن كان قوله خلاف قولهم، حدبا عليهم. وكان صالح المريّ، القاص العابد، البليغ، كثيرا ما ينشد في قصصه وفي مواعظه، هذا البيت: فبات يروّي أصول الفسيل ... فعاش الفسيل ومات الرجل وأنشد الحسن في مجلسه، وفي قصصه وفي مواعظه: ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء وأنشد عبد الصمد بن الفضل بن عيسى بن أبان الرقاشي، الخطيب القاص السجّاع، أما في قصصه، وأما في خطبة من خطبه، رحمه الله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 أرض تخيّرها لطيب مقيلها ... كعب بن مامة وابن أمّ دواد جرت الرياح على محلّ ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد فأرى النعيم وكلّ ما يلهى به ... يوما يصير إلى بلى ونفاد وقال أبو الحسن: خطب عبيد الله بن الحسن «1» على منبر البصرة في العيد وأنشد في خطبته: أين الملوك عن حظّها غفلت ... حتى سقاها بكأس الموت ساقيها تلك المدائن بالآفاق خالية ... أمست خلاء وذاق الموت بانيها قال: وكان مالك بن دينار يقول في قصصه: «ما أشد فطام الكبير» . وهو كما قال القائل: وتروض عرسك بعد ما هرمت ... ومن العناء رياضة الهرم ومثله أيضا قول صالح بن عبد القدوس: والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه إذا ارعوى عاد إلى جهله ... كذي الضنى عاد إلى نكسه وقال كلثوم بن عمرو العتابيّ: وكنت امرأ لو شئت أن تبلغ المدى ... بلغت بأدنى نعمة تستديمها ولكن فطام النفس أثقل محملا ... من الصخرة الصماء حين ترومها [جهارة الصوت والتشديق في الخطب] وكانوا يمدحون الجهير الصوت، ويذمون الضئيل الصوت، ولذلك تشادّقوا في الكلام، ومدحوا سعة الفم، وذموا صغر الفم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 قال: وحدثني محمد بن يسير الشاعر قال: قيل لأعرابي: ما الجمال؟ قال: طول القامة وضخم الهامة، ورحب الشدق، وبعد الصوت. وسأل جعفر بن سليمان أبا المخش عن ابنه المخش، وكان جزع عليه جزعا شديدا، فقال: صف لي المخشّ. فقال: كان أشدق خرطمانيا «1» ، سائلا لعابه، كأنما ينظر من قلتين «2» ، وكأن ترقوته بوان أو خالفة «3» ، وكأن منكبه كركرة جمل ثفال «4» . فقأ الله عينيّ إن كنت رأيت قبله أو بعده مثله. قال: وقلت لأعرابي: ما الجمال؟ قال: «غؤور العينين، واشراف الحاجبين، ورحب الشدقين» . وقال دغفل بن حنظلة النسابة، والخطيب العلامة، حين سأله معاوية عن قبائل قريش، فلما انتهى إلى بني مخزوم قال: «معزى مطيرة، علتها قشعريره، إلا بني المغيرة، فإن فيهم تشادق الكلام، ومصاهرة الكرام» . وقال الشاعر في عمرو بن سعيد الأشدق: تشادق حتى مال بالقول شدقه ... وكل خطيب لا أبا لك أشدق وأنشد أبو عبيدة: وصلع الرؤوس عظام البطون ... رحاب الشداق غلاظ القصر «5» قال: وتكلم يوما عند معاوية الخطباء فأحسنوا، فقال: والله لأرمينهم بالخطيب الأشدق! قم يا يزيد فتكلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وهذا القول وغيره من الأخبار والأشعار، حجة لمن زعم أن عمرو بن سعيد لم يسم الأشدق للفقم ولا للفوه. وقال يحيى بن نوفل، في خالد بن عبد الله القسري: بلّ السراويل من خوف ومن وهل ... واستطعم الماء لما جدّ في الهرب وألحن الناس كلّ الناس قاطبة ... وكان يولع بالتشديق في الخطب ويدلّك على تفضيلهم سعة الأشداق، وهجائهم ضيق الأفواه، قول الشاعر: لحى الله أفواه الدّبى من قبيلة ... إذا ذكرت في النائبات أمورها وقال آخر: وأفواه الدبى حاموا قليلا ... وليس أخو الحماية كالضجور وإنما شبه أفواههم بأفواه الدبى، لصغر أفواههم وضيقها. وعلى ذلك المعنى هجا عبدة بن الطبيب حيي بن هزّال وابنيه، فقال: تدعو بنّييك عبّادا وحذيمة ... فا فأرة شجها في الجحر محفار وقد كان العباس بن عبد المطلب جهيرا «1» جهير الصوت. وقد مدح بذلك، وقد نفع الله المسلمين بجهارة صوته يوم حنين، حين ذهب الناس عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، فنادى العباس: يا أصحاب سورة البقرة، هذا رسول الله. فتراجع القوم، وأنزل الله عزّ وجلّ النصر وأتى بالفتح. ابن الكلبيّ عن أبيه عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: كان قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، يمكو حول البيت، فيسمع ذلك من حراء. قال الله عز وجل: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً ، فالتصدية: التصفيق. والمكاء: الصفير أو شبيه بالصفير. ولذلك قال عنترة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وحليل غانية تركت مجدلا ... تمكو فريصته كشدق الأعلم وقال العجير السلولي في شدة الصوت: ومنهن قرعي كلّ باب كأنما ... به القوم يرجون الأذين نسور فجئت وخصمي يصرفون نيوبهم ... كما قصّبت بين الشفار جزور لدى كلّ موثوق به عند مثلها ... له قدم في الناطقين خطير فظل رداء العصب ملقى كأنه ... سلى فرس تحت الرجال عقير «1» لو ان الصخور الصم يسمعن صلقنا ... لرحن وفي أعراضهن فطور «2» الصلق: شدة الصوت. وفطور: شقوق. وقال مهلهل: ولولا الريح أسمع أهل حجر ... صليل البيض تقرع بالذكور والصريف: صوت احتكاك الأنياب، والصليل صوت الحديد ها هنا. وفي شدة الصوت قال الأعشى في وصف الخطيب بذلك: فيهم الخصب والسماحة والنج ... دة جمعا والخاطب الصلّاق «3» وقال بشار بن برد في ذلك يهجو بعض الخطباء: ومن عجب الأيام أن قمت ناطقا ... وأنت ضئيل الصوت منتفخ السحر ووقع بين فتى من النصارى وبين ابن فهريز المطران «4» كلام، فقال له الفتى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ما ينبغي أن يكون في الأرض رجل واحد أجهل منك! وكان ابن فهريز في نفسه أكثر الناس علما وأدبا، وكان حريصا على الجثلقة. فقال للفتى: وكيف حللت عندك هذا المحل؟ قال: لأنك تعلم أنا لا نتخذ الجاثليق «1» إلا مديد القامة، وأنت قصير القامة، ولا نتخذه إلا جهير الصوت جيد الحلق، وأنت دقيق الصوت رديء الحلق، ولا نتخذه إلا وهو وافر اللحية عظيمها وأنت خفيف اللحية صغيرها، وأنت تعلم أنا لا نختار للجثلقة إلا رجلا زاهدا في الرياسة، وأنت أشد الناس عليها كلبا، وأظهرهم لها طلبا. فكيف لا تكون أجهل الناس وخصالك هذه كلها تمنع من الجثلقة، وأنت قد شغلت في طلبها بالك، وأسهرت فيها ليلك. وقال أبو الحجناء في شدة الصوت: إني إذا ما زبّب الأشداق ... والتجّ حولي النقع واللقلاق «2» ثبت الجنان مرجم ودّاق المرجم: الحاذق بالمراجمة بالحجارة. والودّاق الذي يسيل الحجارة كالودق من المطر. وجاء في الحديث: « «من وقي شرّ لقلقه وقبقبه وذبذبه وقي الشر» . يعني لسانه وبطنه وفرجه. وقال عمر بن الخطاب في بواكي خالد بن الوليد بن المغيرة: «وما عليهن أن يرقن من دموعهن على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة» . وجاء في الأثر: «ليس منا من حلق أو صلق، أو سلق، أو شق» . ومما مدح به العماني هارون الرشيد، بالقصيد دون الرجز، قوله: جهير العطاس شديد النّياط ... جهير الرواء جهير النغم ويخطو على الأين خطو الظليم ... ويعلو الرجال بجسم عمم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 النياط: معاليق القلب. والأين: الاعياء. والظليم: ذكر النعام. ويقال إنه لعمم الجسم، وإن جسمه لعمم، إذا كان تاما. ومنه قيل نبت عمم وأعتم النبت، إذا تم. وكان الرشيد إذا طاف بالبيت جعل لإزاره ذنبين عن يمين وشمال، ثم طاف بأوسع من خطو الظليم، وأسرع من رجع يد الذئب. وقد أخبرني إبراهيم بن السندي بمحصول ذرع ذلك الخطو، إلا إني أحسبه فراسخ فيما رأيته يذهب إليه. وقال إبراهيم: ونظر إليه أعرابي في تلك الحال والهيئة فقال: خطو الظليم ريع ممسى فانشمر ريع: فزع. ممسى: حين المساء. انشمر: جد في الهرب. وحدثني إبراهيم بن السندي قال: لما أتى عبد الملك بن صالح وفد الروم وهو في بلادهم، أقام على رأسه رجالا في السماطين لهم قصر وهام ومناكب وأجسام، وشوارب وشعور، فبينا هم قيام يكلمونه ومنهم رجل وجهه في قفا البطريق إذ عطس عطسة ضئيلة، فلحظه عبد الملك، فلم يدر أي شيء أنكر منه، فلما مضى الوفد قال له: ويلك، هلا إذ كنت ضيق المنخر كزّ الحيشوم، أتبعتها بصيحة تخلع بها قلب العلج؟! وفي تفضيل الجهارة في الخطب يقول شبّة بن عقال بعقب خطبته عند سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس: ألا ليت أمّ الجهم والله سامع ... ترى، حيث كانت بالعراق، مقامي عشية بذّ الناس جهري ومنطقي ... وبذّ كلام الناطقين كلامي وقال طحلاء يمدح معاوية بالجهارة وبجودة الخطبة: ركوب المنابر وثابها ... معنّ بخطبته مجهر تريع إليه هوادي الكلام ... إذا ضلّ خطبته المهذر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 معن: تعن له الخطبة فيخطبها مقتضبا لها. تريع: ترجع إليه. هوادي الكلام: أوائله. فأراد أن معاوية يخطب في الوقت الذي يذهب كلام المهذر فيه. والمهذر: المكثار. وزعموا أن أبا عطية عفيفا النصري، في الحرب التي كانت بين ثقيف وبين بني نصر، لما رأى الخيل بعقوته يومئذ دوائس نادى: يا صباحاه! أتيتم يا بني نصر. فألقت الحبالى أولادها من شدة صوته. قالوا: فقال ربيعة بن مسعود يصف تلك الحرب وصوت عفيف عقاما ضروسا بين عوف ومالك ... شديدا لظاها تترك الطفل أشيبا وكانت جعيل يوم عمرو أراكة ... أسود الغضى غادرن لحما مترّبا «1» ويوم بمكروثاء شدت معتّب ... بغاراتها قد كان يوما عصبصبا «2» فأسقط أحبال النساء بصوته ... عفيف وقد نادى بنصر فطرّبا وكان أبو عروة، الذي يقال له أبو عروة السباع، يصيح بالسبع وقد احتمل الشاة، فيخليها ويذهب هاربا على وجهه. فضرب به الشاعر المثل- وهو النابغة الجعدي- فقال: وأزجر الكاشح العدو إذا اغتا ... بك عندي زجرا على أضم زجر أبي عروة السباع إذا ... أشفق أن يلتبسن بالغنم وأنشد أبو عمرو الشيباني لرجل من الخوارج يصف صيحة شبيب بن يزيد ابن نعيم. قال أبو عبيدة وأبو الحسن: كان شبيب يصيح في جنبات الجيش إذا أتاه، فلا يلوي أحد على أحد. وقال الشاعر فيه: إن صاح يوما حسبت الصخر منحدرا ... والريح عاصفة والموج يلتطم قال أبو العاصي: أنشدني أبو محرز خلف بن حيان، وهو خلف الأحمر مولى الأشعريين، في عيب التشادق: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 له حنجر رحب وقول منقح ... وفصل خطاب ليس فيه تشادق إذا كان صوت المرء خلف لهاته ... وأنحى بأشداق لهن شقاشق وقبقب يحكي مقرما في هبابه ... فليس بمسبوق ولا هو سابق «1» وقال الفرزدق: شقاشق بين أشداق وهام وأنشد خلف: وما في يديه غير شدق يميله ... وشقشقة خرساء ليس لها نعب متى رام قولا خالفته سجية ... وضرس كقعب القين ثلّمه الشعب وأنشد أبو عمرو وابن الأعرابي: وجاءت قريش قريش البطاح ... هي العصب الأوّل الداخلة يقودهم الفيل والزندبيل ... وذو الضرس والشفة المائلة ذو الضرس وذو الشفة، هو خالد بن سلمة المخزومي الخطيب. والزندبيل أبان والحكم ابنا عبد الملك بن بشر بن مروان. يعني دخولهم على ابن هبيرة. والزندبيل: الأنثى من الفيلة، فيما ذكر أبو اليقظان بن حفص. وقال غيره: هو الذكر. فلم يقفوا من ذلك على شيء. وقال الشاعر في خالد بن سلمة المخزومي: فما كان قائلهم دغفل ... ولا الحيقطان ولا ذو الشّفه قوله «دغفل» يريد دغفل بن يزيد بن حنظلة الخطيب الناسب. والحيقطان: عبد أسود، وكان خطيبا لا يجارى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وأنشد بعض أصحابنا: وقافية لجلجتها فرددتها ... لذي الضرس لو أرسلتها قطرت دما وقال الفرزدق: أنا عند الناس أشعر العرب، ولربما كان نزع ضرس أيسر عليّ من أن أقول بيت شعر. قال: وأنشدنا منيع: فجئت ووهب كالخلاة يضمّها ... إلى الشدق أنياب لهن صريف «1» فقعقعت لحيي خالد واهتضمته ... بحجة خصم بالخصوم عنيف أبو يعقوب الثقفي عن عبد الملك بن عمير، قال: سئل (الحارث) بن أبي ربيعة «2» عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: كم كان له ما شئت من ضرس قاطع في العلم بكتاب الله، والفقه في السنة، والهجرة إلى الله ورسوله، والبسطة في العشيرة، والنجدة في الحرب، والبذل للماعون. وقال الآخر: ولم تلفني فهّا ولم تلف حجتي ... ملجلجة أبغي لها من يقيمها «3» ولا بتّ أزجيها قضيبا وتلتوي ... أراوغها طورا وطورا أضيمها «4» وأنشدني أبو الرديني العكلي: فتى كان يعلو مفرق الحق قوله ... إذا الخطباء الصيد عضّل قيلها «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وقال الخريمي في تشادق علي بن الهيثم: يا علي بن هيثم يا سماقا ... قد ملأت الدنيا علينا نفاقا خل لحييك يسكنان ولا تضرب ... على تغلب بلحييك طاقا لا تشادق إذا تكلمت واعلم ... أن للناس كلهم أشداقا وكان علي بن الهيثم جوادا، بليغ اللسان والقلم. وقال أبو يعقوب الخريمي: ما رأيت كثلاثة رجال يأكلون الناس أكلا حتى أذا رأوا ثلاثة رجال ذابوا كما يذوب الملح في الماء، والرصاص في النار: كان هشام بن محمد علامة نسابة، وراوية للمثالب عيابة، فإذا رأى الهيثم بن عدي ذاب كما يذوب الرصاص في النار. وكان علي بن الهيثم مفقعانيا صاحب تفقيع وتقعير، ويستولي على كلام أهل المجلس لا يحفل بشاعر ولا بخطيب، فإذا رأى موسى الضبي ذاب كما يذوب الرصاص عند النار. وكان علويه المغني واحد الناس في الرواية وفي الحكاية، وفي صنعة الغناء وجودة الضرب، وفي الإطراب وحسن الحلق، فإذا رأى مخارقا ذاب كما يذوب الرصاص عند النار. ثم رجع بنا القول إلى ذكر التشديق وبعد الصوت. قال أبو عبيدة: كان عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب، رديفا للملوك، ورحّالا إليهم، وكان يقال له عروة الرحال، فكان يوم أقبل مع ابن الجون، يريد بني عامر، فلما انتهى إلى واردات مع الصبح، قال له عروة: إنك قد عرفت طول صحبتي لك، ونصيحتي إياك، فأذن لي فأهتف بقومي هتفة. قال: نعم، وثلاثا. فقام فنادى: يا صباحاه! ثلاث مرات. قال: فسمعنا شيوخنا يزعمون أنه أسمع أهل الشعب، فتلببوا للحرب، وبعثوا الربايا، ينظرون من أين يأتي القوم. قال: وتقول الروم: لولا ضجة أهل رومية وأصواتهم، لسمع الناس جميعا صوت وجوب القرص في المغرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وأعيب عندهم من دقة الصوت وضيق مخرجه وضعف قوته، أن يعتري الخطيب البهر والارتعاش، والرعدة والعرق. قال أبو الحسن: قال سفيان بن عيينة: تكلم صعصعة عند معاوية فعرق، فقال معاوية: بهرك القول! فقال صعصعة: «إن الجياد نضاحة بالماء» . والفرس إذا كان سريع العرق، وكان هشا، كان ذلك عيبا. وكذلك هو في الكثرة، فإذا أبطأ ذلك وكان قليلا قيل: قد كبا، وهو فرس كاب. وذلك عيب أيضا. وأنشدني ابن الأعرابي، لأبي مسمار العكلي، في شبيه بذلك قوله: لله در عامر إذا نطق ... في حفل أملاك وفي تلك الحلق «1» ليس كقوم يعرفون بالسرق ... من خطب الناس ومما في الورق يلفقون القول تلفيق الخلق ... من كل نضاح الذفارى بالعرق إذا رمته الخطباء بالحدق (والذفارى هنا: يعني بدن الخطيب. والذفريان للبعير، وهما اللحمتان في قفاه) . وإنما ذكر خطب الأملاك لأنهم يذكرون أنه يعرض للخطيب فيها من الحصر أكثر مما يعرض لصاحب المنبر. ولذلك قال عمر بن الخطاب رحمه الله: «ما يتصعدني كلام كما تتصعدني خطبة النكاح» . وقال العماني: لا ذفر هش ولا بكابي ... ولا بلجلاج ولا هياب الهش: الذي يجود بعرقه سريعا، وذلك عيب. والذفر: الكثير العرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 والكابي: الذي لا يكاد يعرق، كالزند الكابي الذي لا يكاد يوري. فجعل له العماني حالا بين حالين إذا خطب، وخبر أنه رابط الجأش، معاود لتلك المقامات. وقال الكميت بن زيد- وكان خطيبا-: «إن للخطبة صعداء، وهي على ذي اللب أرمى» . وقولهم: أرمى وأربى سواء يقال: فلان قد أرمى على المائة وأربى. ولم أر الكميت أفصح عن هذا المعنى ولا تخلّص إلى خاصته. وإنما يجترىء على الخطبة الغر الجاهل الماضي، الذي لا يثنيه شيء، أو المطبوع الحاذق، الواثق بغزارته واقتداره، فالثقة تنفي عن قلبه كل خاطر يورث اللجلجة والنحنحة، والانقطاع والبهر والعرق. وقال عبيد الله بن زياد، وكان خطيبا، على لكنة كانت فيه: «نعم الشيء الأمارة، لولا قعقعة البرد، والتشزن للخطب» «1» . وقيل لعبد الملك بن مروان: عجل عليك الشيب يا أمير المؤمنين! قال: «وكيف لا يعجل عليّ وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة مرة أو مرتين» . يعني خطبة الجمعة وبعض ما يعرض من الأمور. وقال بعض الكلبيين. فإذا خطبت على الرجال فلا تكن ... خطل الكلام تقوله مختالا واعلم بأن من السكوت إبانة ... ومن التكلم ما يكون خبالا [بشر بن المعتمر يقنن أصول البلاغة] مرّ بشر بن المعتمر بإبراهيم بن جبلة بن مخرمة السّكوني الخطيب، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 يعلم فتيانهم الخطابة، فوقف بشر فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد أو ليكون رجلا من النظّارة، فقال بشر: اضربوا عما قال صفحا واطووا عنه كشحا. ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه، وكان أول ذلك الكلام: خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرا، وأشرف حسبا، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش الخطاء، وأجلب لكلّ عين وغرّة، من لفظ شريف ومعنى بديع. وأعلم ان ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول، بالكد والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلف والمعاودة. ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولا قصدا، وخفيفا على اللسان سهلا، وكما خرج من ينبوعه ونجم من معدنه. وإياك والتوعّر، فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك. ومن أراغ معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما، فإن حقّ المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله أن تكون أسوأ حالا منك قبل أن تلتمس إظهارهما، وترتهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما. فكن في ثلاث منازل، فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقا عذبا، وفخما سهلا، ويكون معناك ظاهرا مكشوفا، وقريبا معروفا، أما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامة إن كنت للعامة أردت. والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتّضع بأن يكون من معاني العامة. وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة، مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المال. وكذلك اللفظ العامي والخاصيّ. فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغة قلمك، ولطف مداخلك، واقتدارك على نفسك، إلى أن تفعم العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الاكفاء، فأنت البليغ التام. قال بشر: فلما قرئت على إبراهيم قال لي: أنا أحوج إلى هذا من هؤلاء الفتيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 قال أبو عثمان «1» : أما أنا فلم أر قط أمثل طريقة في البلاغة من الكتّاب، فإنهم قد التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعرا وحشيا، ولا ساقطا سوقيا. وإذا سمعتموني أذكر العوامّ فإني لست أعني الفلاحين والحشوة «2» والصناع والباعة، ولست أعني أيضا الأكراد في الجبال. وسكان الجزائر في البحار، ولست أعني من الأمم مثل الببر والطيلسان «3» ، ومثل موقان وجيلان «4» ، ومثل الزنج وأشباه الزنج. وإنما الأمم المذكورون من جميع الناس أربع: العرب، وفارس، والهند، والروم. والباقون همج وأشباه الهمج. وأما العوام من أهل ملتنا ودعوتنا، ولغتنا وأدبنا وأخلاقنا، فالطبقة التي عقولها وأخلاقها فوق تلك الأمم ولم يبلغوا منزلة الخاصة منا. على أن الخاصة تتفاضل في طبقات أيضا. ثم رجع بنا القول إلى بقية كلام بشر بن المعتمر، وإلى ما ذكر من الأقسام. قال بشر: فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك ولا تسمح لك عند أول نظرك وفي أول تكلّفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها ولم تصر إلى قرارها وإلى حقها من أماكنها المقسومة لها، والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها، ولم تتصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها، نافرة من موضعها، فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن، والنزول في غير أوطانها، فإنك إذا لم تتعاط قرض الشعر الموزون، ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور، لم يعبك بترك ذلك أحد. فإن أنت تكلفتهما ولم تكن حاذقا مطبوعا ولا محكما لشأنك، بصيرا بما عليك وما لك، عابك من أنت أقل عيبا منه، ورأى من هو دونك أنه فوقك. فإن ابتليت بأن تتكلّف القول، وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح لك الطباع في أول وهلة، وتعاصى عليك بعد إجالة الفكرة، فلا تعجل ولا تضجر، ودعه بياض يومك وسواد ليتلك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 والمواتاة، إن كانت هناك طبيعة، أو جريت من الصناعة على عرق. فإن تمنّع عليك بعد ذلك من غير حادث شغل عرض، ومن غير طول إهمال، فالمنزلة الثالثة أن تتحول من هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك، وأخفّها عليك، فإنك لم تشتهه ولم تنازع إليه إلا وبينكما نسب، والشيء لا يحنّ إلا إلى ما يشاكله، وإن كانت المشاكلة قد تكون في طبقات، لأن النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبة، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة، كما تجود به مع الشهوة والمحبة. فهذا هذا. وقال: ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاما ولكل حالة من ذلك مقاما، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات. فإن كان الخطيب متكلما تجنّب ألفاظ المتكلمين، كما أنه إن عبر عن شيء من صناعة الكلام واصفا أو مجيبا أو سائلا، كان أولى الألفاظ به ألفاظ المتكلمين، إذ كانوا لتلك العبارات أفهم، وإلى تلك الألفاظ أميل، وإليها أحنّ وبها أشغف، ولأن كبار المتكلمين ورؤساء النظارين كانوا فوق أكثر الخطباء، وأبلغ من كثير من البلغاء. وهم تخيروا تلك الألفاظ لتلك المعاني، وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم، فصاروا في ذلك سلفا لكلّ خلف، وقدوة لكل تابع. ولذلك قالوا العرض والجوهر، وأيس وليس «1» ، وفرقوا بين البطلان والتلاشي، وذكروا الهذية والهوية والماهية وأشباه ذلك. وكما وضع الخليل بن أحمد «2» لأوزان القصيد وقصار الأرجاز ألقابا لم تكن العرب تتعارف تلك الأعاريض بتلك الألقاب، وتلك الأوزان بتلك الأسماء، كما ذكر الطويل، والبسيط، والمديد، والوافر، والكامل، وأشباه ذلك، وكما ذكر الأوتاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 والأسباب، والخرم والزحاف. وقد ذكرت العرب في أشعارها السناد والإقواء والإكفاء، ولم أسمع بالإيطاء. وقالوا في القصيد والرجز والسجع والخطب، وذكروا حروف الرويّ والقوافي، وقالوا هذا بيت وهذا مصراع. وقد قال جندل الطهوي حين مدح شعره: لم أقو فيهن ولم أساند وقال ذو الرمة: وشعر قد أرقت له غريب ... أجنبه المساند والمحالا وقال أبو حزام العكليّ «1» : بيوتا نصبنا لتقويمها ... جذول الربيئين في المربأه بيوتا على الها لها سجعة ... بغير السناد ولا المكفأه وكما سمى النحويون، فذكروا الحال والظروف وما أشبه ذلك، لأنهم لو لم يضعوا هذه العلامات لم يستطيعوا تعريف القرويين وأبناء البلديين علم العروض والنحو. وكذلك أصحاب الحساب قد اجتلبوا أسماء جعلوها علامات للتفاهم. قالوا: وقبيح بالخطيب أن يقوم بخطبة العيد أو يوم السماطين، أو على منبر جماعة، أو في سدة دار الخلافة، أو في يوم جمع وحفل، أما في إصلاح بين العشائر، واحتمال دماء القبائل، واستلال تلك الضغائن والسخائم، فيقول كما قال بعض من خطب على منبر ضخم الشأن، رفيع المكان: «ثم إن الله عز وجل بعد أن أنشأ الخلق وسوّاهم ومكّن لهم، لاشاهم فتلاشوا» . ولولا أن المتكلم افتقر إلى أن يلفظ بالتلاشي لكان ينبغي أن يؤخذ فوق يده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وخطب آخر في وسط دار الخلافة، فقال في خطبته: «وأخرجه الله من باب الليسية، فأدخله في باب الأيسية» . وقال مرة أخرى في خطبة له: «هذا فرق ما بين السارّ والضارّ، والدفاع والنفاع» . وقال مرة أخرى: «فدلّ ساتره على غامره، ودل غامره على منحله» . فكاد إبراهيم بن السّندي يطير شققا، وينقد غيظا. هذا وإبراهيم من المتكلمين، والخطيب لم يكن من المتكلمين. وإنما جازت هذه الألفاظ في صناعة الكلام حين عجزت الأسماء عن اتساع المعاني. وقد تحسن أيضا ألفاظ المتكلمين في مثل شعر أبي نواس وفي كل ما قالوه على وجه التظرّف والتملّح، كقول أبي نواس: وذات خد مورّد ... قوهية المتجرد «1» تأمّل العين منها ... محاسنا ليس تنفد فبعضها قد تناهى ... وبعضها يتولد والحسن في كل عضو ... منها معاد مردد وكقوله: يا عاقد القلب مني ... هلا تذكّرت حلا تركت مني قليلا ... من القليل أقلا يكاد لا يتجزا ... أقلّ في اللفظ من لا وقد يتملح الأعرابي بأن يدخل في شعره شيئا من كلام الفارسية، كقول العماني للرشيد، في قصيدته التي مدحه فيها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 من يلقه من بطل مسرند ... في زغفة محكمة بالسرد «1» تجول بين رأسه والكرد يعني العنق. وفيها يقول أيضا: لما هوى بين غياض الأسد ... وصار في كفّ الهزبر الورد آلى يذوق الدهر آب سرد «2» وكقول الآخر: ودلهني وقع الأسنة والقنا ... وكافر كوبات لها عجر قفد «3» بأيدي رجال ما كلامي كلامهم ... يسومونني مردا وما أنا والمرد ومثل هذا موجود في شعر (أبي) العذافر الكندي وغيره، [ويمكن] أيضا أن يكون الشعر مثل شعر بحر وشاذ، وأسود بن أبي كريمة. وكما قال يزيد ابن ربيعة بن مفرغ «4» . آب است نبيذ است ... عصارات زبيب است سميّه روسبيد است «5» وقال أسود بن أبي كريمة: لزم الغرّام ثوبي ... بكرة في يوم سبت «6» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 فتمايلت عليهم ... ميل زنكي بمستي «1» قد حسا الداذي صرفا ... أو عقارا بايخست «2» ثم كفتم دور باد ... ويحكم آن خركفت «3» إن جلدي دبغته ... أهل صنعاء بجفت «4» وأبو عمرة عندي ... آن كوربد نمست «5» جالس! ندر مكناد ... أيا عمد ببهشت «6» [طبقات الكلام] وكما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميا، وساقطا سوقيا، فكذلك لا ينبغي أن يكون غريبا وحشيا، إلا أن يكون المتكلم بدويا أعرابيا، فإن الوحشيّ من الكلام يفهمه الوحشي من الناس، كما يفهم السوقيّ رطانة السوقي. وكلام الناس في طبقات كما أن الناس أنفسهم في طبقات. فمن الكلام الجزل والسخيف، والمليح والحسن، والقبيح والسمج، والخفيف والثقيل، وكله عربي، وبكلّ قد تكلموا، وبكلّ قد تمادحوا وتعايبوا. فإن زعم زاعم أنه لم يكن في كلامهم تفاضل، ولا بينهم في ذلك تفاوت، فلم ذكروا العييّ والبكيء، والحصر والمفحم، والخطل والمسهب، والمتشدّق، والمتفيهق، والمهمار، والثرثار، والمكثار والهمار، ولم ذكروا الهجر والهذر، والهذيان والتخليط وقالوا: رجل تلقّاعة «7» ، وفلان يتلهيع في خطبته «8» . وقالوا: فلان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 يخطىء في جوابه، ويحيل في كلامه، ويناقض في خبره. ولولا أن هذه الأمور قد كانت تكون في بعضهم دون بعض لما سمي ذلك البعض البعض الآخر بهذه الأسماء. وأنا أقول: إنه ليس في الأرض كلام هو أمتع ولا آنق، ولا ألذ في الأسماع، ولا أشد اتصالا بالعقول السليمة، ولا أفتق للسان، ولا أجود تقويما للبيان، من طول استماع حديث الأعراب العقلاء الفصحاء، والعلماء البلغاء. وقد أصاب القوم في عامة ما وصفوا، إلا أني أزعم أن سخيف الألفاظ مشاكل لسخيف المعاني. وقد يحتاج إلى السخيف في بعض المواضع، وربما أمتع بأكثر من امتاع الجزل الفخم من الألفاظ، والشريف الكريم من المعاني. كما أن النادرة الباردة جدا قد تكون أطيب من النادرة الحارة جدا. وإنما الكرب الذي يختم على القلوب، ويأخذ بالأنفاس، النادرة الفاترة التي لا هي حارة ولا باردة، وكذلك الشعر الوسط، والغناء الوسط، وإنما الشأن في الحار جدا والبارد جدا. وكان محمد بن عباد بن كاسب يقول: والله لفلان أثقل من مغن وسط وأبغض من ظريف وسط. ومتى سمعت- حفظك الله- بنادرة من كلام الأعراب، فإياك أن تحكيها إلا مع أعرابها ومخارج ألفاظها، فإنك إن غيّرتها بأن تلحن في إعرابها وأخرجتها مخارج كلام المولدين والبلديين، خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير. وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام، وملحة من ملح الحشوة والطغام، فإياك وأن تستعمل فيها الإعراب، أو تتخير لها لفظا حسنا، أو تجعل لها من فيك مخرجا سريا، فإن ذلك يفسد الامتاع بها، ويخرجها من صورتها، ومن الذي أريدت له، ويذهب استطابتهم إياها واستملاحهم لها. ثم اعلم أن أقبح اللحن لحن أصحاب التقعير والتقعيب، والتشديق والتمطيط والجهورة والتفخيم. وأقبح من ذلك لحن الأعاريب النازلين على طرق السابلة، وبقرب مجامع الأسواق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ولأهل المدينة ألسن ذلقة، وألفاظ حسنة، وعبارة جيدة. واللحن في عوامهم فاش، وعلى من لم ينظر في النحو منهم غالب. واللحن من الجواري الظراف، ومن الكواعب النواهد، ومن الشواب الملاح، ومن ذوات الخدور الغرائر، أيسر. وربما استملح الرجل ذلك منهن ما لم تكن الجارية صاحبة تكلف، ولكن إذا كان اللحن على سجية سكان البلد. وكما يستملحون اللثغة إذا كانت حديثة السن، ومقدودة مجدولة، فإذا أسنت واكتهلت تغير ذلك الاستملاح. وربما كان اسم الجارية غليّم أو صبيّة أو ما أشبه ذلك، فإذا صارت كهلة جزلة، وعجوزا شهلة، وحملت اللحم وتراكم عليها الشحم، وصار بنوها رجالا وبناتها نساء، فما أقبح حينئذ أن يقال لها: يا غليم كيف أصبحت؟ ويا صبية كيف أمسيت. ولأمر ما كنّت العرب البنات فقالوا: فعلت أم الفضل، وقالت أم عمرو وذهبت أم حكيم. نعم حتى دعاهم ذلك إلى التقدم في تلك الكنى وقد فسرنا ذلك كله في كتاب الأسماء والكنى، والألقاب والأنباز «1» : وقد قال مالك بن أسماء «2» في استملاح اللحن من بعض نسائه: أمغطّى مني على بصر لل ... حب أم أمنت أكمل الناس حسنا وحديث ألذه هو مما ... ينعت الناعتون يوزن وزنا منطق صائب وتلحن أحيا ... نا وأحلى الحديث ما كان لحنا [عيون المعاني] وهم يمدحون الحذق والرفق، والتخلص إلى حبات القلوب، وإلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 إصابة عيون المعانى. ويقولون: أصاب الحق في الجملة. ويقولون: قرطس فلان، وأصاب القرطاس، إذا كان أجود إصابة من الأول. فإن قالوا: رمى فأصاب الغرّة، وأصاب عين القرطاس، فهو الذي ليس فوقه أحد. ومن ذلك قولهم: فلان يفلّ الحزّ، ويصيب المفصل، ويضع الهناء مواضع النقب. وقال زرارة بن جزء، حين أتى عمر بن الخطاب رحمه الله فتكلم عنده ورفع حاجته إليه. أتيت أبا حفص ولا يستطيعه ... من الناس إلا كالسنان طرير فوفقني الرحمن لما لقيته ... وللباب من دون الخصوم صرير قروم غيارى عند باب ممنّع ... تنازع ملكا يهتدي ويجور فقلت له قولا أصاب فؤاده ... وبعض كلام الناطقين غرور وفي شبيه بذلك يقول عبد الرحمن بن حسان حيث يقول: رجال أصحاء الجلود من الخنا ... وألسنة معروفة أين تذهب وفي إصابة فصّ الشيء وعينه، يقول ذو الرمة في مديح بلال بن أبي بردة الأشعري: تناخي عند خير فتى يمان ... إذا النكباء عارضت الشمالا «1» وخيرهم مآثر أهل بيت ... وأكرمهم وإن كرموا فعالا وأبعدهم مسافة غور عقل ... إذا ما الأمر في الشبهات عالا «2» ولبّس بين أقوام فكل ... أعدّ له الشغازب والمحالا «3» وكلهم ألدّ له كظاظ ... أعدّ لكل حال القوم حالا «4» فصلت بحكمة فأصبت منها ... فصوص الحق فانفصل انفصالا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وكان أبو سعيد الرأي، وهو شرشير المدني يعيب أبا حنيفة، فقال الشاعر: عندي مسائل لا شرشير يحسنها ... عند السؤال ولا أصحاب شرشير ولا يصيب فصوص الحقّ نعلمه ... إلا حنيفية كوفية الدور ومما قالوا في الإيجاز، وبلوغ المعاني بالألفاظ اليسيرة، قول ثابت فطنة: ما زلت بعدك في هم يجيش به ... صدري وفي نصب قد كاد يبليني لا أكثر القول فيما يهضبون به ... من الكلام، قليل منه يكفيني «1» إني تذكرت قتلى لو شهدتهم ... في غمرة الموت لم يصلوا بها دوني وقال رجل من طي ومدح كلام رجل فقال: «هذا كلام يكتفى بأولاه، ويشتفى بأخراه» . وقال أبو وجزة السعدي، من سعد بن بكر، يصف كلام رجل: يكفي قليل كلامه وكثيره ... ثبت إذا طال النضال مصيب ومن كلامهم الموجز في أشعارهم العكلي، في صفة قوس: في كفه معطية منوع ... موثقة صابرة جزوع وقال الآخر، ووصف سهم رام أصاب حمارا، فقال: حتى نجا من جوفه وما نجا «2» وقال الآخر وهو يصف ذئبا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 أطلس يخفي شخصه غباره ... في شدقه شفرته وناره «1» هو الخبيث عينه فراره ... بهم بني محارب مزداره «2» ووصف الآخر ناقة فقال: خرقاء إلا أنها صناع يصف سرعة نقل يديها ورجليها، إنها تشبه المرأة الخرقاء، وهي الخرقاء في أمرها الطياشة. وقال الآخر ووصف سهما صاردا، فقال: ألقى على مفطوحها مفطوحا ... غادر داء ونجا صحيحا المفطوح الأول للقوس، وهو العريض، وهو ها هنا موضع مقبض القوس. والمفطوح الثاني: السهم العريض. يعني أنه ألقى على مقبض القوس سهما عريضا. وقال الآخر: إنك يا ابن جعفر لا تفلح ... الليل أخفى والنهار أفضح وقالوا في المثل: «الليل أخفى للويل» . وقال رؤبة يصف حمارا: حشرج في الجوف سحيلا وشهق ... حتى يقال ناهق وما نهق الحشرجة: صوت الصدر. والسحيل: صوت الحمار إذا مدّه. والشهيق: أن يقطّع الصوت. وقال بعض ولد العباس بن مرداس السّلمي، في فرس أبي الأعور السلمي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 جاء كلمع البرق جاش ناظرة ... يسبح أولاه ويطفو آخره فما يمس الأرض منه حافره قوله: جاش ناظره، أي جاش بمائه. وناظر البرق: سحابه. يسبح، يعني يمد ضبعيه، فإذا مدهما علا كفله. وقال الآخر: إن سرك الأهون فابدأ بالأشد وقال العجّاج: مكّن السيف إذا السيف انأطر ... من هامة الليث إذا ما الليث هر كجمل البحر إذا خاض جسر ... غوارب اليمّ إذا اليم هدر حتى يقال حاسر وما حسر قالوا: جمل البحر سمكة طولها ثلاثون ذراعا. يقول: هذا الرجل يبعد كما تبعد هذه السمكة بجسارة، لا يردها شيء، حتى يقال كاشف وما انكشف البحر. يقال: البحر حاسر وجازر. يقول: حتى يحسب الناس من ضخم ما يبدو من هذا الجمل، أن الماء قد نضب عنه، وإن البحر حاسر. وقال آخر: يا دار قد غيّرها بلاها ... كأنما بقلم محاها أخربها عمران من بناها ... وكرّ ممساها على مغناها وطفقت سحابة تغشاها ... تبكي على عراصها عيناها قوله: أخربها عمران من بناها، يقول: عمّرها بالخراب. وأصل العمران مأخوذ من العمر، وهو البقاء، فإذا بقي الرجل في داره فقد عمرها. فيقول: إن مدة بقائه فيها وقام مقام العمران في غيرها، سمي بالعمران. وقال الشاعر: يا عجّل الرحمن بالعذاب ... لعامرات البيت بالخراب يعني الفار. يقول: هذا عمرانها، كما يقول الرجل: «ما نرى من خيرك ورفدك، إلا ما يبلغنا من خطبك علينا، وفتّك في أعضادنا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وقال الله عز وجل: هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ . والعذاب لا يكون نزلا، ولكن لما قام العذاب لهم في موضع النعيم لغيرهم، سمي باسمه. وقال الآخر: فقلت أطعمني عمير تمرا ... فكان تمري كهرة وزبرا «1» والتمر لا يكون كهرة ولا زبرا، ولكنه على ذا. وقال الله عز وجل: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا ، وليس في الجنة بكرة ولا عشي، ولكن على مقدار البكر والعشيات. وعلى هذا قول الله عز وجل: وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ . والخزنة: الحفظة. وجهنم لا يضيع منها شيء فيحفظ ولا يختار دخولها إنسان فيمنع منها، ولكن لما قامت الملائكة مقام الحافظ الخازن سميت به. قوله: ممساها، يعني مساءها. ومغناها: موضعها الذي أقيم فيه. والمغاني: المنازل التي كان بها أهلوها. وطفقت، يعني ظلت. تبكي على عراصها عيناها، عيناها ها هنا للسحاب. وجعل المطر بكاء من السحاب على طريق الاستعارة، وتسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه. ويقال لكل جوبة منفتقة ليس فيها بناء: عرصة. وقال أبو عمرو بن العلاء: اجتمع ثلاثة من الرواة فقال لهم قائل: أي نصف بيت شعر أحكم وأوجز؟ فقال أحدهم: قول حميد بن ثور الهلالي: وحسبك داء أن تصح وتسلما ولعل حميدا أن يكون أخذه عن النمر بن تولب، فإن النمر قال: يحبّ الفتى طول السلامة والغنى ... فكيف ترى طول السلامة يفعل وقال أبو العتاهية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 أسرع في نقص امرىء تمامه ذهب إلى كلام الأول: «كل ما أقام شخص، وكل ما ازداد نقص، ولو كان الناس يميتهم الداء، إذا لأعاشهم الدواء» . وقال الثاني من الرواة الثلاثة: بل قول أبي خراش الهذلي «1» : نوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي وقال الثالث من الرواة: بل قول أبي ذؤيب الهذلي: وإذا ترد إلى قليل تقنع فقال قائل: هذا من مفاخر هذيل: أن يكون ثلاثة من الرواة لم يصيبوا في جميع أشعار العرب إلا ثلاثة أنصاف، اثنان منها لهذيل وحدها. فقيل لهذا القائل: إنما كان الشرط أن يأتوا بثلاثة أنصاف مستغنيات بأنفسها، والنصف الذي لأبي ذؤيب لا يستغنى بنفسه، ولا يفهم السامع معنى هذا النصف حتى يكون موصولا بالنصف الأول، لأنك إذا أنشدت رجلا لم يسمع بالنصف الأول وسمع: وإذا ترد إلى قليل تقنع قال: من هذه التي ترد إلى قليل فتقنع. وليس المضمن كالمطلق. وليس هذا النصف مما رواه هذا العالم، وإنما الرواية قوله: والدهر ليس بمعتب من يجزع ومما مدحوا به الإيجاز والكلام الذي هو كالوحي والإشارة، قول أبي دؤاد ابن حريز الإياديّ: يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرقباء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 فمدح كما ترى الإطالة في موضعها، والحذف في موضعه. ومما يدل على شغفهم وكلفهم، وشدة حبهم للفهم والإفهام، قول الأسدي في صفة كلام رجل نعت له موضعا من تلك السباسب التي لا أمارة فيها، بأقلّ اللفظ وأوجزه، فوصف إيجاز الناعت، وسرعة فهم المنعوت له، فقال: بضربة نعت لم تعد غير أنني ... عقول لأوصاف الرجال ذكورها وهذا كقولهم لابن عباس: أنّى لك هذا العلم؟ قال: «قلب عقول، ولسان سؤول» . وقال الراجز: ومهمهين قدفين مرتين ... جبتهما بالنعت لا بالنعتين «1» ظهراهما مثل ظهور الترسين ... قطعته بالأمّ لا بالسمتين وقالوا في التحذير من ميسم الشعر، ومن شدة وقع اللسان، ومن بقاء أثره على الممدوح والمهجو، قال امرؤ القيس بن حجر: ولو عن نثا غيره جاءني ... وجرح اللسان كجرح اليد وقال طرفة بن العبد: بحسام سيفك أو لسانك والكلم ... الأصيل كأرغب الكلم قال: وأنشدني محمد بن زياد «2» : لحيت شماسا كما تلحى العصي ... سبّا لو أن السب يدمي لدمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 من نفر كلهم نكس دني ... محامد الرذل مشاتيم السّري مخابط العكم مواديع المطي ... متارك الرفيق بالخرق النّطي «1» وأنشد محمد بن زياد: تمنى أبو العفّاق عندي هجمة ... تسهّل مأوى ليلها بالكلاكل ولا عقل عندي غير طعن نوافذ ... وضرب كأشداق الفصال الهوادل وسب يود المرء لو مات قبله ... كصدع الصفا فلّقته بالمعاول الهجمة: القطعة من النوق فيها فحل. والكلكل: الصدر. والفصال: جمع فصيل، وهو ولد الناقة إذا فصل عنها. والهوادل: العظام المشافر. والعقل ها هنا الدية. والعاقلة: أهل القاتل الأدنون والأبعدون. والصفا: جمع صفاة وهي الصخرة. وقال طرفة: رأيت القوافي يتّلجن موالجا ... تضايق عنها إن تولّجها الأبر وقال الأخطل: حتى أقروا وهم مني على مضض ... والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبر وقال العمانيّ: إذ هن في الريط وفي الموادع ... ترمى إليهنّ كبذر الزارع الريط: الثياب، واحدها ريطة، والريطة: كل ملاءة لم تكن لفقين. والحلة لا تكون إلا ثوبين. والموادع: الثياب التي تصون غيرها، واحدها ميدعة. وقالوا: «الحرب أولها شكوى، وأوسطها نجوى، وآخرها بلوى» . وكتب نصر بن سيار، إلى ابن هبيرة، أيام تحرك أمر السواد بخراسان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 أرى خلل الرماد وميض جمر ... فيوشك أن يكون له اضطرام فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب أولها الكلام فقلت من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام فإن كانوا لحينهم نياما ... فقل قوموا فقد طال المنام وقال بعض المولدين: إذا نلت العطيّة بعد مطل ... فلا كانت، وإن كانت جزيله فسقيا للعطية ثم سقيا ... إذا سهلت، وإن كانت قليله وللشعراء ألسنة حداد ... على العورات موفية دليله ومن عقل الكريم إذا اتقاهم ... وداراهم مداراة جميله إذا وضعوا مكاويهم عليه، ... وإن كذبوا، فليس لهنّ حيله «1» وقالوا: «مذاكرة الرجال تلقيح لألبابها» . ومما قالوا في صفة اللسان قول الأسدي، أنشدنيها ابن الأعرابي: وأصبحت أعددت للنائبا ... ت عرضا بريئا وعضبا صقيلا «2» ووقع لسان كحد السنا ... ن ورمحا طويل القناة عسولا «3» وقال الأعشى: وأدفع عن أعراضكم وأعيركم ... لسانا كمقراض الخفاجيّ ملحبا الملحب: القاطع. الخفاجي: رجل اسكاف منسوب إلى خفاجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وقال ابن هرمة: قل للذي ظل ذا لونين يأكلني ... لقد خلوت بلحم عادم البشم إياك لا ألزمن لحييك من لجمي ... نكلا ينكل قرّاصا من اللجم «1» إني امرؤ لا أصوغ الحلي تعمله ... كفّاي، لكن لساني صائغ الكلم وقال الآخر: إني بغيت الشعر وابتغاني ... حتى وجدت الشعر في مكاني في عيبة مفتاحها لساني وأنشد: إني وإن كان ردائي خلقا ... وبرنكاني سملا قد أخلقا «2» قد جعل الله لساني مطلقا [الفصاحة واللحن] قال أبو عثمان «3» : والعتّابيّ حين زعم أن كلّ من أفهمك حاجته فهو بليغ فلم يعن أن كل من أفهمنا من معاشر المولدين والبلديين قصده ومعناه، بالكلام الملحون، والمعدول عن جهته، والمصروف عن حقه، إنه محكوم له بالبلاغة كيف كان بعد أن نكون قد فهمنا عنه. ونحن قد فهمنا معنى كلام النبطي الذي قيل له: لم اشتريت هذه الأتان؟ قال: «اركبها وتلد لي» . وقد علمنا أن معناه كان صحيحا. وقد فهمنا قول الشيخ الفارسي حين قال لأهل مجلسه: «ما من شر من دين» وإنه قال حين قيل له: ولم ذاك يا أبا فلان؟ قال: «من جرّى يتعلقون» . وما نشك أنه قد ذهب مذهبا، وأنه كما قال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وقد فهمنا معنى قول أبي الجهير الخراساني النخاس، حين قال له الحجاج أتبيع الدواب المعيبة من جند السلطان؟ قال: «شريكاننا في هوازها، وشريكاننا في مداينها. وكما تجيء نكون» . قال الحجاج: ما تقول، ويلك! فقال بعض من قد كان اعتاد سماع الخطأ وكلام العلوج بالعربية حتى صار يفهم مثل ذلك: يقول: شركاؤنا بالأهواز وبالمدائن يبعثون إلينا بهذه الدواب، فنحن نبيعها على وجوهها. وقلت لخادم لي: في أي صناعة أسلموا هذا الغلام؟ قال: «في أصحاب سند نعال» يريد: في أصحاب النعال السندية. وكذلك قول الكاتب المغلاق للكاتب الذي دونه: «اكتب لي قل خطين وريحني منه» . فمن زعم أن البلاغة أن يكون السامع يفهم معنى القائل، جعل الفصاحة واللكنة، والخطأ والصواب، والاغلاق والإبانة، والملحون والمعرب، كله سواء، وكله بيانا. وكيف يكون ذلك كله بيانا، ولولا طول مخالطه السامع للعجم وسماعه للفاسد من الكلام، لما عرفه. ونحن لم نفهم عنه إلا للنقص الذي فينا. وأهل هذه اللغة وأرباب هذا البيان لا يستدلون على معاني هؤلاء بكلامهم كما لا يعرفون رطانة الرومي والصقلبي، وإن كان هذا الاسم إنما يستحقونه بأنّا نفهم عنهم كثيرا من حوائجهم. فنحن قد نفهم بحمحمة الفرس كثيرا من إرادته. وكذلك الكلب، والحمار، والصبي الرضيع. وإنما عنى العتابي إفهامك العرب حاجتك على مجاري كلام العرب الفصحاء. وأصحاب هذه اللغة لا يفقهون قول القائل منا: «مكره أخاك لا بطل» . و: «إذا عز أخاك فهن» . ومن لم يفهم هذا لم يفهم قولهم: ذهبت إلى أبو زيد، ورأيت أبي عمرو. ومتى وجد النحويون أعرابيا يفهم هذا وأشباهه بهرجوه ولم يسمعوا منه، لأن ذلك يدل على طول إقامته في الدار التي تفسد اللغة وتنقص البيان. لأن تلك اللغة إنما انقادت واستوت، واطردت وتكاملت، بالخصال التي اجتمعت لها في تلك الجزيرة، وفي تلك الجيرة. ولفقد الخطأ من جميع الأمم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 ولقد كان بين زيد بن كثوة يوم قدم علينا البصرة، وبينه يوم مات بون بعيد، على أنه قد كان وضع منزله في آخر موضع الفصاحة وأول موضع العجمة، وكان لا ينفك من رواة ومذاكرين. وزعم أصحابنا البصريون عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: لم أر قرويين أفصح من الحسن والحجاج، وكان- زعموا- لا يبرّئهما من اللحن. وزعم أبو العاصي أنه لم ير قرويا قط لا يلحن في حديثه، وفيما يجري بينه وبين الناس، إلا ما تفقده من أبي زيد النحوي، ومن أبي سعيد المعلم. وقد روى أصحابنا أن رجلا من البلديين قال لأعرابي: «كيف أهلك» قالها بكسر اللام. قال الأعرابي: صلبا. لأنه أجابه على فهمه، ولم يعلم أنه أراد المسألة عن أهله وعياله. وسمعت ابن بشير وقال له أبو الفضل العنبريّ: إني عثرت البارحة بكتاب، وقد التقطته، وهو عندي، وقد ذكروا أن فيه شعرا، فإن أردته وهبته لك. قال ابن بشير: أريده إن كان مقيّدا. قال: والله ما أدري أمقيّد هو أم مغلول. ولو عرف التقييد لم يلتفت إلى روايته. وحكى الكسائي أنه قال لغلام بالبادية: من خلقك؟ وجزم القاف، فلم يدر ما قال، ولم يجبه، فرد عليه السؤال فقال الغلام: لعلك تريد من خلقك. وكان بعض الأعراب إذا سمع رجلا يقول نعم في الجواب، قال: «نعم وشاء؟» ، لأن لغته نعم. وقيل لعمر بن لجأ: قل «إنا من المجرمين منتقمين» . قال: (إنّا من المجرمين منتقمون) . وأنشد الكسائي كلاما دار بينه وبين بعض فتيان البادية فقال: عجب ما عجب أعجبني ... من غلام حكمي أصلا قلت هل أحسست ركبا نزلوا ... حضنا ما دونه قال هلا «1» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 قلت بيّن ما هلا هل نزلوا ... قال حوبا ثم ولى عجلا «1» لست أدري عندها ما قال لي ... أنعم ما قال لي أم قال لا تلك منه لغة تعجبني ... زادت القلب خبالا خبلا «2» قال أبو الحسن: قال مولى زياد: أهدوا لنا همار وهش. قال: أي شيء تقول ويلك؟ قال: «أهدوا لنا أيرا» ، يريد: أهدوا لنا عيرا. قال زياد: ويلك، الأول خير. وقال الشاعر يذكر جارية له لكناء: أكثر ما أسمع منها بالسحر ... تذكيرها الأنثى وتأنيث الذكر والسوأة السوآء في ذكر القمر فزياد قد فهم عن مولاه، والشاعر قد فهم عن جاريته ولكنهما لم يفهما عنهما من جهة افهامهما لهما، ولكنهما لما طال مقامهما في الموضع الذي يكثر فيه سماعهما لهذا الضرب، صارا يفهمان هذا الضرب من الكلام. [مديح اللسان] ذكر ما قالوا في مديح اللسان بالشعر الموزون واللفظ المنثور، وما جاء في الأثر وصح به الخبر. قال الشاعر: أرى الناس في الأخلاق أهل تخلق ... وأخبارهم شتى فعرف ومنكر قريبا تدانيهم إذا ما رأيتهم ... ومختلفا ما بينهم حين تخبر فلا تحمدن الدهر ظاهر صفحة ... من المرء ما لم تبل ما ليس يظهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 فما المرء إلا الأصغران: لسانه ... ومعقوله، والجسم خلق مصور وما الزين في ثوب تراه وإنما ... يزين الفتى مخبوره حين يخبر فإن طرّة راقتك منه فربما ... أمر مذاق العود والعود أخضر وقال سويد بن أبي كاهل في ذلك: ودعتني برقاها إنها ... تنزل الأعصم من رأس اليفع «1» تسمع الحدّاث قولا حسنا ... لو أرادوا مثله لم يستطع ولسانا صيرفيا صارما ... كذباب السيف ما مسّ قطع «2» وقال جرير: وليس لسيفي في العظام بقية ... وللسيف أشوى وقعة من لسانيا وقال آخر: وجرح السيف تدمله فيبرا ... ويبقى الدهر ما جرح اللسان وقال آخر: أبا ضبيعة لا تعجل بسيئة ... إلى ابن عمك واذكره بإحسان أما تراني وأثوابي مقاربة ... ليست بخز ولا من حر كتان «3» فإن في المجد همّاتي وفي لغتي ... علوية ولساني غير لحّان وفيما مدحوا به الأعرابي إذا كان أديبا، أنشدني ابن أبي كريمة، أو ابن كريمة، واسمه أسود: ألا زعمت عفراء بالشام إنني ... غلام جوار لا غلام حروب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وإني لأهذي بالأوانس كالدمى ... وإني بأطراف القنا للعوب وإني على ما كان من عنجهيتي ... ولوثة أعرابيتي لأديب «1» وقال ابن هرمة: لله درّك من فتى فجعت به ... يوم البقيع حوادث الأيام هش إذا نزل الوفود ببابه ... سهل الحجاب مؤدب الخدام فإذا رأيت شقيقه وصديقه ... لم تدر أيهما أخو الأرحام وقال كعب بن سعد الغنوي: حبيب إلى الزوار غشيان بيته ... جميل المحيا شبّ وهو أديب إذا ما تراءاه الرجال تحفظوا ... فلم تنطق العوراء وهو قريب «2» وقال الحارثي. وتعلم أني ماجد وتروعها ... بقية أعرابية في مهاجر وقال الآخر: وإن امرأ في الناس يعطى ظلامة ... ويمنع نصف الحق منه لرائع أألموت يخشى أثكل الله أمّه ... أم العيش يرجو نفعه وهو ضائع ويطعم ما لم يندفع في مريئه ... ويمسح أعلى بطنه وهو جائع وأن العقول فاعلمن أسنة ... حداد النواحي أرهفتها المواقع «3» ويقولون: «كأن لسانه لسان ثور» . وحدثني من سمع أعرابيا يمدح رجلا برقة اللسان فقال: «كأن والله لسانه أرق من ورقة، وألين من سرقة» «4» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وقال النبي صلّى الله عليه وآله لحسان بن ثابت: ما بقي من لسانك؟ فأخرج لسانه حتى ضرب بطرفه أرنبته. ثم قال: «والله ما يسرني به مقول من معد، والله إن لو وضعته على حجر لفلقه، أو على شعر لحلقه» . قال: وسمعت أعرابيا يصف بلسانه رجل، فقال: «كان يشول بلسانه شولان البروق، ويتخلل به تخلل الحية» . وأظن هذا الأعرابي أبا الوجيه العكليّ. يشول: يرفع. البروق: الناقة إذا طلبت الفحل فإنها حينئذ ترفع ذنبها. وإنما سمي شوّال شوّالا لأن النوق شالت بأذنابها فيه. فإن قال قائل: قد يتفق أن يكون شوّال في وقت لا تشول الناقة بذنبها فيه، فلم بقي هذا الاسم عليه، وقد ينتقل ما له لزم عنه، قيل له: إنما جعل هذا الاسم له سمة حيث اتفق أن شالت النوق بأذنابها فيه، فبقي عليه كالسمة، وكذلك رمضان إنما سمي لرمض الماء فيه وهو في شدة الحر، فبقي عليه في البرد. وكذلك ربيع، إنما سمي لرعيهم الربيع فيه، وإن كان قد يتفق هذا الاسم في وقت البرد والحر. قال: ووصف أعرابي رجلا فقال: أتيناه فأخرج لسانه كأنه مخراق لاعب «1» . قال وقال العباس بن عبد المطلب للنبي صلّى الله عليه وآله: يا رسول الله، فيم الجمال؟ قال: في اللسان. قال: وكان مجاشع بن دارم خطيبا سليطا، وكان نهشل بكيئا منزورا «2» ، فلما خرجا من عند بعض الملوك عذله مجاشع في تركه الكلام، فقال له نهشل: إني والله لا أحسن تكذابك ولا تأثامك، تشول بلسانك شولان البروق، وتخلل تخلل الباقرة. وقالوا: أعلى جميع الخلق مرتبة الملائكة، ثم الإنس، ثم الجن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وإنما صار لهؤلاء المزية على جميع الخلق بالعقل، وبالاستطاعة على التصرف، وبالمنطق. قال: وقال خالد بن صفوان: ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة ممثلة، أو بهيمة مهملة. قال: وقال رجل لخالد بن صفوان: ما لي إذا رأيتكم تتذاكرون الأخبار وتتدارسون الآثار، وتتناشدون الأشعار، وقع عليّ النوم؟ قال: لأنك حمار في مسلاخ إنسان «1» . وقال صاحب المنطق «2» : حد الإنسان الحي الناطق المبين. وقال الأعور الشني «3» : وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم ولما دخل ضمرة بن ضمرة، على النعمان بن المنذر، زرى عليه، للذي رأى من دمامته وقصره وقلته. فقال النعمان: «تسمع بالمعيديّ لا أن تراه» . فقال: أبيت اللعن! إن الرجال لا تكال بالقفزان، ولا توزن بالميزان، وليست بمسوك يستقى بها، وإنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، إن صال صال بجنان، وإن قال قال ببيان» . واليمانية تجعل هذا للصقعب النهدي. فإن كان ذلك كذلك فقد أقروا بأن نهدا من معد «4» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وكان يقال: «عقل الرجل مدفون تحت لسانه» . أبو الحسن: قال: قال الحسن: «لسان العاقل من وراء قلبه، فإذا أراد الكلام تفكر، فإن كان له قال، وإن كان عليه سكت. وقلب الجاهل من وراء لسانه، فإن همّ بالكلام تكلم به له أو عليه» . قال أبو عبيدة: قال أبو الوجيه: حدثني الفرزدق قال: كنا في ضيافة معاوية بن أبي سفيان، ومعنا كعب بن جعيل التغلبي، فقال له يزيد: إن ابن حسان- يريد عبد الرحمن بن حسان- قد فضحنا! فاهج الأنصار. قال: أرادّي أنت إلى الإشراك بعد الإيمان، لا أهجو قوما نصروا رسول الله صلّى الله عليه وآله، ولكني أدلك على غلام منا نصراني كأن لسانه لسان ثور. يعني الأخطل. وقال سعد بن أبي وقاص، لعمر ابنه حين نطق مع القوم فبذّهم، وقد كانوا كلموه في الرضا عنه. قال: هذا الذي أغضبني عليه، إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: «يكون قوم يأكلون الدنيا بألسنتهم، كما تلحس الأرض البقرة بلسانها» . قال: وقال معاوية لعمرو بن العاص: «يا عمرو، إن أهل العراق قد أكرهوا عليّا على أبي موسى، وأنا وأهل الشام راضون بك، وقد ضم إليك رجل طويل اللسان، قصير الرأي، فأجد الحز، وطبق المفصل، ولا تلقه برأيك كله» . والعجب من قول ابن الزبير للأعراب: «سلاحكم رث، وحديثكم غث. وكيف يكون هذا وقد ذكروا أنه كان من أحسن الناس حديثا، وأن أبا نضرة وعبيد الله بن أبي بكرة إنما كانا يحكيانه. فلا أدري إلا أن يكون حسن حديثه هو الذي ألقى الحسد بينه وبين كلّ حسن الحديث. وقد ذكروا أن خالد بن صفوان تكلم في بعض الأمر، فأجابه رجل من أهل المدينة بكلام لم يظن خالد أن ذلك الكلام كان عنده، فلما طال بهما المجلس كأن خالدا عرض له ببعض الأمر، فقال المدني: «يا أبا صفوان، ما لي من ذنب إلا إتفاق الصناعتين» . ذكر ذلك الأصمعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 قال فضّال الأزرق: قال رجل من بني منقر: تكلم خالد بن صفوان في صلح بكلام لم يسمع الناس قبله مثله، فإذا أعرابي في بتّ «1» ، ما في رجليه حذاء، فأجابه بكلام وددت والله أني كنت متّ وإن ذلك لم يكن، فلما رأى خالد ما نزل بي قال: يا أخا منقر، كيف نجاريهم، وإنما نحكيهم، وكيف نسابقهم وإنما نجري على ما سبق إلينا من أعراقهم، فليفرخ روعك فإنه من مقاعس، ومقاعس لك. فقلت: يا أبا صفوان، والله ما ألومك على الأولى، ولا أدع حمدك على الأخرى. قال أبو اليقظان: قال عمر بن عبد العزيز: «ما كلمني رجل من بني أسد إلا تمنيت أن يمد له في حجته حتى يكثر كلامه فأسمعه» . وقال يونس بن حبيب «2» : ليس في بني أسد إلا خطيب، أو شاعر، أو قائف، أو زاجر، أو كاهن، أو فارس. قال: وليس في هذيل إلا شاعر أو رام، أو شديد العدو. الترجمان بن هريم بن عدي بن أبي طحمة «3» قال: دعي رقبة بن مصقلة، أو كرب بن رقبة إلى مجلس ليتكلم فيه، فرأى مكان أعرابي في شملة، فأنكر موضعه، فسأل الذي عن يمينه عنه فخبره أنه الذي أعدوه لجوابه، فنهض مسرعا لا يلوي على شيء، كراهة أن يجمع بين الديباجتين فيتضع عند الجميع. وقال خلاد بن يزيد: لم يكن أحد بعد أبي نضرة أحسن حديثا من سلم ابن قتيبة. قال: وكان يزيد بن عمر بن هبيرة يقول: احذفوا الحديث كما يحذفه سلم بن قتيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 ويزعمون أنهم لم يروا محدثا قط صاحب آثار كان أجود حذفا وأحسن اختصارا للحديث من سفيان بن عيينة «1» . سألوه مرة عن قول طاوس في ذكاة الجراد، فقال: ابنه عنه: «ذكاته «2» صيده» . [مديح قوة العارضة] وكانوا يمدحون شدة العارضة، وقوة المنة، وظهور الحجة، وثبات الجنان، وكثرة الريق، والعلو على الخصم، ويهجون بخلاف ذلك. قال الشاعر: طباقاء لم يشهد خصوما ولم يعش ... حميدا ولم يشهد حلالا ولا عطرا وقال أبو زبيد الطائيّ: وخطيب إذا تمعرت الأو ... جه يوما في مأقط مشهود «3» طباقاء، يقال للبعير إذا لم يحسن الضراب: جمل عياياء، وجمل طباقاء. وهو ها هنا للرجل الذي لا يتجه للحجة. الحلال: الجماعات. ويقال حي حلال إذا كانوا متجاورين مقيمين. والعطر هنا: العرس المأقط: الموضع الضيق، والمأقط: الموضع الذي يقتتل فيه. وقال نافع بن خليفة الغنوي: وخصم لدى باب الأمير كأنهم ... قروم فشا فيها الزوائر والهدر دلفت لهم دون المنى بملمة ... من الدرّ في أعقاب جوهرها شذر إذا القوم قالوا أدن منها وجدتها ... مطبّقة يهماء ليس لها خصر القروم: الجمال المصاعب. الزوائر: الذين يزثرون. والهدر: صوته عند هيجه، ويقال له الهدير. دلفت، أي نهضت نهوضا رويدا. والدليف: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 المشي الرويد. قوله أدن منها، أي قللها واختصرها. وجدتها مطبقة، أي قد طبقتهم بالحجة. واليهماء: الأرض التي لا يهتدى فيها الطريق. ويهماء ها هنا، يعني التي لا يهتدي إليها ويضل الخصوم عندها، (والأيهم من الرجال: الحائر الذي لا يهتدي لشيء. وأرض يهماء، إذا لم يكن فيها علامة) . وقال الأسلع بن قصاف الطّهويّ: فداء لقومي كل معشر حارم ... طريد ومخذول بما جرّ مسلم «1» هم أفحموا الخصم الذي يستقيدني ... وهم فصموا حجلي وهم حقنوا دمي «2» بأيد يفرّجن المضيق وألسن ... سلاط وجمع ذي زهاء عرمرم إذا شئت لم تعدم لدى الباب منهم ... جميل المحيا واضحا غير توأم الزهاء: الكثرة، ها هنا. والعرموم من العرامة، وهي الشراسة والشدة. التوأمان: الأخوان المولودان في بطن. وقال التميميّ في ذلك: أما رأيت الألسن السلاطا ... إن الندى حيث ترى الضغاطا «3» والجاه والأقدام والنشاطا ذهب في البيت الأخير إلى قول الشاعر: يسقط الطير حيث ينتثر الح ... بّ وتغشى منازل الكرماء وإلى قول الآخر: يرفضّ عن بيت الفقير ضيوفه ... وترى الغنى يهدي لك الزوارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وأنشدوا في المعنى الأول: وخطيب قوم قدموه أمامهم ... ثقة به متخمّط تيّاح جاوبت خطبته فظل كأنه ... لما خطبت مملّح بملاح المتخمط: المتكبر مع غضب. والتياح المتيح: الذي يعرض في كل شيء ويدخل فيما لا يعنيه. وقوله مملّح بملاح، أي متقبّض كأنه ملح من الملح. وأنشد أيضا: أرقت لضوء برق في نشاص ... تلألأ في مملأة غصاص النشاص: السحاب الأبيض المرتفع بعضه فوق بعض، وليس بمنبسط. تلألأ، التلألؤ: ظهور البرق في سرعة. مملأة بالماء غصاص: قد غصت بالماء. لواقح دلّح بالماء سحم ... تمج الغيث من خلل الخصاص اللواقح: التي قد لقحت من الريح. والدلح: الدانية الظاهرة المثقلة بالماء. سحم: سود. والخصاص، ها هنا: خلل السحاب. سل الخطباء هل سبحوا كسبحي ... بحور القول أو غاصوا مغاصي لساني بالنثير وبالقوافي ... وبالأسجاع أمهر في الغواص (النثير: الكلام المنثور. القوافي: خواتم أبيات الشعر. الأسجاع: الكلام المزدوج على غير وزن) . من الحوت الذي في لجّ بحر ... مجيد الغوص في لجج المغاص لعمرك إنني لأعف نفسي ... وأستر بالتكرم من خصاصي «1» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وأنشد لرجل من بني ناشب بن سلامة بن سعد بن مالك بن ثعلبة: لنا قمر السماء وكل نجم ... يضيء لنا إذا القمران غارا «1» ومن يفخر بغير ابني نزار ... فليس بأول الخطباء جارا «2» وأنشد للأقرع «3» : إني امرؤ لا أقيل الخصم عثرته ... عند الأمير إذا ما خصمه ظلعا ينير وجهي إذا جد الخصام بنا ... ووجه خصمي تراه الدهر ملتمعا «4» وأنشد: تراه بنصري في الحفيظة واثقا ... وإن صدّ عني العين منه وحاجبه وإن خطرت أيدي الكماة وجدتني ... نصورا إذا ما استيبس الريق عاصبه عاصبه: يابسه، يعتصم به حتى يتم كلامه. الكماة: جمع كميّ، والكميّ الرجل المتكمّي بالسلاح، يعني المتكفر به المتستر. ويقال كمى الرجل شهادته يكميها، إذا كتمها وسترها. وقال ابن أحمر وذكر الريق والاعتصام به: هذا الثناء وأجدر أن أصاحبه ... وقد يدوّم ريق الطامع الأمل وقال الزبير بن العوام، وهو يرقّص عروة ابنه: أبيض من آل أبي عتيق ... مبارك من ولد الصدّيق ألذه كما ألذ ريقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وقالت امرأة من بني أسد: ألا بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد فمن كان يعيا بالجواب فإنه ... أبو معقل لا حجر عنه ولا صدد أثاروا بصحراء الثوية قبره ... وما كنت أخشى إن تناءى به البلد تناءى: تبعد. والثوية: موضع بناحية الكوفة. ومن قال الثوية فهي تصغير الثوية. وقال أوس بن حجر في فضالة بن كلدة: أبا دليجة من يوصي بأرملة ... أم من لأشعث ذي طمرين طملال أم من يكون خطيب القوم إن حفلوا ... لدى الملوك أولي كيد وأقوال و «هدمين: وهما ثوبان خلقان. يقال ثوب أهدام، إذا كان خلقا. والطملال: الفقير. وقال أيضا فيه: ألهفي على حسن آلائه ... على الجابر الحي والحارب ورقبته حتمات الملو ... ك بين السّرادق والحاجب «1» ويكفي المقالة أهل الدحا ... ل غير معيب ولا عائب «2» رقبته، أي انتظاره إذن الملوك. وجعله بين السرادق والحاجب ليدل على مكانته من الملوك. وأنشد أيضا: وخصم غضاب ينغضون رؤوسهم ... أولي قدم في الشغب صهب سبالها «3» ضربت لهم أبط الشمال فأصبحت ... يردّ غواة آخرين نكالها ابط الشمال، يعني الفؤاد، لأنه لا يكون إلا في تلك الناحية. وقال شتيم بن خويلد «4» : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وقلت لسيدنا يا حلي ... م إنك لم تأس أسوا رفيقا أعنت عديا على شأوها ... تعادي فريقا وتبقي فريقا زحرت بها ليلة كلها ... فجئت بها مؤيدا خنفقيقا تأسو: تداوي، أسوا وأسى، مصدران. والآسي: الطبيب. ومؤيد: داهية. خنفقيق: داهية أيضا. الشأو: الغلوة لركض الفرس. وأنشد لآدم مولى بلعنبر، يقولها لابنه: يا بأبي أنت ويا فوق البئب ... يا بأبي خصيك من خصي وزب أنت الحبيب وكذا قول المحب ... جنبك الله معاريض الوصب حتى تفيد وتداوي ذا الجرب ... وذا الجنون من سعال وكلب والحدب حتى يستقيم ذو الحدب ... وتحمل الشاعر في اليوم العصب على مباهير كثيرات التعب ... وإن أراد جدل صعب أرب خصومة تثقب أوساط الركب ... أظلعته من رتب إلى رتب حتى ترى الأبصار أمثال الشهب ... يرمى بها أشوس ملحاح كلب مجرب الشدات ميمون مذبّ الوصب: المرض. والعصب: الشديد. يقال يوم عصب وعصيب وعصبصب، إذا كان شديدا. مباهير: متاعيب قد علاهم البهر. أرب، يقال رجل أريب وأرب، وله أرب، إذا كان عاقلا أديبا حازما. أظلعته يقال ظلع الرجل، إذا خمع في مشيه. الرتبة: واحدة الرتب والرتبات، وهي الدرج. أي تخرجه من شيء إلى شيء. والأشوس: الذي ينظر بمؤخر عينه. ملحاح: ملح، من الإلحاح على الشيء. كلب، أي الذي قد كلب. مذب. أي يذب عن حريمه وعن نفسه. وقالت ابنة وثيمة، ترثي أباها وثيمة بن عثمان: الواهب المال التلا ... د ندى ويكفينا العظيمه ويكون مدرهنا إذا ... نزلت مجلحة عظيمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 واحمر آفاق السما ... ء ولم تقع في الأرض ديمه وتعذّر الآكال حتى ... كان أحمدها الهشيمه لا ثلة ترعى ولا ... إبل ولا بقر مسيمه ألفيته مأوى الأرا ... مل والمدفّعة اليتيمه والدافع الخصم الألدّ ... إذا تفوضح في الخصومه بلسان لقمان بن عا ... د وفصل خطبته الحكيمه ألجمتهم بعد التدا ... فع والتجاذب في الحكومه التلاد: القديم من المال. والطارف: المستفاد. والمدره: لسان القوم المتكلم عنهم. مجلحة، أي داهية مصممة. احمرّ آفاق السماء، أي اشتد البرد وقل المطر وكثر القحط. وديمة: واحدة الديم، وهي الأمطار الدائمة مع سكون. تعذر: تمنع. الآكال: جمع أكل، وهو ما يؤكل. والهشيمة: ما تهشم من الشجر، أي وقع وتكسر. الثلة: الضأن الكثيرة، ولا يقال للمعزى ثلة، ولكن حيلة، فإذا اجتمعت الضأن والمعزى قيل لهما ثلة. مسيمة، أي صارت في السوم ودخلت فيه، والسوم: الرعي. وسامت تسوم، أي رعت ترعى. ومنه قول الله: وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ. [لقمان بن عاد] وكانت العرب تعظم شأن لقمان بن عاد «1» الأكبر والأصغر لقيم بن لقمان في النباهة والقدر، وفي العلم والحكم، وفي اللسان والحلم. وهذان غير لقمان الحكيم المذكور في القرآن على ما يقوله المفسرون. ولارتفاع قدره وعظم شأنه، قال النمر بن تولب: لقيم بن لقمان من أخته ... فكان ابن أخت له وابنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 ليالي حمّق فاستحصنت ... عليه فغر بها مظلما فغرّ بها رجل محكم ... فجاءت به رجلا محكما وذلك أن أخت لقمان قالت لأمرأة لقمان: إني امرأة محمقة، ولقمان رجل محكم منجب، وأنا في ليلة طهري، فهبي لي ليلتك. ففعلت فباتت في بيت امرأة لقمان، فوقع عليها فأحبلها بلقيم، فلذلك قال النمر بن تولب ما قال: والمرأة إذا ولدت الحمقى فهي محمقة، ولا يعلم ذلك حتى يرى ولد زوجها من غيرها أكياسا. وقالت امرأة ذات بنات: وما أبالي أن أكون محمقه ... إذا رأيت خصية معلّقه وقال آخر: أزرى بسعيك أن كنت امرأ حمقا ... من نسل ضاوية الأعراق محماق ضاوية الأعراق، أي ضعيفة الأعراق نحيفتها. يقال رجل ضاو، وفيه ضاوية، إذا كان نحيفا قليل الجسم. وجاء في الحديث: «اغتربوا لا تضووا» . أي لا يتزوج الرجل القرابة القريبة، فيجيء ولده ضاويا. والفعل منه ضوي يضوى ضوى. والأعراق: الأصول. والمحماق: التي عادتها أن تلد الحمقى. ولبغضهم البنات قالت إحدى القوابل: أيا سحاب طرّقي بخير ... وطرّقي بخصية وأير «1» ولا ترينا طرف البظير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وقال الآخر «1» في إنجاب الأمهات، وهو يخاطب بني أخوته: عفاريتا عليّ وأخذ مالي ... وعجزا عن أناس آخرينا فهلا غير عمكم ظلمتم ... إذا ما كنتم متظلمينا فلو كنتم لكيّسة أكاست ... وكيس الأم أكيس للبنينا ولكن أمكم حمقت فجئتم ... غثاثا ما نرى فيكم سمينا وكان لنا فزارة عمّ سوء ... وكنت له كشر بني الأخينا ولبغض البنات هجر أبو حمزة الضبّي خيمة امرأته، وكان يقيل ويبيت عند جيران له، حين ولدت امرأته بنتا، فمرّ يوما بخبائها وإذا هي ترقصها وتقول: ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا غضبان ألا نلد البنينا ... تالله ما ذلك في أيدينا وإنما نأخذ ما أعطينا ... ونحن كالأرض لزارعينا ننبت ما قد زرعوه فينا قال: فغدا الشيخ حتى ولج البيت فقبل رأس امرأته وابنتها. وهذا الباب يقع في كتاب الإنسان، وفي فصل ما بين الذكر والأنثى، تاما، وليس هذا الباب مما يدخل في باب البيان والتبيين، قد يجري السبب فيجري معه بقدر ما يكون تنشيطا لقارىء الكتاب، لأن خروجه من الباب إذا طال لبعض العلم، كان ذلك أروح على قلبه، وأزيد في نشاطه إن شاء الله. وقد قال الأول في تعظيم شأن لقيم بن لقمان: قومي أصبحيني فما صيغ الفتى حجرا ... لكن رهينة أحجار وأرماس قومي اصبحيني فإن الدهر ذو غير ... أفنى لقيما وأفنى آل هرماس «2» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 اليوم خمر ويبدو في غد خبر ... والدهر من بين إنعام وابآس فاشرب على حدثان الدهر مرتفعا ... لا يصحب الهم قرع السن بالكاس وقال أبو الطمحان القينيّ «1» في ذكر لقمان: إن الزمان ولا تفنى عجائبه ... فيه تقطع ألّاف وأقران أمست بنو القين أفراقا موزعة ... كأنهم من بقايا حيّ لقمان وقد ذكرت العرب هذه الأمم البائدة، والقرون السالفة. ولبعضهم بقايا قليلة، وهم أشلاء في العرب متفرقون مغمورون، مثل جرهم وجاسم ووبار، وعملاق، وأميم، وطسم وجديس، ولقمان والهرماس، وبني الناصور وقيل بن عتر، وذي جدن. وقد يقال في بني الناصور إن أصلهم من الروم، فأما ثمود فقد خبر الله عز وجل عنهم فقال: وثمودا فما أبقى، وقال: فهل ترى لهم من باقية. فأنا أعجب من مسلم يصدق بالقرآن، يزعم أن قبائل العرب من بقايا ثمود. وكان أبو عبيدة يتأول قوله: وَثَمُودَ فَما أَبْقى ، إن ذلك إنما وقع على الأكثر، وعلى الجمهور الأكبر. وهذا التأويل أخرجه من أبي عبيدة سوء الرأي في القوم، وليس له أن يجيء إلى خبر عام مرسل غير مقيد وخبر مطلق غير مستثنى منه، فيجعله خاصا كالمستثنى منه. وأي شيء بقي لطاعن أو متأول بعد قوله: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ . فكيف يقول ذلك إذا كنا نحن قد نرى منهم في كل حي باقية. معاذ الله من ذلك. ورووا أن الحجاج قال على المنبر يوما: تزعمون أنّا من بقايا ثمود، وقد قال الله عز وجل: وَثَمُودَ فَما أَبْقى. فأما الأمم البائدة من العجم، مثل كنعان ويونان وأشباه ذلك، فكثير ولكن العجم ليس لها عناية بحفظ شأن الأموات ولا الأحياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وقال المسيّب بن علس، في ذكر لقمان: وإليك أعملت المطية من ... سهل العراق وأنت بالفقر أنت الرئيس إذا هم نزلوا ... وتواجهوا كالأسد والنمر لو كنت من شيء سوى بشر ... كنت المنور ليلة البدر ولأنت أجود بالعطاء من ال ... ريان لما جاد بالقطر ولأنت أشجع من أسامة إذ ... نقع الصراخ ولج في الذعر «1» ولأنت أبين حين تنطق من ... لقمان لما عيّ بالأمر وقال لبيد بن ربيعة الجعفري: واخلف قسا ليتني ولو أنني ... وأعيا على لقمان حكم التدبر فإن تسألينا كيف نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحّر السحر: الرئة. والمسحر: المعلل بالطعام والشراب. والمسحر: المخدوع كما قال أمرؤ القيس: أرانا موضعين لأمر غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب أي نعلل. فكأنا نخدع ونسحر بالطعام والشراب. وقال الفرزدق: لئن حومتي هابت معدّ حياضها ... لقد كان لقمان بن عاد يهابها وقال الآخر «2» : إذا ما مات ميت من تميم ... فسرك أن يعيش فجىء بزاد بخبز أو بلحم أو بتمر ... أو الشيء الملفف في البجاد «3» تراه يطوّف الآفاق حرصا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وقال أفنون التغلبي: لو أنني كنت من عاد ومن إرم ... ربيت فيهم ولقمان وذي جدن وقال الآخر «1» : ما لذة العيش والفتى ... للدهر والدهر ذو فنون أهلك طسما وقبل طسم ... أهلك عادا وذا جدون وأهل جاس ومأرب بع ... د حيّ لقمان والتقون واليسر للعسر، والتغنّي ... للفقر، والحي للمنون [ذم فضول الكلام ومدح الصمت] قال: وهم وإن كانوا يحبون البيان والطلاقة، والتحبير والبلاغة، والتخلص والرشاقة، فإنهم كانوا يكرهون السلاطة والهذر، والتكلف، والإسهاب والإكثار، لما في ذلك من التزيد والمباهاة، واتباع الهوى، والمنافسة في الغلو. وكانوا يكرهون الفضول في البلاغة، لأن ذلك يدعو إلى السّلاطة، والسلاطة تدعو إلى البذاء. وكل مراء في الأرض فإنما هو من نتاج الفضول. ومن حصّل كلامه وميزه، وحاسب نفسه، وخاف الإثم والذم، أشفق من الضراوة وسوء العادة، وخاف ثمرة العجب وهجنة النفج، وما في حب السمعة من الفتنة، وما في الرّياء من مجانبة الإخلاص. ولقد دعا عبادة بن الصامت بالطعام، بكلام ترك فيه المحاسنة، فقال شدّاد بن أوس «2» : إنه قد ترك فيه المحاسنة، فاسترجع ثم قال: «ما تكلمت بكلمة منذ بايعت رسول الله صلّى الله عليه وآله إلا مزمومة مخطوطة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 قال: وروى حمّاد بن سلمة، عن أبي حمزة، عن إبراهيم «1» قال: «إنما يهلك الناس في فضول الكلام، وفضول المال» . وقال: دع المعاذر، فإن أكثرها مفاجر» . وإنما صارت المعاذر كذلك لأنها داعية إلى التخلص بكلّ شيء. وقال سلّام بن أبي مطيع: قال لي أيوب «2» : «إياك وحفظ الحديث» خوفا عليه من العجب. وقال إبراهيم النخعيّ: «دع الاعتذار، فإنه يخالط الكذب» . قالوا: ونظر شاب وهو في دار ابن سيرين إلى فرش في داره، فقال: ما بال تلك الآجرة أرفع من الآجرة الأخرى؟ فقال ابن سيرين: «يا ابن أخي إن فضول النظر تدعو إلى فضول القول» . وزعم إبراهيم بن السندي قال: أخبرني من سمع عيسى بن علي يقول: «فضول النظر من فضول الخواطر، وفضول النظر تدعو إلى فضول القول، وفضول القول تدعو إلى فضول العمل، ومن تعوّد فضول الكلام ثم تدارك استصلاح لسانه، خرج إلى استكراه القول، وإن أبطأ أخرجه إبطاؤه إلى أقبح من الفضول» . قال أبو عمرو بن العلاء: أنكح ضرار بن عمرو الضبي ابنته معبد بن زرارة، فلما أخرجها إليه قال لها: «يا بنية أمسكي عليك الفضلين» . قالت: وما الفضلان؟ قال: فضل الغلمة، وفضل الكلام. وضرار بن عمرو هو الذي قال: «من سره بنوه ساءته نفسه» . وهو الذي لما قاله له المنذر: كيف تخلصت يوم كذا وكذا، وما الذي نجاك؟ قال: «تأخير الأجل، وإكراهي نفسي على المق الطوال» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 المقّاء: المرأة الطويلة. والمق: جماعة النساء الطوال. والمق أيضا: الخيل الطوال. وكان أخوته قد استشالوه حتى ركب فرسه ورفع عقيرته بعكاظ، فقال: «ألا إن خير حائل أم «1» فزوجوا الأمهات» . وذلك أنه صرع بين القنا، فأشبل عليه أخوته لأمه حتى أنقذوه «2» . قال: وكان أعرابي يجالس الشعبي «3» فيطيل الصمت، فسئل عن طول صمته فقال: «أسمع فأعلم، وأسكت فأسلم» . وقالوا: «لو كان الكلام من فضة لكان السكوت من ذهب» . وقالوا: «مقتل الرجل بين لحييه وفكيه» . وأخذ أبو بكر الصديق، رحمه الله، بطرف لسانه وقال: «هذا الذي أوردني الموارد» . وقالوا: ليس شيء أحقّ بطول سجن من لسان. وقالوا: اللسان سبع عقور. وقال النبي عليه السلام: «وهل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم» . وقال ابن الأعرابي، عن بعض أشياخه: تكلم رجل عند النبي عليه السلام فخطل في كلامه، فقال النبي صلّى الله عليه وآله: «ما أعطي العبد شرا من طلاقة اللسان» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وقال العائشي، وخالد بن خداش: حدثنا مهدي بن ميمون، عن غيلان ابن جرير، عن مطرّف بن عبد الله بن الشّخير وعن أبيه قال: قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وآله في وفد فقلنا: يا رسول الله، أنت سيدنا، وأنت أطولنا علينا طولا «1» ، وأنت الجفنة الغراء «2» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «أيها الناس، قولوا بقولكم ولا يستفزنكم الشيطان، فإنما أنا عبد الله ورسوله» . قال: وقال خالد بن عبد الله القسري، لعمر بن عبد العزيز: من كانت الخلافة زانته فقد زيّنتها، ومن كانت شرفته فقد شرّفتها. فأنت كما قال الشاعر: وتزيدين أطيب الطيب طيبا ... أن تمسّيه أين مثلك أينا وإذا الدر زان حسن وجوه ... كان للدر حسن وجهك زينا فقال عمر: إن صاحبكم أعطي مقولا، ولم يعط معقولا. وقال الشاعر: لسانك معسول ونفسك شحّة ... ودون الثريا من صديقك مالكا وأخبرنا بإسناد له، أن أناسا قالوا لابن عمر: ادع الله لنا بدعوات. فقال: «اللهم ارحمنا وعافنا وارزقنا» . فقالوا: لو زدتنا يا أبا عبد الرحمن. قال: نعوذ بالله من الإسهاب. وقال أبو الأسود الدؤلي «3» ، في ذكر الإسهاب، يقولها في الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة، والحارث هو القباع، وكان خطيبا من وجوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 قريش ورجالهم. وإنما سمي القباع لأنه أتي بمكتل «1» لأهل المدينة، فقال إن هذا المكتل لقباع! فسمي به. والقباع: الواسع الرأس القصير. وقال الفرزدق فيه لجرير: وقبلك ما أعييت كاسر عينه ... زيادا فلم تقدر عليّ حبائله فأقسمت لا آتيه تسعين حجة ... ولو كسرت عنق القباع وكاهله وقال أبو الأسود: أمير المؤمنين جزيت خيرا ... أرحنا من قباع بني المغيرة بلوناه ولمناه فأعيا ... علينا ما يمر لنا مريرة على أن الفتى نكح أكول ... ومسهاب مذاهبه كثيرة وقال الشاعر «2» : إياك إياك المراء فإنه ... إلى الشر دعّاء وللصرم جالب وقال أبو العتاهية: والصمت أجمل بالفتى ... من منطق في غير حينه كلّ امرىء في نفسه ... أعلى وأشرف من قرينه وكان سهل بن هارون يقول: «سياسة البلاغة أشد من البلاغة، كما أن التوقي على الدواء أشد من الدواء» . وكانوا يأمرون بالتبين والتثبت، وبالتحرز من زلل الكلام، ومن زلل الرأي، ومن الرأي الدبريّ. والرأي الدبري هو الذي يعرض من الصواب بعد مضي الرأي الأول وفوت استدراكه. وكانوا يأمرون بالتحلم والتعلم، وبالتقدم في ذلك أشد التقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وقال الأحنف: قال عمر بن الخطاب: «تفقهوا قبل أن تسودوا» . وكان يقول رحمه الله: «السؤدد مع السواد» . وأنشدوا لكثّير عزّة: وفي الحلم والإسلام للمرء وازع ... وفي ترك طاعات الفؤاد المتيّم بصائر رشد للفتى مستبينة ... وأخلاق صدق علمها بالتعلم الوازع: الناهي، والوزعة: جمع وازع، وهم الناهون والكافون. وقال الأفوه الأودي: أضحت قرينة قد تغير بشرها ... وتجهمت بتحية القوم العدا ألوت بإصبعها وقالت إنما ... يكفيك مما لا ترى ما قد ترى وأنشد «1» : ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك تعذر إن وعظت ويقتدى ... بالقول منك ويقبل التعليم قالوا: وكان الأحنف بن قيس أشد الناس سلطانا على نفسه. وقالوا: وكان الحسن أترك الناس لما نهي عنه. وقال الآخر: لا تعذراني في الإساءة إنه ... شرار الرجال من يسيء فيعذر وقال الكميت بن زيد الأسدي: ولم يقل بعد زلة لهم ... عدّوا المعاذير إنما حسبوا وأنشدني محمد بن يسير، للأحوص بن محمد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 قامت تخاصرني بقنّتها ... خود تأطر غادة بكر كلّ يرى أن الشباب له ... في كلّ مبلغ لذة عذر تخاصرني: آخذ بيدها وتأخذ بيدي. والقنة: الموضع الغليظ من الأرض في صلابة. والخود: الحسنة الخلق. تأطر: تتثنى. والغادة: الناعمة الليّنة. وقال جرير في فوت الرأي: ولا يتقون الشر حتى يصيبهم ... ولا يعرفون الأمر إلا تدبّرا قال: ومدح النابغة ناسا بخلاف هذه الصفة، فقال: ولا يحسبون الخير لا شر بعده ... ولا يحسبون الشر ضربة لازب لازب ولازم، واحد، واللازب في مكان آخر: اليابس. قال الله عز وجل: مِنْ طِينٍ لازِبٍ . واللزبات: السنون الجدبة. وأنشد: هفا هفوة كانت من المرء بدعة ... وما مثله من مثلها بسليم فإن يك أخطأ في أخيكم فربما ... أصاب التي فيها صلاح تميم قال: وقال قائل عند يزيد بن عمر بن هبيرة: والله ما أتى الحارث بن شريح بيوم خير قط. قال: فقال الترجمان بن هريم: «إلا يكن أتى بيوم خير فقد أتى بيوم شر» . ذهب الترجمان بن هريم إلى مثل معنى قول الشاعر: وما خلقت بنو زمّان إلا ... أخيرا بعد خلق الناس طرّا وما فعلت بنو زمّان خيرا ... ولا فعلت بنو زمّان شرّا ومن هذا الجنس من الأحاديث، وهو يدخل في باب الملح، قال الأصمعي: «وصلت بالعلم، ونلت بالملح» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وقال رجل مرة: «أبي الذي قاد الجيوش، وفتح الفتوح، وخرج على الملوك، واغتصب المنابر» . فقال له رجل من القوم: لا جرم، لقد أسر وقتل وصلب! قال: فقال له المفتخر بأبيه: دعني من أسر أبي وقتله وصلبه، أبوك أنت حدث نفسه بشيء من هذا قط؟ [البيان منزلة بين الإسهاب والإيجاز] قد سمعنا رواية القوم واحتجاجهم، وأنا أوصيك ألا تدع التماس البيان والتبيين إن ظننت أن لك فيها طبيعة، وإنهما يناسبانك بعض المناسبة، ويشاكلانك في بعض المشاكلة، ولا تهمل طبيعتك فيستولي الإهمال على قوة القريحة، ويستبد بها سوء العادة. وإن كنت ذا بيان وأحسست من نفسك بالنفوذ في الخطابة والبلاغة، وبقوة المنّة يوم الحفل، فلا تقصر في التماس أعلاها سورة «1» ، وأرفعها في البيان منزلة. ولا يقطعنّك تهييب الجهلاء، وتخويف الجبناء، ولا تصرفنك الروايات المعدولة عن وجوهها، المتأولة على أقبح مخارجها. وكيف تطيعهم بهذه الروايات المعدولة، والأخبار المدخولة، وبهذا الرأي الذي ابتدعوه من قبل أنفسهم، وقد سمعت الله تبارك وتعالى، ذكر داود النبي صلوات الله عليه، فقال: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إلى قوله: وَفَصْلَ الْخِطابِ . فجمع له بالحكمة البراعة في العقل، والرجاحة في الحلم، والاتساع في العلم، والصواب في الحكم، وجمع له بفصل الخطاب تفصيل المجمل، وتلخيص الملتبس، والبصر بالحزّ في موضع الحز، والحسم في موضع الحسم. وذكر رسول الله صلّى الله عليه وآله شعيبا النبي عليه السلام، فقال: «كان شعيب خطيب الأنبياء» . وذلك عند بعض ما حكاه الله في كتابه، وجلاه لأسماع عباده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 فكيف تهاب منزلة الخطباء وداود عليه السلام سلفك، وشعيب إمامك مع ما تلوناه عليك في صدر هذا الكتاب من القرآن الحكيم، والآي الكريم. وهذه خطب رسول الله صلّى الله عليه وآله مدونة محفوظة، ومخلدة مشهورة، وهذه خطب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم. وقد كان لرسول الله شعراء ينافحون عنه وعن أصحابه بأمره، وكان ثابت ابن قيس بن الشماس الأنصاري خطيب رسول الله صلّى الله عليه وآله، لا يدفع ذلك أحد. فأما ما ذكرتم من الإسهاب والتكلف، والخطل والتزيد، فإنما يخرج إلى الإسهاب المتكلف، وإلى الخطل المتزيد. فأما أرباب الكلام، ورؤساء أهل البيان، والمطبوعون المعددون، وأصحاب التحصيل والمحاسبة، والتوقي والشفقة، والذين يتكلمون في صلاح ذات البين، وفي إطفاء نائرة، أو في حمالة «1» ، أو على منبر جماعة، أو في عقد أملاك بين مسلم ومسلمة- فكيف يكون كلام هؤلاء يدعو إلى السلاطة والمراء، وإلى الهذر والبذاء، وإلى النفج والرياء. ولو كان هذا كما يقولون لكان علي ابن أبي طالب، وعبد الله بن عباس أكثر الناس فيما ذكرتم. فلم خطب صعصعة بن صوحان عند علي بن أبي طالب، وقد كان ينبغي للحسن البصري أن يكون أحقّ التابعين بما ذكرتم؟ قال الأصمعي: قيل لسعيد بن المسيب «2» : ها هنا قوم نساك يعيبون إنشاد الشعر. قال: «نسكوا نسكا أعجميا» . وقد زعمتم أن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: «شعبتان من شعب النفاق: البذاء، والبيان. وشعبتان من شعب الإيمان: الحياء، والعيّ» . ونحن نعوذ بالله أن يكون القرآن يحث على البيان ورسول الله صلّى الله عليه وآله يحث على العيّ، ونعوذ بالله أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 يجمع رسول الله صلّى الله عليه وآله بين البذاء والبيان. وإنما وقع النهي على كل شيء جاوز المقدار، ووقع اسم العي على كل شيء قصر عن المقدار. فالعي مذموم والخطل مذموم، ودين الله تبارك وتعالى بين المقصر والغالي. وهاهنا روايات كثيرة مدخولة، وأحاديث معلولة. رووا أن رجلا مدح الحياء عند الأحنف، وأن الأحنف قال ثمّ: يعود ذلك ضعفا. والخير لا يكون سبا للشر. ولكننا نقول: إن الحياء اسم لمقدار من المقادير ما زاد على ذلك المقدار فسمه ما أحببت. وكذلك الجود اسم لمقدار من المقادير، فالسرف اسم لما فضل عن ذلك المقدار. وللحزم مقدار، فالجبن اسم لما فضل عن ذلك المقدار. وللإقتصاد مقدار، فالبخل اسم لما خرج عن ذلك المقدار. وللشجاعة مقدار، فالتهور والخدب اسم لما جاوز ذلك المقدار. وهذه أحاديث ليست لعامتها أسانيد متصلة، فإن وجدتها متصلة لم تجدها محمودة، وأكثرها جاءت مطلقة ليس لها حامل محمود ولا مذموم. فإذا كانت الكلمة حسنت استمتعنا بها على قدر ما فيها من الحسن. فإن أردت أن تتكلف هذه الصناعة، وتنسب إلى هذا الأدب، فقرضت قصيدة، أو حبرت خطبة، أو ألّفت رسالة، فإياك أن تدعوك ثقتك بنفسك، أو يدعوك عجبك بثمرة عقلك إلى أن تنتحله وتدعيه، ولكن اعرضه على العلماء في عرض رسائل أو أشعار أو خطب، فإن رأيت الأسماع تصغي له، والعيون تحدج إليه، ورأيت من يطلبه ويستحسنه، فانتحله. فإن كان ذلك في ابتداء أمرك، وفي أول تكلفك فلم تر له طالبا ولا مستحسنا، فلعله أن يكون ما دام ريّضا قضيبا «1» ، أن يحل عندهم محل المتروك. فإذا عاودت أمثال ذلك مرارا، فوجدت الأسماع عنه منصرفة، والقلوب لاهية، فخذ في غير هذه الصناعة، واجعل رائدك الذي لا يكذبك حرصهم عليه، أو زهدهم فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وقال الشاعر: إن الحديث تغر القوم خلوته ... حتى يلجّ بهم عي وإكثار وفي المثل المضروب: «كل مجر في الخلاء مسرّ» ، ولم يقولوا مسرور. وكل صواب. فلا تثق في كلامك برأي نفسك، فإني ربما رأيت الرجل متماسكا وفوق المتماسك، حتى إذا صار إلى رأيه في شعره، وفي كلامه، وفي ابنه، رأيته متهافتا وفوق المتهافت. وكان زهير بن أبي سلمى، وهو أحد الثلاثة المتقدمين، يسمي كبار قصائده «الحوليات» . وقال نوح بن جرير: قال الحطيئة: «خير الشعر الحوليّ المنقّح» . قال وقال: البعيث الشاعر، وكان أخطب الناس: «إني والله ما أرسل الكلام قضيبا خشيبا «1» ، وما أريد أن أخطب يوم الحفل إلا بالبائت المحكك» . وكنت أظن أن قولهم «محكك» كلمة مولدة، حتى سمعت قول الصعب بن علي الكناني: أبلغ فزارة أن الذئب آكلها ... وجائع سغب شرّ من الذيب أزل أطلس ذو نفس محككة ... قد كان طار زمانا في اليعاسيب «2» وتكلم يزيد بن أبان الرقاشي، ثم تكلم الحسن، وأعرابيان حاضران فقال أحدهما لصاحبه: كيف رأيت الرجلين؟ فقال: أما الأول فقاص مجيد، وأما الآخر فعربي محكك. قال: ونظر أعرابي إلى الحسن، فقال له رجل: كيف تراه؟ قال: أرى خيشوم حرّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 قالوا: وأرادوا عبد الله بن وهب الراسبي «1» على الكلام يوم عقدت له الخوارج الرياسة فقال: «وما أنا والرأي الفطير، والكلام القضيب» ! ولما فرغوا من البيعة له قال: «دعوا الرأي يغبّ، فإن غبوبه يكشف لكم عن محضه» . وقيل لابن التوأم الرقاشي: تكلم. فقال: «ما أشتهي الخبز إلا بائتا» . قال: وقال عبيد الله بن سالم لرؤبة: مت يا أبا الجحاف إذا شئت. قال: وكيف ذاك؟ قال: رأيت اليوم عقبة بن رؤبة ينشد شعرا له أعجبني. قال: فقال رؤبة: نعم إنه ليقول ولكن ليس لشعره قران. وقال الشاعر: مهاذبة مناجبة قران ... منادبة كأنهم الأسود يريد بقوله «قران» التشابه والموافقة. وقال عمر بن لجأ لبعض الشعراء: أنا أشعر منك! قال: وبم ذلك؟ قال: لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابن عمه. قال: وذكر بعضهم شعر النابغة الجعدي، فقال: «مطرف بآلاف، وخمار بواف «2» » . وكان الأصمعي يفضله من أجل ذلك. وكان يقول: «الحطيئة عبد لشعره» . عاب شعره حين وجده كله متخيرا منتخبا مستويا، لمكان الصنعة والتكلف، والقيام عليه. وقالوا: لو أن شعر صالح بن عبد القدوس «3» وسابق البربري» كان مفرقا في أشعار كثيرة، لصارت تلك الأشعار أرفع مما هي عليه بطبقات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 ولصار شعرهما نوادر سائرة في الآفاق. ولكن القصيدة إذا كانت كلها أمثالا لم تسر، ولم تجر مجرى النوادر. ومتى لم يخرج السامع من شيء إلى شيء لم يكن لذلك عنده موقع. قال: وقال بعض الشعراء لرجل: أنا أقول في كلّ ساعة قصيدة، وأنت تقرضها في كل شهر. فلم ذلك؟ قال: لأني لا أقبل من شيطاني مثل الذي تقبل من شيطانك. قال: وأنشد عقبة بن رؤبة (أباه رؤبة) بن العجاج شعرا وقال له: كيف تراه؟ قال: يا بنيّ إن أباك ليعرض له مثل هذا يمينا وشمالا فما يلتفت إليه. وقد رووا مثل ذلك في زهير وابنه كعب. قال: وقيل لعقيل بن علّفة: لم لا تطيل الهجاء؟ قال: «يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق» . وقيل لأبي المهوّش: لم لا تطيل الهجاء؟ قال: لم أجد المثل النادر إلا بيتا واحدا، ولم أجد الشعر السائر إلا بيتا واحدا. قال: وقال مسلمة بن عبد الملك لنصيب الشاعر: ويحك يا أبا الحجناء، أما تحسن الهجاء؟ قال: أما تراني أحسن مكان عافاك الله: لا عافاك الله! ولاموا الكميت بن زيد على الإطالة، فقال: «أنا على القصار أقدر» . وقيل للعجاج: ما لك لا تحسن الهجاء؟ قال: هل في الأرض صانع إلا وهو على الإفساد أقدر. وقال رؤبة: «الهدم أسرع من البناء» . وهذه الحجج التي ذكروها عن نصيب والكميت والعجاج ورؤبة، إنما ذكروها على وجه الاحتجاج لهم. وهذا منهم جهل إن كانت هذه الأخبار صادقة وقد يكون الرجل له طبيعة في الحساب وليس له طبيعة في الكلام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وتكون له طبيعة في التجارة وليست له طبيعة في الفلاحة، وتكون له طبيعة في الحداء أو في التغيير، أو في القراءة بالألحان، وليت له طبيعة في الغناء وإن كانت هذه الأنواع كلها ترجع إلى تأليف اللحون. وتكون له طبيعة في الناي وليس له طبيعة في السرناي «1» ، وتكون له طبيعة في قصبة الراعي ولا تكون له طبيعة في القصبتين المضمومتين، ويكون له طبع في صناعة اللحون ولا يكون له طبع في غيرهما، ويكون له طبع في تأليف الرسائل والخطب والأسجاع ولا يكون له طبع في قرض بيت شعر. ومثل هذا كثير جدا. وكان عبد الحميد الأكبر، وابن المقفع، مع بلاغة أقلامهما وألسنتهما لا يستطيعان من الشعر إلا ما يذكر مثله. وقيل لابن المقفع في ذلك، فقال: الذي أرضاه لا يجيئني، والذي يجيئني لا أرضاه» . وهذا الفرزدق وكان مستهترا بالنساء، وكان زير غوان، وهو في ذلك ليس له بيت واحد في النسيب مذكور، مع حسده لجرير. وجرير عفيف لم يعشق امرأة قط، وهو مع ذلك أغزل الناس شعرا. وفي الشعراء من لا يستطيع مجاوزة القصيد إلى الرجز، ومنهم من لا يستطيع مجاوزة الرجز إلى القصيد، ومنهم من يجمعها كجرير وعمر بن لجأ، وأبي النجم، وحميد الأرقط، والعماني. وليس الفرزدق في طواله بأشعر منه في قصاره. وفي الشعراء من يخطب وفيهم من لا يستطيع الخطابة، وكذلك حال الخطباء في قريض الشعر. والشاعر نفسه قد تختلف حالاته. وقال الفرزدق: أنا عند الناس أشعر الناس وربما مرت علي ساعة ونزع ضرس أهون عليّ من أن أقول بيتا واحدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وقال العجاج: لقد قلت أرجوزتي التي أولها: بكيت والمحتزن البكيّ ... وإنما يأتي الصبا الصبي أطربا وأنت قنسري «1» ... والدهر بالإنسان دواري وأنّا بالرمل، في ليلة واحدة، فانثالت عليّ قوافيها انثيالا، وإني لأريد اليوم دونها في الأيام الكثيرة فما أقدر عليه. وقال لي أبو يعقوب الخريمي: خرجت من منزلي أريد الشماسية، فابتدأت القول في مرثية لأبي التختاخ، فرجعت والله وما أمكنني بيت واحد. وقال الشاعر: وقد يقرض الشعر البكيّ لسانه ... وتعيي القوافي المرء وهو خطيب [أقوال بليغة] من القول في المعاني الظاهرة باللفظ الموجز من ملتقطات كلام الناس. قال بعض الناس: «من التوقي ترك الإفراط في التوقي» . وقال بعضهم: «إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون» . وقال الشاعر: قدر الله وارد ... حين يقضى وروده فأرد ما يكون إن ... لم يكن ما تريده وقيل لأعرابي في شكاته: كيف تجدك؟ قال: «أجدني أجد ما لا أشتهي وأشتهي ما لا أجد، وأنا في زمان من جاد لم يجد، ومن وجد لم يجد» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وقيل لابن المقفع ألا تقول الشعر؟ قال: الذي يجيئني لا أرضاه، والذي أرضاه لا يجيئني. وقال بعض النساك: «أنا لما لا أرجو أرجى مني لما أرجو» . وقال بعضهم: «أعجب من العجب، ترك التعجب من العجب» . وقال عمر بن عبد العزيز لعبد بني مخزوم: «إني أخاف الله فيما تقلدت» . قال: لست أخاف عليك أن تخاف، وإنما أخاف عليك ألا تخاف. وقال الأحنف لمعاوية: أخافك إن صدقتك، وأخاف الله إن كذبتك. وقال رجل من النساك لصاحب له وهو يكيد بنفسه: أما ذنوبي فإني أرجو لها مغفرة الله، ولكني أخاف على بناتي الضيعة. فقال له صاحبه: فالذي ترجوه لمغفرة ذنوبك فارجه لحفظ بناتك. وقال رجل من النساك لصاحب له: ما لي أراك حزينا؟ قال: كان عندي يتيم أربّيه لأوجر فيه، فمات وانقطع عنا أجره. إذ بطل قيامنا بمؤونته. فقال له صاحبه! فاجتلب يتيما آخر يقوم لك مقام الأول. قال: أخاف ألا أصيب يتيما في سوء خلقه! قال له صاحبه: أما أنا فلو كنت في موضعك منه لما ذكرت سوء خلقه. وقال آخر: وسمعه أبو هريرة النحوي وهو يقول: ما يمنعني من تعلم القرآن إلا أني أخاف أن أضيعه. قال: أما أنت فقد عجلت له التضييع، ولعلك إذا تعلمته لم تضيعه. وقال عمر بن عبد العزيز لرجل: من سيّد قومك؟ قال: أنا. قال: لو كنت كذلك لم تقله! [ما قيل في الحق والباطل] وقالوا في حسن البيان، وفي التخلّص من الخصم بالحقّ والباطل، وفي تخليص الحق من الباطل، وفي الإقرار بالحق، وفي ترك الفخر بالباطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 قال أعرابي وذكر حماس بن ثامل فقال: برئت إلى الرحمن من كلّ صاحب ... أصاحبه إلا حماس بن ثامل وظني به بين السماطين أنه ... سينجو بحق أو سينجو بباطل وقال العجير السلوليّ: وإن ابن زيد لابن عمي وإنه ... لبلّال أيدي جلّة الشول بالدم طلوع الثنايا بالمطايا وإنه ... غداة المرادي للخطيب المقدم يسرك مظلوما ويرضيك ظالما ... ويكفيك ما حملته حين تغرم الشول: جمع شائلة، وهي الناقة التي قد جف لبنها. وإذا شالت بذنبها بعد اللقاح فهي شائل، وجمعها شوّل. المرادي: المصادم والمقارع، يقال رديت الحجر بصخرة أو بمعول، إذا ضربته بها لتكسره. والمرادة: الصخرة التي يكسر بها الحجارة. وقال ابن ربع الهذلي «1» : أعين ألا فابكي رقيبة إنه ... وصول لأرحام ومعطاء سائل فأقسم لو أدركته لحميته ... وإن كان لم يترك مقالا لقائل وقال بعض اليهود، وهو الربيع بن أبي الحقيق من بني النضير «2» : سائل بنا خابر أكمائنا ... والعلم قد يلقى لدى السائل إنّا إذا مالت دواعي الهوى ... وأنصت السامع للقائل واعتلج الناس بألبابهم ... نقضي بحكم عادل فاصل لا نجعل الباطل حقا ولا ... نلطّ دون الحق بالباطل نكره أن تسفه أحلامنا ... فنخمل الدهر مع الخامل وقال آخر وذكر حماسا أيضا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 أتاني حماس بابن ماه يسوقه ... ليبغيه خيرا وليس بفاعل ليعطي عبسا مالنا، وصدورنا ... من الغيظ تغلي مثل غلي المراجل وقافية قيلت لكم لم أجد لها ... جوابا إذا لم تضربوا بالمناصل فأنطق في حق بحق ولم يكن ... ليرحض عنكم قالة الحق باطلي ليرحض، أي ليغسل. والراحض: الغاسل. والمرحاض: الموضع الذي يغسل فيه. وقال عمرو بن معديكرب: فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرّت الجرار: عود يعرض في فم الفصيل، أو يشق به لسانه، لئلا يرضع. فيقول: قومي لم يطعنوا بالرماح فأثني عليهم، ولكنهم فروا فأسكت كالمجرّ الذي في فمه الجرار. وقال أبو عبيدة: صاح رؤبة في بعض الحروب التي كانت بين تميم والأزد: يا معشر بني تميم، أطلقوا من لساني. قال: وأبصر رجلا منهم قد طعن فارسا طعنة، فصاح: «لا عيّا ولا شللا!» والعرب تقول: «عي أبأس من شلل» . كأن العي فوق كلّ زمانة. وقالت الجهنيّة: ألا هلك الحلو الحلال الحلاحل ... ومن عنده حلم وعلم ونائل «1» وذو خطب يوما إذا القوم أفحموا ... تصيب مرادي قوله ما يحاول بصير بعورات الكلام إذا التقى ... شريجان بين القوم: حق وباطل أتيّ لما يأتي الكريم بسيفه ... وإن أسلمته جنده والقبائل وليس بمعطاء الظلامة عن يد ... ولا دون أعلى سورة المجد قابل «2» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 الحلاحل: السيّد. شريجان: جنسان مختلفان في كلّ شيء. وأنشد أبو عبيدة في الخطيب يطول كلامه، ويكون ذكورا لأول خطبته وللذي بنى عليه أمره، وإن شغب شاغب فقطع عليه كلامه، أو حدث عند ذلك حدث يحتاج فيه إلى تدبير آخر، وصل الثاني من كلامه بالأوّل، حتى لا يكون أحد كلاميه أجود من الآخر، فأنشد: وإن أحدثوا شغبا يقطّع نظمها ... فإنك وصّال لما قطع الشغب ولو كنت نسّاجا سددت خصاصها ... بقول كطعم الشهد مازجه العذب وقال نصيب: وما ابتذلت ابتذال الثوب ودّكم ... وعائد خلقا ما كان يبتذل وعلمك الشيء تهوى أن تبيّنه ... أشفى لقلبك من أخبار من تسل وقال آخر: لعمرك ما ودّ اللسان بنافع ... إذا لم يكن أصل المودة في الصدر وقال آخر: تعلّم فليس المرء يولد عالما ... وليس أخو علم كمن هو جاهل وإنّ كبير القوم لا علم عنده ... صغير إذا التفت عليه المحافل وقال آخر: فتى مثل صفو الماء ليس بباخل ... عليك ولا مهد ملاما لباخل ولا قائل عوراء تؤذي جليسه ... ولا رافع رأسا بعوراء قائل ولا مسلم مولى لأمر يصيبه ... ولا خالط حقا مصيبا بباطل ولا رافع أحدوثة السوء معجبا ... بها بين أيدي المجلس المتقابل يرى أهله في نعمة وهو شاحب ... طوي البطن مخماص الضحى والأصائل «1» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وقالت أخت يزيد بن الطثريّة «1» : أرى الأثل من بطن العقيق مجاوري ... قريبا وقد غالت يزيد غوائله فتى قدّ قدّ السيف لا متضائل ... ولا رهل لبّاته وبآدله «2» فتى لا يرى خرق القميص بخصره ... ولكنما توهي القميص كواهله إذا نزل الأضياف كان عذوّرا ... على الحيّ حتى تستقلّ مراجله «3» مضى وورثناه دريس مفاضة ... وأبيض هنديا طويلا حمائله «4» يسرّك مظلوما ويرضيك ظالما ... وكل الذي حملته فهو حامله أخو الجدّ إن جدّ الرجال وشمروا ... وذو باطل إن شئت ألهاك باطله «5» يصير هذا الشعر وما أشبهه مما وقع في هذا الباب، إلى الشعر الذي في أول الفصل. [مدح اللسن والبيان والكلام الجميل المعدل] باب شعر وغير ذلك من الكلام مما يدخل في باب الخطب. قال الشاعر: عجبت لأقوام يعيبون خطبتي ... وما منهم في موقف بخطيب وقال آخر: إن الكلام من الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا لا يعجبنّك من خطيب قوله ... حتى يكون مع البيان أصيلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وأنشد آخر: أبرّ فما يزداد إلا حماقة ... ونوكا وإن كانت كثيرا مخارجه «1» وقد يكون رديء العقل جيد اللسان. وقال أبو العباس الأعمى «2» : إذا وصف الإسلام أحسن وصفه ... بفيه، ويأبى قلبه ويهاجره وإن قام قال الحق ما دام قائما ... تقيّ اللسان كافر بعد سائره وقال قيس بن عاصم المنقريّ «3» يذكر ما في بني منقر من الخطابة: إني امرؤ لا يعتري خلقي ... دنس يفنّده ولا أفن من منقر في بيت مكرمة ... والأصل ينبت حوله الغصن خطباء حين يقوم قائلهم ... بيض الوجوه مصاقع لسن لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جوارهم فطن ومن هذا الباب وليس منه في الجملة، قول الآخر: أشارت بطرف العين خيفة أهلها ... إشارة مذعور ولم تتكلم فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا ... وأهلا وسهلا بالحبيب المسلّم وقال نصيب «4» ، مولى عبد العزيز بن مروان: يقول فيحسن القول ابن ليلى ... ويفعل فوق أحسن ما يقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وقال آخر: ألا رب خصم ذي فنون علوته ... وإن كان ألوى يشبه الحق باطله «1» فهذا هو معنى قول العتابي: «البلاغة إظهار ما غمض من الحق، وتصوير الباطل في صورة الحق» . وقال الشاعر، وهو كما قال: عجبت لإدلال العييّ بنفسه ... وصمت الذي كان بالقول أعلما وفي الصمت ستر للعييّ وإنما ... صحيفة لبّ المرء أن يتكلما وموضع «الصحيفة» من هذا البيت، موضع ذكر «العنوان» في شعره الذي رثى عثمان بن عفان، رحمه الله، به حيث يقول: ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا وأنشد أيضا: ترى الفتيان كالنخل ... وما يدريك ما الدخل وكلّ في الهوى ليث ... وفيما نابه فسل وليس الشأن في الوصل ... ولكن أن يرى الفصل وقال كسرى أنو شروان، لبزرجمهر: أي الأشياء خير للمرء العييّ؟ قال: عقل يعيش به. قال: فإن لم يكن له عقل؟ قال: فإخوان يسترون عليه. قال: فإن لم يكن له إخوان؟ قال: فمال يتحبّب به إلى الناس. قال: فإن لم يكن له مال؟ قال: فعيّ صامت. قال: فإن لم يكن له. قال: فموت مريح. وقال موسى بن يحيى بن خالد: قال أبو علي: «رسائل المرء في كتبه أدل على مقدار عقله، وأصدق شاهدا على غيبه لك، ومعناه فيك، من أضعاف ذلك على المشافهة والمواجهة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ووصفوا كلامهم في أشعارهم فجعلوها كبرود العصب، وكالحلل والمعاطف، والديباج والوشي، وأشباه ذلك. وأنشدني أبو الجماهر جندب بن مدرك الهلاليّ: لا يشترى الحمد أمنية ... ولا يشترى الحمد بالمقصر ولكنما يشترى غاليا ... فمن يعط قيمته يشتر ومن يعتطفه على مئزر ... فنعم الرداء على المئزر وأنشدني لابن ميادة «1» : نعم إنني مهد ثناء ومدحة ... كبرد اليماني يربح البيع تاجره وأنشد: فإن أهلك فقد أبقيت بعدي ... قوافي تعجب المتمثّلينا لذيذات المقاطع محكمات ... لو أن الشّعر يلبس لارتدينا وقال أبو قردودة، يرثي ابن عمار «2» قتيل النعمان ونديمه، ووصف كلامه، وقد كان نهاه عن منادمته: إني نهيت ابن عمار وقلت له ... لا تأمنن أحمر العينين والشعره إن الملوك متى تنزل بساحتهم ... تطر بنارك من نيرانهم شرره يا جفنة كإزاء الحوض قد هدموا ... ومنطقا مثل وشي اليمنة الحبره وقال الشاعر «3» في مديح أحمد بن أبي دؤاد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وغويص من الأمور بهيم ... غامض الشخص مظلم مستور قد تسهّلت ما توعّر منه ... بلسان يزينه التحبير مثل وشي البرود هلهله النسج ... وعند الحجاج در نثير حسن الصمت والمقاطع أما ... نطق القوم والحديث يدور ثم من بعد لحظة تورث اليسر ... وعرض مهذّب موفور ومما يضم إلى هذا المعنى وليس منه، قول جميل بن معمر: نمت في الروابي من معدّ وأفلجت ... على الخفرات الغرّ وهي وليد أناة على نيرين أضحى لداتها ... بلين بلاء الرّيط وهي جديد نمت: شبت. الروابي من معد: البيوت الشريفة. وأصل الرابية والرباوة: ما ارتفع من الأرض. أفلجت: أظهرت. والخفرات: الحييات. الأناة: المرأة التي فيها فتور عند القيام. وقوله على نيرين، وصفها بالقوة، كالثوب الذي ينسج على نيرين، وهو الثوب الذي له سديان، كالديباج وما أشبهه. أضحى لداتها، اللدة: القرينة في المولد والمنشأ فيقول: إن أقرانها قد بلين، وهي جديد لحسن غذائها ودوام نعمتها. ومن هذا الشكل وليس منه بعينه قول الشاعر: على كلّ ذي نيرين زيد محاله ... محالا وفي أضلاعه زيد أضلعا المحال: محال الظهر، وهي فقاره، واحدها محالة. وقال أبو يعقوب الخريميّ الأعور: أول شعر قلته هذان البيتان: بقلبي سقام لست أحسن وصفه ... على أنه ما كان فهو شديد تمر به الأيام تسحب ذيلها ... فتبلى به الأيام وهو جديد وقال الآخر: أبى القلب إلا أمّ عمرو وحبها ... عجوزا ومن يحبب عجوزا يفنّد كبرد اليماني قد تقادم عهده ... ورقعته ما شئت في العين واليد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وقال ابن هرمة: إن الأديم الذي أصبحت تعركه ... جهلا لذو نغل باد وذو حلم ولن يئطّ بأيدي الخالقين ولا ... أيدي الخوالق إلا جيّد الأدم وفي غير هذا الباب وهو قريب منه قول ذو الرمة: وفي قصر حجر من ذؤابة عامر ... إمام هدى مستبصر الحكم عادله كأن على أعطافه ماء مذهب ... إذا سمل السّربال طارت رعابله الرعابل: القطع. وشواء مرعبل: مقطع. ورعبلت الشيء أي قطعته. ويقال ثوب سمل وأسمال. ويقال سمل الثوب وأسمل، إذا خلق. وهو الذي يقول: حوراء في دعج صفراء في نعج ... كأنها فضة قد مسها ذهب الحور: شدة بياض العين. والدعج: شدة سواد الحدقة. والنعج: اللين. قالوا: لأن المرأة الرقيقة اللون يكون بياضها بالغداة يضرب إلى الحمرة، وبالعشيّ يضرب إلى الصفرة. ولذلك قال الأعشى: بيضاء ضحوتها وصف ... راء العشية كالعراره وقال آخر: قد علمت بيضاء صفراء الأصل ... لأغنينّ اليوم ما أغنى رجل وقال بشار بن برد: وخذي ملابس زينة ... ومصبّغات فهي أفخر وإذا دخلت تقنّعي ... بالحمر إنّ الحسن أحمر وهذان أعميان قد اهتديا من حقائق هذا الأمر إلى ما لا يبلغه تمييز البصير. ولبشار خاصة في هذا الباب ما ليس لأحد، ولولا أنه في كتاب الرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 والمرأة، وفي باب القول في الإنسان من كتاب الحيوان، أليق وأزكى، لذكرناه في هذا الموضع. ومما ذكروا فيه الوزن قوله: زني القول حتى تعرفي عند وزنهم ... إذا رفع الميزان كيف أميل وقال ابن الزبير الأسديّ، واسمه عبد الله «1» : أعاذل غضي بعض لومك إنني ... أرى الموت لا يرضى بدين ولا رهن وإني أرى دهرا تغيّر صرفه ... ودنيا أراها لا تقوم على وزن ويذكرون الكلام الموزون ويمدحون به، ويفضّلون إصابة المقادير، ويذمون الخروج من التعديل. قال جعفر بن سليمان: ليس طيب الطعام بكثرة الإنفاق وجودة التوابل، وإنما الشأن في إصابة القدر. وقال طارق بن أثال الطائي: ما إن يزال ببغداد يزاحمنا ... على البراذين أشباه البراذين أعطاهم الله أموالا ومنزلة ... من الملوك بلا عقل ولا دين ما شئت من بغلة سفواء ناجية ... ومن أثاث وقول غير موزون «2» وأنشدني بعض الشعراء: رأت رجلا أودى السفار بجسمه ... فلم يبق إلا منطق وجناجن إذا حسرت عنه العمامة راعها ... جميل الحفوف أغفلته الدواهن فإن أك معروق العظام فإنني ... إذا ما وزنت القوم بالقوم وازن (الجناجن: عظام الصدر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وقال مالك بن أسماء في بعض نسائه وكانت لا تصيب الكلام كثيرا، وربما لحنت: أمغطّى مني على بصري للحب ... أم أنت أكمل الناس حسنا وحديث ألذه هو مما ... ينعت الناعتون يوزن وزنا منطق صائب وتلحن أحيا ... نا وخير الحديث ما كان لحنا وقال طرفة في المقدار وإصابته: فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي طلب الغيث على قدر الحاجة، لأن الفاضل ضارّ. وقال النبي صلّى الله عليه وآله في دعائه: «اللهم اسقنا سقيا نافعا» . لأن المطر ربما جاء في غير أبّان الزراعات، وربما جاء والتمر في الجرن، والطعام في البيادر، وربما كان في الكثرة مجاوزا لمقدار الحاجة. وقال النبي صلّى الله عليه وآله: «اللهم حوالينا ولا علينا» . وقال بعض الشعراء لصاحبه: أنا أشعر منك. قال: ولم؟ قال: لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابن عمه. وعاب رؤبة شعر ابنه فقال: «ليس لشعره قران» . وجعل البيت أخا البيت إذا أشبهه وكان حقه أن يوضع إلى جنبه. وعلى ذلك التأويل قال الأعشى: أبا مسمع أقصر فإن قصيدة ... متى تأتكم تلحق بها أخواتها وقال الله عز وجل: وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها. وقال عمرو بن معديكرب: وكلّ أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان وقالوا فيما هو أبعد معنى وأقل لفظا. قال الهذليّ: أعامر لا آلوك إلا مهنّدا ... وجلد أبي عجل وثيق القبائل ويعني بأبي عجل الثور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وقالوا فيما هو أبعد من هذا. قال ابن عسلة الشيباني، واسمه عبد المسيح: وسمّاع مدجنة تعللنا ... حتى ننام تناوم العجم فصحوت والنمري يحسبها ... عمّ السماك وخالة النجم النجم واحد وجمع. والنجم: الثريا في كلام العرب. مدجنة، أي سحابة دائمة. وقال أبو النجم فيما هو أبعد من هذا، ووصف العير والمعيوراء وهو الموضع الذي يكون فيه الأعيار: وظل يوفي الأكم ابن خالها فهذا مما يدل على توسعهم في الكلام، وحمل بعضه على بعض، واشتاق بعضه من بعض. وقال النبي صلّى الله عليه وآله: «نعمت العمة لكم النخلة» ، حين كان بينها وبين الناس تشابه وتشاكل ونسب من وجوه. وقد ذكرنا في ذلك كتاب الزرع والنخل. وفي مثل ذلك قال بعض الفصحاء: شهدت بأن التمر بالزبد طيب ... وأن الحبارى خالة الكروان لأن الحبارى، وإن كانت أعظم بدنا من الكروان، فإن اللون وعمود الصورة واحد، فلذلك جعلها خالته، ورأى أن ذلك قرابة تستحق بها هذا القول. قال كعب الأشقريّ «1» : إلا أكن في الأرض أخطب قائما ... فإني على ظهر الكميت خطيب وقال ثابت قطنة: فإلا أكن فيهم خطيبا فإنني ... بسمر القنا والسيف جدّ خطيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وقالت ليلى الأخيلية: حتى إذا رفع اللواء رأيته ... تحت اللواء على الخميس زعيما وقال آخر: عجبت لأقوام يعيبون خطبتي ... وما منهم في مأقط بخطيب وهؤلاء يفخرون بأن خطبهم التي عليها يعتمدون، السيوف والرماح وإن كانوا خطباء. وقال دريد بن الصّمّة: أبلغ نعيما وأوفى إن لقيتهما ... إن لم يكن كان في سمعيهما صمم فلا يزال شهاب يستضاء به ... يهدي المقانب ما لم تهلك الصّمم عاري الأشاجع معصوب بلمته ... أمر الزعامة في عرنينه شمم المقانب: جمع مقنب، والمقنب: الجماعة من الخيل ليست بالكثيرة. والأشاجع: عروق ظاهر الكف، وهي مغرز الأصابع. واللمة: الشعرة التي ألمّت بالمنكب. وزعيم القوم: رأسهم وسيدهم الذي يتكلم عنهم والزعامة: مصدر الزعيم الذي يسود قومه. وقوله «معصوب بلمته» أي يعصب برأسه كل أمر. عرنينه: أنفه. وقال أبو العباس الأعمى، مولى بني بكر بن عبد مناة في بني عبد شمس: ليت شعري أفاح رائحة المس ... ك وما إن أخال بالخيف إنسي حين غابت بنو أمية عنه ... والبهاليل من بني عبد شمس خطباء على المنابر فرسا ... ن عليها وقالة غير خرس لا يعابون صامتين وإن قا ... لوا أصابوا ولم يقولوا بلبس بحلوم إذا الحلوم استخفّت ... ووجوه مثل الدنانير ملس وقال العجاج: وحاصن من حاصنات ملس ... من الأذى ومن قراف الوقس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 المحصنة: ذوات الزوج. والحاصن: العفيف. والوقس: العيب. وقال امرؤ القيس: ويا ربّ يوم قد أروح مرجّلا ... حبيبا إلى البيض الكواعب أملسا وقال أبو العباس الأعمى: ولم أر حيا مثل حي تحملوا ... إلى الشام مظلومين منذ بريت أعزّ وأمضى حين تشتجر القنا ... وأعلم بالمسكين حيث يبيت وأرفق بالدنيا بأولى سياسة ... إذا كاد أمر المسلمين يفوت إذا مات منهم سيد قام سيد ... بصير بعورات الكلام زميت وقال آخر: لا يغسل العرض من تدنّسه ... والثوب إن مسّ مدنسا غسلا وزلّة الرّجل تستقال ولا ... يكاد رأي يقيلك الزللا وقال آخر في الزلل: ألهفي إذ عصيت أبا يزيد ... ولهفي إذ أطعت أبا العلاء وكانت هفوة من غير ريح ... وكانت زلّة من غير ماء وقال آخر: فإنك لم ينذرك أمرا تخافه ... إذا كنت فيه جاهلا مثل خابر وقال ابن وابصة [اسمه سالم] «1» ، في مقام قام فيه مع ناس من الخطباء: يأيها المتحلي غير شيمته ... ومن سجيته الإكثار والملق أعمد إلى القصد فيما أنت راكبه ... إن التخلق يأتي دونه الخلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 صدت هنيدة لما جئت زائرها ... عني بمطروفة إنسانها غرق وراعها الشيب في رأسي فقلت لها ... كذاك يصفرّ بعد الخضرة الورق بل موقف مثل حد السيف قمت به ... أحمي الذمار وترميني به الحدق فما زللت ولا ألفيت ذا خطل ... إذا الرجال على أمثالها زلقوا قال: وأنشدني لأعرابي من باهلة: سأعمل نصّ العيس حتى يكفّني ... غنى المال يوما أو غنى الحدثان فللموت خير من حياة يرى لها ... على الحر بالإقلال وسم هوان متى يتكلم يلغ حسن حديثه ... وإن لم يقل قالوا عديم بيان كأن الغنى عن أهله، بورك الغنى ... بغير لسان ناطق بلسان وفي مثلها في بعض الوجوه قال عروة بن الورد: ذريني للغنى أسعى فإني ... رأيت الناس شرهم الفقير وأهونهم وأحقرهم لديهم ... وإن أمسى له كرم وخير «1» ويقصى في النديّ وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير «2» وتلقى ذا الغنى وله جلال ... يكاد فؤاد صاحبه يطير قليل ذنبه والذنب جم ... ولكنّ الغنى ربّ غفور وقال ابن عباس رحمه الله: «الهوى إله معبود» . وتلا قول الله عزّ وجل: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ. وقال أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل «3» : تلك عرساي تنطقان على عمد ... لي اليوم قول زور وهتر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 سألتاني الطلاق أن رأتا ما ... لي قليلا قد جئتماني بنكر فلعلّي إن يكثر المال عندي ... ويعرّي من المغارم ظهري وترى أعبد لنا وأواق ... ومناصيف من خوادم عشر ونجرّ الأذيال في نعمة زو ... ل تقولان ضع عصاك لدهر وي كأن من يكن له نشب يحبب ... ومن يفتقر يعش عيش ضرّ ويجنّب سر النجي ولكن ... أخا المال محضر كلّ سرّ المناصيف: الخدم واحدهم منصف وناصف، وقد نصف القوم ينصفهم نصافة، إذا خدمهم. نعمة زول: حسنة. والزول: الخفيف الظريف، وجمعه أزوال. وقال عبيد بن الأبرص في نحو هذا وليس كمثله: تلك عرسي غضبى تريد زيالي ... ألبين تريد أم لدلال إن يكن طبّك الفراق فلا أحفل ... إن تعطفي صدور الجمال أو يكن طبك الدلال فلو في ... سالف الدهر والليالي الخوالي كنت بيضاء كالمهاة وإذ آ ... تيك نشوان مرخيا أذيالي فاتركي مطّ حاجبيك وعيشي ... معنا بالرجاء والتأمال زعمت أنني كبرت وأني ... قلّ مالي وضن عني الموالي وصحا باطلي وأصبحت شيخا ... لا يواتي أمثالها أمثالي إن تريني تغيّر الرأس مني ... وعلا الشيب مفرقي وقذالي فبما أدخل الخباء على مهضومة ... الكشح طفلة كالغزال فتعاطيت جيدها ثم مالت ... ميلان الكثيب بين الرمال ثم قالت فدى لنفسك نفسي ... وفداء لمال أهلك مالي الكشح: الخصر. وقوله: «مهضومة» ، أراد لطيفة. والطفلة: الرخصة الناعمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 [آراء في الخطباء والشعراء والعلماء] قال: وخرج عثمان بن عفان- رحمه الله- من داره يوما، وقد جاء عامر ابن عبد قيس. فقعد في دهليزه، فلما خرج رأى شيخا دميما أشغى ثطّا، في عباءة، فأنكره وأنكر مكانه، فقال: يا أعرابي، أين ربك؟ فقال: بالمرصاد! والشغي: تراكب الأسنان واختلافها. ثط: صغير اللحية. ويقال إن عثمان بن عفان لم يفحمه أحد قط غير عامر بن عبد قيس. ونظر معاوية إلى النخار بن أوس العذري، الخطيب الناسب، في عباءة في ناحية من مجلسه، فأنكره وأنكر مكانه زراية منه عليه، فقال: من هذا؟ فقال النخار: يا أمير المؤمنين، إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فيها! قال: ونظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى هرم بن قطبة، ملتفا في بتّ في ناحية المسجد، ورأى دمامته وقلته، وعرف تقديم العرب له في الحكم والعلم، فأحب أن يكشفه ويسبر ما عنده، فقال: أرأيت لو تنافرا إليك اليوم أيهما كنت تنفر؟ يعني علقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل. فقال: يا أمير المؤمنين: لو قلت فيهما كلمة لأعدتها جذعة. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لهذا العقل تحاكمت العرب إليك. ونظر عمر إلى الأحنف وعنده الوفد، والأحنف ملتف في بتّ له «1» ، فترك جميع القوم واستنطقه، فلما تبعّق منه ما تبعّق، وتكلم بذلك الكلام البليغ المصيب، وذهب ذلك المذهب، لم يزل عنده في علياء، ثم صار إلى أن عقد له الرياسة ثابتا له ذلك، إلى أن فارق الدنيا. ونظر النعمان بن المنذر إلى ضمرة بن ضمرة، فلما رأى دمامته وقلته قال: «تسمع بالمعيديّ لا أن تراه» ، هكذا تقوله العرب. فقال ضمرة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 «أبيت اللعن، إن الرجال لا تكال بالقفزان، ولا توزن في الميزان، وإنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه» . وكان ضمرة خطيبا، وكان فارسا شاعرا شريفا سيّدا. وكان الرمق بن زيد مدح أبا جبيلة الغساني، وكان الرّمّق دميما قصيرا، فلما أنشده وحاوره، قال: «عسل طيب في ظرف سوء» . قال: وكلّم علباء بن الهيثم السدوسي عمر بن الخطاب، وكان علباء أعور دميما، فلما رأى براعته وسمع بيانه، أقبل عمر يصعّد فيه بصره ويحدره، فلما خرج قال عمر: «لكل أناس في جميلهم خبر» . وقال أبو عثمان «1» : وأنشدت سهل بن هارون، قول سلمة بن الخرشب وشعره الذي أرسل به إلى سبيع التغلبي في شأن الرهن التي وضعت على يديه في قتال عبس وذبيان، فقال سهل بن هارون: والله لكأنه قد سمع رسالة عمر ابن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري في سياسة القضاء وتدبير الحكم «2» . والقصيدة قوله: أبلغ سبيعا وأنت سيدنا ... قدما وأوفى رجالنا ذمما إن بغيضا وإن أخوتها ... ذبيان قد ضرموا الذي اضطرما نبّيت أن حكّموك بينهم ... فلا يقولنّ بئس ما حكما إن كنت ذا خبرة بشأنهم ... تعرف ذا حقهم ومن ظلما وتنزل الأمر في منازله ... حكما وعلما وتحضر الفهما ولا تبالي من المحق ولا المبطل ... لا ألة ولا ذمما فاحكم وأنت الحكيم بينهم ... لن يعدموا الحكم ثابتا صتما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 واصدع أديم السواء بينهم ... على رضا من رضي ومن رغما إن كان مالا فقضّ عدّته ... مالا بمال وإن دما فدما حتى ترى ظاهر الحكومة ... مثل الصبح جلى نهاره الظلما هذا وإن لم تطق حكومتهم ... فانبذ إليهم أمورهم سلما الصتم: الصحيح القوي، يقال رجل صتم، إذا كان شديدا. وقال العائشي: كان عمر بن الخطاب- رحمه الله- أعلم الناس بالشعر، ولكنه كان إذا ابتلي بالحكم بين النجاشي والعجلاني «1» ، وبين الحطيئة والزبرقان، كره أن يتعرض للشعراء، واستشهد للفريقين رجالا، مثل حسان بن ثابت وغيره، ممن تهون عليهم سبالهم، فإذا سمع كلامهم حكم بما يعلم، وكان الذي ظهر من حكم ذلك الشاعر مقنعا للفريقين، ويكون هو قد تخلص بعرضه سليما، فلما رآه من لا علم له يسأل هذا وهذا، ظن أن ذلك لجهله بما يعرف غيره. وقال: ولقد أنشدوه شعرا لزهير- وكان لشعره مقدّما- فلما انتهوا إلى قوله: وإن الحقّ مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء قال عمر كالمتعجب من علمه بالحقوق وتفصيله بينها، وإقامته أقسامها: وإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء يردّدن البيت من التعجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وأنشدوه قصيدة عبدة بن الطبيب الطويلة التي على اللام، فلما بلغ المنشد إلى قوله: والمرء ساع لشيء ليس يدركه ... والعيش شحّ وإشفاق وتأميل قال عمر متعجبا: والعيش شح وإشفاق وتأميل يعجّبهم من حسن ما قسّم وما فصّل. وأنشدوه قصيدة أبي قيس بن الأسلت التي على العين، وهو ساكت، فلما انتهى المنشد إلى قوله: الكيس والقوة خير من الإشفاق والفهمة والهاع أعاد عمر البيت وقال: الكيس والقوة خير من الإشفاق والفهّة والهاع وجعل عمر يردد البيت ويتعجب منه. قال محمّد بن سلام، عن بعض أشياخه قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيت شعر. وقال أبو عمرو بن العلاء: كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيّد عليهم مآثرهم ويفخم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء، واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر. ولذلك قال الأول: «الشعر أدنى مروءة السري، وأسرى مروءة الدنيّ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 قال: ولقد وضع قول الشعر من قدر النابغة الذبيانيّ، ولو كان في الدهر الأول ما زاده ذلك إلا رفعة. وروى مجالد عن الشعبي قال: ما رأيت رجلا مثلي، وما أشاء أن ألقى رجلا أعلم مني بشيء إلا لقيته. وقال الحسن البصري: يكون الرجل عابدا ولا يكون عاقلا، ويكون عابدا عاقلا ولا يكون عالما. وكان مسلم بن يسار» عاقلا عالما عابدا. قال: وكان يقال: فقه الحسن، وورع ابن سيرين، وعقل مطرّف، وحفظ قتادة. قال: وذكرت البصرة، فقيل: شيخها الحسن، وفتاها بكر بن عبد الله المزنيّ. قال: والذين بثوا العلم في الدنيا أربعة: قتادة، والزهري، والأعمش، والكلبيّ. وجمع سليمان بن عبد الملك بين قتادة والزهري، فغلب قتادة الزهري، فقيل لسليمان في ذلك، فقال: إنه فقيه مليح. فقال القحذمي: لا، ولكنه تعصب للقرشية، ولانقطاعه إليهم، ولروايته فضائلهم. وكان الأصمعي يقول: «وصلت بالعلم، ونلت بالملح» . وكان سهل بن هارون يقول: «اللسان البليغ والشعر الجيد لا يكادان يجتمعان في واحد، وأعسر من ذلك أن تجتمع بلاغة الشعر، وبلاغة القلم» . والمسجديون «2» يقولون: من تمنى رجلا حسن العقل، حسن البيان، حسن العلم، تمنى شيئا عسيرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 [ذم النوك] وكانوا يعيبون النّوك والعيّ والحمق، وأخلاق النساء والصبيان. قال الشاعر: إذا ما كنت متخذا خليلا ... فلا تثقن بكلّ أخي إخاء وإن خيرت بينهم فألصق ... بأهل العقل منهم والحياء فإن العقل ليس له إذا ما ... تفاضلت الفضائل من كفاء وإن النوك للأحساب داء ... وأهون دائه داء العياء ومن ترك العواقب مهملات ... فأيسر سعيه سعي العناء فلا تثقنّ بالنوكي لشيء ... وإن كانوا بني ماء السماء فليسوا قابلي أدب فدعهم ... وكن من ذاك منقطع الرجاء وقال آخر في التضييع والنّوك: ومن ترك العواقب مهملات ... فأيسر سعيه أبدا تباب فعش في جدّ أنوك ساعدته ... مقادير يخالفها الصواب ذهاب المال في حمد وأجر ... ذهاب لا يقال له ذهاب وقال آخر في مثل ذلك: أرى زمنا نوكاه أسعد أهله ... ولكنما يشقى به كلّ عاقل مشى فوقه رجلاه والرأس تحته ... فكبّ الأعالي بارتفاع الأسافل وقال الآخر: فلم أر مثل الفقر أوضع للفتى ... ولم أر مثل المال أرفع للرّذل ولم أر عزّا لامرىء كعشيرة ... ولم أر ذلا مثل نأي عن الأصل ولم أر من عدم أضر على امرىء ... إذا عاش وسط الناس من عدم العقل وقال آخر: تحامق مع الحمقى إذا ما لقيتهم ... ولاقهم بالنوك فعل أخي الجهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وخلّط إذا لاقيت يوما مخلّطا ... يخلّط في قول صحيح وفي هزل فإني رأيت المرء يشقى بعقله ... كما كان قبل اليوم يسعد بالعقل وقال آخر: وأنزلني طول النوى دار غربة ... إذا شئت لاقيت امرأ لا أشاكله فحامقته حتى يقال سجية ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله وقال بشر بن المعتمر: وإذا الغبي رأيته مستغنيا ... أعيا الطبيب وحيلة المحتال وأنشدني آخر: وللدهر أيام فكن في لباسه ... كلبسته يوما أجدّ وأخلقا وكن أكيس الكيسي إذا ما لقيتهم ... وإن كنت في الحمقى فكن أنت أحمقا وأنشدني آخر: ولا تقربي يا بنت عمي بوهة ... من القوم دفناسا غبيا مفّندا «1» وإن كان أعطى رأس ستين بكرة ... وحكما على حكم وعبدا مولدا ألا فاحذري لا توردنّك هجمة ... طوال الذرى جبسا من القوم قعددا «2» وأنشدني آخر: كسا الله حيّي تغلب ابنة وائل ... من اللؤم أظفارا بطيئا نصولها إذا ارتحلوا عن دار ضيم تعاذلوا ... عليها وردوا وفدهم يستقيلها وأنشدني آخر: وإن عناء إن تفهّم جاهلا ... ويحسب جهلا أنه منك أفهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وقال جرير: ولا يعرفون الشر حتى يصيبهم ... ولا يعرفون الأمر إلا تدبّرا وقال الأعرج المعني الطائي «1» : لقد علم الأقوام إن قد فررتم ... ولم تبدؤهم بالمظالم أولا فكونوا كداعي كرة بعد فرة ... ألا ربّ من قد فر ثمّت أقبلا فإن أنتم لم تفعلوا فتبدلوا ... بكل سنان معشر الغوث مغزلا واعطوهم حكم الصبي بأهله ... وإني لأرجو أن يقولوا بأن لا ويقال: «أظلم من صبي» و «أكذب من صبي» و «أخرق من صبي» . وأنشد: ولا تحكما حكم الصبي فإنه ... كثير على ظهر الطريق مجاهله قال: وسئل دغفل بن حنظلة، عن بني عامر فقال: «أعناق ظباء، وأعجاز نساء» . قيل: فما تقول في أهل اليمن؟ قال: «سيّد وأنوك» «2» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 باب في ذكر المعلمين «1» ومن أمثال العامة: «أحمق من معلم كتّاب» . وقد ذكرهم صقلاب فقال: وكيف يرجّى الرأي والعقل عند من ... يروح على أنثى ويغدو على طفل وفي قول بعض الحكماء: «لا تستشيروا معلما ولا راعي غنم ولا كثير القعود مع النساء» . وقالوا: «لا تدع أم صبيك تضربه، فإنه أعقل منها وإن كانت أسن منه» . وقد سمعنا في المثل: «أحمق من راعي ضأن ثمانين» . فأما استحماق رعاة الغنم في الجملة فكيف يكون ذلك صوابا وقد رعى الغنم عدة من جلة الأنبياء صلى الله عليهم. ولعمري إن الفدّادين من أهل الوبر ورعاة الإبل ليتنبلون على رعاة الغنم، ويقول أحدهم لصاحبه: «إن كنت كاذبا فحلبت قاعدا» . وقال الآخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 ترى حالب المعزى إذا صرّ قاعدا ... وحالبهن القائم المتطاول وقال امرأة من غامد، في هزيمة ربيعة بن مكدّم، لجمع غامد وحده: ألا هل أتاها على نأيها ... بما فضحت قومها غامد تمنيتم مائتي فارس ... فردكم فارس واحد فليت لنا بارتباط الخيو ... ل ضأنا لها حالب قاعد وقد سمعنا قول بعضهم: الحمق في الحاكة والمعلمين والغزالين. قال: والحاكة أقل وأسقط من أن يقال لها حمقى. وكذلك الغزالون، لأن الأحمق هو الذي يتكلم بالصواب الجيد ثم يجيء بخطأ فاحش والحائك ليس عنده صواب جيد في فعال ولا مقال، إلا أن يجعل جودة الحياكة من هذا الباب، وليس هو من هذا في شيء. ويقال: فلان أحمق. فإذا قالوا مائق، فليس يريدون ذلك المعنى بعينه، وكذلك إذا قالوا أنوك. وكذلك إذا قالوا رقيع. ويقولون: فلان سليم الصدر، ثم يقولون عيي، ثم يقولون أبله. وكذلك إذا قالوا معتوه ومسلوس وأشباه ذلك. قال أبو عبيدة: يقال للفارس شجاع، فإذا تقدم في ذلك قيل بطل، فإذا تقدم شيئا قيل بهمة، فإذا صار إلى الغاية قيل أليس. وقال العجاج: أليس عن حوبائه سخيّ وهذا المأخذ يجري في الطبقات كلها: من جود وبخل، وصلاح وفساد، ونقصان ورجحان. وما زلت أسمع هذا القول في المعلمين. والمعلمون عندي على ضربين: منهم رجال ارتفعوا عن تعليم أولاد العامة إلى تعليم أولاد الخاصة، ومنهم رجال ارتفعوا عن تعليم أولاد الخاصة إلى تعليم أولاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 الملوك أنفسهم المرشيحن للخلافة. فكيف تستطيع أن تزعم أن مثل علي بن حمزة الكسائي، ومحمد بن المستنير الذي يقال له قطرب «1» ، وأشباه هؤلاء يقال لهم حمقى. ولا يجوز هذا القول على هؤلاء ولا على الطبقة التي دونهم. فإن ذهبوا إلى معلمي كتاتيب القرى فإن لكل قوم حاشية وسفلة، فما هم في ذلك إلا كغيرهم. وكيف تقول مثل ذلك في هؤلاء وفيهم الفقهاء والشعراء والخطباء، مثل الكميت بن زيد، وعبد الحميد الكاتب، وقيس بن سعد «2» ، وعطاء بن أبي رباح «3» ، ومثل عبد الكريم بن أبي أمية «4» ، وحسين المعلم «5» ، وأبي سعيد المعلم. ومن المعلمين: الضحاك بن مزاحم. وأما معبد الجهني وعامر الشعبي، فكانا يعلمان أولاد عبد الملك بن مروان. وكان معبد يعلم سعيدا، ومنهم أبو سعيد المؤدب، وهو غير أبي سعيد المعلم، وكان يحدث عن هشام بن عروة وغيرهم. ومنهم عبد الصمد بن عبد الأعلى، وكان معلم ولد عتبة بن أبي سفيان. وكان إسماعيل بن علي ألزم بعض بنيه عبد الله بن المقفع ليعلمه. وكان أبو بكر عبد الله بن كيسان معلما. ومنهم محمد بن السكن «6» . وما كان عندنا بالبصرة رجلان أروى لصنوف العلم، ولا أحسن بيانا، من أبي الوزير وأبي عدنان المعلمين، وحالهما من أول ما أذكر من أيام الصبا. وقد قال الناس في أبي البيداء، وفي أبي عبد الله الكاتب، وفي الحجاج بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 يوسف وأبيه ما قالوا، وقد أنشدوا مع هذا الخبر شاهدا من الشعر على أن الحجاج وأباه كانا معلمين بالطائف. ثم رجع بنا القول إلى الكلام الأول. قالوا: أحق الناس بالرحمة عالم يجري عليه حكم جاهل. قال: وكتب الحجاج إلى المهلب يعجله في حرب الأزارقة ويسمعه، فكتب إليه المهلب: «إن البلاء كل البلاء أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره» . [خير الكلام الوسط] وقال بعض الربانيين «1» من الأدباء، وأهل المعرفة من البلغاء ممن يكره التشادق والتعمّق، ويبغض الإغراق في القول، والتكلّف والاجتلاب «2» ، ويعرف أكثر ادواء الكلام ودوائه، وما يعتري المتكلم من الفتنة بحسن ما يقول، وما يعرض للسامع من الافتتان بما يسمع، والذي يورث الاقتدار من التهكم والتسلط، والذي يمكن الحاذق والمطبوع من التمويه للمعاني، والخلابة وحسن المنطق، فقال في بعض مواعظه: «أنذركم حسن الألفاظ، وحلاوة مخارج الكلام، فإن المعنى إذا اكتسى لفظا حسنا وأعاره البليغ مخرجا سهلا، ومنحه المتكلم دلا متعشقا، صار في قلبك أحلى، ولصدرك أملا. والمعاني إذا كسيت الألفاظ الكريمة، وألبست الأوصاف الرفيعة، تحولت في العيون عن مقادير صورها، وأربت على حقائق أقدارها، بقدر ما زينت، وحسب ما زخرفت. فقد صارت الألفاظ في معاني المعارض «3» ، وصارت المعاني في معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 الجواري. والقلب ضعيف، وسلطان الهوى قوي، ومدخل خدع الشيطان خفي» . فاذكر هذا الباب ولا تنسه، ولا تفرّط فيه، فإن عمر بن الخطاب رحمه الله لم يقل للأحنف بن قيس- بعد أن احتبسه حولا مجرّما، «1» ليستكثر منه، وليبالغ في تصفح حاله والتنقير عن شأنه-: «إن رسول الله صلّى الله عليه وآله قد كان خوّفنا كل منافق عليم، وقد خفت أن تكون منهم» إلا لما كان راعه من حسن منطقه، ومال إليه لما رأى من رفقه وقلة تكلّفه، ولذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «» إن من البيان لسحرا» - وقال عمر بن عبد العزيز لرجل أحسن في طلب حاجة وتأتى لها بكلام وجيز، ومنطق حسن: «هذا والله السحر الاحلال» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «لا خلابة» . فالقصد في ذلك أن تجتنب السوقي والوحشي، ولا تجعل همك في تهذيب الألفاظ، وشغلك في التخلص إلى غرائب المعاني. وفي الاقتصاد بلاغ، وفي التوسط مجانبة للوعورة، وخروج من سبيل من لا يحاسب نفسه. وقد قال الشاعر: عليك بأوساط الأمور فإنها ... نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا وقال الآخر: لا تذهبنّ في الأمور فرطا ... لا تسألنّ إن سألت شططا وكن من الناس جميعا وسطا وليكن كلامك ما بين المقصر والغالي، فإنك تسلم من المحنة عند العلماء، ومن فتنة الشيطان. وقال أعرابي للحسن: علمني دينا وسوطا، لا ذاهبا شطوطا، ولا هابطا هبوطا. فقال له الحسن: لئن قلت ذاك إن خير الأمور أوساطها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وجاء في الحديث: «خالطوا الناس وزايلوهم» . وقال علي بن أبي طالب رحمه الله: «كن في الناس وسطا وامش جانبا» . وقال عبد الله بن مسعود في خطبته: «وخير الأمور أوساطها، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، نفس تنجيها، خير من إمارة لا تحصيها» . وكانوا يقولون: أكره الغلوّ كما تكره التقصير. وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول لأصحابه: «قولوا بقولكم ولا يستحوذنّ عليكم الشيطان» . وكان يقول: «وهل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 باب من الخطب القصار من خطب السلف، ومواعظ من مواعظ النساك، وتأديب من تأديب العلماء قال رجل لأبي هريرة النحويّ: أريد أن أتعلّم العلم وأخاف أن أضيّعه. فقال: «كفى بترك العلم إضاعة» . وسمع الأحنف رجلا يقول: «التعلم في الصغر كالنقش في الحجر» . فقال الأحنف: «الكبير أكبر عقلا، ولكنه أشغل قلبا» . وقال أبو الدرداء: ما لي أرى علماءكم يذهبون وجهالكم لا يتعلمون. وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلوا» . قالوا: ولذلك قال عبد الله بن عباس رحمه الله، حين دلّى زيد بن ثابت في القبر، رحمه الله: «من سرّه أن يرى كيف ذهاب العلم فلينظر، فهكذا ذهابه» . وقال بعض الشعراء في بعض العلماء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 أبعدت من يومك الفرار فما ... جاوزت حيث انتهى بك القدر لو كان ينجي من الردى حذر ... نجّاك مما أصابك الحذر يرحمك الله من أخي ثقة ... لم يك في صفو ودّه كدر فهكذا يفسد الزمان ويفنى ال ... علم منه ويدرس الأثر قال: وقال قتادة: لو كان أحد مكتفيا من العلم لاكتفى نبي الله موسى عليه السلام، إذ قال للعبد الصالح: (هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا) . أبو العباس التميمي قال: قال طاوس: «الكلمة الصالحة صدقة» . وقال ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن أبيه عن جده، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنه قال: «فضل لسانك تعبّر به عن أخيك الذي لا لسان له صدقة» . وقال الخليل: «تكثّر من العلم لتعرف، وتقلّل منه لتحفظ» . وقال الفضيل «1» : «نعمت الهدية الكلمة من الحكمة يحفظها الرجل حتى يلقيها إلى أخيه» . وكان يقال: يكتب الرجل أحسن ما يسمع، ويحفظ أحسن ما يكتب. وكان يقال: اجعل ما في كتبك بيت مال: وما في قلبك للنفقة. وقال أعرابي: حرف في قلبك خير من عشرة في طومارك «2» . وقال عمر بن عبد العزيز: «ما قرن شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم، ومن عفو إلى قدرة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وكان ميمون بن سياه «1» ، إذا جلس إلى قوم قال: إنّا قوم منقطع بنا. فحدثونا أحاديث نتجمل بها. قال: وفخر سليم مولى زياد، بزياد عند معاوية، فقال معاوية: أسكت، فو الله ما أدرك صاحبك شيئا بسيفه إلا وقد أدركت أكثر منه بلساني. وضرب الحجاج أعناق أسرى، فلما قدموا إليه رجلا لتضرب عنقه قال: والله لئن كنا أسأنا في الذنب فما أحسنت في العفو! فقال الحجاج: أف لهذه الجيف، أما كان فيها أحد يحسن مثل هذا الكلام! وأمسك عن القتل. وقال بشير الرّجّال: «إني لأجد في قلبي حرا لا يذهبه إلا برد العدل أو حر السنان» . قال: وقدموا رجلا من الخوارج إلى عبد الملك بن مروان لتضرب عنقه، ودخل على عبد الملك ابن له صغير قد ضربه المعلم، وهو يبكي، فهمّ عبد الملك بالمعلم، فقال له الخارجي: دعوه يبكي فإنه أفتح لجرمه، وأصح لبصره، وأذهب لصوته. قال له عبد الملك: أما يشغلك ما أنت فيه عن هذا؟ قال الخارجي: ما ينبغي لمسلم أن يشغله عن قول الحق شيء! فأمر بتخلية سبيله. قال: وقال زياد على المنبر: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يقطع بها ذنب عنز مصور «2» ، لو بلغت أمامه سفك بها دمه» . وقال: وقال إبراهيم بن أدهم «3» : «أعربنا كلامنا فما نحن نلحن، ولحنّا في أعمالنا فما نعرب حرفا» . وأنشد: نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 قال: وعزل عمر زيادا عن كتابة أبي موسى الأشعري، في بعض قدماته فقال له زياد: أعن عجز أم عن خيانة؟ قال: لا عن واحدة منهما، ولكني أكره أن أحمل على العامّة فضل عقلك. قال: وبلغ الحجاج موت أسماء بن خارجة فقال: هل سمعتم بالذي عاش ما شاء ومات حين شاء! قال: وكان يقال: «كدر الجماعة خير من صفو الفرقة» . قال أبو الحسن: مرّ عمر بن ذر «1» ، بعبد الله بن عياش المنتوف «2» ، وقد كان سفه عليه فأعرض عنه، فتعلق بثوبه ثم قال له: «يا هناه، إنّا لم نجد لك إن عصيت الله فينا خيرا من أن نطيع الله فيك» . وهذا كلام أخذه عمر بن ذر، عن عمر بن الخطاب رحمه الله. قال عمر: «إني والله ما أدع حقا لله لشكاية تظهر، ولا لضب يحتمل، ولا لمحاباة بشر، وإنك والله ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن نطيع الله فيه» . قال: وكتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص: «يا سعد سعد بني أهيب، إن الله إذا أحبّ عبدا حبّبه إلى خلقه، فاعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس، واعلم أن ما لك عند الله مثل ما لله عندك» . قال: ومات ابن لعمر بن ذر فقال: «أي بنيّ، شغلني الحزن لك، عن الحزن عليك» . وقال رجل من بني مجاشع: جاء الحسن في دم كان فينا، فخطب فأجابه رجل فقال: قد تركت ذلك لله ولوجوهكم. فقال الحسن: لا تقل هكذا، بل قل: لله ثم لوجوهكم. وآجرك الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وقال: ومرّ رجل بأبي بكر ومعه ثوب، فقال: أتبيع الثوب؟ فقال: لا عافاك الله. فقال أبو بكر رضي الله عنه: لقد علّمتم لو كنتم تعلمون. قل: لا، وعافاك الله. قال: وسأل عمر بن الخطاب رجلا عن شيء فقال: الله أعلم. فقال عمر: لقد شقينا إن كنا لا نعلم أن الله أعلم. إذا سئل أحدكم عن شيء لا يعلمه فليقل: لا أدري. وكان أبو الدرداء يقول: أبغض الناس إليّ أن أظلمه من لا يستعين عليّ بأحد إلا بالله. وذكر ابن ذر الدنيا فقال: كأنكم زادكم في حرصكم عليها ذمّ الله لها. ونظر أعرابي إلى مال له كثير، من الماشية وغيرها، فقال: «ينعة، ولكل ينعة استحشاف «1» » . فباع ما هناك من ماله، ثم يمّم ثغرا من ثغور المسلمين، فلم يزل به حتى أتاه الموت. قال: وتمنى قوم عند يزيد الرقاشي، فقال: أتمنى كما تمنيتم؟ قالوا: تمنّه. قال: «ليتنا لم نخلق، وليتنا إذ خلقنا لم نعص، وليتنا إذ عصينا لم نمت، وليتنا إذ متنا لم نبعث، وليتنا إذ بعثنا لم نحاسب، وليتنا إذ حوسبنا لم نعذّب، وليتنا إذ عذبنا لم نخلّد» . وقال الحجاج: «ليت الله إذ خلقنا للآخرة كفانا أمر الدنيا، فرفع عنا الهم بالمأكل والمشرب والملبس والمنكح. أوليته إذا أوقعنا في هذه الدنيا كفانا أمر الآخرة، فرفع عنا الاهتمام بما ينجّي من عذابه. فبلغ كلامهما عبد الله بن الحسن بن حسن، أو علي بن الحسين، فقال: ما علما في التمني شيئا، ما اختاره الله فهو خير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وقال أبو الدرداء: من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها. قال شريح «1» : «الحدة كناية عن الجهل» . وقال أبو عبيدة: «العارضة «2» كناية عن البذاء» . قال: وإذا قالوا فلان مقتصد فتلك كناية عن البخل، وإذا قالوا للعامل مستقص فتلك كناية عن الجور. وقال الشاعر، أبو تمام الطائي: كذبتم ليس يزهى من له حسب ... ومن له نسب عمّن له أدب إني لذو عجب منكم أردده ... فيكم، وفي عجبي من زهوكم عجب لجاجة لي فيكم ليس يشبهها ... إلا لجاجتكم في أنكم عرب وقيل لأعرابية مات ابنها: ما أحسن عزاءك عن ابنك؟ قالت: إن مصيبته أمّنتني من المصائب بعده. قال: وقال سعيد بن عثمان بن عفان رحمه الله لطويس المغني: أيّنا أسنّ أنا أم أنت يا طويس؟ فقال: «بأبي أنت وأمي، لقد شهدت زفاف أمك المباركة إلى أبيك الطيب» . فانظر إلى حذقه وإلى معرفته بمخارج الكلام، كيف لم يقل: زفاف أمك الطيبة إلى أبيك المبارك. وهكذا كان وجه الكلام فقلب المعنى. قال: وقال رجل من أهل الشام: كنت في حلقة أبي مسهر «3» ، في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 مسجد دمشق، فذكرنا الكلام وبراعته، والصمت ونبالته، فقال: كلا إن النجم ليس كالقمر، إنك تصف الصمت بالكلام، ولا تصف الكلام بالصمت. وقال الهيثم بن صالح لابنه وكان خطيبا: يا بني إذا قلّلت من الكلام أكثرت من الصواب، وإذا أكثرت من الكلام أقللت من الصواب. قال: يا أبه، فإن أكثرت وأكثرت؟ - يعني كلاما وصوابا- قال: يا بني، ما رأيت موعوظا أحق بأن يكون واعظا منك! قال: وقال ابن عباس: «لولا الوسواس، ما باليت ألا أكلم الناس» . قال: وقال عمر بن الخطاب رحمه الله: «ما تستبقوه من الدنيا تجدوه في الآخرة» . وقال رجل للحسن: إني أكره الموت. قال: ذاك أنك أخّرت مالك، ولو قدمته لسرك أن تلحق به. قال: وقال عامر بن الظرب العدواني: «الرأي نائم، والهوى يقظان، فمن هنالك يغلب الهوى الرأي» . وقال: مكتوب في الحكمة: «اشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على من شكر لك» . وقال بعضهم: «أيها الناس، لا يمنعنّكم سوء ما تعلمون منا أن تقبلوا أحسن ما تسمعون منا» . وقال عبد الملك على المنبر: «ألا تنصفوننا يا معشر الرعية؟ تريدون منا سيرة أبي بكرة وعمر ولم تسيروا في أنفسكم ولا فينا بسيرة رعية أبي بكر وعمر، أسأل الله أن يعين كلا على حال» . وقال رجل من العرب: «أربع لا يشبعن من أربعة: أنثى من ذكر، وعين من نظر، وأرض من مطر، وأذن من خبر» . قال: وقال موسى ع لأهله: امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 بِخَبَرٍ ، فقال بعض المعترضين: فقد قال: أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ . فقال أبو عقيل: «لم يعرف موقع النار من أبناء السبيل، ومن الجائع المقرور» . وقال لبيد بن ربيعة: ومقام ضيق فرجته ... ببيان ولسان وجدل لو يقوم الفيل أو فيّاله ... زلّ عن مثل مقامي وزحل ولدى النعمان مني موطن ... بين فاثور أفاق فالدّحل «1» إذ دعتني عامر أنصرها ... فالتقى الألسن كالنبل الدّول «2» فرميت القوم رشقا صائبا ... ليس بالعصل ولا بالمقثعل «3» فانتضلنا وابن سلمى قاعد ... كعتيق الطير يغضي ويجل وقبيل من لكيز شاهد ... رهط مرجوم، ورهط ابن المعل وقال لبيد أيضا: وأبيض يجتاب الخروق على الوجى ... خطيبا إذا التفّ المجامع فاصلا يجتاب: يفتعل من الجوب، وهو أن يجوب البلاد، أي يدخل فيها ويقطعها. والخروق: جمع خرق، والخرق: الفلاة الواسعة. والوجى: الحفا، مقصور كما ترى، وأنه ليتوجى في مشيته، وهو وج. وقال رؤبة: به الرذايا من وج ومسقط وقال أيضا لبيد: لو كان حيّ في الحياة مخلّدا ... في الدهر أدركه أبو يكسوم والحارثان كلاهما ومحرّق ... أو تبع أو فارس اليحموم «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 فدعي الملامة ويب غيرك إنه ... ليس النوال بلوم كل كريم ولقد بلوتك وابتليت خليقتي ... ولقد كفاك معلمي تعليمي وله أيضا: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب يتأكّلون مغالة وخيانة ... ويعاب قائلهم وإن لم يشغب والخلف: البقية الصالحة من ولد الرجل وأهله. والخلف ضد هذا. وقال زيد بن جندب، في ذكر الشّغب: ما كان أغنى رجالا ضلّ سعيهم ... عن الجدال وأغناهم عن الشّغب وقال آخر في الشغب: إني إذا عاقبت ذو عقاب ... وإن تشاغبني فذو شغاب وقال ابن أحمر بن العمرّد» : وكم حلّها من تيجان سميدع ... مصافي الندى ساق بيهماء مطعم التيجان: الذي يعرض في كل شيء ليغنى فيه والسميدع: الكريم. والندى: السخاء. واليهماء: الأرض التي لا يهتدى فيها لطريق. طوي البطن متلاف إذا هبت الصّبا ... على الأمر غواص وفي الحي شيظم «2» وقال: هل لامني قوم لموقف سائل ... أو في مخاصمة اللجوج الأصيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 الأصيد: السيد الرافع رأسه، الشامخ بأنفه. وقال في التطبيق: فلما أن بدا القعقاع لجت ... على شرك تناقله نقالا تعاورن الحديث وطبّقته ... كما طبقت بالنعل المثالا «1» قال: وهذا التطبيق غير التطبيق الأول. وقال آخر: لو كنت ذا علم علمت وكيف لي ... بالعلم بعد تدبّر الأمر يعني إدبار الأمر. [عودة إلى المفاضلة بين الصمت والكلام] وقال المعترض على أصحاب الخطابة والبلاغة: قال لقمان لابنه: «أي بنيّ، إني قد ندمت على الكلام، ولم أندم على السكوت» . وقال الشاعر: ما أن ندمت على سكوتي مرة ... ولقد ندمت على الكلام مرارا وقال الآخر: خلّ جنبيك لرام ... وامض عنه بسلام مت بداء الصمت خير ... لك من داء الكلام إنما المسلم من أل ... جم فاه بلجام وقال الآخر في الاحتراس والتحذير: اخفض الصوت إن نطقت بليل ... والتفت بالنهار قبل الكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وقال آخر في مثل ذلك: لا أسأل الناس عما في ضمائرهم ... ما في الضمير لهم من ذاك يكفيني وقال حمزة بن بيض «1» : لم يكن عن جناية لحقتني ... لا يساري ولا يميني جنتني بل جناها أخ عليّ كريم ... وعلى أهلها براقش تجني لأن هذه الكلبة، وهي براقش، نبحت غزّى، قد مروا من ورائهم وقد رجعوا خائبين مخفقين، فلما نبحتهم استدلوا بنباحها على أهلها واستباحوهم، ولو سكتت كانوا قد سلموا. (فضرب ابن بيض به المثل) . وقال الأخطل: تنقّ بلا شيء شيوخ محارب ... وما خلتها كانت تريش ولا تبري ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدلّ عليها صوتها حية البحر النقيق: صياح الضفادع. وقالوا: «الصمت حكم وقليل فاعله» . وقالوا: «استكثر من الهيبة صامت» . وقيل لرجل من كلب طويل الصمت: بحق ما سمتكم العرب خرس العرب. فقال: «أسكت فأسلم، وأسمع فأعلم» . وكانوا يقولون: «لا تعدلوا بالسلامة شيئا» . ولا تسمع الناس يقولون: جلد فلان حين سكت، ولا قتل فلان حين صمت. وتسمعهم يقولون: جلد فلان حين قال كذا، وقتل حين قال كذا وكذا. وفي الحديث المأثور: «رحم الله من سكت فسلم، أو قال فغنم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 والسلامة فوق الغنيمة، لأن السلامة أصل والغنيمة فرع. وقال النبي صلّى الله عليه وآله: «إن الله يبغض البليغ الذي يتخلّل بلسانه، تخلل الباقرة بلسانها» . وقيل: «لو كان الكلام من فضة، لكان السكوت من ذهب» . قال صاحب البلاغة والخطابة، وأهل البيان وحب التبيّن: إنما عاب النبي صلّى الله عليه وآله المتشادقين والثرثارين والذي يتخلّل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها، والأعرابيّ المتشادق، وهو الذي يصنع بفكيه وبشدقيه ما لا يستجيزه أهل الأدب من خطباء أهل المدر، فمن تكلف ذلك منكم فهو أعيب، والذم له ألزم. وقد كان الرجل من العرب يقف الموقف فيرسل عدة أمثال سائرة، ولم يكن الناس جميعا ليتمثلوا بها إلا لما فيها من المرفق والانتفاع، ومدار العلم على الشاهد والمثل، وإنما حثوا على الصمت لأن العامة إلى معرفة خطأ القول، أسرع منهم إلى معرفة خطأ الصمت. ومعنى الصامت في صمته أخفى من معنى القائل في قوله، وإلا فإن السكوت عن قول الحقّ في معنى النطق بالباطل. ولعمري إن الناس إلى الكلام لأسرع، لأن في أصل التركيب أن الحاجة إلى القول والعمل أكثر من الحاجة إلى ترك العمل، والسكوت عن جميع القول. وليس الصمت كله أفضل من الكلام كله، ولا الكلام كله أفضل من السكوت كله، بل قد علمنا أن عامة الكلام أفضل من عامة السكوت. وقد قال الله عز وجل: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ . فجعل سمعه وكذبه سواء. وقال الشاعر: بني عدي ألا يا انهوا سفيهكم ... إن السفيه إذا لم ينه مأمور وقال آخر: فإن أنا لم آمر ولم أنه عنكما ... ضحكت له حتى يلجّ ويستشري وكيف يكون الصمت أنفع، والإيثار له أفضل، ونفعه لا يكاد يجاوز رأس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 صاحبه، ونفع الكلام يعم ويخص، والرواة لم ترو سكوت الصامتين، كما روت كلام الناطقين، وبالكلام ارسل الله أنبياءه لا بالصمت، ومواضع الصمت المحمودة قليلة، ومواضع الكلام المحمودة كثيرة، وطول الصمت يفسد اللسان. وقال بكر بن عبد الله المزني: «طول الصمت حبسة» كما قال عمر بن الخطاب رحمه الله: «ترك الحركة عقلة» . وإذا ترك الإنسان القول ماتت خواطره، وتبلّدت نفسه، وفسد حسّه. وكانوا يروون صبيانهم الأرجاز، ويعلّمونهم المناقلات، ويأمرونهم برفع الصوت وتحقيق الإعراب، لأن ذلك يفتق اللهاة، ويفتح الجرم «1» . واللسان إذا أكثرت تقليبه رق ولان، وإذا أقللت تقليبه وأطلت إسكاته جسأ وغلظ. وقال عباية الجعفيّ: «لولا الدربة وسوء العادة لأمرت فتياننا أن يماري بعضهم بعضا» . وأية جارحة منعتها الحركة، ولم تمرّنها على الاعتمال، أصابها من التعقّد على حسب ذلك لمنع. ولم قال رسول الله صلّى الله عليه وآله للنابغة الجعدي: «لا يفضض الله فاك» ؟ ولم قال لكعب بن مالك: «ما نسي الله لك مقالك ذلك» ؟ ولم قال لهيذان بن شيخ: «ربّ خطيب من عبس» ؟ ولم قال لحسان: «هيّج الغطاريف على بني عبد مناف، والله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام، في غبش الظلام» «2» ؟ وما نشك أنه عليه السلام قد نهى عن المراء، وعن التزيد والتكلف، وعن كل ما ضارع الرياء والسمعة، والنفج والبذخ، وعن التهاتر والتشاعب، وعن المماتنة والمغالبة «3» . فأما نفس البيان، فكيف ينهى عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وأبين الكلام كلام الله، وهو الذي مدح التبيين وأهل التفصيل. وفي هذا كفاية إن شاء الله. وقال دغفل بن حنظلة: إن للعلم أربعة: آفة، ونكدا، وإضاعة، واستجاعة. فآفته النسيان، ونكده الكذب، وإضاعته وضعه في غير موضعه، واستجاعته أنك لا تشبع منه. وإنما عاب الاستجاعة لسوء تدبير أكثر العلماء، ولخرق سياسة أكثر الرواة، لأن الرواة إذا شغلوا عقولهم بالازدياد والجمع، عن تحفظ ما قد حصلوه، وتدبّر ما قد دونوه، كان ذلك الازدياد داعيا إلى النقصان، وذلك الربح سببا للخسران. وجاء في الحديث: «منهومان لا يشبعان: منهوم في العلم، ومنهوم في المال» . وقالوا: علم علمك، وتعلم علم غيرك، فإذا أنت قد علمت ما جهلت، وحفظت ما علمت. وقال الخليل بن أحمد: اجعل تعلمك دراسة لعلمك، واجعل مناظرة المتعلم تنبيها على ما ليس عندك. وقال بعضهم- وأظنه بكر بن عبد الله المزنيّ-: لا تكدّوا هذه القلوب ولا تهملوها، فخير الفكر ما كان عقب الجمام، ومن أكره بصره عشي. وعاودوا الفكرة عند نبوات القلوب، واشحذوها بالمذاكرة، ولا تيأسوا من إصابة الحكمة إذا امتحنتم ببعض الاستغلاق، فإن من أدام قرع الباب ولج. وقال الشاعر: إذا المرء أعيته السيادة ناشئا ... فمطلبها كهلا عليه شديد وقال الأحنف: «السؤدد مع السواد» . وتقول الحكماء: «من لم ينطق بالحكمة قبل الأربعين لم يبلغ فيها» . وأنشد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 ودون الندى في كل قلب ثنية ... لها مصعد حزن ومنحدر سهل وودّ الفتى في كل نيل ينيله ... إذا ما انقضى، لو أن نائله جزل وقال الهذلي: وإن سيادة الأقوام فاعلم ... لها صعداء مطلبها طويل أترجو أن تسود ولا تعنّى ... وكيف يسود ذو الدّعة البخيل صالح بن سليمان، عن عتبة بن عمر عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: «ما رأيت عقول الناس إلا وقد كاد يتقارب بعضها من بعض، إلا ما كان من الحجاج وإياس بن معاوية، فإن عقولهما كانت ترجح على عقول الناس» . أبو الحسن قال: سمعت أبا الصغدي الحارثي يقول: كان الحجّاج أحمق، بنى مدينة واسط في بادية النبط ثم حماهم دخولها. فلما مات دلفوا إليها من قريب. وسمعت قحطبة الخشني يقول: كان أهل البصرة لا يشكون أنه لم يكن بالبصرة رجل أعقل من عبيد الله بن الحسن، وعبيد الله بن سالم. وقال معاوية لعمرو بن العاص: إن أهل العراق قد قرنوا بك رجلا طويل اللسان، قصير الرأي، فأجد الحزّ وطبّق المفصل، وإياك أن تلقاه برأيك كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 باب ما قالوا فيه من الحديث الحسن الموجز المحذوف، القليل الفضول قال الشاعر: لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رقيق الحواشي لا هراء ولا نزر وقال ابن أحمر: تضع الحديث على مواضعه ... وكلامها من بعده نزر وقال الآخر: حديث كطعم الشهد حلو صدوره ... وإعجازه الخطبان دون المحارم «1» وقال بشار بن برد: أنس غرائر ما هممن بريبة ... كظباء مكة صيدهن حرام يحسبن من أنس الحديث زوانيا ... ويصدهن عن الخنا الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 ولبشار أيضا: وكأن [رصف] حديثها ... قطع الرياض كسين زهرا وتخال ما جمعت علي ... هـ ثيابها ذهبا وعطرا وكأن تحت لسانها ... هاروت ينفث فيه سحرا ولبشار العقيلي: وفتاة صبّ الجمال عليها ... بحديث كلذة النشوان وقال الأخطل: فأسرين خمسا ثم أصبحن غدوة ... يخبّرن أخبارا ألذّ من الخمر وقال بشار: وحديث كأنه قطع الرو ... ض وفيه الصفراء والحمراء وأخبرنا عامر بن صالح أن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز كتب إلى امرأته، وعنده إخوان له، بهذه الأبيات: إن عندي أبقاك ربّك ضيفا ... واجبا حقّهم كهولا ومردا طرقوا جارك الذي كان قدما ... لا يرى من كرامة الضيف بدّا فلديه أضيافه قد قراهم ... وهم يشتهون تمرا وزبدا فلهذا جرى الحديث ولكن ... قد جعلنا بعض الفكاهة جدا وأنشد الهذلي: كرّوا الأحاديث عن ليلى إذا بعدت ... إن الأحاديث عن ليلى لتلهيني وقال الهذلي أيضا: وإن حديثا منك لو تبذلينه ... جنى النحل أو ألبان عوذ مطافل مطافيل أبكار حديث نتاجها ... تشاب بماء مثل ماء المفاصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 العوذ: جمع عائذ، وهي الناقة إذا وضعت، فإذا مشى ولدها فهي مرشح فإذا تبعها فهي متلية، لأنه يتلوها. وهي في هذا كله مطفل. فإن كان أول ولد ولدته فهي بكر. ماء المفاصل فيه قولان: أحدهما أن المفاصل ما بين الجبلين واحدها مفصل، وإنما أراد صفاء الماء، لأنه ينحدر عن الجبال، لا يمر بطين ولا تراب. ويقال إنها مفاصل البعير. وذكروا أن فيها ماء له صفاء وعذوبة. وفي الكلام الموزون يقول عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر: إلزم الصمت إن في الصمت حكما ... وإذا أنت قلت قولا فزنه وقال أبو ذؤيب: وسرب يطلّى بالعبير كأنه ... دماء ظباء بالنحور ذبيح بذلت لهن القول إنك واجد ... لما شئت من حلو الكلام، مليح السرب: الجماعة من النساء والبقر والطير والظباء. ويقال: فلان آمن السرب، بفتح السين، أي آمن المسلك. ويقال فلان واسع السرب وخلي السرب، أي المسالك والمذاهب. وإنما هو مثل مضروب للصدر والقلب. وعن الأصمعي: فلان واسع السرب، مكسور، أي واسع الصدر، بطيء الغضب. وأنشد للحكم بن ريحان، من بني عمرو بن كلاب: يا أجدل الناس إن جادلته جدلا ... وأكثر الناس إن عاتبته عللا كأنما عسل رجعان منطقها ... إن كان رجع كلام يشبه العسلا وقال القطامي: وفي الخدور غمامات برقن لنا ... حتى تصيّدننا من كل مصطاد يقتلننا بحديث ليس يعلمه ... من يتقين ولا مكنونه بادي فهن ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلّة الصادي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 ينبذن: يلقين. الغلة والغليل: العطش الشديد. والصادي: العطشان أيضا، والاسم الصّدى. وأنشد للأخطل: شمس إذا خطل الحديث أوانس ... يرقبن كلّ مجذّر تنبال أنف كأن حديثهن تنادم ... بالكأس كلّ عقيلة مكسال الشّمس: النوافر. والتنبال: القصير. والأنف: جمع آنفة، وهي المنكرة للشيء غير راضية. العقيلة: المصونة في أهلها. وعقيلة كل شيء خيرته. والمكسال: ذات الكسل عن الحركة. وقال أبو العميثل عبد الله بن خليد: لقيت ابنة السهميّ زينب عن عفر ... ونحن حرام مسي عاشرة العشر وإني وإياها لحتم مبيتنا ... جميعا، ومسرانا مغذ وذو فتر فكلمتها ثنتين كالثلج منهما ... على اللوح والأخرى أحرّ من الجمر يقال: ما يلقانا إلا عن عفر، أي بعد مدة. مسي: أي وقت المساء. يقال أغذّ السير، إذا جد فيه وأسرع. واللوح بالفتح: العطش، يقال لاح الرجل يلوح لوحا، والتاح يلتاح التياحا، إذا عطش. واللوح بالفتح أيضا الذي يكتب فيه. واللوح بالضم: الهواء، يقال: «لا أفعل ذلك ولو نزوت في اللوح» ، أو «حتى تنزو في اللوح» . وأنشد: وإنّا لنجري بيننا حين نلتقي ... حديثا له وشي كحبر المطارف «1» حديث كطعم القطر في المحل يشتفى ... به من جوى في داخل القلب لاطف المحل: الجدب، وسنة محول. وأمحل البلد فهو ماحل وممحل، وزمان ماحل وممحل. الجوى ها هنا: شدة الحب حتى يمرض صاحبه. لاطف: لطيف. وأنشد للشماخ بن ضرار الثعلبي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 يقر بعيني أن أنبأ أنها ... وإن لم أنلها أيّم لم تزوّج وكنت إذا لاقيتها كان سرّنا ... وما بيننا مثل الشواء الملهوج يريد أنهما كانا على عجلة من خوف الرقباء. والملهوج: المعجل الذي لم ينتظر به النضج. وقال جران العود: فنلنا سقاطا من حديث كأنه ... جنى النحل أو أبكار كرم يقطف حديثا لو أن البقل يولى بمثله ... زها البقل واخضرّ العضاه المصنّف زها: بدا زهره. العضاه: جمع عضة، وهي كل شجرة ذات شوك، إلا القتادة فإنها لا تسمى عضة. وقال الكميت بن زيد: وحديثهن إذا التقين ... تهانف البيض الغرائر وإذا ضحكن عن العذاب ... لنا المسفات الثواغر كان التهلل بالتبسم ... لا القهاقه بالقراقر التهانف: تضاحك في هزء. الغرائر: جمع غريرة، وهي المرأة القليلة الخبرة، الغمرة. والعذاب، يريد الثغر. والمسفات: اللثات التي قد أسفّت بالكحل أو بالنؤور، وذلك أن تغرز بالإبرة ويذر عليها الكحل فيعلوها حوة. والتهلل، يقال تهلل وجهه، إذا أشرق وأسفر. وقال الآخر: ولما تلاقينا جرى من عيوننا ... دموع كففنا غربها بالأصابع ونلنا سقاطا من حديث كأنه ... جنى النحل ممزوجا بماء الوقائع سقاط الحديث: ما نبذ منه ولفظ به. يقال ساقطت فلانا الحديث سقاطا. الوقائع والوقيع: مناقع الماء في متون الصخور، الواحدة وقيعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وقال أشعث بن سميّ: هل تعرف المبدأ إلى السنام ... ناط به سواحر الكلام كلامها يشفي من السقام المبدأ وسنام: موضعان. ناط به: أي صار إليه. وقال الراجز ووصف عيون الظباء بالسحر وذكر قوسا فقال: صفراء فرع خطموها بوتر ... لأم ممرّ مثل حلقوم النغر حدت ظبات أسهم مثل الشرر ... فصرّعتهن بأكناف الحفر حور العيون بابليات النظر ... يحسبها الناظر من وحش البشر اللام من كلّ شيء: الشديد. والممر: المحكم الفتل، وحبل مرير مثله. النغر: البلبل. والظبات: ظبة، وهي حد السيف والسنان وغيرهما. وقال آخر: وحديثها كالقطر يسمعه ... راعي سنين تتابعت جدبا فأصاخ يرجو أن يكون حيا ... ويقول من طمع هيا ربّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 باب من الأسجاع في الكلام قال عمر بن ذرّ، رحمه الله: «الله المستعان على ألسنة تصف، وقلوب تعرف، وأعمال تخلف» . ولما مدح عتيبة بن مرداس عبد الله بن عباس قال: لا أعطي من يعصي الرحمن، ويطيع الشيطان، ويقول البهتان. وفي الحديث المأثور، قال: «يقول العبد مالي مالي، وإنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، وأعطيت فأمضيت، أو لبست فأبليت» . وقال النّمر بن تولب: أعاذل إن يصبح صداي بقفرة ... بعيدا نآني صاحبي وقريبي تري أن ما أبقيت لم أك ربّه ... وأن الذي أمضيت كان نصيبي الصدى ها هنا: طائر يخرج من هامة الميت إذا بلي، فينعى إليه ضعف وليّه وعجزه عن طلب طائلته، وهذا كانت تقوله الجاهلية، وهو هنا مستعار. أي أن أصبحت أنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ووصف أعرابي رجلا فقال: «صغير القدر، قصير الشّبر، ضيّق الصدر، لئيم النجر، عظيم الكبر، كثير الفخر» . الشبر: قدر القامة، تقول: كم شبر قميصك، أي كم عدد أشباره. والنّجر: الطباع. ووصف بعض الخطباء رجلا فقال: «ما رأيت أضرب لمثل، ولا أركب لجمل، ولا أصعد في قلل منه» . وسأل بعض الأعراب رسولا قدم من أهل السند: كيف رأيتم البلاد؟ قال: «ماؤها وشل، ولصها بطل، وتمرها دقل «1» . إن كثر الجند بها جاعوا، وإن قلوا بها ضاعوا» . وقيل لصعصعة بن معاوية: من أين أقبلت؟ فقال: من الفجّ العميق. قيل: فأين تريد؟ قال: البيت العتيق. قالوا: هل كان من مطر؟ قال: نعم، حتى عفّى الأثر، وأنضر الشجر، ودهدى الحجر «2» . واستجار عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، بمحمد بن مروان بنصيبين، وتزوج بها امرأة، فقال محمد: كيف ترى نصيبين؟ قال: «كثيرة العقارب قليلة الأقارب» . يريد بقوله «قليلة» كقول القائل: فلان قليل الحياء، ليس يريد أن هناك حياء وإن قلّ. يضعون قليلا في موضع ليس. وولي العلاء الكلابي عملا خسيسا، بعد أن كان على عمل جسيم، فقال: «العنوق بعد النّوق» «3» . قال: ونظر رجل من العبّاد إلى باب بعض الملوك فقال: «باب جديد، وموت عتيد ونزع شديد، وسفر بعيد» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وقيل لبعض العرب: أي شيء تمنّى، وأي شيء أحب إليك؟ فقال: لواء منشور، والجلوس على السرير، والسلام عليك أيها الأمير» . وقيل لآخر، وصلى ركعتين فأطال فيهما، وقد كان أمر بقتله: أجزعت من الموت؟ فقال: إن أجزع فقد أرى كفنا منشورا، وسيفا مشهورا، وقبرا محفورا. ويقال إن هذا الكلام تكلم به حجر بن عديّ الكنديّ عند قتله. وقال عبد الملك بن مروان لأعرابي: ما أطيب الطعام؟ فقال: «بكرة سنمة، معتبطة غير ضمنة، في قدور رذمة، بشفار خذمة، في غداة شبمة» . فقال عبد الملك: وأبيك لقد أطيبت. معتبطة: منحورة من غير داء، يقال اعتبط الإبل والغنم، إذا ذبحت من غير داء. ولهذا قيل للدم الخالص عبيط. والعبيط: ما ذبح من غير علة. غير ضمنة: غير مريضة. رذمة: سائلة من امتلائها. بشفار خذمة: قاطعة. غداة شبمة: باردة. والشبم: البرد. وقالوا: «لا تغتر بمناصحة الأمير، إذا غشك الوزير» . وقالوا: «من صادق الكتّاب أغنوه، ومن عاداهم أفقروه» . وقالوا: «اجعل قول الكذاب ريحا، تكن مستريحا» . وقيل لعبد الصّمد بن الفضل بن عيسى الرقاشي: لم تؤثر السجع على المنثور، وتلزم نفسك القوافي وإقامة الوزن؟ قال: إن كلامي لو كنت لا آمل فيه إلا سماع الشاهد لقلّ خلافي عليك، ولكني أريد الغائب والحاضر، والراهن والغابر، فالحفظ إليه أسرع، والآذان لسماعه أنشط، وهو أحق بالتقييد وبقلة التفلّت. وما تكلمت به العرب من جيّد المنثور، أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون، فلم يحفظ من المنثور عشرة، ولا ضاع من الموزون عشره. قالوا: فقد قيل للذي قال: يا رسول الله، أرأيت من لا شرب ولا أكل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 ولا صاح واستهلّ، أليس مثل ذلك يطلّ. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «أسجع كسجع الجاهلية» قال عبد الصمد: لو أن هذا المتكلم لم يرد إلا الإقامة لهذا الوزن، لما كان عليه بأس، ولكنه عسى أن يكون أراد إبطال حق فتشادق في الكلام. وقال غير عبد الصمد: وجدنا الشعر: من القصيد والرجز، قد سمعه النبي صلّى الله عليه وآله فاستحسنه وأمر به شعراءه، وعامة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله قد قالوا شعرا، قليلا كان ذلك أم كثيرا، واستمعوا واستنشدوا. فالسجع والمزدوج دون القصيد والرجز، فكيف يحلّ ما هو أكثر ويحرم ما هو أقلّ. وقال غيرهما: إذا لم يطل ذلك القول، ولم تكن القوافي مطلوبة مجتلبة، أو ملتمسة متكلفة، وكان ذلك كقول الأعرابي لعامل الماء: «حلّئت ركابي، وخرّقت ثيابي، وضربت صحابي» - حلّئت ركابي، أي منعت إبلي من الماء والكلأ. والركاب: ما ركب من الإبل- قال: «أو سجع أيضا؟» . قال الأعرابي: فكيف أقول؟ لأنه لو قال حلّئت إبلي أو جمالي أو نوقي أو بعراني أو صرمتي، لكان لم يعبر عن حق معناه، وإنما حلّئت ركابه، فكيف يدع الركاب إلى غير الركاب. وكذلك قوله: وخرقت ثيابي، وضربت صحابي. لأن الكلام إذا قل وقع وقوعا لا يجوز تغييره، وإذا طال الكلام وجدت في القوافي ما يكون مجتلبا، ومطلوبا مستكرها. ويدخل على من طعن في قوله: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ . وزعم أنه شعر، لأنه في تقدير مستفعلن مفاعلن، وطعن في قوله في الحديث عنه: «هل أنت إلا إصبع دميت؟ وفي سبيل الله ما لقيت» - فيقال له: اعلم أنك لو اعترضت أحاديث الناس وخطبهم ورسائلهم، لوجدت فيها مثل مستفعلن مستفعلن كثيرا، ومستفعلن مفاعلن. وليس أحد في الأرض يجعل ذلك المقدار شعرا. ولو أن رجلا من الباعة صاح: من يشتري باذنجان؟ لقد كان تكلم بكلام في وزن مستفعلن مفعولات. وكيف يكون هذا شعرا وصاحبه لم يقصد إلى الشعر؟ ومثل هذا المقدار من الوزن قد يتهيأ في جميع الكلام. وإذا جاء المقدار الذي يعلم أنه من نتاج الشعر والمعرفة بالأوزان والقصد إليها، كان ذلك شعرا. وهذا قريب، والجواب سهل بحمد الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وسمعت غلاما لصديق لي، وكان قد سقي بطنه «1» ، وهو يقول لغلمان مولاه: «اذهبوا بي إلى الطبيب وقولوا قد اكتوى» . وهذا الكلام يخرج وزنه على خروج فاعلاتن مفاعلن، فاعلاتن مفاعلن مرتين. وقد علمت أن هذا الغلام لم يخطر على باله قط أن يقول بيت شعر أبدا. ومثل هذا كثير، ولو تتبعته في كلام حاشيتك وغلمانك لوجدته. وكان الذي كرّه الأسجاع بعينها وإن كانت دون الشعر في التكلف والصنعة، أن كهان العرب الذين كان أكثر الجاهلية يتحاكمون إليهم، وكانوا يدعون الكهانة وأن مع كلّ واحد منهم رئيا من الجن مثل حازي جهينة «2» ، ومثل شقّ وسطيح، وعزّى سلمة وأشباههم، كانوا يتكهنون ويحكمون بالأشجاع، كقوله: «والأرض والسماء، والعقاب الصقعاء «3» ، واقعة ببقعاء «4» ، لقد نفر المجد بني الشعراء، للمجد والسناء» . وهذا الباب كثير. ألا ترى أن ضمرة بن ضمرة، وهرم بن قطبة، والأقرع ابن حابس، ونفيل بن عبد العزّى كانوا يحكمون وينفّرون بالأسجاع. وكذلك ربيعة بن حذار. قالوا: فوقع النهي في ذلك الدهر لقرب عهدهم بالجاهلية، ولبقيتها فيهم وفي صدور كثير منهم، فلما زالت العلة زال التحريم. وقد كانت الخطباء تتكلم عند الخلفاء الراشدين، فيكون في تلك الخطب أسجاع كثيرة، فلا ينهونهم. وكان الفضل بن عيسى الرّقاشي سجّاعا في قصصه. وكان عمرو بن عبيد، وهشام بن حسان، وأبان بن أبي عياش، يأتون مجلسه. وقال له داود ابن أبي هند: لولا أنك تفسر القرآن برأيك لأتيناك في مجلسك. قال: فهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 تراني أحرّم حلالا، أو أحلّل حراما؟ وإنما كان يتلو الآية التي فيها ذكر الجنة والنار، والموت والحشر، وأشباه ذلك. وقد كان عبد الصمد بن الفضل، وأبو العباس القاسم بن يحيى، وعامة قصاص البصرة، وهم أخطب من الخطباء، يجلس إليهم عامة الفقهاء. وقد كان النهي ظاهرا عن مرثية أمية بن أبي الصلت لقتلى أهل بدر، كقوله: ماذا ببدر بالعقن ... قل مرازبة جحاجح هلا بكيت على الكرام ... بني الكرام أولي الممادح وروى ناس شبيها بذلك في هجاء الأعشى لعلقمة بن علاثة. فلما زالت العلة زال النهي. وقال وائلة بن خليفة، في عبد الملك بن المهلّب: قد صبرت للذلّ أعواد منبر ... تقوم عليها، في يديك قضيب بكى المنبر الغربي إذ قمت فوقه ... وكادت مسامير الحديد تذوب رأيتك لما شبت أدركك الذي ... يصيب سراة الأسد حين تشيب سفاهة أحلام وبخل بنائل ... وفيك لمن عاب المزون عيوب قال: وخطب الوليد بن عبد الملك فقال: «إن أمير المؤمنين كان يقول: إن الحجاج جلدة ما بين عينيّ، ألا وإنه جلدة وجهي كله» . وخطب الوليد أيضا فذكر استعماله يزيد بن أبي مسلم بعد الحجاج فقال: «كنت كمن سقط منه درهم فأصاب دينارا» . شبيب بن شيبة قال: حدثني خالد بن صفوان قال: خطبنا يزيد بن المهلّب بواسط فقال: «إني قد أسمع قول الرعاع: قد جاء مسلمة، وقد جاء العباس، وقد جاء أهل الشام، وما أهل الشام إلا تسعة أسياف، سبعة منها معي، واثنان منها عليّ، وأما مسلمة فجرادة صفراء. وأما العباس فنسطوس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ابن نسطوس، أتاكم في برابرة وصقالبة، وجرامقة وجراجمة، وأقباط وأنباط، وأخلاط من الناس. إنما أقبل إليكم الفلاحون الأوباش كأشلاء اللّجم. والله ما لقوا قوما قط كحدّكم وحديدكم، وعدّكم وعديدكم. أعيروني سواعدكم ساعة من نهار تصفقون بها خراطيمهم «1» ، فإنما هي غدوة أو روحة حتى يحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين» . ثم دعا بفرس، فأتي بأبلق، فقال: تخليط وربّ الكعبة! ثم ركب فقاتل فكثره الناس فانهزم عنه أصحابه، حتى بقي في إخوته وأهله، فقتل وانهزم باقي أصحابه. وفي ذلك يقول الشاعر «2» : كل القبائل بايعوك على الذي ... تدعو إليه طائعين وساروا حتى إذا حمي الوغى وجعلتهم ... نصب الأسنة أسلموك وطاروا إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن ... عارا عليك وبعض قتل عار ومدح الشاعر بشار، عمر هزار مرد العتكي «3» ، بالخطب وركوبه المنابر، بل رثاه وأبّنه فقال: ما بال عينك دمعها مسكوب ... حربت «4» فأنت بنومها محروب وكذاك من صحب الحوادث لم يزل ... تأتي عليه سلامة ونكوب يا أرض ويحك أكرميه فإنه ... لم يبق للعتكي فيك ضريب أبهى على خشب المنابر قائما ... يوما وأحزم إذ تشب حروب وقال: كان سوّار بن عبد الله، أول تميمي خطب على منبر البصرة. ثم خطب عبيد الله بن الحسن. وولي منبر البصرة أربعة من القضاة فكانوا أمراء: بلال بن أبي بردة بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 أبي موسى الأشعري، وسوار، وعبيد الله، وأحمد بن أبي رباح. فكان بلال قاضيا ابن قاض ابن قاض. وقال رؤبة: فأنت يا ابن القاضيين قاضي ... معتزم على الطريق ماضي قال أبو الحسن المدائني: كان عبيد الله بن الحسن حيث وفد على المهدي معزيا ومهنئا، أعد له كلاما، فبلغه أن الناس قد أعجبهم كلامه فقال لشبيب بن شيبة: إني والله ما ألتفت إلى هؤلاء، ولكن سل لي عبيد الله الكاتب عنه. فسأله فقال: ما أحسن ما تكلم به! على أنه أخذ مواعظ الحسن، ورسائل غيلان «1» ، فلقح بينهما كلاما. فأخبره بذلك شبيب، فقال عبيد الله: لا والله إن أخطأ حرفا واحدا. وكان محمد بن سليمان «2» له خطبة لا يغيرها، وكان يقول: «إن الله وملائكته» . فكان يرفع الملائكة، فقيل له في ذلك، فقال: خرّجوا لها وجها. ولم يكن يدع الرفع. قال: وصلى بنا خزيمة يوم النحر، فخطب، فلم يسمع من كلامه إلا ذكر أمير المؤمنين الرشيد، وولي عهده محمد. قال: وكان إسحاق بن شمّر يدار به إذا فرغ المنبر. قال الشاعر: أمير المؤمنين إليك نشكو ... وإن كنا نقول بغير عذر غفرت ذنوبنا وعفوت عنا ... وليست منك أن تعفو بنكر فإن المنبر البصريّ يشكو ... على العلات إسحاق بن شمر أضبّي على خشبات ملك ... كمركب ثعلب ظهر الهزبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وقال بعض شعراء العسكر، يهجو رجلا من أهل العسكر: ما زلت تركب كل شيء قائم ... حتى اجترأت على ركوب المنبر ما زال منبرك الذي دنسته ... بالأمس منك كحائض لم تطهر فلأنظرنّ إلى المنابر كلها ... وإلى الأسرّة باحتقار المنظر وقال آخر: فما منبر دنّسته يا ابن أفكل ... بزاك ولو طهّرته بابن طاهر «1» عبد الله بن المبارك، عن بعض أشياخه، عن الشعبيّ قال: قال عيسى ابن مريم عليه السلام: «البرّ ثلاثة: المنطق، والنظر، والصمت. فمن كان منطقة في غير ذكر فقد لغا، ومن كان نظره في غير اعتبار فقد سها، ومن كان صمته في غير فكر فقد لها» . وقال علي بن أبي طالب: «أفضل العبادة الصمت، وانتظار الفرج» . وقال يزيد بن المهلّب، وهو في الحبس: «والهفاه على طليّة «2» بمائة ألف، وفرج في جبهة أسد» . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «استغزروا الدموع بالتذكر» . وقال الشاعر: ولا يبعث الأحزان مثل التذكر حفص بن ميمون قال، سمعت عيسى بن عمر «3» يقول: سمعنا الحسن يقول: «اقدعوا هذه النفوس فإنها طلعة، واعصوها، فإنكم إن أطعتموها تنزع بكم إلى شرّ غاية. وحادثوها بالذكر، فإنها سريعة الدثور» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 اقدعوا: انهوا. طلعة: أي تطلع إلى كل شيء. حادثوا، أي اجلوا واشحذوا. والدثور: يقال: دثر أثر فلان، إذا ذهب، كما يقال درس وعفا. قال: فحدّثت بهذا الحديث أبا عمرو بن العلاء، فتعجب من كلامه. وقال الشاعر: سمعن بهيجا أوجفت فذكرته ... ولا يبعث الأحزان مثل التذكر الوجيف: سير شديد، يقال: وجف الفرس والبعير وأوجفته. ومثله الايضاع، وهو الإسراع. أراد: بهيجا أقبلت مسرعة. ومن الأسجاع قول أيوب بن القريّة، وقد كان دعي للكلام واحتبس القول عليه، فقال: «قد طال السهر، وسقط القمر، واشتد المطر، فما ينتظر» . فأجابه فتى من عبد القيس فقال: «قد طال الأرق، وسقط الشفق وكثر اللثق، فلينطق من نطق» . اللثق: الندى والوحل. وقال أعرابي لرجل: «نحن والله آكل منكم للمأدوم، وأكسب منكم للمعدوم، وأعطى منكم للمحروم» . ووصف أعرابي رجلا فقال: «إن رفدك لنجيح، وإن خيرك لسريح، وإن منعك لمريح» . سريح: عجل. ومريح: أي مريح من كدّ الطلب. وقال عبد الملك لأعرابي: ما أطيب الطعام؟ فقال: «بكرة سنمة، في قدور رذمة، بشفار حذمة، في غداة شبمة» . فقال عبد الملك: وأبيك لقد أطيبت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وسئل أعرابي فقيل له: ما أشدّ البرد؟ فقال: «ريح جربياء «1» ، في ظلّ عماء «2» ، في غبّ سماء «3» » . ودعا أعرابي فقال: «اللهم إني أسألك البقاء والنماء، وطيب الأتاء، وحط الأعداء، ورفع الأولياء» . الأتاء: الرزق. قال: وقال إبراهيم النخعي لمنصور بن المعتمر: «سل مسألة الحمقى، واحفظ حفظ الكيسى «4» » . ووصفت عمّة حاجز اللصّ حاجزا «5» ، ففضلته وقالت: «كان حاجز لا يشبع ليلة يضاف، ولا ينام ليلة يخاف» . ووصف بعضهم فرسا فقال: «أقبل بزبرة الأسد، وأدبر بعجز الذئب» . الزبرة: مغرز العنق، ويقال للشعر الذي بين كتفيه. وصفه بأنه محطوط الكفل. قال: ولما اجتمع الناس، وقامت الخطباء لبيعة يزيد، وأظهر قوم الكراهة قام رجل من عذرة يقال له يزيد بن المقنّع، فاخترط من سيفه شبرا ثم قال: أمير المؤمنين هذا- وأشار بيده إلى معاوية- فإن مات فهذا- وأشار بيده إلى يزيد- فمن أبى فهذا- وأشار بيده إلى سيفه. فقال له معاوية: أنت سيد الخطباء. قالوا: ولما قامت خطباء نزار عند معاوية فذهبت في الخطب كل مذهب، قام صبرة بن شيمان، فقال: «يا أمير المؤمنين، إنّا حي فعال، ولسنا حي مقال، ونحن نبلغ بفعالنا أكثر من مقال غيرنا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 قال: ولما وفد الأحنف في وجوه أهل البصرة إلى عبد الله بن الزبير، تكلم أبو حاضر الأسيدي وكان خطيبا جميلا، فقال له عبد الله بن الزبير: أسكت، فو الله لوددت أنّ لي بكل عشرة من أهل العراق رجلا من أهل الشام، صرف الدينار بالدرهم. قال: يا أمير المؤمنين، إن لنا ولك مثلا، أفتأذن في ذكره؟ قال: نعم. قال: مثلنا ومثلك ومثل أهل الشام، كقول الأعشى حيث يقول: علّقتها عرضا وعلقت رجلا ... غيري وعلّق أخرى غيرها الرجل أحبك أهل العراق، وأحببت أهل الشام، وأحب أهل الشام عبد الملك ابن مروان. عليّ بن مجاهد «1» ، عن حميد بن أبي البختري قال: ذكر معاوية لابن الزبير بيعة يزيد، فقال ابن الزبير: إني أناديك ولا أناجيك، إن أخاك من صدقك، فانظر قبل أن تقدم، وتفكر قبل أن تندم، فإن النظر قبل التقدم، والتفكر قبل التندم» . فضحك معاوية ثم قال: تعلمت أبا بكر السّجاعة عند الكبر، إن في دون ما سجعت به على أخيك ما يكفيك. ثم أخذ بيده فأجلسه معه على السرير. أخبرنا ثمامة بن أشرس، قال: لما صرفت اليمانية من أهل مزّة، الماء عن أهل دمشق، ووجهوه إلى الصحارى، كتب إليهم أبو الهيذام: «إلى بني استها أهل مزة، ليمسّينّني الماء أو لتصبحنكم الخيل» قال: فوافاهم الماء قبل أن يعتموا. فقال أبو الهيذام: «الصدق ينبي عنك لا الوعيد» . وحدثني ثمامة عن من قدم عليه من أهل دمشق قال: لما بايع الناس يزيد بن الوليد، وأتاه الخبر عن مروان بن محمد ببعض التلكؤ والتحبّس، كتب إليه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 «بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله أمير المؤمنين يزيد بن الوليد، إلى مروان بن محمد. أما بعد فإني أراك تقدّم رجلا وتؤخر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت. والسلام» . وها هنا مذاهب تدل على أصالة الرأي، ومذاهب تدل على تمام النفس، وعلى الصلاح والكمال، لا أرى كثيرا من الناس يقفون عليها. واستعمل عبد الملك بن مروان نافع بن علقمة بن نضلة، بن صفوان بن محرّث خال مروان، على مكة، فخطب ذات يوم وأبان بن عثمان بحذاء المنبر، فشتم طلحة والزبير، فلما نزل قال لأبان: أرضيتك من المدهنين في أمير المؤمنين؟ قال: لا والله ولكن سؤتني، حسبي أن يكونا شركا في أمره. فما أدري أيهما أحسن كلاما: أبان بن عثمان هذا، أم إسحاق بن عيسى، فإنه قال: «أعيذ عليّا بالله أن يكون قتل عثمان، وأعيذ بالله أن يقتله علي» . فمدح عليّا بكلام سديد غير نافر، ومقبول غير وحشيّ، وذهب إلى معنى الحديث في قول رسول الله صلّى الله عليه وآله: «أشد أهل النار عذابا من قتل نبيا أو قتله نبيّ» . يقول: لا يتفق أن يقتله نبي بنفسه إلا وهو أشدّ خلق الله معاندة وأجرؤهم على معصية. وقال هذا: لا يجوز أن يقتله علي إلا وهو مستحق للقتل. قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وآله بعشر كلمات: حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم. إن المؤمن بين مخافتين: بين عاجل قد مضى لا يدري ما الله صانع به، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه. فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبرة، ومن الحياة قبل الموت، فو الذي نفس محمد بيده، ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 أبو الحسن المدائني قال: تكلم عمار بن ياسر يوما فأوجز، فقيل له: لو زدتنا. فقال: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وآله بإطالة الصلاة وقصر الخطب. محمد بن إسحاق «1» ، عن يعقوب بن عتبة، عن شيخ من الأنصار من بني زريق، أن عمر بن الخطاب رحمه الله لما أتي بسيف النعمان بن المنذر دعا جبير بن مطعم فسلّحه إياه، ثم قال: يا جبير، ممن كان النعمان؟ قال: من أشلاء قنص بن معدّ. وكان جبير أنسب العرب، وكان أخذ النسب عن أبي بكر الصديق رحمه الله. وعن جبير أخذ سعيد بن المسيّب. وروي عن إسحاق بن يحيى بن طلحة قال: قلت لسعيد بن المسيب: علّمني النسب. قال: أنت رجل تريد أن تسابّ الناس. قال: وثلاثة في نسق واحد كانوا أصحاب نسب: عمر بن الخطاب رحمه الله، أخذ ذلك من الخطاب، والخطاب بن نفيل، ونفيل بن عبد العزّى، تنافر إليه عبد المطلب وحرب بن أمية، فنفّر عبد المطلب، أي حكم لعبد المطلب، والمنافرة: المحاكمة. قال: والنسّاب أربعة: دغفل بن حنظلة، وعميرة أبو ضمضم، وصبح الحنفي، وابن الكيّس النمري. قال الأصمعي: دغفل بن حنظلة، والنسابة البكري، وكان نصرانيا. ولم يسمّه. ذكر كلمات خطب بهن سليمان بن عبد الملك: قال: «اتخذوا كتاب الله إماما، وارضوا به حكما، واجعلوه قائدا، فإنه ناسخ لما قبله، ولم ينسخه كتاب بعده» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 قال: وكان أول كلام بارع سمعوه منه: «الكلام فيما يعنيك خير من السكوت عما يضرك، والسكوت عما لا يعنيك خير من الكلام فيما يضرك» . خلّاد بن يزيد الأرقط قال: سمعت من يخبرنا عن الشعبي قال: ما سمعت متكلما على منبر قط تكلم فأحسن إلا تمنيت أن يسكت خوفا من أن يسيء، إلا زيادا، فإنه كان كلما أكثر كان أجود كلاما. وكان نوفل بن مساحق» ، إذا دخل على امرأته صمت، وإذا خرج من عندها تكلم، فرأته يوما كذلك فقالت: أما عندي فتطرق، وأما عند الناس فتنطق. قال: لأني أدقّ عن جليلك، وتجلين عن دقيقي. قال أبو الحسن: قاد عياش بن الزبرقان بن بدر، إلى عبد الملك بن مروان خمسة وعشرين فرسا، فلما جلس لينظر إليها نسب كل فرس منها إلى جميع آبائه وأمهاته، وحلف على كل فرس بيمين غير اليمين التي حلف بها على الفرس الآخر، فقال عبد الملك بن مروان: عجبي من اختلاف إيمانه أشد من عجبي من معرفته بأنساب الخيل. وقال: كان للزبرقان بن بدر ثلاثة أسماء: القمر، والزبرقان، والحصين. وكانت له ثلاث كنى: أبو شذرة، وأبو عياش، وأبو العباس. وكان عياش ابنه خطيبا ماردا شديد العارضة شديد الشكيمة وجيها، وله يقول جرير: أعياش قد ذاق القيون مرارتي ... وأوقدت ناري فادن دونك فاصطل فقال عياش: إني إذا لمقرور. قالوا: فغلّب عليه. [عودة إلى تراجم بعض الخطباء والبلغاء] ذكر أسماء الخطباء والبلغاء والأبيناء وذكر قبائلهم وأنسابهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 كان التدبير في أسماء الخطباء وحالاتهم وأوصافهم أن نذكر أسماء أهل الجاهلية على مراتبهم، وأسماء أهل الإسلام على منازلهم، ونجعل لكلّ قبيلة منهم خطباء، ونقسم أمورهم بابا بابا على حدته، ونقدّم من قدمه الله ورسوله عليه السلام في النسب، وفضله في الحسب. ولكني لما عجزت عن نظمه وتنضيده، تكلفت ذكرهم في الجملة. والله المستعان، وبه التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا به. [الفضل الرقاشي] كان الفضل بن عيسى الرقاشي من أخطب الناس، وكان متكلما قاصا مجيدا، وكان يجلس إليه عمرو بن عبيد، وهشام بن حسان، وأبان بن أبي عياش، وكثير من الفقهاء. وهو رئيس الفضيلة، وإليه ينسبون. وخطب إليه ابنته سوادة بنت الفضل، سليمان بن طرخان التيمي، فزوّجه فولدت له المعتمر ابن سليمان. وكان سليمان مباينا للفضل في المقالة، فلما ماتت سوادة شهد الجنازة المعتمر وأبوه، فقدّما الفضل. وكان الفضل لا يركب إلا الحمير، فقال له عيسى بن حاضر: إنك لتؤثر الحمير على جميع المركوب، فلم ذلك؟ قال: لما فيها من المرافق والمنافع. قلت: مثل أي شيء؟ قال: لا تستبدل بالمكان على قدر اختلاف الزمان، ثم هي أقلها داء وأيسرها دواء، وأسلم صريعا، وأكثر تصريفا، وأسهل مرتقى وأخفض مهوى، وأقل جماحا، وأشهر فارها، وأقل نظيرا، يزهى راكبه وقد تواضع بركوبه، ويكون مقتصدا وقد أسرف في ثمنه. قال: ونظر يوما إلى حمار فاره تحت سلم بن قتيبة، فقال: «قعدة نبيّ وبذلة جبار» . وقال عيسى بن حاضر: ذهب إلى حمار عزيز، وإلى حمار المسيح، وإلى حمار بلعم. وكان يقول: لو أراد أبو سيارة عميلة بن أعزل، أن يدفع بالموسم على فرس عربي، أو جمل مهريّ لفعل، ولكنه ركب عيرا أربعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 عاما، لانه كان يتأله «1» . وقد ضرب به المثل فقالوا: «أصح من عير أبي سيارة» . والفضل هو الذي يقول في قصصه: «سل الأرض فقل: من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك، فإن لم تجبك حوارا، أجابتك اعتبارا» . وكان عبد الصمد بن الفضل أغزر من أبيه وأعجب وأبين وأخطب. وقال: وحدثني أبو جعفر الصوفي القاص قال: تكلم عبد الصمد في خلق البعوضة وفي جميع شأنها ثلاثة مجالس تامة. قال: وكان بزيد بن أبان عم الفضل بن عيسى بن أبان الرقاشي، من أصحاب أنس والحسن، وكان يتكلم في مجلس الحسن، وكان زاهدا عابدا، وعالما فاضلا، وكان خطيبا، وكان قاصا مجيدا. قال أبو عبيدة: كان أبوهم خطيبا، وكذلك جدهم، وكانوا خطباء الأكاسرة فلما سبوا وولد لهم الأولاد في بلاد الإسلام وفي جزيرة العرب، نزعهم ذلك العرق، فقاموا في أهل هذه اللغة كمقامهم في أهل تلك اللغة، وفيهم شعر وخطب، وما زالوا كذلك حتى أصهر إليهم الغرباء ففسد ذلك العرق ودخله الخور. [قس بن ساعدة] ومن خطباء إياد قسّ بن ساعدة، وهو الذي قال فيه النبي صلّى الله عليه وآله: «رأيته بسوق عكاظ على جمل أحمر وهو يقول: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا. من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت» . وهو القائل في هذه: «آيات محكمات، مطر ونبات، وآباء وأمهات، وذاهب وآت، ضوء وظلام، وبر وأثام، ولباس ومركب، ومطعم ومشرب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 ونجوم تمور، وبحور لا تغور، وسقف مرفوع، ومهاد موضوع، وليل داج، وسماء ذات أبراج. ما لي أرى الناس يموتون ولا يرجعون، أرضوا فأقاموا، أم حبسوا فناموا» . وهو القائل: «يا معشر إياد، أين ثمود وعاد، وأين الآباء والأجداد. أين المعروف الذي لم يشكر، والظلم الذي لم ينكر. أقسم قسّ قسما بالله، إن لله دينا هو أرضى له من دينكم هذا» . وأنشدوا له: في الذاهبين الأولي ... ن من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأصاغر والأكابر لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غابر أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر [زيد بن علي بن الحسين] ومن الخطباء زيد بن عليّ بن الحسين. وكان خالد بن عبد الله «1» أقرّ على زيد بن علي، وداود بن علي، وأيوب بن سلمة المخزومي، وعلى محمد بن عمر بن علي، وعلى سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، فسأل هشام زيدا عن ذلك فقال: أحلف لك. قال: وإذا حلفت أصدقك قال زيد: اتّق الله. قال: أو مثلك يا زيد يأمر مثلي بتقوى الله. قال هشام: بلغني أنك تريد الخلافة، ولا تصلح لها، لأنك ابن أمة. قال زيد: فقد كان إسماعيل بن إبراهيم ع ابن أمة، وإسحاق صلّى الله عليه وآله. فعندها قال له: قم. قال: إذن لا تراني إلا حيث تكره! ولما خرج من الدار قال: «ما أحب أحد الحياة قط إلا ذل» . فقال له سالم مولى هشام: لا يسمعنّ هذا الكلام منك أحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وقال محمد بن عمير: إن زيدا لما رأى الأرض قد طبّقت «1» جورا، ورأى قلّة الأعوان وتخاذل الناس، كانت الشهادة أحبّ الميتات إليه. وكان زيد كثيرا ما ينشد: شرّده الخوف وأزرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد منخرق الخفّين يشكو الوجى ... تنكبه أطراف مرو حداد قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد وقال: وكان كثيرا ما ينشد شعر العبسيّ في ذلك: إن المحكّم ما لم يرتقب حسبا ... أو يرهف السيف أو حدّ القنا جنفا من عاذ بالسيف لاقى فرصة عجبا ... موتا على عجل أو عاش منتصفا ولما بعث يوسف بن عمر برأس زيد، ونصر بن خزيمة، مع شبّة بن عقال، وكلف آل أبي طالب أن يبرؤوا من زيد، ويقوم خطباؤهم بذلك. فأول من قال عبد الله بن الحسن، فأوجز في كلامه ثم جلس، ثم قام عبد الله بن جعفر، فأطنب في كلامه، وكان شاعرا بيّنا، وخطيبا لسنا، فانصرف الناس وهم يقولون: ابن الطيّار أخطب الناس! فقيل لعبد الله بن الحسن في ذلك، فقال: لو شئت أن أقول لقلت، ولكن لم يكن مقام سرور. فأعجب الناس ذلك منه. [هند بنت الخس وجمعة بنت حابس] ومن أهل الدهاء والنّكراء «2» ، ومن أهل اللسن واللقن، والجواب العجيب، والكلام الفصيح، والأمثال السائرة، والمخارج العجيبة: هند بنت الخسّ، وهي الزرقاء، وجمعة بنت حابس. ويقال إن حابسا من إياد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وقال عامر بن عبد الله الفزاريّ جمع بين هند وجمعة، فقيل لجمعة: أي الرجال أحب إليك؟ فقالت: «الشنق الكتد «1» ، الظاهر الجلد، الشديد الجذب بالمسد» . وقيل لهند: أي الرجال أحب إليك؟ قالت: «القريب الأمد، الواسع البلد، الذي يوفد إليه ولا يفد» . وقد سئلت هند عن حر الصيف وبرد الشتاء، فقالت: «من جعل بؤسا كأذى» وقد ضرب بها المثل. فمن ذلك قول ليلى بنت النّضر الشاعرة: وكنز بن جدعان دلالة أمّه ... وكانت كبنت الخسّ أو هي أكبر وقال ابن الأعرابي: يقال بنت الخس، وبنت الخص، وبنت الخسف وهي الزرقاء. وقال يونس: لا يقال إلا بنت الأخسّ. وقال أبو عمرو بن العلاء: داهيتا نساء العرب هند الزرقاء، وعنز الزرقاء، وهي زرقاء اليمامة. وقال اليقطريّ: قيل لعبد الله بن الحسن: ما تقول في المراء؟ قال: ما عسى أن أقول في شيء يفسد الصداقة القديمة، ويحلّ العقدة الوثيقة، فإن أقل ما فيه أن يكون دربة للمغالبة، والمغالبة من أمتن أسباب الفتنة إن رسول الله صلّى الله عليه وآله لما أتاه السائب بن صيفي فقال: أتعرفني يا رسول الله؟ قال: «كيف لا أعرف شريكي الذي كان لا يشاريني ولا يماريني» . قال: فتحولت إلى زيد بن علي فقلت له: الصمت خير أم الكلام؟ قال: أخزى الله المساكتة، فما أفسدها للبيان، وأجلبها للحصر. والله للمماراة أسرع في هدم العيّ من النار في يبيس العرفج، ومن السيل في الحدور. وقد عرف زيد أن المماراة مذمومة، ولكنه قال: المماراة على ما فيها أقل ضررا من المساكتة التي تورث البلدة، وتحل العقدة، وتفسد المنّة، وتورث عللا، وتولّد أدواء أيسرها العيّ. فإلى هذا المعنى ذهب زيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 ومن الخطباء: خالد بن سلمة المخزومي من قريش، وأبو حاضر، وسالم ابن أبي حاضر، وقد تكلم عند الخلفاء. ومن الخطباء بني أسيد: الحكم بن يزيد بن عمير، وقد رأس. ومن اهل اللسن منهم والبيان: الحجاج بن عمر بن يزيد. [سعيد بن العاصي وابنه عمرو وحفيده سعيد] ومن الخطباء: سعيد بن العاصي بن سعيد بن العاصي بن أمية. قال: وقيل لسعيد بن المسيّب: من أبلغ الناس؟ قال: رسول الله صلّى الله عليه وآله. فقيل: ليس عن هذا نسألك. قال: معاوية وابنه، وسعيد وابنه، وما كان ابن الزبير دونهم، ولكن لم يكن لكلامه طلاوة. فمن العجب أن ابن الزبير قد ملأ دفاتر العلماء كلاما، وهم لا يحفظون لسعيد بن العاص وابنه من الكلام إلا ما لا بال له. وكان سعيد جوادا، ولم ينزع قميصه قط، وكان أسود نحيفا، وكان يقال له «عكة العسل» «1» . وقال الحطيئة: سعيد فلا يغررك قلة لحمه ... تخدّد «2» عنه اللحم فهو صليب وكان أول من خشّ الإبل في نفس عظم الأنف. وكان في تدبيره اضطراب. وقال قائل من أهل الكوفة: يا ويلنا قد ذهب الوليد ... وجاءنا مجوعا سعيد ينقص [في] الصّاع ولا يزيد قال: الأمراء تتحبب إلى الرعية بزيادة المكاييل، ولو كان المذهب في الزيادة في الأوزان كالمذهب في زيادة المكاييل ما قصروا، كما سأل الأحنف عمر بن الخطاب الزيادة في المكاييل. ولذلك اختلفت أسماء المكاييل، كالزيادي والفالج، والخالدي. حتى صرنا إلى هذا الملجم اليوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 ثم من الخطباء: عمرو بن سعيد، وهو الأشدق، يقال إن ذلك إنما قيل لتشادقه في الكلام. وقال آخرون: بل كان أفقم مائل الذقن، ولذلك قال عبيد الله بن زياد حين أهوى إلى عبد الله بن معاوية: يدك عني يا لطيم الشيطان، ويا عاصي الرحمن. وقال الشاعر: وعمرو لطيم الجنّ وابن محمد ... بأسوأ هذا الأمر يلتبسان ذكر ذلك عن عوانة. وهذا خلاف قول الشاعر: تشادق حتى مال بالقول شدقه ... وكل خطيب لا أبا لك أشدق وقال: وقد كان معاوية قد دعا به في غلمة من قريش، فلما استنطقه قال: «إن أول كل مركب صعب، وإن مع اليوم غدا» . وقال له: إلى من أوصى بك أبوك؟ قال: إن أبي أوصى إليّ ولم يوص بي قال: وبأي شيء أوصاك؟ قال: بألا يفقد إخوانه منه إلا شخصه. قال: فقال معاوية عند ذلك: إن ابن سعيد هذا لأشدق. فهذا يدل عندهم على أنه إنما سمي بالأشدق لمكان التشادق. ثم كان بعد عمرو بن سعيد، سعيد بن عمرو بن سعيد، وكان ناسبا خطيبا، وأعظم الناس كبرا. وقيل له عند الموت: إن المريض ليستريح إلى الأنين، وإلى أن يصف ما به إلى الطبيب. فقال: أجاليد من ريب المنون فلا ترى ... على هالك عينا لنا الدهر تدمع ودخل على عبد الملك مع خطباء قريش وأشرافهم، فتكلموا من قيام. وتكلم وهو جالس، فتبسم عبد الملك وقال: لقد رجوت عثرته، ولقد أحسن حتى خفت عثرته. فسعيد بن عمرو بن سعيد، خطيب ابن خطيب ابن خطيب. [سهيل بن عمرو] ومن الخطباء: سهيل بن عمرو الأعلم أحد بني حسل بن معيص وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 يكنى أبا يزيد، وكان عظيم القدر، شريف النفس، صحيح الإسلام. وكان عمر قال للنبي صلّى الله عليه وآله: يا رسول الله، انزع ثنيتيه السفليين حتى يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا أبدا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «لا أمثل فيمثّل الله بي وإن كنت نبيا. دعه يا عمر فعسى أن يقوم مقاما تحمده» . فلما هاج أهل مكة عند الذي بلغهم من وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله قام خطيبا فقال: «أيها الناس، إن يكن محمد قد مات فالله حيّ لم يمت. وقد علمتم أني أكثركم قتبا «1» في بر، وجارية في بحر، فأقروا أميركم وأنا ضامن إن لم يتمّ الأمر أن أردّها عليكم» ، فسكن الناس. وهو الذي قال يوم خرج آذن عمر، وهو بالباب وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وفلان وفلان، فقال الآذن: أين بلال، أين صهيب، أين سلمان، أين عمار؟ فتمعّرت وجوه القوم، فقال سهيل: لم تتمعّر وجوهكم؟! دعوا ودعينا فأسرعوا وأبطأنا، ولئن حسدتموهم على باب عمر، لما أعد الله لهم في الجنة أكثر. [عبد الله بن عروة بن الزبير] ومن الخطباء: عبد الله بن عروة بن الزبير. قالوا: وكان خالد بن صفوان يشبّه به. وما علمت أنه كان في الخطباء أحد كان أجود من خالد بن صفوان وشبيب بن شيبة، للذي يحفظه الناس ويدور على ألسنتهم من كلامهما. وما أعلم أن أحدا ولّد لهما حرفا واحدا. [النسابون الخطباء] ومن النسابين من بني العنبر ثم من بني المنذر: الحنتف بن يزيد بن جعونة. وهو الذي تعرض له دغفل بن حنظلة العلامة عند ابن عامر بالبصرة، فقال له: متى عهدك بسجاح أمّ صادر؟ فقال: «ما لي بها عهد منذ أضلت أمّ حلس» ، وهي بعض أمهات دغفل. فقال له: نشدتك بالله، أنحن كنا لكم أكثر غزوا في الجاهلية أم أنتم لنا؟ قال: بل أنتم فلم تفلحوا ولم تنجحوا، غزانا فارسكم وسيدكم وابن سيدكم، فهزمناه مرة وأسرناه مرة، وأخذنا في فدائه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 خدر أمه. وغزانا أكثركم غزوا، وأنبهكم في ذلك ذكرا، فأعرجناه ثم أرجلناه. فقال ابن عامر: أسألكما بالله لمّا كففتما. وكان عبد الله بن عامر، ومصعب بن الزبير، يحبان أن يعرفا حالات الناس، فكانا يغريان بين الوجوه وبين العلماء، فلا جرم أنهما كانا إذا سبّا أوجعا. وكان أبو بكر رحمه الله أنسب هذه الأمة، ثم عمر، ثم جبير بن مطعم، ثم سعيد بن المسيّب، ثم محمد بن سعيد بن المسيب. ومحمد هذا هو الذي نفى آل عنكثة المخزوميين فرفع ذلك إلى والي المدينة فجلده الحدّ. وكان ينشد: ويربوع بن عنكثة ابن أرض ... وأعتقه هبيرة بعد حين يعني هبيرة بن أبي وهب المخزومي. ومن النسابين العلماء: عتبة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وكان من ذوي الرأي والدهاء، وكان ذا منزلة من الحجاج بن يوسف. وعمر بن عبد الرحمن خامس خمسة في الشرف.. وكان هو الساعي بين الأسد وتميم في الصلح. ومن بني حرقوص: شعبة بن القعم، وكان ذا لسان وجواب وعارضة، وكان وصافا فصيحا، وبنوه عبد الله، وعمر، وخالد كليهم كانوا في هذه الصفة، غير أن خالدا كان قد جمع مع اللسن والعلم، الحلاوة والظرف. وكان الحجاج بن يوسف لا يصبر عنه. ومن بني أسيّد بن عمرو بن تميم، أبو بكر بن الحكم، كان ناسبا راوية شاعرا، وكان أبلى الناس لسانا، وأحسنهم منطقا، وأكثرهم تصرفا. وهو الذي يقول له رؤبة: لقد خشيت أن تكون ساحرا ... راوية مرا ومرا شاعرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 ومنهم معلّل بن خالد، أحد بني أنمار بن الهجيم، وكان نسابة علامة، راوية صدوقا مقلّدا. وذكر للمنتجع بن نبهان فقال: كان لا يجارى ولا يمارى. ومنهم من بني العنبر، ثم من بني عمرو بن جندب: أبو الخنساء عبّاد بن كسيب، وكان شاعرا علامة، وراوية نسابة، وكانت له حرمة بأبي جعفر المنصور. ومنهم عمرو بن خولة، كان ناسبا خطيبا، وراوية فصيحا، من ولد سعيد ابن العاصي. والذي أتى سعيد بن المسيب ليعلمه النسب هو إسحاق بن يحيى ابن طلحة. وكان يحيى بن عروة بن الزبير ناسبا عالما، ضربه إبراهيم بن هشام المخزومي والي المدينة حتى مات، لبعض القول. وكان مصعب بن عبد الله ابن ثابت ناسبا عالما، ومن ولده الزبيري عامل الرشيد على المدينة واليمن. ومنهم ثم من قريش: محمد بن حفص، وهو ابن عائشة، ويكنى أبا بكر. وابنه عبيد الله، كان يجري مجراه، ويكنى أبا عبد الرحمن. ومن بني خزاعيّ بن مازن: أبو عمرو وأبو سفيان، ابنا العلاء بن عمار ابن العريان. فأما أبو عمرو فكان أعلم الناس بأمور العرب، مع صحة سماع وصدق لسان. حدثني الأصمعي قال: جلست إلى أبي عمرو عشر حجج ما سمعته يحتج ببيت إسلامي. قال: وقال مرة: «لقد كثر هذا المحدث وحسّن حتى لقد هممت أن آمر فتياننا بروايته» . يعني شعر جرير والفرزدق وأشباههما. وحدثني أبو عبيدة قال: كان أبو عمرو أعلم الناس بالغريب والعربية، وبالقرآن والشعر، وبأيام العرب وأيام الناس. وكانت داره خلف دار جعفر بن سليمان قال: وكانت كتبه التي كتب عن العرب الفصحاء، قد ملأت بيتا له إلى قريب من السقف، ثم إنه تقرّأ فأحرقها كلها، فلما رجع بعد إلى علمه الأول لم يكن عنده إلا ما حفظه بقلبه. وكانت عامة أخباره عن أعراب قد أدركوا الجاهلية. وفي أبي عمرو بن العلاء يقول الفرزدق: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها ... حتى أتيت أبا عمرو بن عمّار قال: فإذا كان الفرزدق وهو راوية الناس وشاعرهم وصاحب أخبارهم يقول فيه مثل هذا القول، فهو الذي لا يشك في خطابته وبلاغته. وقال يونس: لولا شعر الفرزدق لذهب نصف أخبار الناس. وقال في أبي عمر مكّي بن سوادة: الجامع العلم ننساه ويحفظه ... والصادق القول إن أنداده كذبوا وكان أبو سفيان بن العلاء ناسبا، وكلاهما كناهما أسماؤهما. وكذلك أبو عمرو بن العلاء بن لبيد، وأبو سفيان بن العلاء بن لبيد التغلبيّ، خليفة عيسى ابن شبيب المازني على شرط البصرة. وكان عقيل بن أبي طالب ناسبا عالما بالأمهات، بيّن اللسان سديد الجواب، لا يقوم له أحد. وكان أبو الجهم بن حذيفة العدويّ ناسبا شديد العارضة، كثير الذّكر للأمهات بالمثالب. ومن رؤساء النسابين: دغفل بن حنظلة، أحد بني عمرو بن شيبان، لم يدرك الناس مثله لسانا وعلما وحفظا. ومن هذه الطبقة زيد بن الكيّس النمري. ومن نسابي كلب: محمد بن السائب، وهشام بن محمد بن السائب، وشرقي بن القطاميّ. وكان أعلاهم في العلم ومن ضرب به المثل، حماد بن بشر. وقال سماك العكرمي: فسائل دغفلا وأخا هلال ... وحمّادا ينبّؤك اليقينا وقد ذكرنا دغفلا. وأخو هلال هو زيد بن الكيّس. وبنو هلال حي من النمر بن قاسط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وقال مسكين بن أنيف الدارميّ في ذلك: وعند الكيّس النمريّ علم ... ولو أمسى بمنخرق الشمال وقال ثابت قطنة: فما العضّان لو سئلا جميعا ... أخو بكر وزيد بني هلال «1» ولا الكلبيّ حماد بن بشر ... ولا من فاد في الزمن الخوالي «2» وقال زياد الأعجم: بل لو سألت أخا ربيعة دغفلا ... لوجدت في شيبان نسبة دغفل إن الأحابن والذين يلونهم ... شرّ الأنام ونسل عبد أغزل يهجو فيها بني الحبناء: ومنهم: أبو إياس النصري. وكان أنسب الناس، وهو الذي قال: كانوا يقولون أشعر العرب أبو دؤاد الإياديّ، وعديّ بن زيد العبادي. وكان أبو نوفل بن أبي عقرب، علامة ناسبا خطيبا فصيحا، وهو رجل من كنانة، أحد بني عريج. ومن بني كنانة ثم من بني ليث، ثم من بني الشدّاح: يزيد بن بكر بن دأب. وكان يزيد عالما ناسبا، وراوية شاعرا. وهو القائل: الله يعلم في عليّ علمه ... وكذاك علم الله في عثمان وولد يزيد يحيى وعيسى. فعيسى هو الذي يعرف في العامة بابن دأب، وكان من أحسن الناس حديثا وبيانا، وكان شاعرا راوية، وكان صاحب رسائل وخطب، وكان يجيدهما جدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ومن آل دأب: حذيفة بن دأب، وكان عالما ناسبا. وفي آل دأب علم بالنسب والخبر. [أبو الأسود الدؤلي] وكان أبو الأسود الدؤلي، واسمه ظالم بن عمرو بن جندل بن سفيان، خطيبا عالما، وكان قد جمع شدة العقل وصواب الرأي وجودة اللسان، وقول الشعر والظرف. وهو يعد في هذه الأصناف، وفي الشيعة، وفي العرجان، وفي المفاليج. وعلى كل شيء من هذا شاهد سيقع في موضعه إن شاء الله تعالى. وقال الخسّ لابنته هند: أريد شراء فحل لإبلي. قالت: «إن اشتريته فاشتره أسجع الخدين، غائر العينين، أرقب، أحزم أعكى، أكوم، إن عصي غشم، وإن أطيع تجرثم» . وهي التي قالت لما قيل لها: ما حملك على أن زنيت بعبدك؟ قالت: «طول السواد، وقرب الوساد» . السّواد: السرار. أسجع: سهل واسع يقال: «ملكت فأسجع» . أرقب: غليظ الرقبة. أحزم: منتفخ المحزم. أعكى: العكوة مغرز الوركين في المؤخر، تصفه بشدة الوركين. إن عصي غشم: إن عصته الناقة غصبها نفسها. تجرثم: أي بقي، مأخوذ من الجرثومة، وهي الطين والتراب يجمع حول النخلة، ليقوّيها. تصفه بالصبر والقوة على الضّراب. أكوم: عظيم السنام. وقال الشاعر: ويفهم قول الحكل لو أن ذرة ... تساود أخرى لم يفته سوادها يقال: في لسانه حكلة، إذا كان شديد الحبسة مع لثغ. قالوا: وعاتب هشام بن عبد الملك زيد بن علي، فقال له: بلغني عنك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 شيء. قال: يا أمير المؤمنين، أحلف لك؟ قال: وإذا حلفت لي أصدّقك؟ قال: نعم، إن الله لم يرفع أحدا فوق ألا يرضى به، ولم يضع أحدا دون ألا يرضى منه. [عبيد الله العائشي] وكان أبو ظبيان التيمي العائشي خطيبا، فدخل عليه ابنه عبيد الله وهو يكيد بنفسه، فقال له: ألا أوصي بك الأمير. قال: لا. قال: ولم؟ قال: إذا لم يكن للحيّ إلا وصيّة الميّت فالحي هو الميت. وكان عبيد الله أفتك الناس، وأخطب الناس. وهو الذي أتى باب مالك ابن مسمع ومعه نار، ليحرّق عليه داره، وقد كان نابه أمر فلم يرسل إليه قبل الناس، فأشرف عليه مالك فقال: مهلا يا أبا مطر، فو الله إن في كنانتي سهما أنا به أوثق مني بك. قال: وإنك لتعدني في كنانتك، فو الله لو قمت فيها لطلتها، ولو قعدت فيها لخرقتها. قال مالك: مهلا، أكثر الله في العشيرة مثلك! قال: لقد سألت الله شططا! ودخل عبيد الله على عبد الملك بن مروان، بعد أن أتاه برأس مصعب بن الزبير، ومعه ناس من وجوه بكر بن وائل، فأراد أن يقعد معه على سريره فقال له عبد الملك: ما بال الناس يزعمون أنك لا تشبه أباك؟ قال: والله لأنا أشبه بأبي من الليل بالليل، والغراب بالغراب، والماء بالماء، ولكن إن شئت أنبأتك بمن لا يشبه أباه. قال: ومن ذاك؟ قال: من لم يولد لتمام، ولم تنضجه الأرحام، ومن لم يشبه الأخوال والأعمام. قال: ومن ذاك؟ قال: ابن عمي سويد بن منجوف. قال عبد الملك: أو كذلك أنت يا سويد؟ قال: نعم. فلما خرجا من عنده أقبل عليه سويد فقال: وريت بك زنادي! والله ما يسرني أنك كنت نقصته حرفا واحدا مما قلت له وأن لي حمر النّعم. قال: وأنا والله ما يسرني بحلمك اليوم عني سود النعم. قال: وأتى عبيد الله عتّاب بن ورقاء، وعتاب على أصبهان، فأعطاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 عشرين ألف درهم، فقال: والله ما أحسنت فأحمدك، ولا اسأت فأذمك، وإنك لأقرب البعداء، وأبعد القرباء. قال: وقال أشيم بن شقيق بن ثور، لعبيد الله بن زياد بن ظيبان: ما أنت قائل لربك وقد حملت رأس مصعب بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان؟ قال: أسكت، فأنت يوم القيامة أخطب من صعصعة بن صوحان إذا تكلمت الخوارج. فما ظنك ببلاغة رجل عبيد الله بن زياد يضرب به المثل! وإنما أردنا بهذا الحديث خاصة، الدلالة على تقديم صعصعة بن صوحان في الخطب. وأدل من كلّ دلالة استنطاق عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. وكان عثمان بن عروة «1» أخطب الناس، وهو الذي قال: «الشكر وإن قلّ، ثمن لكل نوال وإن جلّ» . وكان ثابت بن عبد الله بن الزبير، من أبين الناس، ولم يكن خطيبا. [قسامة بن زهير] وكان قسامة بن زهير أحد بني رزام بن مازن، مع نسكه وزهده ومنطقه، من أبين الناس، وكان يعدل بعامر بن عبد قيس في زهده ومنطقه. وهو الذي قال: «روّحوا هذه القلوب تع الذكر» . وهو الذي قال: «يا معشر الناس، إن كلامكم أكثر من صمتكم، فاستعينوا على الكلام بالصمت، وعلى الصواب بالفكر» . وهو الذي كان رسول عمر في البحث عن شأن المغيرة وشهادة أبي بكرة «2» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 [خالد بن يزيد بن معاوية] وكان خالد بن يزيد بن معاوية، خطيبا شاعرا، وفصيحا جامعا، وجيّد الرأي كثير الأدب، وكان أول من ترجم كتب النجوم والطب والكيمياء. ومن خطباء قريش: خالد بن سلمة المخزومي وهو ذو الشفة. وقال الشاعر في ذلك: فما كان قائلهم دغفل ... ولا الحيقطان ولا ذو الشّفة ومن خطباء العرب عطارد بن حاجب بن زرارة، وهو كان الخطيب عند النبي صلّى الله عليه وآله، وقال فيه الفرزدق بن غالب: ومنا خطيب لا يعاب وحامل ... أغر إذا التفت عليه المجامع [عون بن عبد الله بن مسعود] ومن الخطباء: عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وكان مع ذلك راوية ناسبا شاعرا، ولما رجع عن قول المرجئة إلى قول الشيعة قال: وأول ما نفارق غير شك ... نفارق ما يقول المرجئونا وقالوا مؤمن من أهل جور ... وليس المؤمنون بجائرينا وقالوا مؤمن دمه حلال ... وقد حرمت دماء المؤمنينا وكان حين هرب إلى محمد بن مروان في فلّ ابن الأشعث ألزمه ابنه يؤدّبه ويقوّمه، فقال له يوما: كيف ترى ابن أخيك؟ قال: «ألزمتني رجلا إن غبت عنه عتب، وإن أتيته حجب، وإن عاتبته غضب» . ثم لزم عمر بن عبد العزيز، وكان ذا منزلة منه. قالوا: وله يقول جرير: يأيّها الرجل المرخي عمامته ... هذا زمانك إني قد مضى زمني أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه ... إني لدى الباب كالمصفود في قرن وقد رآك وفود الخافقين معا ... ومذ وليت أمور الناس لم ترني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 [الجارود بن أبي سبرة] وكان الجارود بن أبي سبرة ويكنى أبا نوفل، من أبين الناس وأحسنهم حديثا، وكان راوية علامة، شاعرا مفلقا، وكان من رجال الشيعة. ولما استنطقه الحجّاج قال: ما ظننت أن بالعراق مثل هذا. وكان يقول: ما أمكنني وال قط من أذنه إلا غلبت عليه، ما خلا هذا اليهودي- يعني بلال بن أبي بردة- وكان عليه متحاملا، فلما بلغه أنه دهق «1» حتى دقت ساقه، وجعل الوتر في خصييه، أنشأ يقول: لقد قرّ عيني أن ساقيه دقّتا ... وأن قوى الأوتار في البيضة اليسرى بخلت وراجعت الخيانة والخنا ... فيسرك الله المقدّس للعسرى فما جذع سوء خرّب السوس جوفه ... يعالجه النجار يبرى كما تبرى وإنما ذكر الخصية اليسرى لأن العامة تقول: إن الولد منها يكون. [عبد الله بن عباس] ومن الخطباء الذين لا يضاهون ولا يجارون: عبد الله بن عباس. قالوا: خطبنا بمكة، وعثمان محاصر، خطبة لو شهدتها الترك والديلم لأسلمتا. قال: وذكره حسان بن ثابت فقال: إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فضلا كفى وشفى ما في النفوس ولم يدع ... لذي إربة في القول جدا ولا هزلا سموت إلى العليا بغير مشقة ... فنلت ذراها لا دنيا ولا وغلا وقال الحسن: كان عبد الله بن عباس أول من عرّف بالبصرة، صعد المنبر فقرأ البقرة وآل عمران، ففسرهما حرفا حرفا، وكان والله مثجّا يسيل غربا، وكان يسمى البحر وحبر قريش. وقال فيه النبي صلّى الله عليه وآله: «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل» وقال عمر: «غص غوّص» . ونظر إليه يتكلم فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 شنشنة أعرفها من أخزم الشعر لأبي أخزم الطائي، وهو جد أبي حاتم طيء أو جدّ جده، وكان له ابن يقال له أخزم فمات وترك بنين فتوثبوا يوما على جدهم أبي أخزم فأدموه، فقال: إن بنيّ رمّلوني بالدم ... شنشنة أعرفها من أخزم أي أنهم أشبهوا أباهم في طبيعته وخلقه. وأحسبه كان به عاقا. هكذا ذكر ابن الكلبيّ. والشنشنة مثل الطبيعة والسجية. فأراد عمر رحمه الله أني أعرف فيك مشابه من أبيك، في رأيه وعقله. ويقال إنه لم يكن لقرشي مثل رأي العباس. [داود بن علي] ومن خطباء بني هاشم أيضا: داود بن عليّ، ويكنى أبا سليمان، وكان أنطق الناس وأجودهم ارتجالا واقتضابا للقول، ويقال إنه لم يتقدّم في تحبير خطبة قط. وله كلام كثير معروف محفوظ، فمن ذلك خطبته على أهل مكة: «شكرا شكرا. أما والله ما خرجنا لنحتفر فيكم نهرا، ولا لنبني فيكم قصرا. أظن عدو الله أن لن نظفر به أن أرخي له في زمامه، حتى عثر في فضل خطامه. فالآن عاد الأمر في نصابه، وطلعت الشمس من مطلعها، والآن أخذ القوس باريها، وعادت النبل إلى النزعة، ورجع الحق إلى مستقره، في أهل بيت نبيّكم: أهل بيت الرأفة والرحمة» . [عبد الله بن الحسن بن الحسن] ومن خطباء بني هاشم: عبد الله بن الحسن بن الحسن، وهو القائل لابنه إبراهيم أو محمد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 «أي بنيّ، إني مؤد إليك حق الله في تأديبك، فأد إلي حق الله في حسن الاستماع. أي بني، كفّ الأذى، وارفض البذا، واستعن على الكلام بطول الفكر في المواطن التي تدعوك نفسك فيها إلى القول، فإن للقول ساعات يضرّ فيها الخطأ، ولا ينفع فيها الصواب. واحذر مشورة الجاهل وإن كان ناصحا، كما تحذر مشورة العاقل إذا كان غاشا، يوشك أن يورّطاك بمشورتهما، فيسبق إليك مكر العاقل، وغرارة الجاهل» . قال الحسن بن خليل: كان المأمون قد استثقل سهل بن هارون، فدخل عليه سهل يوما والناس عنده على منازلهم، فتكلم المأمون بكلام فذهب فيه كلّ مذهب، فلما فرغ المأمون من كلامه أقبل سهل بن هارون على ذلك الجمع فقال: «ما لكم تسمعون ولا تعون، وتشاهدون ولا تفقهون، وتنظرون ولا تبصرون. والله إنه ليفعل ويقول في اليوم القصير مثل ما فعل بنو مروان وقالوا في الدهر الطويل. عربكم كعجمهم، وعجمكم كعبيدهم، ولكن كيف يعرف الدواء من لا يشعر بالداء» . قال: فرجع له المأمون بعد ذلك إلى الرأي الأول. [أولاد سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس] ومن خطباء بني هاشم ثم من ولد جعفر بن سليمان: سليمان بن جعفر والي مكة. قال المكي: سمعت مشايخنا من أهل مكة يقولون: إنه لم يرد عليهم أمير منذ عقلوا الكلام إلا وسليمان أبين منه قاعدا، وأخطب منه قائما. وكان داود بن جعفر إذا خطب إسحنفر فلم يردّه شيء «1» ، وكان في لسانه شبيه بالرتة «2» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وكان أيوب فوق داود في الكلام والبيان، ولم تكن له مقامات داود في الخطب. وقال إسحاق بن عيسى لداود بن جعفر: بلغني أن معاوية قال للنخار بن أوس: ابغني محدّثا؟ قال: ومعي يا أمير المؤمنين تريد محدّثا؟ قال: نعم، استريح منك إليه، ومنه إليك، وأنا لا أستريح إلى غير حديثك، ولا يكون صمتك في حال من الحالات أوفق لي من كلامك. وكان إسماعيل بن جعفر، من أرق الناس لسانا وأحسنهم بيانا. ومن خطباء بني هاشم: جعفر بن حسن بن الحسن بن علي، وكان أحد من ينازع زيدا في الوصية، فكان الناس يجتمعون ليسمعوا مجاوباتهما فقط. وجماعة من ولد العباس في عصر واحد، لم يكن لهم نظراء في أصالة الرأي وفي الكمال والجلالة، وفي العلم بقريش والدولة، وبرجال الدعوة، مع البيان العجيب، والغور البعيد، والنفوس الشريفة، والأقدار الرفيعة، وكانوا فوق الخطباء وفوق أصحاب الأخبار، وكانوا يجلون عن هذه الأسماء إلا أن يصف الواصف بعضهم ببعض ذلك. منهم عبد الملك بن صالح. قال: وسأله الرشيد وسليمان بن أبي جعفر وعيسى بن جعفر شاهدان، فقال له: كيف رأيت أرض كذا وكذا؟ قال: عسافي ريح ومنابت شيح، قال: فأرض كذا وكذا، قال: «هضاب حمر، وبراث عفر» . قال: حتى أتى على جميع ما أراد. قال: فقال عيسى لسليمان: والله ما ينبغي لنا أن نرضى لأنفسنا بالدون من الكلام الهضبة: الجبل ينبسط على الأرض، وجمعها هضب. والبراث: الأماكن اللينة السهلة، واحدها برث. وقوله عفر، أي حمرتها كحمرة التراب. والظبي الأعفر: الأحمر، لأن حمرته كذلك: والعفر التراب، ومنه قيل: ضربه حتى عفّره، أي ألحقه بالتراب. ومن هؤلاء: عبد الله بن صالح، والعباس بن محمد، وإسحاق بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 عيسى، وإسحاق بن سليمان، وأيوب بن جعفر. هؤلاء كانوا أعلم بقريش وبالدولة وبرجال الدعوة، من المعروفين برواية الأخبار. وكان إبراهيم بن السندي يحدثني عن هؤلاء بشيء هو خلاف ما في كتب الهيثم بن عديّ وابن الكلبيّ. وإذا سمعته علمت أنه ليس من المؤلف المزوّر «1» . [نصر وإبراهيم السنديان] وكان عبد الله بن علي، وداود بن علي يعدلان بأمّة من الأمم. ومن مواليهم: إبراهيم ونصر ابنا السنديّ. فأما نصر فكان صاحب أخبار وأحاديث، وكان لا يعدو حديث ابن الكلبيّ والهيثم بن عدي. وأما إبراهيم فإنه كان رجلا لا نظير له: كان خطيبا، وكان ناسبا، وكان فقيها، وكان نحويا عروضيا، وحافظا للحديث، راوية للشعر شاعرا وكان فخم الألفاظ شريف المعاني، وكان كاتب القلم كاتب العمل، وكان يتكلم بكلام رؤبة، ويعمل في الخراج بعمل زاذان فروخ الأعور «2» ، وكان منجّما طبيبا، وكان من رؤساء المتكلمين، وعالما بالدولة وبرجال الدعوة، وكان أحفظ الناس لما سمع، وأقلهم نوما وأصبرهم على السهر. [جحدب التميمي] ومن خطباء تميم: جحدب. وكان خطيبا راوية، وكان قضى على جرير في بعض مذاهبه، فقال جرير: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 قبح الإله ولا يقبّح غيره ... بظرا تفلّق عن مفارق جحدب وهو الذي كان لقيه خالد بن سلمة المخزوميّ الخطيب الناسب، فقال: والله ما أنت من حنظلة الأكرمين، ولا سعد الأكثرين، ولا عمرو الأشدين، وما في تميم خير بعد هؤلاء. فقال له جحدب: والله إنك لمن قريش، وما أنت من بيتها ولا نبوتها، ولا من شوراها وخلافتها، ولا من أهل سدانتها وسقايتها. وهو شبيه بما قال خالد بن صفوان، للعبدري، فإنه قال له: «هشمتك هاشم، وأمّتك أمية، وخزمتك مخزوم، وأنت من عبد دارها، ومنتهى عارها، تفتح لها الأبواب إذا أقبلت، وتغلقها إذا أدبرت» . [عبد الله بن شبرمة] ومن ولد المنذر: عبد الله بن شبرمة بن طفيل بن هبيرة بن المنذر. وكان فقيها عالما قاضيا، وكان راوية شاعرا، وكان خطيبا ناسبا، وكان لاجتماع هذه الخصال فيه يشبه بعامر الشعبي، وكان يكنى أبا شبرمة. وقال يحيى بن نوفل فيه: لما سألت الناس أين المكرمه ... والعز والجرثومة المقدّمة وأين فاروق الأمور المحكمه ... تتابع الناس على ابن شبرمه وابن شبرمة الذي يقول فيه ابن أبي ليلى: وكيف ترجّى لفصل القضاء ... ولم تصب الحكم في نفسكا وتزعم أنك لابن الجلاح ... وهيهات دعواك من أصلكا قال: وقال رجل من فقهاء المدينة: من عندنا خرج العلم. قيل: من، فقال ابن شبرمة: نعم ثم لم يرجع إليكم. قال: وقال عيسى بن موسى: دلوني على رجل أولّيه مكان كذا وكذا فقال ابن شبرمة: أصلح الله الأمير، هل لك في رجل إن دعوتموه أجابكم وإن تركتموه لم يأتكم، ليس بالملح طلبا، ولا بالممعن هربا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 وسئل عن رجل، فقال: إن له شرفا وبيتا وقدما. فنظروا فإذا هو ساقط من السفلة. فقيل له في ذلك، فقال: ما كذبت، شرفه أذناه، وقدمه التي يمشي عليها، ولا بد من أن يكون له بيت يأوي إليه. قال أبو إسحاق «1» : قد لعمري كذب، إنما هو كقول القائل حين سأله بعض من أراد تزويج حرمته عن رجل، فقال: «هو يبيع الدواب» . فلما نظروا في أمره وجدوه يبيع السنانير، فلما سئل عن ذلك قال: ما كذبت، لأن السنور دابة. قال أبو إسحاق: بل لعمري لقد كذب، هذا مثل قول القائل حين سئل عن رجل في تزويج امرأة فقال: «رزين المجلس، نافذ الطعنة» . فحسبوه سيدا فارسا، فنظروا فوجدوه خياطا! فسئل عن ذلك فقال: ما كذبت، لطويل الجلوس، جيد الطعن بالإبرة. قال أبو إسحاق: بل لعمري لقد كذب، لأنه قد غرّهم منه. وكذلك لو سأله رجل عن رجل يريد أن يسلفه مالا عظيما، فقال: «هو يملك مالا ما كان يبيعه بمائة ألف ومائة ألف» ، فلما بايعه الرجل وجده معدما ضعيف الحيلة، فلما قيل له في ذلك قال: ما كذبت، لأنه يملك عينيه وأذنيه وأنفه وشفتيه ويديه. حتى عد جميع أعضائه وجوارحه. ومن قال للمستشير هذا القول فقد غره وذلك ما لا يحل في دين، ولا يحسن في الحرية. وهذا القول معصية لله، والمعصية لا تكون صدقا وأدنى منازل هذا الخبر أن لا يسمى صدقا، فأما التسمية له بالكذب فإن فيها كلاما يطول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 [خالد بن صفوان] ومن الخطباء المشهورين في العوامّ، والمقدمين في الخواصّ: خالد بن صفوان الأهتمي، زعموا جميعا أنه كان عند أبي العباس أمير المؤمنين وكان من سمّاره وأهل المنزلة عنده، ففخر عليه ناس من بلحارث بن كعب وأكثروا في القول، فقال أبو العباس: لم لا تتكلم يا خالد؟ فقال: أخوال أمير المؤمنين وأهله قال: فأنتم أعمام أمير المؤمنين وعصبته فقل. قال خالد: «وما عسى أن أقول لقوم كانوا بين ناسج برد، ودابغ جلد، وسائس قرد، وراكب عرد «1» ، دل عليهم هدهد، وغرّقتهم فأرة، وملكتهم امرأة» . فلئن كان خالد قد فكر وتدبر هذا الكلام إنه للراوية الحافظ، والمؤلف المجيد، ولئن كان هذا شيئا حضره حين حرّك وبسط فما له نظير في الدنيا. فتأمل هذا الكلام فإنك ستجده مليحا مقبولا، وعظيم القدر حليلا. ولو خطب اليماني بلسان سحبان وائل حولا كريتا «2» ، ثم صكّ بهذه الفقرة ما قامت له قائمة. وكان أذكر الناس لأول كلامه، وأحفظهم لكل شيء سلف من منطقه. وقال مكيّ بن سوادة في صفته له: عليم بتنزيل الكلام ملقّن ... ذكور لما سدّاه أول أولا يبذّ قريع القوم في كل محفل ... وإن كان سحبان الخطيب ودغفلا ترى خطباء الناس يوم ارتجاله ... كأنهم الكروان عاين أجدلا الكروان: جمع كروان، وهو ذكر الحبارى. والأجدل: الصقر وكان يقارض شبيب بن شيبة، لاجتماعهما على القرابة والمجاورة والصناعة، فذكر شبيب مرة عنده فقال: «ليس له صديق في السر، ولا عدو في العلانية» . وهذا كلام ليس يعرف قدره إلا الراسخون في هذه الصناعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وكان خالد جميلا ولم يكن بالطويل، فقالت له امرأته: إنك لجميل يا أبا صفوان. قال: وكيف تقولين هذا وما فيّ عمود الجمال ولا رداؤه ولا برنسه. فقيل له: ما عمود الجمال؟ فقال: الطول، ولست بطويل، ورداؤه البياض، ولست بأبيض، وبرنسه سواد الشعر، وأنا أشمط، ولكن قولي: إنك لمليح ظريف. وخالد يعد في الصلعان، ولكلام خالد كتاب يدور في أيدي الورّاقين. [خطباء ضبة] وكان الأزهر بن عبد الحارث بن ضرار بن عمرو الضبي، عالما ناسبا. ومن خطباء بني ضبة: حنظلة بن ضرار، وقد أدرك الإسلام وطال عمره حتى أدرك يوم الجمل، وقيل له: ما بقي منك؟ قال: «أذكر القديم وأنسى الحديث، وآرق بالليل، وأنام وسط القوم» . ومن خطباء بني ضبة وعلمائهم: مثجور بن غيلان بن خرشة، وكان مقدّما في المنطق، وهو الذي كتب إلى الحجاج: «إنهم قد عرضوا عليّ الذهب والفضة، فما ترى أن آخذ؟» قال: «أرى أن تأخذ الذهب» . فذهب عنه هاربا ثم قتله بعد. وذكره القلاخ بن حزن المنقري فقال: أمثال مثجور قليل ومثله ... فتى الصدق إن صفّقته كل مصفق وما كنت أشريه بدنيا عريضة ... ولا بابن خال بين غرب ومشرق إذا قال بذ القائلين مقاله ... ويأخذ من أكفائه بالمخنّق [خطباء الخوارج] ومن الخطباء الخوارج، قطريّ بن الفجاءة «1» ، وله خطبة طويلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 مشهورة، وكلام كثير محفوظ، وكانت له كنيتان: كنية في السلم، وهي أبو محمد، وكنية في الحرب، وهي أبو نعامة. وكانت كنية عامر بن الطفيل في الحرب غير كنيته في السلم: كان يكنى في الحرب بأبي عقيل، وفي السلم بأبي عليّ. وكان يزيد بن مزيد «1» يكنى في السلم بأبي خالد، وفي الحرب بأبي الزبير. وقال مسلم بن الوليد الأنصاري: لولا سيوف أبي الزبير وخيله ... نشر الوليد بسيفه الضحّاكا وفيه يقول: لولا يزيد وأيام سلفت ... عاش الوليد مع الغاوين أعواما سلّ الخليفة سيفا من بني مطر ... يمضي فيخترق الأجسام والهاما إذا الخلافة عدت كنت أنت لها ... عزا وكان بنو العباس حكّاما ألا تراه قد ذكر قتل الوليد! وقد كان خالد بن يزيد اكتنى بها في الحرب، في بعض أيامه بمصر. وهذا الباب مستقصى مع غيره في أبواب الكنى والأسماء، وهو وارد عليكم إن شاء الله. ومن خطباء الخوارج: ابن صديقة، وهو القاسم بن عبد الرحمن بن صديقة، وكان صفريا، وكان خطيبا ناسبا، ويشوب ذلك ببعض الظرف والهزل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 ومن علماء الخوارج: شبيل بن عزرة الضبعي، صاحب الغريب. وكان راوية خطيبا، وشاعرا ناسبا، وكان سبعين سنة رافضيا ثم انتقل خارجيا صفريا. ومن علماء الخوارج: الضحّاك بن قيس الشيباني، ويكنى أبا سعيد، وهو الذي ملك العراق، وسار في خمسين ألفا، وبايعه عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وسليمان بن هشام، وصليا خلفه، وقال شاعرهم: ألم تر أن الله أظهر دينه ... وصلّت قريش خلف بكر بن وائل وكان ابن عطاء الليثي يسامر الرشيد، وكان صاحب أخبار وأسمار وعلم بالأنساب، وكان أظرف الناس وأحلاهم. وكان عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن كريز، راوية ناسبا، وعالما بالعربية فصيحا. [عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر] وكان عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر من أبين الناس وأفصحهم. وكان مسلمة عبد الملك يقول: إني لأنحّي كور العمامة عن أذني لأسمع كلام عبد الأعلى. وكانوا يقولون: أشبه قريش نغمة وجهارة بعمرو بن سعيد، عبد الأعلى ابن عبد الله بن عامر. قال: وقال بعض الأمراء- وأظنه بلال بن أبي بردة لأبي نوفل الجارود بن أبي سبرة: ماذا تصنعون عند عبد الأعلى إذا كنتم عنده؟ قال: يشاهدنا بأحسن استماع، وأطيب حديث، ثم يأتي الطباخ فيمثل بين يديه فيقول: ما عندك؟ فيقول: عندي لون كذا وكذا وجدي كذا، ودجاجة كذا، ومن الحلواء كذا. قال: ولم يسأل عن ذلك؟ قال: ليقصر كل رجل عما لا يشتهي، حتى يأتيه ما يشتهي. ثم يأتون بالخوان فيتضايق وتتسع، ويقصّر ونجتهد، فإذا شبعنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 خوّى تخوية الظليم «1» ، ثم أقبل يأكل أكل الجائع المقرور. قال: والجارود هو الذي قال: «سوء الخلق يفسد العمل، كما يفسد الخل العسل» . وهو الذي قال: «عليكم بالمربد «2» ، فإنه يطرد الفكر، ويجلو البصر، ويجلب الخبر، ويجمع بين ربيعة ومضر» . قال: وصعد عثمان المنبر فأرتج عليه، فقال: «إن أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالا، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام خطيب، وستأتيكم الخطب على وجهها، وتعلمون إن شاء الله» . [الأبرش الكلبي] قال: وشخص يزيد بن عمر بن هبيرة إلى هشام بن عبد الملك فتكلم، فقال هشام: ما مات من خلف هذا. فقال الأبرش الكلبي: ليس هناك، أما تراه يرشح جبينه لضيق صدره! قال يزيد: ما لذلك رشح ولكن لجلوسك في هذا الموضع. وكان الأبرش ثلّابة نسّابة، وكان مصاحبا لهشام بن عبد الملك، فلما أفضت إليه الخلافة سجد وسجد من كان عنده من جلسائه، والأبرش شاهد لم يسجد. فقال له: ما منعك أن تسجد يا أبرش؟ قال: ولم أسجد وأنت اليوم معي ماشيا، وغدا فوقي طائرا. قال: فإن طرت بك معي؟ قال: أتراك فاعلا؟ قال: نعم. قال: فالآن طاب السجود. قال: ودخل يزيد بن عمر على المنصور وهو يومئذ أمير، فقال: «يأيها الأمير، إن عهد الله لا ينكث، وعقده لا يحل، وإن إمارتكم بكر فأذيقوا الناس حلاوتها، وجنبوهم مرارتها» . قال سهل بن هارون: دخل قطرب النحوي على المخلوع فقال: يا أمير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 المؤمنين، كانت عدتك أرفع من جائزتك- وهو يتبسم- قال سهل: فاغتاظ الفضل بن الربيع، فقلت له: إن هذا الحصر والضعف، وليس هذا من الجلد والقوة. أما تراه يفتل أصابعه، ويرشح جبينه. قال: وقال عبد الملك بن سلمة المخزوميّ: من أخطب الناس؟ قال أنا. قال: ثم من؟ قال: سيد جذام- يعني روح بن زنباع- قال: ثم من؟ قال: أخيفش ثقيف- يعني الحجاج- قال: ثم من؟ قال: أمير المؤمنين. قال: ويحك، جعلتني رابع أربعة. قال: نعم، هو ما سمعت. ومن خطباء الخوارج وعلمائهم ورؤسائهم في الفتيا، وشعرائهم، ورؤساء قعدهم: عمران بن حطّان. ومن علمائهم وشعرائهم وخطبائهم: حبيب بن خدرة الهلالي، وعداده في بني شيبان. وممن كان يرى رأي الخوارج: أبو عبيدة النحويّ معمر بن المثنى، مولى تيم بن مرة. ولم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلم بجميع العلم منه. وممن كان يرى رأي الخوارج: الهيثم بن عدي الطائي ثم البحتريّ. وممن كان يرى رأي الخوارج: شعيب بن رئاب الحنفي، أبو بكار، صاحب أحمد بن أبي خالد، ومحمد بن حسان السكسكيّ. ومن الخوارج من علمائهم ورؤسائهم: مسلم بن كورين، وكنيته أبو عبيدة وكان إباضيا، ومن علماء الصفرية. وممن كان مقنعا في الأخبار لأصحاب الخوارج والجماعة جميعا: مليل، وأظنه من بني تغلب. ومن أهل هذه الصفة أصفر بن عبد الرحمن، من أخوال طوق بن مالك. ومن خطبائهم وفقهائهم وعلمائهم: المقعطل، قاضي عسكر الأزارقة، أيام قطريّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 ومن شعرائهم ورؤسائهم وخطبائهم: عبيدة بن هلال اليشكري. وكان في بني السّمين من بني شيبان، خطباء العرب، وكان ذلك فيهم فاشيا، ولذلك قال الأخطل: فأين السمين لا يقوم خطيبها ... وأين ابن ذي الجدّين لا يتكلم وقال سحيم بن حفص: كان يزيد بن عبد الله بن رؤيم الشيباني من أخطب الناس، خطب عند يزيد بن الوليد، فأمر للناس بعطاءين. ومن الخطباء معبد بن طوق العنبري، دخل على بعض الأمراء فتكلم وهو قائم فأحسن، فلما جلس تتعتع في كلامه فقال له: ما أظرفك قائما، وأموقك قاعدا! قال: إني إذا قمت جددت، وإذا قعدت هزلت. قال: ما أحسن ما خرجت منها. ومن خطباء عبد القيس: مصقلة بن رقبة، ورقبة بن مصقلة، وكرب بن رقبة. والعرب تذكر من خطب العرب «العجوز» وهي خطبة لآل رقبة، ومتى تكلموا فلا بد لهم منها أو من بعضها. و «العذراء» وهي خطبة قيس بن خارجة لأنه كان أبا عذرها. و «الشوهاء» ، وهي خطبة سحبان وائل، وقيل لها ذلك من حسنها، وذلك أنه خطب بها عند معاوية فلم ينشد شاعر ولم يخطب خطيب. وكان ابن عمار الطائي خطيب مذحج كلها، فبلغ النعمان حديثه فحمله على منادمته، وكان النعمان أحمر العينين، أحمر الجلد أحمر الشعر، وكان شديد العربدة قتالا للندماء، فنهاه أبو قردودة الطائي عن منادمته، فلما قتله رثاه فقال: إني نهيت ابن عمار وقلت له ... لا تأمنن أحمر العينين والشعره إن الملوك متى تنزل بساحتهم ... تطر بنارك من نيوانهم شرره يا جفنة كإزاء الحوض قد هدموا ... ومنطقا مثل وشي اليمنة الحبره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 قال الأصمعي: وهو كقوله: ومنطق خرّق بالعواسل ... لذ كوشي اليمنة المراحل «1» [الزبرقان بن بدر] قال: وسأل رسول الله صلّى الله عليه وآله عمرو بن الأهتم عن الزّبرقان بن بدر، فقال: «إنه لمانع لحوزته، مطاع في أدنيه» . قال الزبرقان: إنه يا رسول الله ليعلم مني أكثر مما قال، ولكنه حسدني شرفي، فقصر بي. قال عمرو: «هو والله زمر المروءة، ضيّق العطن، لئيم الخال» . فنظر النبي صلّى الله عليه وآله في عينيه، فقال: «يا رسول الله، رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت، وما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الآخرة» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «إن من البيان لسحرا» . قال: وتكلم رجل في حاجة عند عمر بن عبد العزيز: وكانت حاجته في قضائها مشقة، فتكلم الرجل بكلام رقيق موجز، وتأتّى لها، فقال عمر: والله إن هذا للسحر الحلال. ومن أصحاب الأخبار والآثار أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة «2» ، وكان القاضي قبل أبي يوسف. ومن أصحاب الأخبار: أبو هنيدة وأبو نعامة، العدويان. [أيوب بن القرية] ومن الخطباء: أيوب بن القرّيّة، وهو الذي دخل على الحجاج قال له: ما أعددت لهذا الموقف؟ قال: «ثلاثة حروف، كأنهن ركب وقوف: دنيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وآخرة ومعروف» . ثم قال له في بعض القول: «أقلني عثرتي، وأسغني ريقي، فإنه لا بد للجواد من كبوة، وللسيف من نبوة، وللحليم من هفوة» . قال: كلا والله حتى أوردك نار جهنم. ألست القائل برستقاباد: تغدّوا الجدي قبل أن يتعشاكم؟ وقال: ومن خطباء غطفان في الجاهلية: خويلد بن عمرو، والعشراء بن جابر بن عقيل بن هلال بن سميّ بن مازن بن فزارة. وخويلد خطيب يوم الفجار. [بنو الكواء] ومن أصحاب الأخبار والنسب والخطب وأهل البيان: الوضاح بن خيثمة. ومن أصحاب الأخبار والنسب والخطب والحكم عند أصحاب النفورات «1» بنو الكوّاء، وإياهم يعني مسكين بن أنيف الدارمي، حين ذكر أهل هذه الطبقة فقال: كلانا شاعر من حيّ صدق ... ولكنّ الرحى فوق الثفال وحكّم دغفلا وارحل إليه ... ولا ترح المطيّ من الكلال تعال إلى بني الكوّاء يقضوا ... بعلمهم بأنساب الرجال هلم إلى ابن مذعور شهاب ... ينبّي بالسوافل والعوالي وعند الكيّس النمري علم ... ولو أضحى بمنخرق الشمال [كعب بن لؤي] ومن الخطباء القدماء: كعب بن لؤي، وكان يخطب على العرب عامة، ويحض كنانة على البرّ، فلما مات أكبروا موته، فلم تزل كنانة تؤرخ بموت كعب بن لؤي إلى عام الفيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 [شبيب بن شيبة] ومن الخطباء العلماء الأبيناء، الذين جروا من الخطابة على أعراق قديمة: شبيب بن شيبة، وهو الذي يقول في صالح بن أبي جعفر المنصور وقد كان المنصور أقام صالحا فتكلم، فقال شبيب: «ما رأيت كاليوم أبين بيانا، ولا أجود لسانا، ولا أربط جنانا، ولا أبلّ ريقا، ولا أحسن طريقا، ولا أغمض عروقا من صالح. وحق لمن كان أمير المؤمنين أباه، والمهدي أخاه، أن يكون كما قال زهير: يطلب شأو أمرين قدّما حسنا ... نالا الملوك وبذّا هذه السّوقا «1» هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدما من صالح سبقا «2» قال: وخرج شبيب من دار الخليفة يوما فقال له قائل: كيف رأيت الناس؟ قال: رأيت الداخل راجيا والخارج راضيا. قال: وقال خالد بن صفوان: «اتقوا مجانيق البغضاء» ، يريد الدعاء. قال: وقال شبيب بن شيبة: «أطلب فإنه دليل على المروءة، وزيادة في العقل، وصاحب في الغربة، وصلة في المجلس» . وقال شبيب للمهدي يوما: «أراك الله في بنيك ما أرى أباك فيك، وأرى الله بنيك فيك ما أراك في أبيك» . وقال أبو الحسن: قال زيد بن علي بن الحسين: «أطلب ما يعنيك واترك ما لا يعنيك، فإن في ترك ما لا يعنيك دركا لما يعنيك، وإنما تقدم على ما قدمت، ولست تقدم على ما أخرت. فآثر ما تلقاه غدا، على ما لا تراه أبدا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 أبو الحسن، عن إبراهيم بن سعد قال: قال خالد بن صفوان: «ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة ممثلة، أو بهيمة مهملة» . [خطباء قريش] أبو الحسن قال: كان أبو بكر خطيبا، وكان عمر خطيبا، وكان عثمان خطيبا وكان عليّ أخطبهم. وكان من الخطباء: معاوية، ويزيد، وعبد الملك، ومعاوية بن يزيد، ومروان، وسليمان، ويزيد بن الوليد، والوليد بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز. ومن خطباء بني هاشم: زيد بن علي، وعبد الله بن الحسن، وعبد الله بن معاوية، خطباء لا يجارون. ومن خطباء النساك والعباد: الحسن بن أبي الحسن البصري، ومطرف بن عبد الله الحرشي، ومورّق العجلي وبكر بن عبد الله المزني، ومحمد بن واسع الأزديّ، ويزيد بن أبان الرّقاشي ومالك بن دينار السامي. وليس الأمر كما قال، في هؤلاء القاص المجيد، والواعظ البليغ، وذو المنطق الوجيز. فأما الخطب فإنّا لا نعرف أحدا يتقدم الحسن البصري فيها. وهؤلاء وإن لم يسموا خطباء فإن الخطيب لم يكن يشق غبارهم. أبو الحسن قال: حدثني أبو سليمان الحميريّ قال: كان هشام بن عبد الملك يقول: إني لأستصفق العمامة الرقيقة تكون على أذني إذا كان عندي عبد الأعلى بن عبد الله، مخافة أن يسقط عني من حديثه شيء. ومن الخطباء من بني عبد الله بن غطفان: أبو البلاد «1» ، كان راوية ناسبا. ومنهم هاشم بن عبد الأعلى الفزاريّ ومن الخطباء: حفص بن معاوية الغلابي وكان خطيبا، وهو الذي قال حين أشرك سليمان بن علي بينه وبين مولى له على دار القتب: أشركت بيني وبين غير الكفيّ، ووليتني غير السنيّ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 [خطباء بني هلال بن عامر] ومن بني هلال بن عامر: زرعة بن ضمرة، وهو الذي قيل فيه: «لولا غلو فيه ما كان كلامه إلا الذهب» . وقام عند معاوية بالشام خطيبا فقال معاوية: يا أهل الشام هذا خالي فائتوني بخال مثله. وكان ابنه النعمان بن زرعة بن ضمرة، من أخطب الناس، وهو أحد من كان تخلص من الحجاج من فلّ بن الأشعث بالكلام اللطيف. وقال سحيم بن حفص: ومن الخطباء عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي تكلم هو وعبد الله بن الأهتم، عند عمر بن هبيرة، ففضل عاصما عليه. قال سحيم: فقال قائل يومئذ: الخل حامض ما لم يكن ماء. [خطباء تميم] ومن خطباء بني تميم: عمرو بن الأهتم. كان يدعى «المكحّل» لجماله، وهو الذي قيل فيه: إنما شعره حلل منشرة بين أيدي الملوك، تأخذ منه ما شاءت. ولم يكن في بادية العرب في زمانه أخطب منه. ومن بني منقر: عبد الله بن الأهتم، وكان خطيبا ذا مقامات ووفادات. ومن الخطباء: صفوان بن عبد الله بن الأهتم، وكان خطيبا رئيسا، وابنه خالد ابن صفوان، وقد وفد إلى هشام، وكان من سمار أبي العباس. ومنهم: عبد الله بن عبد الله بن الأهتم، وقد ولي خراسان، ووفد على الخلفاء، وخطب عند الملوك. ومن ولده شبيب بن شيبة بن عبد الله بن عبد الله بن الأهتم، وعبد الله بن عبد الله بن عبد الله بن الأهتم، وخاقان بن الأهتم هو عبد الله بن عبد الله بن عبد الله بن الأهتم. ومن خطبائهم: محمد الأحول بن خاقان، وكان خطيب بني تميم، وقد رأيته وسمعت كلامه. ومن خطبائهم: معمر بن خاقان وقد وفد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 ومن خطبائهم: مؤمّل بن خاقان. وقال أبو الزبير الثقفي: ما رأيت خطيبا من خطباء الأمصار أشبه بخطباء البادية، من المؤمّل بن خاقان. ومن خطبائهم: خاقان بن المؤمل بن خاقان، وكان صباح بن خاقان، ذا علم وبيان ومعرفة، وشدة عارضة، وكثرة رواية، مع سخاء واحتمال وصبر على الحق، ونصرة للصديق، وقيام بحق الجار. ومن بني منقر: الحكم بن النضر، وهو أبو العلاء المنقري، وكان يصرّف لسانه حيث شاء، بجهارة واقتدار. ومن خطباء بني صريم بن الحارث: الخزرج بن الصدي. ومن خطباء بني تميم ثم من مقاعس: عمارة بن أبي سليمان. ومن ولد مالك بن سعد: عبد الله وجبر ابنا حبيب، كانا ناسبين عالمين أديبين دينين. ومن ولد مالك بن سعد: عبد الله العباس ابنا رؤبة، وكان العباس علّامة عالما، ناسبا راوية، وكان عبد الله أرجز الناس وأفصحهم، وكان يكنى أبا الشعشاء، وهو العجّاج. [أصحاب الأخبار] ومن أصحاب الأخبار والنسب: أبو بكر الصديق، رحمة الله عليه، ثم جبير بن مطعم، ثم سعيد بن المسيب، ثم قتادة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة المسعودي الذي قال في كلمة له في عمر بن عبد العزيز، وعبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان: مسّا تراب الأرض منه خلقتما ... وفيه المعاد والمصير إلى الحشر ولا تأنفا أن ترجعا فتسلّما ... فما حشي الإنسان شرا من الكبر فلو شئت أدلي فيكما غير واحد ... علانية أو قال عندي في سرّ فإن أنا لم آمر ولم أنه عنكما ... ضحكت له حتى يلجّ ويستشري وهو الذي قيل له كيف تقول الشعر مع النّسك والفقه؟ قال: «إن المصدور لا يملك أن ينفث» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وقد ذكر المصدور أبو زبيد الطائي في صفة الأسد فقال: للصدر منه عويل فيه حشرجة ... كأنما هو من أحشاء مصدور [خطباء هذيل] ومن خطباء هذيل: أبو المليح الهذلي أسامة بن عمير، ومنهم أبو بكر الهذلي، كان خطيبا قاصا، وعالما بيّنا، وعالما بالأخبار والآثار. وهو الذي لما فخر أهل الكوفة قال: «لنا الساج والعاج، والديباج والخراج، والنهر العجّاج» . [خطباء قحطان] ذكر أسماء الكهان والحكام والخطباء والعلماء من قحطان. قالوا: أكهن العرب وأسجعهم سلمة بن أبي حيّة، وهو الذي يقال له عزّى سلمة. ومنهم من خطباء عمان: مرّة بن فهم التليد، وهو الخطيب الذي أوفده المهلب إلى الحجاج. ومن العتيك: بشر بن المغيرة بن أبي صفرة، وهو الذي قال لبني المهلّب «يا بني عمي، إني والله قد قصّرت عن شكاة العاتب، وجاوزت شكاة المستعتب، حتى كأني لست موصولا ولا محروما، فعدوني امرأ خفتم لسانه، أو رجوتم شكره. وإني وإن قلت هذا فلما أبلاني الله بكم أعظم مما أبلاكم بي» . ومن خطباء اليمن ثم من حمير: الصباح بن شفي الحميريّ، كان أخطب العرب. ومنهم ثم من الأنصار: قيس بن شمّاس. ومنهم: ثابت بن قيس بن شماس خطيب النبي صلّى الله عليه وآله. ومنهم: روح بن زنباع، وهو الذي لما همّ به معاوية قال: «لا تشتمن بي عدوا أنت وقمته «1» ، ولا تسوءن فيّ صديقا أنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 سررته، ولا تهدمن مني ركنا أنت بنيته. هلا أتى حلمك وإحسانك على جهلي وإساءتي» . ومن خطبائهم الأسود بن كعب، الكذّاب العنسيّ» . وكان طليحة «2» خطيبا وشاعرا وسجّاعا كاهنا ناسبا. وكان مسيلمة الكذاب «3» بعيدا من ذلك كله. وثابت بن قيس بن شماس هو الذي قال لعامر، حين قال: أما والله لئن تعرضت لعنّي وفنّي، وذكاء سنّي «4» لتولينّ عني» ، فقال له ثابت: «أما والله لئن تعرضت لسبابي، وشبا أنيابي «5» ، وسرعة جوابي، لتكرهن جنابي» قال: فقال النبي صلّى الله عليه وآله: «يكفيك الله وابنا قيلة» . لعني: أي لما يعن لي ويعرض. فني: مذهبي في الفن. وأخذت هذا الحديث من رجل يضع الأخبار فأنا أتهمه. ومن خطباء الأنصار: بشر بن عمرو بن محصنة، وهو أبو عمرة الخطيب. ومن خطباء الأنصار: سعد بن الربيع، وهو الذي اعترضت ابنته النبي صلّى الله عليه وآله، فقال لها: من أنت؟ قالت: ابنة الخطيب النقيب الشهيد: سعد بن الربيع. ومنهم خال حسان بن ثابت، وفيه يقول حسان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 إن خالي خطيب جابية الجو ... لان عند النعمان حين يقوم وإياه يعني حسان بقوله: ربّ خال لي لو أبصرته ... سبط المشية في اليوم الخصر ومنهم من الرواة والنسابين والعلماء: شرقي بن القطامي الكلبي، ومحمد ابن السائب الكلبي، وعبد الله عياش الهمداني، وهشام بن محمد بن السائب الكلبي. والهيثم بن عدي الطائي، وأبو رق الهمداني واسمه عطية بن الحارث، وأبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي، ومحمد بن عمر الأسلمي الواقدي، وعوانة الكلبي، وابن أبي عيينة المهلّبي، والخليل بن أحمد الفراهيدي، وخلف بن حيان الأحمر الأشعري. قالوا: ومنا في الجاهلية عبيد بن شريّة، ومنا شقّ بن الصعب، ومنا ربيع ابن ربيعة السطيح الذئبي. ومنا المأمور الحارثي، والديّان بن عبد المدان، الشريفان الكاهنان ومنهم عمرو بن حنظلة بن نهد الحكم، وله يقول القائل: عمرو بن حنظلة بن نهد ... من خير ناس في معد ومنهم أبو السطّاح اللخمي، وجمع معاوية بينه وبين دغفل بن حنظلة البكري. ومنهم أبو الكباس الكندي، ومنهم أظفر بن مخوس الكندي وكانا ناسبين عالمين. ومن أصحاب الأخبار والآثار عبد الله بن عقبة بن لهيعة ويكنى أبا عبد الرحمن. ومن القدماء في الحكمة والرياسة والخطابة عبيد بن شريّة الجرهمي، وأسقف نجران، وأكيدر صاحب دومة الجندل، وأفيعي نجران وذرب بن حوط، وعليم بن جناب وعمرو بن ربيعة- وهو لحي- بن حارثة بن عمرو مزيقياء. وجذيمة بن مالك الأبرش، وهو أول من أسرج الشّمع ورمى بالمنجنيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 ذكر النساك والزهاد من أهل البيان عامر بن عبد قيس، وصلة بن أشيم «1» ، وعثمان بن أدهم، وصفوان بن محرز «2» والأسود بن كلثوم، والربيع بن خشيم «3» ، وعمرو بن عتبة بن فرقد «4» ، وهرم بن حيّان، ومؤرّق العجلي، وبكر بن عبد الله المزني، ومطرّف ابن عبد الله بن الشخّير الحرشيّ. وبعد هؤلاء: مالك بن دينار، وحبيب أبو محمد «5» ، ويزيد الرقاشي، وصالح المريّ، وأبو حازم الأعرج «6» ، وزياد مولى عياش بن أبي ربيعة «7» ، وعبد الواحد بن زيد، وحيان أبو الأسود، ودهثم أبو العلاء. ومن النساء: رابعة القيسية «8» ، ومعاذة العدوية امرأة صلة بن أشيم وأم الدرداء «9» . ومن نساء الخوارج: البلجاء، وغزالة «10» ، وقطام، وحمّادة، وكحيلة، ومن نساء الغالية: ليلى الناعظية، والصّدوف، وهند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وممن كان من النساك ممن أدركناه: أبو الوليد، وهو الحكم الكندي، ومحمد بن محمد الحمراوي. ومن القدماء ممن يذكر بالقدر والرياسة، والبيان والخطابة والحكمة والدهاء والنكراء: لقمان بن عاد، ولقيم بن لقمان، ومجاشع بن دارم، وسليط بن كعب بن يربوع، سموه بذلك لسلاطة لسانه. وقال جرير: إن سليطا كاسمه سليط ولؤي بن غالب، وقس بن ساعدة، وقصي بن كلاب. ومن الخطباء البلغاء والحكام الرؤساء: أكثم بن صيفي، وربيعة بن حذار، وهرم بن قطبة، وعامر بن الظّرب، ولبيد بن ربيعة، وكان من الشعراء. أسماء الصوفية من النساك ممن كان يجيد الكلام كلاب، وكليب، وهاشم الأوقص، وأبو هاشم الصوفيّ، وصالح بن عبد الجليل. ومن القدماء العلماء بالنسب وبالعرب: الخطفي وهو جد جرير بن عطية ابن الخطفي، وهو حذيفة بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع. وإنما سمي الخطفي لأبيات قالها، وهي: يرفعن بالليل إذا ما أسدفا ... أعناق جنّان وهاما رجّفا وعنقا باقي الرسيم خيطفا العنق: ضرب من السير، وهو المسبطر، فإذا ارتفع عن العنق قليلا فهو التزيّد، فإذا ارتفع عن ذاك فهو الذّميل. والرسيم فوق الذميل. والخيطف: السريع، أي يخطف كما يخطف البرق. وخيطف من الخطف، والياء في خيطف زائدة، كما قالوا رجل صيرف من الصرف، ورجل جيدر من الجدر وهو القصر. وأصل الخطف الأخذ في سرعة ثم استعير لكل سريع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ذكر القصاص [الأبيناء] قصّ الأسود بن سريع، وهو الذي قال: فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا أخالك ناجيا وقص الحسن وسعيد ابنا أبي الحسن. وكان جعفر بن الحسن أول من اتخذ في مسجد البصرة حلقة وأقرأ القرآن في مسجد البصرة وقص إبراهيم التيمي. وقص عبيد بن عمر الليثيّ وجلس إليه عبد الله بن عمر. حدثني بذلك عمرو بن فائد بإسناد له. ومن القصاص: أبو بكر الهذلي وهو عبد الله بن سلمى، وكان بيّنا خطيبا صاحب أخبار وآثار. وقص مطرّف بن عبد الله بن الشخير في مكان أبيه. ومن كبار القصاص ثم من هذيل: مسلم بن جندب وكان قاص مسجد النبي صلّى الله عليه وآله بالمدينة، وكان إمامهم وقارئهم، وفيه يقول عمر بن عبد العزيز: «من سره أن يسمع القرآن غضا فليسمع قراءة مسلم بن جندب» . ومن القصاص: عبد الله بن عرادة بن عبد الله بن الوضين، وله مسجد في بني شيبان. ومن القصاص: موسى بن سيّار الاسواري، وكان من أعاجيب الدنيا، كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية، وكان يجلس في مجلسه المشهور به، فتقعد العرب عن يمينه، والفرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله ويفسرها للعرب بالعربية، ثم يحول وجهه إلى الفرس فيفسرها لهم بالفارسية، فلا يدري بأي لسان هو أبين. واللغتان إذا التقتا في اللسان الواحد أدخلت كل واحدة منهما الضيم على صاحبتها إلا ما ذكرناه من لسان موسى بن سيار الأسواري. ولم يكن في هذه الأمة بعد أبي موسى الأشعري أقرأ في محراب من موسى بن سيار ثم عثمان بن سعيد بن أسعد، ثم يونس النحوي، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 المعلى. ثم قص في مسجده أبو علي الاسواري، وهو عمرو بن فائد «1» ، ستا وثلاثين سنة، فابتدأ لهم في تفسير سورة البقرة، فما ختم القرآن حتى مات، لأنه كان حافظا للسير، ولوجوه التأويلات فكان ربما فسر آية واحدة في عدة أسابيع، كأن الآية ذكر فيها يوم بدر، وكان هو يحفظ مما يجوز أن يلحق في ذلك الأحاديث كثيرا. وكان يقص في فنون من القصص، ويجعل للقرآن نصيبا من ذلك. وكان يونس بن حبيب يسمع منه كلام العرب، ويحتجّ به. وخصاله المحمودة كثيرة. ثم قص من بعده القاسم بن يحيى، وهو أبو العباس الضرير، لم يدرك في القصاص مثله. وكان يقص معهما. وبعدهما مالك بن عبد الحميد المكفوف، ويزعمون أن أبا عليّ لم تسمع منه كلمة غيبة قط، ولا عارض أحدا قط من المخالفين والحساد والبغاة بشيء من المكافأة. فأما صالح المري، فكان يكنى أبا بشر، وكان صحيح الكلام رقيق المجلس. فذكر أصحابنا أن سفيان بن حبيب «2» ، لما دخل البصرة وتوارى عند مرحوم العطار قال له مرحوم: هل لك أن تأتي قاصّا عندنا ها هنا، فتتفرّج بالخروج والنظر إلى الناس، والاستماع منه؟ فأتاه على تكرّه، كأنه ظنه كبعض من يبلغه شأنه، فلما أتاه وسمع منطقه، وسمع تلاوته للقرآن، وسمعه يقول حدثنا شعبة «3» عن قتادة، وحدثنا قتادة عن الحسن، رأى بيانا لم يحتسبه، ومذهبا لم يكن يظنّه، فأقبل سفيان على مرحوم فقال: ليس هذا قاصّا، هذا نذير! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 ما قيل في المخاصر والعصي وغيرهما كانت العرب تخطب بالمخاصر «1» ، وتعتمد على الأرض بالقسيّ، وتشير بالعصي والقنا. نعم حتى كانت المخاصر لا تفارق أيدي الملوك في مجالسها، ولذلك قال الشاعر «2» : في كفّه خيزران ريحه عبق ... بكف أروع في عرنينه شمم يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم إن قال قال بما يهوى جميعهم ... وإن تكلم يوما ساخت الكلم يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم وقال الشاعر قولا فسر فيه ما قلنا. قال: مجالسهم خفض الحديث وقولهم ... إذا ما قضوا في الأمر وحي المخاصر وقال الكميت بن زيد: ونزور مسلمة المهذ ... ب بالمؤبّدة السّوائر بالمذهبات المعجبا ... ت لمفحم منا وشاعر وأهل التجاوب في المحا ... فل والمقاول بالمخاصر فهم كذلك في المجا ... لس والمحافل والمشاعر وكما قال الأنصاري في المجامع حيث يقول: وسارت بنا سيّارة ذات سورة ... بكوم المطايا والخيول الجماهر يؤمون ملك الشام حتى تمكنوا ... ملوكا بأرض الشام فوق المنابر يصيبون فصل القول في كل خطبة ... إذا وصلوا إيمانهم بالمخاصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وفي المخاصر والعصي وفي خدّ وجه الأرض بالعصي، قال الحطيئة: أم من لخصم مضجعين قسيّهم ... صعر خدودهم عظام المفخر وقال لبيد بن ربيعة في الإشارة: غلب تشذّر بالذّحول كأنها ... جنّ البديّ رواسيا أقدامها «1» وقال في خد وجه الأرض بالعصي والقسي: نشين صحاح البيد كلّ عشية ... بعوج السّراء عند باب محجب عوج: جمع عوجاء، وهي ها هنا القوس. السراء: شجر تعمل منه القسي. وفي مثله يقول الشاعر: إذا اقتسم الناس فضل الفخار ... أطلنا على الأرض ميل العصا وقال الآخر: كتبت لنا في الأرض يوم محرّق ... أيامنا في الأرض يوما فيصلا وقال لبيد بن ربيعة في ذكر القسي: ما إن أهاب إذا السرادق غمّه ... قرع القسيّ وأرعش الرّعديد وقال معن بن أوس المزني «2» : ألا من مبلغ عني رسولا ... عبيد الله إذ عجل الرّسالا تعاقل دوننا أبناء ثور ... ونحن الأكثرون حصى ومالا إذا اجتمع القبائل جئت ردفا ... وراء الماسحين لك السّبالا «3» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 فلا تعطي عصا الخطباء فيهم ... وقد تكفي المقادة والمقالا فإنكم وترك بني أبيكم ... وأسرتكم تجرون الحبالا وودّكم العدي ممن سواكم ... لكالحيران يتبع الضلالا ومما قالوا في حمل القناة قوله: إلى امرىء لا تخطاه الرفاق، ولا ... جدب الخوان إذا ما استنشىء المرق صلب الحيازيم لا هذر الكلام إذا ... هزّ القناة ولا مستعجل زهق وكما قال جرير بن الخطفي: من للقناة إذا ما عي قائلها ... أم للأعنة يا شبّ بن عمّار وقال: ومثل هذا قول أبي المجيب الربعي: «ما تزال تحفظ أخاك حتى يأخذ القناة، فعند ذلك يفضحك أو يحمدك» . يقول: إذا قام يخطب. وفي كتاب جبل بن يزيد: «احفظ أخاك إلا من نفسه» . وقال عبد الله بن رؤبة: سأل رجل رؤبة عن أخطب بني تميم، فقال: «خداش بن لبيد بن بينة» يعني البعيث. وإنما قيل له البعيث لقوله: تبعّث مني ما تبعّث بعدما ... أمرّت حبالي كل مرّتها شذرا وزعم سحيم بن حفص أنه كان يقال: أخطب بني تميم البعيث إذ أخذ القناة. وقال يونس: لعمري لئن كان مغلبا في الشعر لقد كان غلّب في الخطب. [سبب تسمية بعض الشعراء] ومن الشعراء من يغلب شيء قاله في شعره، على اسمه وكنيته، فيسمى به بشر كثير. فمنهم البعيث هذا. ومنهم عوف بن حصن بن حذيفة بن بور، غلب عليه عويف القوافي لقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 سأكذب من قد كان يزعم أنني ... إذا قلت شعرا لا أجيد القوافيا فسمي عويف القوافي لذلك. ومنهم: يزيد بن ضرار التغلبي، غلب على اسمه المزرّد، لقوله: فقلت تزرّدها عبيد فإنني ... لدرد الموالي في السّنين مزرّد «1» فسمي المزرّد. ومنهم: عمرو بن سعد بن مالك، غلب عليه مرقّش، وذلك لقوله: الدار قفر والرسوم كما ... رقّش في ظهر الأديم قلم فسمي مرقشا. ومنهم: شأس بن نهار العبدي، غلب عليه الممزّق لقوله: فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزّق فسمي الممزق. ومنهم: جرير بن عبد المسيح الضبعي، غلب عليه المتلمس لقوله: فهذا أوان العرض حيّ ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمّس ومنهم: عمرو بن رياح السّلمي، أبو خنساء ابنة عمرو، وغلب الشريد على اسمه لقوله: تولّى إخوتي وبقيت فردا ... وحيدا في ديارهم شريدا فسمي الشريد. وهذا كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 [اللفظ الغريب ليس فصيحا] قال: ودخل رجل من قيس عيلان على عبد الملك بن مروان، فقال زبيريّ عميري! والله لا يحبك قلبي أبدا! فقال: «يا أمير المؤمنين، إنما بجزع من فقدان الحب المرأة، ولكن عدل وإنصاف» . وقال عمر لأبي مريم الحنفي، قاتل زيد بن الخطاب: «لا يحبك قلبي أبدا حتى تحبّ الأرض الدم المسفوح» . وهذا مثل قول الحجاج: «والله لأقلعنك قلع الصّمغة» ، لأن الصمغة اليابسة إذا قرفت «1» عن الشجرة انقلعت انقلاع الجلبة «2» . والأرض لاتنشف الدم المسفوح ولا تمصه، فمتى جف الدم وتجلّب لم تره أخذ من الأرض شيئا. ومن الخطباء: الغضبان بن القبعثريّ «3» ، وكان محبوسا في سجن الحجاج، فدعا به يوما، فلما رآه قال: إنك لسمين! قال: القيد والرتعه «4» ، ومن يكن ضيفا للأمير يسمن» . وقال يزيد بن عياض «5» : لما نقم الناس على عثمان، خرج يتوكأ على مروان، وهو يقول: «لكل أمّة آفة، ولكل نعمة عاهة، وإن آفة هذه الأمة عيّابون طعّانون، يظهرون لكم ما تحبون، ويسرون ما تكرهون، طغام مثل النعام، يتبعون أول ناعق، لقد نقموا عليّ ما نقموه على عمر، ولكن قمعهم عمر ووقمهم. والله إني لأقرب ناصرا وأعز نفرا. فضل فضل من مالي، فما لي لا أفعل في الفضل ما أشاء» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 قال: ورأيت الناس يتداولون رسالة يحيى بن يعمر «1» ، على لسان يزيد ابن المهلب: «إنّا لقينا العدوّ فقتلنا طائفة وأسرنا طائفة، ولحقت طائفة بعراعر الأودية واهضام الغيطان، وبتنا بعرعرة الجبل، وبات العدو بحضيضة» . قال: فقال الحجاج: ما يزيد بأبي عذر هذا الكلام. فقيل له: إن معه يحيى بن يعمر! فأمر بأن يحمل إليه فلما أتاه قال: أين ولدت؟ قال: بالأهواز. قال: فأنّى لك هذه الفصاحة؟ قال: أخذتها عن أبي. عراعر الأودية: أسافلها. وعراعر الجبال: أعاليها. وأهضام الغيطان: مداخلها. والغيطان: جمع غائط، وهو الحائط ذو الشجر. ورأيتهم يديرون في كتبهم أن امرأة خاصمت زوجها إلى يحيى بن يعمر فانتهرها مرارا، فقال له يحيى بن يعمر: «أإن سألتك ثمن شكرها وشرك، أنشأت تطلّها وتضهلها» . قالوا: الضهل: التقليل. والشكر: الفرج. والشبر: النكاح. وتطلها: تذهب بحقها، يقال دم مطلول. ويقال بئر ضهول، أي قليلة الماء. قال: فإن كانوا إنما رووا هذا الكلام لأنه يدل على فصاحة فقد باعده الله من صفة البلاغة والفصاحة. وإن كانوا إنما دوّنوه في الكتب، وتذاكروه في المجالس لأنه غريب، فأبيات من شعر العجاج وشعر الطّرمّاح وأشعار هذيل، تأتي لهم مع حسن الرصف على أكثر من ذلك. ولو خاطب بقوله: «أإن سألتك ثمن شكرها وشبرك أنشأت تطلها وتضهلها» الأصمعي، لظننت أنه سيجهل بعض ذلك. وهذا ليس من أخلاق الكتاب ولا من آدابهم. قال أبو الحسن: كان غلام يقعّر في كلامه، فأتى أبا الأسود الدؤلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 يلتمس بعض ما عنده، فقال له أبو الأسود: ما فعل أبوك؟ قال: «أخذته الحمى فطبخته طبخا، وفنخته فنخا، وفضخته فضخا، فتركته فرخا» . فنخته: أضعفته. والفنيخ: الرخو الضعيف. وفضخته: دقته. فقال أبو الأسود: «فما فعلت امرأته التي كانت تهارّه وتشارّه، وتجارّه «1» وتزارّه» ؟ قال: «طلقها فتزوّجت غيره، فرضيت وحظيت وبظيت» . قال أبو الأسود: قد عرفنا رضيت وحظيت، فما بظيت؟ قال: حرف من الغريب لم يبلغك. قال أبو الأسود: يا بني كل كلمة لا يعرفها عمك فاسترها كما تستر السنور جعرها. تزارّه: تعاضه. والزر: العض. وحظيت: من الحظوة. وبظيت: اتباع لحظيت. قال أبو الحسن: مرّ أبو علقمة النحويّ ببعض طرق البصرة، وهاجت به مرة، فوثب عليه قوم منهم فأقبلوا يعضون إبهامه ويؤذّنون في أذنه، فأفلت منهم فقال: «ما لكم تتكأكئون عليّ كما تتكأكئون على ذي جنّة، إفرنقعوا عني» . قال دعوه فإن شيطانه يتكلم بالهندية. قال أبو الحسن: وهاج بأبي علقمة الدم فأتوه بحجام، فقال للحجام: «اشدد قصب الملازم، وأرهف ظبات المشارط، وأسرع الوضع وعجّل النزع، وليكن شرطك وخزا، ومصّك نهزا، ولا تكرهنّ أبيّا، ولا تردّنّ أتيّا» . فوضع الحجام محاجمه في جونته ثم مضى. فحديث أبي علقمة فيه غريب، وفيه أنه لو كان حجاما مرة ما زاد على ما قال. وليس في كلام يحيى بن يعمر شيء من الدنيا إلا أنه غريب، وهو أيضا من الغريب بغيض. وذكروا عن محمد بن إسحاق قال: لما جاء ابن الزبير وهو بمكة قتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 مروان الضحاك بمرج راهط، قام فينا خطيبا فقال: «إن ثعلب بن ثعلب، حفر بالصحصحة «1» ، فأخطأت استه الحفرة. والهف أم لم تلدني على رجل من محارب كان يرعى في جبال مكة، فيأتي بالصربة «2» من اللبن فيبيعها بالقبضة من الدقيق، فيرى ذلك سدادا من عيش، ثم أنشأ يطلب الخلافة ووراثة النبوة» . وأول هذا الكلام مستكره، وهو موجود في كل كتاب. وجار على لسان كل صاحب خبر. وقد سمعت لابن الزبير كلاما كثيرا، ليس هذا في سبيله، ولا يتعلق به. وقال أبو يعقوب الأعور: وخلجة ظن يسبق الطرف حزمها ... تشيف على غنم وتمكن من ذحل صدعت بها والقوم فوضى كأنهم ... بكارة مرباع تبصبص للفحل خلجة ظن: أي جذبه ظن، كأنه يجذب صواب الرأي جذبا. والخلج: الجذب. تشيف: أي تشرف، يقال أشاف وأشفى بمعنى واحد، أي أشرف. بكارة مرباع: أي نوق فتايا قد أذلت للفحل. مرباع: أي نوق رئيس، والمرباع: ربع الغنيمة في الجاهلية لصاحب الجيش، وقال ابن عنمة: لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول وقال رجل من بني يربوع: إلى الله أشكو ثم أشكو إليكما ... وهل تنفع الشكوى إلى من يزيدها حزازات حب في الفؤاد وعبرة ... أظلّ بأطراف البنان أذودها يحن فؤادي من مخافة بينكم ... حنين المزجّى وجهة لا يريدها وقد أحسن الآخر حيث قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وأكرم نفسي عن مناكح جمة ... ويقصر مالي أن أنال الغواليا وقال الآخر: وإذا العبد أغلق الباب دوني ... لم يحرّم عليّ متن الطريق وقال الخليع العطاردي: كنا بالبادية إذ نشأ عارض وما في السماء قزعة «1» معلّقة، وجاء السيل فاكتسح أبياتا من بني سعد، فقلت: فرحنا بوسميّ تألق ودقه ... عشاء فأبكانا صباحا فأسرعا «2» له طلّة كأن ريّق وبلها ... عجاجة صيف أو دخان ترفعا «3» فكان على قوم سلاما ونعمة ... وألحق عادا آخرين وتبّعا وقال أبو عطاء السندي، لعبيد الله بن العباس الكندي: قل لعبيد الله لو كان جعفر ... هو الحي لم يبرح وأنت قتيل إلى معشر أردوا أخاك واكفروا ... أباك فماذا بعد ذاك تقول فقال عبيد الله: أقول عض أبو عطاء ببظر أمه! فغلب عليه. قال أبو عبيدة: قال أبو البصير، في أبي رهم السدوسيّ، وكان يلي الأعمال لأبي جعفر: رأيت أبا رهم يقرّب منجحا ... غلام أبي بشر ويقصي أبا بشر فقلت ليحيى كيف قرب منجحا ... فقال: له أير يزيد على شبر [بعض محتويات الجزء الثاني] وقال أبو عثمان «4» : وقد طعنت الشعوبية على أخذ العرب في خطبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 المخصرة والقناة والقضيب، والاتكاء والاعتماد على القوس، والخدّ في الأرض، والإشارة بالقضيب، بكلام مستكره سنذكره في الجزء الثاني إن شاء الله. ولا بد من أن نذكر فيه بعض كلام معاوية، ويزيد، وعبد الملك، وابن الزبير، وسليمان، وعمر بن عبد العزيز، والوليد بن يزيد بن الوليد، لأن الباقين من ملوكهم لم يذكر لهم من الكلام الذي يلحق بالخطب، وبصناعة المنطق، إلا اليسير. ولا بد من أن نذكر فيه أقسام تأليف جميع الكلام، وكيف خالف القرآن جميع الكلام الموزون والمنثور، وهو منثور غير مقفى على مخارج الأشعار والأسجاع وكيف صار نظمه من أعظم البرهان، وتأليفه من أكبر الحجج. ولا بد من أن نذكر فيه شأن إسماعيل صلّى الله عليه وآله وانقلاب لغته بعد أربع عشرة سنة، وكيف نسي لغته التي ربي فيها، وجرى على أعراقها وكيف لفظ بجميع حاجاته بالعربية على غير تلقين ولا ترتيب، وحتى لم تدخله عجمة ولا لكنة ولا حبسة، ولا تعلق بلسانه شيء من تلك العادة، إن شاء الله. ولا بد من ذكر بعض كلام المأمون ومذاهبه، وبعض ما يحضرني من كلام آبائه وجلة رهطه. ولا بد أيضا من ذكر من صعد المنبر فحصر أو خلط، أو قال فأحسن، ليكون أتمّ للكتاب إن شاء الله. ولا بد من ذكر المنابر ولم اتخذت، وكيف كانت الخطباء من العرب في الجاهلية وفي صدر الإسلام، وهل كانت المنابر في أمّة قط غير أمتنا، وكيف كانت الحال في ذلك. وقد ذكرنا أن الأمم التي فيها الأخلاق والآداب والحكم والعلم أربع، وهي: العرب، والهند، وفارس، والروم. وقال حكيم بن عياش الكلبيّ: ألم يك ملك أرض الله طرّا ... لأربعة له متميزينا لحمير والنجاشي وابن كسرى ... وقيصر غير قول الممترينا فما أدري بي سبب وضع الحبشة بهذا المكان. وأما ذكره لحمير فإن كان إنما ذهب إلى تبّع نفسه في الملوك، فهذا له وجه. وأما النجاشي فليس هو عند الملوك في هذا المكان، ولو كان النجاشي في نفسه فوق تبّع وكسرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وقيصر لما كان أهل مملكته من الحبش في هذا الموضع. وهو لم يفضّل النجاشي لمكان إسلامه، يدل على ذلك تفصيله لكسرى وقيصر. وكان وضع كلامه على ذكر الممالك، ثم ترك الممالك وأخذ في ذكر الملوك. والدليل على أن العرب أنطق، وإن لغتها أوسع، وإن لفظها أدلّ، وأن أقسام تأليف كلامها أكثر، والأمثال التي ضربت فيها أجود وأسير. والدليل على أن البديهة مقصور عليها، وأن الارتجال والاقتضاب خاصّ فيها، وما الفرق بين أشعارهم وبين الكلام الذي تسميه الروم والفرس شعرا. وكيف صار النسيب في أشعارهم وفي كلامهم الذي أدخلوه في غنائهم وفي ألحانهم إنما يقال على ألسنة نسائهم، وهذا لا يصاب في العرب إلا القليل اليسير. وكيف صارت العرب تقطع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة، فتضع موزونا على موزون، والعجم تمطّط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن فتضع موزونا على غير موزون. وسنذكر في الجزء الثاني من أبواب العيّ واللحن والغلط والغفلة، أبوابا طريفة، ونذكر فيه النوكى من الوجوه ومجانين العرب، ومن ضرب به المثل منهم، ونوادر من كلامهم، ومجانين الشعراء. ولست أعني مثل مجنون بني عامر، ومجنون بني جعدة، وإنما أعني مثل أبي حية في أهل البادية، ومثل جعيفران في أهل الأمصار، ومثل أريسيموس اليوناني. وسنذكر أيضا بقية أسماء الخطباء والنساك وأسماء الظرفاء والملحاء، إن شاء الله. وسنذكر من كلام الحجاج وغيره، ما أمكننا في بقية هذا الجزء إن شاء الله. [من كلام الحجاج وغيره] وقال أبو الحسن المدائني: قال الحجاج لأنس بن مالك، حين دخل عليه في شأن ابنه عبد الله، وكان خرج مع ابن الأشعث: «لا مرحبا بك ولا أهلا. لعنة الله عليك من شيخ جوّال في الفتنة، مرة مع أبي تراب ومرة مع ابن الأشعث. والله لأقلعنك قلع الصّمغة، ولأعصبنّك عصب السلمة، ولأجرّدنّك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 تجريد الضّب» . قال أنس: من يعني الأمير أعزّه الله؟ قال: إياك أعني، أصمّ الله صداك! فكتب أنس بذاك إلى عبد الملك بن مروان، فكتب عبد الملك إلى الحجاج: «بسم الله الرحمن الرحيم. يا ابن المستفرمة بعجم الزبيب، والله لقد هممت أن أركلك ركلة تهوي بها في نار جهنم. قاتلك الله، أخيفش العينين أصكّ الرجلين «1» ، أسود الجاعرتين. والسلام» . وكان الحجاج أخيفش، منسلق الأجفان، ولذلك قام إمام بن أقرم النميري، وكان الحجاج جعله على بعض شرط أبان بن مروان ثم حبسه، فلما خرج قال: طليق الله لم يمنن عليه ... أبو داود وابن أبي كثير ولا الحجاج عيني بنت ماء ... تقلب طرفها حذر الصقور لأن طير الماء لا يكون أبدا إلا منسلق الأجفان. قال: وخطب الحجاج يوما فقال في خطبته: «والله ما بقي من الدنيا إلا مثل ما مضى، ولهو أشبه به من الماء بالماء والله ما أحب أن ما مضى من الدنيا لي بعمامتي هذه» . المفضل بن محمد الضبي قال: كتب الحجاج إلى قتيبة بن مسلم: أن أبعث إليّ بالآدم الجعد «2» ، الذي يفهمني ويفهم عني. فبعث إليه غذّام بن شتير فقال الحجاج: لله درّه! ما كتبت إليه في أمر قط إلا فهم عني وعرف ما أريد. وقال أبو الحسن وغيره: أراد الحجاج الحج، فخطب الناس فقال: «أيها الناس، إني أريد الحج، وقد استخلفت عليكم ابني محمدا هذا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وأوصيته فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله صلّى الله عليه وآله في الأنصار. إن رسول الله صلّى الله عليه وآله أوصى أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم، ألا وإني قد أوصيته ألا يقبل من محسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم. ألا وإنكم ستقولون بعدي مقالة ما يمنعكم من إظهارها إلا مخافتي. ستقولون بعدي: لا أحسن الله له الصحابة! ألا وإني معجل لكم الإجابة، لا أحسن الله عليكم الخلافة» . ثم نزل. وكان يقول في خطبته: «أيها الناس، إن الكف عن محارم الله أيسر من الصبر على عذاب الله» . وقال عمرو بن عبيد رحمه الله: كتب عبد الملك بن مروان وصية زياد بيده وأمر الناس بحفظها وتدبّر معانيها، وهي: «إن الله عزّ وجلّ جعل لعباده عقولا عاقبهم بها على معصيته، وأثابهم بها على طاعته، فالناس بين محسن بنعمة الله عليه، ومسيء بخذلان الله إياه. ولله النعمة على المحسن، والحجة على المسيء. فما أولى من تمت عليه النعمة في نفسه، ورأى العبرة في غيره، بأن يضع الدنيا بحيث وضعها الله فيعطي ما عليه منها، ولا يتكثر مما ليس له فيها، فإن الدنيا دار فناء، ولا سبيل إلى بقائها، ولا بد من لقاء الله عز وجل. فأحذركم الله الذي حذركم نفسه، وأوصيكم بتعجيل ما أخرته العجزة، قبل أن تصيروا إلى الدار التي صاروا إليها، فلا تقدروا فيها على توبة، وليست لكم منها أوبة. وأنا أستخلف الله عليكم، وأستخلفه منكم» . وقد روي هذا الكلام عن الحجاج، وزياد أحق به منه. قال جرير: تكلّفني ردّ الفوائت بعدما ... سبقن كسبق السيف ما قال عاذله وقال الكميت بن معروف: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 خذوا العقل إن أعطاكم القوم عقلكم ... وكونوا كمن سيم الهوان فأربعا «1» ولا تكثروا فيه الضجاج فإنه ... محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا والمثل السابق: «سبق السيف العذل» . ومن أهل الأدب: زكريّاء بن درهم، مولى بني سليم بن منصور، صاحب سعيد بن عمرو الحرشي. وزكرياء هو الذي يقول: لا تنكروا لسعيد فضل نعمته ... لا يشكر الله من لا يشكر الناسا ومن أهل الأدب ممن وجهه هشام إلى الحرشي: السّرادق بن عبد الله السدوس الفارس. ولما ظفر سلم بن قتيبة بالأزد، كان من الجند في دور الأزد انتهاب وإحراق، وآثار قبيحة، فقام شبيب بن شيبة إلى سلم بن قتيبة فقال: أيها الأمير، إن هريم بن عدي بن أبي طحمة- وكان غير منطيق- قال ليزيد بن عبد الملك في شأن المهالبة: يا أمير المؤمنين، إنّا والله ما رأينا أحدا ظلم ظلمك، ولا نصر نصرك، ولا عفا عفوك. وإنّا نقول أيضا: أيها الأمير، إنّا والله ما رأينا أحدا ظلم ظلمك، ولا نصر نصرك. فافعل الثالثة نقلها. قال الهيثم بن عديّ: قام عبد الله بن الحجاج التغلبي إلى عبد الملك بن مروان، وقد كان أراد الاتصال به، وكان عبد الملك حنقا عليه، فأقام ببابه حولا لا يصل إليه، ثم ثار في وجهه في بعض ركباته فقال: أدنو لترحمني وترتق خلّتي ... وأراك تدفعني فأين المدفع فقال عبد الملك: إلى النار! فقال: ولقد أذقت بني سعيد حرّها ... وابن الزبير فعرشه متضعضع فقال عبد الملك: قد كان ذلك، وأنا أستغفر الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 وقال أبو عبيدة: كان بين الحجاج وبين العذيل بن الفرخ العجليّ بعض الأمر، فتوعده الحجاج، فقال العذيل: أخوّف بالحجاج حتى كأنما ... يحرّك عظم في الفؤاد مهيض ودون يد الحجاج من أن تنالني ... بساط لأيدي اليعملات عريض «1» مهامه أشباه كأن سرابها ... ملاء بأيدي الغاسلات رحيض «2» المهيض: الذي قد كسر ثم جبر ثم كسر. اليعملات: العوامل، والياء زائدة لأنها من عملت. ثم ظفر به الحجاج فقال: ايه يا عديل، هل نجاك بساطك العريض؟ فقال: أيها الأمير، أنا الذي أقول فيكم: لو كنت بالعنقاء أو بيسومها ... لكان لحجاج عليّ دليل خليل أمير المؤمنين وسيفه ... لكلّ إمام مصطفى وخليل بنى قبة الإسلام حتى كأنما ... هدى الناس من بعد الضلال رسول فقال له الحجاج: اربح نفسك، واحقن دمك، وإياك وأختها، فقد كان الذي بيني وبين قتلك أقصر من إبهام الحبارى. قال: وقام الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، خطيبا بالمدينة، وكان واليها، ينعي معاوية ويدعو إلى بيعة يزيد، فلما رأى روح بن زنباع إبطاءهم قال: «أيها الناس، إنّا لا ندعوكم إلى لخم وجذام وكلب، ولكنا ندعوكم إلى قريش ومن جعل الله له هذا الأمر واختصه به، وهو يزيد بن معاوية، ونحن أبناء الطعن والطاعون، وفضالات الموت، وعندنا إن أجبتم وأطعتم من المعونة والعائدة ما شئتم» . فبايع الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 قال: وخطب إبراهيم بن إسماعيل، من ولد المغيرة المخزومي فقال: «أنا ابن الوحيد، من شاء أجزر نفسه صقرا يلوذ حمامة بالعرفج» . ثم قال: استوسقي أحمرة الوجين ... سمعن حسّ أسد حرون فهن يضرطن وينتزين ثم قال: «والله إني لأبغض القرشي أن يكون فظا» . يا عجبا لقوم يقال لهم من أبوكم فيقولون: أمنا من قريش. فتكلم رجل من عرض الناس وهو يخطب، فقال غيره: مه فإن الإمام يخطب. فقال: إنما أمرنا بالإنصات عند قراءة القرآن، لا عند ضراط أحمرة الوجين. وقال آخر: سمعت عمر بن هبيرة وهو يقول على هذه الأعواد في دعائه: اللهم إني أعوذ بك من عدو يسري، ومن جليس يغري، ومن صديق يطري. قال أبو الحسن: كان نافع بن علقمة بن نضلة بن صفوان بن محرّث، خال مروان، واليا على مكة والمدينة، وكان شاهرا سيفه لا يغمده، وبلغه أن فتى من بني سهم يذكره بكل قبيح، فلما أتي به وأمر بضرب عنقه قال الفتى: لا تعجل عليّ، ودعني أتكلم. قال: أوبك كلام؟ قال: نعم وأزيد، يا نافع وليت الحرمين تحكم في دمائنا وأموالنا، وعندك أربع عقائل من العرب، وبنيت ياقوته بين الصفا والمروة- يعني داره- وأنت نافع بن علقمة بن نضلة بن صفوان بن محرث، أحسن الناس وجها، وأكرمهم حسبا، وليس لنا من ذلك إلا التراب، لم نحسدك على شيء منه، ولم ننفسه عليك، فنفست علينا أن نتكلم. قال: فتكلم حتى ينفك فكّاك. عليّ بن مجاهد، عن الجعد بن أبي الجعد، قال: قال صعصعة بن صوحان: ما أعياني جواب أحد ما أعياني جواب عثمان، دخلت عليه فقلت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 أخرجنا من ديارنا وأموالنا أن قلنا ربنا الله! فقال: نحن الذين أخرجنا من ديارنا وأموالنا أن قلنا ربنا الله، فمنا من مات بأرض الحبشة ومنا من مات بالمدينة. قال: وقال الحجاج على منبره: «والله لألحونّكم لحو العصا، ولأعصينّكم عصب السلمة، ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل. يا أهل العراق، ويا أهل الشقاق والنفاق، ومساوىء الأخلاق، إني سمعت تكبيرا ليس بالتكبير الذي يراد به الله في الترغيب ولكنه التكبير الذي يراد به الترهيب. وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف فتنة. أي بني اللكيعة وعبيد العصا، وأبناء الإماء، والله لئن قرعت عصا عصا لأتركنكم كأمس الدابر» . مالك بن دينار قال: ربما سمعت الحجاج يخطب، يذكر ما صنع به أهل العراق وما صنع بهم، فيقع في نفسي أنهم يظلمونه وأنه صادق، لبيانه وحسن تخلصه بالحجج. قال: وقسم الحجاج مالا، فأعطى منه مالك بن دينار، وأراد أن يدفع منه إلى حبيب أبي محمد فأبي أن يقبل منه شيئا، ثم مر حبيب بمالك، فإذا هو يقسم ذلك المال، فقال له مالك: أبا محمد، لهذا قبلناه! قال له حبيب: دعني مما هناك، أسألك بالله الحجاج اليوم أحب إليك أم قبل اليوم؟ قال: بل اليوم. فقال حبيب: فلا خير في شيء حبب إليك الحجاج. ومرّ غيلان بن خرشة الضّبيّ، مع عبد الله بن عامر، على نهر أمّ عبد الله الذي يشق البصرة، فقال عبد الله: ما أصلح هذا النهر لأهل هذا المصر! فقال غيلان: أجل والله أيها الأمير، يعلّم القوم صبيانهم فيه السباحة، ويكون لسقياهم ومسيل مياههم، وتأتيهم فيه ميرتهم. قال: ثم مر غيلان يساير زيادا على ذلك النهر، وقد كان عادى ابن عامر، فقال زياد: ما أضر هذا النهر، بأهل هذا المصر! قال غيلان: أجل والله أيها الأمير، تنزّ منه دورهم، وتغرق فيه صبيانهم، ومن أجله يكثر بعوضهم. فالذين كرهوا البيان إنما كرهوا مثل هذا المذهب، فأما نفس حسن البيان فليس يذمه إلا من عجز عنه. ومن ذم البيان مدح العيّ، وكفى بهذا خبالا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 ولخالد بن صفوان كلام في الجبن المأكول، ذهب فيه شبيها بهذا المذهب. قال: ورجع طاوس عن مجلس محمد بن يوسف، وهو يومئذ والي اليمن، فقال: ما ظننت أن قول سبحان الله معصية لله حتى كان اليوم. سمعت رجلا أبلغ ابن يوسف عن رجل كلاما فقال رجل من أهل المجلس: سبحان الله! كالمستعظم لذلك الكلام. فغضب ابن يوسف. قال أبو الحسن وغيره، قالوا: دخل يزيد بن أبي مسلم على سليمان بن عبد الملك، وكان دميما، فلما رآه قال: على رجل أجرّك رسنك، وسلّطك على المسلمين، لعنة الله! قال: يا أمير المؤمنين، إنك رأيتني والأمر عني مدبر، ولو رأيتني والأمر عليّ مقبل لاستعظمت من أمري ما استصغرت! قال: فقال سليمان: أفترى الحجاج بلغ قعر جهنّم بعد! قال: يا أمير المؤمنين، يجيء الحجاج يوم القيامة بين أبيك وأخيك، قابضا على يمين أبيك وشمال أخيك، فضعه من النار حيث شئت. وذكر يزيد بن المهلب، يزيد بن أبي مسلم، بالعفة عن الدينار والدرهم وهمّ بأن يستكفيه مهما من أمره، قال: فقال عمر بن عبد العزيز: أفلا أدلك على من هو أزهد في الدرهم والدينار منه، وهو شرّ خلق الله؟ قال: من هو؟ قال: إبليس. قال: وقال أسيلم بن الأحنف، للوليد بن عبد الملك قبل أن يستخلف: أصلح الله الأمير، إذا ظننت ظنا فلا تحققه، وإذا سألت الرجال فسلهم عمّا تعلم، فإذا رأوا سرعة فهمك لما تعلم ظنوا ذلك بك فيما لا تعلم، ودس من يسألك لك عما تعلم، فإذا رأوا سرعة فهمك لما تعلم ظنوا ذلك بك فيما لا تعلم، ودس من يسأل لك عما لا تعلم. وكان أسيلم بن الأحنف الأسدي، ذا بيان وأدب وعقل وجاه، وهو الذي يقول فيه الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 ألا أيها الركب المخبون هل لكم ... بسيّد أهل الشام تحبوا وترجعوا أسيلم ذاكم لا خفا بمكانه ... لعين ترجّي أو لأذن تسمّع من النفر البيض الذين إذا انتموا ... وهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا جلا الأزفر الأحوى من المسك فرقه ... وطيب الدّهان رأسه فهو أنزع إذا النفر السود اليمانون حاولوا ... له حوك برديه أرقّوا وأوسعوا وهذا الشعر من أشعار الحفظ والمذاكرة. الهيثم بن عدي قال: قدمت وفود العراق على سليمان بن عبد الملك، بعد ما استخلف، فأمرهم بشتم الحجاج، فقاموا يشتمونه، فقال بعضهم إن عدو الله الحجاج، كان عبدا زبابا، قنّورا ابن قنّور «1» ، لا نسب له في العرب. فقال سليمان: أي شتم هذا؟ إن عدو الله الحجاج كتب إليّ: «إنما أنت نقطة من مداد، فإن رأيت فيّ ما رأى أبوك وأخوك كنت لك كما كنت لهما، وإلا فأنا الحجاج وأنت النقطة، فإن شئت محوتك، وإن شئت أثبتك» .. فالعنوه لعنة الله! فأقبل الناس يلعنون، فقام ابن أبي بردة بن أبي موسى فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرك عن عدو الله بعلم. قال: هات. قال: كان عدو الله يتزيّن تزيّن المومسة، ويصعد على المنبر فيتكلم بكلام الأخيار، وإذا نزل عمل الفراعنة وأكذب في حديثه من الدجال. فقال سليمان لرجاء بن حيوة: هذا وأبيك الشتم لا ما تأتي به هذه السّفلة. وعن عوانة قال: قطع ناس من عمرو بن تميم وحنظلة، على الحجاج ابن يوسف، فكتب إليهم: من الحجاج بن يوسف. أما بعد فإنكم قد استصحبتم الفتنة- وقال بعضهم قد استنجتم الفتنة- فلا عن حق تقاتلون، ولا عن منكر تنهون، وأيم الله إني لأهمّ أن يكون أول ما يرد عليكم من قبلي خيل تنسف الطارف والتالد، وتخلي النساء أيامى، والأبناء يتامى، والديار خرابا، والسواد بياضا، فأيّما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 رفقة مرّت بأهل ماء فأهل ذلك الماء ضامنون لها حتى تصير إلى الماء الذي يليه. تقدمة مني إليكم، والسعيد من وعظ بغيره. والسلام. مسلمة بن محارب قال: كان الحجاج يقول: «أخطب الناس صاحب العمامة السوداء بين أخصاص البصرة «1» ، إذا شاء خطب، وإذا شاء سكت» . يعني الحسن. فيقول: لم ينصب نفسه للخطاب. قال: ولما اجتمعت الخطباء عند معاوية في شأن يزيد، وفيهم الأحنف، قام رجل من حمير، فقال: إنّا لا نطيق أفواه الكمال- يزيد الجمال- عليهم المقال، وعلينا الفعال. وقول هذا الحميري: إنّا لا نطيق أفواه الكمال، يدل على تشادق خطباء نزار. سفيان بن عيينة قال: قال ابن عباس: «إذا ترك العالم قول لا أدري أصيبت مقاتله» . وقال عمر بن عبد العزيز: «من قال لا أدري فقد أحرز نصف العلم» . لأن الذي له على نفسه هذه القوة قد دلنا على جودة التثبت، وكثرة الطلب، وقوة المنّة. قال: وقيل لعيسى بن مريم عليه السلام: من نجالس؟ قال: من يزيد في علمكم منطقه، ويذكركم الله رؤيته، ويرغبكم في الآخرة عمله. قال: ومر المسيح ع بقوم يبكون، فقال: ما بال هؤلاء يبكون؟ قيل له: يخافون ذنوبهم. قال: أتركوها يغفر لكم. الوصافي «2» قال: دخل الهيثم بن الأسود بن العريان، وكان خطيبا شاعرا، على عبد الملك بن مروان فقال له: كيف تجدك؟ فقال: أجدني قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 ابيضّ مني ما كنت أحب أن يسودّ، واسودّ مني ما كنت أحب أن يبيضّ، واشتدّ مني ما كنت أحب أن يلين، ولان مني ما كنت أحب أن يشتد. ثم أنشد: اسمع أنبيك بآيات الكبر ... نوم العشاء وسعال بالسحر وقلة النوم إذا الليل اعتكر ... وقلة الطعم إذا الزاد حضر وسرعة الطرف وتحميج النظر ... وتركي الحسناء في قبل الطّهر «1» وحذرا ازداده إلى حذر ... والناس يبلون كما يبلى الشجر وقال الآخر: «مروا الأحداث بالمراء، والكهول بالفكر» . فقال عبد الله ابن الحسن: «المراء رائد الغضب، فأخزى الله عقلا يأتيك بالغضب» . وقالوا: أربعة تشتدّ معاشرتهم: الرجل المتواني، والرجل العالم، والفرس المرح، والملك الشديد المملكة. وقال غاز أبو مجاهد، يعارضه: أربعة تشتد مؤونتهم: النديم المعربد، والجليس الأحمق، والمغني التائه، والسفلة تقرّأ «2» . وكان أبو شمر الغساني يقول: أقبل عليّ فلان باللحظ واللفظ، وما الكلام إلا زجر أو وعيد. قال: وقال عمير بن الحباب «3» ، وروى ذلك عنه مسعر «4» : ما أغرت على حي في الجاهلية أحزم امرأة ولا أعجز رجلا من كلب، ولا أحزم رجلا ولا أعجز امرأة من تغلب. قال: وقامت امرأة من تغلب إلى الجحّاف بن حكيم حين أوقع بالبشر، فقتل الرجال، وبقر بطون النساء، فقالت له: «فضّ الله فاك، وأصمّك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وأعماك، وأطال سهادك، وأقل رقادك، فو الله إن قتلت إلا نساء أسافلهن دميّ، وأعليهن ثديّ» . فقال الجحاف لمن حوله: «لولا أن تلد مثلها لخليت سبيلها» . فبلغ ذلك الحسن فقال: «إنما الجحاف جذوة من نار جهنم» . وكان عامر بن الظّرب العدواني حكيما، وكان خطيبا رئيسا. وهو الذي قال: «يا معشر عدوان، إن الخير ألوف عزوف، ولن يفارق صاحبه حتى يفارقه، وإني لم أكن حليما حتى اتبعت الحكماء، ولم أكن سيدكم حتى تعبّدت لكم» . وقال أعشى بني شيبان: وما أنا في أمري ولا في خليقتي ... بمهتضم حقي ولا قارع سني ولا مسلم مولاي من شر ما جنى ... ولا خائف مولاي من شر ما أجني وإن فؤادا بين جنبي عالم ... بما أبصرت عيني وما سمعت أذني وفضّلني في العقل والشعر أنني ... أقول بما أهوى وأعرف ما أعني وقال رجل من ولد العباس: ليس ينبغي للقرشي أن يستغرق شيئا من العلم إلا علم الأخبار، فأما غير ذلك فالنتف والشدو «1» من القول. وقال اخر: وصافية تعشي العيون رقيقة ... رهينة عام في الدنان وعام أدرنا بها الكأس الرؤية بيننا ... من الليل حتى انجاب كلّ ظلام فما ذر قرن الشمس حتى كأننا ... من العيّ نحكي أحمد بن هشام ومرّ رجل من قريش بفتى من ولد عتّاب بن أسيد «2» وهو يقرأ كتاب سيبويه، فقال: أف لكم، علم المؤدّبين وهمة المحتاجين! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وقال ابن عتّاب: يكون الرجل نحويا عروضيا، وقساما فرضيا، وحسن الكتاب جيد الحساب، حافظا للقرآن، راوية للشعر، وهو يرضى أن يعلم أولادنا بستين درهما. ولو أن رجلا كان حسن البيان حسن التخريج للمعاني ليس عنده غير ذلك لم يرض بألف درهم، لأن النحوي الذي ليس عنده إمتاع، كالنجار الذي يدعى ليعلق بابا وهو أحذق الناس، ثم يفرغ من تعليقه ذلك الباب فيقال له انصرف. وصاحب الامتاع يراد في الحالات كلها. خبّرنا عبيد الله بن زيد السفياني قال: عوّد نفسك الصبر على الجليس السوء، فإنه لا يكاد يخطئك. وقال سهيل بن عبد العزيز: من ثقل عليك بنفسه، وغمّك في سؤاله، فأعره أذنا صمّاء، وعينا عمياء. سهيل بن أبي صالح «1» عن أبيه قال: كان أبو هريرة إذا استثقل رجلا قال: اللهم اغفر له وأرحنا منه! وقال ابن أبي أمية «2» : شهدت الرقاشيّ في مجلس ... وكان إليّ بغيضا مقيتا فقال اقترح يا أبا جعفر ... فقلت اقترحت عليك السكوتا وقال ابن عباس: «العلم أكثر من أن يحصى، فخذوا من كل شيء بأحسنه» . المدائني عن العباس بن عامر، قال: خطب محمد بن الوليد بن عتبة إلى عمر بن عبد العزيز أخته فقال: «الحمد لله رب العزة والكبرياء، وصلى الله على محمد خاتم الأنبياء أما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 بعد فقد أحسن بك ظنا من أودعك حرمته، واختارك ولم يختر عليك وقد زوجناك على ما في كتاب الله، إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان» . قال: وخطب أعرابي وأعجله القول وكره أن تكون خطبته بلا تحميد ولا تمجيد، فقال: «الحمد لله، غير ملال لذكر الله، ولا إيثار غيره عليه» . ثم ابتدأ القول في حاجته. وسأل أعرابي ناسا فقال: «سأجعل الله حظّكم في الخير، ولا جعل حظّ السائل منكم عذرة صادقة» . وكتب إبراهيم بن سيّابه «1» إلى صديق له كثير المال، كثير الدخل، كثير الناضّ «2» يستسلف منه نفقة، فكتب إليه: «العيال كثير، والدخل قليل، والدّين ثقيل، والمال مكذوب عليه» . فكتب إليه إبراهيم: «إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا، وإن كنت مليما فجعلك الله معذورا» . وقال الشاعر: لعل مفيدات الزمان يفدنني ... بني صامت في غير شيء يضيرها قال: وقال أعرابي: «اللهم لا تنزلني بماء سوء فأكون امرأ سوء» . وقال أعرابي: «اللهم قني عثرات الكرام» . قال: وسمع مجاشع الرّبعيّ رجلا يقول: الشحيح أعذر من الظالم. فقال: أخزى الله شيئين خيرهما الشح. قال: وأنشدنا أبو فروة: إني امتدحتك كاذبا فأثبتني ... لما امتدحتك، ما يثاب الكاذب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وأنشدني عليّ بن معاذ: ثالبني عمرو وثالبته ... فأثم المثلوب والثالب قلت له خيرا وقال الخنا ... كلّ على صاحبه كاذب أبو معشر، قال: لما بلغ عبد الله بن الزبير قتل عبد الملك بن مروان عمرو بن سعيد قام خطيبا فقال: «إن أبا ذبّان قتل لطيم الشيطان. كذلك نولّي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون» . ولما جلس عثمان بن عفان على المنبر قال: «يأيها الناس، إن الله قد فتح عليكم افريقية، وقد بعث إليكم ابن أبي سرح، عبد الله الزبير بالفتح، قم يا ابن الزبير» . قال: فقمت فخطبت، فلما نزلت قام فقال: «يأيها الناس، انكحوا النساء على آبائهن وإخوتهن، فإني لم أر لأبي بكر الصديق ولدا أشبه به من هذا» . وقال الخريمي: وأعددته ذخرا لكلّ مصيبة ... وسهم المنايا بالذخائر مولع وذكر أبو العيزار جماعة من الخوارج بالأدب والخطب فقال: ومسوّم للموت يركب ردعه ... بين القواضب والقنا الخطار «1» يدنو وترفعه الرماح كأنه ... شلو تنشّب في مخالب ضاري فثوى صريعا والرماح تنوشه ... إن الشراة قصيرة الاعمار «2» أدباء أما جئتهم خطباء ... ضمناء كل كتيبة جرّار «3» ولما خطب سفيان بن الأبرد الأصمّ الكلبي، فبلغ في الترهيب والترغيب المبالغ، ورأى عبيدة بن هلال اليشكري أن ذلك قد فتّ في أعضاد أصحابه: أنشأ يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 لعمري لقد قام الأصمّ بخطبة ... لها في صدور المسلمين غليل لعمري لئن أعطيت سفيان بيعتي ... وفارقت ديني إنني لجهول ولما قام أحد الخطباء الذين تكلموا عند رأس الاسكندر قال أحدهم: «الاسكندر كان أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس» . فأخذه أبو العتاهية فقال: بكيتك يا عليّ بدرّ عيني ... فما أغنى البكاء عليك شيّا طوتك خطوب دهرك بعد نشر ... كذاك خطوبه نشرا وطيا كفى حزنا بدفنك ثم أني ... نفضت تراب قبرك عن يديّا وكانت في حياتك لي عظات ... وأنت اليوم أوعظ منك حيا ومن الأسجاع الحسنة قول الأعرابية حين خاصمت ابنها إلى عامل الماء فقالت: «أما كان بطني لك وعاء؟ أما كان حجري لك فناء؟ أما كان ثديي لك سقاء؟» . فقال ابنها: «لقد أصبحت خطيبة، رضي الله عنك» . لأنها قد أتت على حاجتها بالكلام المتخير كما يبلغ ذلك الخطيب بخطبته. وقال النّمر بن تولب: وقالت ألا فاسمع نعظك بخطبة ... فقلت سمعنا فانطقي وأصيبي فلن تنطقي حقا ولست بأهله ... فقبّحت مما قائل وخطيب قال أبو عباد كاتب ابن أبي خالد: ما جلس أحد قط بين يدي إلا تمثل لي أني سأجلس بين يديه. قال الله عز وجل: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً . ليس يريد بلاغة اللسان، وإن كان اللسان لا يبلغ من القلوب حيث يريد إلا بالبلاغة. قال: وكانت خطبة قريش في الجاهلية- يعني خطبة النساء-: «باسمك اللهم، ذكرت فلانة وفلان بها مشغوف. باسمك اللهم، لك ما سألت ولنا ما أعطيت» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 ولما مات عبد الملك بن مروان صعد الوليد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «لم أر مثلها مصيبة، ولم أر مثلها ثوابا: موت أمير المؤمنين، والخلافة بعده. إنّا لله وإنّا إليه راجعون. والحمد لله رب العالمين على النعمة. انهضوا فبايعوا على بركة الله» . فقام إليه عبد الله بن همّام فقال: الله أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عوقها عنك ويأبى الله إلا سوقها ... إليك حتى قلدوك طوقها فبايع الناس. وقيل لعمرو بن العاص، في مرضه الذي مات فيه: كيف تجدك؟ قال: «أجدني أذوب ولا أثوب، وأجد نجوي أكثر من رزئي، فما بقاء الشيخ على ذلك» . وقيل لأعرابي كانت به أمراض عدة، كيف تجدك؟ قال: «أما الذي يعمدني فحصر وأسر» «1» . وعن مقاتل قال: سمعت يزيد بن المهلب، يخطب بواسط، فقال: «يا أهل العراق، يا أهل السبق والسباق، ومكارم الأخلاق، إن أهل الشام في أفواههم لقمة دسمة، زبّبت لها الأشداق «2» ، وقاموا لها على ساق، وهم غير تاركيها لكم بالمراء والجدال، فالبسوا لهم جلود النمور» «3» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 الجزء الثاني [مقدمة] الحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على محمد خاصة وعلى أنبيائه عامة. أردنا- أبقاك الله- أن نبتدىء صدر هذا الجزء الثاني من البيان والتبيين بالرد على الشعوبية في طعنهم على خطباء العرب وملوكهم، إذ وصلوا أيمانهم بالمخاصر واعتمدوا على وجه الأرض بأطراف القسيّ والعصيّ، وأشاروا عند ذلك بالقضبان والقنيّ. وفي كل ذلك قد روينا الشاهد الصادق، والمثل السائر. ولكنا أحببنا أن نصيّر صدر هذا الباب كلاما من كلام رسول رب العالمين، والسلف المتقدمين، والجلة من التابعين، الذين كانوا مصابيح الظلام، وقادة هذا الأنام، وملح الأرض، وحليّ الدنيا، والنجوم التي لا يضل معها الساري، والمنار الذي يرجع إليه الباغي، والحزب الذي كثر الله به القليل، وأعز به الذليل، وزاد الكثير في عدده، والعزيز في ارتفاع قدره. وهم الذين جلوا بكلامهم الأبصار الكليلة، وشحذوا بمنطقهم الأذهان العليلة، فنبهوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 القلوب من رقدتها، ونقلوها عن سوء عادتها، وشفوها من داء القسوة، وغباوة الغفلة، وداووا من العيّ الفاضح، ونهجوا لنا الطريق الواضح. ولولا الذي أملت في تقديم ذلك وتعجيله، من العمل بالصواب، وجزيل الثواب، لقد كنت بدأت بالرد عليهم، وبكشف قناع دعواهم. على أنّا سنقول في ذلك بعد الفراغ مما هو أولى بنا وأوجب علينا. والله الموفق، وهو المستعان. [ باب فى الخطب ] [أنواع الخطب] وعلى أن خطباء السلف الطيب، وأهل البيان من التابعين بإحسان، ما زالوا يسمون الخطبة التي لم تبتدأ بالتحميد، وتستفتح بالتمجيد: «البتراء» . ويسمون التي لم توشح بالقرآن، وتزين بالصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الشوهاء» . وقال عمران بن حطّان: خطبت عند زياد خطبة ظننت أني لم أقصّر فيها عن غاية، ولم أدع لطاعن علة، فمررت ببعض المجالس فسمعت شيخا يقول: هذا الفتى أخطب العرب لو كان في خطبته شيء من القرآن. وخطب أعرابي فلما أعجله بعض الأمر عن التصدير بالتحميد، والاستفتاح بالتمجيد، قال: «أما بعد، بغير ملالة لذكر الله ولا إيثار غيره عليه، فإنّا نقول كذا، ونسأل كذا» ، فرارا من أن تكون خطبته بتراء أو شوهاء. وقال شبيب بن شيبة: «الحمد لله، صلّى الله على رسول الله. أما بعد، فإنّا نسأل كذا، ونبذل كذا» . وبنا- حفظك الله- أعظم الحاجة إلى أن يسلّم كتابنا هذا من النّبز «1» القبيح والشّوه «2» المشين، واللقب السّمج المعيب، بل قد يجب أن نزيد في بهائه، ونستميل القلوب إلى اجتبائه، إذ كان الأمل فيه بعيدا، وكان معناه شريفا ثمينا. ثم اعلم بعد ذلك أن جميع خطب العرب، من أهل المدر والوبر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 والبدو والحضر، على ضربين: منها الطّوال، ومنها القصار، ولكل ذلك مكان يليق به، وموضع يحسن فيه. ومن الطوال ما يكون مستويا في الجودة، ومتشاكلا في استواء الصنعة، ومنها ذوات الفقر الحسان، والنّتف الجياد. وليس فيها بعد ذلك شيء يستحق الحفظ، وإنما حظه التخليد في بطون الصحف. ووجدنا عدد القصار أكثر، ورواة العلم إلى حفظها أسرع. وقد أعطينا كل شكل من ذلك قسطه من الاختيار، ووفيناه حظه من التمييز، ونرجو ألا نكون قصرنا في ذلك. والله الموفق. هذا سوى ما رسمنا في كتابنا هذا من مقطعات كلام العرب الفصحاء وجمل كلام الأعراب الخلص، وأهل اللسن من رجالات قريش والعرب، وأهل الخطابة من أهل الحجاز، ونتف من كلام النساك، ومواعظ من كلام الزهاد، مع قلة كلامهم، وشدة توقّيهم. وربّ قليل يغني عن الكثير، كما أن ربّ كثير لا يتعلق به صاحب القليل. بل رب كلمة تغني عن خطبة، وتنوب عن رسالة. بل رب كناية تربي على افصاح، ولحظ يدل على ضمير، وإن كان ذلك الضمير بعيد الغاية، قائما على النهاية. ومتى شاكل أبقاك الله ذلك اللفظ معناه، وأعرب عن فحواه، وكان لتلك الحال وفقا، ولذلك القدر لفقا، وخرج من سماجة الاستكراه، وسلّم من فساد التكلف، كان قمينا بحسن الموقع، وبانتفاع المستمع، وأجدر أن يمنع جانبه من تناول الطاعنين، ويحمي عرضه من اعتراض العائبين، وألا نزال القلوب به معمورة، والصدور مأهولة. ومتى كان اللفظ أيضا كريما في نفسه، متخيرا من جنسه، وكان سليما من الفضول، بريئا من التعقيد، حبّب إلى النفوس، واتصل بالأذهان، والتحم بالعقول. وهشّت إليه الأسماع، وارتاحت له القلوب، وخفّ على ألسن الرواة، وشاع في الآفاق ذكره، وعظم في الناس خطره، وصار ذلك مادة للعالم الرئيس، ورياضة للمتعلم الريّض. فإن أراد صاحب الكلام صلاح شأن العامة، ومصلحة حال الخاصة، وكان ممن يعمّ ولا يخصّ، وينصح ولا يغش، وكان مشغوفا بأهل الجماعة، شنفا «1» لأهل الاختلاف والفرقة، جمعت له الحظوظ من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 أقطارها، وسيقت إليه القلوب بأزمتها، وجمعت النفوس المختلفة الأهواء على محبته، وجبلت على تصويب إرادته. ومن أعاره الله من معونته نصيبا، وأفرغ عليه من محبته ذنوبا، جلبت إليه المعاني، وسلس له النظام، وكان قد أعفى المستمع من كد التكلف، وأراح قارىء الكتاب من علاج التفهم. ولم أجد في خطب السلف الطيب والأعراب الأقحاح، ألفاظا مسخوطة، ولا معاني مدخولة، ولا طبعا رديئا، ولا قولا مستكرها. وأكثر ما تجد ذلك في خطب المولدين، وفي خطب البلديين المتكلفين، ومن أهل الصنعة المتأدبين، وسواء كان ذلك منهم على جهة الارتجال والاقتضاب، أم كان من نتاج التحبير والتفكير. [طبقات الشعراء] ومن شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولا كريتا «1» ، وزمنا طويلا، يردد فيها نظره، ويجيل فيها عقله، ويقلب فيها رأيه، اتهاما لعقله، وتتبعا على نفسه، فيجعل عقله، زماما على رأيه، ورأيه عيارا على شعره، إشفاقا على أدبه، وإحرازا لما خوله الله تعالى من نعمته. وكانوا يسمون تلك القصائد: الحوليات، والمقلّدات، والمنقّحات، والمحكّمات، ليصير قائلها فحلا خنذيذا، وشاعرا مفلقا. وفي بيوت الشعر الأمثال والأوابد، ومنها الشواهد، ومنها الشوارد. والشعراء عندهم أربع طبقات. فأولهم: الفحل الخنذيذ. والخنذيذ هو التام. قال الأصمعي: قال رؤبة: «الفحولة هم الرواة» . ودون الفحل الخنذيذ الشاعر المفلق، ودون ذلك الشاعر فقط، والرابع الشعرور. ولذلك قال الأول في هجاء بعض الشعراء: يا رابع الشعراء كيف هجوتني ... وزعمت أني مفحم لا أنطق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 فجعله سكيتا مخلفا ومسبوقا مؤخرا. وسمعت بعض العلماء يقول: طبقات الشعراء ثلاث: شاعر، وشويعر، وشعرور. قال: والشويعر مثل محمد بن حمران بن أبي حمران، سماه بذلك امرؤ القيس بن حجر. ومنهم من بني ضبة المفوّف، شاعر بني حميس، وهو الشويعر، ولذلك قال العبدي: ألا تنهي سراة بني حميس ... شويعرها فويلية الأفاعي قبيّلة تردّد حيث شاءت ... كزائدة النعامة في الكراع فويلية الأفاعي: دويّبة سوداء فوق الخنفساء. والشويعر أيضا صفوان بن عبد ياليل، من بني سعد بن ليث، ويقال إن اسمه ربيعة بن عثمان. وهو الذي يقول: فسائل جعفرا وبني أبيها ... بني البزري بطخفة والملاح «1» وأفلتنا أبو ليلى طفيل ... صحيح الجلد من أثر السلاح وقد زعم ناس أن الخنذيذ من الخيل هو الخصي. وكيف يكون ذلك. كذلك مع قول الشاعر: يا ليتني بالخبث لم أر مثلها ... أمرّ قرى منها وأكثر باكيا وأكثر خنذيذا يجر عنانه ... إلى الماء لم يترك له السيف ساقيا وقال بشر بن أبي خازم: وخنذيذ ترى الغرمول منه ... كطي الزقّ علّقه التّجار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 وأبين من ذلك قال البرجمي: وخناذيذ خصية وفحولا ويدل على ما قلنا قول القيسي: دعوت بني سعد إليّ فشمّرت ... خناذيذ من سعد طوال السواعد وكان زهير بن أبي سلمى يسمي كبار قصائده الحوليات. وقد فسر سويد بن كراع العكليّ ما قلنا، في قوله: أبيت بأبواب القوافي كأنما ... أصادي بها سربا من الوحش نزّعا أكالئها حتى أعرّس بعد ما ... يكون سحيرا أو بعيدا فأهجعا «1» عواصي إلا ما جعلت أمامها ... عصا مربد تغشى نحورا وأذرعا «2» أهبت بغرّ الآبدات فراجعت ... طريقا أملته القصائد مهيعا «3» بعيدة شأو، لا يكاد يردها ... لها طالب حتى يكلّ ويظلعا إذا خفت أن تروى عليّ رددتها ... وراء التراقي خشية أن تطلعا وجشمني خوف ابن عفان ردها ... فثقفتها حولا حريدا ومربعا وقد كان في نفسي عليها زيادة ... فلم أر إلا أن أطيع وأسمعا ولا حاجة بنا مع هذه الفقر إلى الزيادة في الدليل على ما قلنا، ولذلك قال الحطيئة: «خير الشعر الحولي المحكك» . وقال الأصمعي: «زهير بن أبي سلمى، والحطيئة وأشباههما، عبيد الشعر» . وكذلك كل من جوّد في جميع شعره، ووقف عند كل بيت قاله، وأعاد فيه النظر حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجودة. وكان يقال: لولا إن الشعر قد كان استعبدهم واستفرغ مجهودهم حتى أدخلهم في باب التكلف وأصحاب الصنعة، ومن يلتمس قهر الكلام، واغتصاب الألفاظ، لذهبوا مذهب المطبوعين، الذين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 تأتيهم المعاني سهوا ورهوا «1» ، وتنثال عليهم الألفاظ اشيالا. وإنما الشعر المحمود كشعر النابغة الجعدي ورؤبة. ولذلك قالوا في شعره: مطرف بآلاف وخمار بواف. وقد كان يخالف في ذلك جميع الرواة والشعراء. وكان أبو عبيدة يقول ويحكي ذلك عن يونس. ومن تكسب بشعره والتمس به صلات الأشراف والقادة، وجوائز الملوك والسادة، في قصائد السماطين، وبالطوال التي تنشد يوم الحقل، لم يجد بدا من صنيع زهير والحطيئة وأشباههما، فإذا قالوا في غير ذلك أخذوا عفو الكلام وتركوا المجهود، ولم نرهم من ذلك يستعملون مثل تدبيرهم في طوال القصائد في صنعة طوال الخطب، بل كان الكلام البائت عندهم كالمقتضب، اقتدارا عليه، وثقة بحسن عادة الله عندهم فيه. وكانوا مع ذلك إذا احتاجوا إلى الرأي في معاظم التدبير ومهمات الأمور، ميّثوه «2» في صدورهم، وقيدوه على أنفسهم، فإذا قوّمه الثقاف وأدخل الكير، وقام على الخلاص، أبرزوه محكما منقحا، ومصفى من الأدناس مهذبا. قال الربيع بن أبي الحقيق لأبي ياسر النضيري: فلا تكثر النجوى وأنت محارب ... تؤامر فيها كل نكس مقصر وقال عبد الله بن وهب الراسبي: «إياي والرأي الفطير» . وكان يستعيذ بالله من الرأي الدّبري، الذي يكون من غير روية، وكذلك الجواب الدبري. وقال سبحان وائل: «شر خليطيك السؤوم المحزّم» لأن السؤوم لا يصبر، وإنما التفاضل في الصبر. والمحزم صعب لا يعرف ما يراد منه، وليس الحزم إلا بالتجارب، وبأن يكون عقل الغريزة سلما إلى عقل التجربة. ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «رأي الشيخ أحب إلينا من جلد الشاب» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 ولذلك كرهوا ركوب الصعب حتى يذل، المهر الأرن إلا بعد رياضة «1» ولم يحولوا المعانيق هماليج إلا بعد طول التخليع «2» ، ولم يحلبوا الزبون إلا بعد الأبساس «3» . [من أقوال رسول الله وأحاديثه وخطبه] وسنذكر من كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مما لم يسبقه إليه عربي، ولا شاركه فيه أعجمي، ولم يدّع لأحد ولا ادّعاه أحد، مما صار مستعملا ومثلا سائرا. فمن ذلك قوله: «يا خيل الله اركبي» ، وقوله: «مات حتف أنفه» ، وقوله: «لا تنتطح فيه عنزان» ، وقوله: «الآن حمي الوطيس» . ولما قال عديّ بن حاتم «4» في قتل عثمان رحمه الله: «لا تحبق فيه عناق» «5» قال له معاوية بن أبي سفيان بعد أن فقئت عينه وقتل ابنه: يا أبا طريف، هل حبقت في قتل عثمان عناق؟ قال: أى والله، والتيس الأكبر! فلم يصر كلامه مثلا، وصار كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثلا. ومن ذلك قوله لأبي سفيان بن حرب: «كل الصيد في جوف الفرا» . ومن ذلك قوله: «هدنة على دخن، وجماعة على أقذاء» «6» ، ومن ذلك قوله: «لا يلسع المؤمن من جحر مرتين» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 ألا ترى أن الحارث بن حدّان، حين أمر بالكلام عند مقتل يزيد بن المهلب، قال: «أيها الناس، اتقوا الفتنة، فإنها تقبل بشبهة، وتدبر ببيان، وإن المؤمن لا يلسع من جحر تين» ، فضرب بكلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المثل، ثم قال: «اتقوا عصبا تأتيكم من الشام، كأنها دلاء قد انقطع وذمها» . وقال ابن الأشعث لأصحابه، وهو على المنبر: «قد علمنا إن كنا نعلم، وفهمنا إن كنا نفهم، أن المؤمن لا يلسع من جحر مرتين، وقد والله لسعت بكم من جحر ثلاث مرات، وأنا أستغفر الله من كل ما خالف الإيمان، واعتصم به من كل ما قارب الكفر» . وأنا ذاكر بعد هذا فنا آخر من كلامه صلّى الله عليه وسلّم، وهو الكلام الذي قلّ عدد حروفه وكثر عدد معانيه، وجلّ عن الصنعة، ونزّه عن التكلف، وكان كما قال الله تبارك وتعالى: قل يا محمد: وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ . فكيف وقد عاب التشديق، وجانب أصحاب التقعيب، واستعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حف بالعصمة، وشيد بالتأييد، ويسر بالتوفيق. وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة، وغشاه بالقبول وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الأفهام، وقلة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته. لم تسقط له كلمة، ولا زلت به قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذّ الخطب الطوال بالكلام القصار، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلج «1» إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز ولا يلمز «2» ، ولا يبطىء ولا يعجل، ولا يسهب ولا يحصر. ثم لم يسمع الناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 بكلام قط أعم نفعا، ولا أقصد لفظا، ولا أعدل وزنا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مخرجا، ولا أفصح معنى، ولا أبين في فحوى، من كلامه صلّى الله عليه وسلّم كثيرا. قال: ولم أرهم يذمون المتكلف للبلاغة فقط، بل كذلك يرون المتظرف والمتكلف للغناء. ولا يكادون يضعون اسم المتكلف إلا في المواضع التي يذمونها. قال قيس بن الخطيم: فما المال والأخلاق إلا معارة ... فما اسطعت من معروفها فتزوّد وإني لأغنى الناس عن متكلّف ... يرى الناس ضلالا وليس بمهتد وقال ابن قميئة: وحمال أثقال إذا هي أعرضت ... عن الأصل لا يسطيعها المتكلّف قال محمد بن سلّام: قال يونس بن حبيب: «ما جاءنا عن أحد من روائع الكلام ما جاءنا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» . وقد جمعت لك في هذا الكتاب جملا التقطناها من أفواه أصحاب الأخبار. ولعل بعض من يتسع في العلم، ولم يعرف مقادير الكلم، يظن أنّا قد تكلفنا له من الامتداح والتشريف ومن التزيين والتجويد ما ليس عنده، ولا يبلغه قدره. كلا والذي حرم التزيد على العلماء، وقبح التكلف عند الحكماء، وبهرج الكذابين عند الفقهاء، لا يظن هذا إلا من ضل سعيه! فمن كلامه صلّى الله عليه وسلّم حين ذكر الأنصار فقال: «أما والله ما علمتكم إلا لتقلون عند الطمع، وتكثرون عند الفزع» . وقال: «الناس كلهم سواء كأسنان المشط» ، و «المرء كثير بأخيه» ، و «لا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له» . وقال الشاعر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 سواء كأسنان الحمار فلا ترى ... لذي شيبة منهم على ناشىء فضلا وقال آخر: شبابهم وشيبهم سواء ... فهم في اللوم أسنان الحمار وإذا حصلت تشبيه الشاعر وحقيقته، وتشبيه النبي صلّى الله عليه وسلّم وحقيقته، عرفت فضل ما بين الكلامين. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم» . فتفهم رحمك الله، قلة حروفه، وكثرة معانيه. وقال عليه السلام: «اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول» . وقال: «لا تجن يمينك على شمالك» . وذكر الخيل فقال: «بطونها كنز، وظهورها حرز» ، وقال: «خير المال سكة مأبورة، وفرس مأمورة» «1» . وقال: «خير المال عين ساهرة، لعين نائمة» . وقال: «نعمت العمة لكم النخلة، تغرس في أرض خوارة «2» ، وتشرب من عين خرارة» . وقال: «المطعمات في المحل، الراسخات في الوحل» . وقال: «الحمى في أصول النخل» . وذكر الخيل فقال: «أعرافها دفاؤها، وأذنابها مدابها» ، و «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» . وقال: «ليس منا من حلق أو صلق أو شق» «3» . وقال: «نهيتكم عن عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات» . وقال: «الناس كالإبل المائة لا تجد فيها راحلة» . وقال: «ما أملق تاجر صدوق» . وجاء في الحديث: «ما قل وكفى خير مما كثر وألهى» . وقال: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الخير في السيف، والخير مع السيف، والخير بالسيف» . وقال: «لا يوردن مجرب على مصح» . وقال: «لا تزال أمتي صالحا أمرها ما لم تر الأمانة مغنما والصدقة مغرما» . وقال: «رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس» ، و «لن يهلك امرؤ بعد مشورة» . وقال: «المستشار مؤتمن» . وقال: «المستشار بالخيار، إن شاء قال وإن شاء أمسك» ، وقال: «رحم الله عبدا قال خيرا؟ غرم أو سكت فسلم» . وقال: «افصلوا بين حديثكم بالاستغفار» . وقال: «استعينوا على طول المشي بالسعي» . وقال للخاتنة: «يا أم عطية، أشمّيه ولا تنهكيه، فإنه أسرى للوجه، وأحظى عند الزوج» ، وقال: «لا تجلسوا على ظهر الطريق، فإن أبيتم فغضوا الأبصار وردوا السلام، واهدوا الضال، وأعينوا الضعيف» . وقال: «إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبله جميعا ولا تفرّقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم. ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» . وقال: «يقول ابن آدم: مالي مالي. وإنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو وهبت فأمضيت» . «لو أن لابن آدم واديين من ذهب لسأل إليهما ثالثا» . و «لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» . وقال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستعملكم فيها، فناظر كيف تعملون» . وقال: «إن أحبكم إليي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون. وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة، الثرثارون المتشدقون المتفيهقون» . وقال: «إياي والتشادق» ، وقال: «إياكم والفرج في الصلاة» ، وقال: «إياكم والفرج في الصلاة» ، وقال: «لا يؤمّن ذو سلطان في سلطانه ولا يجلس على فراش تكرمته إلا بإذنه» . وقال: «إياكم والمشارّة، فإنها تميت الغرّة، وتحيي العرّة» . وقال: «لا ينبغي لصديق أن يكون لعّانا» . وكان يقول: «أعوذ بالله من الأيهمين، وبوار الأيّم» «1» . وكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 يقول: «أعوذ بالله من دعاء لا يسمع، ومن قلب لا يخشع، ومن علم لا ينفع» . وقال له رجل: يا رسول الله، أوصني بشيء ينفعني الله به. قال: «أكثر ذكر الموت يسلك عن الدنيا، وعليك بالشكر، فإنه يزيد في النعمة، وأكثر الدعاء، فإنك لا تدري متى يستجاب لك. وإياك والبغي، فإن الله قد قضى أنه من بغى عليه لينصرنّه الله، وقال: يأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم. وإياك والمكر، فإن الله قد قضى ألا يحيق المكر السيء إلا بأهله» . وقيل يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ فقال: «اجتناب المحارم، وألا يزال فوك رطبا من ذكر الله» . وقيل له: أي الأصحاب أفضل؟ قال: «الذي إذا ذكرت أعانك، وإذا نسيت ذكرك» . وقيل: أي الناس شر؟ قال: «العلماء إذا فسدوا» . وقال «دب اليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء. والبغضاء هي الحالقة، حالقة الدين لا أقول حالقة الشعر. والذي نفس محمد بيده لا تؤمنون حتى تحابوا. ألا أنبئكم بأمر إذا فعلتموه تحاببتم؟» فقالوا: بلى يا رسول الله، قال: «أفشوا السلام، وصلوا الأرحام» . وقال: «تهادوا تحابوا» . وعن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أوصاني ربي بتسع. أوصاني بالاخلاص في السر والعلانية، وبالعدل في الرضى والغضب، وبالقصد في الغنى والفقر، وأن أعفو عمن ظلمني، وأعطي من حرمني، وأصل من قطعني وأن يكون صمتي فكرا، ونطقي ذكرا، ونظري عبرا» . وثلاث كلمات رويت مرسلة، وقد رويت لأقوام شتى، وقد يجوز أن يكونوا حكوها ولم يسندوها. منها قوله: «لو تكاشفتم لما تدافنتم» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 ومنها قوله: «الناس بأزمانهم، أشبه منهم بآبائهم» . ومنها قوله: «ما هلك امرؤ عرف قدره» . وقد ذكر اسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن دينار قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله كره لكم العبث في الصلاة، والرفث في الصيام، والضحك عند المقابر» . وقال: «إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحذم» «1» وحدثنا اسماعيل بن عياش الحمصي، عن الحسن بن دينار عن الخصيب بن جحدر، عن رجل، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس من أخلاق المؤمن الملق إلا في طلب العلم» . ومن حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قيدوا العلم بالكتاب» . وقال: «يقول الله: لولا رجال خشع، وصبيان رضع، وبهائم رتع، لصببت عليكم العذاب صبا» . ومن حديث عبد الله بن المبارك يرفعه قال: «إذا ساد القبيل فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل اتقاء شره، فلينتظروا البلاء» . ومن أحاديث ابن ابي ذئب عن المقبري، عن ابي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ستحرصون على الامارة، فنعمت المرضع، وبئست الفاطمة» . ومن حديث عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان» . ومن حديث عبد الله بن المبارك، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يقول: «إن قوما ركبوا سفينة في البحر فاقتسموا، فصار لكل رجل موضع، فنقر رجل موضعه بفأس فقالوا: ما تصنع؟ قال: هو فكاني أصنع به ما شئت. فإن أخذوا على يديه نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا» . وقال: «علق سوطك حيث يراه أهلك» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 ودخل السائب بن صيفي، على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، أتعرفني؟ فقال: «كيف لا أعرف شريكي الذي كان لا يشاريني ولا يماريني» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بالوالي الذي يجلد فوق ما أمره الله تعالى فيقول له الرب تعالى: أي عبدي، لم جلدت فوق ما أمرتك به؟ فيقول: رب غضبت لغضبك. فيقول: أكان ينبغي لغضبك أن يكون أشد من غضبي؟! ثم يؤتى بالمقصر فيقول: عبدي، لم قصرت عما أمرتك به؟ فيقول: رب، رحمته. فيقول: أكان ينبغي لرحمتك أن تكون أوسع من رحمتي؟! قال: فيأمر فيهما بشيء قد ذكره لا أعرفه، ألا أنه قال: صيرهما إلى النار» . وكيع قال: حدثنا عبد العزيز بن عمر، عن قزعة قال: قال لي ابن عمر: أودعك كما ودعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أستودع الله دينك وأمانتك وخواتم عملك» . وقال: «كل أرض بسمائها» . وروى سعيد بن عفير عن ابن لهيعة، عن أشياخه، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى وائل بن حجر الحضرمي ولقومه: «من محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الأقيال العباهلة من أهل حضر موت، بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة: على التيعة شاة، والتيمة لصاحبها «1» ، وفي السيوب الخمس «2» . لا خلاط، ولا وراط «3» ، ولا شناق «4» ، ولا شغار. فمن أجبى «5» فقد أربى. وكل مسكر حرام» . ومن حديث راشد بن سعيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تغالوا بالنساء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 فإنما هن سقيا الله» . وقال: «خير نساء ركبن الابل صوالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره. وأرعاه على بعل في ذات يده» . مجالد عن الشعبي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «اللهم أذهب ملك غسان وضع مهور كندة» . والذي يدلك على أن الله عز وجل قد خصه بالايجاز وقلة عدد اللفظ، مع كثرة المعاني، قوله صلّى الله عليه وسلّم: «نصرت بالصبا وأعطيت جوامع الكلم» . ومما رووا عنه صلّى الله عليه وسلّم من استعماله الأخلاق الكريمة، والافعال الشريفة وكثرة الأمر بها، والنهي عما خالف عنها، قوله: «من لم يقبل من متنصل عذرا، صادقا كان أو كاذبا، لم يرد علي الحوض» . وقال في آخر وصيته: «اتقوا الله في الضعيفين» . وكلمته جارية من السبي فقال لها: من أنت؟ فقالت: أنا بنت الرجل الجواد حاتم. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ارحموا عزيزا ذل، ارحموا عالما ضاع بين جهال» . وقال: «سرعة المشي تذهب ببهاء المؤمن» . وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الأحاديث ستكثر عني بعدي كما كثرت عن الأنبياء من قبلي، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله، فهو عني، قلته أو لم أقله» . وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: «خلق القرآن» ، وتلت قول الله تبارك وتعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم) . وقال محمد بن علي: أدب الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بأحسن الآداب، فقال: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ فلما وعى قال: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ. حدثنا علي بن مجاهد، عن هشام بن عروة، قال: سمع عمر بن الخطاب رحمه الله رجلا ينشد: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد فقال عمر: ذاك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقد كان الناس يستحسنون قول الأعشى: تشبّ لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق فلما قال الحطيئة البيت الذي كتبناه قبل هذا سقط بيت الأعشى. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يزال المسروق منه في تهمة من هو بريء، حتى يكون أعظم جرما من السارق» . وقال ابو الحسن: أجرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخيل وسبق بينها، فجاء فرس له أدهم سابقا، فجثا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ركبتيه وقال: «ما هو إلا بحر» . فقال عمر بن الخطاب: كذب الحطيئة حيث يقول: وإن جياد الخيل لا تستفزنا ... ولا جاعلات العاج فوق المعاصم وقد زعم ناس من العلماء أنه لم يستفزه سبق فرسه، ولكنه أراد إظهار حب الخيل وتعظيم شأنها. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأكل على الأرض، ويجلس على الأرض ويلبس العباء، ويجالس المساكين، ويمشي في الأسواق، ويتوسد يده، ويقصّ من نفسه، ويلطع أصابعه، ولا يأكل متكئا، ولم يرقط ضاحكا ملء فيه. وكان يقول: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، واشرب كما يشرب العبد، ولو دعيت إلى ذراع لأجبت، ولو أهدي إلي كراع لقبلت» . ولم يأكل قط وحده، ولا ضرب عبده، ولا ضرب أحدا بيده إلا في سبيل ربه. ولو لم يكن من كرم عفوه وثخانة حلمه، إلا ما كان منه يوم فتح مكة، لقد كان ذلك من أكمل الكمال وأوضح البرهان. وذلك أنه حين دخل مكة عنوة وقد قتلوا أعمامه وبني أعمامه، وأولياءه وأنصاره، بعد أن حصروه في الشعاب، وعذبوا أصحابه بأنواع العذاب، وجرحوه في بدنه، وآذوه في نفسه، وسفهوا عليه، وأجمعوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 على كيده. فلما دخلها بغير حمدهم، وظهر عليها على صغر منهم، قام خطيبا فيهم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين» . وإنما نقول في كل باب بالجملة من ذلك المذهب، وإذا عرفتم أول كل باب كنتم خلقاء أن تعرفوا الأواخر بالأوائل، والمصادر بالموارد. خطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم في الوداع قال صلّى الله عليه وسلّم: الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له. واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير. أما بعد، أيها الناس أسمعوا مني أبيّن لكم، فإني لا أدري، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا. أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلّغت؟ اللهم أشهد!. فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى الذي أئتمنه عليها. وإن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أبدا به ربا عمي العباس بن عبد المطلب. وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم نبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. وإن مآثر الجاهلية موضوعة، غير السدانة «1» والسقاية. والعمد قود «2» ، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر، وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم. أيها الناس: إن النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاما ويحرّمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله. إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، ورجب الذي بين جمادي وشعبان. ألا هل بلّغت؟ اللهم أشهد!. أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقا، ولكم عليهن حق. لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضربا غير مبرّح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وإنما النساء عندكم عوان «1» لا يملكن لأنفسهن شيئا، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله. فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرا. ألا هل بلغت؟ اللهم أشهد!. أيها الناس، إنما المؤمنون أخوة، ولا يحل لامرىء مسلّم مال أخيه إلا عن طيب نفس منه. ألا هل بلغت؟ اللهم أشهد!. فلا ترجعنّ بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، فإن قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا بعده، كتاب الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب. أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير. وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى. ألا هل بلغت؟ اللهم أشهد! قالوا: نعم. قال: فليبلّغ الشاهد الغائب. أيها الناس، إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، فلا تجوز لوارث وصية، ولا تجوز وصية في أكثر من الثلث. والولد للفراش، وللعاهر الحجر. من ادّعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وعن الحسن قال: جاء قيس بن عاصم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما رآه قال: هذا سيد أهل الوبر. فقال: يا رسول الله، خبرني عن المال الذي لا تكون عليّ فيه تبعة من ضيف ضافني، أو عيال كثروا علي. قال: «نعم المال الأربعون، والأكثر الستون، وويل لأصحاب المئين إلا من أعطى في رسلها ونجدتها، وأطرق فحلها «1» ، وأفقر ظهرها «2» ، ونحر سمينها، وأطعم القانع والمعتر «3» » . قال: يا رسول الله، ما أكرم هذه الأخلاق وأحسنها، وما يحل بالوادي الذي أكون فيه أكثر من إبلي. قال: فكيف تصنع بالطروقة؟ قال: تغدو الابل ويغدو الناس، فمن شاء أخذ برأس بعيد فذهب به. قال: فكيف تصنع في الافقار؟ قال إني لأفقر البكر الضرع، والناب المسنة. قال: فكيف تصنع بالمنيحة «4» ؟ قال: إني لأمنح في كل سنة مائة. قال: فأي المال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 أحب إليك، أمالك أم مال مولاك؟ قال: بل مالي. قال: «فمالك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت. وما سوى ذلك للوارث» . وذكر أبو المقدام هشام بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز في مرضه الذي مات فيه، فجعلت أحد النظر إليه، فقال لي: يا ابن كعب، ما لك تحد النظر إلي؟ قلت: لما نحل من جسمك، وتغير من لونك. قال: فكيف لو رأيتني بعد ثالثة في قبري، وقد سالت حدقتاي على وجنتي وابتدر فمي وأنفي صديدا ودودا، كنت والله أشدّ نكرة لي. أعد علي حديثا كنت حدثتنيه عن عبد الله بن عباس. قال: سمعت ابن عباس يقول: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن لكل شيء شرفا، وإن أشرف المجالس ما استقبل به القبلة، ومن أحب أن يكون أعز الناس فليتق الله. ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله. ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يدي الله أوثق منه بما في يديه» ، ثم قال: «ألا أنبئنكم بشرار الناس؟» فقالوا: بلى يا رسول الله. قال: «من نزل وحده، ومنع رفده، وجلد عبده» . ثم قال: «ألا أنبئكم بشر من ذلك؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «من لا يقيل عثرة، ولا يقبل معذرة، ولا يغفر ذنبا» . ثم قال: «ألا أنبئكم بشر من ذلك؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «من يبغض الناس ويبغضونه. إن عيسى بن مريم عليه السلام قام خطيبا في بني اسرائيل فقال: يا بني اسرائيل، لا تكلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، ولا تظلموا ولا تكافئوا ظالما فيبطل فضلكم. يا بني اسرائيل، الأمور ثلامة: أمر تبين رشده فاتبعوه، وأمر تبين غيه فاجتنبوه، وأمر اختلف فيه فإلى الله فردوه» . وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كل قوم على زينة من أمرهم، ومفلحة في أنفسهم، يزرون على من سواهم. ويتبين الحق في ذلك بالمقايسة بالعدل عند أولى الألباب من الناس» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 وقال صلّى الله عليه وسلّم: «من رضي رقيقه فليمسكه، ومن لم يرض فليبعه، فلا تعذبوا خلق الله» . وقال في اخر ما أوصى به: «اتقوا الله في الضعيفين» . قال ابن ثوبان عن ابيه، عن مكحول، عن جبير بن نفير، عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال» ثم ضرب بيده على فخذ الذي حدثه أو منكبه، ثم قال: «إن هذا لحقّ كما إنك ها هنا» . أو «كما أنك قاعد» ، يعني معاذا. صالح المري عن الحسن البصري، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: حصنوا أموالكم بالزكاة وداووا مرضاكم بالصدقة، واستقبلوا البلاء بالدعاء» . كثير بن هشام، عن عيسى بن ابراهيم، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الجمعة حجّ المساكين» . قال عوف، عن الحسن، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان، وإنما أخذتموهن بإمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله» . الواقدي، عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي عن ابيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله يحبّ الجواد من خلقه» . أبو عبد الرحمن الأشجعي، عن يحيى بن عبيد الله، عن ابيه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما خلا يهوديّ بمسلّم قط إلا همّ بقتلة» ، ويقال: «حدث نفسه بقتله» . ابو عاصم النبيل، قال: حدثنا عبيد الله بن أبي زياد، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ذب عن لحم أخيه بظهر الغيب كان حقا على الله أن نحرّم لحمه على النار» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 اسماعيل بن عياش، عن الحسن بن دينار، عن الخصيب بن جحدر، عن رجل، عن معاذ بن جبل، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس من أخلاق المؤمن الملق إلا في طلب العلم» . وعن عبد ربه بن أعين، عن عبد الله بن ثمامة بن أنس، عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قيدوا العلم بالكتاب» وقال: «فضل جاهك تعود به على أخيك الذي لا جاه له صدقة منك عليه، وفضل لسانك تعبر به عن أخيك الذي لا لسان له صدقة منك عليه، وفضل علمك تعود به على أخيك الذي لا علم عنده صدقة منك عليه، وفضل قوتك ترده على أخيك الذي لا قوة له صدقة منك عليه، واماطتك الأذى عن الطريق صدقة منك على أهله» . [كلمات بليغة] وإنما مدار الأمور والغاية التي يجري إليها، الفهم ثم الافهام، والطلب ثم التثبت. وقال عمرو بن العاص: «ثلاثة لا أملهّم: جليسي ما فهم عني، وثوبي ما سترني، ودابتي ما حملت رجليّ» . وذكر الشعبي ناسا فقال: «ما رأيت مثلهم أشد تنابذا في مجلس ولا أحسن تفهّما عن محدّث» . ووصف سهل بن هارون رجلا فقال: «لم أر أحسن منه فهما لجليل، ولا أحسن تفهما لدقيق» . وقال سعيد بن سلّم لأمير المؤمنين المأمون: «لو لم أشكر الله إلا على حسن ما أبلاني في أمير المؤمنين، من قصده إلي بحديثه، وإشارته إلي بطرفه، لقد كان ذلك من أعظم ما تفرضه الشريعة، وتوجيه الحرية» . فقال المأمون: «لأن أمير المؤمنين يجد عندك من حسن الإفهام إذا حدّثت، وحسن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 التفهّم إذا حدّثت، ما لم يجد عند أحد فيمن مضى، ولا يظن أنه يجده فيمن بقي» . وقال له مرة أخرى: «والله إنك لتستقفي حديثي، وتقف عند مقاطع كلامي، وتخبر عنه بما كنت قد أغفلته» . وقال أبو الحسن: قالت إمرأة لزوجها: ما لك إذا خرجت إلى اصحابك تطلّقت وتحدثت، وإذا كنت عندي تعقدّت وأطرقت؟ قال: «لأنني أجل عن دقيقك، وتدقين عن جليلي» . وقال أبو مسهر: «ما حدثت رجلا قط إلا أعجبني حسن إصغائه، حفظ عني أم ضيع» . وقال أبو عقيل بن درست: «نشاط القائل على قدر فهم المستمع» . وقال أبو عباد كاتب أحمد بن ابي خالد: «للقائل على السامع ثلاث: جمع البال، والكتمان، وبسط العذر» . وقال أبو عباد: «إذا أنكر القائل عيني المستمع فليستفهمه عن منتهى حديثه، وعن السبب الذي أجرى ذلك القول له: فإن وجده قد أخلص له الاستماع أتم له الحديث، وإن كان لاهيا عنه حرمه حسن الحديث ونفع المؤانسة، وعرفه بفسولة «1» الاستماع، والتقصير في حق المحدث» . وأبو عباد هذا هو الذي قال: «ما جلس بين يدي رجل قط إلا تمثل لي إني سأجلس بين يديه» . وذكر رجل من القرشيين عبد الملك بن مروان، وعبد الملك يومئذ غلام، فقال: «إنه لآخذ بأربع، وتارك لأربع: آخذ بأحسن الحديث إذا حدث، وبأحسن الاستماع إذا حدّث، وبأيسر المئونة إذا خولف، وبأحسن البشر إذا لقي وتارك لمحادثة اللئيم، ومنازعة اللجوج، ومماراة السفيه، ومصاحبة المأفون» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 وذم بعض الحكماء رجلا فقال: «يحزم قبل أن يعلم، ويغضب قبل أن يفهم» . وقال عمر بن الخطاب رحمه الله في بعض رسائله إلى قضاته: «الفّهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك» . ولا يمكن تمام الفهم إلا مع تمام فراغ البال. وقال مجنون بني عامر: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبي فارغا فتمكنا وكتب مالك بن أسماء بن خارجة إلى أخيه عيينة بن أسماء بن خارجة: أعيين هلّا إذ شغفت بها ... كنت استعنت بفارغ العقل أقبلت ترجو الغوث من قبلي ... والمستغاث إليه في شغل وقال صالح المري: «سوء الاستماع نفاق» . وقد لا يفهم المستمع إلا بالتفهم، وقد يتفهم أيضا من لا يفهم. وقال الحارث بن حلزة: وحبست فيها الركب أحدس في ... كل الأمور وكنت ذا حدس وقال النابغة الجعدي: أبى لي البلاء وأني امرؤ ... إذا ما تبينت لم أرتب وقال آخر: تحلم عن الأدنين واستبق ودّهم ... ولن تستطيع الحلم حتى تحلّما والمثل السائر على وجه الدهر قولهم: «العلم بالتعلم» . وإذا كانت البهيمة إذا أحست شيئا من أسباب القانص، أحدت نظرها، واستفرغت قواها في الاسترواح، وجمعت بالها للتسمع- كان الانسان العاقل أولى بالتثبّت، وأحق بالتعرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 ولما اتهم قتيبة بن مسلّم، أبا مجلز لاحق بن حميد، ببعص الأمر، قال له أبو مجلز: «أيها الأمير تثبت، فإن التثبت نصف العفو» . وقال الاحنف: «تعلمت الحلم من قيس بن عاصم» . وقال فيروز حصين: «كنت أختلف إلى دار الاستخراج أتعلم الصبر» . وقال سهل بن هارون: «بلاغة اللسان رفق، والعيّ خرق» . وكان كثيرا ما ينشد قول شتيم بن خويلد: ولا يشعبون الصّدع بعد تفاقم ... وفي رفق أيديكم لذي الصدع شاعب خطبة أبي بكر في الملوك وقال ابراهيم الانصاري، وهو ابراهيم بن محمد المفلوج، من ولد أبي زيد القاريء: الخلفاء والأئمة وأمراء المؤمنين ملوك، وليس كل ملك يكون خليفة وإماما، ولذلك فصل بينهم أبو بكر رحمه الله في خطبته، فإنه لما فرغ من الحمد والصلاة على النبي قال: «ألا أن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك!» . فرفع الناس رؤوسهم، فقال: «ما لكم أيها الناس، إنكم لطعانون عجلون. إن من الملوك من إذا ملك زهده الله فيما في يديه، ورغبه فيما في يدي غيره، وانتقصه شطر أجله، وأشرب قلبه الاشفاق، فهو يحسد على القليل، ويتسخط الكثير، ويسأم الرخاء، وتنقطع عنه لذة الباءة «1» ، ولا يستعمل العبرة، ولا يسكن إلى الثقة. فهو كالدرهم القسي، والسراب الخادع، جذل الظاهر، حزين الباطن، فإذا وجبت نفسه، ونضب عمره، وضحا ظله «2» ، حاسبه الله فأشد حسابه، وأقل عفوه، إلا من امن بالله، وحكم بكتابه وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم. ألا إن الفقراء هم المرحومون ألا وإنكم اليوم على خلافة النبوة، ومفرق المحجة. وإنكم سترون بعدي ملكا عضوضا، وملكا عنودا «3» ، وأمة شعاعا، ودما مباحا. فإن كانت للباطل نزوة، ولأهل الحق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 جولة، يعفو لها الاثر، ويموت لها البشر، وتحيا بها الفتن، وتموت لها السنن، فالزموا المساجد، واستشيروا القرآن، واعتصموا بالطاعة، ولا تفارقوا الجماعة. وليكن الابرام بعد المشاورة، والصفقة بعد طول التناظر. أيّ بلادكم خرشنة؟ فإنكم سيفتح عليكم أقصاها كما فتح عليكم أدناها» . كلام أبي بكر الصديق (ر) لعمر حين استخلفه عند موته. إني مستخلفك من بعدي، وموصيك بتقوى الله. إنّ لله عملا بالليل لا يقبله بالنهار، وعملا بالنهار لا يقبله بالليل، وإنه لا يقبل نافلة حتى تؤدّى الفريضة. وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة بإتباعهم الحق في الدنيا، وثقله عليهم، وحقّ لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا. وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة بإتباعهم الباطل وخفته عليهم في الدنيا وحقّ لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفا. إن الله ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم، والتجاوز عن سيئاتهم، فإذا ذكرتهم قلت: إني أخاف ألا أكون من هؤلاء. وذكر أهل النار فذكرهم بأسوأ أعمالهم، ولم يذكر حسناتهم، فإذا ذكرتهم قلت: إني لأرجو ألا أكون من هؤلاء. وذكر آية الرحمة مع آية العذاب، ليكون العبد راهبا، ولا يتمنى على الله إلا الحق، ولا يلقي بيده إلى التهلكة. فإذا حفظت وصيتي فلا يكونن غائب أحبّ إليك من الموت، وهو آتيك. وإن ضيعت وصيتي، فلا يكونن غائب أبغض إليك من الموت، ولست بمعجز الله. [وصية] عمر للخليفة من بعده. أوصيك بتقوى الله لا شريك له، وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيرا: أن تعرف لهم سابقتهم. وأوصيك بالأنصار خيرا، فاقبل من محسنهم، وتجاوز عن مسيئهم. وأوصيك بأهل الأمصار خيرا، فإنهم ردء «1» العدو، وجباة الأموال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 والفيء «1» لا تحمل إلا عن فضل منهم. وأوصيك بأهل البادية خيرا، فإنهم أصل العرب، ومادة الاسلام: أن تأخذ من حواشي «2» أموال أغنيائهم، فترد على فقرائهم. وأوصيك بأهل الذمة خيرا: أن تقاتل من ورائهم ولا تكلفهم فوق طاقتهم، إذا أدوا ما عليهم للمؤمنين طوعا أو عن يد «3» وهم صاغرون. وأوصيك بتقوى الله وشده الحذر منه، ومخافة مقته، أن يطلع منك على ريبة. وأوصيك أن تخشى الله في الناس ولا تخشى الناس في الله. وأوصيك بالعدل في الرعية والتفرغ لحوائجهم وثغورهم. ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم، فإن ذلك- بإذن الله- سلامة لقلبك، وحط لوزرك، وخير في عاقبة أمرك، حتى تفضي من ذلك إلى من يعرف سريرتك، ويحول بينك وبين قلبك. وآمرك أن تشتد في أمر الله، وفي حدوده ومعاصيه، على قريب الناس وبعيدهم، ثم لا تأخذك في أحد الرأفة حتى تنتهك منه مثل ما انتهك من حرمه. واجعل الناس سواء عندك، لا تبال على من وجب الحق، ولا تأخذك في الله لومة لائم. وإياك والأثرة والمحاباة، فيما ولاك الله مما أفاء الله على المؤمنين، فتجور وتظلم، وتحرم نفسك من ذلك ما قد وسعه الله عليك. وقد أصبحت بمنزلة من منازل الدنيا والآخرة، فإن اقترفت «4» لدنياك عدلا وعفة مما بسط الله لك، اقترفت به إيمانا ورضوانا، وإن غلبك الهوى ومالت بك شهوة، اقترفت به سخط الله ومعاصيه. وأوصيك ألا ترخص لنفسك ولا لغيرك في ظلم أهل الذمة. وقد أوصيتك وحضضتك، ونصحت لك، أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة. واخترت من دلالتك ما كنت دالا عليه نفسي وولدي، فإن عملت بالذي وعظتك، وانتهيت إلى الذي أمرتك، أخذت به نصيبا وافيا، وحظا وافرا. وإن لم تقبل ذلك ولا يهمك، تنزل معاظم الأمور عند الذي يرضى الله به عنك، يكن ذلك بك انتقاصا، ورأيك فيه مدخولا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 لأن الأهواء مشتركة. ورأس كل خطيئة، والداعي إلى كل هلكة إبليس وقد أضل القرون السالفة قبلك فأوردهم النار، ولبئس الثمن أن يكون حظ امرىء موالاة لعدو الله، والداعي إلى معاصيه! ثم اركب الحق وخض إليه الغمرات، وكن واعظا لنفسك، وأنشدك الله لما ترحمت على جماعة المسلمين فأجللت كبيرهم، ورحمت صغيرهم، ووقرت عالمهم، ولا تضربهم فيذلوا، ولا تستأثر عليهم بالفيء فتغضبهم، ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها فتفقرهم، ولا تجمّرهم «1» في البعوث فتقطع نسلهم، ولا تجعل المال دولة بين الأغنياء منهم، ولا تغلق بابك دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم. هذه وصيتي إياك، وأشهد الله عليك، وأقرأ عليك السلام. رسالة عمر (ر) إلى ابي موسى الأشعري. رواها ابن عيينة، وأبو بكر الهذلي ومسلمة بن محارب، رووها عن قتادة. ورواها أبو يوسف يعقوب بن ابراهيم، عن عبيد الله بن ابي حميد الهذلي عن ابي المليح أسامة الهذلي. أن عمر بن الخطاب كتب إلى ابي موسى الأشعري: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له. آس «2» بين الناس في مجلسك ووجهك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا يخاف ضعيف من جورك. البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما. ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك، وهديت فيه لرشدك، أن ترجع عنه إلى الحق فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم عندما يتلجلج في صدرك، مما لم يبلغك في كتاب الله ولا في سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم. أعرف الأمثال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 والأشباه، وقس الأمور عند ذلك، ثم اعمد إلى أحبها إلى الله، وأشبهها بالحق فيما ترى. واجعل للمدعي حقا غائبا أو بينة، أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينته أخذت له بحقه، وإلا وجهت عله القضاء، فإن ذلك انفى للشك، وأجلى للعمى، وابلغ في العذر. المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلودا في حد، أو مجربا عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء أو قرابة، فإن الله قد تولى منكم السرائر ودرأ عنكم الشبهات. ثم إياك والقلق والضجر، والتأذي بالناس، والتنكر للخصوم في مواطن الحق، التي يوجب الله بها الأجر، ويحسن بها الذخر، فإنه من يخلص نيته فيما بينه وبين الله تبارك وتعالى، ولو على نفسه، يكفه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين للناس بما يعلم الله منه خلاف ذلك هتك الله ستره، وأبدى فعله. فما ظنك بثواب غير الله في عاجل رزقه، وخزائن رحمته. والسلام عليك. [أول] خطبة لعلي بن ابي طالب (ر) قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: أول خطبة خطبها علي بن ابي طالب رحمه الله أنه قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيه: أما بعد فلا يرعينّ مرع إلا على نفسه «1» ، فإن من أرعى على غير نفسه شغل عن الجنة والنار أمامه. ساع مجتهد ينجو، وطالب يرجو، ومقصر في النار. ثلاثة، واثنان: ملك طار بجناحيه، ونبي أخذ الله بيديه، ولا سادس. هلك من ادعى، وردي من اقتحم، فإن اليمين والشمال مضلة، والوسطى الجادة، منهج عليه باقي الكتاب والسنة، وآثار النبوة. إن الله داوى هذه الأمة بدواءين: السيف والسوط، فلا هوادة عند الأمام فيهما، استتروا ببيوتكم وأصلحوا فيما بينكم، والتوبة من ورائكم. من أبدى صفحته للحق هلك. قد كانت لكم أمور ملتم علي فيها ميلة لم تكونوا عندي فيها بمحمودين ولا مصيبين. أما إني لو أشاء لقلت عفا الله عما سلف. سبق الرجلان وقام الثالث، كالغراب همّته بطنه، يا ويحه، لو قصّ جناحاه وقطع رأسه لكان خيرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 له. انظروا فإن أنكرتم فأنكروا، وإن عرفتم فآزروا. حق وباطل، ولكل أهل، ولئن أمر الباطل لقديما فعل، ولئن قلّ الحق لربما ولعل. ما أدبر شيء فأقبل. ولئن رجعت عليكم أموركم أنكم لسعداء، وإني لأخشى أن تكونوا في فترة وما علينا إلا الاجتهاد. قال أبو عبيدة: وروى فيها جعفر بن محمد: ألا أن أبرار عترتي، وأطايب أرومتي، أحلم الناس صغارا، وأعلم الناس كبارا. ألا وإنّا أهل بيت من علم الله علمنا، وبحكم الله حكمنا، ومن قول صادق سمعنا. وأن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا، وإن لم تفعلوا يهلككم الله بأيدينا. معنا راية الحق، من تبعها لحق، ومن تأخر عنها غرق، ألا وإن بنا ترد دبرة «1» كل مؤمن، وبنا تخلع ربقة «2» الذل من أعناقكم، وبنا غنم، وبنا فتح الله لا بكم، وبنا يختم لا بكم. خطبة لعلي بن ابي طالب أيضا (ر) [في الآخرة] . أما بعد فإنّ الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطّلاع. وإن المضمار اليوم والسباق غدا. ألا وإنتم في أيام أمل من ورائه أجل، فمن أخلص في أيام أمله قبل حضور أجله فقد نفعه عمله، ولم يضرره أمله ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله، فقد خسر عمله، وضره أمله. ألا فاعملو الله في الرغبة، كما تعملون له في الرهبة. ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها. ألا وإنه من لم ينفعه الحق يضره الباطل، ومن لم يستقم به الهدي يجر به الضلال. ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن، ودللتم على الزاد، وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 [خطبة علي في الجهاد] قالوا: أغار سفيان بن عوف الأزدي ثم الغامدي على الأنبار، زمان علي ابن ابي طالب رضي الله عنه، وعليها حسان- أو ابن حسان- البكري فقتله، وأزال تلك الخيل عن مسالحها، فخرج علي بن ابي طالب رضي الله عنه حتى جلس على باب السّدة، فحمد الله واثنى عليه وصلّى على نبيه ثم قال: أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة. فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل، وشمله البلاء، ولزمه الصّغار، وسيم الخسف، ومنع النّصف. ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا، وسرا وإعلانا، وقلت لكم: أغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا فتواكلتم وتخاذلتم، وثقل عليكم قولي واتخذتموه وراءكم ظهريّا، حتى شنّت عليكم الغارات. هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار، وقتل حسان- أو ابن حسان- البكري، وأزال خيلكم عن مسالحها، وقتل منكم رجالا صالحين. ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المسلمة والأخرى المعاهدة، فينزع حجلها وقلبها ورعاثها «1» ثم انصرفوا وافرين، ما كلم رجل منهم كلما، فلو أن امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفا، ما كان عندي به ملوما، بل كان به عندي جديرا. فيا عجبا من جد هؤلاء القوم في باطلهم، وفشلكم عن حقكم. فقبحا لكم وترحا، حين صرتم هدفا يرمى، وفيئا ينتهب، يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون، فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم: حمّارة القيظ، أمهلنا ينسلخ عنا الحرّ وإذا أمرتكم بالسير في البرد قلتم: أمهلنا ينسلخ عنا القرّ. كلّ ذا فرار من الحر والقر. فإذا كنتم من الحر والقر تفرون، فأنتم والله من السيف أفر، يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا أحلام الأطفال وعقول ربات الحجال وددت أن الله قد أخرجني من بين ظهرانيكم وقبضني إلى رحمته من بينكم. والله لوددت أني لم أركم، ولم أعرفكم. معرفة والله جرّت ندما. قد وريتم صدري غيظا، وجرّعتموني الموت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 أنفاسا، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان، حتى قالت قريش: ابن ابي طالب شجاع ولكن لا علم له بالحرب. لله أبوهم، وهل منهم أحد أشدّ لها مراسا أو أطول لها تجربة مني؟ لقد مارستها وما بلغت العشرين، فهأنذا قد نيفت على الستين ولكن لا رأي لمن لا يطاع. قال: فقام له رجل من الأزد يقال له فلان بن عفيف، ثم أخذ بيد ابن أخ له فقال: هأنذا يا أمير المؤمنين لا أملك إلا نفسي وابن أخي فأمرنا بأمرك فوالله لنمضين له ولو حال دون أمرك شوك الهراس «1» وجمر الغضى. فقال لهما علي: وأين تبلغان ما أريد، رحمكما الله. [خطبة علي في الشكوى من أنصاره] قام فيهم خطيبا فقال: أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤكم. كلامكم يوهي الصمّ الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم عدوكم. تقولون في المجالس كيت وكيت، فإذا جاء القتال قلتم حيدي حياد «2» . ما عزت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم، أعاليل بأضاليل. سألتموني التأخير دفاع ذي الدّين المطول. هيهات لا يمنع الضيم الذليل، ولا يدرك الحقّ إلا بالجدّ. أيّ دار بعد داركم تمنعون؟ أم أيّ أمام بعدي تقاتلون. المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب. أصبحت والله لا أصدّق قولكم، ولا أطمع في نصركم، فرّق الله بيني وبينكم، وأعقبني بكم من هو خير لي منكم، لوددت أن لي بكل عشرة منكم رجلا من بني فراس بن غنم، صرف الدينار بالدرهم. خطبة عبد الله بن مسعود رحمه الله أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم، وأحسن السّنن سنة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وشر الأمور محدثاتها، وخير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 الأمور عزائمها، ما قل وكفى خير مما أكثر وألهى. نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها، خير الغنى غنى النفس. خير ما ألقى في القلب اليقين. الخمر جماع الآثام. النساء حمالة الشيطان. الشباب شعبة من الجنون. حب الكفاية مفتاح المعجزة. من الناس من لا يأتي الجماعة إلا دبرا «1» . ولا يذكر الله إلا نزرا. أعظم الخطايا اللسان الكذوب. سباب المؤمن فسق، وقتاله كفر. وأكل لحمه معصية. ومن يتألّ على الله يكذبه ومن يغفر يغفر له. مكتوب في ديوان المحسنين: من عفا عفي عنه. الشقي من شقي في بطن أمه. السعيد من وعظ بغيره. الأمور بعواقبها. ملاك الأمر خواتمه. أحسن الهدي هدي الأنبياء. أقبح الضلالة بعد الهدى. أشرف الموت الشهادة. من يعرف البلاء يصبر عليه. من لا يعرف البلاء ينكره. خطبة عتبة بن غزوان السلمي بعد فتح الابلة حمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: أما بعد فإن الدنيا قد تولّت حدّاء «2» مدبرة، وقد آذنت أهلها بصرم، وإنما بقي منها صبابة كصبابة «3» الاناء يصطبّها صاحبها. ألا وإنكم منقولون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا منها بخير ما يحضركم فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى في النار من شفيرها فيهوي فيها سبعين عاما لا يدرك لها قعرا. والله لتملأنّ. أفعجبتم ولقد ذكر لنا أن بين مصراعين من الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتينّ عليه وقت وهو كظيظ بالزحام. ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فائتزرت بنصفها وائتزر بنصفها، فما أصبح اليوم أحد منا حيا إلا أصبح أميرا على مصر من الأمصار. وإني أعوذ بالله من أن أكون في نفسي عظيما، وعند الله صغيرا. وإنها لم تكن نبوة قطّ إلا تناسخت حتى يكون عاقبتها ملكا وستخبرون الأمراء بعدي فتعرفون وتنكرون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 خطبة من خطب معاوية (ر) رواها شعيب بن صفوان، وزاد فيها البقطريّ وغيره، قالوا: لما حضرت معاوية الوفاة قال لمولى له: من بالباب؟ قال: نفر من قريش يتباشرون بموتك. فقال: ويحك، ولم؟ قال: لا أدري، قال: فوالله ما لهم بعدي إلا الذي يسوؤهم. وأذن للناس فدخلوا، فحمد وأثنى عليه وأوجز ثم قال: أيها الناس، أنا قد أصبحنا في دهر عنود «1» ، وزمن شديد، يعدّ فيه المحسن مسيئا، ويزداد فيه الظالم عتوا، ولا ننتفع بما علمناه، ولا نسأل عما جهلناه، ولا نتخوف قارعة حتى تحلّ بنا. فالناس على أربعة أصناف: منهم من لا يمنعه الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه، وكلال حدّه، ونضيض وفره «2» . ومنهم المصلت لسيفه، المجلب بخيله ورجله، المعلن بسره، قد أشرط لذلك نفسه، وأوبق دينه، لحطام ينتهزه، أو مقنب يقوده، أو منبر يفرعه «3» ، ولبئس المتجر أن تراها لنفسك ثمنا، ومما لك عند الله عوضا. ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامن من شخصه، وقارب من خطوه وشمّر من ثوبه، وزخرف نفسه للأمانة، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية. ومنهم من أقعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه، وانقطاع من سببه، فقصرت به الحال عن أمله. فتحلى باسم القناعة، وتزين بلباس الزهادة وليس من ذلك في مراح ولا مغدى. وبقي رجال غضّ أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شريد نادّ «4» ، وخائف منقمع، وساكت مكعوم، وداع مخلص، وموجع ثكلان، قد أخملتهم التقية، وشملتهم الذلة، فهم في بحر أجاج، أفواههم ضامزة «5» ، وقلوبهم قرحة، وقد وعظوا حتى ملوا، وقهروا حتى ذلوا، وقتلوا حتى قلوا. فلتكن الدنيا في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 عيونكم أصغر من حثالة القرظ، وقراضة الجلمين «1» . واتعظوا بمن كان قبلكم، قبل أن يتعظ بكم من يأتي بعدكم. فارفضوها ذميمة، فإنها رفضت من كان أشغف بها منكم. وفي هذه الخطبة أبقاك الله ضروب من العجب: منها أن الكلام لا يشبه السبب الذي من أجله دعاهم معاوية، ومنها أن هذا المذهب تصنيف الناس، وفي الأخبار عما هم عليه من القهر والاذلال، ومن التقية والخوف أشبه بكلام علي رضي الله عنه ومعانيه وحاله منه بحال معاوية. ومنها أنّا لم نجد معاوية في حال من الحالات يسلك في كلامه مسلك الزهاد، ولا يذهب مذاهب العباد. وإنما نكتب لكم ونخبر بما سمعناه، والله أعلم بأصحاب الأخبار، وبكثير منهم. خطبة زياد بالبصرة. وهي التي تدعى البتراء قال أبو الحسن المدائني، وغيره، ذكر ذلك عن مسلمة بن محارب، وعن أبي بكر الهذلي قالا: قدم زياد البصرة واليا لمعاوية بن أبي سفيان وضم إليه خراسان وسجستان، والفسق بالبصرة كثير فاش ظاهر. قالا: فخطب خطبة بتراء، لم يحمد الله فيها، ولم يصل على النبي. وقال غيره: بل قال: الحمد لله على أفضاله وإحسانه، ونسأله المزيد من نعمه وإكرامه. اللهم كما زدتنا نعما فألهمنا شكرا. أما بعد فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والغيّ الموفي بأهله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 على النار، ما فيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم، من الأمور العظام ينبت فيها الصغير، ولا ينحاش «1» عنها الكبير، كأنكم لم تقرأوا كتاب الله، ولم تسمعوا ما أعدّ الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمد الذي لا يزول، أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا، وسدّت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الاسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله، وهذه المواخير المنصوبة والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر، والعدد غير قليل. ألم تكن منهم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار؟! أقربتم القرابة، وباعدتم الدين، تعتذرون بغير العذر، وتغضون على المختلس. أليس كل امرىء منكم يذب عن سفيهه، صنع من لا يخاف عاقبة ولا يرجو معادا. ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء، فلم يزل بكم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الاسلام، ثم اطرقوا وراءكم كنوسا في مكانس الريب. حرام عليّ الطعام والشراب حتى أسوّيها بالأرض، هدما واحراقا. إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوّله: لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف. وإني أقسم بالله لآخذنّ الولي بالولي، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: أنج سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم. إن كذبة المنبر بلقاء مشهورة، فإذا تعلقتم عليّ بكذبة فقد حلت لكم معصيتي، وإذا سمعتموها مني فاغتمزوها فيّ «2» واعلموا أن عندي أمثالها. من نقب منكم عليه فأنا ضامن لما ذهب منه. فإياي ودلج الليل، فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه. وقد أجلتكم في ذلك بمقدار ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع اليكم. وإيّاي ودعوة الجاهلية، فإني لا آخذ داعيه بها إلا قطعت لسانه. وقد أحدثتم احداثا لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة: فمن غرّق قوما غرّقناه، ومن أحرق قوما أحرقناه، ومن نقب بيتا نقبنا عن قلبه، ومن نبش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 قبرا دفناه فيه حيا. فكفوا عني أيديكم وألسنتكم، أكف عنكم يدي ولساني. ولا تظهر على أحد منكم ريبة بخلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه وقد كانت بيني وبين أقوام أحن فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي، فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا، ومن كان منكم مسيئا فلينزع عن إساءته. إني والله لو علمت أن أحدكم قد قتله السلّ من بغضي لم أكشف له قناعا، ولم أهتك له سترا، حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل ذلك لم أناظره. فاستأنفوا أموركم، وأرعوا «1» على أنفسكم، فرب مسوء بقدومنا سنسرّه ومسرور بقدومنا سنسوؤه. أيها الناس، أنّا أصبحنا لكم سادة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا. فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أخببنا، ولكم علينا العدل والانصاف فيما ولينا. فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا، واعلموا إني مهما قصّرت عنه فلن أقصّر عن ثلاث: لست محتجبا عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقا بليل، ولا حابسا عطاء ولا رزقا عن ابانه، ولا مجمرا لكم بعثا. فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم، فإنهم ساستكم المؤدبون، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى يصلحوا تصلحوا. ولا تشربوا قلوبكم بغضهم فيشتد لذلك غيظكم، ويطول له حزنكم، ولا تدركوا به حاجتكم، مع أنه لو استجيب لكم فيه لكان شرا لكم. أسأل الله أن يعين كلا على كل. وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على إذلاله وأيم الله أن لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كل امرىء منكم أن يكون من صرعاي. قال: فقام إليه عبد الله بن الأهتم فقال: أشهد أيها الأمير، لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب. فقال له: كذبت، ذلك نبي الله داوود صلّى الله عليه وسلّم. فقام الأحنف بن قيس فقال: أيها الأمير، إنما المرء بجدّه، والجواد بشدّه وقد بلغك جدك أيها الأمير ما ترى، وإنما الثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء، وأنا لن نثني حتى نبتلي. فقال زياد: صدقت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 فقام إليه أبو بلال مرداس بن أديّة «1» ، وهو يهمس ويقول: أنبأنا الله بغير ما قلت، فقال: (وإبراهيم الذي وفى. ألا تزر وازرة وزر أخرى. وأن ليس للانسان إلا ما سعى) . وأنت تزعم إنك تأخذ البريء بالسقيم، والمطيع بالعاصي، والمقبل بالمدبر. فسمعه زياد فقال: أنا لا نبلغ ما نريد فيك وفي أصحابك حتى نخوض إليكم الباطل خوضا. وقال الشعبي: ما سمعت متكلما على منبر قط تكلم فأحسن إلا أحببت أن يسكت خوفا أن يسيء، إلا زيادا، فإنه كلما أكثر كان أجود كلاما. أبو الحسن المدائني قال: قال الحسن: أوعد عمر فعوفي، وأوعد زياد فابتلي. قال: وقال الحسن تشبه زياد بعمر فأفرط، وتشبه الحجاج بزياد فأهلك الناس. [مقطعات وخطب قصيرة] قال أبو عثمان: قد ذكرنا من كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخطبه صدرا، وذكرنا من خطب السلف رحمهم الله جملا، وسنذكر من مقطّعات الكلام، وتجاوب البلغاء، ومواعظ النساك، ونقصد من ذلك إلى القصار دون الطوال، ليكون ذلك أخفّ على القارىء، وأبعد من السآمة والملل. ثم نعود بعد ذلك إلى الخطب المنسوبة إلى أهلها إن شاء الله. ولا قوة إلا بالله. قال ابو الحسن المدائني: قدم عبد الرحمن بن سليم الكلبي، على المهلّب بن ابي صفرة، في بعض أيامه مع الأزارقة، فرأى بنيه قد ركبوا عن آخرهم فقال: «شدّ الله الاسلام بتلاحقكم، فوالله لئن لم تكونوا أسباط نبوة إنكم لأسباط ملحمة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 وقال أبو الحسن: دخل الهذيل بن زفر الكلابي، على يزيد بن المهلب في حملات لزمته، ونوائب نابته، فقال له: «أصلحك الله، إنه قد عظم شأنك، وارتفع قدرك أن يستعان بك، أو يستعان عليك. ولست تفعل شيئا من المعروف إلا وأنت أكبر منه. وليس العجب من أن تفعل ولكن العجب من أن لا تفعل» . قال يزيد: حاجتك. فذكرها، فأمر له بها، وأمر له بمائة ألف، فقال: أما الحمالات فقد قبلتها، وأما المال فليس هذا موضعه. عيسى بن يزيد بن دأب، عمّن حدثه عن رجل كان يجالس ابن عباس قال: قال عثمان بن أبي العاصي الثقفي لبنيه: «يا بني، إني قد أمجدتكم في أمهاتكم، وأحسنت في مهنة أموالكم، وإني ما جلست في ظل رجل من ثقيف أشتم عرضه. والناكح مغترس، فلينظر امرؤ منكم حيث يضع غرسه. والعرق السوء قلما ينجب ولو بعد حين» . قال: فقال ابن عباس: «يا غلام، أكتب لنا هذا الحديث» . قال: ولما همت ثقيف بالارتداد قال لهم عثمان: «معاشر ثقيف، لا تكونوا آخر العرب إسلاما، وأولهم إرتدادا» . قال: وسمعت إعرابيا ذكر يوما قريشا، فقال: «كفى بقريش شرفا إنهم أقرب الناس نسبا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقربهم بيتا من بيت الله» . الأصمعي قال: قيل لعقيل بن علّفة أتهجو قومك؟ قال: الغنم إذا لم يصفر بها لم تشرب. قال: وقيل لعقيل: لم لا تطيل الهجاء؟ قال: «يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق» . قال: وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن معد يكرب، عن سعد قال: كيف أميركم؟ قال: «خير أمير. نبطي في حبوته، عربي في نمرته، أسد في تامورته «1» ، يعدل في القضية، ويقسم بالسوية، وينفر في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 السرية، وينقل إلينا حقّنا كما تنقل الذّرّة» . فقال عمر: لشد ما تقارضتما الثناء. قال: ولما تورّد الحارث بن قيس الجهضمي بعبيد الله بن زياد، منزل مسعود بن عمرو العتكي، عن غير إذن، فأراد مسعود إخراجه من منزله، قال عبيد الله: قد أجارتني ابنة عمك عليك، وعقدها العقد الذي يلزمك، وهذا ثوبها عليّ وطعامها في مذاخيري «1» ، وقد التف علي منزلك. وشهد له الحارث بذلك. قال: مرّ الشعبي بناس من الموالي يتذاكرون النحو فقال: لئن أصلحتموه إنكم لأول من أفسده. قال: وتكلم عبد الملك بن عمير، وإعرابي حاضر، فقيل له: كيف ترى هذا الكلام؟ فقال: لو كان الكلام يؤتدم به لكان هذا الكلام مما يؤتدم به. وقال جرير: «العذرة طرف من البخل» . وقال جرير: «الخرس خير من الخلابة» . وقال ابو عمر الضرير: «البكم خير من البذاء» . قال: وقدم الهيثم بن الأسود بن العريان على عبد الملك بن مروان فقال. كيف تجدك؟ قال: أجدني قد أبيض مني ما كنت أحب أن يسود، وأسودّ مني ما كنت أحب أن يبيضّ، واشتد مني ما كنت أحب أن يلين، ولان مني ما كنت أحب أن يشتد. ثم أنشد: اسمع أنبئك بآيات الكبر ... نوم العشاء وسعال بالسحر وقلة النوم إذا الليل اعتكر ... وقلة الطعم إذا الزاد حضر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 وسرعة الطرف وتحميج النظر ... وتركى الحسناء في قبل الطهر وحذرا أزداده إلى حذر ... والناس يبلون كما يبلى الشجر وقال أكثم بن صيفي: الكرم حسن الفطنة وحسن التغافل، واللؤم سوء الفطنة وسوء التغافل. وقال أكثم بن صيفي: تباعدوا في الديار تقاربوا في المودة. وقال آخر لبنيه: تباذلوا تحابوا. قال: ودخل عيسى بن طلحة بن عبيد الله، على عروة بن الزبير وقد قطعت رجله، فقال له عيسى: والله ما كنا نعدّك للصراع، ولقد أبقى الله لنا أكثرك: أبقى لنا سمعك وبصرك، ولسانك وعقلك، ويديك وإحدى رجليك. فقال له عروة: والله يا عيسى ما عزّاني أحد بمثل ما عزّيتني به. وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «أما بعد فكأنك بالدنيا لم تكن، وبالآخرة لم تزل» . قال: وقال عمر بن الخطاب رحمه الله: «إقرؤا القرآن تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، ولن يبلغ حق ذي حق أن يطاع في معصية الله، ولن يقرّب من أجل، ولن يباعد من رزق، أن يقوم رجل بحق، أو يذّكر بعظيم» . وقال إعرابي لهشام بن عبد الملك: أتت علينا ثلاثة أعوام. فعام أكل الشحم، وعام أكل اللحم، وعام انتقى العظم «1» . وعندكم أموال، فإن كانت لله فادفعوها إلى عباد الله، وإن كانت لعباد الله فادفعوها إليهم، وإن كانت لكم فتصدقوا، فإن الله يجزي المتصدقين. قال: فهل من حاجة غير ذلك؟ قال: ما ضربت إليك أكباد الابل أدّرع الهجير، وأخوض الدجى لخاص دون عام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 قال شداد الحارثي، ويكنى أبا عبيد الله: قلت لأمة سوداء بالبادية: لمن أنت يا سوداء؟ قالت: لسيد الحضر يا أصلع. قال: قلت لها: أو لست بسوداء! قالت: أو لست بأصلع؟ قلت: ما أغضبك من الحق؟ قالت: الحق أغضبك! لا تسبب حتى ترهب، ولأن تتركه أمثل. وقال الأصمعي: قال عيسى بن عمر: قال ذو الرمة: قاتل الله امة آل فلان ما كان أفصحها! سألتها كيف المطر عندكم؟ فقالت: غثنا ما شئنا. وأنا رأيت عبدا أسود لبني أسيد، قدم عليهم من شقّ اليمامة، فبعثوه ناطورا، وكان وحشيا محرّما، لطول تعزّبه كان في الابل، وكان لا يلقى إلا الأكرة، فكان لا يفهم عنهم، ولا يستطيع إفهامهم، فلما رآني سكن اليّ، وسمعته يقول: لعن الله بلادا ليس فيها عرب. قاتل الشاعر حيث يقول: حرّ الثرى مستعرب التراب أبا عثمان، إن هذه العريب في جميع الناس كمقدار القرحة في جميع جلد الفرس، فلولا أن الله رق عليهم فجعلهم في حاشية لطمست هذه العجمان آثارهم، أترى الأعيار إذا رأت العتاق لا ترى لها فضلا، والله ما أمر الله نبيه بقتلهم إلا لضنه بهم، ولا ترك قبول الجزية منهم إلا تنزيها لهم. وقال الأحنف بن قيس: أسرع الناس إلى الفتنة أقلهم حياء من الفرار. قال: ولما مات أسماء بن خارجة «1» ، فبلغ الحجاج موته، قال: هل سمعتم بالذي عاش ما شاء، ثم مات حين شاء. وقال سلّم بن قتيبة: ربّ المعروف أشد من ابتدائه. أبو هلال، عن قتادة قال: قال أبو الأسود: إذا أردت أن تكذب صاحبك فلقّنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 وقال أبو الأسود: إذا أردت أن تعظّم فمت، وإذا أردت أن تفحم عالما فاحضره جاهلا. وقال: وقيل لأعرابي: ما يدعوك إلى نومة الضحى؟ فقال: مبردة في الصيف، مسخنة في الشتاء. وقال أعرابي: نومة الضحى مجعرة مجفرة «1» مبخرة. وجاء في الحديث: «الولد مبخلة مجبنة» . قال: ونظر أعرابي إلى قوم يلتمسون هلال رمضان، فقال أما والله لئن أثرتموه لتمسكنّ منه بذنابي عيس أغبر. وقال أسماء بن خارجة: إذا قدمت المصيبة تركت التعزية. وقال: إذا قدم الأخاء سمج الثناء. وقال إسحاق بن حسان: لا تشمت الأمراء ولا الأصحاب القدماء. وسئل أعرابي عن راع له فقال: هو السارح الآخر، والرائح الباكر، والحالب العاصر: والحاذف «2» الكاسر. قال: وقال عتبة بن أبي سفيان لعبد الصمد مؤدب ولده: ليكن أول ما تبدأ به من إصلاحك بنيّ إصلاحك نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح عندهم ما استقبحت، علمهم كتاب الله، ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم منه فيهجروه، ثم روّهم من الشعر أعفه، ومن الحديث أشرفه، ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه، فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم، وعلمهم سير الحكماء وأخلاق الأدباء، وجنبهم محادثة النساء، وتهددهم بي وأدّبهم دوني، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء حتى يعرف الداء، ولا تتكل على عذري، فإني قد اتكلت على كفايتك، وزد في تأديبهم أزرك في بري إن شاء الله. محمد بن حرب الهلالي قال: كتب إبراهيم بن أبي يحي الاسلمي، إلى المهدي يعزيه على ابنته: أما بعد فإن أحق من عرف حق الله عليه فيما أخذ منه، من عظّم حقّ الله عليه فيما أبقي له. واعلم أن الماضي قبلك هو الباقي لك، وإن الباقي بعدك هو المأجور فيك، وإن أجر الصابرين فيما يصابون به، أعظم من النعمة عليهم فيما يعافون منه. قال: وقال سهل بن هارون: التهنئة على آجل الثواب أولى من التعزية على عاجل المصيبة. وقال صالح بن عبد القدوس: إن يكن ما به أصبت جليلا ... فذهاب العزاء فيه أجلّ كل آت لا شك آت وذو الجه ... ل معنى والهم والحزن فضل وقال لقمان لأبنه؛ يا بني إياك والكسل والضجر، فإنك إذا كسلت لم تؤدّ حقا، وإذا ضجرت لم تصبر على حق. قال: وكان يقال: أربع لا ينبغي لأحد أن يأنف منهن وإن كان شريفا أو أميرا: قيامه عن محله لأبيه، وخدمته لضيفه، وقيامه على فرسه، وخدمته للعالم. وقال بعض الحكماء: إذا رغبت في المكارم، فاجتنب المحارم. وكان يقال: لا تغتر بمودة الأمير، إذا غشك الوزير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 وكتب بعضهم: أما بعد فقد كنت لنا كلك، فاجعل لنا بعضك، ولا ترض إلا بالكل منا لك. ووصف بعض البلغاء اللسان فقال: اللسان أداة يظهر بها حسن البيان، وظاهر يخبر عن ضمير، وشاهد ينبئك عن غائب، وحاكم يفصل به الخطاب وناطق يرد به الجواب، وشافع تدرك به الحاجة، وواصف تعرف به الحقائق، ومعزّ ينفى به الحزن، ومؤنس تذهب به الوحشة، وواعظ ينهى عن القبيح، ومزين يدعو إلى الحسن، وزارع يحرث المودة، وحاصد يستأصل الضغينة، ومله يونق الأسماع. وقال بعض الأوائل: إنما الناس أحاديث، فإن استطعت أن تكون أحسنهم حديثا فافعل. ولما وصل عبد العزيز بن زرارة إلى معاوية قال: يا أمير المؤمنين، لم أزل أستدل بالمعروف عليك، وأمتطي النهار إليك، فإذا ألوى بي الليل فقبض البصر وعفّي الأثر، أقام بدني وسافر أملي والنفس تلوّم، والاجتهاد يعذر فإذ قد بلغتك فقطني. قال: قال لقمان لأبنه: ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة مواطن: لا يعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا في الحرب، ولا تعرف أخاك إلا عند الحاجة إليه. وقال أبو العتاهية: أنت ما استغنيت عن صا ... حبك الدهر أخوه فإذا احتجت إليه ... ساعة مجّك فوه وقال علي بن الحسين لابنه: يا بني، اصبر على النائبة، ولا تتعرض للحقوق، ولا تجب أخاك إلى شيء مضرته عليك أعظم من منفعته له. وقال الأحنف: من لم يصبر على كلمة سمع كلمات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 وقال: رب غيظ تجرّعته مخافة ما هو أشد منه. وقالوا: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن طال صمته كثرت سلامته. قال: وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل. محمد بن حرب الهلالي، عن أبي الوليد الليثي قال: خطب صعصعة بن معاوية إلى عامر بن الظرب العدواني ابنته «عمرة» ، وهي أم عامر بن صعصعة فقال عامر بن الظّرب: يا صعصعة: إنك قد أتيتني تشتري مني كبدي، وأرحم ولدي عندي، غير أني، أطلبتك أو رددتك، فالحسيب كفء الحسيب، والزوج الصالح أب بعد أب، وقد انكحتك مخافة ألا أجد مثلك أفر من السر إلى العلانية. أنصح ابنا، وأدع ضعيفا قويا. يا معشر عدوان: خرجت من بين أظهركم كريمتكم من غير رغبة ولا رهبة. اقسم لولا قسم الحظوظ على قدر المجدود، لما ترك الأول للآخر شيئا يعيش به. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «أوصيكم بأربع لو ضربتم إليها آباط الابل لكنّ لها أهلا: لا يرجونّ أحد منكم إلا ربه، ولا يخافنّ إلا ذنبه، ولا يستحي أحد إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم، ولا إذا لم يعلم الشيء أن يتعلمه. وإن الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس ذهب الجسد، وكذلك إذا ذهب الايمان. قال: ومدح علي بن أبي طالب رجل فأفرط فقال علي- وكان يتهمه-: «أنا دون ما تقول، وفوق ما في نفسك» . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قيمة كل امرىء ما يحسن. وقال له مالك الأشتر: كيف وجد أمير المؤمنين أهله؟ فقال: كخير إمرأة، قبّاء جباء! قال: وهل يريد الرجال من النساء غير ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، حتى تدفىء الضجيع، وتروي الرضيع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 قال: ووقف رجل على عامر الشعبي فلم يدع قبيحا إلا رماه به، فقال له عامر: إن كنت كاذبا فغفر الله لك، وإن كنت صادقا فغفر الله لي. وقال إبراهيم النخعي لسليمان الأعمش- وأراد أن يماشيه-: إن الناس إذا رأونا معا قالوا: أعمش وأعور! قال: وما عليك أن يأثموا ونؤجر؟ قال: وما علينا أن يسلموا ونسلّم! قال أبو الحسن: كان هشام بن حسان إذا ذكر يزيد بن المهلب، قال: إن كانت السفن لتجري في جوده. وقال: مكتوب في الحكمة: التوفيق خير قائد، وحسن الخلق خير قرين، والوحدة خير من جليس السوء. وقال: وكان مالك بن دينار يقول: ما أشد فطام الكبير. وكان ينشد قول الشاعر: وتروض عرسك بعد ما هرمت ... ومن العناء رياضة الهرم وقال صالح المري: كن إلى الاستماع أسرع منك إلى القول، ومن خطاء الكلام أشدّ حذرا من خطاء السكوت. وقال الحسن بن هانيء: خلّ جنبيك لرام ... وامض عنه بسلام مت بداء الصمت خير ... لك من داء الكلام إنما السالم من ألجم ... فاه بلجام ربما استفتحت بالمز ... ح مغاليق الحمام أبو عبيدة وأبو الحسن: تكلم جماعة من الخطباء عند مسلمة بن عبد الملك، فأسهبوا في القول، ثم اقترح المنطق منهم رجل من أخريات الناس، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 فجعل لا يخرج من حسن إلا إلى أحسن منه. فقال مسلمة: ما شبهت كلام هذا بعقب كلام هؤلاء إلا بسحابة لبّدت عجاجة «1» . وقال أبو الحسن: علم أعرابي بنيه الخراءة فقال: ابتغوا الخلا، وابعدوا عن الملا «2» ، واعلوا الضّرا «3» ، واستقبلوا الريح، وأفجّوا إفجاج «4» النعامة، وامتسحوا بأشملكم. وروي عن الحسن أنه قال: لما حضرت قيس بن عاصم الوفاة دعا بنيه فقال: يا بني احفظوا عني، فلا أحد أنصح لكم مني. إذا مت فسوّدوا كباركم، ولا تسوّدوا صغاركم فيسفّه الناس كباركم وتهونوا عليهم، وعليكم بإصلاح المال فإنه منبهة للكريم، ويستغنى به عن اللئيم. وإياكم ومسألة الناس، فإنها شر كسب المرء. سئل دغفل النسّابة عن بني عامر بن صعصعة، فقال: أعناق ظباء، وأعجاز نساء. قيل: فتميم؟ قال: حجر أخشن، أن دنوت منه آذاك، وإن تركته خلاك. قيل: فاليمن؟ قال: سيد وأنوك. وكانوا يقولون: لا تستشيروا معلما، ولا راعي غنم، ولا كثير القعود مع النساء. عقال بن شبة قال: كنت رديفا لأبي، فلقيه جرير على بغل، فحياه أبي وألطفه، فقلت له: أبعد ما قال؟ قال: يا بني أفأوسّع جرحي؟ قال: ودعا جرير رجلا من شعراء بني كلاب إلى مهاجاته، فقال الكلابي أن نسائي بأمتهنّ، ولم تدع الشعراء في نسائك مترّقعا «5» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 وقال جرير: أنا لا أبتدي ولكن أعتدي. وكان الحسن في جنازة فيها نوائح ومعه رجل، فهم الرجل بالرجوع فقال الحسن: إن كنت كلما رأيت قبيحا تركت له حسنا، أسرع ذلك في دينك. قال أبو عبيدة: لقي القريعيّ الزبرقان بن بدر فقال: كيف كنت بعدي أبا شذرة؟ فقال: كما يسرك محيلا مجربا. قال: وكان عبد الملك بن مروان يقول: جمع أبو زرعة- يعني روح بن زنباع- طاعة أهل الشام، ودهاء أهل العراق، وفقه أهل الحجاز. وذكر لعمر بن الخطاب إتلاف شباب من قريش أموالهم فقال: حرفة أحدهم أشد عليّ من عيلته. وقال عمر بن الخطاب: حرفة يعاش بها، خير من مسألة الناس. وقال زياد: لو أن لي ألف درهم ولي بعير أجرب لقمت عليه قيام من لا يملك غيره. ولو أن عندي عشرة دراهم لا أملك غيرها ولزمني حق لوضعتها فيه. وقال عمرو بن العاص: البطنة تذهب الفطنة. وقال معاوية: ما رأيت رجلا يستهتر بالباءة إلا تبينت ذلك في منته «1» . قال: الأصمعي: وقال أبو سليمان الفقعسي لأعرابي من طييء: أبإمرأتك حمل. قال: لا وذو بيته في السماء، ما أدري، والله ما لها ذئب تشتال به، وما آتيها إلا وهي ضبعة (شديدة الشهوة) . قال أبو الحسن المدائني: اتخذ يزيد بن المهلب بستانا في داره بخراسان، فلما ولي قتيبة بن مسلم خراسان جعل ذلك لابله، فقال له مرزبان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 مروان: هذا كان بستانا ليزيد، اتخذته لابلك! فقال قتيبة، إن أبي كان أشتربان (يريد جمالا) ، وأبو يزيد كان بستان بان. وقال الحجاج بن يوسف لعبد الملك بن مروان: لو كان رجل من ذهب لكنته. قال: وكيف ذلك؟ قال؟ لم تلدني أمة بيني وبين آدم ما خلا هاجر. قال: لولا هاجر لكنت كلبا من الكلاب. قال: ومات ابن لعبيد الله بن الحسن، فعزّاه صالح المريّ فقال: إن كانت مصيبتك في ابنك أحدثت لك عظة في نفسك فنعم المصيبة مصيبتك، وإن تكن أحدثت لك عظة في نفسك فمصيبتك في نفسك أعظم من مصيبتك في ابنك. قال: وعزى عمرو بن عبيد أخاه في ابن مات له، فقال: ذهب ابوك وهو أصلك، وذهب ابنك وهو فرعك، فما حال الباقي بعد ذهاب أصله وفرعه. قال: وكان يزيد بن عمر بن هبيرة يقول: احذفوا الحديث كما يحذفه سلم بن قتيبة. قال: وقال رجل من بني تميم لصاحب له: اصحب من يتناسى معروفه عندك، ويتذكر إحسانك إليه، وحقوقك عليه. وعذل عاذل شعيب بن زياد على شرب النبيذ، فقال: لا أتركه حتى يكون شرّ عملي. وقال المأمون: اشربه ما استبشعته، فإذا سهل عليك فاتركه. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كتب أحدهم كتابا فليترّبه. فإن التراب مبارك، وهو أنجح للحاجة» . ونظر صلّى الله عليه وسلّم إلى رجل في الشمس، فقال: «تحول إلى الظل فإنه مبارك» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 وقال المغيرة بن شعبة: لا يزال الناس بخير ما تعجبوا من العجب. وكان يقال: ترك الضحك من العجب، أعجب من الضحك بغير عجب. قال: قدم سعيد بن العاصي على معاوية فقال: كيف تركت أبا عبد الملك؟ فقال: منفذا لأمرك، ضابطا لعملك. فقال له معاوية: إنما هو كصاحب الخبزة كفى إنضاجها فأكلها. فقال سعيد: كلا إنه بين قوم يتهادون فيما بينهم كلاما كوقع النبل، سهما لك وسهما عليك. قال: فما باعد بينه وبينك؟ فقال: خفته على شرفي، وخافني على مثله. قال: فأي شيء كان له عندك في ذلك؟ فقال: أسوءه حاضرا وأسره غائبا. قال: يا أبا عثمان، تركتنا في هذه الحروب. قال: نعم: تحملت الثقل وكفيت الحزم، وكنت قريبا لو دعيت لأجبت، ولو أمرت لأطعت. قال معاوية: يا أهل الشام: هؤلاء قومي وهذا كلامهم. قال: وكان الحجاج يستثقل زياد بن عمرو العتكيّ، فلما أثنى الوفد على الحجاج عند عبد الملك، والحجاج حاضر، قال زياد: «يا أمير المؤمنين، إن الحجاج سيفك الذي لا ينبو، وسهمك الذي لا يطيش، وخادمك الذي لا تأخذه فيك لومة لائم» . فلم يكن بعد ذلك أحد أخف على قلبه منه. وقال شبيب بن شيبة لسلم بن قتيبة: والله ما أدري أي يوميك أشرف: أيوم ظفرك أم يوم عفوك. قال: وقال غلام لأبيه- وقد قال له: لست لي ابنا-: والله لأنا أشبه بك منك بأبيك، ولأنت أشد تحصينا لأمي من أبيك لأمك. وكتب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين إلى رجل من إخوانه: «أما بعد فقد عاقني الشك في أمرك عن عزيمة الرأي فيك. إبتدأتني بلطف عن غير خبرة، ثم أعقبتني جفاء عن غير ذنب، فأطمعني أولك في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 أخائك، وأيأسني آخرك من وفائك، فلا أنا في اليوم مجمع لك اطراحا، ولا أنا في غد وانتظاره منك على ثقة. فسبحان من لو شاء كشف بإيضاح الرأي في أمرك عن عزيمة الشك فيك، فأقمنا على إئتلاف، أو افترقنا على اختلاف. والسلام. وكتب إلى أبي مسلم صاحب الدعوة أيضا، من الحبس: «من الأسير في يديه، بلا ذنب إليه، ولا خلاف عليه. أما بعد فآتاك الله حفظ الوصية، ومنحك نصيحة الرعية، وألهمك عدل القضية، فإنك مستودع ودائع، ومولى صنائع، فاحفظ ودائعك بحسن صنائعك، فالودائع عارية والصنائع مرعية، وما النعم عليك وعلينا فيك بمنزور نداها، ولا بمبلوغ مداها. فنبه للتفكر قلبك، واتق الله ربك، وأعط من نفسك لمن هو تحتك ما تحبّ أن يعطيك من هو فوقك: من العدل والرآفة، والأمن من المخافة، فقد أنعم الله عليك بأن فوض أمرنا إليك. فاعرف لنا لين شكر المودة، واغتفار مس الشدة، والرضا بما رضيت، والقناعة بما هويت، فإن علينا من سهك «1» الحديد وثقله أذى شديدا، مع معالجة الأغلال، وقلة رحمة العمال، الذين تسهيلهم الغلظة، وتيسيرهم الفظاظة، وإيرادهم علينا الغموم، وتوجيههم إلينا الهموم، زيارتهم الحراسة، وبشارتهم الأياسة. فإليك بعد الله نرفع كربة الشكوى، ونشكو شدة البلوى، فمتى تمل إلينا طرفا، وتولنا منك عطفا، تجد عندنا نصحا صريحا، وودا صحيحا، لا يضيع مثلك مثله، ولا ينفي مثلك أهله، فارع حرمة من أدركت بحرمته، واعرف حجة من فلجت بحجته، فإن الناس من حوضك رواء، ونحن منه ظماء، يمشون في الابراد، ونحن نرسف في الأقياد، بعد الخير والسعة، والخفض والدعة. والله المستعان، وعليه التكلان، صريخ «2» الأخيار، ومنجي الأبرار. الناس من دولتك في رخاء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 ونحن منها في بلاء، حين أمن الخائفون، ورجع الهاربون. رزقنا الله منك التحنن، وظاهر علينا منك التمنن، فإنك أمين مستودع، ورائد مصطنع. والسلام ورحمة الله. قال هشام بن الكلبي، قال: حدثني خالد بن سعيد، عن أبيه قال: شكت بنو تغلب السنة إلى معاوية، فقال: كيف تشكون الحاجة مع ارتجاع البكارة، واجتلاب المهارة؟! ابن الكلبي قال: كتب معاوية إلى قيس بن سعد، وهو والي مصر لعلي ابن أبي طالب رضي الله عنه: أما بعد فإنما أنت يهوديّ بن يهودي. إن ظفر أحبّ الفريقين إليك عزلك واستبدل بك، وإن ظفر أبغضهما إليك قتلك ونكل بك. وقد كان أبوك وتر قوسه ورمى غير غرضه، فأكثر الحزّ وأخطأ المفصل، فخذله قومه، وأدركه يومه، ثم مات طريدا بحوران. والسلام. فكتب إليه قيس بن سعد: أما بعد فإنك وثن بن وثن، دخلت في الاسلام كرها، وخرجت منه طوعا، لم يقدم إيمانك ولم يحدث نفاقك. وقد كان أبي رحمه الله وتر قوسه ورمى غرضه، فشغب عليه، من لم يبلغ كعبه، ولم يشق غباره. ونحن بحمد الله أنصار الدين الذي خرجت منه، وأعداء الدين الذي دخلت فيه. والسلام. وقال أبو عبيدة، وأبو اليقظان، وأبو الحسن: قدم وفد العراق على معاوية، وفيهم الأحنف، فخرج الاذن فقال: إن أمير المؤمنين يعزم عليكم ألا يتكلم أحد إلا لنفسه. فلما وصلوا إليه قال الأحنف: لولا عزيمة أمير المؤمنين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 لأخبرته أن دافة دفّت «1» ، ونازلة نزلت، ونائبة نابت «2» ، ونابتة نبتت «3» ، كلهم به حاجة إلى معروف أمير المؤمنين وبره. قال: حسبك يا أبا بحر، قد كفيت الشاهد والغائب. وقال غيلان بن خرشة للأحنف: ما بقاء ما فيه العرب؟ قال: إذا تقلدوا السيوف، وشدوا العمائم، وركبوا الخيل، ولم تأخذهم حمية الأوغاد. قال غيلان: وما حمية الأوغاد؟ قال: أن يعدوا التواهب فيما بينهم ضيما. وقال عمر: العمائم تيجان العرب. وقال: وقيل لأعرابي: ما لك لا تضع العمامة على رأسك؟ قال: إن شيئا فيه السمع والبصر لحقيق بالصون. وقال علي بن ابي طالب رضي الله عنه: جمال الرجل في عمّته، وجمال المرأة في حقّها. وقال الأحنف: استجيدوا النعال فإنها خلاخيل الرجال. قال: وقد جرى ذكر رجل عند الأحنف فاغتابوه فقال: ما لكم وما له؟ يأكل رزقه، ويكفي قرنه، وتحمل الأرض ثقله. مسلمة بن محارب قال: قال زياد لحرقة بنت النعمان: ما كانت لذة أبيك؟ قالت: أدمان الشراب، ومحادثة الرجال. قال: وقال سليمان بن عبد الملك: قد ركبنا الفاره، وتبطنا الحسناء، ولبسنا اللين حتى استخشناه، وأكلنا الطيب حتى أجمناه «4» . فما اليوم إلى شيء أحوج مني إلى جليس يضع عني مؤونة التحفظ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 وأشاروا على عبيد الله بن زياد بالحقنة، فتفحشها، فقالوا: إنما يتولاها منك الطبيب. فقال: أنا بالصاحب آنس. وقال معاوية بن أبي سفيان للنخّار بن أوس العذريّ: ابغني محدثا. فقال أو معي يا أمير المؤمنين؟!! قال: نعم استريح منك إليه، ومنه إليك. وقال عمر بن الخطاب رحمه الله لأبي مريم الحنفي: والله لا احبك حتى تحبّ الأرض الدم المسفوح: قال: فتمنعني لذلك حقا؟ قال: لا. قال: فلا ضير، إنما يأسف على الحب النساء. وقال عمر لرجل هم بطلاق إمرأته، فقال له: لم تطلقها؟ قال: لا أحبها. فقال عمرو: أو كل البيوت بنيت على الحب؟ فأين الرعاية والتذمم. قال: وأتى عبد الملك بن مروان برجل فقال: زبيري عميري، والله لا يحبك قلبي أبدا. قال: يا أمير المؤمنين، إنما يبكي على الحب المرأة، ولكن عدل وانصاف. عبد الله بن المبارك، عن هشام بن عروة، قال: نازع مروان، ابن الزبير عند معاوية، فرأى ابن الزبير أن ضلع «1» معاوية مع مروان، فقال ابن الزبير: يا امير المؤمنين: إن لك علينا حقا وطاعة، وإن لك سطة «2» وحرمة فينا، فأطع الله نطعك، فإنه لا طاعة لك علينا إلا في حق الله. ولا تطرق إطراق الأفعوان في أصول السّخبر «3» . أبو عبيدة، قال: قيل لشيخ مرة: ما بقي منك؟ قال: يسبقني من بين يدي، ويلحقني من خلفي، وأنسى الحديث، وأذكر القديم، وأنعس في الملاء وأسهر في الخلاء، وإذا قمت قربت الأرض مني، وإذا قعدت تباعدت عني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 الأصمعي قال: قلت لأعرابي معه ضاجعة من شاء «1» : لمن هذه؟ قال: هي لله عندي. ولما قتل عبد الملك بن مروان مصعبا ودخل الكوفة، قال للهيثم بن الأسود النخعي: كيف رأيت الله صنع؟ قال: قد صنع خيرا، فخفف الوطأة، وأقل التثريب. وقال ابن عباس: إذا ترك العالم قول لا أدري فقد أصيبت مقاتله. قال: وكانوا يستحبون ألا يجيبوا في كل ما سئلوا عنه. قال: وقال عمر بن عبد العزيز: من قال عندما لا يدري لا يدري فقد أحرز نصف العلم. وقال ابن عباس: إن لكل داخل دهشة، فآنسوه بالتحية. قالوا: واعتذر رجل إلى سلم بن قتيبة فقال سلم: لا يدعونك أمر قد تخلصت منه، إلى الدخول في أمر لعلك لا تخلص منه. قال: وكان يقال: دعوا المعاذر فإن أكثرها مفاجر. وقال: وقال ابراهيم النخعي لعبد الله بن عون: تجنب الاعتذار، فإن الاعتذار يخالطه الكذب. واعتذر رجل إلى احمد بن أبي خالد فقال لأبي عباد: ما تقول في هذا؟ قال: يوهب له جرمه، ويضرب لعذره أربعمائة. وقد قال الأول: عذره أعظم من ذنبه. قال: وقيل لابن عباس: ولد عمر بن أبي ربيعة في الليلة التي مات فيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 عمر بن الخطاب رحمه الله فسمي باسمه. فقال ابن عباس: أيّ حق رفع، وأيّ باطل وضع!. وقال عبد الله بن جعفر لابنته: يا بنية، إياك والغيرة فإنها مفتاح الطلاق، وإياك والمعاتبة فإنها تورث البغضة وعليك بالزينة والطيب، واعلمي أن أزين الزينة الكحل، وأطيب الطيب الماء. قال: ولما نازع ابن الزبير مروان عند معاوية قال ابن الزبير: يا معاوية: لا تدع مروان يرمي جماهير قريش بمشاقصه، ويضرب صفاتهم «1» بمعاوله، فلولا مكانك لكان أخف على رقابنا من فراشة، وأقل في أنفسنا من خشاشة «2» . ولئن ملك أعنة خيل تنقاد له ليركبن منك طبقا تخافه. قال معاوية: أن يطلب هذا الأمر فقد يطمع فيه من هو دونه، وأن يتركه فإنما يتركه لمن هو فوقه. وما أراكم بمنتهين حتى يبعث الله إليكم من لا يعطف عليكم بقرابة، ولا يذكركم عند ملمة، يسومكم خسفا، ويوردكم تلفا! فقال ابن الزبير: إذا والله نطلق عقال الحرب بكتائب تمور كرجل الجراد، حافتها الأسل، لها دوي كدوي الريح، تتبع غطريفا من قريش لم تكن أمه براعية ثلة «3» . فقال معاوية: أنا ابن هند، إن أطلقت عقال الحرب أكلت ذروة السنام، وشربت عنفوان المكرع، وليس للآكل إلا الفلذة، ولا للشارب إلا لرنق «4» . بكر بن الأسود قال: قال الحسن بن علي لحبيب ابن مسلمة رب مسير لك في غير طاعة الله. فقال: أما مسيري إلى أبيك فلا. قال: بلى، ولكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة، فلعمري لئن قام بك في دنياك، لقد قعد بك في دينك. ولو أنك إذ فعلت شرا قلت خيرا، كنت كما قال الله تبارك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وتعالى: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً .، ولكنك كما قال جل وعز: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ. قال ابو الحسن: سمعت أعرابيا في المسجد الجامع بالبصرة بعد العصر سنة ثلاث وخمسين ومائة، وهو يقول: أما بعد فإنّا أبناء سبيل، والضاء طريق، وفلّ سنة، فتصدقوا علينا، فإنه لا قليل من الأجر، ولا غنى عن الله، ولا عمل بعد الموت. أما والله إنّا لنقوم هذا المقام وفي الصدر حزازة، وفي القلب غصة. وقال الأحنف بخراسان: يا بني تميم، تحابوا تجتمع كلمتكم، وتباذلوا تعتدل أموالكم، وابدأوا بجهاد بطونكم وفروجكم يصلح لكم دينكم، ولا تغلوا يسلم لكم جهادكم. ومن كلام الأحنف السائر في أيدي الناس: الزم الصحّة يلزمك العمل. وسئل خالد بن صفوان عن الكوفة والبصرة فقال: «نحن منابتنا قصب، وأنهارنا عجب، وسماؤنا رطب، وأرضنا ذهب» . وقال الأحنف: «نحن أبعد منكم سريّة، وأعظم منكم بحرية، وأكثر منكم ذرّية، وأعذى «1» منكم برية» . وقال أبو بكر الهذلي: «نحن أكثر منكم ساجا وعاجا، وديباجا وخراجا، ونهرا عجاجا» . وكتب صاحب لأبي بكر الهذلي إلى رجل يعزيه عن أخيه: «أوصيك بتقوى الله وحده، فإنه خلقك وحده، ويبعثك يوم القيامة وحده. والعجب كيف يعزي ميت عن ميتا. والسلام» . وقال رجل لأبن عياش رحمه الله: أيما أحب إليك: رجل قليل الذنوب قليل العمل، أو رجل كثير الذنوب كثير العمل؟ فقال: ما أعدل بالسلامة شيئا. وقال آخر: حماقة صاحبي أشد ضررا علي منها عليه. شعبة أبو بسطام قال: قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: لا أماري أخي، فأما أن أكذبه، وإما أن أغضبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 وقالوا: أخذ رجل على ابن أبي ليلى كلمة، فقال له ابن أبي ليلى: أهد إلينا من هذا ما شئت. لما مات ابن أبي ليلى، وعمرو بن عبيد، رحمهما الله تعالى، قال أبو جعفر المنصور: ما بقي أحد يستحى منه. ولما مات عبد الله بن عامر قال معاوية: رحم الله أبا عبد الرحمن، بمن نفاخر؟. مسلمة بن محارب قال: قال زياد: ما قرأت كتاب رجل قط إلا عرفت فيه عقله. أبو معشر قال: لما بلغ عبد الله بن الزبير قتل عبد الملك بن مروان عمرو ابن سعيد الأشدق، قام خطيبا. فقال: إن أبا الذّبّان قتل لطيم الشيطان، كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ . ولما جاءه قتل أخيه مصعب، قام خطيبا بعد خطبته الأولى. فقال: إن مصعبا قدّم أيره وأخر خيره، وتشاغل بنكاح فلانة وفلانة، وترك حلبة أهل الشام حتى غشيته في داره. ولئن هلك مصعب إن في آل الزبير منه خلفا. قالوا: ولما قدم ابن الزبير بفتح أفريقية، أمره عثمان فقام خطيبا، فلما فرغ من كلامه قال عثمان: أيها الناس انكحوا النساء على آبائهن واخوتهن، فإني لم أر في ولد أبي بكر الصديق أشبه به من هذا. وسمع عمر بن الخطاب رحمه الله أعرابيا يقول: اللهم اغفر لأم أوفى. قال: ومن أمّ أوفى؟ قال: إمرأتي، وإنها لحمقاء مرغامة «1» ، أكول قامّة «2» ، لا تبقى لها خامّة، غير أنها حسناء فلا تفرك، وأم غلمان فلا تترك. قالوا: ودفعوا إلى أعرابية علكا لتمضغه، فلم تفعل، فقيل لها في ذلك فقالت: ما فيه إلا تعب الأضراس، وخيبة الحنجرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 وكان أبو مسلم استشار مالك بن الهيثم، حين ورد عليه كتاب المصنور في القدوم عليه، فلم يشر عليه في ذلك، فلما قتل أبو مسلم أذكره ذلك، فقال ابن الهيثم: إن أخاك إبراهيم الامام حدّث عن ابيه محمد بن علي أنه قال: لا يزال الرجل يزاد في رأيه ما نصح لمن استشاره، فكنت له يومئذ كذلك، وأنا لك اليوم كذلك.. وقال الحسن: التقدير نصف الكسب، والتودد نصف العقل، وحسن طلب الحاجة نصف العلم. قال: وقال رجل لعمرو بن عبيد: إني لأرحمك مما يقول الناس فيك. قال: اسمعتني أذكر فيهم شيئا؟ قال: لا، قال: إياهم فارحم. ومدح نصيب أبو الحجناء عبد الله بن جعفر، فأجزل له من كل صنف، فقيل له: أتصنع هذا بمثل هذا العبد الأسود؟ قال: أما والله لئن كان جلده أسود أن تناءه لأبيض، وإن شعره لعربي، ولقد استحق بما قال أكثر مما نال، وإنما أخذ رواحل تنصى، وثيابا تبلى، وما لا يفنى، واعطى مديحا يروى، وثناء يبقى. ووقف أعرابي في بعض المواسم، فقال: اللهم إن لك علي حقوقا فتصدق بها عليّ، وللناس تبعات فتحملها عني، وقد أوجبت لكل ضعيف قرى وأنا ضيفك، فاجعل قراي في هذه الليلة الجنة. ووقف أعرابي يسأل قوما فقالوا له: عليك بالصيارفة. فقال هناك والله قرارة اللؤم. وقال مسلمة: ثلاثة لا أعذرهم: رجل أحفى شاربه ثم أعفاه «1» ، ورجل قصّر ثيابه ثم أطالها، ورجل كان عنده سراري فتزوج حرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 أبو اسحق قال: قال حذيفة: كن في الفتنة كإبن لبون، لا ظهر فيركب، ولا لبن فيحلب. وقال الشاعر وليس هذا الباب في الخبر الذي قبل هذا: ألم تر أن الناب تحلب علبة ... ويترك ثلب لا ضراب ولا ظهر «1» عتبة بن هارون قال: قلت لرؤبة: كيف خلفت ما وراءك؟ قال: التراب يابس، والمرعى عابس. وقال معاوية لعبد الله بن عباس: إني لأعلم إنك واعظ نفسه، ولكن المصدور إذا لم ينفث جوي. وقيل لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أتقول الشعر مع النّسك والفضل والفقه؟ فقال: «لا بد للمصدور من أن ينفث» . قال أبو الديال شويس: «أنا والله العربي، لا أرقع الجّرّبّان، ولا البس التبان، ولا أحسن الرطانة، ولأنا أرسى من حجر، وما قرقمني إلا الكرم» . أبو الحسن وغيره قال: قال عمرو بن عتبة بن أبي سفيان، للوليد بن يزيد بن عبد الملك، وهو بالبخراء من أرض حمص: يا أمير المؤمنين، إنك لتستنطقني بالأنس بك، وأكف عن ذلك بالهيبة لك، وأراك تأمن أشياء أخافها عليك، أفأسكت مصيعا، أم أقول مشفقا؟ قال: كل ذلك مقبول منك، ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه، وتعود فتقول. قال: فقتل بعد أيام. وكان أيوب السختياني يقول: لا يعرف الرجل خطأ معلمه حتى يسمع الاختلاف. وقال بعضهم: كنت أجالس ابن صعير في النسب، فجلست إليه يوما فسألته عن شيء من الفقه، فقال: ألك بهذا من حاجة؟ عليك بذاك- وأشار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 إلى سعيد بن المسيّب- فجلست إليه لا أظن أن عالما غيره، ثم تحولت إلى عروة، ففتقت به ثبج بحر «1» . قال: وقلت لعثمان البّري: دلني على باب الفقه. قال: اسمع الاختلاف. وقيل لأعرابي عند من تحب أن يكون طعامك؟ قال: عند أم صبي راضع، أو ابن سبيل شاسع، أو كبير جائع، أو ذي رحم قاطع. وقال بعضهم: إذا اتسعت المقدرة نقصت الشهوة. قال: قلت له: فمن أسوأ الناس حالا؟ قال: من اتسعت معرفته، وبعدت همته، وقويت شهوته، وضاقت مقدرته. وذكر عند عائشة رحمها الله فقالت: كل شرف دونه لؤم فاللؤم أولى به، وكل لؤم دونه شرف فالشرف أولى به. ودخل رجل على أبي جعفر، فقال له: اتق الله. فأنكر وجهه. فقال: يا أمير المؤمنين، عليكم نزلت، ولكم قيلت، وإليكم ردّت. وقال رجل عند مسلمة: ما استرحنا من حائك كندة حتى جاءنا هذا المزوني! فقال له مسلمة: أتقول هذا لرجل سار إليه قريعا قريش؟ يعني نفسه والعباس بن الوليد. إن يزيد بن المهلب حاول عظيما، ومات كريما. عبد الله بن الحسن قال: قال علي بن ابي طالب رحمه الله: خصّصنا بخمس: فصاحة، وصباحة، وسماحة، ونجدة، وحظوة- يعني عند النساء. علي بن مجاهد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: جبلت القلوب قلوب الناس على حبّ من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 وقال الأصمعي: كتب كتاب حكمة فبقيت منه بقية فقالوا: ما نكتب؟ قالوا: أكتبوا: «يسأل عن كل صناعة أهلها» . وقال شبيب بن شيبة للمهدي: إن الله لم يرض أن يجعلك دون أحد من خلقه، فلا ترض لنفسك أن يكون أحد أخوف لله منك. وقال يحيى بن أكثم: «سياسة القضاء أشد من القضاء» . وقال: «إن من أهانة العلم أن تجاري فيه كل من جاراك» . قال: حمّل رقبة بن مصقلة من خراسان رجلا إلى امه خمسمائة درهم، فأبى الرجل أن يدفعها إليها حتى تكون معها البينة على أنها أمه، فقالت لخادم لها: إذهبي حتى تأتينا ببعض من يعرفنا، فلما أتاها الرجل برزت فقالت: الحمد لله، وأشكو إلى الله الذي أبرزني وشهر بالفاقة أهلي. فلما سمع الرجل كلامها قال: أشهد إنك أمه، فردي الخادم ولا حاجة بنا إلى أن تجيئي بالبيّنة. قال: وكان الحسن يقول في خطبة النكاح، بعد حمد الله والثناء عليه: «أما بعد فإن الله جمع بهذا النكاح الأرحام المنقطعة، والأنساب المتفرّقة، وجعل ذلك في سنّة من دينه، ومنهاج واضح من أمره، وقد خطب إليكم فلان، وعليه من الله نعمة» . عامر بن سعد قال: سمعت الزّبير يعزي عبد الرحمن على بعض نسائه، فقال وهو قائم على قبرها: لا يصفر ربعك، ولا يوحش بيتك، ولا يضع أجرك. رحم الله متوفاك، وأحسن الخلافة عليك. وقال عمر بن الخطاب رحمه الله: خير صناعات العرب أبيات يقدمها الرجل بين يدي حاجته، يستميل بها الكريم، ويستعطف بها اللئيم. وقال: وليم مصعب بن الزبير على طول خطبته عشية عرفة فقال: أنا قائم وهم جلوس، وأتكلم وهم سكوت، ويضجرون! وقال موسى بن يحي: كان يحي بن خالد يقول: ثلاثة أشياء تدل على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 عقول أربابها: الكتاب يدل على مقدار عقل كاتبه، والرسول على مقدار عقل مرسله، والهدية على مقدار عقل مهديها. وذكر أعرابي أميرا فقال: يقضي بالعشوة «1» ، ويطيل النشوة، ويقبل الرشوة. وقال يزيد بن الوليد: إن النّشوة تحلّ العقدة، وتطلق الحبوة. وقال: إياكم والغناء، فإنه مفتاح الزناء. وقال عمر بن الخطاب رحمه الله: إذا توجه أحدكم في وجه ثلاث مرات فلم يصب خيرا فليدعه. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا تكوننّ كمن يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي، ينهي ولا ينتهي، ويأمر الناس بما لا يأتي، يحب الصالحين ولا يعمل بأعمالهم، ويبغض المسيئين وهو منهم، يكره الموت لكثرة ذنوبه، ولا يدعها في طول حياته. وقال أعرابي: خرجت حين انحدرت أيدي النجوم وشالت أرجلها، فلم أزل أصدع الليل حتى أنصدع الفجر. قال: وسألت أعرابيا عن مسافة ما بين بلدين فقال: عمر ليلة، وأديم يوم. وقال آخر: سواد ليلة، وبياض يوم. وقال بعض الحكماء: لا يضرّك حب إمرأة لا تعرفها. وقال رجل لأبي الدرداء: فلان يقرئك السلام. فقال: هدية حسنة، ومحمل خفيف. وسرق مزبّد نافجة مسك فقيل له: إن كل من غلّ يأتي يوم القيامة بما غل، يحمله في عنقه، فقال: إذا والله أحملها طيبة الريح، خفيفة المحمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 قيل: ومن ابخل البخل ترك رد السلام. قال ابن عمر: لعمري إني لأرى حق رجع جواب الكتاب كرد السلام. وجاء رجل إلى سلمان فقال: يا أبا عبد الله، فلان يقرئك السلام. فقال: أما إنك لو لم تفعل لكانت أمانة في عنقك. وقال مثني بن زهير لرجل: احتفظ بكتابي هذا حتى توصله إلى أهلي، فمن العجب أن الكتاب ملقّى، وإن السكران موفّى. وكان عبد الملك بن الحجاج يقول: لأنا للعاقل المدبر أرجى من الأحمق المقبل. وقال: إياك ومصاحبة الأحمق، فإنه ربما أراد أن ينفعك فضرّك. وكتب الحجاج إلى عامل له بفارس: «ابعث إلي بعسل من عسل خلار من النحل الأبكار، من الدستفشار، الذي لم تمسه النار» . وقال الشاعر: وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ... ففي صالح الأخلاق نفسك فاجعل قال: ونظر أبو الحارث جمّين، إلى برذون يستقي عليه الماء فقال: وما المرء إلا حيث يجعل نفسه لو أن هذا البرذون هملج ما صنع به هذا. عمرو بن هدّاب قال: قال سلم بن قتيبة: ربّ المعروف أشدّ من ابتدائه. وقال محمد بن واسع: «الإبقاء على العمل أشد من العمل» . وقال يحي بن أكثم: «سياسة القضاء أشد من القضاء» . وقال محمد بن محمد الحمراني: «من التوقّي ترك الإفراط في التوقي» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 وقال أبو قرة: «الجوع للحمية أشد من العلة» . وقال الجمّان: «الحمية إحدى العلتين» . وقال العميّ: «من احتمى فهو على يقين من تعجيل المكروه، وفي شك مما يأمل من دوام الصحة» . وذكر أعرابي رجلا فقال: حمّى المعافى، حنوط المبتلى. وقال عمر اعتبر عزمه بحميته، وحزمه بمتاع بيته. وقالوا: أمران لا ينفكّان من الكذب: كثرة المواعيد، وشدة الإعتذار. وقيل لرجل من الحكماء: ما جماع البلاغة؟ قال: معرفة السليم من المعتل، وفصل ما بين المضمّن والمطلق، وفرق ما بين المشترك والمفرد. وما يحتمل التأويل من المنصوص المقيد. وقال سهل بن هارون في صدر كتاب له: «وجب على كل ذي مقالة أن يبتدىء بالحمد لله قبل استفتاحها، كما بدىء بالنعمة قبل استحقاقها» . وقال أبو البلاد: وانّا وجدنا الناس عودين طيبا ... وعودا خبيثا لا يبضّ على العّصر تزين الفتى أخلاقه وتشينه ... وتذكر أخلاق الفتى وهو لا يدري وقال آخر في هذا المعنى: سابق إلى الخيرات أهل العلا ... فإنما الناس أحاديث كل امرىء في شأنه كادح ... فوارث منهم وموروث ولما قال حمل بن بدر، لبني عبس، والأسنة في ظهورهم، والبوارق فوق رؤوسهم: «نؤدي السبق، وندي الصبيان وتخلون سربنا، وتسودون العرب» ، انتهره حذيفة فقال: إياك والكلام المأثور! وقال الشاعر: اليوم خمر ويبدو في غد خبر ... والدهر من بين إنعام واباس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 قال: وقال أعرابي: «إن المسافر ومتاعه لعلى قلت «1» إلا ما وقى الله» . وقالوا: السفر قطعة من العذاب، وصاحب السّوء قطعة من النار. قال: وجلس معاوية بالكوفة يبايع الناس على البراءة من علي رحمه الله، فجاءه رجل من بني تميم، فأراده على ذلك فقال: يا أمير المؤمنين، نطيع أحياءكم ولا نبرأ من مرتاكم. فالتفت إلى المغيرة فقال: إن هذا رجل، فاستوص به خيرا. وقال الشاعر: قالت أمامة يوم برقة واصل ... يا ابن الغدير لقد جعلت تغير أصبحت بعد زمانك الماضي الذي ... ذهبت شبيبته وغصنك أخضر شيخا دعامتك العصا ومشيّعا ... لا تبتغي خبرا ولا تستخبر قالوا: وكان شريح في الفتنة يستخبر ولا يخبر، وكان الربيع بن خثيم لا يخبر ولا يستخبر، وكان مطرّف بن عبد الله يستخبر ويخبر. قالوا: فينبغي أن يكون أعقلهم. قال أبو عبيدة: كان ابن سيرين لا يستخبر ولا يخبر، وأنا أخبر وأستخبر. وقال أبو عمرو بن العلاء لأهل الكوفة: لكم حذلقة «2» النّبط وصلفهم، ولنا دهاء فارس وأحلامها. وأنشد للحارث بن حلزة اليشكري: لا أعرفنك إن أرسلت قافية ... تلقي المعاذير إن لم تنفع العذر إن السعيد له في غيره عظة ... وفي التجارب تحكيم ومعتبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 ومعنى المعاذير هنا على غير معنى قول الله تبارك وتعالى في القرآن: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ. وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ . والمعاذير هاهنا: الستور. وقال: أراد رجل الحج فسلم شعبة بن الحجاج فقال له: أما إنك إن لم تعدّ الحلم ذلا، ولا ألسفه أنفا، سلم لك حجك. وقالوا: وكان علي رضي الله عنه بالكوفة قد منع الناس من القعود على ظهر الطريق، فكلموه في ذلك فقال: أدعكم على شريطة. قالوا: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال غضّ الأبصار، وردّ السلام، وإرشاد الضال. قالوا: قد قبلنا. فتركهم. وكان نوفل بن أبي عقرب، لا يقعد على باب داره، وكان عامرا بالمارة فقيل له: إن في ذلك نشرة «1» ، وصرف النفوس عن الأماني، واعتبارا لمن اعتبر، وعظة لمن فكر. فقال: إن لذلك حقوقا يعجز عنها ابن خيشمة. قالوا: وما هي؟ قالوا: غض البصر، ورد التحية، وإرشاد الضال، وضم اللقطة، والتعرض لطلاب الحوائج، والنهي عن المنكر. والشغل بفضول النظر، الداعية إلى فضول القول والعمل، عادة إن قطعتها اشتدت وحشتك لها، وإن وصلتها قطعتك عن أمور هي أولى بك منها. وقال الفضيل بن عياض، لسفيان الثوري دلّني على جليس أجلس إليه. فقال هيهات، تلك ضالة لا توجد. وقيل لبعض العلماء: أيّ الأمور أمتع: فقال: مجالسة الحكماء ومذاكرة العلماء. وقيل لعبد الرحمن بن أبي بكرة: أي الأمور أمتع؟ فقال: الأماني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 وقال رجاء بن حيوة، لعبد الملك بن مروان، في أسارى ابن الأشعث: إن الله قد أعطاك ما تحب من الظفر، فأعط الله ما يحب من العفو. وقال هريم بن عدي بن أبي طحمة، ليزيد بن عبد الملك بعد ظفره بيزيد ابن المهلب: ما رأينا أحدا ظلم ظلمك، ولا نصر نصرك، ولا عفا عفوك. وذمّ رجل رجلا فقال: سيىء الروية، قليل التقية كثير السعاية، قليل النكاية. قال: وقال معاوية لمعاوية بن حديج الكندي: ما جرأك على قتل قريش؟ قال: ما أنصفتمونا، تقتلون حلماءنا وتلوموننا على قتل سفهائكم. وهو الذي قال لأمّ الحكم بنت أبي سفيان: والله لقد نكحت فما استكرمت، وولدت فما أنجبت. أبو بكر بن مسلمة، عن أبي إسحاق القيسي قال: لما قدم قتيبة بن مسلم خراسان قال: «من كان في يديه شيء من مال عبد الله بن خازم فلينبذّه، وإن كان في فيه فليلفظه، وإن كان في صدره فلينفثه» . فعجب الناس من حسن ما قسّم وفصّل. قال: ثم غبر بعد ذلك عيال عبد الله بن خازم وما بخراسان أحسن حالا منهم. عنبسة القطان قال: شهدت الحسن وقال له رجل: بلغنا إنك تقول: لو كان علي بالمدينة يأكل من حشفها لكان خيرا له مما صنع. فقال له الحسن: يا لكع، أما والله لقد فقدتموه سهما من مرامي الله، غير سؤوم لأمر الله، ولا سروقة لمال الله، أعطي القرآن عزائمه فيما عليه وله، فأحلّ حلاله، وحرّم حرامه، حتى أورده ذلك رياضا مونقه، وحدائق مغدقة. ذلك علي بن أبي طالب يا لكع. يزيد بن عقال: قال سمعت عبد الملك بن صالح يوصي ابنه وهو أمير سرية ونحن ببلاد الروم، فقال له: أنت تاجر الله لعباده، فكن كالمضارب الكيّس، الذي إن وجد ربحا تجر، وإلا احتفظ برأس المال. ولا تطلب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 الغنيمة حتى تحرز السلامة. وكن من إحتيالك على عدوك أشدّ خوفا من إحتيال عدوك عليك. وقال بعض الحكماء: لا تصطنعوا إلى ثلاثة معروفا: اللئيم فإنه بمنزلة الأرض السبخة، والفاحش فإنه يرى أن الذي صنعت إليه إنما هو لمخافة فحشه، والأحمق فإنه لا يعرف قدر ما أسديت إليه. وإذا اصطنعت إلى الكرام فازدرع المعروف واحصد الشكر. قال: وواضع المعروف في غير أهله كالمسرج في الشمس، والزارع في السبخ. ومثله البيت السائر في الناس: ومن يصنع المعروف في غير أهله ... يلاق الذي لاقى مجير أمّ عامر وقالوا: من لم يعرف سوء ما يولي لم يعرف حسن ما يولي. وقال الأبادي صاحب الصرح، الذي إتخذ سلما لمناجاة الرب، وهو الذي كان يقول: «مرضعة وفاطمة. القطيعة والفجيعة، وصلة الرحم وحسن الكلم. زعم ربكم ليجزين بالخير ثوابا، وبالشر عقابا. وإن من في الأرض عبيد لمن في السماء. هلكت جرهم وربلت أياد «1» ، وكذلك الصلاح والفساد. من رشد فاتبعوه، ومن غوى فارفضوه. كل شاة برجلها معلقة» . وإياه يعني الشاعر بقوله: ونحن أياد عبيد الاله ... ورهط مناجيه في السلم ونحن ولاة حجاب العتيق ... زمان الرعاف على جرهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 تعزية إمرأة للمنصور على أبي العباس مقدمه من مكة. قالت: أعظم الله أجرك، فلا مصيبة أجل من مصيبتك، ولا عوض أعظم من خلافتك. وقال عثمان بن خريم للمنصور، حين عفا عن أهل الشام في أجلابهم مع عبد الله بن علي عمه: يا أمير المؤمنين: لقد أعطيت فشكرت، وابتليت فصبرت، وقدرت فغفرت. وقال آخر: يا أمير المؤمنين، الإنتقام عدل، والتجاوز فضل، والمتفضل قد تجاوز حد المنصف. فنحن نعيذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين، دون أن يبلغ أرفع الدرجتين. وقال آخر: من انتقم فقد شفي غيظ نفسه، وأخذ أقصى حقه. وإذا انتقمت فقد انتصفت، وإذا عفوت فقد تطوّلت. ومن أخذ حقه وشفي غيظه لم يجب شكره، ولم يذكر في العالمين فضله. وكظم الغيظ حلم، والحلم صبر، والتشفي طرف من العجز، ومن رضي ألا يكون بين حاله وبين حال الظالم إلا ستر رقيق، وحجاب ضعيف، فلم يجزم في تفضيل الحلم، وفي الإستيثاق من ترك دواعي الظلم. ولم تر أهل النهي والمنسوبين إلى الحجا والتقى. مدحوا الحلماء بشدة العقاب، وقد ذكروهم بحسن الصفح، وبكثرة الإغتفار، وشدة التغافل. وبعد فالمعاقب مستعد لعداوة أولياء المذنب، والعافي مستدع لشكرهم، آمن من مكافأتهم أيام قدرتهم، ولأن يثنى عليك بإتساع الصدر خير من أن يثنى عليك بضيق الصدر. على أن إقالتك عثرة عباد الله موجب لإقالتك عثرتك من رب عباد الله، وعفوك عنهم موصول بعفو الله عنك، وعقابك لهم موصول بعقاب الله لك. وقالوا: الموت الفادح، خير من اليأس الفاضح. وقال آخر: لا أقل من الرجاء. فقال آخر: بل اليأس المريح. وقال عبد الله بن وهب الراسبي: إزدحام الجواب مضلة للصواب، وليس الرأي بالإرتحال، ولا الحزم بالإقتضاب، فلا تدعونك السلامة من خطأ موبق، أو غنيمة نلتها من صواب نادر، إلى معاودته، وإلتماس الأرباح من قبله. إن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 الرأي ليس بنهبى، وخمير الرأي خير من فطيره. ورب شيء غابّه خير من طريه، وتأخيره خير من تقديمه. ولما قدم بعبد الجبار بن عبد الرحمن، إلى المنصور، قال: يا أمير المؤمنين، قتلة كريمة. قال: وراءك تركتها، يا ابن اللخناء. ولما احتال أبو الأزهر المهلب بن عبيثر المهري، لعبد الحميد بن ربعي ابن معدان، وأسلمه إلى حميد بن قحطبة، وأسلمه حميد إلى المنصور، فلما صار إلى المنصور قال: لا عذر فأعتذر وقد أحاط بي الذنب، وأنت أولى بما ترى. قال: لست أقتل أحدا من آل قحطبة، بل أهب مسيئهم لمحسنهم، وغادرهم لوفيّهم. قال: إن لم يكن فيّ مصطنع فلا حاجة بي إلى الجاه. ولست أرضى أن أكون طليق شفيع وعتيق ابن عم. قال: أخرج، فإنك جاهل، أنت عتيقهم ما حييت. قال زياد بن ظبيان التيمي، لأبنه عبيد الله بن زياد، وزياد يومئذ يكيد بنفسه وعبيد الله غلام: ألا أوصى بك الأمير زيادا؟ قال: لا. قال: ولم؟ قال: إذا لم تكن للحي إلا وصية الميّت فالحي هو الميت. ودخل عمرو بن سعيد الأشدق بعد موت أبيه على معاوية، وعمرو يومئذ غلام، فقال له معاوية: إلى من أوصى بك أبوك يا غلام؟ قال: إن أبي أوصى إليّ ولم يوصى بي. قال: وبأي شيء أوصاك؟ قال: أوصاني ألا يفقد إخوانه منه إلا وجهه. قال معاوية لأصحابه: إن ابن سعيد هذا لأشدق. ولما داهن سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب، في شأن إبراهيم بن عبد الله وصار سفيان إلى المنصور، أمر الربيع فخلع سواده. ووقف به على رؤوس اليمانية في المقصورة يوم الجمعة، ثم قال: يقول لكم أمير المؤمنين: قد عرفتم ما كان من إحساني إليه، وحسن بلائي عنده، والذي حاول من الفتنة والغدر، والبغي وشقّ العصا، ومعاونة الأعداء، وقد رأى أمير المؤمنين أن يهب مسيئكم لمحسنكم، وغادركم لوفيكم. وقال يونس بن حبيب: المفحم يأتيه دون ما يرضى، ويطلب فوق ما يقوى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 وذكر بعض الحكماء أعاجيب البحر وتزيد البحرين، فقال: البحر كثير العجائب، وأهله أصحاب زوائد، فأفسدوا بقليل الكذب كثير الصدق، وأدخلوا ما لا يكون في باب ما قد يكاد يكون، فجعلوا تصديق الناس لهم في غرائب الأحاديث سلّما إلى إدعاء المحال. وقال بعض العرب: «حدث عن البحر ولا حرج، وحدث عن بني إسرائيل ولا حرج، وحدث عن معن ولا حرج» . وجاء في الحديث: «كفى بالمرء حرصا ركوبه البحر» . وكتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب، يصف له البحر فقال: «يا أمير المؤمنين، البحر خلق عظيم، يركبه خلق صغير، دود على عود» . وقال الحسن رحمه الله: «إملاء الخير خير من الصمت، والصمت خير من إملاء الشر» . وقال بعضهم: مروا الأحداث بالمراء، والكهول بالفكر، والشيوخ بالصمت. عبد الله بن شداد قال: «أرى داعي الموت لا يقلع، وأرى من مضى لا يرجع. لا تزهدنّ في معروف، فإن الدهر ذو صروف. وكم من راغب قد كان مرغوبا إليه، وطالب أصبح مطلوبا إليه. والزمان ذو الوان، ومن يصحب الزمان يرى الهوان. وإن غلبت يوما على المال فلا تغلبن على الحيلة على حال. وكن أحسن ما تكون في الظاهر حالا، أقل ما تكون في الباطن مالا» . وقيل لقيس بن عاصم: بم سدت قومك؟ قال: ببذل الندى، وكفّ الأذى، ونصر المولى. وقيل لشيخ: أين شبابك؟ قال: من طال أمده، وكثر ولده، وقل عدده، وذهب جلده، ذهب شبابه. وقال زياد: لا يعد منك من الجاهل كثرة الإلتفات، وسرعة الجواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 وقال عبد الرحمن بن أمّ الحكم: لولا ثلاث ما باليت متى مت: تزاحف الأحرار إلى طعامي، وبذل الأشراف وجوههم إلي في أمر أجد السبيل إليه، وقول المنادي الصلاة أيها الأمير. وقال ابن الأشعث: لولا أربع خصال ما أعطيت بشريا طاعة: لو ماتت أم عمران- يعني امه- ولو شاب رأسي، ولو قرأت القرآن، ولو لم يكن رأسي صغيرا. وقال معاوية: أعنت على علي بثلاث خصال: كان رجلا يظهر سره، وكنت كتوما لسري. وكان في أخبث جند وأشده خلافا، وكنت في أطوع جند وأقله خلافا. وخلا بأصحاب الجمل فقلت إن ظفر بهم اعتددت بهم عليه وهنا في دينه، وإن ظفروا به كانوا أهون علي شوكة منه. وكنت أحبّ إلى قريش منه. فكم شئت من جامع إلي ومفرق عنه. جهم بن حسان السليطي قال: قال رجل للأحنف: دلني على حمد بلا مرزئة. قال: الخلق السّجيح، والكف عن القبيح. ثم اعلموا إن أدوى الداء اللسان البذيء، والخلق الرديء. وقال محمد بن حرب الهلالي: قال بعض الحكماء: لا يكوننّ منكم المحدث لا ينصت له، ولا الداخل في سر اثنين لم يدخلاه فيه، ولا الآتي الدعوة لم يدع إليها، ولا الجالس المجلس لا يستحقه. ولا الطالب الفضل من أيدي اللئام، ولا المتعرّض للخير من عند عدوه، ولا المتحمق في الدالة. قالوا: قل النبي صلّى الله عليه وسلّم في معاوية: «للهم علّمه الكتاب والحساب، وقه العذاب» . وقال رجل من بني أسد: مات لشيخ منا ابن، فاشتدّ جزعه عليه، فقام إليه شيخ منا فقال: اصبر أبا إمامه، فإنه فرط افترطته، وخير قدمته، وذخر أحرزته. فقال مجيبا له ولد دفنته، وثكل تعجلته، وغيب وعدته. والله لئن لم أجزع من النقص لا أفرح بالمزيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 الأصمعي قال: قال ابن أقيصر: خير الخيل الذي إذا استدبرته جنا، وإذا استقبلته أقعى، وإذا استعرضته استوى وإذا مشى ردى، وإذا ردى دحا. ونظر ابن أقيصر إلى خيل عبد الرحمن بن أم الحكم، فأشار إلى فرس منها فقال: تجيء هذا سابقة، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: رأيتها مشت فكتفت «1» ، وخبت فوجفت «2» ، وعدت فنسفت «3» . وذكرت أعرابية زوجها فقالت: ذهب ذفره «4» ، وأقبل بخره، وفتر ذكره. وكان مالك بن الأخطل قد بعثه أبوه ليسمع شعر جرير والفرزدق، فسأله أبوه عنهما فقال: جرير يغرف من بحر، والفرزدق ينحت من صخر. فقال: الذي يغرف من بحر أشعرهما. قد ذكرنا من مقطعات الكلام وقصار الأحاديث، بقدر ما اسقطنا به مؤونة الخطب الطوال. وسنذكر من الخطب المسندة إلى أربابها مقدارا لا يستفرغ مجهود من قرأها، ثم نعود بعد ذلك إلى ما قصر منها وخف، وإلى أبواب قد تدخل في هذه الجملة وإن لم تكن مثل هذه بأعيانها. والله الموفق. أبو الحسن، عن يحيى بن سعيد، عن ابن خرّبوذ البكري، عن خالد ابن صفوان، قال: دخل عبد الله بن عبد الله بن الأهتم، على عمر بن عبد العزيز مع العامة، فلم يفجأ عمر إلا وهو ماثل بين يديه يتكلم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن الله خلق الخلق غنيا عن طاعتهم، آمنا لمعصيتهم، والناس يومئذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 في المنازل والرأي مختلفون، والعرب بشرّ تلك المنازل، أهل الوبر وأهل المدر، تحتاز دونهم طيبات الدنيا ورفاغة عيشها «1» : ميتهم في النار وحيهم أعمى. مع ما لا يحصى من المرغوب عنه، والمزهود فيه. فلما أراد الله أن ينشر فيهم رحمته، ويسبغ عليهم نعمته، بعث إليهم رسولا منهم عزيزا عليه ما عنتوا، حريصا عليهم، بالمؤمنين رؤوفا رحيما، فلم يمنعهم ذلك من أن جرحوه في جسمه، ولقبوه في اسمه، ومعه كتاب من الله ناطق، وبرهان من الله صادق، لا يرحل إلا بأمره، ولا ينزل إلا بإذنه. واضطروه إلى بطن غار، فلما أمر بالعزم أسفر لأمر الله لونه، فأفلج الله حجته، وأعلى كلمته وأظهر دعوته، ففارق الدنيا نقيا تقيا، مباركا مرضيا. صلّى الله عليه وسلّم. ثم قام بعده أبو بكر رحمه الله، فسلك سنته، وأخذ بسبيله، وأرتدّت العرب، فلم يقبل منهم بعد رسول الله إلا الذي كان قابلا منهم، فانتضى السيوف من أغمادها، وأوقد النيران من شعلها، ثم ركب بأهل الحق أهل الباطل، فلم يبرح يفصل أوصالهم، ويسقي الأرض دماءهم، حتى أدخلهم في الذي خرجوا عنه، وقررهم بالذي نفروا منه. وقد كان أصاب من مال الله بكرا يرتوي عليه، وحبشية ترضع ولدا له، فرأى ذلك غصة عند موته في حلقه، فأدى ذلك إلى الخليفة من بعده، وبرىء إليهم منه، وفارق الدنيا نقيا تقيا، على منهاج صاحبه، رحمه الله. ثم قام من بعده عمر بن الخطاب رحمه الله، فمصّر الأمصار، وخلط الشدة باللين، فحسر عن ذراعيه، وشمر عن ساقيه، وأعدّ للأمور أقرانها، وللحرب آلتها، فلما أصابه فتى المغيرة بن شعبة، أمر ابن عباس أن يسأل الناس هل يثبتون قاتله، فلما قيل له: فتى المغيرة، استهل بحمد الله ألا يكون اصابه ذو حق في الفيء فيستحل دمه بما استحل من حقه. وقد كان أصاب من مال الله بضعا وثمانين ألفا، فكسر رباعه، وكره بها كفالة أهله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 وولده، فأدى ذلك إلى الخليفة من بعده، وفارق الدنيا تقيا نقيا، على منهاج صاحبيه، رحمه الله. ثم أنّا والله ما أجتمعنا بعدهما إلا على ظلّع «1» ، ثم إنك يا عمر ابن الدنيا، ولدتك ملوكها، والقمتك ثديها، وليتك وضعتها حيث وضعها الله. فالحمد لله الذي جلا بك حوبتها «2» ، وكشف بك كربتها. امض ولا تلتفت فإنه لا يغني من الحق شيئا. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم، وللمؤمنين والمؤمنات. قال: ولما أن قال: «ثم أنّا والله ما اجتمعنا بعدهما إلا على ظلّع» . سكت الناس كلهم إلا هشاما، فإنه قال له: كذبت. خطبة عمر بن عبد العزيز (ر) أبو الحسن قال: حدثنا المغيرة بن مطرّف، عن شعيب بن صفوان، عن ابيه قال: خطب عمر بن عبد العزيز بخناصرة خطبة لم يخطب بعدها غيرها حتى مات رحمه الله. فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيه ثم قال: أيها الناس، إنكم لم تخلقوا عبثا ولم تتركوا سدى، وإن لكم معادا يحكم الله بينكم فيه. فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كلّ شيء، وحرم الجنّة التي عرضها السموات والأرض. واعلموا أن الأمان غدا لمن خاف الله اليوم، وباع قليلا بكثير، وفائتا بباق. ألا ترون أنكم في اسلاب الهالكين، وسيخلفها من بعدكم الباقون كذلك حتى تردوا إلى خير الوارثين. ثم أنتم في كل يوم تشيّعون غاديا ورائحا إلى الله، قد قضى نحبه وبلغ أجله، ثم تغيبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير موسّد ولا ممهّد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وباشر التراب، وواجه الحساب، غنيا عما ترك، فقيرا إلى ما قدّم، وأيم الله إني لأقول لكم هذه المقالة، وما أعلم عند أحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 منكم من الذنوب أكثر مما عندي. فاستغفر الله لي ولكم. وما تبلّغنا حاجة يتسع لها ما عندنا إلا سددناها، وما أحد منكم إلا وددت أن يده مع يدي، ولحمتي الذين يلونني «1» ، حتى يستوي عيشنا وعيشكم. وايم الله إني لو أردت غير هذا من عيش أو غضارة، لكان اللسان مني ناطقا ذلولا، عالما بأسبابه. لكنه مضى من الله كتاب ناطق، وسنّة عادلة دلّ فيها على طاعته، ونهى فيها عن معصيته. ثم بكى رحمه الله فتلقى دموع عينيه بطرف ردائه، ثم نزل، فلم ير على تلك الأعواد حتى قبضه الله إلى رحمته. خطبة أخرى ذهب عني إسنادها «2» أما بعد: فإنك ناشىء فتنة وقائد ضلالة، وقد طال جثومها، واشتدت غمومها، وتلونت مصايد عدو الله فيها، وقد نصب الشرك لأهل الغفلة عما في عواقبها. فلن يهدّ عمودها، ولن ينزع أوتادها إلا الذي بيده ملك الأشياء، وهو الله الرحمن الرحيم. إلا وإن لله بقايا من عباده لم يتحيّروا في ظلمتها، ولم يشايعوا أهلها على شبهتها، مصابيح النور في أفواههم تزهر، وألسنتهم بحجج الكتاب تنطق. ركبوا نهج السبيل، وقاموا على العلم الأعظم، فهم خصماء الشيطان الرجيم، وبهم يصلح الله البلاد، ويدفع عن العباد. فطوبى لهم وللمستصبحين بنورهم. أسأل الله أن يجعلنا منهم. خطبة أبي حمزة الخارجي دخل أبو حمزة الخارجي مكة- وهو أحد نساك الإباضية وخطبائهم، واسمه يحيى بن المختار- فصعد منبرها متوكئا على قوس له عربية، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 أيها الناس، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان لا يتأخر ولا يتقدم إلا بإذن الله وأمره ووحيه، أنزل الله كتابا بيّن له فيه ما يأتي وما يتقي، ولم يك في شك من دينه، ولا في شبهة من أمره، ثم قبضه الله وقد علّم المسلمين معالم دينهم، وولى أبا بكر صلاتهم، فولاه المسلمون أمر دنياهم حين ولاه رسول الله أمر دينهم، فقاتل أهل الردّة، وعمل بالكتاب والسنة، فمضى لسبيله رحمة الله عليه. ثم ولي عمر بن الخطاب رحمه الله، فسار بسيرة صاحبه، وعمل بالكتاب والسنة، وجبى الفيء، وفرض الأعطية، وجمع الناس في شهر رمضان، وجلد في الخمر ثمانين، وغزا العدو في بلادهم، ومضى لسبيله رحمة الله عليه. ثم ولي عثمان بن عفان فسار ستّ سنين بسيرة صاحبيه، وكان دونهما ثم سار في الست الأواخر بما أحبط به الأوائل، ثم مضى لسبيله. ثم ولي عليّ بن أبي طالب، فلم يبلغ من الحق قصدا، ولم يرفع له منارا، ثم مضى لسبيله. ثم ولي معاوية بن أبي سفيان لعين رسول الله وابن لعينه، فاتخذ عباد الله خولا، ومال الله دولا، ودينه دغلا، ثم مضى لسبيله، فالعنوه لعنة الله. ثم ولي يزيد بن معاوية، ويزيد الخمور، ويزيد القرود، ويزيد الفهود، الفاسق في بطنه، المأبون في فرجه، فعليه لعنة الله وملائكته. ثم اقتصهم خليفة خليفة، فلما انتهى إلى عمر بن عبد العزيز أعرض عنه، ولم يذكره. ثم قال: ثم ولي يزيد بن عبد الملك الفاسق في دينه، المأبون في فرجه، الذي لم يؤنس منه رشد، وقد قال الله تعالى في أموال اليتامى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ، فأمر أمة محمد عليه السلام أعظم. يأكل الحرام ويشرب الخمر، ويلبس الحلة قوّمت بألف دينار، قد ضربت فيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 الأبشار، وهتكت فيها الأستار، وأخذت من غير حلها. حبابة عن يمينه، وسلّامة عن يساره تغنيّانه، حتى إذا أخذ الشراب منه كل مأخذ قدّ ثوبه، ثم التفت إلى أحداهما فقال: ألا أطير ألا أطير! نعم فطر إلى لعنة الله، وحريق ناره، وأليم عذابه. وأما بنو أمية ففرقة الضلالة، بطشهم بطش جبرية، يأخذون بالظّنة، ويقضون بالهوى، ويقتلون على الغضب، ويحكمون بالشفاعة، ويأخذون الفريضة من غير موضعها، ويضعونها في غير أهلها، وقد بيّن الله أهلها فجعلهم ثمانية أصناف، فقال: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ . فأقبل صنف تاسع ليس منها فأخذها كلها. تلكم الفرقة الحاكمة بغير ما أنزل الله. وأما هذه الشيع فشيع ظاهرت بكتاب الله، واعلنوا الفرية على الله، لم يفارقوا الناس ببصر نافذ في الدين، ولا بعلم نافذ في القرآن، ينقمون المعصية على أهلها، ويعملون إذا ولّوا بها. يصرون على الفتنة، ولا يعرفون المخرج منها، جفاة عن القرآن، أتباع كهان، يؤملون الدول في بعث الموتى، ويعتقدون الرجعة الى الدنيا، قلدوا دينهم رجلا لا ينظر لهم، قاتلهم الله أنى يؤفكون. ثم أقبل على أهل الحجاز فقال: يا أهل الحجاز، أتعيرونني بأصحابي وتزعمون انهم شباب؟! وهل كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا شبابا. أما والله إني لعالم بتتايعكم «1» فيما يضركم في معادكم، ولولا اشتغالي بغيركم عنكم ما تركت الأخذ فوق ايديكم. شباب والله مكتهلون في شبابهم، غبية عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، أنضاء عبادة وأطلاح «2» سهر، ينظر الله إليهم في جوف الليل منحنية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مرّ أحدهم بآية من ذكر الجنة بكى شوقا إليها، وإذا مر بآية من ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم بين أذنه. موصول كلالهم بكلالهم: كلال الليل بكلال النهار. قد أكلت الأرض ركبهم وأيديهم، وأنوفهم وجباههم، واستقلوا ذلك في جنب الله، حتى إذا رأوا السهام قد فوّقت، والرماح قد أشرعت، والسيوف قد أنتضيت، ورعدت الكتيبة بصواعق الموت وبرقت استخفوا بوعيد الكتيبة لوعد الله، ومضى الشباب منهم قدما حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه، وتخضبت بالدماء محاسن وجهه فأسرعت إليه سباع الأرض، وانحطت عليه طير السماء، فكم من عين في منقار طائر طالما بكى صاحبها في جوف الليل من خوف الله، وكم من كف زالت عن معصمها طالما اعتمد عليها صاحبها في جوف الليل بالسجود لله. ثم قال: آه آه (ثلاثا) . ثم بكى ونزل. خطبة قطري بن الفجاءة صعد قطريّ بن الفجاءة منبر الأزارقة- وهو أحد بني مازن بن عمرو بن تميم- فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيه ثم قال: أما بعد فإني أحذّركم الدنيا فإنها حلوة خضرة، حفّت بالشهوات، وراقت بالقليل، وتحببت بالعاجلة وحليت بالآمال، وتزينت بالغرور، لا تدوم حبرتها ولا تؤمن فجعتها، غرّارة ضرارة، خوّانة غدّارة، حائلة زائلة، نافذة بائدة، أكّالة غوّالة، بدّالة نقالة، لا تعدو إذا هي تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها، والرضا عنها، أن تكون كما قال الله: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً. مع إن امرأ لم يكن منها في حبرة إلا اعقبته بعدها عبرة، ولم يلق من سرائها بطنا إلا منحته من ضرّائها ظهرا، ولم تطلّه غبية رخاء إلا هطلت عليه مزنة بلاء، وحرى إذا أضحت له منتصرة أن تمسي له خاذلة متنكرة وإن جانب منها أعذوذب واحلولى، أمرّ عليه منها جانب وأوبى «1» ، وإن آتت أمرأ من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 غضارتها ورفاهتها نعما، أرهقته من نوائبها نقما، ولم يمس أمرؤ منها في جناح أمن إلا أصبح منها على قوادم خوف، غرّارة غرور ما فيها، فانية فان من عليها، لا خير في شيء من زادها إلا التقوى. من أقل منها استكثر مما يؤمنه، ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه ويطيل حزنه، ويبكي عينه، كم واثق بها قد فجعته، وذي طمأنينة إليها قد صرعته، وذي اختيال فيها قد خدعته. وكم من ذي أبهّة فيها قد صيرته حقيرا. وذي نخوة قد ردته ذليلا، وكم من ذي تاج قد كبّته لليدين والفم. سلطانها دول، وعيشها رنق، وعذابها أجاج، وحلوها صبر، وغذاؤها سمام، وأسبابها رمام، وقطافها سلع «1» حيّها بعرض موت، وصحيحها بعرض سقم، ومنيعها بعرض اهتضام. مليكها مسلوب، وعزيزها مغلوب، وسليمها منكوب، وجامعها محروب «2» . مع أن وراء ذلك سكرات الموت، وهول المطّلع والوقوف بين يدي الحكم العدل، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. ألستم في مساكن من كان أطول منكم أعمارا، وأوضح آثارا، وأعدّ عديدا أكثف جنودا، واعند عنودا. تعبدوا الدنيا أي تعبد، وآثروها أيّ إيثار، وظعنوا عنها بالكره والصّغار فهل بلغكم أن الدنيا سمحت لهم نفسا بفدية، أو أغنت عنهم فيما قد أهلكتهم بخطب، بل قد أرهقتهم بالفوادح، وضعضعتهم بالنوائب، وعقرتهم بالمصائب. وقد رأيتم تنكرها لمن دان لها وآثرها، واخلد إليها، حين ظعنوا عنها لفراق الأبد إلى آخر المسند. هل زودتهم إلا الشقاء، وأحلتهم إلا الضّنك، أو نوّرت لهم إلا الظلمة، أو أعقبتهم إلا الندامة. فهذه تؤثرون أم عليها تحرصون، أم إليها تطمئنون. يقول الله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ . فبئست الدار لمن أقام فيها. فاعملوا وأنتم تعلمون إنكم تاركوها لا بد، فإنما هي كما وصفها الله باللعب واللهو، وقد قال الله: تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ . وذكر الذين قالوا من أشدّ منا قوة. ثم قال: حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا، وأنزلوا فيها فلا يدعون ضيفانا، وجعل لهم من الضريح أجنان، ومن التراب أكفان، ومن الرفات جيران، فهم حيرة لا يجيبون داعيا، ولا يمنعون ضيما، إن أخصبوا لم يفرحوا، وإن أقحطوا لم يقطنوا، جميع وهم آحاد، وجيرة وهم أبعاد، متناءون لا يزارون ولا يزورون، حلماء قد ذهبت أضغانهم وجهلاء قد ماتت أحقادهم، لا يخشى فغعهم، ولا يرجى دفعهم، وكما قال جل وعز: فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ . استبدلوا بظهر الأرض بطنا، وبالسّعة ضيقا، وبالاهل غربة، وبالنور ظلمة، فجاءوها كما فارقوها: حفاة عراة فرادى: غير أنهم ظعنوا بأعمالهم إلى الحياة الدائمة، وإلى الخلود الأبد. يقول الله: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ . فاحذروا ما حذركم الله، وانتفعوا بمواعظه، واعتصموا بحبله. عصمنا الله وإياكم بطاعته، ورزقنا وإياكم أداء حقه. خطبة محمد بن سليمان يوم الجمعة وكان لا يغيرها الحمد لله. أحمده واستعينه واستغفره، وأومن به وأتوكل عليه، وأبرأ من الحول والقوة إليه. واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. من يعتصم بالله ورسوله فقد اعتصم بالعروة الوثقى، وسعد في الآخرة والأولى. ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالا بعيدا، وخسر خسرانا مبينا. أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يطيعه ويطيع رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ويتّبع رضوانه، ويتجنب سخطه، فإنما نحن به وله. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثّكم على طاعة الله، وأرضى لكم ما عند الله، فإن تقوى الله أفضل ما تحاثّ الناس عليه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 وتداعوا إليه، وتواصوا به. فاتقوا الله ما استطعتم، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. خطبة عبيد الله بن زياد صعد المنبر بعد موت يزيد بن معاوية، وحيث بلغه أن سلمة بن ذؤيب الرياحي قد جمع الجموع يريد خلعه، فقال: يا أهل البصرة انسبوني، فوالله ما مهاجر أبي إلا إليكم، ولا مولدي إلا فيكم، وما أنا إلا رجل منكم. والله لقد ولاكم أبي وما مقاتلتكم إلا أربعون ألفا، فبلغ بها ثمانين ألفا، وما ذريتكم إلا ثمانون ألفا، وقد بلغ بها عشرين ومائة ألف. وأنتم أوسع الناس بلادا، وأكثره جوادا، وأبعده مقادا، وأغنى الناس عن الناس. أنظروا رجلا تولونه أمركم، يكف سفهاءكم، ويجبي لكم فيئكم، ويقسمه فيما بينكم، فإنما أنا رجل منكم. فما أبوا غيره قال: إني أخاف أن يكون الذي يدعوكم إلى تأميري حداثة عهدكم بأمري. خطبة معاوية الهيثم بن عدي، عن أبي بكر بن عيّاش، عن أشياخه قال: لما حضرت معاوية الوفاة ويزيد غائب، دعا معاوية مسلم بن عقبة المري، والضحاك بن قيس الفهري، فقال: أبلغا عني يزيد وقولا له: انظر إلى أهل الحجاز فهم أصلك وعترتك، فمن أتاك منهم فأكرمه، ومن قعد منهم عنك فتعهّده. وانظر إلى أهل العراق، فإن سألوك عزل عامل في كل يوم فاعزله عنهم، فإن عزل عامل في كل يوم أهون عليك من سلّ مائة ألف سيف ثم لا تدري علا م أنت عليه منهم. ثم انظر إلى أهل الشام فاجعلهم الشّعار دون الدثار «1» ، فإن رابك من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 عدوك ريب فارمه بهم، فإن اظفرك الله بهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، ولا يقيموا في غير ديارهم فيتأدبوا بغير أدبهم. لست أخاف عليك غير عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، والحسين بن علي، فأما عبد الله بن عمر فرجل قد وقذه «1» الورع. وأما الحسين فإني أرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه، وخذل أخاه. وأما ابن الزبير فإنه خبّ ضبّ «2» . وفي غير هذه الرواية: «فإن ظفرت بابن الزبير فقطعه إربا إربا» . فمات معاوية فقام الضحاك بن قيس خطيبا، فقال: «إن أمير المؤمنين معاوية كان أنف العرب وهذه أكفانه ونحن مدرجوه فيها، ومخلون بينه وبين ربه، فمن أراد حضوره بعد الظهر فليحضره» . فصلّى عليه الضحاك بن قيس، ثم قدم يزيد ولده، فلم يقدم أحد على تعزيته حتى دخل عليه عبد الله بن همّام السلولي فأنشأ يقول: اصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقة ... واشكر حباء الذي بالملك حاباكا لا رزء أصبح في الأقوام قد علموا ... كما رزئت ولا عقبى كعقباكا أصبحت راعي أهل الدين كلهم ... فأنت ترعاهم والله يرعاكا وفي معاوية الباقي لنا خلف ... إذا نعيت ولا نسمع بمنعاكا فانفتح الخطباء للكلام بعد ذلك. خطبة قتيبة بن مسلم الباهلي قام بخرسان خطيبا حين خلع فقال: أتدرون من تبايعون؟ إنما تبايعون يزيد بن ثروان- يعني هبنّقة القيسي كأني بأمير من جاء وحكم، وقد أتاكم يحكم في أموالكم وفروجكم وأبشاركم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 ثم قال: الاعراب وما الأعراب، فلعنة الله على الأعراب. جمعتكم، كما يجتمع قزع الخريف «1» ، من منابت الشّيخ والقيصوم، ومنابت القلقل «2» ، وجزيرة أيركاوان تركبون البقر، وتأكلون القضب «3» ، فحملتكم على الخيل، وألبستكم السلاح، حتى منع الله بكم البلاد، وأفاء بكم الفيء. قالوا: مرنا بأمرك. قال: غرّوا غيري. وخطب مرة أخرى فقال: يا أهل العراق، ألست أعلم الناس بكم: أما هذا الحيّ من أهل العالية فنعم الصدقة. وأما هذا الحي من بكر بن وائل فعلجة بظراء لا تمنع رجليها. وأما هذا الحي من عبد القيس فما ضرب العير بذنبه. وأما هذا الحي من الأزد، فعلوج خلق الله وأنباطه. وأيم الله لو ملكت أمر الناس لنقشت أيديهم. وأما هذا الحي من تميم فإنهم كانوا يسمون الغدر في الجاهلية: «كيسان» . قال النمر بن تولب يهجو تميما: إذا ما دعوا كيسان كان كهولهم ... إلى الغدر أدنى من شبابهم المرد وخطب مرة أخرى فقال: يا أهل خراسان، قد جربتم الولاة قبلي: أتاكم امية فكان كاسمه أمية الرأي وأمية الدين، فكتب إلى خليفته: إن خراج خراسان وسجستان لو كان في مطبخه لم يكفه. ثم أتاكم بعده أبو سعيد- يعني المهلب بن أبي صفرة- فدوخ بكم ثلاثا، لا تدرون أفي طاعة أنتم أم في معصية. ثم لم يجب فيئا ولم ينك «4» عدوا. ثم أتاكم بنوه بعده مثل أطباء الكلبة، منهم ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 الدحمة حصان يضرب في عانة «1» ، ولقد كان أبوه يخافه على أمهات أولاده، ثم قد أصبحتم قد فتح الله عليكم البلاد، وأمن لكم السبل، حتى إن الظعينة لتخرج من مرو إلى سمرقند في غير جواز. خطبة الأحنف بن قيس قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيه: يا معشر الأزد وربيعة، انتم إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الصهر، وأشقاؤنا في النسب، وجيراننا في الدار، ويدنا على العدو. والله لأزد البصرة أحب إلينا من تميم الكوفة، ولأزد الكوفة أحب إلينا من تميم الشام. فإن استشرى شنآنكم «2» وأبى حسك صدوركم «3» ، ففي أموالنا وسعة أحلامنا لنا ولكم سعة. خطبة جامع المحاربي ومن محارب جامع، وكان شيخا صالحا، خطيبا لسنا، وهو الذي قال للحجاج حين بنى مدينة واسط: «بنيتها في غير بلدك، وأورثتها غير ولدك. وكذلك من قطعه العجب عن الإستشارة، والاستبداد عن الإستخارة» . وشكا الحجاج سوء طاعة أهل العراق وتنقّم مذهبهم، وتسخط طريقتهم، فقال جامع: أما إنهم لو أحبوك لأطاعوك، على أنهم ما شنفوك «4» لنسبك، ولا لبلدك، ولا لذات نفسك، فدع ما يبعدهم منك، إلى ما يقرّبهم إليك، والتمس العافية ممن دونك تعطها ممن فوقك، وليكن إيقاعك بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 فقال الحجاج: إني والله ما أرى أن أرد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف. فقال: أيها الأمير، إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار. فقال الحجاج: الخيار يومئذ لله. فقال: أجل، ولكن لا تدري لمن يجعله الله. فغضب الحجاج فقال: يا هناه، إنك من محارب. فقال جامع: وللحرب سمّينا وكنا محاربا ... إذا ما القنا أمسى من الطّعن أحمرا والبيت للخضري. فقال الحجاج: والله لقد هممت أن أخلع لسانك فاضرب به وجهك. قال جامع: إن صدقناك أغضبناك، وإن غششناك اغضبنا الله. فغضب الأمير أهون علينا من غضب الله. قال: أجل. وسكن وشغل الحجاج ببعض الأمر، وانسل جامع فمرّ بين صفوف خيل الشام، حتى جاوزهم إلى خيل أهل العراق. وكان الحجاج لا يخلطهم، فأبصر كبكبة فيها جماعة كثيرة من بكر العراق، وقيس لعراق، وتميم العراق، وأزد العراق فلما رأوه إشرأبوا إليه، وبلغهم خروجه فقالوا له: ما عندك؟ دافع الله لنا عن نفسك. فقال: ويحكم غموه بالخلع كما يغمكم بالعداوة ودعوا التعادي ما عاداكم، فإذا ظفرتم به تراجعتم وتعافيتم. أيها التميمي، هو أعدى لك من الأزدي، وأيها القيسي، هو أعدى لك من التغلبي. وهل ظفر بمن ناوأه منكم إلا بمن بقي معه منكم. وهرب جامع من فوره ذلك إلى الشام فاستجار بزفر بن الحارث. وخطب الحجاج فقال: اللهم أرني الهدى هدى فأتبعه، وأرني الغيّ غيا فأجنبه، ولا تكلني إلى نفسي، فأضل ضلالا بعيدا. والله ما أحب أن ما مضى من الدنيا لي بعمامتي هذه، ولما بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 وخطبة له أيضا الهيثم قال: أنبأني ابن عيّاش عن أبيه قال: خرج الحجاج يوما من القصر بالكوفة، فسمع تكبيرا في السوق، فراعه ذلك، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على نبيه ثم قال: يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوىء الأخلاق، وبني اللكيعة، وعبيد العصا، وأولاد الأماء، والفقع بالقرقر «1» . إني سمعت تكبيرا لا يراد به الله، وإنما يراد به الشيطان. وإنما مثلي ومثلكم ما قال عمرو بن براقة الهمداني: وكنت ذا قوم غزوني غزوتهم ... فهل أنا في ذا يال همدان ظالم متى تجمع القلب الذكي وصارما ... وأنفا حميا تجتنبك المظالم أما والله لا تقرع عصا عصا إلا جعلتها كأمس الدابر. خطبة الحجاج بعد دير الجماجم خطب في أهل العراق بعد دير الجماجم فقال: يا أهل العراق، إن الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم، والعصب والمسامع، والأطراف والأعضاء، والشّغاف، ثم أفضى إلى الأمخاخ والأصماخ، ثم ارتفع فعشّشّ، ثم باض وفرّخ، فحشاكم نفاقا وشقافا، واشعركم خلافا، واتخذتموه دليلا تتبعونه، وقائدا تطيعونه، ومؤامرا تستشيرونه، فكيف تنفعكم تجربة، أو تعظكم وقعة، أو يحجزكم إسلام، أو ينفعكم بيان. ألستم أصحابي بالأهواز، حيث رمتم المكر، وسعيتم بالغدر، واستجمعتم للكفر، وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته، وأنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 أرميكم بطرفي: وأنتم تسللون لواذا، وتنهزمون سراعا. ثم يوم الزاوية، كان فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم، وبراءة الله منكم، ونكوص وليكم عنكم، إذ ولّيتم كالأبل الشوارد إلى أوطانها، النوازع إلى اعطانها، لا يسأل المرء عن أخيه ولا يلوي الشيخ على بنيه، حين عضكم السلاح، ووقصتكم الرماح. ثم يوم دير الجماجم، وما يوم دير الجماجم؟! به كانت المعارك والملاحم، بضرب يزيل الهام عن مقيلة، ويذهل الخليل عن خليله. يا أهل العراق، الكفرات بعد الفجرات، والغدرات بعد الخترات، والنزوة بعد النزوات! إن بعثتكم إلى ثغوركم غللتم وخنتم وإن امنتم أرجفتم وإن خفتم نافقتم. لا تذكرون حسنة، ولا تشكرون نعمة. هل استخفكم ناكث، أو استغواكم غاو، أو استفزّكم عاص، أو استنصركم ظالم، واستعضدكم خالع إلا تبعتموه وآيتموه، ونصرتموه ورجبتموه. يا أهل العراق، هل شغب شاغب، أو نعب ناعب، أو زفر زافر إلا كنتم أتباعه وأنصاره. يا أهل العراق، ألم تنهكم المواعظ؟ ألم تزجركم الوقائع؟! ثم التفت إلى أهل الشام فقال: يا أهل الشام إنما أنا لكم كالظليم الرامح «1» عن فراخه، ينفي عنها المدر، ويباعد عنها الحجر، ويكنها من المطر، ويحميها من الضباب، ويحرسها من الذئاب. يا أهل الشام، أنتم الجنّة والرداء، العّدة والحذاء. وقال رجل لحذيفة: أخشى أن أكون منافقا. فقال: لو كنت منافقا لم تخش ذلك. وقال آخر: اعلم أن المصيبة واحدة إن صبرت، وإن لم تصبر فهما مصيبتان. ومصيبتك بأجرك، اعظم من مصيبتك بميتك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 وقال صالح بن عبد القدّوس: إن يكن ما به أصبت جليلا ... فذهاب العزاء فيه أجلّ وقال آخر: تعز عن الشيء إذا منعته، لقلة ما يصحبك إذا أعطيته، وما خفّف الحساب وقلله، خير مما كثره وثقله. قال: وحدثنا أبو بكر الهذلي- واسمه سلمي- قال: إذا جمع الطعام أربعا فقد كمل وطاب: إذا كان حلالا، وكثرت الأيدي عليه، وسمي الله تعالى في أوله، وحمد في آخره. خطبة كلثوم بن عمرو أما بعد فإنه لا يخبر عن فضل المرء أصدق من تركه تزكية نفسه، ولا يعبر عنه في تزكية أصحابه أصدق من اعتماده إياهم برغبته، وائتمانه إياهم على حرمته. خطبة يزيد بن الوليد قالوا: ولما قتل يزيد بن الوليد ابن عمه الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، قام خطيبا، بعد أن حمد الله واثنى عليه، ثم قال: والله يأيها الناس، ما خرجت أشرا ولا بطرا، ولا حرصا، على الدنيا، ولا رغبة في الملك، وما بي إطراء نفسي، وإني لظلوم لها، ولقد خسرت إن لم يرحمني ربي، ويغفر لي ذنبي، ولكني خرجت غضبا لله ولدينه، وداعيا إلى الله وسنّة نبيه، لما هدمت معالم الهدى، وأطفىء نور التقى، وظهر الجبار العنيد، وكثرت حوله الحزق والجنود، المستحلّ لكل حرمة، والراكب لكل بدعة. مع أنه والله ما كان يؤمن بيوم الحساب، ولا يصدق بالثواب والعقاب. وإنه لابن عمي في النسب، وكفيي في الحسب. فلما رأيت ذلك استخرت الله في أمره، وسألته أن لا يكلني إلى نفسي، ودعوت إلى ذلك من أجابني من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 أهل ولايتي، حتى أراح الله منه العباد، وطهر منه البلاد، بحول الله وقوته، لا بحولي وقوتي. أيها الناس، إن لكم علي ألا أضع حجرا على حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا أكري «1» نهرا، ولا أكنز مالا، ولا أعطيته زوجا ولا ولدا، ولا أنقل مالا من بلد إلى بلد حتى أسدّ فقر ذلك البلد وخصاصة أهله، بما يغنيهم، فإن فضل فضل نقلته إلى البلد الذي يليه ممن هو أحوج إليه منه. ولا أجمّركم «2» في ثغوركم فأفتنكم وأفتن أهاليكم، ولا أغلق بابي دونكم فيأكل قويكم ضعيفكم، ولا احمل على أهل جزيتكم ما أجليهم به عن بلادهم واقطع نسلهم. ولكم عندي أعطياتكم في كل سنة، وأرزاقكم في كل شهر، حتى تستدّر المعيشة بين المسلمين، فيكون أقصاهم كأدناهم. فإن أنا وفيت فعليكم السمع والطاعة، وحسن الموازرة والمكانفة «3» ، وإن أنا لم أوف لكم فلكم أن تخلعوني إلا أن تستتيبوني فإن أنا تبت قبلتم مني، وإن عرفتم أحدا يقوم مقامي ممن يعرف بالصلاح، يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيتكم، فأردتم أن تبايعوه فأنا أول من يايعه. ودخل في طاعته. أيها الناس: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم. فلما بويع مروان بن محمد نبشه وصلبه. وكانوا يقرؤن في الكتب: «يا مبذر الكنوز، ويا سجادا بالأسحار، كانت ولايتك لهم رحمة، وعليهم حجة، أخذوك فصلبوك» . خطبة يوسف بن عمر قام خطيبا يوسف بن عمر فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 اتقوا الله عباد الله، فكم من مؤمّل أملا لا يبلغه، وجامع مالا لا يأكله، ومانع ما سوف يتركه، ولعله من باطل جمعه، ومن حق منعه، أصابه حراما، وأورثه، عدوا، فاحتمل أصره «1» ، وباء بوزره، وورد على به آسفا لاهفا، قد خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. كلام هلال بن وكيع، وزيد بن جبلة والأحنف بن قيس عند عمر بشار بن عبد الحميد، عن أبي ريحانة قال: وفد هلال بن وكيع، والأحنف بن قيس، وزيد بن جبلة على عمر رحمه الله، فقال هلال بن وكيع: يا أمير المؤمنين، أنّا لباب من خلفنا من قومنا، وغرة من وراءنا من أهل مصرنا، وإنك إن تصرفنا بالزيادة في أعطياتنا، والفرائض لعيالاتنا، يزد ذلك الشريف منا تأميلا، وتكن لذوي الأحساب أبا وصولا. فإنّا أن نكن مع ما نمتّ به من فضائلك، وندلي به من أسبابك، كالجدّ «2» الذي لا يحلّ ولا يرحل، نرجع بآنف مصلومة وجدود عائرة. فمحنا «3» وأهالينا بسجل من سجالك المترعة. وقام زيد بن جبلة فقال: يا أمير المؤمنين، سود الشريف وأكرم الحسيب، وأزرع عندنا من أياديك ما نسد به الخصاصة، ونطرد به الفاقة فإنّا بقف «4» من الأرض، يابس الأكناف مقشعّر الذروة، لا شجر فيه ولا زرع. وإنّا من العرب اليوم إذ أتيناك بمرأى ومسمع. وقام الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين إن مفاتح الخير بيد الله، والحرص قائد الحرمان. فاتق الله فيما لا يغنى عنك يوم القيامة قيلا ولا قالا، واجعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 بينك وبين رعيتك من العدل والأنصاف، سببا يكفيك وفادة الوفود، واستماحة الممتاح، فإن كل امرىء إنما يجمع في وعائه، إلا الأقل ممن عسى أن تقتحمه الأعين، وتخونهم الألسن، فلا يوفد إليك يا أمير المؤمنين. خطبة زياد وخطب زياد فقال. استوصوا بثلاثة خيرا: الشريف، والعالم، والشيخ. فوالله لا يأتيني شريف بوضيع استخفّ به إلا انتقمت له منه، ولا يأتيني شيخ بشاب استخف به إلا أوجعته ضربا، ولا يأتيني عالم بجاهل استخفّ به إلا نكلت به. علي بن سليم قال: قال حاتم طي لعدي ابنه: أي بني، إن رأيت إن الشر يتركك إن تركته فاتركه. قال: وقال عدي بن حاتم لابن له: قم بالباب فامنع من لا تعرف، وأذن لمن تعرف. فقال: لا والله، لا يكونن أول شيء وليته من أمر الدنيا منع قوم من طعام. وقال مديني لعبد الملك بن مروان، ودخل عليه بنوه: أراك الله في بنيك ما أرى أباك فيك، وأرى بنيك فيك ما أراك في أبيك. وقال بعض الأعراب وهو يرقص بعض أولاد الخلافة ويقول: إنّا لنرجوك لتيك تيكا ... لها نرجيك ونجتبيكا هي التي نأمل أن تأتيكا ... وأن يرى ذاك أبوك فيكا كما رأى جدك في أبيكا وقال ابن شبرمة: ذهب العلم إلا غبرات «1» في أوعية سوء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 الهيثم بن عدي، عن ابن عياش، عن أبيه. قال: خرج الحجاج إلى القاوسان فإذا هو بإعرابي في زرع فقال له: ممن أنت؟ فقال: من أهل عمان. قال: فمن أي القبائل؟ قال: من الأزد. قال: كيف علمك بالزرع؟ قال: إني لأعلم من ذلك علما. قال: فأي الزرع خير؟ قال: ما غلظ قصبه، واعتمّ نبته، وعظمت حبته، وطالت سنبلته. قال: فأي العنب خير؟ قال: ما غلظ عموده، واخضر عوده، وعظم عنقوده. قال: فما خير التمر؟ قال: ما غلظ لحاؤه، ودق نواه، ورق سحاه. من اللغز في الجواب قالوا: كان الحطيئة يرعى غنما له، وفي يده عصا. فمر به رجل فقال: يا راعي الغنم ما عندك؟ قال: عجراء «1» من سلم يعني عصاه. قال: إني ضيف. فقال الحطيئة: للضّيفان أعددتها. قال ابن سليم: قال قيس بن سعد: اللهم أرزقني حمدا ومجدا، فإنه لا حمد إلا بفعال، ولا مجد إلا بمال. وقال خالد بن الوليد لأهل الحيرة: أخرجوا الي رجلا من عقلائكم أسأله عن بعض الأمور. فأخرجوا إليه عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيّان بن بقيلة الغساني، وهو الذي بنى القصر، وهو يومئذ ابن خمسين وثلاثمائة سنة فقال له خالد: من أين أقصى أثرك؟ قال من صلب أبي. قال: فمن أين خرجت؟ قال: من بطن أمي. قال: فعلام أنت؟ قال على الأرض. قال: ففيم أنت؟ قال: في ثيابي. قال: ما سنّك؟ قال: عظم. قال: أتعقل، لا عقلت؟ قال: أي والله وأقيّد. قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل واحد. قال: كم أتى عليك من الدهر؟ فقال: لو أتى علي شيء لقتلني. قال: ما تزيدني مسألتك إلا غمّى «2» ؟ قال: ما أجبتك إلا عن مسألتك. قال: اعرب انتم أم نبط؟ قال: عرب استنبطنا، ونبط استعربنا. قال: فحرب انتم أم سلم؟ قال: سلم. قال: فما بال هذه الحصون؟ قال: بنيناها للسفيه حتى يجيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 الحليم فينهاه. قال: كم أتت عليك سنة؟ قال: خمسون وثلاثمائة. قال: فما أدركت؟ قال: أدركت سفن البحر ترفأ إلينا في هذا الجرف، ورأيت المرأة من أهل الحيرة تأخذ مكتلها على رأسها ولا تتزود إلا رغيفا وغحدا، فلا تزال في قرى مخصبة متواترة حتى ترد الشام. ثم قد اصبحت خرابا يبابا، وذلك دأب الله في العباد والبلاد. قال: وأتى أزهر بن عبد الحارث رجل من بني يربوع، فقال: ألا أدخل؟ قال: وراءك أوسع لك. قال: قد أحرقت الشمس رجلي. قال: بل عليهما تبردا. فقال: يا آل يربوع! قال: ذليلا دعوت. يا بني دريص، أطعمتكم عاما أو جلّة، فأكلتم جلتكم، وأغرتم على جلة الضيفان. وقال الحجاج لرجل من الخوارج: أجمعت القرآن؟ قال: أمتفرقا كان فأجمعه. قال: أتقرؤه ظاهرا؟ قال: بل أقرؤه وأنا انظر إليه. قال: أفتحفظه؟ قال: أخشيت فراره فأحفظه. قال: ما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: لعنه الله ولعنك معه. قال: إنك مقتول فكيف تلقى الله؟. قال: ألقى الله بعملي وتلقاه أنت بدمي. وقال لقمان لابنه وهو يعظه: يا بني، أزحم العلماء بركبتيك، ولا تجادلهم فيمقتوك، وخذ من الدنيا بلاغك، وأبق فضول كسبك لآخرتك، ولا ترفض الدنيا كلّ الرفض فتكون عيالا، وعلى أعناق الرجال كلّا، وصم صوما يكسر شهوتك، ولا تصم صوما يضر بصلاتك، فإن الصلاة أفضل من الصوم، وكن كالاب لليتيم، وكالزوج للأرملة، ولا تحاب القريب، ولا تجالس السفيه، ولا تخالط ذا الوجهين البتة. وسمع الأحنف رجلا يطري يزيد عند معاوية، فلما خرج من عنده اسحنفر «1» في ذمهما، فقال له الأحنف: مه، فإن ذا الوجهين لا يكون عند الله وجيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 وقال سعيد بن أبي العروبة: لأن يكون لي نصف وجه ونصف لسان، على ما فيهما من قبح المنظر وعجز المخبر، أحب إلي من أن أكون ذا وجهين وذا لسانين، وذا قولين مختلفين. وقال أيوب السخيتاني: النمام ذو الوجهين أحسن الاستماع، وخالف في الإبلاغ. حفص بن صالح الأزدي عن عامر الشعبي، قال: كتب عمر إلى معاوية: «أما بعد فإني كتبت إليك بكتاب في القضاء لم آلك ونفسي فيه خيرا. الزم خمس خصال يسلم لك دينك، وتأخذ فيه بأفضل حظك: إذا تقدم إليك خصمان فعليك بالبينة العادلة، أو اليمين القاطعة. وأذن الضعيف حتى يشتّد قلبه وينبسط لسانه. وتعهد الغريب، فإنك إن لم تتعهده ترك حقه، ورجع إلى أهله، وإنما ضيع حقه من لم يرفق به. وآس بينهم في لحظك وطرفك، وعليك بالصلح بين الناس ما لم يستبن لك فصل القضاء» . أبو يوسف، عن المرزمي، عمن حدثه عن شريح، إن عمر بن الخطاب رحمه الله كتب إليه: «لا تشار ولا تمار ولا تضار، ولا تبع ولا تبتع في مجلس القضاء ولا تقض بين آثنين وأنت غضبان» . وقال عمر بن عبد العزيز: إذا كان في القاضي خمس خصال فقد كمل: علم ما كان قبله، ونزاهة عن الطمع، وحلم عن الخصم، واقتداء بالأئمة، ومشاورة أهل الرأي. محمد بن حرب الهلالي قال: لما ولي يزيد بن معاوية سلم بن زياد خراسان، قال له: «إن أباك كفى أخاه عظيما، وقد استكفيتك صغيرا. فلا تتكلن على عذر مني لك، فقد اتكلت على كفاية منك. وإياك مني قبل أن أقول إياي منك، فإن الظن إذا أخلف مني فيك أخلف منك في. وأنت في أدنى حظك فاطلب أقصاه. وقد اتعبك أبوك، فلا تريحن نفسك. وكن لنفسك تكن لك، واذكر في يومك أحاديث غدك، تسعد إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 مما قالوا في التشديق وفي ذكر الأشداق . وقال المازني: من كان يعلم أن بشرا ملصق ... فالله يجزيه وربك أعلم «1» ينبيك ناظره وقلة لحمه ... وتشادق فيه ولون اسحم إن الصريح المحض فيه دلالة ... والعرق منكشف لمن يتوسم أما لسانك واحتباؤك قاعدا ... فزرارة العدسي عندك أعجم «2» إني لأرجو أن يكون مقالهم ... زورا وشانئك الحسود المرغم وفي مثل ذلك يقول مورق العبد: قد علم الغربيّ والمشرّق ... إنك في القوم صميم ملصق عوداك نبع وهشيم بروق «3» ... وأنت جدب وربيع مغدق وأنت ليل ونهار مشرق ... لولا عجوز قحمة ودردق «4» وصاحب جم الحديث مونق ... كيف الفوات والطلوب مورق شيخ مغيظ وسنان يبرق ... وحنجر رحب وصوت مصلق وشدق ضرغام وناب يحرق ... وشاعر باقي الوسوم مفلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 باب في صفة الرائد الغيث، وفي نعته للأرض [بالكلام الغريب] قال أبو المجيب: وصف رائد أرضا جدبة فقال: «اغبّرت جادتها. ودرّع مرتعها، وقضم شجرها، ورقت كرشها، وخور عظمها، والتقى سرحاها، وتميّز أهلها، ودخل قلوبهم الوهل، وأموالهم الهزل» . الجادة والحرجة والمجبة معناه كله: وسط الطريق ومعظمه ومنهجه. والتقى سرحاها، يقول إذا أكل كل سارح ما يليه التقيا عند الماء، وإذا لم يكن للجمال مرعى إلا الشجر وحده رقت أكراشه. وقوله تميز أهلها، تفرقوا في طلب الكلأ. ومرتع مدرع، إذا كان بعيدا من الماء ومرتع قاصر، إذا كان قريبا من الماء. ويقولون ماء مطلب وماء مطنب إذا ألجأهم إلى طلبه من بعده. ووصف أعرابي أرضا أحمدها فقال: «خلع شيحها، وأبقل رمثها، وخضب عرفجها، واتسق نبتها، واخضرّت قريانها «1» ، وأخوصت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 بطنانها «1» ، واستحلست آكامها «2» ، واعتم نبت جراثيمها «3» ، وأجرت بقلتها ودرّقتها وخبازتها «4» ، واحورّت خواصر إبلها، وشكرت حلوبتها وسمنت قتوبتها، وعمد ثراها، وعقدت تناهيها، وأماهت ثمادها «5» ووثق الناس بصائرتها» . قال: يقال: خلع الشيح، إذا أورق. والخالع من العضاة: الذي لا يسقط ورقه أبدا كالسدر، فإنه لا يتجرد، وكل شجر له شوك فهو عضاة، والواحد عضة، إلا القتاد، ولا يعبل إلا الأرطي. وأخوصت بطنانها، إذا نبت فيه قضبان دقاق. وخضب عرفجها، يقول: اسود. وأخوص الشجر، وهو الذي لا شوك له. ومن العضاة قشره وقصده. فإذا يبست فهي عود. واتسق نبتها، أي تتام. وأجرت بقلتها، أي نبت فيها مثل الجراء. والعلفة: ثمرة الطلح، والحبلة للسلم. واحورّت خواصر إبلها، يقول: استرخت عن كثرة الرعي. وشكرت حلوبتها، يقول غزرت، يقال: شكرت الإبل والغنم، إذا تملأت من الربيع، وهي إبل شكارى، ويقال ضرة شكرى، إذا امتلأت من اللبن، والضرة: أصل الضرع. وقوله: عمد ثراها، وذلك إذا قبضت منه على شيء فتعقد واجتمع من ندوته. يقال عمد الثرى يعمد عمدا، وهو ثرى عمد. فالعمد: إن يجاوز الثرى المنكب، وهو أن يقيس السماء بالمرفق فيقول: بلغت وضح الكف، ثم الرسغ، ثم العظمة، ثم المرفق، ثم ينصف العضد ثم يبلغ المنكب. فإذا بلغ المنكب قيل عمد الثرى. فيقال إن ذلك حيا سنين. والتناهي، واحدتها تنهية، وهي مستقر السيل حيث ينتهي الماء. وعقدها: أن يمر السيل مقبلا حتى إذا انتهى منتهاه دار بالإباطح حتى يلتقي طرفا السيل. والصائرة: الكلأ والماء. ! قالوا: قاتل الحجاج ابن الأشعث في المربد، فخطب ابن الأشعث فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 «أيها الناس، إنه لم يبق من عدوكم إلا كما يبقى من ذنب الورغة، تضرب به يمينا وشمالا، فما تلبث أن تموت» . فمر به رجل من بني قشير فقال: قبح الله هذا ورأيه، يأمر أصحابه بقلة الإحتراس من عدوهم، ويعدهم الأضاليل، ويمنيهم الأباطيل. وناس كثير يرون أن الأشعث هو المحسن دون القشيري. وقال بشار: وحمد كعصب البرد حمّلت صاحبي ... إلى ملك للصالحات قرين وقال أيضا: وبكر كنوّار الرياض حديثها ... يروق بوجه واضح وقوام أبو الحسن قال: كان معاوية يأذن للأحنف أوّل من يأذن، فأذن له يوما، ثم أذن لمحمد بن الأشعث حتى جلس بين معاوية والأحنف، فقال له معاوية: لقد أحسست من نفسك ذلا. إني لم آذن له قبلك إلا ليكون إلي في المجلس دونك، وإنّا كما نملك أموركم كذلك نملك تأديبكم، فأريدوا ما يراد بكم، فإنه أبقى لنعمتكم، وأحسن لأدبكم» . وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصيل الخزاعي: «يا أصيل، كيف تركت مكة؟» . قال «تركتها وقد أحجن ثمامها، وأمشر سلمها، وأغدق أذخرها «1» » . فقال عليه السلام: «دع القلوب تقرّ» . وسأل أبو زياد الكلابي الصقيل العقيلي، حين قدم من البادية، عن طريقه، قال: انصرفت من الحج فأصعدت إلى الرّبذة «2» في مقاط الحرة، و الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 صلالا من الربيع «1» ، من خضيمة «2» حمض، وصليّان وقرمل، حتى لو شئت لأنخت إبلي في أذراء القفعاء، فلم ازل في مرعى لا أحسّ منه شيئا حتى بلغت أهلي. وقال سلام الكلابي: رأيت ببطن فلج منظرا من الكلأ لا أنساه، وجدت الصفراء والخزامى تضربان نحور الإبل، تحتهما قفعاء وحريث قد اطاع، وامسك بأفواه المال- أي لا تقدر أن ترفع رؤوسها- وتركت الحوران ناقعة في الأجارع «3» » . وذم أرضا فقال: «وجدنا أرضا مثل جلد الأجرب، تصأى حياتها، ولا يسكت ذئبها، ولا يقيّد راكبها» . وقال النّضر: قلت لأبي الخضير: ما أعجب ما رأيت من الخصب قال: كنت أشرب رثيئة تجرها الشفتان جرا، وقارصا قمارصا إذا تجشّأت جدع أنفي، ورأيت الكمأة تدوسها الإبل بمناسمها، والوضر يشمه الكلب فيعطس. وقال الأصمعي: قال المنتجع بن نبهان: قال رجل من أهل البادية: كنت أرى الكلب يمر بالخصفة عليها الخلاصة فيشمها ويمضي عنها. محمد بن كناسة، قال أخبرني بعض فصحاء أعراب طيء قال: بعث قوم رائدا فقالوا: ما وراءك؟ قال: «عشب وتعاشيب، وكمأة متفرقة شبب وتقلعها بأخفافها النيب «4» فقالوا له لم تضع شيئا هذا كذب. فأرسلوا آخر فقالوا: ما وراءك قال: عشب ثأد مأد «5» ، موليّ عهد «6» ، متدارك جعد «7» ، أفخاذ نساء بني سعد، تشبع منه الناب وهي تعد» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 قال لأن النبت إذا كان قليلا وقفت عليه الإبل، وإذا كان كثيرا أمكنها الأكل وهي تعدو. قال وبعث رجل أولاده يرتادون في خصب، فقال أحدهم: «رأيت بقلا وماء غيلا، يسيل سيلا، وخوصة تميل ميلا، يحسبها الرائد ليلا» . وقال الثاني: «رأيت ديمة على ديمة، في عهاد «1» غير قديمة، وكلأ تشبع منه الناب قبل الفطيمة» . وقال ابو مجيب: قيل لأوفى بن عبيد: ايت وادي كذا وكذا فارتده لنا. فقال: «وجدت به خشبا هرمى، وعشبا شرما» . قال: والهرمى: الذي ليس له دخان إذا أوقد، من يبسه وقدمه. والشرم. العشب الضخم. يقال: هذا عشب شرم. وقام هرم بن زيد الكلبي: إذا أحيا الناس قيل: «قد أكلأت الأرض، وأحر نفشت العنز لأختها، ولحس الكلب الوضر» . قال: وأحر نفاش العنز: أن ينتفش شعرها، وتنصب روقيها في أحد شقيها لتنطح صاحبتها، وإنما ذلك من الأشر، حين ازدهيت وأعجبتها نفسها. ولحس الكلب الوضر، لما يفضلون منه، لأنهم في الجدب لا يدعون للكلب شيئا يلحسه. وقال أبو مجيب: إذا أجدب الرائد، قال: «وجدت أرضا أرمى، وأرضا عشمى» . فأما العشمى: فالتي يرى فيها الشجر الاعشم، وإنما يعشم من الهبوة. ويقال للشيخ: إنما هو عشمة، لاستشنان جلده، وجفوف رأسه، وثلوب جسمه. فأما الأرمى فالتي قد أرمت، فليس فيها أصل شجر. قال أبو عبيدة: قال بعض الأعراب: «تركت جرادا كأنها نعامة باركة» ، يريد التفاف نبتها. وهي من بلاد بني تميم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 وقيل لأعرابي: ما وراءك؟ قال: «خلفت أرضا تظالم معزاها» . يقول: سمنت وأشرت فتظالمت. وتقول العرب: «ليس أظلم من حية» وتقول: «هو أظلم من ورل» و «أظلم من ذئب» ، كما تقول: «اغدر من ذئب» ، وكما يقولون: «أكسب من ذئب» . قال الأسدي: لعمرك لو أني أخاصم حية ... إلى فقعس ما أنصفتني فقعس إذا قلت مات الداء بيني وبينهم ... أتى حاطب منهم لآخر يقبس فما لكم طلسا إلي كأنكم ... ذئاب الغضى والذئب بالليل أطلس وقال الفزاري: ولو أخاصم أفعى نابها لثق ... أو الأساود من صمّ الأهاضيب أو لو أخاصم ذئبا في أكيلته «1» لجاءني جمعهم يسعى مع الديب يقول: بلغ من ظلم قومنا لنا، أنّا لو خاصمنا الذئاب والحيات، وبهما يضربون المثل في الظلم، لقضوا لهما علينا. وقالت العرب: «إذا شبعت الدقيقة لحست الجليلة» هذا في قلة العشب، إنما تلحسه الناقة لقلته وقصره. وحدثنا أبو زياد الكلابي قال: بعث قوم رائدا لهم بعد سنين تتابعت عليهم، فلما رجع إليهم قالوا له: ما وراءك؟ قال: «رأيت بقلا يشبع منه الجمل البروك، وتشكت منه النساء، وهمّ الرجل بأخيه» . أما قوله: «الجمل البروك» فيقول: لو قام قائما لم يتمكن منه لقصره. وأما قوله «وتشكت منه النساء» فإنه مأخوذ من الشكوة، وجمع الشكوة شكاء. والشكوة: مسك السخلة ما دامت ترضع. والشكاء أصغر من الوطاب. يقول: لم يكثر اللبن بعد فيمخض في الوطاب. وقوله: «وهمّ الرجل بأخيه» أي همّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 أن يدعوه إلى منزله كما كانوا يصنعون في أيام الخصب. وقال غيره: الخصب يدعو إلى طلب الطوائل، وغزو الجيران، وإلى أن يأكل القوي من هو أضعف منه. وقالوا في الكلاء: كلأ تشبع منه الإبل معقلة، وكلأ حابس فيه كمرسل. يقول: من كثرته سواء عليك أحبستها أم أرسلتها. ويقولون: «كلأ تيجع منه كبد المصرم «1» » . وأنشد الباهلي: ثم مطرنا مطرة رويّة ... فنبت البقل ولا رعية وأنشد الأصمعي: فجنّبت الجيوش أبا زنيب ... وجاد على مسارحك السحاب يجوز أن يكون دعا عليه، ويجوز أن يكون دعا له. وقال الآخر: أمرعت الأرض، لو أن مالا ... لو أن نوقا لك أو جمالا أو ثلّة من غنم أما لا وقال ابن الأعرابي: سأل الحجاج رجلا قدم من الحجاز عن المطر، فقال: «تتابعت علينا الأسمية «2» حتى منعت السّفار، وتظالمت المعزى واحتلبت الدّرة بالجرّة» . لقيط، قال: دخل رجل على الحجاج فسأله عن المطر، فقال: ما أصابني من مطر، ولكني سمعت رائدا يقول: «هلم أظعنكم إلى محله تطفأ فيها النيران، وتتنافس فيها المعزى، وتبقى بها الجرّة حتى تنزل الدرّة» . أبو زيد، قال: تخاصمت إمرأتان إلى ابنة الخسّ في مراعي أبويهما، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 فقالت الأولى: إبل أبي ترعى الإسليح. فقالت ابنة الخس: رغوة وصريح وسنام إطريح «1» . وقالت الأخرى: مرعى إبل أبي الخلّة. قالت ابنة الخس: سريعة الدّرة والجرّة. وقال الأحوص بن جعفر بعدما كان كبر وعمى، وينوه يسوقون به: أيّ شيء ترتعي الإبل؟ فقالوا: غرف ال؟ مام والضّعة، قال: سوقوا. ثم إنها عادت فارتعت بمكان آخر، فقال: أي شيء ترتعي الإبل؟ قالوا: العضاة والقضة «2» . قال: عود عويد شيع بعيد. وقال: سوقوا. حتى إذا بلغوا بلدا آخر قال: أي شيء ترتعي الإبل؟ قالوا: نصيّا وصلّيانا. قال: مكفتة لرغاها، مطولة لذرها، أرعوا واشبعوا. ثم سألهم فقال: أي شيء ترتعي الإبل؟ فقالوا: الرّمث. قال: خلقت منه وخلق منها. قال أبو صاعد الكلايي: وزعم الناس إن أول ما خلقت الإبل من، الرمث. وعلامة ذلك إنك لا ترى دابة تريده إلا الإبل. قال: وقيل لرؤبة: ما وراءك؟ قال: الثرى يابس، والمرعى عابس. قال: وقالت امرأة من الأعراب: أصبحنا ما ترقد لنا فرس، ولا ينام لنا حرس. قالوا: كان أبو المجيب كثيرا ما يقول: لا أرى إمرأة تصبّر عينيها، ولا شريفا يهنأ بعيرا، ولا إمرأة تلبس نطاق يمنة. وخطب بلال بن أبي بردة بالبصرة، فعرف انهم قد استحسنوا كلامه، فقال: أيها الناس لا يمنعنكم سوء ما تعلمون منا أن تقبلوا احسن ما تسمعون منا» . وقال عمر بن عبد العزيز: ما قوم اشبه بالسلف من الأعراب، لولا جفاء فيهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 وقال غيلان ابو مروان: إذا أردت أن تتعلم الدعاء، فاسمع دعاء الأعراب. وقال رجل من بني سليم، وسأله الحجاج عن المطر فقال: أصابتنا سحائب ثلاث: بحوران بقطر وقطر كبار، فكان الصّغار للكبار لحمة. ثم أصابتنا الثانية بسواء فلبّدت الدّماث «1» ودحضت العزاز «2» وصدعت الكمأة عن أماكنها. ثم أصابتنا الثالثة بالقريتين فملأت الإخاذ «3» ، وأفعمت كل واد، وأقبلنا في ماء يجر الضبع ويستخرجها من وجارها «4» . وقال رجل من بني أسد لمحمد بن مروان وسأله عن المطر فقال: ظهر الإعصار، وكثر الغبار، وأكل ما أشرف من الجنبة «5» وأيقنّا أنه عام سنة. [من نوادر الأخبار والأشعار] قال أبو الحسن عتّاب: عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، إن الإسكندر كان لا يدخل مدينة إلا هدمها، وقتل أهلها، حتى مر بمدينة كان مؤدبه فيها، فخرج إليه، فألطفه الإسكندر وأعظمه، فقال له: «أيها الملك، إن أحق من زيّن لك أمرك وواتاك على كل ما هويت لأنا، وإن أهل هذه المدينة قد طمعوا فيك لمكاني منك، وأحب ألا تشفعني فيهم، وأن تخالفني في كل ما سألتك لهم» . فأعطاه الإسكندر من ذلك ما لا يقدر على الرجوع عنه. فلما توثق منه قال: «فإن حاجتي أن تدخلها وتخربها وتقتل أهلها» . فقال الإسكندر: ليس إلى ذلك سبيل، ولا بد من مخالفتك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «أفضل العبادة الصمت، وانتظار الفرج» . وقال يزيد بن المهلب، وقد طال عليه حبس الحجاج: والهفاه على فرج في جبهة اسد، وطليّة بمائة ألف. وقال الأصمعي: دخل درست بن رباط الفقيمي، على بلال بن أبي بردة وهو في الحبس، فعلم بلال أنه شامت به فقال بلال: ما يسرني بنصيبي من المكروه حمر النعم. فقال درست: فقد أكثر الله لك منه. قال الهيثم بن عدي: كان عدي. سجّان يوسف بن عمر يرفع إلى يوسف بن عمر أسماء الموتى، فقال له عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري: أقبض هذه العشرة الآلاف الدرهم، وارفع اسمي في الموتى. قال: فرفع اسمه في الموتى فقال له يوسف بن عمر: ويحك جئني به. فرجع إليه فأعلمه فقال له: ويحك، اتق الله فيّ، فإني أخاف القتل. قال: وأنا أيضا أخاف ما تخاف. ثم قال: قتلك أهون عليّ من قتلي، ولا بد من قتلك. فوضع على وجهه مخدة فذهبت نفسه مع المال. وأما عبد الله بن المقفع «1» فإن صاحب الاستخراج لما ألح عليه في العذاب، قال لصاحب الإستخراج: أعندك مال وأنا أربحك ربحا ترضاه؟ وقد عرفت وفائي وسخائي وكتماني للسر، فعيني مقدار هذا النجم. فأجابه إلى ذلك، فلما صار له مال ترفق به مخافة أن يموت تحت العذاب فيتوى ماله. وقال رجل لعمرو الغزال: مررت بك البارحة وأنت تقرأ. فقال: لو أخبرتني أي آية كنت فيها لأخبرتك كم بقي من الليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 وسمع مؤرّج البصري رجلا يقول: أمير المؤمنين يردّ على المظلوم. فرجع إلى مصحفه فرد على براءة: «بسم الله الرحمن الرحيم» . وكان عبد الملك بن مروان في مرضه الذي مات فيه يعطش، وقيل له: إن شربت الماء مت. فأقبل ذات يوم بعض العوّد، فقال: كيف حال أمير المؤمنين؟ فقال: أنا صالح والحمد لله. ثم أنشأ يقول: ومستخبر عنا يريد بنا الردى ... ومستخبرات والدموع سواجم ويلكم اسقوني ماء وإن كان فيه تلف نفسي. فشرب ثم مات. وكان حبيب بن مسلمة الفهريّ رجلا غزّاء للترك، فخرج ذات مرة إلى بعض غزواته، فقالت له إمرأته: أين موعدك؟ قال: سرادق الطاغية أو الجنة إن شاء الله. قالت: إني لأرجو أن اسبقك إلى أيّ الموضعين كنت به. فجاء فوجدها في سرادق الطاغية تقاتل الترك. ولما مدح الكميت بن زيد الأسدي مخلّد بن يزيد بن المهلب، فقال له ابن بيض: إنك يا أبا المستهلّ لكجالب التمر إلى هجر! قال: نعم، ولكن تمرنا أجود من تمركم. وكان السيد الحميري «1» مولعا بالشراب، فمدح أميرا من أمراء الأهواز، ثم صار اليه بمديحه له، فلم يصل إليه. وأغبّ الشراب، فلما كان ذات يوم شرب ثم وصل إليه، فجلس من بعد، فقرّبه وشمّ منه ريح الشراب فقال: ما كنت أظن أبا هاشم يفعل هذا، ولكن يحتمل لمادح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكثر من هذا- يمازحه- ثم قال: يا جارية هلمي الدواة. ثم كتب إلى بعض وكلائه: ادفع إلى أبي هاشم مائتي دورق ميبختجا «2» . فقال السيد: لقد كنت أظن الأمير أبلغ ما هو. قال: وأي شيء رأيت من العي؟ قال: جمعك بين حرفين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 وأنت تجتزي بأحدهما، أمح هذه الخبيثة «نحتجا» ودع «ميا» على حالها. ففعل، وحمل الكتاب فأخذها عبيطا «1» . عبد الله بن فائد قال: قالت إمرأة الحضين بن المنذر للحضين: كيف سدت قومك وأنت بخيل وأنت دميم؟ قال: لأني سديد الرأي، شديد الإقدام. قال: وقال مسلمة بن عبد الملك لهشام بن عبد الملك: كيف تطمع في الخلافة وأنت بخيل وأنت جبان؟ قال: لأني حليم وأني عفيف. وقال زبّان: إن بني بدر يراع جوف ... كل خطيب منهم مؤوف «2» اهوج لا ينفعه التثقيف وقال لبيد بن ربيعة: وأبيض يجتاب الخروق على الوجى ... خطيبا إذا التف المجامع فاصلا «3» وقال في تفصيل العلم والخطابة، وفي مدح الإنصاف، وذم الشّغب: وقد بلوتك وابتليت خليقتي ... ولقد كفاك معلمي تعليمي وقال لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب يتأكلون مغالة وخيانة ... ويعاب قائلهم وإن لم يشغب وقال زيد بن جندب: ما كان أغنى رجالا ضلّ سعيهم ... عن الجدال وأغناهم عن الخطب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 وقال لقيط بن زرارة: إني إذا عاقبت ذو عقاب ... وإن تشاغبني فذو شغاب وقال أبن أحمر: وكم حلّها من تيحان سميدع ... مصافي الندى ساق بيهماء مطعم طوي البطن متلاف إذا هبّت الصبا ... على الأمر غواص وفي الحي شيظم وقال آخر: وأغرّ منخرق القميص سميدع «1» يدعو ليغزو ظالما فيجاب قد مد أرسان الجياد من الوجى ... فكأنما أرسانها أطناب وقال آخر: كريم يغض الطرف عند حيائه ... ويدنو وأطراف الرماح دوان وكالسيف إن لا ينته لان متنه ... وحدّاه إن خاشنته خشنان وقال آخر: يقيطّع طرفه عني سويد ... ولم أذكر بسيئة سويدا توقّ حداد شوك الأرض تسلم ... وغير الأسد فاتخذنّ صيدا وقال آخر: لا تحسبن الموت موت البلى ... فإنما الموت سؤال الرجال كلاهما موت ولكنّ ذا ... أشدّ من ذاك لذل السؤال وللحسين بن مطير: رأت رجلا أودى بوافر لحمه ... طلاب المعالي واكتساب المكارم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 خفيف الحشا ضربا «1» كأن ثيابه ... على قاطع من جوهر الهند صارم فقلت لها لا تعجبنّ فإنني ... أرى سمن الفتيان إحدى المشاتم وكان عمر بن الخطاب، رحمه الله، إذا رأى عبد الله بن عباس يقول في الأمر يعرض من جلة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقول: «غص غوّاص» . وقال ابن أحمر: هل لامني قوم لموقف سائل ... أو في مخاصمة اللجوج الأصيد وقال لبيد بن ربيعة في التطبيق على قوله: يا هرم بن الأكرمين منصبا ... إنك أوتيت حكما معجبا فطبق المفصل واغنم طيبا وقال آخر: فلما إن بدا القعقاع لجّت ... على شرك تناقله نقالا تعاورن الحديث وطبقته ... كما طبقت بالنعل المثالا وقال ابن أحمر: لو كنت ذا علم علمت وكيف لي ... بالعلم بعد تدبّر الأمر وقال: ليست بشوشاة الحديث ولا ... فتق مغالبة على الأمر وقال: تضع الحديث على مواضعه ... وكلامها من بعده نزر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 وقال: وخصم مضلّ في الضّجاج تركته ... وقد كان ذا شغب فولى مواتيا وذكر علي بن أبي طالب، رحمه الله، إكتل بن شمّاخ العكلي، فقال «الصّبيح الفصيح» . وهو أول من اتخذ بيت مال لنفسه في داره. عبد الله بن المبارك، عن معمر عن الحسن عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سيكون بعدي أمراء يعطون الحكمة على منابرهم وقلوبهم أنتن من الجيف» . جعفر بن سليمان الضبعي «1» ، عن مالك بن دينار، قال: غدوت إلى الجمعة، فجلست قريبا من المنبر، فصعد الحجاج المنبر، ثم قال: امرأ زوّر عمله، امرأ حاسب نفسه، امرأ فكر فيما يقرؤه في صحيفته ويراه في ميزانه، امرأ كان عند قلبه زاجرا، وعند همه ذاكرا، امرأ أخذ بعنان قلبه كما يأخذ الرجل بخطام جمله، فإن قاده إلى طاعة الله تبعه وإن قاده إلى معصية الله كفه. وبعث عديّ بن أرطأة إلى المهالبة أبا المليح الهذلي، وعبد الله بن عبد الله بن الأهتم، والحسن البصري، فتكلم الحسن فقال عبد الله: والله ما تمنيت كلاما قط أحفظه إلا كلام الحسن يومئذ. قال: وتنقص ابن لعبد الله بن عروة بن الزبير عليا رحمه الله، فقال له أبوه: والله ما بنى الناس شيئا قط إلا هدمه الدين، ولا بنى الدين شيئا فاستطاعت الدنيا هدمه، ألم تر إلى علي كيف يظهر بنو مروان من عيبه وذمه؟ والله لكأنما يأخذون بناصيته رفعا إلى السماء. وما ترى ما يندبون به موتاهم من التأبين والمديح؟ والله لكأنما يكشفون عن الجيف. أبو الحسن قال: قال عبد الله بن الحسن، لابنه محمد، حين أراد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 الاستخفاء: «أي بني، إني مؤد إليك حق الله في حسن تأديبك، فأدّ إليّ حق الله في حسن الإستماع. أي بنيّ، كفّ الأذى، وأرفض البذا، واستعن على الكلام بطول الفكر في المواطن التي تدعوك فيها نفسك إلى القول، فإن للقول ساعات يضر فيها خطاؤه، ولا ينفع صوابه. احذر مشورة الجاهل وإن كان ناصحا، كما تحذر مشورة العاقل إذا كان غاشا، فإنه يوشك أن يورطاك بمشورتهما، فيسبق إليك مكر العاقل وتوريط الجاهل. وكان يقال: من لانت كلمته وجبت محبته، ومن طال صمته اجتلب من الهيبة ما ينفعه، ومن الوحشة ما لا يضره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 [باب أن يقول كل إنسان على قدر خلقه وطبعه] . قال قتيبة بن مسلم، لحضين بن المنذر: ما السرور؟ قال: امرأة حسناء، ودار قوراء «1» وفرس مرتبط بالفناء. وقيل لضرار بن الحصين: ما السرور؟ قال: لواء منشور، وجلوس على السرير، والسلام عليك أيها الأمير. وقيل لعبد الملك بن صالح: ما السرور؟ قال: كل الكرامة نلتها ... إلا التحية بالسلام وقيل لعبد الله بن الأهتم: ما السرور؟ قال: رفع الأولياء، وحطّ الأعداء، وطول البقاء. مع القدرة والنماء. وقيل للفضل بن سهل: ما السرور؟ قال: توقيع جائز، وأمر نافذ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 أبو الحسن المدائني قال: قيل لإنسان بحري: أي شيء تتمنّى؟ قال: شربة من ماء الفنطاس «1» ، والنوم في ظل الشراع، وريحا دنبداد «2» . وقيل لطفيلي: كم اثنان في اثنين؟ قال: أربعة أرغفة. وقال الفلّاس القاصّ: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر ثلاثمائة وستين درهما. وقلت لملاح لي، وذلك بعد العصر في رمضان: انظر كم بين عين الشمس وبين موضع غروبها من الأرض؟ قال: أكثر من مرديين ونصف. وقال آخر: وقع علينا اللصوص، فأول رجل داخل دخل علينا السفينة في طول هذا المرديّ «3» ، وكان فخذه أغلظ من هذا السكّان، وأسودّ صاحب السفينة حتى صار أشد سوادا من هذا القير. وأردت الصعود مرة في بعض القناطر، وشيخ ملاح جالس، وكان يوم مطر وزلق، فزلق حماري فكاد يلقيني لجنبي، لكنه تماسك فأقعى على عجزه، فقال الشيخ الملاح: لا إله إلا الله، ما أحسن ما جلس على كوثله «4» . ومررت تبل طين أحمر ومعي أبو الحسن النخاس، فلما نظر إلى الطين: أيّ أواري «5» تجيء من هذا الطين. ومررنا بالخلد بعد خرابه، فقال، أي اصطبلات تجيء من هذا وقيل لبعضهم: ما المروءة؟ قال: طهارة البدن، والفعل الحسن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 وقيل لمحمد بن عمران: ما المروءة؟ قال: أن لا تعمل في السر شيئا تستحي منه في العلانية. وقيل للأحنف: ما المروءة؟ قال: العفة والحرفة. وقال طلحة بن عبيد الله المروءة الظاهرة الثياب الطاهرة. وقيل لأبي هريرة: ما المروءة؟ قال: تقوى الله، واصلاح الصنيعة، والغداء والعشاء بالأفنية. ونظر بكر بن الأشعر، وكان سجّانا، مرة إلى سور دار بجالة بن عبدة، فقال: لا إله إلا الله، أي سجن يجيء من هذا. وقال إنسان صيرفي: باعني فلان عشرين جريبا، ودانقين ونصفا ذهبا. قال: ونظر عثمان بن عفان رحمه الله إلى عير مقبلة، فقال لأبي ذرّ: ما كنت تحب أن تحمل هذه؟ قال أبو ذر: رجالا مثل عمر. وقيل للزهري، ما الزهد في الدنيا؟ فقال: أما أنه ليس بشعث اللمة، ولا قشف الهيئة، ولكنه ظلف «1» النفس عن الشهوة. وقيل له أيضا: ما الزهد في الدنيا؟ قال: ألا يغلب الحرام صبرك ولا الحلال شكرك. ونظر زاهد إلى فاكهة في السوق، فلما لم يجد شيئا يبتاعها به عزّى نفسه وقال: يا فاكهة، موعدي وإياك الجنة. قالوا: ومر المسيح عليه السلام بحلق بني اسرائيل، فشتموه، فكلما قالوا شرا قال المسيح صلّى الله عليه وسلّم خيرا، فقال له شمعون الصفي: أكلما قالوا شرا قلت لهم خيرا؟ قال المسيح: «كل امرىء يعطي مما عنده» . وقال بعضهم: قيل لامرىء القيس بن حجر: ما أطيب عيش الدنيا؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 قال: بيضاء رعبوبة «1» ، بالطيب مشبوبة «2» ، بالشحم مكروبة «3» . وسئل عن ذلك الأعشى فقال: صهباء صافية، تمزجها ساقية، من صوب غادية «4» . وقيل مثل ذلك لطرفة فقال: مطعم شهي، وملبس دفيّ، ومركب وطيّ. قال: وكان محمد بن راشد البجلي، يتغدى، وبين يديه شبوطة «5» ، وخياط يقطع له ثيابا، ورآه يلحظ الشبوطة، فقال: قد زعمت إن الثواب يحتاج إلى خرقة، فكم مقدارها؟ قال: ذراع في عرض الشبوطة. أودخل آخر على رجل يأكل أترجة بعسل، فأراد أن يقول: السلام عليكم، فقال: عليكم. دخلت جارية رومية على راشد البتي، لتسأل عن مولاتها، فبصرت بحمار قد أدلى في الدار، فقالت: قالت مولاتي: كيف أير حماركم؟ - فيما زعم أبو الحسن المدائني-. وأنشد أبن الأعرابي: وإذا أظهرت أمرا حسنا ... فليكن أحسن منه ما تسرّ فمسرّ الخير موسوم به ... ومسرّ الشرّ موسوم بشر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 وأنشد ابن الأعرابي: أرى الناس يبنون الحصون وإنما ... غوابر آجال الرجال حصونها «1» وإن من الأعمال دونا وصالحا ... فصالحها يبقى ويهلك دونها وأنشد ابن الأعرابي: حسب الفتى من عيشه ... زاد يبلّغه المحلا خبز وماء بارد ... والظلّ حين يريد ظلا وقال بعض الأعراب: وما العيش إلا شبعة وتشرّق ... وتمر كأخفاف الرباع وماء «2» محمد بن حرب الهلالي قال: قلت لأعرابي: إني لك لوادّ. قال: وإن لك من قلبي لرائدا. قال: وأتيت أعرابيا في أهله مسلّما عليه، فلم أجده، فقالت لي امرأته: عشّر الله خطاك. أي جعلها عشرة أمثالها. قالوا: وكان سلم بن قتيبة يقول لم يضيع امرؤ صواب القول حتى يضيع صواب العمل. أبو الحسن قال: قال الحجاج لمعلّم ولده: علم ولدي السباحة قبل الكتابة، فإنهم يصيبون من يكتب عنهم ولا يصيبون من يسبح عنهم. أبو عقيل بن درست قال: رأيت أبا هاشم الصوفي مقبلا من جهة النهر، فقلت: في أي شيء كنت اليوم؟ قال: في تعلم ما ليس ينسى، وليس الشيء من الحيوان عنه غنى. قال: قلت وما ذاك؟ قال: السباحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 حدثنا علي بن محمد وغيره قال: كتب عمر بن الخطاب إلى ساكني الأمصار: «أما بعد فعلموا أولادكم العوم والفروسة، وروّوهم ما سار من المثل، وحسن من الشعر» . وقال ابن التوأم: علم ابنك الحساب قبل الكتاب، فإن الحساب أكسب من الكتاب، ومؤونة تعلمه أيسر، ووجوه منافعه أكثر. وكان يقال: لا تعلموا بناتكم الكتاب، ولا ترووهن الشعر، وعلموهن القرآن، ومن القرآن سورة النور. وقال آخر: بنو فلان يعجبهم أن يكون في نسائهم أباضيّات، ويؤخذن بحفظ سورة النور. وكان ابن التوأم يقول: من تمام ما يجب على الآباء من حفظ الابناء، أن يعلموهم الكتاب والحساب والسباحة. خطب رجل امرأة أعرابية فقالت له: سل عني بني فلان وبني فلان وبني فلان، فعدت قبائل، فقال لها: وما علمهم بك؟ قالت: في كلهم قد نكحت. قال: أراك جلنفعة قد خزّمتك الخزائم «1» . قالت: لا، ولكني جوالة بالرحل عنتريس «2» . وقال الفرزدق لامرأته النوار: كيف رأيت جريرا؟ قالت: رأيتك ظلمته أولا ثم شغرت عنه برجلك آخرا. قال: أنا إنية؟ قالت: نعم، أما انه قد غلبك في حلوه، وشاركك في مرّه. قال: وتغدى صعصعة بن صوحان عند معاوية يوما، فتناول من بين يدي معاوية شيئا فقال: يا ابن صوحان، لقد إنتجعت من بعيد! فقال: «من أجدب انتجع» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 وبصر الفرزدق بجرير محرما فقال: والله لأفسدن على ابن المراغة حجّه. ثم جاءه مستقبلا له، فجهره بمشقص «1» كان معه، ثم قال: إنك لاق بالمشاعر من منىّ ... فخارا فخبرني بمن أنت فاخر فقال جرير: لبيك اللهم لبيك. ولم يجبه. قال: وأدخل مالك بن أسماء سجن الكوفة، فجلس إلى رجل من بني مرة، فاتكأ المريّ عليه يحدثه حتى أكثر وغمه، ثم قال: هل تدري كم قتلنا منكم في الجاهلية؟ قال مالك: أما في الجاهلية فلا، ولكني أعرف من قتلتم منا في الإسلام. قال المري: ومن قتلنا منكم في الإسلام؟ قال: أنا، قد قتلتني غما! قال: ودخل رجل من محارب قيس على عبد الله بن يزيد الهلالي، وهو عامل على أرمينية، وقد بات في موضع قريب منه غدير فيه ضفادع، فقال عبد الله للمحاربي: ما تركتنا أشياخ محارب ننام في هذه الليلة، لشدة أصواتها. فقال المحاربي: أصلح الله الأمير، إنها أضلّت برقعا لها، فهي في بغائه «2» . أراد الهلالي قول الأخطل: تنقّ بلا شيء شيوخ محارب ... وما خلتها كانت تريش ولا تبري ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدلّ عليها صوتها حية البحر وأراد المحاربي قول الشاعر: لكلّ هلاليّ من اللؤم برقع ... ولابن هلال برقع وقميص وقال العتبيّ «3» : رأين الغواني الشيب لاح بعارضي ... فأعرضن عني بالخدود النواضر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 وكن إذا أبصرنني أو سمعن بي ... سعين فرقعن الكوى بالمحاجر لئن حجبت عني نواظر أعين ... رمين بأحداق المها والجآذر فإني من قوم كرام أصولهم ... فقدامهم صيغت رؤوس المنابر خلائف في الإسلام في الشرك قادة ... بهم وإليهم فخر كلّ مفاخر وقال لبيد: والشاعرون الناطقون أراهم ... سلكوا طريق مرقّش ومهلهل وقال آخر: أم من لباب إذا ما اشتدّ حاجبه ... أم من لخصم بعيد الغور مغوار وقال حاجب بن دينار المازني: ونحن بنو الفخل الذي سال بوله ... بكلّ بلاد لا يبول بها فحل أبى الناس والأقلام أن يحسبوهم ... إذا حصل الأجناس أو يحسب الرمل فإن غضبوا سدوا المشارق، منهم ... ملوك وحام كلامهم فصل وقال أعرابي من بني حنيفة، وهو يمزح: مر الجراد على زرعي فقلت له ... الزم طريقك لا تولع بافساد فقال منهم خطيب فوق سنبلة ... إنّا على سفر لا بدّ من زاد وقال آخر يهجو بعض الخطباء: يمان ولا يمون وكان شيخا ... شديد اللقم هلقاما خطيبا «1» وذهب إلى قول الأحوص: ذهب الذين أحبّهم فرطا ... وبقيت كالمقمور «2» في خلف من كلّ مطوي على حنق ... متضجع يكفى ولا يكفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 وقال الحسن بن هانىء: إذا نابه أمر فإما كفيته ... وإما عليه بالكفي تشير وقال آخر: ذريني فلا أعيا بما حلّ ساحتي ... أسود فأكفي أو أطيع المسوّدا وقال بشار: وفي العبرات الغرّ صبر على الندى ... أولئك حيّ من خزيمة أغلب وألام من يمشي ضبيعة، إنّهم ... زعانف لم يخطب إليهم محجّب «1» وكذلك قول أعشى بني ثعلبة: ما ضرّ غاني نزار أن تفارقه ... كلب وجرم إذا أبناؤه اتفقوا قالت قضاعة إنّا من ذوي يمن ... الله يعلم، ما برّوا ولا صدقوا يزداد لحم المناقي في منازلنا ... طيبا إذا عز في اعدائنا المرق وما خطبنا إلى قوم بناتهم ... إلا بأرعن في حافاته الحرق «2» قوله خطبنا: من الخطبة ها هنا، وهو في الشعر الأول من الخطبة أيضا. وقال بلعاء بن قيس «3» : أبيت لنفسي الخسف لما رضوا به ... ووليتهم شتمي وما كنت مفحما وقال بلعاء بن قيس لسراقة بن مالك بن جعشم: ألا أبلغ سراقة يا ابن مال ... فبئس مقالة الرجل الخطيب أترجو أن تؤوب بظعن ليث ... فهذا حين تبصر من قريب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 وقال منصور الضّبّي: ليت الفتى عجردا منا مكانهم ... وليتهم من وراء الأخضر الجاري قد قام سيدهم عمران يخطبهم ... ما كان للخير عمران بأمّار قال: وتقول العرب: «الخلّة تدعو إلى السّلة» . وكانوا إذا أسروا أسيرا قال المادح: «أسره في مزاحفة، ولم يأسره في سلة» . وفي الحديث: «لا اسلال ولا إغلال «1» » وفي المثل: «الحاجة تفتح باب المعرفة» . [أقوال وأشعار منتخبة] قال سويد المراثد الحارثي أو غيره: بني عمنا لا تذكروا الشعر بعدما ... دفنتم بصحراء الغميم القوافيا فلسنا كمن كنتم تصيبون سلّة ... فنقبل عقلا أو نحكم قاضيا «2» ولكن حكم السيف فيكم مسلط ... فنرضى إذا ما أصبح السيف راضيا وقد ساءني ما جرت الحرب بيننا ... بني عمنا لو كان أمرا مدانيا فإن قلتم إنّا ظلمنا فإنكم ... بدأتم ولكنا أسأنا التقاضيا وقال ضابىء بن الحارث «3» : وربّ أمور لا تضيرك ضيرة ... وللقلب من مخشاتهن وجيب وقال حارثة بن بدر «4» : وقل للفؤاد إن نزا بك نزوة ... من الروع أفرخ أكثر الروع باطله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 وقال لبيد بن ربيعة: وأكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل وقال حبيب بن أوس: وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدّد فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد وقال غيره: هو الشمس إلا أن للشمس غيبة ... وهذا الفتى الجرميّ ليس يغيب يروح ويغدو ما يفترّ ساعة ... وإن قيل ناء فهو منك قريب وقال آخر: خلافا لقولي من فيالة رأيه ... كما قيل قبل اليوم: خالف فتذكرا وقال حارثة بن بدر: إذا ما متّ سرّ بني تميم ... على الحدثان لو يلقون مثلي عدوّ عدوهم أبدا عدوي ... كذلك شكلهم أبدا وشكلي وهو شبيه بقول الأعشى: علّقتها عرضا وعلقت رجلا ... غيري وعلّق أخرى غيرها الرجل وقال عمرو لمعاوية: من أصبر الناس؟ قال: من كان رأيه رادا لهواء. واختلفوا بحضرة الزهري في معنى قول القائل: فلان زاهد. فقال الزهري: «الزاهد الذي لا يغلب الحرام صبره، ولا الحلال شكره» . وقال ابن هبيرة وهو يؤدب بعض بنيه: لا تكونن أول مشير، وإياك والرأي الفطير، وتجنب ارتجال احكلام، ولا تشر على مستبد ولا على وغد، ولا على متلون ولا على لجوج، وخف الله في موافقة هوى المستشير، فإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 التماس موافقة هوى لؤم، وسوء الاستماع من خيانة. وقالوا: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن ساء خلقه قل صديقه. وقال عمر للأحنف: من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر مزاحه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل ورعه، ومن قل ورعه ذهب حياؤه، ومن ذهب حياؤه مات قلبه. وقال المهلّب لبنيه: يا بني تباذلوا تحابوا، فإن بني الام يختلفون، فكيف بنو العلّات «1» . إن البر ينسأ في الاجل، ويزيد في العدد، وإن القطيعة تورث القلة، وتعقب النار بعد الذلة. واتقوا زلّة اللسان، فإن الرجل تزلّ رجله فينتعش، ويزل لسانه فيهلك. وعليكم في الحرب بالمكيدة، فإنها ابلغ من النجدة فإن القتال إذا وقع وقع القضاء، فإن ظفر فقد سعد، وإن ظفر به لم يقولوا فرّط. ولقي الحسين رضي الله عنه الفرزدق فسأله عن الناس فقال: القلوب معك، والسيوف عليك، والنصر في السماء. وقال بعضهم: حجب أعرابي عن باب السلطان فقال: أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ... ولا يكرم النفس الذي لا يهينها وقال جرير: قوم إذا حضر الملوك وفودهم ... نتفت شواربهم على الأبواب وقال آخر: نهيت جميع الحضر عن ذكر خطّة ... يدبرّها في رأيه ابن هشام فلما وردت الباب أيقنت إننا ... على الله والسلطان غير كرام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 وقال آخر: وافى الوفود فوافى من بني حمل ... بكر الحمالة قاني السّن عرزوم وقال الحضين بن المنذر: وكلّ خفيف الشأن يسعى مشمّرا ... إذا فتح البواب بابك أصبعا ونحن الجلوس الماكثون توقّرا ... حياء إلى أن يفتح الباب أجمعا وقال آخر: ونفسك أكرمها فإنك إن تهن ... عليك فلن تلقى لها الدهر مكرما اعتذر ابن عون إلى ابراهيم النخعي فقال له: اسكت معذورا، فإن الإعتذار يخالطه الكذب. ابو عمرو الزعفراني قال: كان عمرو بن عبيد عند حفص بن سالم فلم يسأله احد من حشمه في ذلك اليوم شيئا إلا قال: لا. فقال له عمرو: أقلّ من قول لا، فإنه ليس في الجنة، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا سئل ما يجد أعطى، وإذا سئل ما لا يجد قال «يصنع الله» . وقال عمر بن الخطاب رحمه الله: اكثروا لهن من قول «لا» ، فإن قول «نعم» يضرّيهن على المسألة. وإنما خص عمر بذلك النساء. وقال بعضهم: ذمّ رجل الدنيا عتد علي بن ابي طالب رضي الله عنه فقال علي: «الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، ومهبط وحي الله، ومصلّى ملائكته، ومسجد أنبيائه، ومتجر أوليائه. ربحوا فيها الرحمة، واكتسبوا فيها الجنة. فمن ذا الذي يذمها وقد آذنت ببينها ونادت بفراقها، وشبهت بسرورها السرور، وببلائها البلاء، ترغيبا وترهيبا. فيأيها الذام للدنيا، المعلل نفسه، متى خدعتك الدنيا أم متى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 استذمت إليك «1» ؟ أبمصارع آبائك في البلى، أم بمضاجع أمهاتك في الثرى؟! كم مرضت بيديك، وكم عللت بكفيك، تطلب له الشفاء، وتستوصف له الأطباء، غداة لا يغني عنه دواؤك، ولا ينفعه بكاؤك، ولا تنجيه شفقتك، ولا تشفع فيه طلبتك» . وقال عمر، رحمه الله: «ما بال أحدكم ثاني وساده عند امرأة مغزية مغيبة؟! إن المرأة لحم على وضم «2» إلا ما ذب عنه» . وقال بعضهم: مات ابن لبعض العظماء فغزّاه بعضهم فقال: عش أيها الملك العظيم سعيدا، ولا أراك الله بعد مصيبتك ما ينسيكها. وقال: لما توفي معاوية وجلس ابنه يزيد، دخل عليه عطاء بن ابي صيفي الثقفي، فقال: «يا أمير المؤمنين، أصبحت قد رزيت خليفة الله، واعطيت خلافة الله، وقد قضى معاوية نحبه، فغفر الله ذنبه، وقد اعطيت بعده الرياسة ووليت السياسة، فاحتسب عند الله أعظم الرزية، واشكره على أفضل العطية» . ولما توفي عبد الملك وجلس ابنه الوليد، دخل عليه الناس وهم لا يدرون: أيهنئونه أم يعزونه؟ فأقبل غيلان بن سلمة الثقفي فسلم عليه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، أصبحت قد رزيت خير الآباء، وسميت بخير الأسماء، وأعطيت أفضل الأشياء، فعظم الله لك على الرزية الصبر وأعطاك في ذلك نوافل الأجر، وأعانك على حسن الولاية والشكر. ثم قضى لعبد الملك بخير القضية، وأنزله بأفضل المنازل المرضية، وأعانك من بعده على الرعية» . فقال له الوليد: من أنت؟ فانتسب له قال: في كم أنت؟ في مائة دينار. فألحقه بأهل الشرف. ولما توفي المنصور دخل ابن عتبة مع الخطباء على المهدي فسلم ثم قال: آجر الله أمير المؤمنين على أمير المؤمنين قبله، وبارك لأمير المؤمنين فيما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 خلفه له أمير المؤمنين بعده، فلا مصيبة أعظم من فقد أمير المؤمنين، ولا عقبى أفضل من وراثة مقام أمير المؤمنين. فأقبل يا أمير المؤمنين من الله أفضل العطية، واحتسب عنده أعظم الرزيّة. وكتب ميمون بن مهران إلى عمر بن عبد العزيز، يعزيه عن ابنه عبد الملك، فكتب إليه عمر: «كتبت إليّ تعزيني عن ابني عبد الملك، وهو أمر لم أزل انتظره، فلما وقع لم أنكره. وقال الشاعر: تعزيت عن أوفى بغيلان بعده ... عزاء وجفن العين بالماء مترع ولم تنسني أوفى المصيبات بعده ... ولكن نكء القرح بالقرح أوجع وقال متمم: قعيدك ألا تسمعيني ملامة ... ولا تنكئي قرح الفؤاد فييجعا وقال آخر: قليل التشكي للمصيبات ذاكر ... من اليوم أعقاب الأحاديث في غد وقالوا: «أشد من الموت ما يتمنى له الموت» . وقال الفرزدق وهو يصف طعنة: يودّ لك الأدنون لو متّ قبلها ... يرون بها شرا عليك من القتل وقال: وقيل للأحنف: ما بلغ من حزمك؟ قال: لا ألي ما كفيت، ولا أضيّع ما وليت. وقال آخر: لا تقيموا ببلاد ليس فيها نهر جار، وسوق قائمة، وقاض عدل. وقالوا: لا تبنى المدن إلا على الماء والمرعى والمحتطب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 وقال مالك بن دينار: لربما رأيت الحجاج يتكلم على منبره، ويذكر حسن صنيعه إلى أهل العراق، وسوء صنيعهم إليه، حتى أنه ليخيّل إلى السامع أنه صادق مظلوم. أبو عبد الله الثقفي عن عمه قال: سمعت الحسن يقول: لقد وقذتني كلمة سمعتها من الحجاج. قلت: وإن كلام الحجاج ليقذك؟ قال: نعم سمعته على هذه اللأعواد يقول: إن أمرأ ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له، لخليق أن تطول عليها حسرته. وقال بعضهم: ما وجدت احدا ابلغ في خير وشر من صاحب عبد الله ابن سلمة قال: دخل الزّبرقان بن بدر على زياد وقد كفّ بصره، فسلّم تسليما جافيا، فأدناه زياد فأجلسه معه، وقال: يا أبا عياش: القوم يضحكون من جفائك! قال: وإن ضحكوا فوالله إن منهم رجل إلا بوده أني أبوه دون أبيه لغيّة أو لرشدة. وقال: ونظر هشام بن عبد الملك إلى قبر عثمان بن حيان المري فقال: جثوة «1» من جثى النار. قالوا: وكان يقال: صاحب السوء قطعة من النار، والسفر قطعة من العذاب. وقال بعضهم: عذابان لا يكترث لهما الداخل فيهما: السفر الطويل والبناء الكثير. وقال رجل من أهل المدينة: من ثقل على صديقه خف على عدوه، ومن أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه بما لا يعلمون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 وقال سهل بن هارون: ثلاثة يعودون إلى أجنّ المجانين، وإن كانوا أعقل العقلاء: الغضبان، والغيران، والسكران. قال له ابو عبدان الشاعر المخلع: ما تقول في المنعظ؟ فضحك حتى استلقى، ثم قال: وما شر الثلاثة وما شرّ الثلاثة أمّ عمرو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا وقال ابو الدرداء: «أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب» . وقال: قال أياس: البخل قيد، والغضب جنون، والسكر مفتاح الشر. وقال بعض البخلاء: ما نصب الناس لشيء نصبهم لنا، هبهم يلزموننا الذمّ فيما بيننا وبينهم، ما لهم يلزموننا التقصير فيما بيننا وبين انفسنا. قال: وقال ابراهيم بن عبد الله بن حسن لأبيه: ما شعر كثيّر عندي كما يصف الناس. فقال له ابوه: إنك لم تضع كثيّرا بهذا، إنما تضع بهذا نفسك. قال: وأنشد رجل عمر بن الخطاب، رحمه الله، قول طرفة: فلولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى ... وجدّك لم أحفل متى قام عوّدي فقال عمر: «لولا أن أسير في سبيل الله، واضع جبهتي لله، وأجالس أقواما ينتقون أطايب الحديث كما ينتقون أطايب التمر، لم أبال أن أكون قد متّ» . وقال عامر بن عبد قيس: «ما آسى من العراق إلا على ثلاث: على ظمأ الهواجر، وتجاوب المؤذنين، وإخوان لي منهم، الأسود بن كلثوم» . وقال آخر: «ما آسي من البصرة إلا على ثلاث: رطب السكر، وليل الحزيز، وحديث أبي بكرة. وقال سهل بن هارون: تكنّفني همان قد كسفا بالي ... وقد تركا قلبي محلّة بلبال هما أذريا دمعي ولم تذر عبرتي ... ربيبة خدر ذات سمط وخلخال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 ولكنني أبكي بعين سخينة ... على جلل تبكي له عين أمثالي فراق خليل، أو شجي يستشفني ... لخلة مرء لا يقوم لها مالي فواكبدي حتى متى القلب موجع ... بفقد حبيب أو تعذّر أفضال وما العيش إلا أن تطول بنائل ... وإلا لقاء الخل ذي الخلق العالي وقال آخر: لولا ثلاث هن عيش الدهر ... الماء والنوم وأمّ عمرو لما خشيت من مضيق القبر قال: وقال الأحنف: أربع من كن فيه كان كاملا، ومن تعلق بخصلة منهن كان من صالحي قومه: دين يرشده، أو عقل يسدّده، أو حسب يصونه، أو حياء يقناه. وقال: المؤمن بين أربع: مؤمن يحسده، ومنافق يبغضه، وكافر يجاهده، وشيطان يفتنه. وأربع ليس أقل منهن: اليقين، والعدل، ودرهم حلال، وأخ في الله. وقال الحسن بن علي: من أتانا لم يعدم خصلة من أربع: آية محكمة. أو قضية عادلة، أو أخا مستفادا، أو مجالسة العلماء. وقالوا: من أعطي أربعا لم يمنع أربعا: من أعطي الشكر لم يمنع الخيرة، ومن أعطي المشورة لم يعدم الصواب. وقال أبو ذر الغفاري: كان الناس ورقا لا شوك فيه، فصاروا شوكا لا ورق فيه. وقالوا: تعامل الناس بالدين حتى ذهب الدين، وبالحياء حتى ذهب الحياء، وبالمروءة حتى ذهبت المروءة، وقد صاروا إلى الرغبة والرهبة وأحر بهما أن يذهبا. وقال بعضهم: دعا رجل علي بن ابي طالب رضي الله عنه إلى طعام، فقال: نأتيك على أن لا تتكلف لنا ما ليس عندك، ولا تدّخر عنا ما عندك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 وقال اخر: كان شيخ يأتي ابن المقفع، فالح عليه يسأله الغداء عنده وفي ذلك يقول: إنك تظن أني أتكلف لك شيئا؟ لا والله لا اقدم إليك إلا ما عندي. فلما أتاه إذ ليس عنده إلا كسرة يابسة وملح جريش. ووقف سائل بالباب فقال له: بورك فيك! فلما لم يذهب قال: والله لئن خرجت إليك لأدقن ساقيك! فقال ابن المقفع للسائل: إنك لو تعرف من صدق وعيده مثل الذي أعرف من وعده لم تراده كلمة، ولم تقف طرفة. قال: وكان يقال: أول العلم الصمت، والثاني الإستماع، والثالث الحفظ، والرابع العمل به، والخامس نشره. وقال آخر: كان يقال: لا وحشة أوحش من عجب، ولا ظهير أعون من مشورة، ولا فقر أشد من عدم العقل. وقال مورّق العجليّ: ضاحك معترف بذنبه، خير من باك مدلّ على ربه. وقال: خير من العجب بالطاعة، ألا تأتي الطاعة. وقال شبيب لأبي جعفر: إن الله لم يجعل فوقك أحدا، فلا تجعلنّ فوق شكرك شكرا. وقال آخر لأبي جعفر في أول ركبة ركبها: إن الله قد رأى ألا يجعل أحدا فوقك، فتر نفسك أهلا ألا يكون أحد أطوع لله منك. وسفه رجل على ابن له فقال له ابنه: والله لأنا أشبه بك منك بأبيك، ولأنت أشد تحصينا لأمي من أبيك لأمك. وقال عمرو بن عبيد لأبي جعفر: إن الله قد وهب لك الدنيا بأسرها، فاشر نفسك منه ببعضها. وقال الأحنف: ثلاثة لا أناة فيهن عندي. قيل: وما هن يا أبا بحر؟ قال: المبادرة بالعمل الصالح، وإخراج ميتك، وأن تنكح الكفء أيّمك. وكان يقول: لأفعى تحكّك في ناحية بيتي أحب إلي من أيّم رددت عنها كفئا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 وكان يقال: ما بعد الصواب إلا الخطأ، وما بعد منعهن من الأكفاء إلا بذلهن للسّفلة والغوغاء. وكان يقال: لا تطلبوا الحاجة إلى ثلاثة: إلى كذوب، فإنه يقربها وإن كانت بعيدة، ويباعدها وإن كانت قريبة. ولا إلى احمق، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك. ولا إلى رجل له إلى صاحب الحاجة حاجة، فإنه يجعل حاجتك وقاية لحاجته. وكان الأحنف بن قيس يقول: لا مروءة لكذوب، ولا سؤدد لبخيل، ولا ورع لسيىء الخلق. وقال الشعبي: عليك بالصدق حيث ترى أنه يضرك، فإنه ينفعك. واجتنب الكذب في موضع ترى أنه ينفعك، فإنه يضرك. وقالوا: لا تصرف حاجتك إلى من معيشته من رؤوس المكاييل، وألسنة الموازين. وقالوا: تفرد الله عز وجل بالكمال: ولم يبريء أحدا من النقصان. قالوا: وقال عامر بن الظّرب العدواني: «يا معشر عدوان، إن الخير أنوف عزوف، ولن يفارق صاحبه حتى يفارقه. وإني لم أكن حليما حتى اتبعت الحلماء، ولم أكن سيدكم حتى تعبدت لكم» . وقال الأحنف: «لأن أدعى من بعيد، أحبّ إلي من أن أقصى من قريب» . وكان يقال: إياك وصدر المجلس وإن صدّرك صاحبه، فإنه مجلس قلعة «1» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 قال: وقال زياد: ما أتيت مجلسا قط إلا تركت منه ما لو أخذته كان لي. وترك ما لي، أحب إلي من أخذ ما ليس لي. وقال الأحنف: ما كشفت أحدا عن حالي عنده إلا وجدتها دون ما كنت أظن. قال: وأثنى رجل على علي بن أبي طالب فأفرط، وكان علي له متهما، فقال: أنا دون ما تقول، وفوق ما في نفسك. قال: وكان يقال: خمس خصال تكون في الجاهل: الغضب في غير غضب، والكلام في غير نفع، والعطية في غير موضع، والثقة بكل أحد، وألا يعرف صديقه من عدوه. وأثنى أعرابي على رجل فقال: إن خيرك لسريح، وإن منعك لمريح، وإن رفدك لربيح. وقال سعيد بن سلم: كنت واليا بأرمينية، فغبر أبو دهمان الغلابي على بابي أياما، فلما وصل إلي مثل يدي قائما بين السّماطين وقال: «والله إني لأعرف أقواما لو علموا أن سفّ التراب يقيم من أود أصلابهم لجعلوه مسكة لأرماقهم، إيثارا للتنزه عن عيش رقيق الحواشي. أما والله إني لبعيد الوثبة، بطيء العطفة. وإنه والله ما يثنيني عليك إلا مثل ما يصرفني عنك. ولأن أكون مقلا مقربا أحب إلي من أن أكون مكثرا مبعدا. والله ما نسأل عملا لا نضبطه، ولا مالا إلا ونحن أكثر منه. وهذا الأمر الذي صار إليك وفي يديك، قد كان في يديّ غيرك، فأمسوا والله حديثا، إن خيرا فخير وإن شرا فشر. فتحبب إلى عباد الله بحسن البشر، ولين الجانب، فإن حبّ عباد الله موصول بحب الله، وبغضهم موصول ببغض الله، لأنهم شهداء الله على خلقه، ورقباؤه على من عاج عن سبيله» . ودخل عتبة بن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، على خالد ابن عبد الله القسري بعد حجاب شديد، وكان عتبة سخيا، فقال خالد يعرّض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 به: إن ها هنا رجالا يدّانون في أموالهم، فإذا فنيت أدانوا في أعراضهم. فعلم القرشي أنه يعرض به، فقال القرشي: أصلح الله الأمير، إن رجالا من الرجال تكون أموالهم أكثر من مروءاتهم، فأولئك تبقى لهم أموالهم، ورجالا تكون مروءاتهم أكثر من أموالهم، فإذا نفدت أدانوا على سعة ما عند الله! فخجل خالد وقال: إنك لمنهم ما علمت! قال: وقيل لعبد الله بن يزيد بن أسد بن كرز: هلا أجبت أمير المؤمنين إذ سألك عن مالك؟ فقال: إنه كان لا يعدو إحدى حالتين: إن استكثره حسدني، وإن استقلّه حقرني. أبو الحسن قال: وعظ عروة بنيه فقال: «تعلموا العلم فإنكم إن تكونوا صغار قوم فعسى أن تكونوا كبار قوم آخرين» . ثم قال: «الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم. وإذا رأيتم من رجل خلّة فاحذروه، واعلموا أن عنده لها أخوات» . قال: وقال رجل لرجل: هب لي دريهما. قال أتصغّره، لقد صغّرت عظيما، الدرهم عشر العشرة، والعشرة عشر المائة، والمائة عشر الألف، والألف عشر الدية. قال الأصمعي: خرجت بالدارميّ قرحة «1» في جوفه، فبزق بزقة خضراء، فقيل له: قد برأت، إذ قد بزقتها خضراء. قال: والله لو لم تبق في الدنيا زمردة خضراء إلا بزقتها لما نجوت. مرّ الوليد بن عبد الملك بمعلم صبيان فرأى جارية فقال: ويلك ما لهذه الجارية؟ فقال: أعلمها القرآن. قال: فليكن الذي يعلمها أصغر منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 إسحاق بن أيوب قال: هرب الوليد بن عبد الملك من الطاعون، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، إن الله يقول: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا . قال: ذلك القليل نريد. وهرب رجل من الطاعون إلى النجف، أيام شريح. فكتب إليه شريح: «أما بعد فإن الفرار لن يبعد أجلا، ولن يكثّر رزقا. وإن المقام لن يقّرب أجلا، ولن يقلل رزقا. وإن من بالنجف من ذي قدرة لقريب» . قالوا: ودخل على الوليد فتى من بني مخزوم، فقال له: زوجني ابنتك. فقال له: هل قرأت القرآن؟ قال: لا. قال أدنوه مني. فأدنوه فضرب عمامته بقضيب كان في يده، وقرع رأسه به قرعات، ثم قال لرجل: ضمّه إليك فإذا قرأ القرآن زوجناه. ولما استعمل يزيد بن أبي مسلم بعد الحجاج قال: أنا كمن سقط منه درهم فأصاب دينارا. وقال ليزيد بن أبي مسلم: قال أبي للحجاج: إنما أنت جلدة ما بين عيني! قال الوليد: يا يزيد، وأنا أقول: أنت جلدة وجهي كله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 [باب اللحن] ومع هذا أنه صعد المنبر فقال: علي بن أبي طالب لص ابن لص، صبّ عليه شؤبوب عذاب. فقال أعرابي كان تحت المنبر: ما يقول أميركم هذا؟! وفي قوله لص ابن لص أعجوبتان: أحداهما رميه علي بن أبي طالب أنه لص، والأخرى أنه بلغ من جهله ما لم يجهله أحد، إنه ضم اللام من لص. بكر بن عبد العزيز الدمشقي، قال: سمعت الوليد بن عبد الملك على المنبر، حين ولي الخلافة، وهو يقول: «إذا حدثتكم فكذبتكم فلا طاعة لي عليكم، وإذا وعدتكم فأخلفتكم فلا طاعة لي عليكم، وإذا أغزيتكم فجمّرتكم فلا طاعة لي عليكم» . فيقول مثل هذا الكلام ثم يقول لابيه: «يا أمير المؤمنين، اقتل ابي فديك» . وقال مرة أخرى: «يا غلام ردّ الفرسان الصادان عن الميدان» . قال: وقال عبد الملك: أضرّ بالوليد حبنا له، فلم نوجّهه إلى البادية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 قال: ولحن الوليد على المنبر فقال الكروّس: لا والله إن رأيته على هذه الأعواد قط فأمكنني أن أملأ عيني منه، من كثرته في عيني، وجلالته في نفسي. فإذا لحن هذا اللحن الفاحش صار عندي كبعض أعوانه. وصلّى يوما الغداة فقرأ السورة التي تذكر فيها الحاقة فقال: «يا ليتها كانت القاضية» ، فبلغت عمر بن عبد العزيز فقال: أما إنه إن كان قالها إنه لأحد الأحدين. قالوا: وكان الوليد ومحمد، ابنا عبد الملك، لحّانين، ولم يكن في ولده افصح من هشام ومسلمة. قال: وقال صاحب الحديث الأول: أخبرني أبي، عن إسحق بن قبيصة قال: كانت كتب الوليد تأتينا ملحونة، وكذلك كتب محمد، فقلت لمولى محمد: ما بال كتبكم تأتينا ملحونة وأنتم أهل الخلافة؟! فأخبره المولى بقولي، فإذا كتاب قد ورد عليّ: «أما بعد فقد أخبزني فلان بما قلت، وما أحسبك تشك أن قريشا أفصح من الأشعرين. والسلام» . ومن بني صريم: الصديّ بن الخلق، وفد به الحجاج على الوليد بن عبد الملك، فقال له: ممن أنت؟ قال: من بني صريم. قال له: ما اسمك؟ قال: الصديّ بن الخلق. قال: دعّا «1» في عنقه! خارجيّ خبيث! هذا يدل على أن عامة بن صريم كانوا خوارج، وكان منهم البرك الصريمي، واسمه الحجاج، وهو الذي ضرب معاوية بالسيف، وله حديث. والخزرج بن الصدي بن الخلق، كان خطيبا. وقال الشاعر في بني صريم: أصلي حيث تدركني صلاتي ... وبئس الدين دين بني صريم قياما يطعنون على معدّ ... وكلهم على دين الخطيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 والخطيم باهلي. قال الأصمعي وابو الحسن: دخل على الوليد بن عبد الملك شيخان، فقال احدهما: نجدك تملك عشرين سنة. وقال الآخر: كذبت بل نجده يملك ستين سنة. قال: فقال الوليد: ما الذي قال هذا لائط بصفري «1» ولا ما قال هذا يغر مثلي. والله لأجمعن المال جمع من يعيش ابدا، ولأفرقنه تفريق من يموت غدا. وخطب الوليد فقال: إن أمير المؤمنين عبد الملك كان يقول: إن الحجاج جلدة ما بين عيني، ألا وأنه جلدة وجهي كله. حدثنا عثّام ابو علي «2» عن الأعمش، عن عمارة بن عمير «3» ، قال: كان أبو معمر «4» يحدثنا فيلحن، يتبع ما سمع. أبو الحسن قال. أوفد زياد عبيد الله بن زياد إلى معاوية، فكتب إليه معاوية: «إن ابنك كما وصفت، ولكن قوّم من لسانه» . وكانت في عبيد الله لكنة، لأنه كان نشأ بالأساورة مع أمه «مرجانة» ، وكان زياد قد زوجها من شيرويه الأسواري. وكان قال مرة: «افتحوا سيوفكم» ، يريد سلّوا سيوفكم، فقال يزيد بن مفرّغ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 ويوم فتحت سيفك من بعيد ... أضعت وكلّ أمرك للضياع ولما كلّمه سويد بن منجوف في الهثهاث بن ثور، وقال له: يا ابن البضراء! قال له سويد: كذبت علي نساء بني سدوس. قال: إجلس على إست الأرض. قال سويد: ما كنت أحسب أن للأرض أستا!. قالوا: وقال بشر بن مروان، وعنده عمر بن عبد العزيز، لغلام له: ادع لي صالحا. فقال الغلام: يا صالحا. فقال له بشر: ألق منها ألف. قال له عمر: وأنت فزد في ألفك ألفا. وزعم يزيد مولى ابن عون، قال: كان رجل بالبصرة له جارية تسمى ظمياء، فكان إذا دعاها قال: يا ظمياء، بالضاد. فقال ابن المقفع: قل: يا ظمياء. فناداها: يا ضمياء. فلما غير عليه ابن المقفع مرتين أو ثلاثا قال له: هي جاريتي أو جاريتك؟ قال نصر بن سيار: لا تسم غلامك إلا باسم يخف على لسانك. وكان محمد بن الجهم ولى المكي صاحب النظام، موضعا من مواضع كسكر، وكان المكي لا يحسن أن يسمى ذلك المكان ولا يتهجّاه، ولا يكتبه، وكان اسم ذلك الموضع شانمثنا. وقيل لأبي حنيفة: ما تقول في رجل أخذ صخرة فضرب بها رأس رجل فقتله، أتقيده به؟ قال: لا ولو ضرب رأسه بأبا قبيس. وقال يوسف بن خالد السمتي، لعمرو بن عبيد: ما تقول في دجاجة ذبحت من قفائها؟ قال له عمرو: أحسن. قال: من قفاؤها. قال: أحسن قال: من قفاءها. قال عمرو: ما عناك بهذا؟ قل: من قفاها واسترح. قال: وسمعت يوسف بن خالد يقول: لا، حتى يشجه، بكسر الشين. يريد حتى يشجه، بضم الشين. وكان يوسف يقول: هذا أحمر من هذا. يريد: هذا أشد حمرة من هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 وقال بشر المريسي: «قضى الله لكم الحوائج على أحسن الوجوه وأهنؤها» ، فقال قاسم التمّار: هذا على قوله: إن سليمى والله يكلؤها ... ضنّت بشيء ما كان يرزؤها فصار احتجاج قاسم أطيب من لحن بشر. وقال مسلم بن سلام: حدثني أبان بن عثمان قال: كان زياد النبطي أخو حسان النبطي، شديد اللكنة، وكان نحويا. قال: وكان بخيلا، ودعا غلامه ثلاثا فلما أجابه قال: فمن لدن دأوتك إلى أن قلت لبي ما كنت تصنأ؟ يريد: من لدن دعوتك إلى أن أجبتني ما كنت تصنع. قال: وكانت أم نوح وبلال ابن جرير أعجمية، فقالا لها: لا تكلمي إذا كان عندنا رجال. فقالت يوما: يا نوح، جردان دخل في عجان امك؟ وكان الجرذ أكل من عجينها. قال أبو الحسن: أهدي إلى فيل مولى زياد حمار وحش، فقال لزياد: أهدوا لنا همار وهش. قال: أي شيء تقول ويلك؟ قال: أهدوا إلينا أيرا- يريد عيرا- قال زياد: الثاني شر من الأول. وقال يحيى بن نوفل: إن يك زيد فصيح اللسان ... خطيبا فإن استه تلحن عليك بسك ورمّانة ... وملح يدقّ ولا يطحن «1» وحلتيت كرمان والنانخاه ... وشمع يسخّن في مدهن وهذا الشعر في بعض معانيه يشبه قول ابن مناذر: إذا أنت تعلقت ... بحبل من أبي صّلت تعلقت بحبل وا ... هن القوة منبتّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 فخذ من شعر كيسان ... ومن أظفار سبّخت (1) ألم يبلغك تسآلي ... لدى العلامة ألبرت «1» وقال المرء ما سرجو ... يه داء المرء من تحت وقال البردخت: لقد كان في عينيك يا حفص شاغل ... وأنف كثيل العود عما تتّبع «2» تتبّع لحنا في كلام مرقش ... وخلقك مبني على اللحن أجمع فعينك أقواء وأنفك مكفأ ... ووجهك ايطاء فأنت مرقّع وقال الميساني في هجائه أهل المدينة: ولحنكم بتقعير ومدّ ... والأم من يدبّ على الغفار علي بن معاذ قال: كتبت إلى فتى كتابا، فأجابني فإذا عنوان كتابه: «إلى ذاك الذي كتب إلي» . وقرأت على عنوان كتاب إلى أبي أمية الشمري: «لأبي أمية للموت أنا قبله» . وكتب ابن المراكبي إلى بعض ملوك بغداد: «جعلت فداك برحمته» . وقال إبراهيم بن سيابة: أنا لا أقول متّ قبلك، لأني إذا قلت مت قبلك مات هو بعدي، ولكن أقول متّ بدلك. وكتب عقال بن شبّة بن عقال إلى المسيب بن زهير: للأمير المسيّب بن زهير ... من عقال بن شبة بن عقال ولما كتب بشير بن عبيد الله على خاتمه: بشير بن عبيد الل ... هـ بالرحمن لا يشرك وقرأ أبوه هذا البيت على خاتمه قال: هذا أقبح من الشرك. وقال عبد الملك بن مروان: اللحن هجنة على الشريف، والعجب آفة الرأي. وكان يقال: اللحن في المنطق أقبح من آثار الجدري في الوجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 وقال يحيى بن نوفل، في خالد بن عبد الله القسري: والحن الناس كلّ الناس قاطبة ... وكان يولع بالتشديق في الخطب وزعم المدائني أن خالد بن عبد الله قال: «إن كنتم رجبيون فإنّا رمضانيون» . ولولا أن تلك العجائب قد صحت عن الوليد ما جوزت هذا على خالد. قال: وكتب الحصين بن أبي الحر إلى عمر كتابا، فلحن في حرف منه، فكتب إليه عمر: أن قنّع «1» كاتبك سوطا. وبلغني عن كثيّر بن أحمد بن زهير بن كثير بن سيّار أنه كان ينشد بيت أبي دلف: ألبسيني الدرع قد طا ... ل عن الحرب جمامي «2» فسألته عن ذلك فحلف أنه إنما قال: ألبسيني الدرع قد طا ... ل عن الحرب جمامي قال الله تبارك وتعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ . واللحن في هذا الموضع غير اللحن في ذلك. وكان سليمان بن عبد الملك يقول: المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث «3» يفخم اللحن كما يفخم نافع بن جبير «4» الإعراب. وقال الشاعر في نحو ذلك: لعمري قد قعّبت حين لقيتنا ... وأنت بتقعيب الكلام جدير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 وقال خلف الأحمر: وفرقعهنّ بتقعيبه ... كفرقعة الرعد بين السحاب وقال الأصمعي: خاصم عيسى بن عمر النحوي الثقفي رجلا إلى بلال ابن ابي بردة، فجعل عيسى يتتبّع الأعراب، وجعل الرجل ينظر إليه، فقال له بلال: لأن يذهب بعض حق هذا أحب إليك من ترك الأعراب، فلا تتشاغل به واقصد لحجتك. وقدم رجل من النحويين رجلا إلى السلطان في دين له عليه فقال: أصلح الله الأمير، لي عليه درهمان. فقال خصمه: لا والله أيها الأمير إن هي إلا ثلاثة دراهم، ولكن لظهور الأعراب ترك من حقه درهما. قال: خاصم رجل إلى الشعبي أو إلى شريح رجلا فقال: إن هذا باعني غلاما فصيحا صبيحا. قال: هذا محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة. قال: مر ماسرجويه الطبيب، بجد معاذ بن سعيد بن حميد الحميري، فقال: يا ماسرجويه، إني أجد في حلقي بحجا. قال: إنه عمل بلغم. فلما جازه قال: أنا أحسن أن أقول بلغم، ولكنه كلمني بالعربية فكلمته بالعربية. وروى أبو الحسن إن الحجاج كان يقرأ: إنّا من المجرمون منتقمون. وقد زعم رؤبة بن العجاج أو أبوه العجاج وأبو عمرو بن العلاء، أنهما لم يريا قرويين أفصح من الحسن والحجاج. وغلط الحسن في حرفين من القرآن مثل قول: ص والقرآن. والحرف الآخر: وما تنزلت به الشياطون. أبو الحسن قال: كان سابق الأعمى يقرأ: الخالق البارىء المصوّر. فكان ابن جابان إذا لقيه قال: يا سابق، ما فعل الحرف الذي تشرك بالله فيه؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 قال: وقرأ ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا. قال ابن جابان: وإن آمنوا أيضا لم ننكحهم. وقال مسلمة بن عبد الملك: إني لأحب أن اسأل هذا الشيخ- يعني عمرو بن مسلم- فما يمنعني منه إلا لحنه. قال: وكان أيوب السختياني يقول: تعلموا النحو، فإنه جمال للوضيع، وتركه هجنة للشريف. وقال عمر رضي الله عنه: تعلموا النحو كما تعلّمون السّنن والفرائض. وقال رجل للحسن: يا أبي سعيد. فقال: أكسب الدوانيق شغلك عن أن تقول يا أبا سعيد؟ قالوا: وأوّل لحن سمع بالبادية: هذه عصاتي، وأول لحن سمع بالعراق: حيّ على الفلاح. ومن اللحانين البلغاء خالد بن عبد الله القسري، وخالد بن صفوان الأهتميّ، وعيسى بن المدوّر. وقال بعض النساك: أعربنا في كلامنا فما نلحن، ولحنا في اعمالنا فما نعرب. وقال: أخبرني الربيع بن عبد الرحمن السّلمي قال: قلت لأعرابي: أتهمز اسرائيل؟ قل: إني إذا لرجل سوء. قال: قلت: أفتجر فلسطين؟ قال: إني إذا لقويّ. وكان هشيم يقول: حدثنا يونس عت الحسن. يقولها بفتح الياء وكسر النون. وكان عبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي يقول: فأخذه فصرعه فذبحه فأكله، بكسر هذا أجمع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 وكان مهدي بن هليل يقول: حدثنا هشام، مجزومة، ثم يقول ابن ويجزمه، ثم يقول حسان ويجزمه، لأنه حين لم يكن نحويا رأى السلامة في الوقف. وأما خالد بن الحارث، وبشر بن المفضل الفقيهان، فإنهما كانا لا يلحنان. وممن كان لا يلحن البتة حتى كأن لسانه لسان أعرابي فصيح: أبو زيد النحوي، وابو سعيد المعلم. وقال خلف: قلت لأعرابي: ألقي عليك بيتا؟ قال: على نفسك فألقه! وقال ابو الفضل العنبري لعلي بن بشير إني التقطت كتابا من الطريق فأنبئت إن فيه شعرا أفتريده حتى آتيك به؟ قال: نعم، إن كان مقيّدا. قال: والله ما أدري أمقيد هو أم مغلول. الأصمعي قال: قيل لأعرابي: أتهمز الرمح؟ قال: نعم. قيل له: فقلها مهموزة. فقالها مهموزة. قيل له: أتهمز الترس؟ قال: نعم. فلم يدع سيفا ولا ترسا إلا همزه. فقال له أخوه وهو يهزأ به: دعوا أخي فإنه يهمز السلاح أجمع. وقال بعضهم: ارتفع إلى زياد رجل وأخوه في ميراث، فقال: إن أبونا مات، وإن أخينا وثب على مال أبانا فأكله. فأما زياد فقال: الذي أضعت من لسانك أضرّ عليك مما أضعت من مالك. وأما القاضي فقال: فلا رحم الله أباك، ولا نيّح عظم أخيك! قم في لعنة الله! وقال ابو شيبة قاضي واسط: أتيتمونا بعد إن أردنا أن نقم. قد ذكرنا- أكرمك الله- في صدر هذا الكتاب من الجزء الأول وفي بعض الجزء الثاني، كلاما من كلام العقلاء البلغاء، ومذاهب من مذاهب الحكماء والعلماء، وقد روينا نوادر من كلام الصبيان والمحرّمين «1» من الأعراب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 ونوادر كثيرة من كلام المجانين وأهل المرّة «1» من الموسوسين، ومن كلام أهل الغفلة من النوكى، وأصحاب التكلف من الحمقى، فجعلنا بعضها في باب الاتعاظ والاعتبار، وبعضها في باب الهزل والفكاهة. ولكل جنس من هذا موضع يصلح له. ولا بد لمن استكدّه الجد من الاستراحة إلى بعض الهزل. قال أبو عبيدة: أرسل ابن لعجل بن لجيم فرسا له في حلبة، فجاء سابقا، فقال لأبيه: يا أبه، بأي شيء اسميه؟ فقال: أفقأ إحدى عينيه، وسمه الأعور. وشعراء مضر يحمّقون رجال الأزد ويستخفون أحلامهم. قال عمر بن لجأ: تصطكّ ألحيها على دلائها ... تلاطم الأزد على عطائها وقال بشار: وكأنّ غلي دنانهم في دورهم ... لغط العتيك على خوان زياد وقال الراجز: لبّيك بي أرفل في بجادي ... حازم حقويّ وصدري باد «2» أفرّج الظلماء عن سوادي ... أقوى لشول بكرت صواد كأنما أصواتها بالوادي ... أصوات حجّ من عمان غاد وقال الآخر في نحوه: فإذا سمعت هديلهن حسبته ... لغط المقاول في بيوت هداد وبسبب هذا يدخلون في المعنى قبائل اليمانية. وقال ابن أحمر: أخالها سمعت عزفا فتحسبه ... أهابة القسر ليلا حين تنتشر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 وقال الكميت: كأن الغطامط من غليها ... أراجيز أسلم تهجو غفارا «1» فجعل الأراجيز التي شبهها في لغطها والتفافها بصوت غليان القدر، لأسلم دون غفار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 باب النّوكى قال: ومن النّوكى مالك بن زيد مناة بن تميم، الذي لما أدخل على امرأته فرأت ما رأت من الجفاء والجهل، وجلس في ناحية منقبضا مشتملا، قالت: ضع علبتك. قال: يدي احفظ لها. قالت: فاخلع نعليك. قال: رجلاي احفظ لهما. قالت له: فضع شملتك. قال: ظهري أولى بها. فلما رأت ذلك قامت فجلست إلى جنبه. فلما شم ريح الطيب وثب عليها. ومن المجانين والموسوسين والنوكى: ابن قنان، وصبّاح الموسوس، وديسيموس اليوناني، وأبو حيّة النميري «1» ، وأبويس الحاسب، وجعيفران «2» الشاعر، وجرنفش. ومنهم سارية الليل. ومنهم ريطة بنت كعب بن سعد بن تيم ابن مرّة، وهي التي نقضت غزلها انكاثا، فضرب الله تبارك وتعالى بها المثل، وهي التي قيل لها: «خرقاء وجدت صوفا» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 ومنهم دغة «1» ، وجهيزة «2» ، وشولة، ودرّاعة القديد المعدّيّة. ولكل واحد من هؤلاء قصة سنذكرها في موضعها، إن شاء الله. فأما ديسيموس فكان من موسوسي اليونانيين، قال له قائل: ما بال ديسيموس يعلم الناس الشعر ولا يستطيع قوله؟ قال: مثله مثل المسن الذي يشحذ ولا يقطع. ورآه رجل وهو يأكل في السوق فقال: ما بال ديسيموس يأكل في السوق؟ فقال: إذا جاع في السوق أكل في السوق. وألح عليه رجل بالشتيمة وهو ساكت؟ فقال: أرأيت إن نبحك كلب أتنبحه، وإن رمحك حمار أترمحه؟ وكان إذا خرج مع الفجر يريد الفرات ألقى في دوارة بابه حجرا، حتى لا يعاني دفع بابه إذا رجع. وكان كلما رجع إلى بابه وجد الحجر مرفوعا والباب منصفقا، فعلم أن أحدا يأخذ الحجر من مكانه، فكمن لصاحبه يوما، فلما رآه قد أخذ الحجر قال: مالك تأخذ ما ليس لك؟ قال: لم أعلم أنه لك. قال: فقد علمت أنه ليس لك. وأما جعيفران الموسوس الشاعر، فشهدت رجلا أعطاه درهما وقال له قل شعرا على الجيم. فأنشأ يقول: عادني الهمّ فاعتلج ... كلّ هم إلى فرج سلّ عنك الهموم بالكا ... س وبالراح تنفرج وهي أبيات. وكان يتشيع، فقال له قائل: أتشتم فاطمة وتأخذ درهما؟ قال: لا بل أشتم عائشة وآخذ نصف درهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 وهو الذي يقول: ما جعفر لأبيه ... ولا له بشبيه أضحى لقوم كثير ... فكلهم يدّعيه فذا يقول بنيّي ... وذا يخاصم فيه والأم تضحك منهم ... لعلمها بأبيه وهو الذي يقول في قوم لاطة: كأنهم والأيور عامدة ... صياقل في جلاية النّصل وأما أبو يس الحاسب فإن عقله ذهب بسبب تفكره في مسألة، فلما جنّ كان يهذي بأنه سيصير ملكا وقد ألهم ما يحدث في الدنيا من الملاحم. وكان أبو نواس والرّقاشي يقولان على لسانه أشعارا، على مذاهب اشعار ابن عقب الليثي، ويرويانها أبا يس، فإذا حفظها لم يشك أنه الذي قالها. فمن تلك الأشعار قول ابي نواس: منع النوم أدّكاري زمنا ... ذا تهاويل وأشياء نكر واعتراك الروم في معمعة ... ليس فيها لجبان من مقرّ كائنات ليس عنها مذهب ... خطها يوشع في كتب الزّبر وعلامات ستأتي قبله ... جمة أولها سكر النّهر ويليهم رجل من هاشم ... أقنص الناس جميعا للحمر يبتني في الصحن من مسجدهم ... للمصلين من الشمس ستر ورجاء يبتني مطهرة ... ضخمة في وسطها طست صفر فهناكم حين يفشو أمركم ... وهناكم ينزل الأمر النكر فاتبعوه حيث ما سار بكم ... أيها الناس وإن طال السفر ودعوا، بالله، أن تهزوا به ... لعن الرحمن من منه سخر والبصريون يزعمون أن أبا يس كان أحسب الناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 وأما أبو حيّة النميري فإنه كان أجنّ من جعيفران، وكان أشعر الناس. وهو الذي يقول: ألا حيّ أطلال الرسوم البواليا ... لبسن البلى مما لبسن اللياليا وفي هذه القصيدة يقول: إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة ... تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا وهو الذي يقول: فأرخت قناعا دونه الشمس واتقت ... بأحسن موصولين كف ومعصم وحدثني أبو المنجوف قال: قال أبو حية: عنّ لي ظبي فرميته، فراغ عن سهمي، فعارضه والله السهم، ثم راغ فراوغه حتى صرعه ببعض الخبارات «1» . وقال: رميت والله ظبية، فلما نفذ السهم ذكرت بالظبية حبيبة لي، فشددت وراء السهم حتى قبضت على قذذه «2» . وكان يكلم العمّار، ويخبر عن مفاوضته للجن «3» . وأما جرنفش فإنه لما خلع الفرزدق لجام بغلته، وأدنى رأسها من الماء قال له جرنفش: نحّ بغلتك حلق الله ساقيك! قال: ولم عافاك الله؟ قال: لأنك كذوب الحنجرة، زاني الكمرة! قال ابو الحسن: وبلغني أن الفرزدق لما أن قال له الجرنفش ما قال نادى: يا بني سدوس. فلما اجتمعوا إليه قال: سودوا الجرنفش عليكم، فإني لم أر فيكم أعقل منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 ومن مجانين الكوفة: عيناوة، وطاق البصل. حدثني صديق لي قال: قلت لعيناوة: أيما أجن، أنت أو طاق البصل؟ قال: أنا شيء وطاق البصل شيء! ومن مجانين الكوفة بهلول، وكان يتشيع، فقال له اسحاق بن الصياح: أكثر الله في الشيعة مثلك. قال: بل أكثر الله في المرجئة مثلي، وأكثر في الشيعة مثلك. وكان جيّد القفا، فربما مر به من يحب العبث فيقفده «1» ، فحشا قفاه خراء، وجلس على قارعة الطريق فكلما قفده إنسان تركه حتى يجوز، ثم يصيح به: يا فتى شم يدك! فلم يعد بعدها أحد يفقده. وكان يغني بقيراط ويسكت بدانق. وكانت بالكوفة امرأة رعناء يقال لها مجيبة، فقفد بهلولا فتى كانت مجيبة أرضعته، فقال له بهلول: كيف لا تكون أرعن وقد أرضعتك مجيبة؟ فوالله لقد كانت تزق لي الفرخ فأرح الرعونة في طيرانه! قال: وحدثني حجر بن عبد الجبّار قال: مرّ موسى بن أبي الرّوقاء، فناداه صبّاح الموسوس: يا ابن ابي الروقاء! أسمنت برذونك، وأهزلت دينك، أما والله إن أمامك لعقبة لا يجاوزها إلا المخف! فحبس موسى برذونه وقال: من هذا؟ فقيل له: هذا صباح الموسوس. فقال ما هو بموسوس، هذا نذير. قال أبو الحسن: دعا بعض السلاطين مجنونين ليحركهما فيضحك مما يجيء منهما فلما أسمعاه وأسمعهما غضب ودعا بالسيف، فقال أحدهما لصاحبه: كنا مجنونين فصرنا ثلاثة! وقال عمر بن عثمان «2» : شيعت عبد العزيز بن المطلب المخزومي وهو قاضي مكة، إلى منزله، وبباب المسجد مجنونة تصفق وتقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 أرّق عيني ضراط القاضي ... هذا المقيم ليس ذاك الماضي فقال: يا أبا حفص، أتراها تعني قاضي مكة؟ قال: وتذكروا اللثغ فقال قوم: أحسن اللثغ ما كان على السين، وهو أن تصير ثاء. وقال آخرون: على الراء، وهو أن تصير غينا. فقال مجنون البكرات: أنا أيضا ألثغ، إذا أردت أن أقول شريط قلت: رشيط. قال: وبعث عبيد الله بن مروان، عمّ الوليد، إلى الوليد بقطيفة حمراء، وكتب إليه: «إني بعثت إليك بقطيفة حمراء حمراء» . فكتب إليه الوليد: «قد وصلت إلي القطيفة، وأنت يا عم أحمق أحمق» . وقال محمد بن بلال لوكيله دبة: اشتر لي طيبا سيرافيا. قال: تريده سيرافي، أو سيرافي سيرافي؟ وقال محمد بن الجهم للمكي: إني أراك مستبصرا في اعتقاد الجزء الذي لا يتجزأ، فينبغي أن يكون عندك حقا حقا. قال: أما أن يكون عندي حقا حقا فلا، ولكنه عندي حق. ودخل أبو طالب، صاحب الطعام، على هاشمية جارية حمدونة بنت الرشيد، على أن يشتري طعامها في بعض البيادر، فقال لها: إني قد رأيت متاعك. قالت هاشمية: قل طعامك. قال: وقد أدخلت يدي فيه، فإذا متاعك قد خم وحمي وقد صار مثل الجيفة، قالت: يا أبا طالب، الست قلبت الشعير، فأعطنا ما شئت وإن وجدته فاسدا. ودخل أبو طالب على المأمون فقال: كان أبوك يا أبا، خيرا لنا منك. وأنت يا أبا، ليس تعدنا ولا تبعث إلينا، ونحن يا أبا، تجارك وجيرانك. والمأمون في كل ذلك يبتسم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 وقيل للمثنى بن يزيد بن عمر بن هبيرة، وهو على اليمامة: إن هاهنا مجنونا له نوادر. فأتوه به فقال: ما هجاء النشّاش «1» ؟. فقال: الفلج العادي «2» فغضب ابن هبيرة وقال: ما جئتموني به إلا عمدا، ما هذا بمجنون. والنشاش: يوم كان لقيس على حنيفة، والفلج: يوم كان لحنيفة على قيس. وأنشدوا ترى القوم أسواء إذا جلسوا معا ... وفي القوم زيف مثل زيف الدراهم وقال: فتى زاده عزّ المهابة ذلة ... وكلّ عزيز عنده متواضع وقال: قد ينفع الأدب الأحداث في مهل ... وليس ينفع بعد الكبرة الأدب إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ... ولن تلين إذا قومتها الخشب قال جعفر بن أخت واصل: كتب رجل إلى صديق له: «بلغني أنّ في بستانك أشياء تهمني، فهب لي منه أمرا من أمر الله عظيما» . وقال أبو عبد الملك، وهو الذي كان يقال له عناق: كان عيّاش وثمامة حيّ يعظّمني تعظيما ليس في الدنيا مثله. وقال له عيّاش بن القاسم: بأي شيء تزعمون أن أبا علي الأسواري أفضل من سلّام أبي المنذر «3» ؟ قال: لأنه لما مات سلام ابو المنذر ذهب أبو علي في جنازته، فلما مات أبو علي لم يذهب سلام في جنازته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 وكان يقول: فيك عشر خصال من الشر. فأما الثانية كذا، وأما الرابعة كذا، وأما السابعة كذا، وأما العاشرة كذا. قال: وقلنا للفقعسي: كيف ثناؤك على حمدان بن حبيب؟ فقال: هو والله الكذا الكذا. وقال الخرداذي: آجركم الله وأعظم أجركم وأجركم. فقيل له ذلك فقال: هذا كما قال عثمان بن الحكم: بارك الله لكم وبارك عليكم وبارك فيكم. قالوا له: ويلك: إن هذا لا يشبه ذلك. وكتب إلى بعض الأمراء: «أبقاك الله، وأطال بقاءك، وما في عمرك» . وكان أبو إدريس السمان يقول: «وأنت فلا صبحك الله إلا بالخير» ويقول: «وأنتم فلا حيا الله وجهكم إلا بالسلام، وأنتم فلا بيتكم الله إلا بالخير» . ومر ابن ابي علقمة، فصاح به الصبيان فهرب منهم، وتلقاه شيخ عليه ضفيرتان، فقال له: (يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض) . وقال المهلب لرجل من بني ملكان، أحد بني عدي: متى أنت؟ قال: أيام عتيبة بن الحارث بن شهاب. واقبل على رجل من الأزد فقال: متى أنت؟ فقال: أكلت من حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عامين. فقال له المهلب: أطعمك الله لحمك! وأنشدني المعيطي: وأنزلني طول النوى دار غربة ... إذا شئت لاقيت الذي لا أشاكله فحامقته حتى يقال سجية ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله قالوا: وخطب عتّاب بن ورقاء فحث على الجهاد، فقال: هذا كما قال الله تبارك وتعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جرّ الذيول وخطب والي اليمامة فقال: «إن الله لا يقارّ عباده على المعاصي، وقد أهلك الله أمة عظيمة في ناقة ما كانت تساوي مائتي درهم» ، فسم مقوم ناقة الله. وهؤلاء الجفاة والأعراب المحّرمون، وأصحاب العجرفية، ومن قل فقهه في الدين، إذا خطبوا على المنابر فكأنهم في طباع أولئك المجانين. وخطب وكيع بن أبي سود بخراسان، فقال: «إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أشهر» فقيل له: إنها ستة أيام. قال: وابيك لقد قلتها وإني لأستقلها! وصعد المنبر فقال: إن ربيعة لم تزل غضابا على الله مذ بعث الله نبيه في مضر، ألا وإن ربيعة قوم كشف «1» ، فإذا رأيتموهم فاطعنوا الخيل في مناخرها، فإن فرسا لم يطعن في منخره إلا كان أشد على فارسه من عدوه. وضربت بنو مازن الحتات بن يزيد المجاشعي، فجاءت جماعة منهم، فيهم غالب أبو الفرزدق، فقال: يا قوم، كونوا كما قال الله: لا يعجز القوم إذا تعاونوا. وتزعم بنو تميم أن صبرة بت شيمان قال في حرب مسعود والأحنف: إن جاء حثّاث جئت، وإن جاء الأحنف جئت، وإن جاء جارية جئت، وإن جاءوا جئنا، وإن لم يجيئوا لم نجيء. وهذا باطل، قد سمعنا لصبرة كلاما لا ينبغي أن يكون صاحب ذلك الكلام يقول هذا الكلام. ولما سمع الأحنف فتيان بني تميم يضحكون من قول العرندس: لحا الله قوما شووا جارهم ... إذا الشاة بالدرهمين الشّصب أرى كل قوم رعوا جارهم ... وجار تميم دخان ذهب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 قال: أتضحكون؟ أما والله إن فيه لمعنى سوء. قال: وكان قبيصة يقول: رأيت غرفة فوق البيت. ورأى جرادا يطير فقال: لا يهولنكم ما ترون، فإن عامتها موتى. وإنه في أول ما جاء الجراد قبّل جرادة ووضعها على عينيه، على أنها من الباكورة. وهذه الأشياء ولدها الهيثم بن عدي، عند صنيع داوود بن يزيد «1» في أمر تلك المرأة ما صنع. قال أبو الحسن: وتغدى أبو السرايا عند سليمان بن عبد الملك، وهو يومئذ ولي عهد، وقدامه جدي، فقال: كل من كليته فإنها تزيد في الدماغ. فقال: لو كان هذا هكذا، لكان رأس الأمير مثل رأس البغل. وقال أبو كعب: كنا عند عياش بن القاسم، ومعنا سيفويه القاص، فأتينا بفالوذجة حارة، فابتلع منها سيفويه لقمة فغشي عليه من شدة حرها، فلما أفاق قال: لقد مات لي ثلاثة بنين ما دخل جوفي عليهم من الحرقة ما دخل جوفي من حرقة هذه اللقمة!. سعيد بن أبي مالك قال: جالسني رجل، فغبر «2» لا يكلمني ساعة، ثم قال لي: جلست قط على رأس تنور فخريت فيه آمنا مطمئنا؟ قال: قلت: لا. قال: فإنك لم تعرف شيئا من النعيم قط. قال: وقال هشام بن عبد الملك ذات يوم لجلسائه: أي شيء ألذ؟ قال الأبرش بن حسان: هل أصابك جرب قط فحككته؟ قال: مالك! أجرب الله جلدك، ولا فرّج الله عنك! وكان آنس الناس به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 ومن غرائب الحمق: المذهب الذي ذهب إليه الكميت بن زيد، في مديح النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث يقول: فاعتتب الشوق من فؤادي والشع ... ر إلى من إليه معتتب إلى السراج المنير أحمد لا ... تعدلني رغبة ولا رهب عنه إلى غيره ولو رفع الن ... اس إليّ العيون وارتقبوا وقيل أفرطت بل قصدت ولو ... عنفني القائلون أو ثلبوا إليك يا خير من تضمنت الأر ... ض ولو عاب قولي العيب لج بتفضيلك اللسان ولو ... أكثر فيك الّلجاج واللجب فمن رأى شاعرا مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم فاعترض عليه واحد من جميع أصناف الناس، حتى يزعم هو أناسا يعيبونه ويثلبونه ويعنفونه؟! ولقد مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم، فما زاد على قوله: وبورك قبر أنت فيه وبوركت ... به وله أهل بذلك يثرب يعني قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم. ويثرب، يعني المدينة. لقد غيبوا برّا وحزما ونائلا ... عشية واراه الصفيح المنصّب وهذا شعر يصلح في عامة الناس. وكتب مسلمة بن عبد الملك، إلى يزيد بن المهلب: إنك والله ما أنت بصاحب هذا الأمر، صاحب هذا الأمر مغمور موتور وأنت مشهور غير موتور. فقال له رجل من الأزد يقال له عثمان بن المفضل: قدم ابنك مخلدا حتى يقتل فتصير موتورا. وقال: جاء ابن لجديع بن علي وكان ابن خال ليزيد بن المهلب، فقال ليزيد: زوجني بعض ولدك. فقال له عثمان بن المفضل: زوجه ابنك مخلدا، فإنه إنما طلب بعض الولد ولم يستثن شيئا. ومن الحمقى كثيّر عزّة. ومن حمقه أنه دخل على عبد العزيز بن مروان، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 فمدحه بمديح استجاده، فقال له: سلني حوائجك. قال: تجعلني في مكان ابن رمانة. قال: ويلك، ذاك رجل كاتب وأنت شاعر! فلما خرج ولم ينل شيئا قال في ذلك: عجبت لأخذي خطة الغي بعدما ... تبين من عبد العزيز قبولها فإن عاد لي عبد العزيز بمثلها ... وأمكنني منها إذا لا أقيلها قال ابو الحسن: قال طارق: قال ابن جابان: لقي رجل رجلا ومعه كلبان، فقال له: هب لي أحدهما. قال: أيهما تريد؟ قال: الأسود. قال: الأسود أحب إلي من الأبيض! قال: فهب لي الأبيض. قال: الأبيض أحب إلي من كليهما. قال: قال رجل لرجل: بكم تبيع الشاة؟ قال: أخذتها بستة، وهي خير من سبعة، وقد أعطيت بها ثمانية، فإن كانت حاجتك بتسعة فزن عشرة. قال أبو الحسن: قال طارق بن المبارك: دخل رجل على بلال فكساه ثوبين، فقال: كساني الأمير ثوبين، فاتزرت بالآخر، وارتديت بالآخر. قال: ومرض فتى عندنا فقال له عمّه: أي شيء تشتهي؟ قال: رأس كبشين. قال: لا يكون! قال: فرأسي كبش! طارق قال: وقع بين جار لنا وجار له يكنى أبا عيسى، كلام، فقال: اللهم خذ مني لأبي عيسى. قالوا: أتدعو الله على نفسك؟ قال: فخذ لأبي عيسى مني. أبو زكريا العجلاني، قل: دخل عمرو بن سعيد على معاوية وهو ثقيل، فقال: كيف أصبحت يا أمير المؤمنين؟ قال: أصبحت صالحا. قال: أصبحت عينك غائرة، ولونك كاسفا، وانفك ذابلا، فاعهد عهدك ولا تخدعن عن نفسك. قال: وقال عبيد الله بن زياد بن ظبيان التيمي: يرحم الله عمر بن الخطاب، كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من الزانيات، وأبناء الزانيات! فقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 عبيد الله بن زياد ابن أبيه: يرحم الله عمر كان يقول: لم يقم جنين في بطن حمقاء تسعة أشهر إلا خرج مائقا! وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقولون: «كونوا بلها كالحمام» . وقال آخر: حماقة صاحبي عليّ أشد ضررا منها عليه. وقالوا: شرد بعير لهبنّقة القيسي- وبجنونه يضرب المثل- فقال: من جاء به فله بعيران. فقيل له: أتجعل في بعير بعيرين؟ فقال: إنكم لا تعرفون فرحة الوجدان. واسمه يزيد بن ثروان، وكنيته ابو نافع. وقال الشاعر: عش بجد ولا يضرّك نوك ... إنما عيش من ترى بالجدود عش بجد وكن هبنقة القي ... سي نوكا أو شيبة بن الوليد وهبنقة هو يزيد بن ثروان، أحد بني قيس بن ثعلبة. ولما خلع قتيبة بن مسلم سليمان بن عبد الملك بخراسان، قام خطيبا فقال: «يا أهل خراسان، أتدرون من وليّكم؟ إنما وليكم يزيد بن ثروان» . كني به عن هبنّقة. وذلك أن هبنقة كان يحسن من ابله إلى السمان ويدع المهازيل، ويقول: إنما أكرم الله واهين من أهان الله. وكذلك كان سليمان يعطي الأغنياء ولا يعطي الفقراء، ويقول: أصلح ما أصلح الله، وأفسد ما أفسد الله. وقال الفرزدق: ما عييت بجواب أحد قط ما عييت بجواب مجنون بدير هزقل، دخلت إليه فإذا هو مشدود إلى أصطوانة، فقلت بلغني أنك حاسب. قال: ألق علي ما شئت قال: فقلت امسك معك خمسة وجلدتها. قال: نعم. قلت: وامسك أربعة وجلدتها. قال: نعم. قلت: كم معك؟ قال: تسعة وجلدتها مرتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 وكان زريق الفزاريّ يمر بالليل وهو شارب، فيشتم أهل المجلس، فلما أن كان بالغداة عاتبوه، قال: نعم، زنيت أمهاتكم فماذا عليكم؟ قالوا: وخطب يوما عتاب بن ورقاء فقال: هذا كما قال الله تبارك وتعالى: «إنما يتفاضل الناس عما لهم، وكل ما هو آت قريب» . قالوا له: إن هذا ليس من كتاب الله! قال: ما ظننت إلا أنه من كتاب الله. قال: وخطب عدي بن وتّاد الأيادي فقال: أقول كما قال العبد الصالح: (ما رأيكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) . قالوا له: ليس هذا من قول عبد صالح، إنما هو من قول فرعون. قال: ومن قاله فقد أحسن! وقال أعرابي: خلق السماء وأهلها في جمعة ... وأبوك يمدر حوضه في عام «1» وقالوا: وكان عبد الملك بن مروان أول خليفة من بني أمية منع الناس من الكلام عند الخلفاء، وتقدّم فيه وتوعّد عليه، وقال: إن جامعة عمرو بن سعيد بن العاصي عندي، وإني والله لا يقول أحد هكذا إلا قلت به هكذا. وفي خطبة له أخرى: إني والله ما أنا بالخليفة المستضعف (وهو يعني عثمان بن عفان رحمه الله) ، ولا أنا بالخليفة المداهن (يعني معاوية) ، ولا أنا بالخليفة المأبون (يعني يزيد بن معاوية) . قال أبو اسحاق: والله لولا نسبك من هذا المستضعف، وسببك من هذا المداهن، لكنت منها أبعد من العيّوق «2» . والله ما أخذتها من جهة الميراث ولا من جهة السابقة، ولا من جهة القرابة، ولا تدعي شورى ولا وصية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 قال أبو الحسن: دخل كردم السدوسي، على بلال بن أبي بردة فدعاه إلى الغداء فقال: قد أكلت. قال: وما أكلت؟ قال: قليل أرز فأكثرت منه. ودخل كردم الذرّاع أرض القوم يذرعها، فلما انتهى إلى زنقة «1» لم يحسن أن يذرعها، قال: هذه ليست لكم! قالوا: هي لنا ميراث وما ينازعنا فيها إنسان قط. قال: لا والله ما هي لكم، قالوا: فحصل لنا حساب ما لا تشك فيه. قال: عشرون في عشرين مائتان، قالوا: من أجل هذا الحساب صارت الزنقة ليست لنا؟. قالوا: ودخل عكابة بن نميلة النميري دار بلال بن أبي بردة، فرأى ثورا مجلّلا، فقال: ما أفرهه من بغل لولا أن حوافره مشقوقة. ومن النوكى، وممن ربما عدوه من المجانين: ابن قنان الأزديّ، وضرب به المثل ابن ضب العتكي، في قوله لجديع بن علي، خال يزيد بن المهلب حيث يقول: لولا المهلب يا جديع ورسله ... تغدو عليك لكنت كابن قنان أنت المردد في الجياد وإنما ... تأتي سكيتا كلّ يوم رهان «2» وقال آخر يهجو امرأة بأنها مضياع خرقاء: وإن بلائي من رزينة كلما ... رجوت انتعاشا أدركتني بعاثر تبرّد ماء السعن في ليلة الصبا ... وتستعمل الكركور في شهر ناجر «3» قال أبو الحسن: قال الشعبيّ: سايرت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف «4» وكان بيني وبين ابي الزّناد «5» ، فقال: بينكما عغلم أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 المدينة. فسألته امرأة عن مسألة فأخطأ فيها. وقال طرفة بن العبد يهجو قابوس بن هند الملك: لعمرك إن قابوس بن هند ... ليخلط ملكه نوك كثير قسمت الدهر في زمن رخيّ ... كذاك الحكم يقصد أو يجور لنا يوم وللكروان يوم ... تطير البائسات وما نطير فأما يومنا فنظلّ ركبا ... وقوفا ما نحلّ وما نسير وأما يومهن فيوم بؤس ... يطاردهنّ بالحدب الصقور الفلوشكيّ قال: قلت لأعرابي: أي شيء تقرأ في صلاتك؟ قال: أم الكتاب، ونسبة الرب، وهجاء أبي لهب. وكان الفلوشكي البكراوي أجنّ الناس وأعيا الخلق لسانا، وكان شديد القمار، شديد اللعب بالودع. قال ابن عم له: وقفت على بقية تمر في بيدر لي، فأردت أن أعرفه بالحزر، ومعنا قوم يجيدون الخرص «1» ، وقد قالوا فيها واختلفوا، فهجم علينا الفلوشكي فقلت له: كم تحزر هذا التمر؟ قال: أنا لا أعرف الأكرار «2» وحساب القفران، ولكن عندي مرجل أطبخ فيه تمر نبيذي، وهو يسع مكوكين «3» ، وهذا التمر يكون فيه مائتين وستين مرجلا. قال: فلا والله إن أخطأ بفيز واحد. قالوا: وقال المهلب يوما والأزد حوله: أرأيتم قول الشاعر: إذا غزر المحالب أتأقته ... يمجّ على مناكبه الثّمالا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 وإلى جنب غيلان بن خرشة شيخ من الأزذ، فقال له: قل لبن الفحل. فقالها. فقال المهلب: ويلكم، أما جالستم الناس؟! وأنشد بعض أصحابنا: ألكني إلى مولى أكيمة وانهه ... وهل ينتهي عن أول الزجر أحمق وزعم الهيثم بن عدي عن رجاله، إن أهل يبرين أخف بني تميم أحلاما، وأقلهم عقولا. قال الهيثم: ومن النوكى: عبيد الله بن الحر، وكنيته ابو الأشوش. قال الهيثم: خطب قبيصة، وهو خليفة ابيه على خراسان وأتاه كتابه، فقال: هذا كتاب الأمير، وهو والله أهل لأن أطيعه، وهو أبي وأكبر مني. وكان فيما زعموا ابن لسعيد الجوهري يقول: صلّى الله تبارك وتعالى على محمد صلّى الله عليه وسلّم. قال ابو الحسن: صعد عديّ بن أرطأة على المنبر، فلما رأى جماعة الناس حصر فقال: الحمد لله الذي يطعم هؤلاء ويسقيهم! وصعد روح بن حاتم المنبر، فلما رآهم قد شفنوا أبصارهم «1» وفتحوا أسماعهم نحوه، قال: «نكسوا رؤوسكم، وغضوا أبصاركم، فإن المنبر مركب صعب، وإذا يسّر الله فتح قفل تيسر» . قالوا: وصعد عثمان بن عفان، رحمه الله المنبر فأرتج عليه فقال: «إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى خطيب» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 قال: وقالوا لزياد الأعجم: لم لا تهجو جريرا؟ أليس الذي يقول: كأن بني طهيّة رهط سلمى ... حجارة خارىء يرمي الكلابا قالوا: بلى. قال: ليس بيني وبين هذا عمل. قال أبو الحسن: خطب مصعب بن حيّان أخو مقاتل بن حيان، خطبة نكاح، فحصر فقال: لقنوا موتاكم قول لا إله إلا الله. فقالت أم الجارية عجل الله موتك ألهذا دعوناك؟! وخطب أمير المؤمنين الموالي- وهكذا لقبه- خطبة نكاح، فحصر فقال: اللهم إنّا نحمدك ونستعينك، ونشرك بك. وقال مولى لخالد بن صفوان: زوجني أمتك فلانة. قال: قد زوجتكما، قال: أفأدخل الحي حتى يحضروا الخطبة؟ قال: أدخلهم. فلما دخلوا ابتدأ خالد فقال: أما بعد فإن الله أجل وأعز من أن يذكر في نكاح هذين الكلبين، وقد زوجت هذه الفاعلة من هذا ابن الفاعلة. وقال ابراهيم النخعي لمنصور بن المعتمر: سل مسألة الحمقى، واحفظ حفظ الكيسى. قال: ودخل كثير عزة- وكان محمّقا، ويكنى أبا صخر- على يزيد بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، ما يعني الشمّاخ بن ضرار بقوله: إذا الأرطي توسّد أبرديه ... خدود جوازىء بالرمل عين قال يزيد: وما يضر أمير المؤمنين ألا يعرف ما عنى هذا الأعرابي الجلف؟ فاستحمقه وأخرجه. قالوا: وكان عامر بن كرير يحمّق. قال عوانة: قال عامر لأمه: مسست اليوم برد العاصي بن وائل السهمي. فقالت: ثكلتك أمك، رجل بين عبد المطلب بن هاشم وبين عبد شمس بن عبد مناف، يفرح أن تصيب يده برد رجل من بني سهم؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 ولما حصر عبد الله بن عامر على منبر البصرة، فشق ذلك عليه قال له زياد: أيها الأمير، إنك إن أقمت عامة من ترى إصابه أكثر مما أصابك. وقيل لرجل من الوجوه: قم فاصعد المنبر وتكلم. فلما صعد حصر وقال: الحمد لله الذي يرزق هؤلاء! وبقي ساكتا، فأنزلوه. وصعد آخر فلما استوى قائما وقابل بوجهه وجوه الناس وقعت عينه على صلعة رجل فقال: اللهم العن هذه الصلعة! وقيل لوازع اليشكري: قم فاصعد المنبر وتكلّم. فلما رأى جمع الناس قال: لولا أن امرأتي حملتني على إتيان الجمعة اليوم ما جمّعت، وأنا أشّهدكم أنها مني طالق ثلاثا! ولذلك قال الشاعر: وما ضرّني أن لا أقوم بخطبة ... وما رغبتي في ذا الذي قال وازع قال: ودخلت على أنس بن أبي شيخ، وإذا رأسه على مرفقه، والحجام يأخذ من شعره، فقلت له: ما يحملك على هذا؟ قال: الكسل، قال: قلت: فإن لقمان قال لأبنه: إياك والكسل، وإياك والضجر، فإنك إذا كسلت لم تؤد حقا، وإذا ضجرت لم تصبر على حق. قال: ذاك والله إنه لم يعرف لذة الكسولة. قال: وقيل لبحر بن الأحنف: ما يمنعك أن تكون مثل أبيك؟ قال: الكسل. وقال الآخر: أطال الله كيس بني رزين ... وحمقي أن شريت لهم بدين أأكتب أبلهم شاء وفيها ... بريع فصالها بنتا لبون «1» فما خلقوا بكيسهم دهاة ... ولا ملحاء بعد فيعجبوني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 وذكر الآخر الكيس، في معاتبته لبني أخيه، حين يقول: عفاريتا عليّ وأكل مالي ... وعجزا عن أناس آخرينا فهلا غير عمكم ظلمتم ... إذا ما كنتم متظلمينا فلو كنتم لكيّسة أكاست ... وكيس الأم أكيس للبنينا وقال بعضهم: عيادة النوكى الجلوس فوق القدر، والمجيء في غير وقت. وعاد رجل رقبة بن الحرّ، فنعى رجالا اعتلوا من علته فنعى بذلك إليه نفسه، فقال له رقبة، إذا دخلت على المرضى فلا تنع إليهم الموتى، وإذا خرجت من عندنا فلا تعد إلينا. وسأل معاوية ابن الكوّاء عن الكوفة، فقال: أبحث الناس عن صغيرة، واتركه لكبيرة. وسئل شريك «1» عن أبي حنيفة فقال: اعلم الناس بما لا يكون، وأجهل الناس بما يكون. وسأل معاوية دغفلا النسابة عن اليمن، فقال: سيد وأنوك. وذكر عيينة بن حصن، عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «الأحمق المطاع» . وجنّ أعرابيّ من أعراب المربد، ورماه الصبيان، فرجم، فقالوا له: أما كنت وقورا حليما؟ فقال: بلى بأبي أنتم وأمي، والله ما استحمقت إلا قريبا. وكان أول جنونه من عبث الناس به. ورمى إنسانا فشجّه، فتعلق به، وهو لا يعرفه وضمه إلى الوالي فقال له الوالي لم رميت هذا وشججته؟ فقال: أنا لم أرمه، هو دخل تحت رميتي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 وكان وكيع بن الدورقيّة يحمّق «1» ، قال الوليد بن هشام القحذميّ أبو عبد الرحمن، قال: أخبرني أبي، قال: لما قدم أمية خراسان قيل له: لم لا تدخل وكيع بن الدورقية في صحابتك؟ قال: هو أحمق. فركب يوما وسايره فقال: ما أعظم رأس برذونك! قال: قد كفاك الله حمله. ثم سايره قليلا فقال: أصلحك الله، أرأيت يوم لقيت أبا فديك ما منعك أن تكون قد قدمت رجلا وأخرت رجلا، وداعست بالرمح حتى يفتح الله عليك؟ قال: أغرب قبّحك الله! وامر فنحّي. وساير سعيد بن سلم موسى أمير المؤمنين، والحربة في يد عبد الله بن مالك، وكانت الريح تسفي التراب الذي تثيره دابة عبد الله بن مالك في وجه موسى، وعبد الله لا يشعر بذلك، وموسى يحيد عن سنن التراب، وعبد الله فيما بين ذلك يلحظ موضع مسير موسى، فيتكلف أن يسير على محاذاته، وإذا حاذاه ناله ذلك التراب، فلما طال ذلك عليه أقبل على سعيد بن سلم فقال: ألا ترى ما نلقى من هذا الحائن «2» في مسيرنا هذا؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما قصر في الاجتهاد، ولكنه حرم التوفيق. وساير البطريق الذي خرج إلى المعتصم من سور عمّوريّة «3» ، محمّد ابن عبد الملك، والأفشين بن كاوس، فساوم كل واحد منهما ببرذونه، وذكر أنه يرغبهما أو يربحهما. فإذا كان هذا أدب البطريق، مع محله من الملك والمملكة، فما ظنك بمن هو دونه منهم! ولما استجلس المعتصم بطريق خرشنة، تربّع ثم مد رجليه. وقال زياد: ما قرأت مثل كتب الربيع بن زياد الحارثي، ما كتب إليّ إلا في اجترار منفعة، أو دفع مضرة، وما كان في موكبي قط فتقدم عنان دابته عنان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 دابتي، ولامست ركبته ركبتي، ولا شاورت الناس في أمر قط إلا سبقهم إلى الرأي فيه. وكان على شرط زياد، عبد الله بن حصن التغلبي، صاحب مقبرة بني حصن، والجعد بن قيس النميري صاحب طاق الجعد، وكانا يتعاقبان مجلس صاحب الشرطة، فإذا كان يوم حمل الحربة سارا بين يديه معا، فجرى بينهما كلام وهما يسيران بين يديه، فكان صوت الجعد أرفع وصوت عبد الله أخفض، فقال زياد لصاحب حرسه: تناول الحربة من يد الجعد، ومره بالإنصراف إلى منزله. وعدا رجل من أهل العسكر بين يدي المأمون، فلما انقضى كلامه قال له بعض من يسير بقربه: يقول لك أمير المؤمنين: اركب. قال المأمون: لا يقال لمثل هذا اركب، إنما يقال لمثل هذا انصرف. وكان الفضل بن الربيع يقول: مسألة الملوك عن حالهم من تحية النوكى. فإذا أردت أن تقول: كيف أصبح الأمير فقل: صبح الله الأمير بالكرامة والنعمة! وإذا أردت أن تقول: كيف يجد الأمير نفسه فقل: انزل الله على الأمير الشفاء والرحمة! والمسألة توجب الجواب، فإن لم يجبك اشتد عليك، وإن أجابك اشتدّ عليه. وقال محمد بن الجهم: دخلت على المأمون فقال لي: ما زال أمير المؤمنين إليك مشتاقا! فلم أدر جواب هذه الكلمة بعينها، وأخذت لا أقصر فيما قدرت عليه من الدعاء ثم الثناء. قال أبو الحسن: قال ابن جابان: قال المهدي: كان شبيب بن شيبة يسايرني في طريق خراسان، فيتقدمني بصدر دابته فقال لي يوما: «ينبغي لمن ساير خليفة أن يكون بالموضع الذي إذا أراد الخليفة أن يسأله عن شيء لا يلتفت إليه، ويكون من ناحية إن التفت لم تستقبله الشمس» . قال: فبينما نحن كذلك إذ انتهينا إلى مخاضة، فأقحمت دابتي، ولم يقف واتبعني، فملأ ثيابي ماء وطينا. قال: فقلت: يا أبا معمر، ليس هذا في الكتاب؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 قال الهيثم بن عدي: كنت قائما إلى جنب حميد بن قحطبة وهو على برذون، فتفاجّ البرذون ليبول، فقال لي: تنح لا يهرق عليك البرذون الماء. وجاء رجل إلى محمد بن حرب الهلالي بقوم فقال: إن هؤلاء الفسّاق ما زالوا في مسيس هذه الفاجرة. قال: ما ظننت أنه بلغ من حرمة الفواجر ما ينبغي أن يكنى عن الفجور بهن. وقلت لرجل من الحسّاب: كيف صار البرذون المتحصّن، على البغلة أحرص منه على الرّمكة، والرمكة أشكل بطبعه؟ قال: بلغني أن البغلة أطيب خلوة. وقال صديق لنا: بعث رجل وكيله إلى رجل من الوجوه يقتضيه مالا له عليه، فرجع إليه مضروبا، فقال: مالك ويلك؟ قال: سبك فسببته فضربني. قال: وبأي شيء سبني؟ قال: قال: هن الحمار في حرام من أرسلك. قال: دعني من افترائه عليّ، أنت كيف جعلت لاير الحمار من الحرمة ما لم تجعله لحرامي؟ فهلا قلت أير الحمار في هن أم من أرسلك؟! أبو الحسن قال: كان رجل من ولد عبد الرحمن بن سمرة «1» ، أراد الوثوب بالشام، فحمل إلى المهدي، فخلى سبيله وأكرمه وقرب مجلسه، فقال له يوما: أنشدني قصيدة زهير، التي على الراء وهي التي أولها: لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن شهر فأنشده فقال المهدي: ذهب والله من يقول مثل هذا. قال السمريّ: وذهب والله من يقال فيه مثل هذا. فغضب المهدي واستجهله ونحاه ولم يعاقبه، واستحمقه الناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 ولما دخل خالد بن طليق على المهدي مع خصومه، أنشد قول شاعرهم: إذا القرشيّ لم يضرب بعرق ... خزاعيّ فليس من الصميم فغضب المهدي وقال: أحمق. فأنشد خالد فقال: إذا كنت في دار فحاولت رحلة ... فدعها وفيها إن أردت معاد فسكن عند ذلك المهدي. وقال بشار: خليليّ إن العسر سوف يفيق ... وإن يسارا من غد لخليق وما كنت إلا كالزمان إذا صحا ... صحوت وإن ماق الزمان أموق قالوا: ومن النوكى: أبو الربيع العامري، واسمه عبد الله، وكان ولي بعض منابر اليمامة. وفيه يقول الشاعر: شهدت بأن الله حق لقاؤه ... وإن الربيع العامريّ رفيع أقاد لنا كلبا بكلب ولم يدع ... دماء كلاب المسلمين تضيع قالوا: ومن النوكى: ربيعة بن عسل، أحد بني عمرو بن يربوع، وأخوه صبيغ بن عسل. وفد ربيعة على معاوية فقال له معاوية: ما حاجتك؟ قال: زوجني ابنتك. قال: اسقوا ابن عسل عسلا. فأعاد عليه فأعاد عليه العسل ثلاثا، فتركه وقد كاد ينقد «1» بطنه. قال: فاستعملني على خراسان. قال: زياد اعلم بثغوره. قال: فاستعملني على شرطة البصرة. قال: زياد اعلم بشرطته. قال: فاكسني قطيفة. أو قال: هب لي مائة ألف جذع لداري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 (قال: وأين دارك؟ قال: بالبصرة. قال: كم ذرعها؟ قال: فرسخان في فرسخين) . قال: فدارك في البصرة أو البصرة في دارك؟! قال عوانة: استعمل معاوية رجلا من كلب فذكر يوما المجوس وعنده الناس، فقال: لعن الله المجوس ينكحون أمهاتهم، والله لو أعطيت مائة ألف درهم ما نكحت أمي؟ فبلغ ذلك معاوية فقال: قاتله الله أترونه لو زادوه على مائة ألف فعل! فعزله. (أبو الحسن: وفد ربيعة بن عسل على معاوية- وهو من بني عمرو ابن يربوع- فقال لمعاوية: أعني بعشرة آلاف جذع في بناء داري بالبصرة. فقال له معاوية: كم دارك؟ قال: فرسخان في فرسخين. قال معاوية: هي في البصرة أم البصرة فيها؟ قال: بل هي في البصرة. قال معاوية: فإن البصرة لا تكون هذا) . وقال ابو الأحوص الرياحي: ليس بيربوع ألى العقل حاجة ... سوى دنس تسودّ منه ثيابها فكيف بنوكى مالك إن كفرتم ... لهم هذه أم كيف بعد خطابها؟ مشائيم ليسوا مصلحين عشيره ... ولا ناعب إلا ببين غرابها الهيثم، عن الضحاك بن زمل قال: بينا معاوية بن مروان واقف بدمشق ينتظر عبد الملك على باب طحان وحمار له يدور بالرحى وفي عنقه جلجل إذ قال للطحان: لم جعلت في عنق هذا الحمار هذا الجلجل؟ قال: ربما أدركتني سآمة أو نعسة، فإذا لم اسمع صوت الجلجل علمت أنه قد قام فصحت به. قال معاوية: أفرأيت إن قام ثم مال برأسه هكذا وهكذا- وجعل يحرك رأسه يمنة ويسرة- ما يدريك أنت أنه قائم؟ فقال الطحان: ومن لي بحمار يعقل مثل عقل الأمير؟ ومعاوية بن مروان هذا هو الذي قال لأبي امرأته: ملأتنا ابنتك البارحة بالدم! قال: إنها من نسوة يخبأن ذلك لأزواجهن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 وصعد يوسف بن عمر المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: قد قتل الله زيدا ونصر بن سيّار- يريد نصر بن خزيمة. وقال عليّ الأسواري: عمر بن الخطاب معلق بشعرة! قلت: وما صيّره إلى ذلك؟ قال: لما صنع بنصر بن سيار. يريد نصر بن الحجاج بن علاط. وقالوا: أحب الرشيد أن ينظر إلى أبي شعيب القلّال كيف يعمل القلال، فأدخلوه القصر وأتوه بكل ما يحتاج إليه من آلة العمل، فبينا هو يعمل إذا هو بالرشيد قائم فوق رأسه، فلما رآه نهض قائما، فقال له الرشيد: دونك ما دعيت له، فإني لم آتك لتقوم إلي، وإنما أتيتك لتعمل بين يدي. قال: وأنا لم آتك ليسوء أدبي، وإنما أتيتك لأزداد بك في كثرة صوابي. قال له الرشيد: إنما تعرضت لي حين كسدت صنعتك. فقال أبو شعيب: يا سيد الناس، وما كساد عملي في جلال وجهك؟ فضحك الرشيد حتى غطى وجهه ثم قال: والله ما رأيت أنطق منه أولا، ولا أعيا منه آخرا، ينبغي لهذا أن يكون أعقل الناس أو أجنّ الناس. عبد الله بن شداد قال: أرى داعي الموت لا يقلع، وأرى من مضى لا يرجع، ومن بقي فإليه ينزع. لا تزهدنّ في معروف، فإن الدهر ذو صروف فكم من راغب قد كان مرغوبا إليه، وطالب قد كان مطلوبا ما لديه. والزمان ذو ألوان، ومن يصحب الزمان ير الهوان. الفرج بن فضالة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن علي، عن ابيه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصله حلّ بها البلاء: إذا أكلوا الأموال دولا، واتخذوا الأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وأطاع الرجل زوجته وعقّ أمه، وبرّ صديقه وجفا أخاه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وأكرم الرجل مخافة شره، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأذا لبس الحرير وشربت الخمور، وأتخذت القيان والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أوّلها، فليترقبوا بعد ذلك ثلاث خصال: ريحا حمراء، ومسخا، وخسفا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 الهيثم قال أخبرنا الكلبيّ قال: كانت قريش تعدّ أصل الجزالة في الرأي العباس بن عبد المطلب، وأبا سفيان، ونبيها، وأمية بن خلف. قال: وقال ابن عباس: لم يكن في العرب أمرد ولا أشيب أشدّ عقلا من السائب بن الأقرع. قال: وحدثني الشعبيّ أن السائب شهد فتح مهرجان قذف، ودخل منزل الهرمزان وفي داره ألف بيت، فطاف فيه، فإذا ظبي من حص في بيت منها ماد يده، فقال: اقسم بالله إن هذا الظبي يشير إلى شيء انظروا فنظروا فاستخرجوا سفط كنز الهرمزان فإذا فيه ياقوت وزبرجد، فكتب فيه السائب إلى عمر، وأخذ منه فصّا أخضر، وكتب إلى عمر: إن رأى أمير المؤمنين أن يهبه لي فليفعل. فلما عرض عمر السفط على الهرمزان قال: فأين الفص الصغير؟ قال: سألنيه صاحبنا فوهبته له. قال: إن صاحبك بالجوهر لعالم. قال: أخبرنا مجالد عن الشعبي: قال السائب لجميل بن بصبهريّ أخبرني عن مكان من القرّية لا يخرب حتى استقطع ذلك المكان: قال: ما بين الماء إلى دار الأمارة. قال: فاختط لثقيف في ذلك الموضع. قال الهيثم: بت عندهم ليلة، فإذا ليلهم مثل النهار. أبو الحسن قال: قال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بن المغيرة، لمعاوية: أما والله لو كنا على السواء بمكة لعلمت! قال معاوية: إذا كنت أكون معاوية بن أبي سفيان منزلي الأبطح «1» ينشق عني سيله، وكنت أنت عبد الرحمن بن خالد منزلك أجياد «2» ، أعلاه مدرة، واسفله عذرة. قال سهيل بن عمرو: «أشبه امرؤ بعض بزّه» . فصار مثلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 وقال محرز بن علقمة: لقد وارى المقابر من شريك ... كثير تحلّم وقليل عاب «1» صموتا في المجالس غير عيّ ... جديرا حين ينطق بالصواب وقال ابن الرقّاع: أمم تداخلت الحتوف عليهم ... أبوابهم فكشفن كلّ غطاء فإذا الذي في حصنه متحرز ... منهم كآخر مصحر بفضاء والمرء يورث مجده أبناءه ... ويموت آخر وهو في الأحياء والقوم أشباه وبين حلومهم ... بون كذاك تفاضل الأشياء وقال بعضهم: بيضاء ناصعة البياض كأنها ... قمر توسط جنح ليل مبرد موسومة بالحسن ذات حواسد ... إن الحسان مظنة للحسد وترى مآقيها تقلّب مقلة ... حوراء ترغب عن سواد الأثمد خود إذا كثر الحديث تعوذت ... بحمى الحياء وإن تكلم تقصد وقال آخر: لسانك خير وحده من قبيلة ... وما عدّ بعد في الفتى انت فاعله سوى طبع الأخلاق والفحش والخنا ... ابت ذاكم أخلاقه وشمائله وقال آخر: على امرىء هدّ عرش الحيّ مصرعه ... كأنه من ذوي الأحلام من عاد وقال النابغة: أحلام عاد وأجساد مطهرة ... من المعقّة والآفات والأثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 وقالت الخنساء: خطّاب معضلة فرّاج مظلمة ... إن جاء مفظعة هيا لها بابا وعدّد الأصمعي خصال معدّ فقال: كانوا أديما ما عزا شاته ... أخلص فيه القرظ الآهب «1» أو مرقيّ عرق دم مفرج ... أو سائل في لزبة زاعب «2» أو ذمة يوفي بها عاقد ... أو عقدة يحكمها آرب «3» أو خابط من غير لا نعمة ... أو رحم متّ بها جانب «4» أو خطة بزلاء مفصولة ... يرضى بها الشاهد والغائب «5» وقال ابن نوفل يهجو: وأنت كساقط بين الحشايا ... يصير إلى الخبيث من المصير ومثل نعامة تدعى بعيرا ... تعاظمها إذا ما قيل طيري وإن قيل احملي قالت فإني ... من الطير المربّة بالوكور «6» وكنت لدى المغيرة عير سوء ... يبول من المخافة للزئير لأعلاج ثمانية وشيخ ... كبير السنّ ذي بصر ضرير تقول لما اصابك: أطعموني ... شرابا ثم بلت على السرير وقال عبد يغوث: ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا ... فما لكما في اللوم خير ولا ليا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 ألم تعلما أن الملامة نفعها ... قليل، وما لومي أخي من شماليا «1» فيا راكبا أما عرضت فبلغن ... نداماي من نجران أن لا تلاقيا أبا كرب والأيهمين كليهما ... وقيسا بأعلى حضر موت اليمانيا جزى الله قومي بالكلاب ملامة ... صريحهم والآخرين المواليا أقول وقد شلوا لساني بنسعة ... أمعشر تيم أطلقوا من لسانيا «2» وتضحك مني شيخة عبشمية ... كأن لم تر قبلي أسيرا يمانيا «3» قال ابو عثمان: وليس في الأرض أعجب من طرفة بن العبد وعبد يغوث، وذلك أنا إذا قسنا جودة أشعارهما في وقت أحاطة الموت بهما لم تكن دون سائر أشعارهما في حال الأمن والرفاهية. أبو عبيدة قال: حدثني أبو عبد الله الفزاري، عن مالك بن دينار قال: ما رأيت أحدا أبين من الحجاج، إن كان ليرقى المنبر فيذكر إحسانه إلى أهل العراق، وصفحه عنهم وإساءتهم إليه، حتى أقول في نفسي: إني لأحسبه صادقا، وإني لأظنهم ظالمين له. قال: وكانت العرب تخطب على رواحلها. وكذلك روى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قس بن ساعدة. قال: وأخبرني عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك بن انس قال: الوقوف على ظهر الدواب بعرفة سنّة، والقيام على الأقدام رخصة. وجاء في الأثر: لا تجعلوا ظهور دوابكم مجالس. ووقف الهيثم بن مطهر الفأفاء، على ظهر دابته على باب الخيزران، ينتظر بعض من يخرج من عندها، فلما طال وقوفه بعث إليه عمر الكلواذي فقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 له: انزل عن ظهر دابتك. فلم يرد عليه شيئا، فكر الرسول إليه، فقال: إني رجل أعرج، وإن خرج صاحبي من عند الخيزران في موكبه خفت ألا ادركه. فبعث إليه: إن لم تنزل انزلناك. فبعث إليه قال: هو حبس في سبيل الله إن أنزلتني عنه إن أقضمته «1» شهرا، فانظر أيما خير له أراحة ساعة أم جوع شهر؟ قالوا له: هذا الهيثم بن مطهّر. قال: هذا شيطان. وقال أبو علقمة النحوي: يا آسي «2» ، إني رجعت إلى النزل وأنا سنق لقس «3» فأتيت بشنشنة من لوية ولكيك، وقطع أقرن «4» قد غدرن هناك من سمن، ورقاق شرشصان وسقيط عطعط «5» ، ثم تناولت عليها كأسا. قال له الطبيب خذ خرفقا وسفلقا وجرفقا. قال: ويلك أي شيء هذا؟ قال: وأي شيء ما قلت؟ قال الزّبرقان: أحبّ صبياننا إليّ العريض الورك السبط الغرّة، الطويل الغرلة، الأبله العقول. وابغض صبياننا إلي: الأقيعس الذكر، الذي ينظر من جحر، وإذا سأله القوم عن أبيه هرّ في وجوههم. قال الهيثم: قال الأشعث: إذا كان الغلام سائل الغرة، طويل الغرلة ملتاث «6» الأزرة كأن به لوثة «7» فما يشك في سؤدده. قال ابو المخشّ: «كان المخش أشدق؟ رطمانيا، سائلا لعابه كأنما ينظر من قلتين، كأن ترقوته بوان أو خالفة، وكأن كاهله كركرة جمل. فقأ الله عيني إن كنت رأيت قبله ولا بعده مثله» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 قال: وكان زياد حوّل المنبر وبيوت المال والدواوين إلى الأزد، وصلى بهم، وخطب في مسجد الحدّان، فقال عمرو بن العرندس: فأصبح في الحدّان يخطب آمنا ... وللأزد عزّ لا يزال تلاد وقال الأعرج: وكنا نستطبّ إذا مرضنا ... فصار سقامنا بيد الطبيب فكيف نجيز غصتنا بشيء ... ونحن نغصّ بالماء الشريب وقال أيضا: والقائلين فلا يعاب خطيبهم ... يوم المقامة بالكلام الفاصل وقال ابن مفرّغ: ومتى تقم يوم اجتماع عشيرة ... خطباؤنا بين العشيرة تفصل وقال أيضا: فيا رب خصم قد كفيت دفاعه ... وقوّمت منه درأه فتنكبا وقال آخر: وحامل ضبّ ضغن لم يضرني ... بعيد قلبه حلو اللسان ولو أني أشاء نقمت منه ... بشغب من لسان تيّحان «1» وقال: عهدت بها هندا وهند غريرة ... عن الفحش بلهاء العشاء نؤوم رداح الضحى ميالة بخترية ... لها منطق يصبي الحليم رخيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 وقال: وخصم يركب العوصاء طاط ... عن المثلى قصاراه القراع وملموم جوانبها رداح ... تزجي بالرماح لها شعاع وقال محلم بن فراس، يرثي منصورا وهماما ابني المسجاح: كم فيهم لو تملينا حياتهم ... من فارس يوم روع الحيّ مقدام ومن فتى يملأ الشيزى مكللة ... شحم السّديف ندي الحمد مطعام ومن خطيب غداة الحفل مرتجل ... ثبت المقام أريب غير مفحام وقال خالد للقعقاع: انافرك على أينا أطعن بالرماح، وأطعم للسحاح وانزل بالبراح. قال: لا، بل عن أينا افضل أبا وجدا وعما وقديما وحديثا. قال خالد: اعطيت يوما من سأل، واطعمت حولا من أكل، وطعنت فارسا طعنة شككت فخذيه بجنب الفرس. قال القعقاع وأخرج نعلين فقال: ربع عليهما ابي أربعين مرباعا «1» لم تثكل فيهن تميمية ولدا. كان ماك بن الأخطل التغلبي- وبه كان يكنى- أتى العراق وسمع شعر جرير والفرزدق، فلما قدم على أبيه سأله عن شعرهما، فقال: وجدت جريرا يغرف من بحر، ووجدت الفرزدق ينحت من صخر. فقال الأخطل: الذي يغرف من بحر أشعرهما. وقال بعضهم: وما خير من لا ينفع الأهل عيشه ... وإن مات لم تجزع عليه أقاربه كهام على الأقصى كليل لسانه ... وفي بشر الأدنى حداد مخالبه وقال العماني: إذا مشى لكلّ قرن مقرن ... ثم مشى القرن له كالأرعن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 بصارم يفري صفيح الجوشن ... مقرطن زاف إلى مقرطن يفضي إلى إمّ الفراخ الكمّن ... حيث تقول الهامة اسقني اسقني كم لأبي محمد من موطن وقال العماني: ومقول نعم لزاز الخصم ... ألدّ يشتقّ لأهل العلم بباطل يدحض حق الخصم ... حتى يصيروا كسحاب البكم وقال أبو عبيد في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين رأى فلانا يخطب فقال: «هذا الخطيب الشحشح» . قال: هو الماهر الماضي. وقال الطّرمّاح: كأن المطايا ليلة الخمس علّقت ... بوثّابة تنضو الرواسم شحشح «1» وقال ذو الرمة: لدن غدوة حتى إذا امتدت الضحى ... وحث القطين الشحشحان المكلف يعني الحادي. قال: وكان أسد بن كرز يقال له «خطيب الشيطان» فلما استعمل خالد ابنه على العراق قيل له «خطيب الله» فجرت إلى اليوم. وقال أبو المثلّم الهذلي: أصخر بن عبد الله إن كنت شاعرا ... فإنك لا تهدي القريض لمفحم وقال بلعاء بن قيس: ابيت لنفسي الخسف لما رضوا به ... ووليتهم سمعي وما كنت مفحما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 وقال عبد الله بن مصعب: وقف معاوية على امرأة من كنانة، فقال لها: هل من قرى؟ قالت: نعم. قال: وما قراك؟ قالت: عندي خبز خمير، ولبن فطير «1» ، وماء نمير. وقال أحيحة: والصمت خير للفتى ... ما لم يكن عيّ يشينه والقول ذو خطل إذا ... ما لم يكن لبّ يعينه وقال أبو ثمامة الضّبّي: ومنا حصين كان في كل خطبة ... يقول ألا من ناطق متكلّم وقال عبيد بن أمية الضبي، واستب هو والحارث بن بيبة المجاشعي عند النعمان، فقال: ترى بيوت وترى رماح ... ونعم مزنّم سحاح «2» ومنطق ليس له نجاح ... ياقصبا طار به الرياح واذرعا ليست لها ألواح وقال قيس بن الخطيم: وبعض القول ليس له حصاة ... كمخض الماء ليس له إتاء «3» وهذا شبيه بقوله: كسالى إذا لاقيتهم غير منطق ... يلهى به المتبول وهو عناء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 وقال أبو ثمامة: أخاصمهم مرة قائما ... واجثو إذا ما جثوا للركب إذا منطق قاله صاحبي ... تعقبت آخر ذا معتقب وقال الشماخ: ومرتبة لا تستطاع، بها الردى ... تركت بها الشكّ الذي هو عاجز ويروى: تلافى بها حلمي عن الجهل حاجز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 باب من الكلام المحذوف ثم نرجع بعد ذلك إلى الكلام الأول: هشيم، عن يونس، عن الحسن يرفعه، إن المهاجرين قالوا: يا رسول الله إن الأنصار قد فضلونا بأنهم آووا ونصروا، وفعلوا وفعلوا. قال النبي عليه السلام: أتعرفون ذلك لهم؟ قالوا: نعم. قال: «فإن ذاك» . ليس في الحديث غير هذا. يريد: أن ذاك شكر ومكافأة. قال: وكلم رجل من قيس عمر بن عبد العزيز في حاجة، وجعل يمت بقرابة، فقال عمر: «فإن ذاك» . ثم ذكر حاجته فقال: «لعل ذاك» . لم يزده على أن قال: فإن ذاك، ولعل ذاك. أي أن ذلك كما قلت، ولعل حاجتك تقضي. وقال عبد الله بن قيس: بكرت عليّ عواذلي ... يلحينني وألومهنّه ويقلن شيب قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 وقال الأسدي لعبد الله بن الزبير: لا حملت ناقة حملتني إليك! قال ابن الزبير: «إنّ وراكبها» . عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن ابي هاشم القاسم بن كثير، عن قيس الخارقي أنه سمع عليا يقول: «سبق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصلى أبو بكر، وثلّث عمر، وخطبتنا فتنة فيما شاء الله» . ليس في الحديث أكثر من هذا. ولما كتب أبو عبيدة إلى عمر جواب كتاب عمر في أمر الطاعون، فقرأ عمر الكتاب واسترجع، فقال له المسلمون: مات أبو عبيدة؟ قال: «لا وكأن قد» . وقال النابغة: أزف الترحل غير إن ركابنا ... لما تزل برحالنا وكأن قد وأنشد ابن الأعرابي: إذا قيل أعمى قلت إنّ، وربما ... أكون، وإني من فتى لبصير إذا أبصر القلب المروءة والتقى ... فإن عمى العينين ليس يضير وإن العمى أجر وذخر وعصمة ... وإني إلى هذي الثلاث فقير ابن ابي الزناد قال: كنت كاتبا لعمر بن عبد العزيز، فكان يكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب في المظالم فيراجعه، فكتب إليه: «إنه يخيل إلي إني لو كتبت إليك أن تعطي رجلا شاة لكتبت إلي: أضان أم ماعز؟ وإن كتبت إليك بأحدهما كتبت إلي: أذكر أم أنثى؟ وإن كتبت إليك بأحدهما كتبت إلي: أصغير أم كبير؟ فإذا أتاك كتابي في مظلمة فلا تراجعني. والسلام» . وقال عمر بن الخطاب رحمه الله: «إني لأستعين بالرجل الذي فيه» ليس في الحديث غير هذا. ثم ابتدأ الكلام فقال: «ثم أكون على قفّانه إذا كان أقوى من المؤمن الضعيف وارد «1» » . وهو قول الأسدي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 سويد فيه، فابغونا سواه ... ابيناه وإن بهّاه تاج ولم يقل: فيه كذا وفيه كذا. وقال الراجز: بتنا بحسان ومعزاه تئط «1» ... في سمن جم وتمر وأقط «2» حتى إذا كاد الظلام ينكشط ... جاء بمذق هل رأيت الذئب قط «3» وقيل للمنتجع بن نبهان، أو لأبي مهدية: ما النضناض؟ فأخرج طرف لسانه وحركه. وقيل له: ما الدلنطى؟ فزحر وتقاعس وفرّج ما بين منكبيه. ومن الكلام كلام يذهب السامع منه إلى معاني أهله، وإلى قصد صاحبه، كقول الله تبارك وتعالى: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى . وقال: لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى. وقال: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ . وسئل المفسر عن قوله: لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا . فقال: ليس فيها بكرة ولا عشي. وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ . قالوا لم يشك ولم يسل. وقال عمر بن الخطاب رحمه الله في جواب كلام قد تقدم وقول قد سلف منه: «متعتان كانتا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنا أنهى عنهما واضرب عليهما» . وهذا مثل قائل لو قال: أتضربنا على الكلام في الصلاة، وعلى التطبيق إذا ركعنا، فيقول: نعم أشدّ الضرب. إذا كان قد تقدم منه إعلامه إياهم بحال الناسخ والمنسوخ. وقد سأل رجل بلالا مولى أبي بكر رحمه الله وقد أقبل جهة الحلبة، فقال له: من سبق؟ قال: سبق المقربون. قال: إنما أسألك عن الخيل. قال: وأنا أجيبك عن الخير. فترك بلال جواب لفظه إلى خبر هو أنفع له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 حدثني عبد الملك بن شيبان، قال: حدثني يعقوب بن الفضل الهاشمي، قال: كتب أبو جعفر إلى سلم يأمره بهدم دور من خرج مع إبراهيم، وعقر نخلهم قال: فكتب إليه سلم: بأي ذلك نبدأ؟ بالدور أم بالنخل؟ قال: فكتب إليه أبو جعفر: «أما بعد فإني لو كتبت إليك بإفساد تمرهم لكتبت إلي تستأذنني بأية نبدأ بالبرني أم بالشهريز «1» ؟» . وعزله وولى محمد بن سليمان وقال ابن مسعود: «إن طول الصلاة وقصر الخطبة مئنّة من فقه الرجل» . مئنة كقولك: مخلقة ومجدرة ومحراة. قال الأصمعي: مئنة: علامة. وقال عبد الله: «عليكم بالعلم، فإن أحدكم لا يدري متى يختلّ إليه» . ولما أقدم عمر بن الخطاب عمرو بن العاص عليه من مصر قال له عمر: «لقد سرت سير عاشق» . قال له عمرو: «إني والله ما تأبطتني الإماء، ولا حملتني البغايا في غبّرات المآلي «2» » . قال عمر: «والله ما هذا بجواب الكلام الذي سألتك عنه، وإن الدجاجة لتفحص في الرماد فتضع لغير الفحل والبيضة منسوبة إلى طرقها» . وقام عمر فدخل وقام عمرو فقال: لقد أفحش أمير المؤمنين علينا. وجاء في الأثر: «لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ» . قال أعرابي: اللهم لا تنزلني ماء فأكون أمرأ سوء. وقال بلعاء بن قيس: وكم كان في آل الملوّح من فتى ... غنادى مفدّى حين تبلى سرائره وكم كان في آل الملوح من فتى ... يجيب خطيبا لا تخاف عوائره وقال الآخر: ومخاصم قاومت في كبد ... مثل الدهان فصار لي العذر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 وقال آخر: وجه قبيح ولسان أبكم ... ومشفر لا يتوارى أضجم ولما رأى الفرزدق درست بن رياط الفقيمي على المنبر- وكان أسود دميما قصيرا- قال: بكى المنبر الشرقي إذ قام فوقه ... أمير فقيمي قصير الدوارج «1» وقال: بكى المنبر الشرقي والناس إذ رأوا ... عليه فقيميّا قصير القوائم وإنما كان يعادي بني فقيم لأنهم قتلوا أباه غالبا. قال أبو عبيدة: قال رجل ليونس بن حبيب: إذا أخذتم في مذاكرة الحديث وقع عليّ النعاس. قال: فاعلم إنك حمار في مسلاخ إنسان «2» . قال: ودخل عبد الله بن حازم على عبيد الله بن زياد وهو يخطر في مشيته، فقال للمنذر بن الجارود: حرّكه. فقال: يا ابن حازم، إنك لتجر ثوبك كما تجر البغيّ ذيلها. قال: أما والله إني مع ذلك لأنفذ بالسوية، وأضرب هامة البطل المشيح «3» ، ولو كنت وراء هذا الحائط لوضعت أكثرك شعرا. وقد كان قبض عطاءه فصبّه بين أيديهم ثم قال: لعنك الله من دراهم، ما تقومين بمؤونة خيلنا! وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: خذ الحكمة أنّى أتتك، فإن الحكمة تكون في صدر المنافق فتتلجلج في صدره حتى تخرج فتسكن إلى صواحبها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 وقال عمرو بن العاص لأهل الشام يوم صفين: «اقيموا صفوفكم مثل قص الشارب، واعيرونا جماجمكم ساعة من النهار، فقد بلغ الحق مقطعه، وإنما هو ظالم أو مظلوم» . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه يومئذ: «عضوا على النواجذ من الأضراس، فإنه أنبى للسيوف عن الهام» . وقال رجل: طد رجلك إذا اعتصيت «1» بالسيف والعصا، وأنت مخيّر في رفعها ساعة المسالمة والموادعة. ولما أقاموا ابن قميئة بين العقابين قال له ابوه: طد رجليك بالأرض، واصر إصرار الفرس، واذكر أحاديث غد، وإياك وذكر الله في هذا الموضع، فإنه من الفشل. قال: وقيل للحجاج: من أخطب الناس؟ قال: صاحب العمامة السوداء بين أخصاص البصرة. يعني الحسن. وقال الأحنف: قال عمر: تفقهوا قبل أن تسوّدوا. وقال عمر: إحذر من فلتات الشباب كل ما أورثك النبز «2» وأعلقك اللقب، فإنه إن يعظم بعدها شأنك يشتد على ذلك ندمك. ولما بنى عقبة بن غزوان وأصحابه بالبصرة بناء اللبن، كتب إليهم عمر: «قد كنت أكره لكم ذلك فإذا فعلتم ما فعلتم فعرضوا الحيطان، وارفعوا السمك، وقاربوا بين الخشب» . ولما بلغه أنهم قد اتخذوا الضياع وعمروا الأرض كتب إليهم: «لا تنهكوا وجه الأرض، فإن شحمتها فيه» . وقال عمر: «بع الحيوان أحسن ما يكون في عينك» : وقال: «فرقوا بين المنايا، واجعلوا الرأس رأسين» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 وقال: «املكوا العجين فإنه أحد الريعين» . وقال: «إذا اشتريت بعيرا فاجعله ضخما، فإنه إن أخطأك خبر لم تخطئك سوق» . وقال عمر: «العمائم تيجان العرب» . وقال: «نعم المستند الأحتباء» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الناس كالإبل، ترى المائة لا تجد فيها راحلة» . وأنشدوا: وكأنّ من زهر الخزامى والندى ... والأقحوان عليه ريطة برنس «1» فإذا ترنّم حوله ذبانه ... أصغى تسمّع خائف متوجس خرجت عليه من الضراء دواجن ... تحتثّ نحو ملاذوان أشوس يسعى ويمثل والصفير كلامه ... تحيي يداه لهنّ وحي الأخرس وقال الراعي: أبا خالد لا تنبذنّ نصاحة ... كوحي الصفا خطّت لكم في فؤاديا وقال الشاعر: رب طرف مصرح ... عن ضمير بما هجس وقال آخر: بلحن القول والطرف الفصيح وقال المثقب العبدي، في استماع الثور وتوجسه وجمع باله اذا أحس بشيء من أسباب القانص، وذكر ناقة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 كأنها أسفع ذو جدّة ... يضمه القفر وليل سد كأنما ينظر من برقع ... من تحت روق سلب مذود يصيخ للنبأة أسماعه ... أصاخة الناشد للمنشد ويوجس السمع لنكرائه ... من خشية القانص والمؤسد وقال بعض العبيد شعرا يقع في ذكر الخطباء، وفي ذكر أشداقهم وتشادقهم: أغرّك مني أن مولاي مزيدا ... سريع إلى داعي الطعام سروط غلام أتاه الذل من نحو شدقه ... له نسب في الواغلين بسيط له نحو دور الكاس أما دعوته ... لسان كذلق الزاعبي سليط وقال الأول: إن سليطأ كاسمه سليط وقال بعض العبيد في بعض العبيد: وقد كان مفتوق اللهاة وشاعرا ... وأشدق يفري حين لا أحد يفري وقال مورق العبد يتوعد مولاه: لولا عجوز قحمة ودردق ... وصاحب جمّ الحديث مونق كيف الفوات والطلوب مورق ... شيخ مغيظ وسنان يبرق وحنجر رحب وصوت مصلق ... وشدق ضرغام وناب يحرق وسأل رجل عمر بن عبد العزيز عن الجمل وصفين فقال: «تلك دماء كف الله يدي عنها، فلا أحب أن أغمس لساني فيها» . ويقع في باب التطبيق: لأنتم ببيع اللحم أعلم منكم ... بضرب السيوف المرهفات القواطع وقال عمرو بن هداب: «إنما كنا نعرف سؤدد سلم بن قتيبة أنه كان يركب وحده ويرجع في خمسين» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 قال الأصمعي: دخل حبيب بن شوذب الأسدي على جعفر بن سليمان بالمدينة، فقال: «أصلح الله الأمير، حبيب بن شوذب واد الصدر، جميل الذكر. يكره الزيارة المملة، والقعدة المنسية «1» » . وفي الحديث: «زر غبا تزدد حبا» . وقال بعضهم: عن الثوري، عن محمد بن عجلان، عن عياض بن عبد الله قال: «إن الدين مجمع لكل هم، هم بالليل وذل بالنهار، وراية الله في أرضه، فإذا أراد الله أن يذل عبدا جعله طوقا في عنقه» . عمر بن ذر قال: الحمد لله الذي جعلنا من أمّة تغفر لهم السيئات، ولا تقبل من غيرهم الحسنات. ابن أبي الزناد قال: كنا لا نكتب إلا سنّة، وكان الزهري يكتب كل شيء، فلما أحتيج إليه عرفت أنه أوعى الناس. قال: وقال فيروز حصين: إذا أراد الله أن يزيل عن عبد نعمة كان أول ما يغير منه عقله. وقيل لمحمد بن كعب القرظي: ما علامة الخذلان؟ قال: أن يستقبح الرجل ما كان عنده حسنا، ويستحسن ما كان عنده قبيحا. وقال محمد بن حفص: كن إلى الإستماع أسرع منك إلى القول، ومن خطأ القول أشد حذرا من خطأ السكوت. وقال الحسن: إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الإستماع كما تتعلم حسن القول، ولا تقطع على أحد حديثه. سفيان بن عيينة، قال: كان يقال: العالم مثل السراج، من مر به اقتبس منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 وقال الشاعر أبو دهمان الغّلابي: لئن مصر فاتتني بما كنت أرتجي ... وأخلفني منها الذي كنت آمل فما كلّ ما يخشى الفتى بمصيبه ... ولا كلّ ما يرجو الفتى هو نائل فما كان بيني لو لقيتك سالما ... وبين الغنى إلا ليال قلائل وقال الآخر: وإن كلام المرء في غير كنهه ... لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها وقال كعب الأحبار: قرأت في بعض ما أنزل الله على أنبيائه عليهم السلام: «الهدية تفقأ عين الحكيم، وتسفّه عقل الحليم» . قال: زحم رجل سالم بن عبد الله فزحم سالم الذي يليه، فقال له: يا شيخ، ما حسبتك إلا شيخ سوء! قال سالم: ما أحسبك أبعدت. قال: وسأل رجل محمد بن عمير بن عطارد وعتّاب بن ورقاء في عشر ديّات، فقال محمد: عليّ ديّة. فقال عتاب: الباقي عليّ. فقال محمد: نعم العون على المروءة اليسار. وقال الأحنف: فلو مدّ سروي بمال كثير ... لجدت وكنت له باذلا فإن المروءة لا تستطاع ... إذا لم يكن مالها فاضلا وقال يزيد بن حجيّة، حين بلغه إن زياد بن خصفة تبعه ولم يلحق به: أبلغ زيادا أنني قد كفيته ... أموري وخليت الذي هو غالبه وباب شديد داؤه قد فتحته ... عليك وقد أعيت عليك مذاهبه هبلت فما ترجو غنائي ومشهدي ... إذا كان يوم لا توارى كواكبه وقال آخر: ومنطق خرّق بالعواسل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 قال: تجردت الحضرمية لزوجها ثم قالت: هل ترى في خلق الرحمن من تفاوت؟ قال: أرى فطورا. وقال آخر: راودت امرأة شيخا واستهدفت له: وأبطأ عليه الأنتشار فلامته، فقال لها: إنك تفتحين بيتا وأنا أنشر ميتا. علي بن محمد، عن عمر بن مجاشع، أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشعري: «أما بعد، فإن للناس نفرة عن سلطانهم، فأعوذ بالله أن تدركني وإياك عمياء مجهولة، وضغائن محمولة، وأهواء متيعة، ودنيا مؤثرة. فأقم الحدود ولو ساعة من نهار، وإذا عرض لك أمران أحدهما لله والآخر للدنيا، فآثر نصيبك من الآخرة على نصيبك من الدنيا، فإن الدنيا تنفد، والآخرة تبقى. وكن من خشية الله على وجل، وأخف الفساق واجعلهم يدا يدا، ورجلا رجلا. وإذا كانت بين القبائل نائرة «1» وتداعوا: يال فلان يال فلان، فإنما تلك نجوى الشيطان، فاضربهم بالسيف حتى يفيئوا إلى أمر الله، وتكون دعواهم إلى الله وإلى الإمام. وقد بلغ أمير المؤمنين أن ضبّة تدعو: يال ضبة! وإني والله، أعلم أن ضبة ما ساق الله بها خيرا قط، ولا منع بها من سوء قط، فإذا جاءك كتابي هذا فأنهكهم عقوبة حتى يفرقوا إن لم يفقهوا. وألصق بغيلان بن خرشة من بينهم، وعد مرضى المسلمين، وأشهد جنائزهم، وافتح بابك، وباشر أمرهم بنفسك، فإنما أنت رجل منهم، غير أن الله جعلك أثقلهم حملا. وقد بلغ أمير المؤمنين أنه قد فشا لك ولأهل بيتك في لباسك ومطعمك ومركبك، ليس للمسلمين مثلها. فإياك يا عبد الله أن تكون بمنزلة البهيمة التي مرت بواد خصيب، فلم يكن لها همة إلا السمن، وإنما حتفها في السمن. واعلم أن للعامل مردا إلى الله، فإذا زاغ العامل زاغت رعيته، وإن أشقى الناس من شقيت به رعيته والسلام» . عوانة، قال: قدم علينا أعرابي من كلب، وكان يحدثنا الحديث فلا يكاد يقطعه، فقال له رجل: أما لحديثك هذا آخر؟ قال: إذا عجز وصلناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 قال: قال معاوية ليونس بن سعيد الثقفي: اتق أن أطير بك طيرة بطيئا وقوعها. قال: إليس لي ولك المرجع بعد إلى الله؟ قال: بلى، فاستغفر الله. رقبة بن مصقلة قال: ما سمعت عمر بن ذر يتكلم إلا ذكرت النفخ في الصور، ولا سمعت أحدا يحكيه إلا تمنيت أن يجلد ثمانين. وقال: وتكلم عمر بن ذر فصاح بعض الزفانين «1» صيحة، فلطمه رجل فقال عمر بن ذر: ما رأيت ظلما قط أوفق لي من هذا. قال: وقال طاوس: كنت عند محمد بن يوسف، فأبلغه رجل عن بعض أعدائه كلاما، فقال رجل من القوم: سبحان الله! فقال طاوس: ما ظننت أن قول سبحان الله معصية لله حتى كان اليوم. كأنه عنده إنما سبّح ليظهر استعظام الذي كان من الرجل، ليوقع به. وقال الراجز: لو كان غاداك البطيء المسهم ... إذا بدا منك الذي لا يكتم وجه قبيح ولسان أبكم ... ومشفر لا يتوارى أضجم وقال آخر: يقعّر القول لكيما تحسبه ... من الرجال الفصحاء المعربه وهو، إذا نسبته، من كربه ... من نخلة نابتة في خربه قالت امرأة الحطيئة للحطيئة، حين تحوّل عن بني رياح إلى بني كليب: «بئس ما استبدلت من بني رياح بعر الكبش» ، لأنهم متفرقون، وكذلك بعر الكبش يقع متفرقا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 علي بن محمد، عن مسلمة بن محارب، عن داوود بن أبي هند، عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبيه قال: بعثني وعمران بن حصين عثمان بن حنيف إلى عائشة فقال: يا أم المؤمنين، أخبرينا عن مسيرك، أهذا عهد عهده إليك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أم رأي رأيته؟ قالت: «بلى رأي رأيته حين قتل عثمان، إنّا نقمنا عليه ضربة السوط، وموقع السحابة المحماة، وأمرة سعيد الوليد، فعدوتم عليه فاستحللتم منه الحرم الثلاث: حرمة البلد، وحرمة الخلافة، وحرمة الشهر الحرام، بعد أن مصناه كما يماص «1» الاناء فاستنقى، فركبتم هذه منه ظالمين، فغضبنا لكم من سوط عثمان، ولا نغضب لعثمان من سيفكم؟» . قلت: وما أنت وسيفنا وسوط عثمان، وأنت حبيس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أمرك أن تقرّي في بيتك فجئت تضربين الناس بعضهم ببعض. قالت: وهل أحد يقاتلني أو يقول غير هذا؟ قلنا: نعم. قالت: ومن يفعل ذلك أزنيم «2» بني عامر؟ ثم قالت: هل أنت مبلغ عني يا عمران؟ قال: لا، لست مبلغ عنك خيرا ولا شرا. فقلت: لكني مبلغ عنك فهاتي ما شئت. فقالت: اللهم اقتل مذمّما قصاصا بعثمان- تعني محمد بن أبي بكر- وأرم الأشتر بسهم من سهامك لا يشوى، وأدرك عمارا بخفرته في عثمان. حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا هشام بن حسان، عن الحسن، أن زيادا بعث الحكم بن عمرو على خراسان، فأصاب مغنما، فكتب إليه زياد: «إن أمير المؤمنين معاوية كتب إلي يأمرني أن أصطفي له كلّ صفراء وبيضاء، فإذا أتاك كتابي هذا فانظر ما كان من ذهب وفضة فلا تقسمه واقسم ما سوى ذلك» . فكتب إليه الحكم: «إني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين ووالله لو أن السموات والأرض كانتا رتقا على عبد فاتقى الله لجعل الله له منها مخرجا. والسلام» . ثم أمر المنادي فنادى في الناس: أن أغدوا على غنائمكم. فغدوا فقسمها بينهم. قال: وقال خالد بن صفوان: «ما رأينا أرضا مثل الأبلّة أقرب مسافة، ولا أطيب نطفة، ولا أوطأ مطية، ولا أربح لتاجر، ولا أخفى لعابد» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 قال الكسائي: لقيت أعرابيا فجعلت أسأله عن الحرف بعد الحرف، والشيء بعد الشيء أقرنه بغيره، فقال: تالله ما رأيت رجلا أقدر على كلمة إلى جنب كلمة أشبه شيء بها وأبعد شيء منها منك. ووصف أعرابي رجلا فقال: ذاك والله ممن ينفع سلمه، ويتواصف حلمه، ولا يستمرأ ظلمه. وقال آخر لخصمه: لئن هملجت إلى الباطل إنك لقطوف «1» إلى الحق. قال: ورأى رقبة بن مصقلة العبدي جارية عند العطار، فقال له: ما تصنع هذه عندك؟ قال: أكيل لها حناء. قال: أظنك والله تكيل لها كيلا لا يأجرك الله عليه. محمد بن سعيد! عن إبراهيم بن حويطب، قال: قال عمرو بن العاص لعبد الله بن عباس: إن هذا الأمر الذي نحن وأنتم فيه ليس بأول أمر قاده البلاء، وقد بلغ الأمر بنا وبكم ما ترى، وما أبقت لنا هذه الحرب حياء ولا صبرا، ولسنا نقول ليت الحرب عادت، ولكنا نقول ليتها لم تكن كانت. فانظر فيما بقي بغير ما مضى، فإنك رأس هذا الأمر بعد عليّ، وإنما هو أمير مطاع، ومأمور مطيع، ومشاور مأمون، وأنت هو. وقال عيسى بن طلحة، لعروة بن الزبير حين ابتلي في رجله فقطعها: يا أبا عبد الله، ذهب أهونك علينا، وبقي أكثرك لنا. وقالت عائشة: لا سمر إلا لثلاثة: لمسافر، أو مصلّ، أو عروس. قال أبو الحسن: خطب الحجاج يوم جمعة فأطال الخطبة، فقال رجل: «إن الوقت لا ينتظرك، وإن الرب لا يعذرك» ، فحبسه، فأتاه أهل الرجل وكلموه فيه وقالوا: إنه مجنون. قال: إن أقرّ بالجنون خليت سبيله. فقيل له: أقر بالجنون. قال: لا والله، لا أزعم أنه ابتلاني وقد عافاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 قالت أم هشام السلولية: ما ذكر الناس مذكورا خيرا من الإبل: أحناه على أحد بخير، إن حملت أثقلت، وإن مشت أبعدت، وإن نحرت أشبعت، وإن حلبت أروت. حدثني سليمان بن أحمد الخرشني، قال: حدثني عبد الله بن محمد بن حبيب، قال: طلب زياد رجلا كان في الامان الذي سأله الحسن بن علي لأصحابه، فكتب فيه الحسن إلى زياد: «من الحسن بن علي إلى زياد. أما بعد فقد علمت ما كنا أخذنا لأصحابنا، وقد ذكر لي فلان إنك عرضت له، فأحب أن لا تعرض له إلا بخير» . فلما أتاه الكتاب ولم ينسبه الحسن إلى أبي سفيان غضب فكتب: «من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن. أما بعد فقد اتاني كتابك في فاسق يؤويه الفساق من شيعتك وشيعة أبيك، وأيم الله لاطلبنّهم ولو بين جلدك ولحمك، وإن أحبّ الناس إلي لحما أن آكله للحم أنت منه» . فلما وصل الكتاب إلى الحسن وجه به إلى معاوية، فلما قرأه معاوية غضب وكتب: «من معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبي سفيان. أما بعد فإن لك رأيين: رأيا من أبي سفيان ورأيا من سمية. فأما رأيك من أبي سفيان فحلم وحزم، وأما رأيك من سمية فكما يكون رأي مثلها. وقد كتب إلى الحسن بن علي إنك عرضت لصاحبه، فلا تعرضن له، فإني لم أجعل لك إليه سبيلا، وإن الحسن ابن علي ممن لا يرمى له الرجوان والعجب من كتابك إليه لا تنسبه إلى أبيه. أفإلى أمه وكلته، وهو ابن فاطمة بنت محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فالآن حين اخترت له. والسلام» . وقدم مصعب بن الزبير العراق فصعد المنبر ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم. طسم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ. نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ . وأشار بيده نحو الشام. وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ . وأشار نحو الحجاز. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ . وأشار بيده نحو العراق. قال: كتب محمد بن كعب: «القرظي» ، فقيل له: والأنصاري؟ فقال: أكره أن أمنّ على الله بما لم أفعل. المدائني قال: قام عمرو بن العاص بالموسم، فأطرى معاوية، وبني أمية، وتناول بني هاشم، ثم ذكر مشاهده بصفين، فقال له ابن عباس: يا عمرو، إنك بعت دينك من معاوية فأعطيته ما في يدك، ومناك ما في يد غيره، فكان الذي أخذ منك فوق الذي أعطاك، وكان الذي أخذت منه دون ما أعطيته، وكلّ راض بما أخذ وأعطى، فلما صارت مصر في يدك تتبعك فيها بالعزل والتنقص، حتى لو أن نفسك فيها القيتها إليه، وذكرت مشاهدك بصفين فما ثقلت علينا يومئذ وطأتك، ولا نكتنا فيها حربك. وإن كنت فيها لطويل اللسان، قصير السنان. آخر الحرب إذا اقبلت، وأولها إذا أدبرت. لك يدان: يد لا تبسطها إلى خير، ويد لا تقبضها عن شر. ووجهان: وجه مؤنس، ووجه موحش. ولعمري إن من باع دينه بدنيا غيره لحري أن يطول حزنه على ما باع واشترى. لك بيان وفيك خطل، ولك رأي وفيك نكد، ولك قدر وفيك حسد. فأصغر عيب فيك أكبر عيب في غيرك. فقال عمرو: أما والله ما في قريش أحد أثقل وطأة عليّ منك، ولا لأحد من قريش عندي مثل قدرك. قال: ورأى عمرو بن عتبة بن أبي سفيان رجلا يشتم رجلا، وآخر يستمع له فقال للمستمع: نزّه سمعك عن استماع الخنا، كما تنزه لسانك عن الكلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 به، فإن السامع سريك القائل، وإنما نظر إلى شر ما في وعائه فأفرغه في وعائك، ولو ردّت كلمة جاهل في فيه لسعد رادها، كما شقي قائلها. عوانة قال: اختصم إلى زياد رجلان في حق كان لأحدهما على الآخر، فقال المدّعى عليه: أيها الأمير، إنه ليسطو عليّ بخاصة ذكر أنها له منك. فقال زياد: صدق، وسأخبرك بمنفعتها له: أن يكن الحق له عليك أخذتك به، وإن يكن لك عليه حكمت عليه ثم قضيت عنه. قال: ولما توفي أبو بكر الصديق رحمه الله، قامت عائشة على قبره فقالت: نضّر الله وجهك، وشكر لك صالح سعيك، فلقد كنت للدنيا مذلا بادبارك عنها، وللآخرة معزا بإقبالك عليها. وإن كان لأجل الأرزاء بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رزؤك، ولأكبر المصائب فقدك. وإن كتاب الله ليعيد بجميل العزاء عنك حسن العوض منك. فأنتجز من الله موعوده فيك بالصبر عنك، واستخلصه بالاستغفار لك. وقامت فرغانة بنت أوس بن حجر على قبر الأحنف بن قيس وهي على راحلة، فقالت: إنّا لله وإنا إليه راجعون. رحمك الله أبا بحر من مجنّ في جنن، ومدرج في كفن، فو الذي ابتلانا بفقدك، وأبلغنا يوم موتك، لقد عشت حميدا، ومت فقيدا، ولقد كنت عظيم الحلم، فاضل السلم، رفيع العماد، واري الزناد، منيع الحريم، سليم الأديم، وإن كنت في المحافل لشريفا، وعلى الأرامل لعطوفا، ومن الناس لقريبا، وفيهم لغريبا. وإن كنت لمسوّدا، وإلى لخلفاء لموفدا، وإن كانوا لقولك لمستمعين، ولرأيك لمتبعين. ثم انصرفت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 أبو الحسن قال: قال عمرو بن العاص: ما رأيت معاوية قط متكئا على يساره، واضعا احدى رجليه على الأخرى، كاسرا إحدى عينيه، يقول للذي يكلمه: يا هناه «1» ، ألا رحمت الذي يكلمه. وقال عمر بن الخطاب رحمه الله كونوا أوعية الكتاب، وينابيع العلم، وسلوا ار رزق يوم بيوم، ولا يضيركم ألا يكثر لكم. وكتب معاوية إلى عائشة: أن أكتبي إليّ بشيء سمعته من أبي القاسم صلّى الله عليه وسلّم. فكتبت إليه: «سمعت أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم يقول: من عمل بما يسخط الله عاد حاسده من الناس له ذاما» . أوصى بعض العلماء ابنه فقال: أوصيك بتقوى الله، وليسعك بيتك. واملك عليك لسانك، وابك على خطيئتك. بكر بن أبي بكر القرشي قال: قال أعرابي: ما غبنت قط حتى يغبن قومي. قيل: وكيف؟ قال: لا أفعل شيئا حتى أشاورهم. قيل لرجل من عبس: ما أكثر صوابكم! قال: نحن ألف رجل، وفينا حازم ونحن نطيعه، فكأنا ألف حازم. قال أبو الحسن: أول من أجرى في البحر السفن المقيّرة المسمّرة، غير المخرّزة المدهونة، وغير ذات الجآجيء «2» ، وكان أول من عمل المحامل، الحجاج. وقال بعض رياز الأكرياء «3» : أوّل عبد عمل المحاملا ... أخزاه ربي عاجلا وآجلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 وقال آخر: شيّب أصداغي فهن بيض ... محامل لقدها نقيض قال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: لو تنخّل «1» رجل أخا شقيقا لم يأمل أن يبدو منه ما يبدو من الثوب ذي الحرق، فرحم الله رجلا أغضى على الأقذاء واستمتع بالظاهر. قال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: من ولّد الخير نتج له فراخا تطير بالسرور ومن ولّد الشر انبت له نباتا مرا مذاقه، قضبانه الغيظ، وثمره الندم. وأنشد النضر بن شميل: يحبّ بقائي المشفقون ومدني ... إلى أجل، لو يعلمون، قريب وما أربي في أرذل العمر بعدما ... لبست شبابي قبله ومشيبي وأنشد أبن الأعرابي: يا أبن الزبير جزاك الله لائمة ... هلا انتهيتم وفي الأقوال تعتيب «2» تنزو لتدرك من كعب غطارفة ... هلا تستوي بسرة العرجون والطيب «3» كما ترى فرخ عش لا حراك به ... وفوقه من نسال الريش تزغيب ما فيكم قد علمنا من محافظة ... يوم الحفاظ ولا خيّر لمنكوب وأنتم تحت أوراق البيوت إذا ... هبت شآمية درن طحاريب أنتم مناخ الخنى قبحا لخلتكم ... فكلكم يا بني البلقاء مقشوب في ذمتي أن تضجوا من مصادمتي ... كما تضجّ من الحر الجناديب ما بين أدبس نتاج له ذفر ... ومقصد القلب ذي ستين معصوب خالي سماعة فاعلم، لا خفاء به ... لقد هوى بك ياوتين شنخوب صعب مناكبه تهوى الكماة به ... خوفا وتصطادهم منه كلاليب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 وأنشد ابن المعذّل: تواعد للبين الخلبط لينبتوا ... وقالوا لراعي الظهر موعدك السبت ففاجأني بغتا ولم أخش بينهم ... وافظع شيء حين يفجؤك البغت مضى لسليمى منذ ما لم ألاقها ... سنون توالت بيننا خمس أو ست وفي النفس حاجات اليكم كثيرة ... بربانها في الحي لو أخر الوقت تأيمت حتى لامني كل صاحب ... رجاء لسلمى أن تئيم كما إمت لئن بعت حظي منك يوما بغيره ... لبئس إذا يوم التغابن ما بعت تمنى رجال أن أموت وعهدهم ... بأن يتمنوا لو حييت إذا مت وقد علموا عند الحقائق إنني ... أخو ثقة ما إن ونيت ولا أنت وأنى قد سيرت نبلي وإنني ... كأني وقد وقعت أنصالها رشت وقال أحمد بن المعذل: انشدني أعرابي من طيء: ولست بميال إلى جانب الغنى ... إذا كانت العلياء في جانب الفقر وإني لصبّار على ما ينوبني ... وحسبك إن الله أثنى على الصبر خطبة الحجاج [في الكوفة] حدثنا محمد بن يحيى بن علي بن عبد الحميد، عن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: خرج الحجاج يريد العراق واليا عليها، في إثني عشر راكبا على النجائب، حتى دخل الكوفة فجأة حين انتشر النهار، وقد كان بشر بن مروان بعث المهلب إلى الحرورية، فبدأ الحجاج بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر وهو متلثم بغمامة خز حمراء، فقال: علي بالناس! فحسبوه وأصحابه خوارج، فهموا به، حتى إذا اجتمع الناس في المسجد قام فكشف عن وجهه، ثم قال: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى اضع العمامة تعرفوني أما والله إني لأحتمل الشرّ بحمله، واحذوه بفعله، وأجزيه بنعله، وإني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، وإني لأنظر إلى الدماء ترقرق بين العمائم واللحى. قد شمّرت عن ساقها فشمرا ثم قال: هذا أوان الشد فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسوّاق حطم ليس براعي ابل ولا غنم ... ولا بجزّار على ظهر وضم وقال أيضا: قد لفها الليل بعصلبيّ ... أروع خرّاج من الدويّ مهاجر ليس بأعرابي إني والله يا أهل العراق، والشقاق والنفاق، ومساوي الأخلاق، ما أغمز تغماز التين، ولا يقعقع لي بالشنان «1» ، ولقد فررت عن ذكاء «2» وفتشت عن تجربة، وجريت من الغاية. إن أمير المؤمنين كب كنانته ثم عجم عيدانها، فوجدني أمرّها عودا، وأصلبها عمودا، فوجهني إليكم، فإنكم طالما أوضعتم «3» في الفتن، وأضطجعتم في مراقد الضلال، وسننتم سنن الغيّ. أما والله لألحونكم لحو العصا، ولأعصبنكم عصب السلمة «4» ، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، فإنكم لكأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. إني والله لا اعد إلا وفيت، ولا أهمّ إلا أمضيت، ولا أخلق إلا فريت. فإياي وهذه الجماعات وقال وقيل، وما تقولون؟ وفيم انتم وذاك؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 أما والله لتستقيمنّ على طريق الحق أو لأدعنّ لكل رجل منكم شغلا في جسده. من وجدت بعد ثالثة من بعث المهلب سفكت دمه، وانتهبت ماله. ثم دخل منزله. [رسالة الحجاج إلي قطري بن الفجاءة وجوابها] أبو الحسن قال: كتب الحجاج بن يوسف إلى قطري بن الفجاءة: «سلام عليك. أما بعد فإنك مرقت من الدين مروق السهم من الرميّة، وقد علمت حيث تجرثمت «1» ، ذاك إنك عاص لله ولولاة أمره، غير إنك أعرابي جلف أميّ، تستطعم الكسرة وتستشفي بالتّمرة، والأمور عليك حسرة، خرجت لتنال شبعة فلحق بك طعام صلوا بمثل ما صليت به من العيش، فهم يهزّون الرماح، ويستنشئون الرياح، على خوف وجهد من أمورهم. وما أصبحوا يتتظرون أعظم مما جهلوا معرفته، ثم أهلكهم الله بترحتين. والسلام» . فأجابه قطريّ: «من قطري بن الفجاءة إلى الحجاج بن يوسف. سلام على الهداة من الولاة، الذين يرعون حريم الله ويرهبون نقمه. فالحمد لله على ما أظهر من دينه، واظلع «2» به أهل السّفال، وهدى به من الضّلال، ونصر به، عند استخفافك بحقه. كتبت إلي تذكر إني أعرابي جلف أمي، استطعم الكسرة واستشفي بالتمرة. ولعمري يا أبن أم الحجاج إنك لمتيه في جبلتك «3» ، مطلخم في طريقتك «4» ، واه في وثيقتك، لا تعرف الله ولا تجزع من خطيئتك، يئست واستيأست من ربك، فالشيطان قرينك، لا تجاذبه وثاقك، ولا تنازعه خناقك. فالحمد لله الذي لو شاء أبرز لي صفحتك، وأوضح لي صلعتك. فوالذي نفس قطري بيده، لعرفت أن مقارعة الأبطال، ليس كتصدير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 المقال مع إني أرجو أن يدحض الله حجتك، وأن يمنحني مهجتك» . [أقوال وجوابات منتخبة] خالد بن يزيد الطائي، قال: كتب معاوية إلى عدي بن حاتم: «حاجيتك ما لا ينسى» يعني قتل عثمان. فذهب عدي بالكتاب إلى علي فقال: «إن المرأة لا تنسى قاتل بكرها، ولا أبا عذرها» . فكتب إليه عدي: «إن ذلك مني كليلة شيباء» . وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «يا غلام، ارفع ذلك النثيل» ، يعني روثا. وقيل له: أين خرج هذا الجبن؟ قال: تحت منكبي. وقيل لقتيبة: أين خرج بك هذا الخراج «1» قال: بين الرانفة والصفن «2» . قال: وقيل لرقبة: ما بال القراء أشد الناس نهمة وغلمة؟ قال: أما الغلمة فإنهم لا يزنون، وأما النهمة فلأنهم يصومون. وعرض عليه رجل الغداء، فقال: يا هذا، إن أقسمت علي، وإلا فدعني. وقال مورّق العجلي: ما تكلمت بكلمة في الغضب اندم عليها في الرضا. وقد سألت الله حاجة منذ أربعين سنة فما أجابني ولا يئست منها: ألا أتكلم فيما لا يعنيني. قال: مكتوب في حكمة داوود: على العاقل أن يكون عالما بأهل زمانه، مالكا للسانه، مقبلا على شأنه. قال: ولما قدم الفرزدق الشام قال له جرير- وكان هنالك- ما ظننت إنك تقدم بلدا أنا فيه! فقال الفرزدق: إني طالما خالفت رأي العجزة. وقال يونس بن حبيب: إذا قالوا غلب الشاعر فهو الغالب، وإذا قالوا مغلّب المغلوب. وقال امرؤ القيس: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 وإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلّب وقال بعضهم: إني امرؤ ينفع قومي مشهدي ... أذبّ عنهم بلساني ويدي وقال قتيبة بن مسلم: إذا غزوتم فأطيلوا الأظفار، وقصروا الشعور. وقال: ونظر مخنث إلى شيخ قبيح الوجه في الطريق فقال له: ألم ينهكم سليمان بن داود عن الخروج بالنهار؟ وقال: وعزى أعرابي ناسا فقال: يرحم الله فلانا، فلقد كان كثير الإهالة دسم الأشداق. وقال الشاعر: ترى ودك السديف على لحاهم ... كلون الراء لبّده الصقيع وقال أعرابي «رحم الله فلانا، إن كان لضخم الكاهل» . ثم جلس وسكت. وقال آخر: «كان والله نقيّ الأظفار، قليل الأسرار» . وقال صديق لنا: رأيت سكرانا وقد ركب ردعه، ثم أنه استقل فقال: أنا السّديف المسرهد «1» . وسارّ رجل اعرابيا بحديث فقال له: أفهمت؟ قال: بل نسيت! قال وائلة بن خليفة السدوسي، يهجو عبد الملك بن المهلب: لقد صبرت للذل أعواد منبر ... تقوم عليها في يديك قضيب بكى المنبر الغربي إذ قمت فوقه ... وكادت مسامير الحديد تذوب رأيتك لما شبت أدركك الذي ... يصيب سراة الأزد حين تشيب سفاهة أحلام وبخل بنائل ... وفيك لمن عاب المزون عيوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 وقد أوحشت منكم رساتيق فارس ... وبالمصر دور جمة ودروب إذا عصبة ضجت من الخرج ناسبت ... مزونية إن النسيب نسيب وقال بشار الأعمى، في عمر بن حفص: ما بال عينك دمعها مسكوب ... حربت فأنت بنومها محروب وكذاك من صحب الحوادث لم تزل ... تأتي عليه سلامة ونكوب يا أرض ويحك اكرميه فإنه ... لم يبق للعتكيّ فيك ضريب أبهى على خشب المنابر قائما ... يوما وأحزم إذ تشبّ حروب إن الرزية لا رزية مثلها ... يوم ابن حفص في الدماء خضيب لا يستجيب ولا يحير لسانه ... ولقد يحير لسانه ويجيب غلب العزاء على ابن حفص والأسى ... إن العزاء بمثله مغلوب إذ قيل أصبح في المقابر ثاويا ... عمر وشقّ لواؤه المنصوب فظللت أندب سيف آل محمد ... عمرا وعز هنالك المندوب فعليك يا عمر السلام فإننا ... باكوك ماهبت صبا وجنوب قال اسماعيل بن غزوان: الأصوات الحسنة والعقول الحسان كثيرة، والبيان الجيد والجمال البارع قليل. وذكر أبو الحارث، صاحب مسجد ابن رغبان، فقال: إن حدثته سبقك إلى ذلك الحديث، وإن سكتّ عنه أخذ في الترهّات. وقال ابن وهب: أنا استثقل الكلام كما يستثقل حريث السكوت. كما قال ابن شبرمة لا ياس بن معاوية: شكلي وشكلك لا يتفقان، أنت لا تشتهي أن تسكت، وأنا لا أشتهي أن أسمع. وقال أبو عقيل بن درست: إذا لم يكن المستمع أحرص على الاستماع من القائل على القول، لم يبلغ القائل في منطقة، وكان النقصان الداخل على قوله بقدر الخلة بالاستماع منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 وقال ابن بشار البرقي: كان عندنا واحد يتكلم في البلاغة، فسمعته يقول: لو كنت ليس أنا، وأنا ابن من أنا منه، لكنت أنا أنا وأنا ابن من أنا منه فكيف وأنا أنا وابن من أنا منه. وقالوا: ثلاث يسرع إليهن الخلف: الحريق، والتزويج، والحج. وقال المهلب: «ليس أنمى من بقية السيف» . فوجد الناس تصديق قوله فيما نال ولده من السيف وصار فيهم من النماء. وقال علي بن أبي طالب رحمه الله: «بقية السيف أنمى عددا، وأكرم ولدا» . ووجد الناس ذلك بالعيان، للذي صار إليه ولده من نهك السيف، وكثرة الذرء، وكرم النجل. قال الله عزّ وجل: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ وقال بعض لحكماء: «قتل البعض أحياء للجميع» . وقال همّام الرقاشي: أبلغ أبا مسمع عني مغلغلة ... وفي العتاب حياة بين أقوام قدّمت قبلي رجالا لم يكن لهم ... في الحق أن يلجوا الأبواب قدامي لو عدّ قبر وقبر كنت أكرمهم ... قبرا وأبعدهم من منزل الذام فقد جعلت إذا ما حاجة عرضت ... بباب قصرك أدلوها بأقوام وقال الحجاج لامرأة من الخوارج: «والله لأعدنكم عدا، ولأحصدنكم حصدا» . قالت: أنت تحصد، والله يزرع، فانظر أين قدرة المخلوق من قدرة الخالق. ولم يظهر من عدد القتلى مثل الذي ظهر في آل أبي طالب، وآل الزبير، وآل المهلب. وقال الشاعر في آل الزبير: آل الزبير بنو حرّة ... مروا بالسيوف صدورا حناقا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 يموتون او القتل من دأبهم ... ويغشون يوم السباق السباقا إذا فرّج القتل عن عيصهم ... أبى ذلك العيص إلا اتفاقا قال: احترقت دار ثمامة، فقالوا له: ما أسرع خلف الحريق؟ قال: فأنا استحرق الله. قال ثمامة: سمعت قاصّا بعبادان يقول في دعائه: اللهم ارزقنا الشهادة وجميع المسلمين. قال: وتساقط الذبّان على وجهه فقال: الله أكبر، كثّر الله بكم القبور. قال: وسمع أعرابي رجلا يقرأ سورة براءة فقال: ينبغي أن يكون هذا آخر القرآن. قيل له: ولم؟ قال: رأيت عهودا تنبذ. وقال عبد العزيز الغزّال القاصّ، في قصصه: ليت الله لم يكن خلقني وأنا الساعة أعور. فحكيت ذلك لأبي عتّاب الجرّار. فقال أبو عتاب: بئس ما قال، وددت والله الذي لا إله إلا هو إن الله لم يكن خلقني وإني الساعة أعمى مقطوع اليدين والرجلين. قال: ولما استعدي الزبرقان على الحطيئة فأمر عمر بقطع لسانه، قال الزبرقان: نشدتك الله يا أمير المؤمنين أن تقطعه، فإن كنت لا بد فاعلا فلا تقطعه في بيت الزبرقان. فقيل له: إنه لم يذهب هنالك، إنما أراد أن يقطع لسانه عنك برغبة أو رهبة. وتقول العرب: «قتلت أرض جاهلها، وقتل أرضا عالمها» .. وتقول: «ذبحني العطش» ، و «المسك الذبيح» ، و «ركب بنو فلان الفلاة فقطع لعطش أعناقهم» . وتقول: فلان لسان القوم ونابهم الذي يفتوّن عنه. وهؤلاء أنف القوم خراطيمهم. وبيسان لسان الأرض يوم القيامة. وفلان اصطمة الوادي وعين البلد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 وقال الأصمعي: قال رجل لأبي عمرو بن العلاء: أكرمك الله! قال: محدثة. قال: وكان ابن عون يقول: كيف أنت أصلحك الله. وكان الأصمعي يقول: قولهم جعلت فداك، وجعلني الله فداك، محدث وقد روى علماء البصريين أن الحسن لما سمع صراخا في جنازة أم عبد الأعلى ابن عبد الله بن عامر فالتفت، قال له عبد الأعلى: جعلت فداك، لا والله ما أمرت، ولا شعرت. وقال الأصمعي: صلّى أعرابي فأطال الصلاة، وإلى جانبه ناس، فقالوا: ما أحسن صلاته! فقال: وأنا مع هذا صائم. قال الشاعر: صلّى فأعجبني وصام فرابني ... عدّ القلوص عن المصلي الصائم وقال طاهر بن الحسين لأبي عبد الله المروزي: منذ كم صرت إلى العراق يا أبا عبد الله؟ قال: دخلت العراق منذ عشرين سنة وأنا أصوم الدهر منذ ثلاثين سنة. قال: يا أبا عبد الله، سألناك عن مسألة فأجبتنا عن مسألتين. قال عوانة: قال زياد بن أبيه: من سعادة الرجل أن يطول عمره، ويرى في عدوه ما يسره. وقال الباهلي: قيل لأعرابي: ما بال المراثي أجود أشعاركم؟ قال: لأنا نقول وأكبادنا تحترق. قال أبو الحسن: كانت بنو أميّة لا تقبل الراوية إلا أن يكون راوية للمراثي. قيل: ولم ذاك؟ قيل: لأنها تدل على مكارم الأخلاق. وقال عمر بن الخطاب رحمه الله: من خير صناعات العرب الأبيات يقدمها الرجل بين يدي حاجته، يستنزل بها الكريم، ويستعطف بها اللئيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 وقال شعبة: كان سماك بن حرب «1» إذا كانت له إلى الوالي حاجة قال فيه أبياتا ثم يسأله حاجته. قال أبو الحسن: كان شظاظ لصا، فأغار على قوم من العرب فأطرد نعمهم فساقها ليلته حتى أصبح، فقال رجل من اصحابه: لقد أصبحنا على فصد من طريقنا. فقال: «إن المحسن معان» . وقال أبو الحسن: أربى غلام من بني علي، على عبد الملك، وعبد الملك يومئذ غلام، فقال له كهل من كهولهم لما رآه ممسكا عن جواب المربي عليه: لو شكوته إلى عمه انتقم لك منه. قال: أمسك يا كهل، فإني لا أعد انتقام غيري انتقاما. قال أبو الحسن: خاض جلساء عبد الملك يوما في قتل عثمان، فقال رجل منهم: يا أمير المؤمنين، في أي سنيك كنت يومئذ؟ قال: كنت دون المحتلم، قال: فما بلغ من حزنك عليه؟ قال: شغلني الغضب له عن الحزن عليه. وكان عمر بن الخطاب، رحمه الله، إذا اشترى رقيقا قال: اللهم ارزقني أنصحهم جيبا «2» ، وأطولهم عمرا. وكان إذا استعمل رجلا قال: إن العمل كبر، فانظر كيف تخرج منه. قال: ومضى ابو عبد الله الكرخي إلى الرّبض، فجلس على بابه ونفش لحيته وادعى الفقه، فوقف عليه رجل فقال له: إني أدخلت اصبعي في أنفي فخرج عليها دم. قال: احتجم. قال: جلست طبيبا أو فقيها؟! قالوا: بينا الشعبي جالس في مجلسه وأصحابه يناظرونه في الفقه، إذا شيخ بقربه قد أقبل عليه بعد أن طال جلوسه، فقال له: إني أجد في قفاي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 حكة افترى لي أن أحتجم؟ قال الشعبي: الحمد لله الذي حولنا من الفقه إلى الحجامة. قال: وذكر ناس رجلا بكثرة الصوم وطول الصلاة وشدة الأجتهاد، فقال أعرابي كان شاهدا لكلامهم: بئس الرجل هذا، يظن أن الله لا يرحمه حتى يعذب نفسه هذا التعذيب. وقال ابن عون: أدركت ثلاثة يتشددون في السماع، وثلاثة يتساهلون في المعاني. فأما الذين يتساهلون فالحسن، والشعبي، والنخعي، وأما الذين يتشددون فمحمد بن سيرين «1» ، والقاسم بن محمد «2» ، ورجاء بن حيوة. قال رجل من أصحاب ابن لهيعة: ما رأيت أحقن أدبا من عبد الله بن المبارك، والمعافى بن عمران «3» . وقال ابو الحسن: حدثني عبد الأعلى قال: رأيت الطرمّاح مؤدبا بالري فلم أر أحدا آخذ لعقول الرجال، ولا أجذب لأسماعهم إلى حديثه منه، ولقد رأيت الصبيان يخرجون من عنده وكأنهم قد جالسوا العلماء. قال: كان رجل يبلغه كلام الحسن البصري، فبينا الرجل يطوف بالبيت إذ سمع رجلا يقول: «عجبا لقوم أمروا بالزاد ونودي فيهم بالرحيل، وحبس أولهم على آخرهم، فليت شعري ما الذي ينتظرون» . قال: فقلت في نفسي: هذا الحسن. قال: وأربعة من قريش كانوا رواة الناس للأشعار، وعلماءهم بالأنساب والأخبار: مخرمة بن نوفل بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة، وأبو الجهم بن حذيفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 ابن غانم بن عامر بن عبد الله بن عوف، وحويطب بن عبد العزّى، وعقيل بن أبي طالب. وكان عقيل أكثرهم ذكرا لمثالب الناس، فعادوه لذلك، وقالوا فيه وحمّقوه. وسمعت ذلك العامة منهم، فلا تزال تسمع الرجل يقول: قد سمعت الرجل يحمقه. حتى ألف بعض الأعداء فيه الأحاديث. فمنها قولهم: ثلاثة حمقى كانوا أخوة ثلاثة عقلاء، والأم واحدة: علي وعقيل وأمهما فاطمة بنت اسد بن هاشم، وعتبة ومعاوية ابنا أبي سفيان وأمهما هند بنت عتبة بن ربيعة، وعبد الملك ومعاوية ابنا مروان وأمهما عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص. فكيف وجعدة بن هبيرة يقول: أبي من بني مخزوم إن كنت سائلا ... ومن هاشم أمي، لخير قبيل فمن ذا الذي يبأى علي بخاله ... وخالي عليّ ذو الندى وعقيل وقال قدامة بن موسى بن قدامة بن مظعون: وخالي بغاة الخير تعلم أنه ... جدير بقول الحقّ لا يتوعر وجدي عليّ ذو التقى وابن أمه ... عقيل وخالي ذو الجناحين جعفر فنحن ولاة الخير في كل موطن ... إذا ما ونى عنه رجال وقصروا وقال حسان بن ثابت: إن خالي خطيب جابية الجو ... لان عند النعمان حين يقوم وهو الصقر عند باب ابن سلمى ... يوم نعمان في الكبول مقيم وسطت نسبتي الذوائب منهم ... كل دار فيها أب لي عظيم وأبي في سميحة «1» القائل الفا ... صل يوم التفت عليه الخصوم يفصل القول بالبيان وذو الرأ ... ي من القوم ظالع مكعوم «2» تلك أفعاله وفعل الزبعرى «3» ... خامل في صديقه مذموم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 رب حلم أضاعه عدم الما ... ل وجهل غطى عليه النعيم ولي البأس منكم إذ أبيتم ... أسرة من بني قصيّ صميم وقريش تجول منا لواذا ... أن يقيموا وخف منها الحلوم لم تطق حمله العواتق منهم ... إنما يحمل اللواء النجوم وكان عقيل رجلا قد كف بصره، وله بعد لسانه وأدبه ونسبه وجوابه، فلما فضل نظراءه من العلماء بهذه الخصال، صار لسانه بها أطول. وغاضب عليا وأقام بالشام، وكان ذلك أيضا مما أطلق لسان الباغي والحاسد فيه. وزعموا أنه قال له معاوية: هذا أبو يزيد، لولا أنه علم أني خير له من أخيه لما أقام عندنا وتركه. فقال له عقيل: «أخي خير لي في ديني، وأنت خير لي في دنياي» . وقال له مرة بصفين: أنت معنا يا أبا يزيد الليلة. قال: ويوم بدر قد كنت معكم. وقال معاوية يوما: يا أهل الشام، هل سمعتم قول الله تبارك وتعالى في كتابه: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ ؟ قالوا نعم. قال: فإن أبا لهب عمه. فقال عقيل: فهل سمعتم قول الله جل وعز: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ قالوا: نعم. قال: فإنها عمته. قال معاوية: حسبنا ما لقينا من أخيك. وذكروا أن امرأة عقيل، وهي فاطمة ابنة عتبة بن ربيعة قالت: يا بني لا يحبكم قليي ابدا! أين أبي، أين عمي، أين أخي، كأن أعناقهم أباريق الفضة، ترد آنفهم قبل شفاههم. قال لها عقيل: إذا دخلت جهنم فخذي على شمالك. وقيل لعمر رحمه الله: فلان لا يعرف الشر. قال: ذلك أجدر أن يقع فيه. قال: وسمع أعرابي رجلا يقرأ: وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ: تَجْرِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ ، قال بفتح الكاف، فقال الأعرابي: لا يكون. فقرأها عليه بضم الكاف وكسر الفاء، فقال الأعرابي: يكون. قال الشاعر: بدا البرق من نحو الحجاز فشاقني ... وكلّ حجازيّ له البرق شائق سرى مثل نبض العرق والليل دونه ... وأعلام أبلى كلها والأسالق «1» وقال آخر: أرقت لبرق آخر الليل يلمع ... سرى دائبا حينا يهبّ ويهجع سرى كاحتساء الطير والليل ضارب ... بأرواقة والصبح قد كاد يسطع حدثني ابراهيم بن السّندي عن أبيه قال: دخل شاب من بني هاشم على المنصور، فسأله عن وفاة ابيه فقال: مرض أبي رضي الله عنه يوم كذا، ومات رضي الله عنه يوم كذا، وترك رضي الله عنه من المال كذا، ومن الولد كذا: فانتهره الربيع «2» وقال: بين يدي أمير المؤمنين توالي بالدعاء لأبيك؟ فقال الشاب: لا ألومك، لأنك لم تعرف حلاوة الآباء. قال: فما علمنا أن المنصور ضحك في مجلسه ضحكا قط، فافترّ عن نواجذه إلا يومئذ. وحدثني إبراهيم بن السندي عن أبيه قال: دخل شاب من بني هاشم على المنصور، فاستجلسه ذات يوم ودعا بغدائه، فقال للفتى: ادنه. قال الفتى: قد تغديت يا أمير المؤمنين. فكف عنه الربيع حتى ظننا أنه لم يفطن لخطابه، فلما نهض إلى الخروج أمهله، فلما كان من وراء الستر دفع في قفاه، فلما رأى ذلك الحجاب منه دفعوا في قفاه حتى أخرجوه من الدار، فدخل رجال من عمومة الفتى فشكوا الربيع إلى المنصور، فقال المنصور: إن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 الربيع لا يقدم على مثل هذا إلا وفي يديه حجة، فإن شئتم أغضيتم على ما فيها، وإن شئتم سألته وأنتم تسمعون. قالوا: فسله. فدعا الربيع وقصوا قصته، فقال الربيع: هذا الفتى كان يسلم من بعيد وينصرف، فاستدناه أمير المؤمنين حتى سلم عليه من قريب ثم أمره بالجلوس، ثم تبذل بين يديه وأكل، ثم دعاه إلى طعامه ليأكل معه من مائدته، فبلغ من جهله بفضيلة المرتبة التي صيره فيها أن قال حين دعاه إلى غدائه: قد تغديت! فإذا ليس عنده لمن تغدى مع أمير المؤمنين إلا سد خلّة الجوع، ومثل هذا لا يقومه القول دون الفعل. وحدثنا ابراهيم بن السندي عن ابيه قال: والله إني لواقف على رأس الرشيد، والفضل بن الربيع واقف في الجانب الآخر والحسن اللؤلؤي «1» يحدثه ويسائله عن أمور، وكان آخر ما سأله عن بيع أمهات الأولاد، فلولا إني ذكرت أن سلطان ما وراء الستر للحاجب، وسلطان الدار لصاحب الحرس، وأن سلطاني إنما هو على من خرج من حدود الدار، لقد كنت أخذت بضبعه «2» وأقمته، فلما صرنا وراء الستر قلت له والفضل يسمع: أما والله لو كان هذا منك في مسايرة أو موقف لعلمت أن للخلافة رجالا يصونونها عن مجلسك. وحدثني ابراهيم بن السندي قال: بينا الحسن اللؤلؤي في بعض الليالي بالرقة يحدث المأمون والمأمون يومئذ أمير، إذا نعس المأمون، فقال له اللؤلؤي: نمت أيها الأمير؟ ففتح المأمون عينيه وقال: سوقي والله خذ يا غلام بيده. قال: وكنا يوما عند زياد بن محمد منصور بن زياد، وقد هيأ لنا الفضل ابن محمد طعاما، ومعنا في المجلس خادم كان لأبيهم، فجاء رسول الفضل إلى زياد فقال: يقول لك أخوك: قد أدرك طعامنا فتحولوا. ومعنا في المجلس ابراهيم النظام، وأحمد بن يوسف، وقطرب النحوي، في رجال من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 أدباء الناس وعلمائهم، فما منا أحد فطن لخطأ الرسول. فأقبل عليه مبشّر الخادم، فقال: يا ابن اللخناء، تقف على رأس سيدك فتستفتح الكلام كما تستفتحه لرجل من عرض الناس. ألا تقول: يا سيدي يقول لك أخوك: ترى أن تصير إلينا بأخوانك فقد تهيأ أمرنا؟ وابتعت خادما كان قد خدم اهل الثروة واليسار وأشباه الملوك، فمر به خادم من معارفه ممن قد خدم الملوك فقال له: إن الأديب وإن لم يكن ملكا فقد يجب على الخادم أن يخدمه خدمة الملوك، فانظر أن تخدمه خدمة تامة. قلت له: وما الخدمة التامة؟ قال: الخدمة التامة أن تقوم في دارك لبعض الأمر وبينك وبين النعل ممشى خمس خطى فلا يدعك أن تمشي إليها، ولكن يأخذها ويدنيها منك. ومن كان يضع النعل اليسرى قدام الرجل اليمنى فلا ينبغي لمثل هذا أن يدخل على دار ملك ولا أديب. ومن الخدمة التامة أن يكون إذا رأى متكأ يحتاج إلى مخدة ألا ينتظر أمرك. ويتعاهد ليقة الدواة قبل أن تأمره أن يصب فيه ماء أو سوادا، وينفض عنها الغبار قبل أن يأتيك بها. وإن رأى بين يديك قرطاسا على طيّه قطع رأسه ووضعه بين يديك على كسره. وأشباه ذلك. قال: ولما كلم عروة بن مسعود الثقفي، رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان في ذلك ربما مس لحية النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال له المغيرة بن شعبة: نح يدك عن لحية رسول الله عليه السلام قبل ألا ترجع إليك يدك. فقال عروة: يا غدر هل غسلت رأسك من غدرتك إلا بالأمس؟ أقال: ونادى رجال من وفد بني تميم النبي صلّى الله عليه وسلّم باسمه من وراء الحجرات، فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ . وقال الله جل ذكره: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً «1» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 وقال ابن هرمة أو غيره: لله درّ سميدع فجعت به ... يوم البقيع حوادث الأيام هش إذا نزل الوفود ببابه ... سهل الحجاب مؤدّب الخدام فإذا رأيت صديقه وشقيقه ... لم تدر أيهما أخو الأرحام قال أبو الحسن: بينا هشام يسير ومعه أعرابي إذ انتهى إلى ميل عليه كتاب، فقال للأعرابي: انظر أي ميل هذا؟ فنظر ثم رجع إليه، فقال: عليه محجن وحلقة، وثلاثة كأطباء الكلبة، ورأس كأنه رأس قطاة. فعرفه هشام بصورة الهجاء ولم يعرفه الاعرابي، وكان عليه «خمسة» . استشهدوا أعرابيا على رجل وامرأة، فقال: رأيته قد تقمّصها، يحفزها بمؤخره، ويجذبها بمقدّمه، وخفي عليّ المسلك. وقال آخر: رأيته قد تبطّنها، ورأيت خلخالا شائلا، وسمعت نفسا عاليا، ولا علم لي بشيء بعد. وقال أعرابيّ: رأيت هذا قد تناول حجرا فالتفّ بهذا، وحجز الناس بينهما، وإذا هذا يستدمي. وقال بعضهم: الشيب نذير الآخرة. وقال قيس بن عاصم: الشيب خطام المنية. وقال آخر: الشيب توأم الموت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 وقال الحكيم: شيب الشعر موت الشعر، وموت الشعر علة موت البشر. وقال المعتمر بن سليمان: الشيب أوّل مراحل الموت. وقال السهمي: الشيب تمهيد الحمام. وقال العتابي: الشيب تاريخ الكتاب. وقال النمري: الشيب عنوان الكبر. وقال عدي بن زيد العبادي: وإبيضاض السواد من نذر المو ... ت وهل مثله لحي نذير وقال الآخر: أصبح الشيب في المفارق شاعا ... واكتسى الرأس من بياض قناعا ثم ولى الشباب إلا قليلا ... ثم يأبى القليل إلا نزاعا قال: وقال رجل لأشعب «1» : ما شكرت معروفي عندك. قال: لأن معروفك جاء من عند غير محتسب فوقع إلى غير شاكر. وخفف أشعب الصلاة مرة فقال له بعض أهل المسجد: خففت صلاتك جدا قال: لأنه لم يخالطها رياء. عظة . الحمد لله كما هو أهله، والسلام على أنبيائه المقربين الطيبين. أخي لا تغترنّ بطول السلامة مع تضييع الشّكر، ولا تعملنّ نعمة الله في معصيته، فإن أقلّ ما يجب لمهديها ألا تجعلها ذريعة في مخالفته. واعلم أن النعم نوافر، ولقلما اقشعت «2» نافرة فرجعت في نصابها، فاستدع شاردها بالتوبة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 واستدم الراهن منها بكرم الجوار، واستفتح باب المزيد بحسن التوكل، ولا تحسب أن سبوغ ستر نعم الله عليك غير متقلّص عما قريب إذا لم ترج لله وقارا. وإني لأخشى أن يأتيك أمر الله بغتة، أو الإملاء «1» فهو أوبأ مغبة، واثبت في الحجة، ولأن لا تعمل ولا تعلم خير من أن تعلم ولا تعمل. إن الجاهل لم يؤت من سوء نية ولا استخفاف بربوبية، ليس كمن قهرته الحجة واعرب له الحق مفصحا عن نفسه، فآثر الغفلة، والخسيس من الشهوة، على الله عز وجل، فأسمحت نفسه عن الجنة، واسلمها لآبد العقوبة. فاستشر عقلك وراجع نفسك، وادرس نعم الله عندك، وتذكر احسانه إليك، فإنه مجلبة للحياء، ومردعة للشهوة، ومشحذة على الطاعة، فقد أظل البلاء أو كأن قد، فكفكف عنك غرب شؤبوبه «2» ، وجوائح سطوته، بسرعة النزوع، وطول التضرّع، ثلاث هي اسرع في العقل من النار في يبيس العرفج: إهمال الفكرة، وطول التمني، والإستغراب في الضحك. إن الله لم يخلق النار عبثا، ولا الجنة هملا، ولا الإنسان سدى. فاعترف رقّ العبودية، وعجز البشرية، فكل زائد ناقص، وكلّ قرين مفارق قرينه، وكل غني محتاج، وإن عصفت به الخيلاء وأبطره العجب، وصال على الأقران، فإنه مذال مدّبر، ومقهور ميسّر. إن جاع سخط المحنة، وإن شبع بطر النعمة. ترضيه اللمحة فيستشري مرحا، وتغضبه الكلمة فيستطير شققا، حتى تنفسخ لذلك منّته، وتنتقض مريرته، وتضطرب فريصته «3» ، وتنتشر عليه حجّته. وللعجب من لبيب توبقه الحياطة، ويسلم مع الإضاعة، ويؤتى من الثقة ولا يشعر بالعاقبة. إن أهمل عمي، وإن علّم نسي. كيف لم يتخذ الحق معقلا ينجيه، والتوكل ذائدا يحميه. أعمي عن الدلالة، وعن وضوح الحجة، أم آثر العاجل الخسيس، على الآجل النفيس؟ وكيف توجد هذه الصفة مع صحة العقدة «4» ، واعتدال الفطرة؟ وكيف يشير رائد العقل، بإيثار القليل الفاني على الكثير الباقي. وما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 اظن الذي أقعدك عن تناول الحظ، مع قرب مجناه، حتى صار لا يثنيك زجر الوعيد، ولا يكدح في عزماتك فوت الجنة، وحتى ثقلت على سمعك الموعظة، ونبت عن قلبك العبرة إلا طول مجاورة التقصير، واعتياد الراحة، والأنس بالهوينى، وايثار الأخف، وألف قرين السوء. فاذكر الموت وأدم الفكرة فيه، فإن من لم يعتبر بما يرى لم يعتبر بما لا يرى. وإنّ كل ما يوجد بالعيان من مواقع العبرة لا يكشف لك عن قبيح ما أنت عليه، وهجنة ما أصبحت فيه، من إيثار باطلك على حق الله، واختيار الوهن على القوة، والتفريط على الحزم، والأسفاف إلى الدون، واصطناع العار، والتعرض للمقت، وبسط لسان العائب- فمستنبطات الغيب أحرى بالعجز عن تحريكك، ونقلك عن سوء العادة التي آثرتها على ربك. فاستحي للبّك، واستبق ما أفضل الخذلان من قوتك، قبل أن يستولي عليك الطبع، ويشتدّ بك العجز. أو ما علمت أن المعصية تثمر المذلة، وتفلّ غرب اللسان، مع السلاطة. بل ما علمت أن المستشعر بذل الخطيئة، المخرج نفسه من كنف العصمة، المتحلي بدنس الفاحشة، نظف «1» الثناء، زمر المروءة «2» ، قصيّ المجلس، لا يشاور وهو ذو بزلاء «3» ولا يصدر وهو جميل الرّواء، يسالم من كان يسطو عليه، ويضرع لمن كان يرغب إليه. يجذل بحاله المبغض الشانيء، ويثلب بقربه القريب الداني، غامض الشخص ضئيل الصوت، نزر الكلام متلجلج الحجة، يتوقع الإسكات عند كل كلمة، وهو يرى فضل مزيته وصريح لبه، وحسن فضيلته، ولكن قطعه سوء ما جنى على نفسه. ولو لم تطلع عليه عيون الخليقة لهجست العقول بأذهانه. وكيف يمتنع من سقوط القدر وظن المتفرس، من عري عن حلية التقوى، وسلب طابع الهدى. ولو لم يتغشّه ثوب سريرته، وقبيح ما احتجن «4» إليه من مخالفته ربّه، لا ضرعته الحجة «5» ولفسخه وهن الخطيئة، ولقطعه العلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 بقبيح ما قارف «1» ، عن اقتدار ذوي الطهارة في الكلام، وادلال اهل البراءة في الندى. هذه حال الحاطىء في عاجل الدنيا، فإذا كان يوم الجزاء الأكبر فهو عان لا يفك، وأسير لا يفادى، وعارية لا تؤدي. فاحذر عادة العجز وألف الفكاهة، وحبّ الكفاية، وقلة الإكتراث للخطيئة، والتأسف على الفائت منها، وضعف الندم في أعقابها. أخي، أنعي إليك القاسي، فإنه ميّت وإن كان متحركا، وأعمى وإن كان رائيا. واحذر القسوة فإنها رأس الخطايا، وإمارة الطبع «2» . وهي الشوهاء العاقر، والداهية العقام. وأراك ترتكض في حبائلها، وتستقبس من شررها. ولا بأس أن يعظ المقصر ما لم يكن هازلا. ولن يهلك أمرؤ عرف قدره. ورب حامل علم إلى من هو أعلم منه. علمنا الله وإياكم ما فيه نجاتنا، وأعاننا وإياكم على تأدية ما كلفنا. والسلام. أحاديث طريفة قال: وقلت لحباب: إنك لتكذب في الحديث. قال: وما عليك إذا كان الذي أريد فيه أحسن منه. فو الله ما ينفعك صدقه ولا يضرك كذبه. وما يدور الأمر إلا على لفظ جيد ومعنى حسن. ولكنك والله لو أردت ذلك لتلجلج لسانك، ولذهب كلامك. وقال أبو الحسن: سمع أعرابي مؤذنا يقول: «أشهد أن محمدا رسول الله» . قال: يفعل ماذا؟ قال: وكان يقال: أول العلم الصمت، والثاني الإستماع، والثالث الحفظ، والرابع العمل به، والخامس نشره. أبو الحسن قال: قرأ رجل في زمن عمر بن الخطاب رحمه الله: فإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله غفور رحيم: فقال أعرابي لا يكون. قال: ودخل على المهدي صالح بن عبد الجليل، فسأله أن يأذن له في الكلام، فقال: تكلم. فقال: إنا لما سهل علينا ما توعّر على غيرنا من الوصول إليك قمنا مقام الأداء عنهم وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بإظهار ما في أعناقنا من فريضة الأمر والنهي، عند إنقطاع عذر الكتمان في التقية، ولا سيما حين اتسمت بميسم التواضع، ووعدت الله وحملة كتابه إيثار الحقّ على ما سواه. فجمعنا وإياك مشهد من مشاهد التمحيص، ليتم مؤدبنا على موعود الأداء عنهم، وقابلنا على موعود القبول، أو يردنا تمحيص الله إيانا في اختلاف السر والعلانية، ويحلينا تحلية الكاذبين، فقد كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقولون: من حجب الله عنه العلم عذّبه على الجهل، وأشد منه عذابا من أقبل عليه العلم وأدبر عنه. ومن أهدى الله إليه علما فلم يعمل فقد رغب عن هدية الله وقصر بها. فاقبل ما أهدى الله إليك على ألسنتنا قبول تحقيق وعمل لا قبولا فيه سمعة ورياء، فإنه لا يعدمك منا إعلام بما تجهل، أو مواطأة على ما تعلم، أو تذكير لك من غفلة. فقد وطن الله جل وعز، نبيه عليه السلام على نزولها تغزية عما فات، وتحصينا من التمادي، ودلالة على المخرج، فقال: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . فأطلع الله على قلبك بما ينوّر به القلوب، من إيثار الحق ومنابذة الأهواء، فإنك إن لم تفعل ذلك ير أثرك وأثر الله عليك فيه. ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال: ودخل رجل على معاوية، وقد سقطت أسنانه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الأعضاء يرث بعضها بعضا. فالحمد لله الذي جعلك وارثها ولم يجعلها وارثتك. وحدثنا اسماعيل بن عليّة قال: حدثنا زياد بن أبي حسان، أنه شهد عمر ابن عبد العزيز رحمه الله حين دفن ابنه عبد الملك، فلما سوي عليه قبره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 بالأرض، وجعلوا على قبره خشبتين من زيتون، أحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه، ثم جعل قبره بينه وبين القبلة، واستوى قائما وأحاط به الناس، قال: رحمك الله يا بني، فلقد كنت برا بأبيك، وما زلت مذ وهبك الله لي بك مسرورا. ولا والله ما كنت قط أشدّ بك سرورا، ولا أرجى لحظي من الله فيك، مني مذ وضعتك في هذا الموضع الذي صيرك الله إليه. فغفر الله ذنبك، وجزاك بأحسن عملك، وتجاوز عن سيئتك ورحم الله كلّ شافع يشفع لك بخير من شاهد أو غائب. رضينا بقضاء الله، وسلمنا لأمره. فالحمد لله رب العالمين. ثم انصرف. وحدثني محمد بن عبيد الله بن عمرو قال أخبرني طارق بن المبارك عن أبيه قال: قال لي عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة: جاءت هذه الدولة وأنا حديث السن، كثير العيال، منتشر الأموال، فكنت لا أكون في قبيلة إلا شهر أمري، فلما رأيت ذلك عزمت على أن أفدي حرمي بنفسي، قال المبارك: فأرسل إلي: أن وافني عند باب الأمير سليمان بن عبد الملك. قال: فأتيته فإذا عليه طيلسان أبيض مطبق، وسراويل وشي مسدولة. قال: سبحان الله، ما تصنع الحداثة بأهلها، إن هذا ليس لباس هذا اليوم. قال: لا والله، ولكن ليس عندي ثوب إلا أشهر مما ترى. قال: فأعطيته طيلساني وأخذت طيلسانه، ولويت سراويله إلى ركبتيه. قال: فدخل ثم خرج إلي مسرورا. قال: قلت: حدثنا ما جرى بينك وبين الأمير. قال: دخلت عليه ولم يرني قبل ذلك، فقلت: أصلح الله الأمير، لفظتني البلاد إليك، ودلني فضلك عليك، فأما قبلتني غانما، وأما رددتني سالما. قال: ومن أنت أعرفك. قال: فانتسبت له، فقال: اقعد فتكلم غانما سالما. ثم أقبل علي فقال: حاجتك يا ابن أخي قال: قلت: إن الحرم اللاتي أنت أقرب الناس إليهن معنا، وأولى الناس بهن بعدنا، قد خفن بخوفنا، ومن خاف خيف عليه. قال: فو الله ما أجابني إلا بدموعه على خديه. قال: يا ابن أخى يحقن الله دمك، وتحفظ حرمك، ويوفر عليك مالك، ولو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 أمكنني ذلك في جميع قومك لفعلت. قال: فقلت: أكون متواريا أو ظاهرا؟ قال: كن متواريا كظاهر. فكنت والله أكتب إليه كما يكتب الرجل إلى أبيه وعمه. قال: فلما فرغ من الحديث رددت إليه طيلسانه، فقال: مهلا، إن ثيابنا إذا فارقتنا لم ترجع إلينا. ومن أحاديث النوكى. حديث أبي سعيد الرفاعي: سئل عن الدنيا والدائسة، فقال: أما الدنيا فهذه الذي أنتم فيها، وأما الدائسة فهي دار أخرى بائنة من هذه الدار، لم يسمع أهلها بهذه الدار ولا بشيء من أمرها، وكذلك نحن لم نسمع بشيء من أمرها، إلا أنه قد صحّ عندنا إن بيوتهم من قثاء، وسقوفهم من قثاء وأنعامهم من قثاء، وخيلهم من قثاء، وهم أنفسهم من قثاء، وقثاءهم أيضا من قثاء. قالوا له: يا أبا سعيد، زعمت أن أهل تلك الدار لم يسمعوا بهذه الدار ولا بشيء من أمرها، وكذلك نحن لهم، وأراك تخبرنا عنهم بأخبار كثيرة. قال: فمن ثمّ أعجب زيادة. قالوا: ذمّ رجل عند الأحنف الكمأة بالسمن، فقال الأحنف: «ربّ ملوم لا ذنب له» . عبد الله بن مسلم، عن شبّة بن عقال، إن رجلا قال في مجلس عبيد الله بن زياد: ما أطيب الأشياء؟ فقال رجل: ما شيء أطيب من تمرة نرسيان كأنها من آذان النوكى عليتها بزبدة «1» . وقال أوس بن جابر لأبن عامر: ظلت عتاب النوك تخفق فوقه ... رخو طفاطفه قديم الملعب «2» قد ظلّ يوعدني وعين وزيره ... خضراء خاسفة كعين العقرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 يعني بوزيره عبد الله بن عمير الليثي، وكان أخاه لأمه، أمهما دجاجة بنت أسماء السلمية. وقال ابن مناذر، في خالد بن عبد الله بن طليق الخزاعي، وكان المهدي استقضاه وعزل عبيد الله بن الحسن العنبري: أتى دهرنا والدهر ليس بمعتب ... بآبدة والدهر جمّ الأوابد بعزل عبيد الله عنا فيا له ... خلافا وباستعمال ذي النوك خالد بحيران عن قصد الطريق تردّه ... خيانة سلام ولحية فايد أذلك من ريب الزمان وصرفه ... وأحداثه أم نحن في حلم راقد وقال أيضا: قل لأمير المؤمنين الذي ... من هاشم في سرّها واللباب إن كنت للسخطة عاقبتنا ... بخالد فهو أشدّ العذاب أصمّ أعمى عن سبيل الهدى ... قد ضرب الجهل عليه حجاب يا عجبا من خالد كيف لا ... يخطىء فينا مرة بالصواب وقال: خالد يحكم في النا ... س بحكم الجاثليق يا أبا الهيثم ما كن ... ت لهذا بخليق أيّ قاض أنت للظل ... م وتعطيل الحقوق لا ولا أنت لما حم ... لت منه بمطيق وقال: يقطع كفّ القاذف المفتري ... ويجلد اللصّ ثمانينا سقيا ورعيا لك من حاكم ... يحيي لنا السنة والدنيا وقال زهرة الأهوازيّ: يا قوم من دلّ على عالم ... يعلم ما حد حر سارق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 وقال آخر؛ وإني لمضاء على الهول واحدا ... ولو ظل ينهاني أخيفش شاحج تشبه للنوكى أمور كثيرة ... وفيها لأكياس الرجال مخارج وقال آخر: ولا يعرفون الشرّ حتى يصيبهم ... ولا يعرفون الأمر إلا تدبرا وقال آخر: إذا ظعنوا عن دار ضيم تعاذلوا ... عليها وردوا وفدهم يستقيلها وقال النابغة: ولا يحسبون الخير لا شرّ بعده ... ولا يحسبون الشرّ ضربة لازب والعرب تقول: «أخزى الله الرأي الدبريّ «1» » . وقالوا: وجه الحجاج إلى مطهّر بن عمار بن ياسر، عبد الرحمن بن سليم الكلبي، فلما كانوا بحلوان أتبعه الحجاج مددا، وعجل عليه بالكتاب مع تخّيت الغلط- وإنما قيل له ذلك لكثرة غلطه- فمر تخيت بالمدد وهم يعرضون بخانقين فلما قدم على عبد الرحمن قال له: أين تركت مددنا؟ قال: تركتهم يخنقون بعارضين. قال: أو يعرضون بخانقين؟ قال: نعم، اللهم لا تخانق في باركين! ولما ذهب يجلس ضرط، وكان عبد الرحمن أراد أن يقول له: ألا تغذى؟ فقال له: ألا تضرط. قال: قد فعلت أصلحك الله. قال: ما هذا أردت. قال: صدقت ولكن الأمير غلط كما غلطنا فقال: أنا غلطت من فمي، وغلط هو من إسته. وهو كما قال أبو وائل: أسمعكم تقولون: الدانق والقيراط، فأيما أكثر؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 قالوا: وكان عامر بن عبد الله بن الزبير في المسجد، وكان قد أخذ عطاءه فقام إلى منزله ونسيه، فلما صار في منزله وذكره بعث رسولا ليأتيه به، فقيل له: وأين تجد ذلك المال؟ فقال: سبحان الله، أو يأخذ أحد ما ليس له. أبو الحسن قال: قال سعيد بن عبد الرحمن الزّبيريّ، قال: سرقت نعل عامر بن عبد الله الزبيري فلم يتخذ نعلا حتى مات، وقال: أكره أن اتخذ نعلا فلعلّ رجلا يسرقها فيأثم. وقالوا: إن الخلفاء والأئمة أفضل من الرعية، وعامة الحكام أفضل من المحكوم عليهم ولهم، لأنهم افقه في الدين وأقوم بالحقوق، وأردّ على المسلمين وعلمهم بهذا أفضل من عبادة العباد، لأن نفع ذلك لا يعدو قمم رؤوسهم، ونفع هؤلاء يخص ويعم. والعبادة لا تدلّه ولا تورث البله إلا لمن آثر الوحدة، وترك معامله الناس، ومجالسة أهل المعرفة. فمن هنالك صاروا بلها، حتى صار لا يجيء من اعبدهم حاكم ولا إمام. وما أحسن ما قال أيوب السختياني، حيث يقول: «في أصحابي من أرجو دعوته ولا أقبل شهادته» . فإذا لم يجز في الشهادة كان من أن يكون حاكما أبعد. مقطعات من الشعر . وقال الشاعر: وعاجز الرأي مضياع لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا ومن غير هذا الباب قوله: إذا ما الشيخ عوتب زاد شرا ... ويعتب بعد صبوته الوليد «1» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «من أفضل العبادة الصمت وانتظار الفرج» . وقال الشاعر: إذا تضايق أمر فانتظر فرجا ... فأضيق الأمر أدناه من الفرج وقال الفرزدق: اني وسعدا كالحوار وأمه ... إذا وطئته لم يضره اعتمادها وقال أعرابي: تبصّرني بالعيش عرسي كأنما ... تبصّرني الأمر الذي أنا جاهله يعيش الفتى بالفقر يوما وبالغنى ... وكلّ كأن لم يلق حين يزايله وقال آخر: شهدت وبيت الله إنك بارد الثنايا ... لذيذ لثمها حين تلثم وقال آخر: الله يعلم يا مغيرة أنني ... قد دستها دوس الحصان الهيكل وأخذتها أخذ المقصّب شاته ... عجلان يشويها لقوم نزّل وقال آخر: شهدت وبيت الله إنك بارد الثنايا ... وأن الكشح منك لطيف وأنك مشبوح الذراعين خلجم «1» ... وأنك إذ تخلو بهن عنيف وقال آخر: فهلا من وزان أو حصين ... حميتم فرج حاصنة كعاب وأقسم أنه قد حلّ منها ... محلّ السيف من قعر القراب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 وقال آخر: أترجو أن تسود ولن تعنّى ... وكيف يسود ذو الدعة البخيل وقال الهذلي: وإن سيادة الأقوام فاعلم ... لها صعداء مطلعها طويل وقال جرير بن الخطفي: تريدين أن أرضى وأنت بخيلة ... ومن ذا الذي يرضي الأخلّاء بالبخل وقال اسحاق بن حسان بن قوهيّ: ودون الندى في كلّ قلب ثنية ... لها مصعد حزن ومنحدر سهل وودّ الفتى في كلّ نيل ينيله ... إذا ما انقضى لو أن نائله جزل وقال آخر: عزمت على إقامة ذي صباح ... لأمر ما يسوّد من يسود وقال: وتعجت إن حاولت منك تنصّفا ... وأعجب منه ما تحاول من ظلمي أبا حسن يكفيك ما فيك شاتما ... لعرضك من شتم الرجال ومن شتمي وقال آخر: كما قال الحمار لسهم رام ... لقد جمّعت من شتى لأمر أراك حديدة في رأس قدح ... ومتن جلالة من ريش نسر وقال الآخر: إذا مات مثلي مات شيء ... يموت بموته بشر كثير وأشعر منه عبدة بن الطبيب، حيث يقول في قيس بن عاصم: فما كان قيس هلكة هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدّما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 وقال امرؤ القيس في شبيه بهذا المعنى: فلو أنها نفس تموت سوية ... ولكنها نفس تساقط أنفسا وقال الآخر: وزهّدني في صالح العيش أنني ... رأيت يدي في صالح العيش قلّت وقال معن بن أوس: ولقد بدا لي أن قلبك ذاهل ... عني وقلبي لو بدا لك أذهل كل يجامل وهو يخفي بغضه ... إن الكريم على القلى يتجمل وقال ركّاض: نرامي فنرمي نحن منهن في الشوى «1» ... ويرمين لا يعدلن عن كبد سهما إذا ما لبسن الحلي والوشى أشرقت ... وجوه ولبّات يسلبننا الحلما ولثن السّبوب خمرة قرشية ... زبيرية يعلمن في لوثها علما «2» وقال آخر: أعلّل نفسي بما لا يكون ... كما يفعل المائق «3» الأحمق وقال آخر: تولت بهجة الدنيا ... فكلّ جديدها خلق وخان الناس كلهم ... فما أدري بمن أثق رأيت معالم الخيرا ... ت سدّت دونها الطرق فلا حسب ولا أدب ... ولا دين ولا خلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 وقال ابو الأسود الدؤلي: لنا جيرة سدّوا المجازة بيننا ... فإن ذكروك السدّ فالسدّ أكيس ومن خير ما ألصقت بالدار حائط ... تزلّ به صقع الخطاطيف املس وقال آخر: عقمت أم أتتنا بكم ... ليس منكم رجل غير دني وإذا ما الناس عدوا شرفا ... كنتم من ذاك في بال رخي وقال آخر: قد بلوناك بحمد ا ... لله إن أغنى البلاء فإذا كلّ مواعي ... دك والجحد سواء وقال آخر: ولقد هززتك بالمديح ... فكنت ذا نفس لكيعة أنت الرقيع بن الرقيع ... بن الرقيع بن الرقيعة وقال: لكلّ أناس سلم يرتقى به ... وليس إلينا في السلاليم مطلع وغايتنا القصوى حجاز لمن به ... وكل حجاز إن هبطناه بلقع وينفر منا كلّ وحش وينتمي ... إلى وحشنا وحش البلاد فيرتع وقال آخر: لو جرت خيل نكوصا ... لجرت خيل ذفافه «1» هي لا خيل رجاء ... لا ولا خيل مخافة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 وقال الخريمي: اخلع ثيابك من أبي دلف ... واهرب من الفجفاجة «1» الصّلف لا يعجبنك من أبي دلف ... وجه يضيء كدرّة الصدف إني وجدت أخي أبا دلف ... عند الفعال مولّد الشرف وأنشد ابن الأعرابي: أهلكتني بفلان ثقتي ... وظنون بفلان حسنه ليس يستوجب شكرا رجل ... نلت خيرا منه من بعد سنه كنت كالهادي من الطير رأى ... طمعا أدخله في مسجنه زادني قرب صديقي فاقة ... أورثت من بعد فقر مسكنه وأنشدنا: إذا المرء أولاك الهوان فأوله ... هوانا وإن كانت قريبا أواصره فإن لم تقدر على أن تهينه ... وقارب إذا ما لم تكن بك قدرة وقارب إذا ما لم تكن بك قدرة ... وصمّم إذا أيقنت إنك عاقره وقال بعض ظرفاء الأعراب: وإذا خشيت من الفؤاد لجاجة ... فاضرب عليه بجرعة من رائب وهذا من شكل قوله: ذكرتك ذكرة فاصطدت ظبيا ... وكنت إذا ذكرتك لا أخيب وقال بعض المحدثين: ما أشبه الأمرة بالوصل ... وأشبه الهجران بالعزل وقالت الخنساء: لم تره جارة يمشي بساحتها ... لريبة حين يخلى بيته الجار مثل الرديني لم تدنس عمامته ... كأنه تحت طيّ البرد أسوار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 وقال آخر: ناديت هيذان والأبواب مغلقة ... ومثل هيذان سنّى فتحة الباب كالهندواني لم تفلل مضاربه ... وجه جميل وقلب غير وجّاب وقال آخر: أرى كلّ ريح سوف تسكن مرة ... وكلّ سماء ذات درّ ستقلع ولست بقوّال إذا قام حالب ... لك الويل لا تجهد لعلك ترضع ولكن إذا جادت بما دون حلبها ... جهدنا ولم نمذق بما نتوّسع وقال آخر: تمنى رجال أن أموت وغايتي ... إلى أجل لو تعلمون قريب وما رغبتي في أرذل العمر بعدما ... لبست شبابي كله وقشيبي «1» وأصبحت في قوم كأن لست منهم ... وباد مروني منهم وضروبي وأنشد: رأيت الناس لما قلّ مالي ... وأكثرت الغرامة ودّعوني فلما إن غنيت وغاب وفري ... إذا هم لا أبالك راجعوني وقال الآخر: وكنا نستطب إذا مرضنا ... فصار سقامنا بيد الطبيب فكيف نجيز غصّتنا بشيء ... ونحن نغصّ بالماء الشريب وقال عدي بن زيد: لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري وقال التّوت اليماني، ويروى «التوب» بالباء، والتوت هو الصواب. وهو المعروف بتويت، فكبره هنا: على أي باب أطلب الأذن بعدما ... حجبت عن الباب الذي أنا حاجبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 وقال الآخر: لا تضجرنّ ولا تدخلك معجزة ... فالنجح يهلك بين العجز والضجر وقال محمد بن يسير: إن الأمور إذا اشتدت مسالكها ... فالصبر يفتح منها كلّ ما ارتتجا لا تيأسن وإن طالت مطالبة ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومد من القرع للأبواب أن يلجا لا يمنعنك يأس من مطالبة ... فضيق السّبل يوما ربما انتهجا وقال بعض ظرفاء الأعراب: وإن طعاما ضمّ كفي وكفها ... لعمرك عندي في الحياة مبارك فمن أجلها استوعب الزاد كله ... ومن أجلها تهوى يدي فتدارك وقال: كأني لما مسّني السّوط مقرم ... من العجم صعب أن يقاد نفور فكم قد رأينا من لئيم موطأ «1» ... صبور على مس السياط وقور وذي كرم في القوم نهد مشيّع «2» ... جزوع على مس السياط ضجور وقال أحيحة بن الجلاح: استغن عن كلّ ذي قربى وذي رحم ... إن الغني من استغنى عن الناس والبس عدوك في رفق وفي دعة ... لباس ذي إربة للدهر لبّاس «3» ولا تغرنك أضغان مزملة ... قد يضرب الدبر الدامي بأحلاس «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 وقال أحيحة أيضا: استغن لو متّ ولا يغررك ذو نشب «1» ... من ابن عم ولا عم ولا خال إني أكبّ على الزوراء أعمرها ... إن الكريم على الإخوان ذو المال يلوون ما عندهم من حق أفضلهم ... ومن عشيرتهم والمال بالوالي وقال آخر: سأبغيك مالا بالمدينة إنني ... أرى عازب الأموال قلت فواضله «2» وقال آخر: ولا خير في وصل إذا لم يكن له ... على طول مر الحادثات بقاء وقال العباس بن الأحنف: لم يصف حبّ لمعشوقين لم يذقا ... وصلا يمر على من ذاقه العسل وقال بعض (سفهاء) الأعراب: لا خير في الحبّ أبا السنور ... أو يلتقي أشعرها واشعري وأطبق الخصية فوق المبعر وقال آخر: وحظّك زورة في كل عام ... موافقة على ظهر الطريق سلاما خاليا من كل شيء ... يعود به الصديق على الصديق وقال عطارد بن قران: ولا يلبث الحبل الضعيف إذا التوى ... وجاذبه الأعداء أن يتجذّما «3» وما يستوي السيفان سيف مؤنث ... وسيف إذا ما عصّ بالعظم صمّما «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 وقال طريح بن اسماعيل «1» ، في الوليد بن يزيد بن عبد الملك: سعيت ابتغاء الشكر فيما صنعت بي ... فقصرت مغلوبا وإني لشاكر لأنك تعطيني الجزيل بداهة ... وأنت لما استكثرت من ذاك حاقر فأرجع مغبوطا وترجع بالتي ... لها أول في المكرمات وآخر وقد قلت شعرا فيك لكن تقوله ... مكارم مما تبتني ومفاخر قواصر عنها لم تحط بصفاتها ... يراد بها ضرب من الشعر آخر وقال آخر، مسلم بن الوليد: لعلّ له عذر وأنت تلوم ... وكم لائم قد لام وهو مليم وأنشد أيضا: فكم من مليم لم يصب بملامة ... ومتّبع بالذنب ليس له ذنب وكم من محب صدّ من غير علّة ... وإن لم يكن في وصل خلته عتب كما قال الأحنف: «رب ملوم لا ذنب له» . وقال ابن المقفع: فلا تلم المرء في شأنه ... فربّ ملوم ولم يذنب وقال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري: وإن امرأ يمسي ويصبح سالما ... من الناس ألا ما جنى لسعيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 الجزء الثالث كتاب العصا [مقدمة] هذا أبقاك الله الجزء الثالث، من القول في البيان والتبيين، وما شابه ذلك من غرر الأحاديث، وشاكله من عيون الخطب، ومن الفقر المستحسنة، والنتف المستخرجة، والمقطّعات المتخيّرة، وبعض ما يجوز في ذلك من أشعار المذاكرة، والجوابات المنتخبة. [سنن الخطابة العربية] ونبدأ على اسم الله بذكر مذهب الشعوبية ومن يتحلى باسم التسوية وبمطاعنهم على خطباء العرب بأخذ المخصرة عند مناقلة الكلام «1» . ومساجلة الخصوم بالموزون والمقفى، والمنثور الذي لم يقف، وبالإرجاز عند المتح «2» ، وعند مجاثاة الخصم، وساعة المشاولة «3» ، وفي نفس المجادلة والمحاورة. وكذلك الأسجاع عند المنافرة والمفاخرة، واستعمال المنثور في خطب الحمالة، وفي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 مقامات الصّلح وسل السخيمة «1» ، والقول عند المعاقدة والمعاهدة، وترك اللفظ يجري على سجيته وعلى سلامته، حتى يخرج على غير صنعة ولا اجتلاب تأليف، ولا التماس قافية، ولا تكلف لوزن. مع الذي عابوا من الاشارة بالعصي، والإتكاء على أطراف القسيّ، وخدّ وجه الأرض بها، واعتمادها عليها إذا اسحنفرت «2» في كلامها، وافتنّت يوم الحفل في مذاهبها، ولزومهم العمائم في أيام الجموع، وأخذ المخاصر في كل حال، وجلوسها في خطب النّكاح، وقيامها في خطب الصلح وكل ما دخل في باب الحمالة، وأكدّ شأن المحالفة، وحقق حرمة المجاورة، وخطبهم على رواحلهم في المواسم العظام، والمجامع الكبار. والتماسح بالأكفّ، والتحالف على النار، والتعاقد على الملح، وأخذ العهد الموكد واليمين الغموس مثل قولهم: ما سرى نجم وهبّت ريح، وبلّ بحر صوفة «3» ، وخالفت جرّة درة «4» . ولذلك قال الحارث ابن حلزة اليشكري: واذكروا حلف ذي المجاز وما ق ... دّم فيه: العهود والكفلاء حذر الخون والتعدي وهل ... تنقض ما في المهارق الأهواء الخون: الخيانة. ويروى: «الجور» . وقال أوس بن حجر: إذا استقبلته الشمس صدّ بوجهه ... كما صدّ عن نار المهول حالف وقال الكميت: كهولة ما أوقد المحلفون ... لدى الحالفين وما هوّلوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 وقال الأول: حلفت بالملح والرماد وبالن ... نار وبالله نسلم الحلقه حتى يظلّ الجواد منعفرا ... ويخضب النبل غرة الدرقه وقال الأول: حلفت لهم بالملح والجمع شهد ... وبالنار واللات التي أعظم وقال الحطيئة في أضجاع القسيّ: أم من لخصم مضجعين قسيّهم ... صعر خدودهم عظام المفخر وقال لبيد في خدّوجه الأرض بالعصي والقسي: نشين صحاح البيد كلّ عشية ... بعوج السراء عند باب محجب ومثله: إذا اقتسم الناس فضل الفخار ... أطلنا على الأرض ميل العصا ومثله: حكمت لنا في الأرض يوم محرق ... أيامنا في الناس حكما فيصلا وقال لبيد بن ربيعة في ذكر القسي: ما إن أهاب إذا السرادق غمه ... قرع القسي وأرعش الرّعديد وقال كثّير في الإسلام: إذا قرعوا المنابر ثم خطّوا ... بأطراف المخاصر كالغضاب وقال أبو عبيدة: سأل معاوية شيخا من بقايا العرب: أيّ العرب رأيته أضخم شأنا؟ قال: حصن بن حذيفة، رأيته متوكئا على قوسه يقسم في الحليفين أسد وغطفان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 وقال لبيد بن ربيعة في الإشارة: غلب تشذّر بالدخول كأنها ... جنّ البدي رواسيا أقدامها «1» وقال معن بن أوس المزني: ألا من مبلغ عني رسولا ... عبيد الله إذ عجل الرسالا تعاقل دوننا أبناء ثور ... ونحن الأكثرون حصى ومالا إذا اجتمع القبائل جئت ردفا ... وراء الماسحين لك السبالا فلا تعطى عصا الخطباء يوما ... وقد تكفى المقادة والمقالا فذكر عصا الخطباء كما ترى. وقال آخر في حمل القناة: إلى امريء لا تخطاه الرفاق، ولا ... جدب الخوان إذا ما استنشىء المرق صلب الحيازيم لا هذر الكلام إذا ... هزّ القناة ولا مستعجل زعق وقال جرير بن الخطفي في حمل القناة: من للقناة إذا ما عيّ قائلها ... أو للأعنة يا عمرو بن عمّار قالوا: وهذا مثل قول أبي المجيب الربعي، حيث يقول: «لا تزال تحفظ أخاك حتى يأخذ القناة، فعند ذلك يفضحك أو يمدحك» . يقول: إذا قام يخطب فقد قام المقام الذي لا بدّ من أن يخرج منه مذموما أو محمودا. وقال عبد الله بن رؤبة: سأل رجل رؤبة عن أخطب بني تميم، فقال: خداش بن لبيد بن بيبة بن خالد، يعني البعيث الشاعر. وإنما قيل له البعيث لقوله: تبعّث مني ما تبعث بعد ما ... أمرت حبالي كل مرتها شزرا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 قال أبو اليقظان: كانوا يقولون: أخطب بني تميم البعيث إذا أخذ القناة فهزها ثم اعتمد بها على الارض، ثم رفعها. وقال يونس: لعمري لئن كان مغلّبا في الشعر لقد كان غلّب في الخطب. وإذا قالوا غلب فهو الغالب. وإذا قالوا مغلّب فهو المغلوب. وفي حديث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه جاء إلى البقيع، ومعه مخصرة، فجلس ونكت بها الأرض، ثم رفع رأسه فقال: «ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب مكانها من الجنة أو النار» . وهو من حديث أبي عبد الرحمن السّلمي. ومما يدلك على استحسانهم شأن المخصرة حديث عبد الله بن أنيس ذي المخصرة، وهو صاحب ليلة الجهنيّ، وكان النبي عليه السلام أعطاه مخصرة وقال: «تلقاني بها في الجنة» . وهو مهاجريّ عقبيّ أنصاري، وهو ذو المخصرة في الجنة. [مطاعن الشعوبية على العرب في الخطابة والعلوم والحرب] قالت الشعوبية ومن يتعصب للعجمية: القضيب للإيقاع، والقناة للبقّار، والعصا للقتال، والقوس للرمي. وليس بين الكلام وبين العصا سبب، ولا بينه وبين القوس نسب، وهما إلى أن يشغلا العقل ويصرفا الخواطر، ويعترضا على الذهن أشبه، وليس في حملهما ما يشحذ الذهن، ولا في الإشارة بهما ما يجلب اللفظ. وقد زعم أصحاب الغناء أن المغني إذا ضرب على غنائه، قصّر عن المغني الذي لا يضرب على غنائه. وحمل العصا بأخلاق الفدادين «1» أشبه، وهو بجفاء العرب وعنجهية أهل البدو، ومزاولة إقامة الإبل على الطرق «2» أشكل، وبه أشبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 قالوا: والخطابة شيء في جميع الأمم، وبكلّ الأجيال «1» إليه أعظم الحاجة، حتى أن الزّنج مع الغثارة «2» ، ومع فرط الغباوة، ومع كلال الحد وغلظ الحس وفساد المزاج، لتطيل الخطب، وتفوق في ذلك جميع العجم، وإن كانت معانيها أجفى وأغلظ، وألفاظها أخطل وأجهل «3» . وقد علمنا أن أخطب الناس الفرس وأخطب الفرس أهل فارس، وأعذبهم كلاما وأسهلهم مخرجا وأحسنهم دلّا «4» وأشدهم فيه تحكما، أهل مرو، وأفصحهم بالفارسية الدريّة، وباللغة الفهلوية، أهل قصبة الأهواز، فأما نغمة الهرابذة «5» ، ولغة الموابدة «6» ، فلصاحب تفسير الزمزمة «7» . قالوا: ومن أحبّ أن يبلغ في صناعة البلاغة، ويعرف الغريب، ويتبحر في اللغة، فليقرأ كتاب كاروند. ومن احتاج إلى العقل والأدب، والعلم بالمراتب والعبر والمثلات «8» ، والألفاظ الكريمة، والمعاني الشريفة، فلينظر في سير الملوك. فهذه الفرس ورسائلها وخطبها والفاظها، ومعانيها. وهذه يونان ورسائلها وخطبها، وعللها وحكمها، وهذه كتبها في المنطق التي قد جعلتها الحكماء بها تعرف السقم من الصحة، والخطأ من الصواب، وهذه كتب الهند في حكمها وأسرارها، وسيرها وعللها، فمن قرأ هذه الكتب، وعرف نور تلك العقول، وغرائب تلك الحكم، عرف أين البيان والبلاغة، وأين تكاملت تلك الصناعة. فكيف سقط على جميع الأمم من المعروفين بتدقيق المعاني، وتخيّر الألفاظ، وتمييز الأمور، أن يشيروا بالقنا والعصي، والقضبان والقسي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 كلا، ولكنكم كنتم رعاة بين الإبل والغنم، فحملتم القنا في الحضر بفضل عادتكم لحملها في السفر، وحملتموها في المدر بفضل عادتكم لحملها في الوبر، وحملتموها في السلم بفضل عادتكم لحملها في الحرب. ولطول إعتيادكم لمخاطبة الإبل، جفا كلامكم، وغلظت مخارج أصواتكم، حتى كأنكم إذا كلمتم الجلساء إنما تخاطبون الصمّان. وإنما كان جل قتالكم بالعصي. ولذلك فخر الأعشى على سائر العرب فقال: ولسنا نقاتل بالعصي ولا نرامي بالحجارة إلا علالة أو بدا ... هة قارح نهد الجزاره» وقال آخر: فإن تمنعوا منا السلاح فعندما ... سلاح لنا لا يشترى بالدراهم جنادل أملاء الأكفّ كأنها ... رؤوس رجال حلّقت بالمواسم «2» وقال جندل الطهوي: حتى إذا دارت رحى لا تجري ... صاحت عصي من قنا وسدر وقال آخر: دعا ابن مطيع للبياع فجئته ... إلى بيعة قلبي لها غير آلف فناولني خشناء لما لمستها ... بكفي ليست من أكفّ الخلائف من الششنات الكزم «3» أنكرت مسها ... وليست من البيض الرفاق اللطائف معاودة حمل الهراوي لقومها ... فرورا إذا ما كان يوم التسايف «4» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 وقال آخر: ما للفرزدق من عز يلوذ به ... إلا بني العمّ في أيديهم الخشب قالوا: وإنما كانت رماحكم من مرّان، واسنتكم من قرون البقر، وكنتم تركبون الخيل في الحرب اعراء. فإن كان الفرس ذا سرج فسرجه رحالة من أدم، ولم يكن ذا ركاب، والرّكاب من أجود آلات الطاعن برمحه، والضارب بسيفه. وربما قام فيهما أو اعتمد عليهما. وكان فارسهم يطعن بالقناة الصماء، وقد علمنا أن الجوفاء أخف محملا، وأشد طعنة. ويفخرون بطول القناة ولا يعرفون الطعن بالمطاردة «1» ، وإنما القنا الطوال للرّجالة، والقصار للفرسان، والمطارد لصيد الوحش. ويفخرون بطول الرمح وقصر السيف، فلو كان المفتخر بقصر السيف الراجل دون الفارس، لكان الفارس يفخر بطول السيف، وإن كان الطول في الرمح إنما صار صوابا لأنه ينال به البعيد، ولا يفوته العدو، ولأن ذلك يدل على شدة أسر الفارس وقوة أيده. فكذلك السيف الطويل العريض. وكنتم تتخذون للقناة زجّا وسنانا حين لم يقبض الفارس منكم على أصل قناته، ويعتمد عند طعنته بفخذه، ويستعن بحمية فرسه. وكان أحدكم يقبض على وسط القناة ويخلف منها مثل ما قدم، فإنما طعنكم الرزة «2» والنهزة «3» ، والخلس والزج «4» . وكنتم تتساندون في الحرب، وقد أجمعوا على أن الشركة ردية في ثلاثة أشياء: في الملك، والحرب، والزوجة. وكنتم لا تقاتلون بالليل، ولا تعرفون البيات «5» ولا الكمين، ولا الميمنة ولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 الميسرة، ولا القلب ولا الجناح، ولا الساقة ولا الطليعة «1» ولا النفّاضة ولا الدّراجة «2» ، ولا تعرفون من آلة الحرب الرتيلة ولا العرادة «3» ، ولا المجانيق، ولا الدّبابات «4» ولا الخنادق، ولا الحسك، ولا تعرفون الأقبية ولا السراويلات، ولا تعليق السيوف، ولا الطبول ولا البنود ولا التجافيف «5» ، ولا الجواشن «6» ولا الخوذ، ولا السواعد ولا الأجرس، ولا الوهق «7» ولا الرمي بالبنجكان، والزرق بالنفط والنيران. وليس لكم في الحرب صاحب علم يرجع إليه المنحاز، ويتذكره المنهزم. وقتالكم أما سلّة وأما مزاحفة. والمزاحفة على مواعد متقدمة، والسّلة مسارقة وفي طريق الإستلاب والخلسة. قالوا: والدليل على أنكم لم تكونوا تقاتلون قول العامري: يا شدّة ما شددنا غير كاذبة ... على سخينة لولا الليل والحرم ويدلك على ذلك ايضا قول عبد الحارث بن ضرار: وعمرو إذ أتانا مستميتا ... كسونا رأسه عضبا صقيلا «8» فلولا الليل ما آبوا بشخص ... يخبّر أهلهم عنهم قليلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 وقال أمية بن الأسكر: ألم تر أن ثعلبة بن سعد ... غضاب، حبذا غضب الموالي تركت مصرفا لما التقينا ... صريعا تحت أطراف العوالي ولولا الليل لم يفلت ضرار ... ولا رأس الحمار أبو جفال الرد على الشعوبية قلنا: ليس فيما ذكرتم من هذه الأشعار دليل على أن العرب لا تقاتل بالليل. وقد يقاتل بالليل والنهار من تحول دون ماله المدن وهول الليل. وربما تحاجز الفريقان وإن كل واحد منهم يرى البيات «1» ، ويرى أن يقاتل إذا بيتوه. وهذا كثير. والدليل على أنهم كانوا يقاتلون بالليل قول سعد بن مالك في قتل كعب بن مزيقيا الملك الغساني: وليلة تبّع وخميس كعب ... أتونا، بعد ما نمنا، دبيبا فلم نهدد لبأسهم ولكن ... ركبنا حدّ كوكبهم ركوبا «2» بضرب يفلق الهامات منه ... وطعن يفصل الحلق الصليبا وقال بشر بن أبي خازم: فأما تميم تميم بن مر ... فألفاهم القوم روبى نياما يقول: شربوا الرائب من اللبن فسكروا منه، وهو اللبن الذي قد أدرك ليمخض. يقال منه راب يروب روبا ورؤوبا. ورؤبة اللبن: خميرة تلقى فيه من الحامض. ورؤبة الليل: ساعة منه. يقال أهرق عنا من رؤبة الليل. وقال بعضهم: منه قول الشاعر: فألفاهم القوم روبى نياما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 ويقال: روبى: خثراء الأنفس مختلطون. ويقال شربوا من الرائب فسكروا. وقال عياض السيديّ: ونحن نجلنا لابن ميلاء نحره ... بنجلاء من بين الجوانح تشهق «1» ويوم بني الديان نال أخاهم ... بأرماحنا بالسيّ موت محدّق «2» ومنا حماة الجيش ليلة أقبلت ... أياد يزجّيها الهمام محرّق «3» وقال آخر: وعلى شتير راح منا رائح ... بأبي قبيصة كالفنيق المقرّم «4» يردي بشرحاف المغاور بعد ما ... نشر النهار سواد ليل مظلم «5» وقال عياض السيدي: لحمام بسطام بن قيس بعدما ... جنح الظلام بمثل لون العظلم وقال أوس بن حجر: باتوا يصيب القوم ضيفا لهم ... حتى إذا ما ليلهم أظلما قروهم شهباء ملمومة ... مثل حريق النار أو أضرما والله لولا قرزل ما نجا ... وكان مثوى خدك الأخرما نجاك جياش هزيم كما ... أحميت وسط الوبر الميسما «6» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 وبعد فهل قتل ذواب الأسدي عتيبة بن الحارث بن شهاب إلا في وسط الليل الأعظم، حين تبعوهم فلحقوهم. وكانوا إذا أجمعوا للحرب دخّنوا بالنهار، وأوقدوا بالليل. قال عمرو بن كلثوم وذكر وقعة لهم: ونحن غداة أوقد في خزاز ... رفدنا فوق رفد الرافدينا وقال خمخام السدوسي: وأنا بالصّليب ببطن فج ... جميعا واضعين به لظانا ندخّن بالنهار ليبصرونا ... ولا نخفي على أحد أتانا وأما قولهم: «ولا يعرفون الكمين» فقد قال أبو قيس بن الأسلت: وأحرزنا المغانم واستبحنا ... حمى الأعداء والله المعين بغير خلابة مكر ... مجاهرة ولم يخبأ كمين وأما ذكرهم للركب «1» ، فقد أجمعوا على أن الرّكب كانت قديمة، إلا أن ركب الحديد لم تكن في العرب إلا في أيام الأزارقة. وكانت العرب لا تعود نفسها إذا أرادت الركوب أن تضع أرجلها في الركب. وإنما كانت تنزو نزوا. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لا تخور قوة ما كان صاحبها ينزو وينزع» ، يقول: لا تنتكث قوته ما دام ينزع في القوس، وينزو في السرج من غير أن يستعين بركاب. قال عمر: «الراحة عقلة، وإياكم والسمنة فإنها عقلة «2» » . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 ولهذه العلة قتل خالد بن سعيد بن العاصي، حين غشيه العدو وأراد الركوب ولم يجد من يحمله. ولذلك قال عمر حين رأى المهاجرين والأنصار قد أخصبوا، وهمّ كثير منهم بمقاربة عيش العجم: «تمعددوا وآخشوشنوا «1» ، واقطعوا الركب، وانزوا على الخيل نزوا» . وقال: «احفوا وانتعلوا، إنكم لا تدرون متى تكون الجفلة «2» » . وكانت العرب لا تدع اتخاذ الركاب للرحل فكيف تدع الركاب للسرج؟! ولكنهم كانوا وإن اتخذوا الركب فإنهم كانوا لا يستعملونها إلا عندما لا بد منه، كراهة أن يتّكلوا على بعض ما يورثهم الاسترخاء والتفنخ «3» ويضاهوا أصحاب الترفة والنعمة «4» . قال الأصمعي: قال العمري: كان عمر بن الخطاب يأخذ بيده اليمنى أذن فرسه اليسرى. ثم يجمع جراميزه ويثب، فكأنما خلق على ظهر فرسه. وفعل مثل ذلك الوليد بن يزيد بن عبد الملك وهو يومئذ وليّ عهد هشام، ثم أقبل على مسلمة بن هشام فقال له: أبوك يحسن مثل هذا؟ فقال مسلمة: لأبي مائة عبد يحسنون مثل هذا. فقال الناس: لم ينصفه في الجواب. وزعم رجال من مشيختنا أنه لم يقم أحد من ولد العباس بالملك إلا وهو جامع لأسباب الفروسية. وأما ما ذكروا من شأن رماح العرب فليس الأمر في ذلك على ما يتوهمون. للرماح طبقات: فمنها النيزك «5» ، ومنها المربوع، ومنها المخموس «6» ، ومنها التام، ومنها الخطل وهو الذي يضطرب في يد صاحبه لأفراط طوله. فإذا أراد الرجل أن يخبر عن شدة أمر صاحبه ذكره، كما ذكر متمّم بن نويرة أخاه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 مالكا، فقال: «كان يخرج في الليلة الصنبر عليه الشملة الفلوت «1» ، بين المزادتين النضوحين، على الجمل الثفال، معتقل الرمح الخطل» . قالوا له: وابيك إن هذا لهو الجلد. ولا يحمل الرمح الخطل منهم إلا الشديد الأيّد «2» ، والمدلّ بفضل قوته عليه، الذي إذا رآه الفارس في تلك الهيئة هابه وحاد عنه، فإن شد عليه كان أشدّ لاستخذائه له «3» . والحال الأخرى أن يخرجوا في الطلب بعقب الغارة، فربما شدّ على الفارس المولّي فيفوته بأن يكون رمحه مربوعا أو مخموسا، وعند ذلك يستعملون النيازك.، والنيزك أقصر الرماح. وإذا كان الفارس الهارب يفوت الفارس الطالب زجه بالنيزك، وربما هاب مخالطته فيستعمل الزج دون الطعن، صنيع ذؤاب الأسدي بعتيبة بن الحارث بن شهاب. وقال الشاعر: واسمر خطّيا كأنّ كعوبه ... نوى القصب قد أربى ذراعا على العشر وقال آخر: هاتيك تحملني وأبيض صارما ... ومحرّبا في مارن مخموس «4» وقال آخر: فولوا وأطراف الرماح عليهم ... قوادر، مربوعاتها وطوالها وهم قوم الغارات فيهم كثيرة، وبقدر كثرة الغارات كثر فيهم الطلب، والفارس ربما زاد في طول رمحه ليخبر عن فضل قوته، ويخبر عن قصر سيفه ليخبر عن فضل نجدته. قال كعب بن مالك: نصل السيوف إذا قصرن بخطونا ... قدما ونلحقها إذا لم تلحق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 وقال آخر: إذا الكماة تنحوا أن يصيبهم ... حدّ الظبات وصلناها بأيدينا وقال رجل من بني نمير: وصلنا الرفاق المرهفات بخطونا ... على الهول حتى أمكنتنا المضارب وقال حميد بن ثور الهلالي: ووصل الخطا بالسيف والسيف بالخطا ... إذا ظن أن السيف ذو السيف قاصر وقال آخر: الطاعنون في النحور والكلى ... شزرا ووصالو السيوف بالخطى «1» وأما ما ذكروا «من اتخاذ الزّج لسافلة الرمح، والسنان لعاليته» فقد ذكروا أن رجلا قتل أخوين في نقاب «2» ، أحدهما بعالية الرمح، والآخر بسافلته. وقدم في ذلك راكب من قبل بني مروان على قتادة يستثبت الخبر من قبله، فأثبته له. وقال الآخر: إن لقيس عادة تعتادها ... سلّ السيوف وخطى تزدادها وقد وصفوا أيضا السيوف بالطول. وقال عمارة بن عقيل: بكل طويل السيف ذي خيزرانة ... جريء على الأعداء معتمد الشطب «3» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 وجملة القول أنا لا نعرف الخطب إلا للعرب والفرس. فأما الهند فإنما لهم معان مدونة، وكتب مخلدة، لا تضاف إلى رجل معروف، ولا إلى عالم موصوف، وإنما هي كتب متوارثة، وآداب على وجه الدهر سائرة مذكورة. ولليونانيين فلسفة وصناعة منطق، وكان صاحب المنطق نفسه بكيّ اللسان، غير موصوف بالبيان، مع علمه بتمييز الكلام وتفصيله ومعانيه، وبخصائصه. وهم يزعمون أن جالينوس كان أنطق الناس، ولم يذكروه بالخطابة، ولا بهذا الجنس من البلاغة، وفي الفرس خطباء، إلا أن كل كلام للفرس، وكل معنى للعجم، فإنما هو عن طول فكرة وعن اجتهاد رأي، وطول خلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طول التفكر ودراسة الكتب، وحكاية الثاني علم الأول، وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند آخرهم. وكلّ شيء للعرب فإنما هو بديهة وإرتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام، وإلى رجز بوم الخصام، أو حين يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة أو المناقلة، أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني إرسالا «1» ، وتنثال الألفاظ انثيالا، ثم لا يقيّده على نفسه، ولا يدرسه أحدا من ولده. وكانوا أميين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلفون، وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر، وهم عليه أقدر، وله أقهر، وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم للكلام أوجد، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ، ويحتاجوا إلى تدارس، وليس هم كمن حفظ علم غيره، واحتذى على كلام من كان قبله، فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم، والتحم بصدورهم، واتصل بعقولهم، من غير تكلّف ولا قصد، ولا تحفظ ولا طلب. وإن شيئا هذا الذي في أيدينا جزء منه لبالمقدار الذي لا يعلمه إلا من أحاط بقطر السحاب وعدد التراب، وهو الله الذي يحيط بما كان، والعالم بما سيكون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 ونحن- أبقاك الله- إذا دعينا للعرب أصناف البلاغة من القصيد والإرجاز، ومن المنثور والإسجاع، ومن المزدوج وما لا يزدوج، فمعنا العلم أن ذلك لهم شاهد صادق من الديباجة الكريمة، والرونق العجيب، والسبك والنحت، الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم، ولا أرفعهم في البيان أن يقول مثل ذلك إلا في اليسير، والنبذ القليل. ونحن لا نستطيع أن نعلم أن الرسائل التي بأيدي الناس للفرس، أنها صحيحة غير مصنوعة، وقديمة غير مولّدة، إذ كان مثل ابن المقفع وسهل بن هارون، وابي عبيد الله، وعبد الحميد وغيلان، يستطيعون أن يولدوا مثل تلك الرسائل، ويصنعوا مثل تلك السير. وأخرى: أنك متى أخذت بيد الشعوبي فأدخلته بلاد الأعراب الخلّص، ومعدن الفصاحة التامة، ووقفته على شعر مفلق، أو خطيب مصقع، علم أن الذي قلت هو الحق، وأبصر الشاهد عيانا. فهذا فرق ما بيننا وبينهم. فتفهّم عني، فهمك الله، ما أنا قائل في هذا، ثم اعلم أنك لم ترقوما قط أشقى من هؤلاء الشعوبية ولا أعدى على دينه، ولا أشد استهلاكا لعرضه، ولا أطول نصبا، ولا أقل غنما من أهل هذه النحلة. وقد شفى الصدور منهم طول جثوم الحسد على أكبادهم، وتوقد نار الشنآن في قلوبهم، وغليان تلك المراجل الفائرة، وتسعّر تلك النيران المضطرمة. ولو عرفوا أخلاق أهل كل ملة، وزيّ اهل كل لغة وعللهم، على اختلاف شاراتهم «1» وآلاتهم، وشمائلهم وهيئاتهم، وما علة كل شيء من ذلك، ولم اجتلبوه ولم تكلفوه، لأراحوا أنفسهم، ولخفت مؤونتهم على من خالطهم. [عصا سليمان وعصا موسى] والدليل على أن أخذ العصا مأخوذ من أصل كريم، ومعدن شريف، ومن المواضع التي لا يعيبها إلا جاهل، ولا يعترض عليها إلا معاند، اتخاذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 سليمان بن داود صلّى الله عليه وسلّم العصا لخطبته وموعظته، ولمقاماته، وطول صلاته، ولطول التلاوة والانتصاب، فجعلها لتلك الخصال جامعة. قال الله عز وجل وقوله الحق: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ . والمنسأة هي العصا. قال أبو طالب حين قام يذم الرجل الذي ضرب زميله بالعصا فقتله حين تخاصما في حبل وتجاذبا: أمن أجل حبل لا أباك علوته ... بمنسأة قد جاء حبل واحبل وقال آخر إذا دببت على المنسأة من كبر ... فقد تباعد عنك اللهو والغزل قال أبو عثمان: وإنما بدأنا بذكر سليمان صلّى الله عليه وسلّم لأنه من أبناء العجم، والشعوبية إليهم أميل، وعلى فضائلهم أحرص، ولما أعطاهم الله أكثر وصفا وذكرا. وقد جمع الله لموسى بن عمران عليه السلام في عصاه من البرهانات العظام، والعلامات الجسام، ما عسى أن يفي ذلك بعلامات عدة من المرسلين وجماعة من النبيين. قال الله تبارك وتعالى فيما يذكر من عصاه: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما ، إلى قوله تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى. فلذلك قال الحسن بن هاني في شأن خصيب وأهل مصر حين اضطربوا عليه: فإن تك من فرعون فيكم بقية ... فإن عصا موسى بكف خصيب ألم تر أن السحرة لم يتكلفوا تغليط الناس والتمويه عليهم إلا بالعصي، ولا عارضهم موسى إلا بعصاه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 وقال الله عز وجل: وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ. قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ. وقال الله عز وجل: قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ. قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ. وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ. فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ . ألا ترى أنهم لما سحروا أعين الناس واسترهبوهم بالعصي والحبال، لم يجعل الله للحبال من الفضيلة في اعطاء البرهان ما جعل للعصا، وقدرة الله على تصريف الحبال في الوجوه، كقدرته على تصريف العصا. وقال الله تبارك وتعالى: فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ . فبارك كما ترى على تلك الشجرة، وبارك في تلك العصا، وإنما العصا جزء من الشجر. وقال عز وجل: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها. أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها. [أصل العصا الشجرة المباركة] وقالت الحكماء: إنما تبنى المدائن على الماء والكلأ والمحتطب. فجمع بقوله: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها النجم والشجر، والملح واليقطين، والبقل والعشب. فذكر ما يقوم على ساق وما يتفنن وما يتسطح، وكل ذلك مرعي، ثم قال على النسق: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ ، فجمع بين الشجر والماء والكلأ والماعون كله، لأن الملح لا يكون إلا بالماء، ولا تكون النار إلا من الشجر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 وقال الله تبارك وتعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ . وقال: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ. نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ . والمرخ «1» والعفار «2» ، والسواس «3» والعراجين، وجميع عيدان النار، وكل عود يقدح على طول الإحتكاك فهو غني بنفسه، بالغ للمقوي وغير المقوي «4» وحجر المرو يحتاج إلى قراعة الحديد، وهما يحتاجان إلى العطبة «5» ، ثم إلى الحطب. والعيدان هي القادحة، وهي المورية، وهي الحطب. قال الله عز وجل: الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ. والماعون الماء والنار والملح والكلأ. وقال الأسدي: وكأن أرحلنا بجو محصّب ... بلوى عنيزة من مقيل الترمس في حيث خالطت الخزامى عرفجا ... يأتيك قابس اهلها لم يقبس وإنما وصف خصب الوادي ولدونة عيدانه، ورطوبة الورق. وهذا خلاف قول عمرو بن عبد هند: فإن السنان يركب المرء حدّه ... من العر أو يعدو على الأسد الورد وأن الذي ينهاكم عن طلابها ... يناغي نساء الحي في طرّة البرد يعلّل والأيام تنقص عمره ... كما تنقص النيران من طرف الزند وذكر الله عز وجل النخلة فجعلها شجرة، فقال: أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ. وذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرمة الحرم فقال: «لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 وقال الله عز وجل: وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ. وتقول العرب ليس شيء أدفأ من شجر، ولا أظل من شجر. ولم يكلّم الله موسى إلا من شجرة، وجعل أكبر آياته في عصاه، وهي من الشجر. ولم يمتحن الله جل وعز صبر آدم وحواء، وهما أصل هذا الخلق وأوله، إلا بشجرة. ولذلك قال: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ . وجعل بيعة الرضوان تحت شجرة. وقال: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ. وسدرة المنتهى التي عندها جنة المأوى شجرة. وشجرة سرّ تحتها سبعون نبيا لا تعبل ولا تسرف «1» . وحين اجتهد ابليس في الاحتيال لآدم وحوا صلى الله عليهما، لم يصرف الحيلة إلا إلى الشجرة، وقال: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى. وفيما يضرب بالأمثال من العصي قالوا: قال جميل بن بصبهري حين شكا إليه الدهاقين «2» شر الحجاج. قال أخبروني أين مولده؟ قالوا الحجاز. قال ضعيف معجب. قال فمنشؤه؟ قالوا الشام. قال ذلك شر. ثم قال ما أحسن حالكم إن لم تبتلوا معه بكاتب منكم، يعني من أهل بابل. فابتلوا بزاذان فروخ الأعور. ثم ضرب لهم مثلا فقال: إن فأسا ليس فيها عود ألقيت بين الشجر، فقال بعض الشجر لبعض: ما ألقيت هذه ها هنا لخير. قال: فقالت شجرة عادية إن لم يدخل في است هذه عود منكن فلا تخفنها. وقال يزيد بن مفرّغ: العبد يقرع بالعصا ... والحرّ تكفيه الملامه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 وقال: أخذه من الفلتان الفهمي، حيث قال: العبد يقرع بالعصا ... والحر تكفيه الاشارة وقال مالك بن الرّيب: العبد يقرع بالعصا ... والحر يكفيه الوعيد وقال بشار بن برد: الحر يلحى والعصا للعبد ... وليس للملحف مثل الردّ وقال آخر فاحتلت حين صرمتني ... والمرء يعجز لا المحاله والدهر يلعب بالفتى ... والدهر أروغ من ثعاله «1» والمرء يكسب ماله ... بالشّحّ يورثه الكلاله «2» والعبد يقرع بالعصا ... والحر تكفيه المقاله [منافع العصا ومرافقها] ومما يدخل في باب الانتفاع بالعصا أن عامرا بن الظرب العدواني، حكم العرب في الجاهلية، لما أسنّ واعتراه النسيان، أمر ابنته أن تقرع بالعصا إذا هو فهّ «3» عن الحكم، وجار عن القصد، وكانت من حكيمات بنات العرب حتى جاوزت في ذلك مقدار صحر بنت لقمان، وهند بنت الخس، وجمعة بنت حابس ابن مليل الاياديين. وكان يقال لعامر: ذو الحلم، ولذلك قال الحارث بن وعلة: وزعمتم أن لا حلوم لنا ... إن العصا قرعت لذى الحلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 وقال المتلمس في ذلك: لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علّم الإنسان إلا ليعلما وقال الفرزدق بن غالب: نإن كنت أستأني حلوم مجاشع ... فإن العصا كانت لذي الحلم تقرع ومن ذلك حديث سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، واعتزام لملك على قتل أخيه إن هو لم يصب ضميره، فقال له سعد: أبيت اللعن تدعني حتى أقرع بهذه العصا أختها؟ فقال له الملك: وما علمه بما تقول العصا؟ فقرع بها مرة وأشار بها مرة، ثم رفعها ثم وضعها، ففهم المعنى فأخبره ونجا من القتل. وذكر العصا يجري عندهم في معان كثيرة. تقول العرب: «العصا من العصية، والأفعى بنت حية» ، تريد أن الأمر الكبير يحدث عن الأمر الصغير. ويقال: «طارت عصا فلان شققا» . وقال الأسدي: عصيّ الشمل من أسد أراها ... قد انصدعت كما انصدع الزجاج ويقال: «فلان شق عصا المسلمين» ، ولا يقال شق ثوبا ولا غير ذلك مما يقع عليه اسم الشق. وقال العتّابي في مديح بعض الخلفاء: إمام له كف يضمّ بنانها ... عصا الدين ممنوعا من البري عودها وعين محيط بالبرية طرفها ... سواء عليه قربها وبعيدها وقال مضّرس الأسدي: فألقت عصا التسيار عنها وخيمت ... بأرجاء عذب الماء بيض محافره وقال أيضا: فألقت عصاها واستقرت بها النوى ... كما قرّ عينا بالأياب المسافر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 ويقال لبني أسد: «عبيد العصا» يعني أنهم كانوا ينقادون لكل من حالفوا من الرؤساء. وقال بشر بن أبي خازم: عبيد العصا لم يتقوك بذمة ... سوى سيب سعدى إن سيبك واسع وتسمي العرب كل صغير الرأس: «رأس العصا» . وكان عمر بن هبيرة صغير الرأس، فقال سويد بن الحارث: من مبلغ رأس العصا إن بيننا ... ضغائن لا تنسى وإن قدم الدهر وقال آخر: فمن مبلغ رأس العصا أن بيننا ... ضغائن لا تنسى وإن قيل سلّت رضيت لقيس بالقليل ولم تكن ... أخا راضيا لو أن نعلك زلّت وكان والبة صغير الرأس، فقال ابو العتاهية في رأس والبة ورؤوس قومه: رؤوس عصيّ كن من عود أثلة ... لها قادح يبرى وآخر مخرب والدليل على أنهم كانوا يتّخذون المخاصر في مجالسهم كما يتخذون القنا والقسي في المحافل، قول الشاعر في بعض الخلفاء: في كفه خيزران ريحه عبق ... من كفّ أروع في عرنينه شمم يغضى حياء ويغضى من جلالته ... فما يكلم إلا حين يبتسم وقال الآخر: مجالسهم خفض الحديث وقولهم ... إذا ما قضوا في الأمر وحي المخاصر وقال الآخر: يصيبون فصل القول في كلّ خطبة ... إذا وصلوا أيمانهم بالمخاصر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 وحدثني بعض أصحابنا قال: كنا منقطعين إلى رجل من كبار أهل العسكر، وكان لبثنا يطول عنده، فقال له بعضنا: إن رأيت أن تجعل لنا إمارة إذا ظهرت لنا خففنا عنك ولم نتبعك بالقعود، فقد قال أصحاب معاوية لمعاوية مثل الذي قلنا لك فقال: أمارة ذلك أن أقول إذا شئتم. وقيل ليزيد مثل ذلك فقال: إذا قلت على بركة الله. وقيل لعبد الملك مثل ذلك فقال: إذا ألقيت الخيزرانة من يدي. فأيّ شيء تجعل لنا أصلحك الله؟ قال: إذا قلت يا غلام الغداء. وفي الحديث أن رجلا ألحّ على النبي صلّى الله عليه وسلّم في طلب بعض المغنم وفي يده مخصرة، فدفعه بها، فقال يا رسول الله أقصني. فلما كشف النبي له عن بطنه احتضنه فقبل بطنه. وفي تثبيت شأن العصا وتعظيم أمرها، والطعن على من ذم عاملها، قالوا: كانت لعبد الله بن مسعود عشر خصال: أولها السواد، وهو سرار النبي صلّى الله عليه وسلّم. فقال له النبي: «إذنك علي أن يرفع الحجاب، وتسمع سوادي» . وكان معه مسواك النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانت معه عصاه. قال ودخل عمير بن سعد على عمر بن الخطاب، حين رجع إليه من عمل حمص، وليس معه إلا جراب وإداوة وقصعة وعصا، فقال له عمر: ما الذي أرى بك، من سوء الحال أو تصنع؟ قال: وما الذي ترى بي، ألست صحيح البدن، معي الدنيا بحذافيرها؟ قال: وما معك من الدنيا؟ قال: معي جرابي أحمل فيه زادي، ومعي قصعتي أغسل فيها ثوبي، ومعي إداوتي أحمل فيها مائي لشرابي، ومعي عصاي إن لقيت عدوا قاتلته، وإن لقيت حية قتلتها، وما بقي من الدنيا فهو تبع لما معي. وقال الهيثم بن عدي، عن شرقي بن القطامي وسأله سائل عن قول الشاعر: لا تعدلنّ أتاويين تضربهم ... نكباء صر بأصحاب المحلات «1» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 قال: والمحلات: الدلو، والمقدحة، والقربة، والفأس. قال: فأين أنت عن العصا؟ والصفن خير من الدلو وأجمع. وقال النمر بن تولب: أفرغت في حوضها صفني لتشربه ... في دائر خلق الأعضاد أهدام وأما العصا فلو شئت أن أشغل مجلسي كله بخصالها لفعلت. وتقول العرب في مديح الرجل الجلد، الذي لا يفتات عليه بالرأي: «لا ذلك الفحل لا يقرع أنفه» . وهذا كلام يقال للخاطب إذا كان على هذه الصفة، ولأن الفحل اللئيم إذا أراد الضراب ضربوا أنفه بالعصا. وقد قال أبو سفيان بن حرب بن أمية، عندما بلغه من تزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم بأم حبيبة، وقيل له: مثلك تنكح نساؤه بغير إذنه؟! فقال: «ذلك الفحل لا يقرع انفه» . والحمار الفاره يفسده السوط وتصلحه المقرعة. وأنشد لسلامة بن جندل: أنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له قرع الظنابيب «1» وقال الحجاج: «والله لأعصبنكم عصب السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل» . وذلك أن الأشجار تعصب أغصانها، ثم تخبط بالعصي لسقوط الورق وهشيم العيدان: ودخل أبو مجلّز على قتيبة بخراسان، وهو يضرب رجالا بالعصي، فقال: أيها الأمير، إن الله قد جعل لكل شيء قدرا، ووقّت فيه وقتا، فالعصا للأنعام والبهائم العظام، والسوط للحدود والتعزير، والدرة للأدب، والسيف لقتال العدو والقود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 ثم قال الشرقيّ: ولكن دعنا من هذا، خرجت من الموصل وأنا أريد الرقة مستخفيا، وأنا شاب خفيف الحاذ، فصحبني من أهل الجزيرة فتى ما رأيت بعده مثله، فذكر أنه تغلبي، من ولد عمرو بن كلثوم، ومعه مزود وركوة وعصا، فرأيته لا يفارقها، وطالت ملازمته لها، فكدت من الغيظ أرمي بها في بعض الأودية، فكنا نمشي فإذا أصبنا دواب ركبناها، وإن لم نصب الدواب مشينا، فقلت له في شأن عصاه، فقال لي: إن موسى بن عمران صلّى الله عليه وسلّم حين آنس من جانب الطور نارا، وأراد الإقتباس لأهله منها، لم يأت النار في مقدار تلك المسافة القليلة إلا ومعه عصاه، فلما صار بالوادي المقدس من البقعة المباركة قيل له: الق عصاك، واخلع نعليك. فرمى بنعليه راغبا عنهما، حين نزّه الله ذلك الموضع عن الجلد غير الذكي، وجعل الله جماع امره من أعاجيبه وبرهاناته في عصاه، ثم كلمه من جوف شجرة ولم يكلمه من جوف إنسان ولا جان. قال الشرقي إنه ليكثر من ذلك وإني لأضحك متهاونا بما يقول، فلما برزنا على حمارينا تخلّف المكاري فكان حماره يمشي، فإذا تلكأ أكرهه بالعصا، وكان حماري لا ينساق، وعلم أنه ليس في يدي شيء يكرهه، فسبقني الفتى إلى المنزل فاستراح واراح، ولم أقدر على البراح، حتى وافاني المكاري، فقلت: هذه واحدة. فلما أردنا الخروج من الغد لم نقدر على شيء نركبه، فكنا نمشي فإذا أعيا توكأ على العصا. وربما أحضر ووضع طرف العصا على وجه الأرض فاعتمد عليها ومرّ كأنه سهم زالج، حتى انتهينا إلى المنزل وقد تفسخت من الكلال، وإذا فيه فضل كثير، فقلت هذه ثانية. فلما كان في اليوم الثالث، ونحن نمشي في أرض ذات أخاقيق «1» وصدوع، إذ هجمنا على حية منكرة فساورتنا، فلم تكن عندي حيلة إلا خذلانه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 واسلامه إليها، والهرب منها، فضربها بالعصا فثقلت، فلما بهشت له «1» ورفعت صدرها ضربها حتى وقذها «2» ، ثم ضربها حتى قتلها، فقلت: هذه ثالثة، وهي أعظمهن. فلما خرجنا في اليوم الرابع، وقد والله قرمت إلى اللحم «3» وأنا هارب معدم، إذا أرنب قد اعترضت، فخذفها بالعصا، فما شعرت إلا وهي معلقة وأدركنا ذكاتها «4» ، فقلت: هذه رابعة. واقبلت عليه فقلت لو أن عندنا نارا لما أخرت أكلها إلى المنزل. قال فإن عندك نارا! فأخرج عويدا من مزوده، ثم حكه بالعصا فأورت إيراء المرخ والعفار عنده لا شيء، ثم جمع ما قدر عليه من الغثاء والحشيش فأوقد ناره وألقى الأرنب في جوفها، فأخرجناها وقد لزق بها من الرماد والتراب ما بغّضها إلي، فعلقها بيده اليسرى ثم ضرب بالعصا على جنوبها واعراضها ضربا رقيقا، حتى انتثر كل شيء عليها، فأكلناها وسكن القرم، وطابت النفس، فقلت: هذه خامسة. ثم أنا نزلنا بعض الخانات، وإذ البيوت ملاء روثا وترابا، ونزلنا بعقب جند وخراب متقدم، فلم نجد موضعا نظل فيه، فنظر إلى حديدة مسحاة «5» مطروحة في الدار، فأخذها فجعل العصا نصابا لها، ثم قام فجرف جميع ذلك التراب والروث، وجرّد الأرض بها جردا، حتى ظهر بياضها، وطابت ريحها فقلت: هذه سادسة. وعلى أي حال لم تطب نفسي أن أضع طعامي وثيابي على الأرض، فنزع والله العصا من حديدة المسحاة فوتدها في الحائط، وعلق ثيابي عليها، فقلت: هذه سابعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 فلما صرت إلى مفرق الطرق، وأردت مفارقته، قال لي: لو عدلت فبتّ عندي كنت قد قضيت حقّ الصحبة، والمنزل قريب. فعدلت معه فأدخلني في منزل يتصل ببيعة. قال: فما زال يحدثني ويطرفني ويلطفني الليل كله، فلما كان السحر أخذ خشيبة ثم أخرج تلك العصا بعينها فقرعها بها، فإذا ناقوس ليس في الدنيا مثله، وإذا هو أحذق الناس بضربه، فقلت له: ويلك، أما أنت مسلم وأنت رجل من العرب من ولد عمرو بن كلثوم؟ قال: بلى. قلت فلم تضرب بالناقوس؟ قال: جعلت فداك! إن أبي نصراني، وهو صاحب البيعة، وهو شيخ ضعيف، فإذا شهدته بررته بالكفاية. فإذا هو شيطان مارد، وإذا أظرف الناس كلهم وأكثرهم أدبا وطلبا، فخبرته بالذي أحصيت من خصال العصا، بعد أن كنت هممت أن أرمي بها، فقال: والله لو حدثتك عن مناقب نفع العصا إلى الصبح لما استنفدتها. تفسير شعر غنيّه الأعرابية، في شأن ابنها. وذلك إنه كان لها ابن شديد العرامة «1» ، كثير التفلت إلى الناس، مع ضعف أسر ودقة عظم، فواثب مرة فتى من الأعراب فقطع الفتى أنفه، فأخذت غنية دية أنفه فحسنت حالها بعد فقر مدقع. ثم واثب آخر فقطع أذنه فأخذت الدية فزادت دية أذنه في المال وحسن الحال. ثم واثب بعد ذلك آخر فقطع شفته فأخذت دية شفته. فلما رأت ما قد صار عندها من الإبل والغنم والمتاع والكسب بجوارح ابنها حسن رأيها فيه، فذكرته في أرجوزة لها تقول فيها: أحلف بالمروة يوما والصّفا ... إنك خير من تفاريق العصا فقيل لأبن الأعرابي: ما تفاريق العصا؟ قال: العصا تقطع ساجورا «2» وتقطّع عصا الساجور فتصير أوتادا، ويفرّق الوتد فيصير كل قطعة شظاظا «3» . فإذا كان رأس الشظاظ كالفلكة صار للبختيّ مهارا، وهو العود الذي يدخل في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 أنف البختي، وإذا فرّق المهار جاءت منه تواد «1» . والسواجير تكون للكلاب والأسرى من الناس. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بناس من ها هنا يقادون إلى حظوظهم بالسواجير» . وإذا كانت قناة فكل شقّة منها قوس بندق، فإن فرقت الشقة صارت سهاما، فإن فرقت السهام صارت حظاء، وهي سهام صغار. قال الطرماح: أكلب كحظاء الغلام. والواحدة حظوة وسروة، فإن فرقت الحظاء صارت مغازل، فإن فرّق المغزل شعب به الشعّاب أقداحه المصدوعة، وقصاعه المشقوقة. على أنه لا يجد لها أصلح منها. وقال الشاعر: نوافذ أطراف القنا قد شككنه ... كشكّك بالشّعب الإناء المثلّما فإذا كانت العصا صحيحة ففيها من المنافع الكبار والمرافق الأوساط والصغار ما لا يحصيه أحد، وإن فرّقت ففيها مثل الذي ذكرنا وأكثر. فأيّ شيء يبلغ في المرفق والرد مبلغ العصا. وفي قول موسى: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى دليل على كثرة المرافق فيها، لأنه لم يقل: ولي فيها مأربة أخرى، والمآرب كثيرة. فالذي ذكرنا قبل هذا داخل في تلك المآرب. ولا نعرف شعرا يشبه معنى شعر غنية بعينه لا يغادر منه شيئا. ولكن زعم بعض أصحابنا أن أعرابيين ظريفين من شياطين الأعراب حطمتهما السنة، فانحدرا إلى العراق، واسم أحدهما حيدان، فبيناهما يتماشيان في السوق إذا فارس قد أوطأ دابته رجل حيدان فقطع أصبعا من أصابعه، فتعلقا به حتى أخذا منه أرش الأصبع «2» ، وكانا جائعين مقرورين، فحين صار المال في أيديهما قصدا لبعض الكرابج «3» فابتاعا من الطعام ما أشتهيا، فلما أكل صاحب حيدان وشبع أنشأ يقول: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 فلا غرث ما كان في الناس كربج ... وما بقيت في رجل حيدان أصبع وهذا الشعر وشعر غنية من الظرف الناصع الذي سمعت به، وظرف الأعراب لا يقوم له شيء. وناس كثير لا يستعملون في قتالهم إلا العصيّ، منهم الزنج: قنبلة ولنجويه والنمل والكلاب، وتكفو وتنبو. على ذلك يعتمدون في حروبهم. ومنهم النبط، ولهم بها ثقافة وشدة وغلبة، واثقف ما تكون الأكراد إذا قاتلت بالعصي. وقتال المخارجات «1» كلها بالعصي، ولهم هناك ثقافه ومنظر حسن، ولقتالهم منزلة بين السلامة والعطب. والناس يضربون المثل بقتال البقّار بقناته. ويقال في المثل: «ما هو إلا ابنة عصا، وعقدة رشا «2» » . ويقال للراعي: «إنه لضعيف العصا» إذا كان قليل الضرب بها للإبل، شديد الإشفاق عليها. وقال الراعي ضعيف العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أجدب الناس أصبعا فإذا كان الراعي جلدا قويا عليها قالوا: صلب العصا. ولذلك قال الراجز: صلب العصا باق على أذاتها وقال الآخر في معنى الراعي: لا تضرباها وأشهرا العصيا ويقولون: قد أقبل فلان ولانت عصاه، إذا أصابه السّواف «3» فرجع وليس معه إلا عصاه لأنه لا يفارقها كانت له ابل أم لم تكن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 ويقولون: كلما قرعت عصا بعصا، وعصا على عصا، وعصا عصا قالوا خذوا فلانا بذلك. وقال حميد بن ثور: اليوم تنزع العصا من ربها ... ويلوك ثني لسانه المنطيق ويكتب مع قوله: تغشى العصا والزجر إن قيل حل ... يرسلها التغميض إن لم ترسل وقال آخر: هذا ورود بزّل وسدس «1» ... يغلي بها كلّ مسيم مرغس ردّت من الغور وأكناف الرسي ... من عشب أحوى وحمض مورس وذائد جلد العصا دلهمس «2» ... إن قيل قم قام وإن قيل أجلس داست سماطي عفر مدعّس «3» ويدل على شدة قتالهم بالعصا قول بشامة بن حزن النهشلي: فدى لرعاء بالنّحيرة ذبّبوا ... بأعصيهم والماء برد المشارب «4» تألى نعيم لا تجوز بحوضه ... فقلت تحلّل يا نعيم بن قارب «5» فإن زيادا لم يكن ليردّها ... وسبرة عن ماء النضيح المقارب اغرّك أن جاءت ظماء وباشرت ... بأعناقها برد النصاب الصّباصب «6» تناولن ما في الحوض ثم امترينه ... بجرع وأعناق طوال الذوائب «7» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 ويقول فلان ضعيف العصا، إذا كان لا يستعمل عصاه. ولذلك قال البعيث: وأنت بذات السّدر من أم سالم ... ضعيف العصا مستضعف متهضّم وقال آخر: وما صاديات حمن يوما وليلة ... على الماء يغشين العصيّ حوان لوائب لا يصدرن عنه لوجهة ... ولا هن من برد الحياض دوان يرين حباب الماء والموت دونه ... فهن لأصوات السقاة روان بأوجع مني جهد شوق وغلّة ... إليك ولكنّ العدوّ عداني وقال آخر: فما وجد ملواح من الهيم حلّئت ... عن الماء حتى جوفها يتصلصل «1» تحوم وتغشاها العصي وحولها ... أقاطيع أنعام تعلّ وتنهل بأعظم مني غلّة وتعطّفا ... إلى الورد إلا أنني أتجمل ويقال: «ضرب فلان ضرب غرائب الإبل» وهي تضرب عند الهرب وعند الخلاط، وعند الحوض، أشد الضرب. وقال الحارث بن صخر: بضرب يزيل الهام عن سكناته ... كما ذيد عن ماء الحياض الغرائب وقال آخر: للهام ضرابون بالمناصل «2» ضرب المذيد غرب النواهل وفي جواهر العصا تفاوت. ويقولون: ما هي إلا غصن بان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 وقال ابن أحمر: رود الشباب كأنها غصن ... بحرام مكّة ناعم نضر «1» وقال آخر: أما تريني قائما في جلّ «2» ... جمّ الفتوق خلق «3» هملّ «4» محاذرا أبغض عن تحتلّي ... عند اعتلال دهرك المعتلّ فقد أرى في اليلمق الرّفلّ «5» ... أصون للإنس جميل الدلّ لدنا كخوط البانة المبتلّ «6» وتكون العصا محراثا، وتكون مخصرة، وتكون المخصرة قضيب حنيرة «7» وعود ساجور، ثم تكون تودية. ويقال للرجل إذا كان فيه أبنة: «فلان يخبا العصا» . وقال الشاعر: زوجك زوج صالح ... لكنه يخبأ العصا وفي الأمثال: «فحذفه بالقول كما تحذف الأرنب بالعصا» . وقال أياس بن قتادة العبسمي: سأنحر أولاها وأحذف بالعصا ... على أثرها إني إذا قلت عازم وقال ابن كناسة في شرط الراعي على صاحب الإبل: «ليس لك أن تذكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 أمي بخير ولا شر، ولك حذفة بالعصا عند غضبك أصبت أم أخطأت، ولي مقعدي من النار، وموضع يدي من الحار والقار» . وكان العتبي يحدث في هذين بحديثين: أحدهما قوله عن الأعرابي: «وكان إذا خرست الألسن عن الرأي حذف بالصواب كما تحذف الأرنب بالعصا» . وأما الحديث الآخر فذكر أن قوما أضلوا الطريق، فاستأجروا أعرابيا يدلهم على الطريق، فقال: إني والله لا أخرج معكم حتى أشرط لكم واشترط عليكم. قالوا فهات مالك. قال «يدي مع أيديكم في الحار والقار، ولي موضعي من النار موسع علي فيها، وذكر والدي عليكم محرم» . قالوا: فهذا لك فما لنا عليك إن أذنبت؟ قال: «أعراضة لا تؤدي إلى عتب، وهجرة لا تمنع من مجامعة السفرة» . قالوا: فإن لم تعتب؟ قال: «فحذفة بالعصا أخطأت أم أصابت» . وهذان الحديثان لم أسمعهما من عالم، وإنما قرأتهما في بعض الكتب من كتب المسجديين. ولأهل المدينة عصيّ في رؤوسها عجر لا تكاد أكفهم تفارقها إذا خرجوا إلى ضياعهم ومتنزهاتهم، ولهم فيها أحاديث حسنة، وأخبار طيبة. وكان الأفشين يقول: «إذا ظفرت بالعرب شدخت رؤوس عظمائهم بالدبوس» والدبوس شبيه بهذه العصا التي في رأسها عجرة وقال جحشويه: يا رجلا هام بلباد ... معتدل كالغصن مياد هام به غسان لما رأى ... أيرا له مثل عصا الحادي ولم يزل يهوى ابو مالك ... كل فتى كالغصن منآد يعجبه كل متين القوى ... للطعن في الأدبار معتاد وقالوا في تغميض الناقة عينها، كي تركب العصا إلى الحوض، وهو في معنى قول ابي النجم: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 تغشى العصا والزجر أن قيل حل ... يرسلها التغميض إن لم ترسل وهذا مثل قول الهذلي: ولأنت أشجع من أسامة «1» إذ ... شدّوا المناطق تحتها الحلق حدّ السيوف على عواتقهم ... وعلى الأكف ودونها الدّرق «2» كغماغم الثيران بينهم ... ضرب تغمض دونه الحدق وقال حميد بن ثور الهلالي: اليوم تنتزع العصا من ربها ... ويلوك ثني لسانه المنطيق ويقال: رجل كالقناة، وفرس كالقناة. وقال الشاعر: متى ما يجىء يوما إلى المال وارثي ... يجد جمع كف غير ملأى ولا صفر يجد فرسا مثل القناة وصارما ... حساما إذا ما هزّ لم يرض بالهبر وجاء في الحديث: أجدبت الأرض على عهد عمر رحمه الله حتى ألقت الرعاء العصيّ، وعطّلت النعم، وكسر العظم. فقال كعب «3» : يا أمير المؤمنين، إن بني اسرائيل كانوا إذا أصابتهم السنة استسقوا بعصبة الأنبياء. فكان ذلك سبب استسقائه بالعباس بن عبد المطلب. وساورت حية أعرابيا فضربها بعصاه وسلم منها، فقال: لولا الهراوة والكفان أنهلني ... حوض المنية قتّال لمن علقا «4» أصمّ منهرت الشدقين ملتبد ... لم يغذ إلا المنايا مذ لدن خلقا «5» كأن عينيه مسماران من ذهب ... جلاهما مدوس الألان فائتلقا «6» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 وقال الحجاج بن يوسف لأنس بن مالك: «والله لأقلعنك قلع الصّمغة، ولأعصبنك عصب السّلمة، ولأضربنك ضرب غرائب الإبل ولأجردنك تجريد الضب» . وقال عمر بن الخطاب رحمه الله لأبي مريم الحنفي: «والله لا أحبك حتى تحبّ الأرض الدم المسفوح» . لأن الأرض لا تقبل الدم، فإذا جف الدم تقلّع جلبا «1» . ولقد أسرف المتلمّس حيث يقول: أحارث أنا لو تساط «2» دماؤنا ... تزايلن حتى لا يمس دم دما وأشد سرفا منه قول أبي بكر الشيباني، قال: كنت أسيرا مع بني عم لي من بني شيبان، وفينا من موالينا جماعة في أيدي التغالبة، فضربوا أعناق بني عمي وأعناق الموالي على وهدة من الأرض، فكنت والذي لا إله إلا هو، أرى دم العربي ينماز من دم المولى، حتى أرى بياض الأرض بينهما، فإذا كان هجينا «3» قام فوقه، ولم يعتزل عنه. وأنشد الأصمعي: يذدن وقد ألقيت في قعر حفرة ... كما ذيد عن حوض العراك غرائبه «4» وقال العباس بن مرداس: نقاتل عن أحسابنا برماحنا ... فنضربهم ضرب المذيد الخوامسا وقال الفرزدق بن غالب: ذكرت وقد كادت عصا البين تنشطي ... حبالك من سلمي وذو الّلب ذاكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 وقال الأسدي: إذا المرء أولاك الهوان فأوله ... هوانا وإن كانت قريبا أواصره ولا تظلم المولى ولا تضع العصا ... على الجهل إن طارت إليك بوادره وقال جرير بن عطية: ألا رب مصلوب حملت على العصا ... وباب استه عن منبر الملك زائل وقالوا في مديح العصا نفسها مع الأغصان وكريم جوهر العصي والقسي: إذا قامت لسبحتها تثنّت ... كأن عظامها من خيزران وقال المؤمل بن أميل: القوم كالعيدان يفضل بعضهم ... بعضا كذاك يفوق عود عودا لو تستطيع عن القضاء حيادة ... وعن المنية أن تصيب محيدا كانت تقيّد حين تنزل منزلا ... فاليوم صار لها الكلال قيودا وقال آخر: واسلمها الباكون إلا حمامة ... مطوقة بانت وبان قرينها تجاوبها أخرى على خيزرانة ... يكاد يدنّيها من الأرض لينها وقال آخر: ألا أيها الركب المخبون هل لكم ... بأخت بني هند عتيبة من عهد أألقت عصاها واستقربها النوى ... بأرض بني قابوس أم ظعنت بعدي وقال آخر: ألا هتفت ورقاء في رونق الضحى ... على غصن غضّ النبات من الرند «1» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 وقال آخر في امرأة رآها في شارة «1» وبزة، فظن بها جمالا، فلما سفرت إذا هي غول: فأظهرها ربي بمن وقدرة ... عليّ ولولا ذاك متّ من الكرب فلما بدت سبّحت من قبح وجهها ... وقلت لها الساجور خير من الكلب «2» وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بقوم من ها هنا يقادون إلى حظوظهم في السواجير» . والساجور يسمى الزمّارة. قالوا: وفي الحديث: «فأتى الحجاج بسعيد بن جبير «3» ، وفي عنقه زمّارة» . وقال بعض المسجّنين: ولي مسمعان وزمارة ... وظلّ مديد وحصن أمق «4» وكم عائد لي وكنم زائر ... لو أبصرني زائرا قد شهق المسمعان: قيدان. وسمى الغلّ الذي في عنقه زمّارة. وأما قول الوليد: اسقني يا زبير بالقرقاره ... قد ظمئنا وحنّت الرّمّاره «5» اسقني اسقني فإن ذنوبي ... قد أحاطت فما لها كفّاره فإن الزمارة ها هنا: المزمار. وقال أيضا صاحب الزمارة في صفة السجن: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 فبتّ بأحصنها منزلا ... ثقيلا على عنق السالك ولست بضيف ولا في كراء ... ولا مستعير ولا مالك وليس بغصب ولا كالرهون ... ولا يشبه الوقف عن هالك ولي مسمعان فأدناهما ... يغني ويمسك في الحالك وأقصاهما ناظر في السما ... ء عمدا وأوسخ من عارك «1» المسمعان ها هنا أحدهما قيده، والآخر صاحب الجرس. قال: وأخبرني الكلابي قال: قاتلت بنو عم لي بعضهم بعضا، فجعل بعضهم ينضم إلى بعض لواذا مني، وليس لي في ذلك هجيرى إلا قولي: قد جعلت تأوى إلى خمّانها «2» ... وكرسها العاديّ من أعطانها «3» فلما طلبوا القصاص، قلت: دونكم يا بني عمي حقكم، فأنا اللحم وأنتم الشفرة، إن وهبتم شكرت، وإن اعتقلتم عقلت، وإن اقتصصتم صبرت. قال: وسألت يونس عن قوله: (نسيا منسيا) ، قال: تقول العرب إذا ارتحلوا عن المنزل ينزلونه: انظروا أنساءكم. وهي العصا، والقدح، والشظاظ، والحبل. قال فقلت: إني ظننت هذه الأشياء لا ينساها أربابها إلا لأنها أهون المتاع عليهم. قال ليس ذلك كذلك، المتاع الجافي يذكر بنفسه، وصغار المتاع تذهب عنها العيون. وإنما تذهب نفوس العامة إلى حفظ كل ثمين وإن صغر جسمه، ولا يقفون على أقدار فوت الماعون عند الحاجة وفقد المحلات في الأسفار. وقال يونس: المنسي ما تقادم العهد به ونسي حينا لهوانه. ولم تكن مريم لتضرب المثل في هذا الموضع بالأشياء النفيسة التي الحاجة إليها أعظم من الحاجة إلى الشيء الثمين في الأسواق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 وقال الأشهب بن رميلة «1» : قال الأقارب لا تغررك كثرتنا ... وأغن نفسك عنا أيها الرجل علّ بنيّ يشدّ الله أعظمهم ... والنبع ينبت قضبانا فيكتهل وكان فرس الأخنس بن شهاب تسمى «العصا» ، والأخنس فارس العصا. وكان لجذيمة الأبرش فرس يقال لها «العصا» . ولبني جعفر بن كلاب «شحمة» و «الغدير» و «العصا» . فشحمة فرس جزء بن خالد. والعصا فرس عوف بن الأحوص. والغدير فرس شريج بن الأحوص. والعصا أيضا فرس شبيب بن كعب الطائي. وقال بعضهم أو بعض خطبائهم: وليس عصاه من عراجين نخلة ... ولا ذات سير من عصي المسافر ولكنها إما سألت فنبعة ... وميراث شيخ من جياد المخاصر والرجل يتمنى إذا لم تكن له قوة وهو يجد العجز، فيقول: «لو كان في العصا سير» . ولذلك قال حبيب بن أوس: ما لك من همة وعزم ... لو أنه في عصاك سير ربّ قليل جنى كثيرا ... كم مطر بدؤه مطير صبرا على النائبات صبرا ... ما صنع الله فهو خير وإذا لم يجعل المسافر في عصاه سيرا سقطت إذا نعس من يده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 وسئل عن قوله: (ولي فيها مآرب أخرى) ، قال: لست أحيط بجميع مآرب موسى صلّى الله عليه وسلّم، ولكني سأنبئكم جملا تدخل في باب الحاجة إلى العصا. من ذلك أنها تحمل للحية، والعقرب، وللذئب، وللفحل الهائج، ولعير العانة في زمن هيج الفحول، وكذا فحول الحجور «1» في المروج. ويتوكأ عليها الكبير الدالف، والسقيم المدنف، والأقطع الرجل، والأعرج، فإنها تقوم مقام رجل أخرى. وقال أعرابي مقطوع الرجل: الله يعلم أني من رجالهم ... وإن تخدّد عن متنيّ أطماري «2» وإن رزيت يدا كانت تجمّلني ... وإن مشيت على زج ومسمار والعصي تنوب للأعمى عن قائده، وهي للقصّار والفاشكار والدبّاغ. ومنها المفأد للملّة «3» والمحراك للتنّور. قال الشاعر: إذا كان ضرب الخبز مسحا بخرقة ... وأحمد دون الطارق التنّور كأنه كره أن ينفض عنها الرماد بعصا فيستدل على أنه قد أنضج خبزته. يصفه بالبخل. وهي لدق الجص والجبسين والسمسم. وقال الشمّاخ بن ضرار: وأشعث قد قدّ السّفار قميصه ... يجر شواء بالعصا غير منضج ولخبط الشجر، وللفيج «4» وللمكاري، فإنهما يتخذان المخاصر، فإذا طال الشوط وبعدت الغاية استعانا في حضرهما وهرولتهما في اضعاف ذلك بالأعتماد على وجه الأرض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 وهي تعدّل من ميل المفلوج، وتقيم من إرتعاش المبرسم ويتخذها الراعي لغنمه، وكل راكب لمركبه، ويدخل عصاه في عروة المزود، ويمسك بيده الطرف الآخر، وربما كان أحد طرفيها بيد رجل والطرف الآخر بيد صاحبه وعليها حمل ثقيل. وتكون إن شئت وتدا في حائط، وإن شئت ركزتها في الفضاء وجعلتها قبلة، وإن شئت جعلتها مظلة، وإن جعلت فيها زجا كانت عنزة «1» ، وإن زدت فيها شيئا كانت عكازا، وإن زدت فيها شيئا كانت مطردا «2» ، وإن زدت فيها شيئا كانت رمحا. والعصا تكون سوطا وسلاحا. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب بالقضيب، وكفى دليلا على عظم غنائها، وشرف حالها. وعلى ذلك الخلفاء وكبراء العرب من الخطباء. وقد كان مروان بن محمد حين أحيط به دفع البرد والقضيب إلى خادم له، وأمره أن يدفنهما في بعض تلك الرمال، ودفع إليه بنتا له، وأمره أن يضرب عنقها. فلما أخذ الخادم في الأسرى قال: إن قتلتموني ضاع ميراث النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأمنوه على أن يسلم ذلك لهم وقال الشاعر في صفة قناة: وأسمر عاتر فيه سنان ... شراعيّ كساطعة الشعاع «3» وقال آخر: هونة في العنان تهتزّ فيه ... كاهتزاز القناة تحت العقاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 ومما يجوز في العصا قول الشاعر: للهام ضرابون بالمناصل ... ضرب المذيد غرّب النّواهل وقال عباس بن مرداس: نطاعن عن أحسابنا برماحنا ... ونضربهم ضرب المذيد الخوامسا وقال الآخر: دافع عني جلبي وحشّي ... فهي كعود النبعة الأجشّ وقال نصيب الأسود: ومن يبق مالا عدّة وصيانة ... فلا الدهر مبقيه ولا الشح وافره ومن يك ذا عود صليب يعده ... ليكسر عود الدهر فالدهر كاسره وقال آخر: تخيرت من نعمان عود أراكة ... لهند فمن هذا يبلّغه هندا خليلي عوجا بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند لأرضكما قصدا وقولا لها ليس الضلال أجارنا ... ولكنما جرنا لنلقاكم عمدا وقال آخر: فتلك ثيابي لم تدنّس بغدرة ... ووري زنادي في ذرى المجد ثاقب ولو صادفت عودا سوى عود نبعة ... وهيهات أفنته الخطوب النوائب وقال آخر: عصا شريانة دهنت بزبد ... تدقّ عظامه عظما فعظما وليس هذا مثل قول لقيط بن زرارة: إذا دهنوا رماحهم بزبد ... فإن رماح تيم لا تضير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 وقال صالح بن عبد القدوس: لا تدخلن بنميمة ... بين العصا ولحائها وقال شبل بن معبد البجلي: برتني صروف الدهر من كلّ جانب ... كما يبترى دون اللحاء عسيب وقال أوس بن حجر: لحونهم لحو العصا فطردنهم ... إلى سنة جرذانها لم تحلّم وقال الرّقاشي في صفة القناة التي تبرى منها القسي: من شقق خضر بروصيات «1» ... صفر اللحاء وخلوقيات «2» جدلن حتى إضن كالحيات ... رشائقا غير مؤبنات «3» أنّفهنّ متمطّرات «4» ... عمرو بن عصفور على استثبات وقال محمد بن يسير: ومشمّرين عن السّواعد حسّر ... عنها بكل رشيقة التوتير «5» ليس الذي تشوي يداه رمية ... فيهم بمعتذر ولا معذور «6» عطف السّيات موانع في عطفها ... تعزى إذا نسبت إلى عصفور «7» ذهب إلى قوله: في كفه معطية منوع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 وهذا مثل قوله: خرقاء إلا أنها صناع وهذا مثل قوله: غادر داء ونجا صحيحا ومثل قوله: حتى نجا من جوفه وما نجا فإذا طال قيام الخطيب صار فيه انحناء وجنأ «1» وقال الأسدي: أنا ابن الخالدين إذا تلاقى ... من الأيام يوم ذو ضجاج كأن اللغب والخطباء فيه ... قسيّ مثقّف ذات اعوجاج وعلى هذا المعنى قال الشماخ بن ضرار: فأضحت تفالى بالستار كأنها ... رماح نحاها وجهة الريح راكز «2» وقال العماني: عات يرى ضرب الرجال مغنما ... إذا رأى مصدّقا تجهّما وهزّ في الكفّ، وأبدى المعصما ... هراوة نبعية أو سلما تترك ما رام رفاتا رمما وقال أمية بن الأسكر «3» : هلا سألت بنا إن كنت جاهلة ... ففي السؤال من الأنباء شافيها تخبرك عنا معد إن هم صدقوا ... ومن قبائل نجران يمانيها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 وبالجياد تجرّ الجيل عابسة ... كأن مذرور ملح في هواديها «1» قوم إذا قذع الأقوال طاف بهم ... ألقى العصي عصي الجهل باريها قال والرجل إذا لم يكن معه عصا فهو باهل. وناقة باهل وباهلة، إذا كانت بغير صرار «2» . وقال الراجز: أبهلها ذائدها وسبحا «3» ... ودقت المركوّ حتى ابلندحا «4» احتجنا إلى أن نذكر ارتفاق بعض الشعراء من العرجان بالعصي، عند ذكرنا العصا وتصرفها في المنافع. والذي نحن ذاكروه من ذلك في هذا الموضع قليل من كثير ما ذكرناه في كتاب العرجان. فإذا أردتموه فهو هناك موجود إن شاء الله. قالوا: ولما شاع هجاء الحكم بن عبدل الأسدي لمحمد بن حسان بن سعد وغيره من الولاة والوجوه، هابه أهل الكوفة، واتقى لسانه الكبير والصغير، وكان الحكم اعرج لا تفارقه عصاه، فترك الوقوف بأبوابهم وصار يكتب على عصاه حاجته ويبعث بها مع رسوله فلا يحبس له رسول، ولا يؤخر عنه لقراءة الكتاب، ثم تأتيه الحاجة على أكثر مما قدّر، وأوفر مما أمّل، فقال يحيي بن نوفل: عصا حكم في الدار أول داخل ... ونحن عن الأبواب نقصى ونحجب وأما قول بشر بن أبي خازم: لله درّ بني الحدّاء من نفر ... وكلّ جار على جيرانه كلب إذا غدوا وعصيّ الطّلح أرجلهم ... كما تنصّب وسط البيعة الصّلب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 إنما يعني أنهم كانوا عرجانا، فأرجلهم كعصي الطلح، وعصي الطلح معوجة. وكذلك قال معدان الأعمى، في قصيدته الطويلة التي صنف فيها الغالية والرافضة، والتميمية، والزيدية «1» : والذي طفّف الجدار من الذعر ... وقد بات قاسم الأنفال «2» فغدا خامعا بوجه هشيم ... ويساق كعود طلح بال وقال بعض العرجان ممن جعل العصا رجلا: ما للكواعب يا دهماء قد جعلت ... تزورّ عني وتطوي دوني الحجر لا أسمع الصوت حتى أستدير له ... ليلا طويلا يناغيني له القمر وكنت أمشى على رجلين معتدلا ... فصرت أمشي على رجل من الشجر وقال رجل من بني عجل: وشى بي واش عند ليلى سفاهة ... فقالت له ليلى مقالة ذي عقل وخبرها أني عرجت فلم تكن ... كورهاء تجترّ الملامة للبعل وما بي من عيب الفتى غير أنني ... جعلت العصا رجلا أقيم بها رجلي وقال أبو ضبة في رجله: وقد جعلت إذا ما نمت أوجعني ... ظهري وقمت قيام الشارف الظهر «3» وكنت أمشي على رجلين معتدلا ... فصرت أمشي على رجل من الشجر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 وقال أعرابي من بني تميم: وما بي من عيب الفتى غير أنني ... ألفت قناتي حين أوجعني ظهري قال: ودخل الحكم بن عبدل الأسدي وهو أعرج، على عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وهو أمير الكوفة وكان أعرج، وكان صاحب شرطه اعرج، فقال ابن عبدل: ألق العصا ودع التخامع والتمس ... عملا فهذي دولة العرجان «1» لأميرنا وأمير شرطتنا معا ... لكليهما يا قومنا رجلان فإذا يكون أميرنا ووزيرنا ... وأنا فإن الرابع الشيطان ومما يدل على أن للعصا موقعا منهم، وأنها تدور مع أكثر أمورهم قول مزرد بن ضرار: فجاء على بكر ثفال يكدّه ... عصاه استه، وجء العجاية بالفهر «2» ويقولون إعتصى بالسيف، إذا جعل السيف عصاه، وإنما اشتقوا للسيف اسما من العصا، لأن عامة المواضع التي تصلح فيها السيوف تصلح فيها العصي، وليس كل موضع تصلح فيه العصا يصلح فيه السيف. وقال الآخر: ونحن صدعنا هامة ابن محرّق ... كذلك نعصى بالسيوف الصوارم وقال عمرو بن الأطنابة «3» : وفتى يضرب الكتيبة بالسي ... يف إذا كانت السيوف عصيا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 وقال عمرو بن محرز: نزلوا إليهم والسيوف عصيهم ... وتذكروا دمنا لهم وذحولا «1» وقال الفرزدق همام بن غالب بن صعصعة: إن ابن يوسف محمود خلائقه ... سيّان معروفه في الناس والمطر هو الشهاب الذي يرمي العدو به ... والمشرفيّ الذي تعصى به مضر يقال عصى بالسيف واعتصى به. وقال العريان بن الأسود، في ابن له مات: ولقد تحمل المشاة كريما ... ليّن العود ماجد الأعراق ذاك قولي ولا كقول نساء ... معولات يبكين بالأوراق وكتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رحمه الله: «إن البحر خلق عظيم يركبه خلق صغير، دود على عود» . وقال واثلة السدوسي: رأيتك لما شبت أدركك الذي ... يصيب سراة الأزد حين تشيب سفاهة أحلام وبخل بنائل ... وفيك لمن عاب المزون عيوب لقد صبرت للذل أعواد منبر ... تقوم عليها، في يديك قضيب وقد أوحشت منكم رزاديق فارس ... وبالمصر دور جمّة ودروب وأنشد الأصمعي: أعددت للضيفان كلبا ضاريا ... وهراوة مجلوزة من أرزن «2» ومعاذرا كذبا ووجها باسرا ... وتشكيا عض الزمان الألزن «3» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 وشذاة مرهوب الأذى قاذورة ... خشن جوانبه دلوظ ضيزن «1» وبكف محبوك اليدين عن العلا ... والباع مسودّ الذراع مقحزن «2» وتجنيا لهم الذنوب واتقي ... بغليظ جلد الوجنتين عشوزن «3» وقال جرير: تصف السيوف وغيركم يعصى بها ... يا ابن القيون وذاك فعل الصيقل وقال الراعي: تبيت ورجلاها أوانان لاستها ... عصاها استها حتى يكلّ قعودها وقال أعرابي للحطيئة: ما عندك يا راعي الغنم؟ قال عجراء «4» من سلم قال: إني ضيف! قال للضيفان أعددتها. وقال الشّماخ بن ضرار: إلى بقر فيهنّ للعين منظر ... وملهى لمن يلهو بهنّ أنيق رعين الندى حتى إذا وقد الحصى ... ولم يبق من نوء السماك بروق تصدّع شعب الحي وانشقّت العصا ... كذاك النوى بين الخليط شقوق وقال امرؤ القيس: قولا لدودان عبيد العصا ... ما غرّكم بالأسد الباسل وقال علي بن الغدير: وإذا رأيت المرء يشعب أمره ... شعب العصا ويلجّ في العصيان فاعمد لما تعلو فما لك بالتي ... لا تستطيع من الأمور يدان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 وقال الآخر وهجاجة لا يملأ الليل صدره ... إذا النكس أغضى طرفه غير أروع «1» صحيح بريء العود من كل أبنة ... وجمّاع نهب الخير في كل مجمع وقال مسكين الدارمي: تسمو بأعناق وتحبسها ... عنا عصيّ الذادة العجر حباب بن موسى، عن مجالد، عن الشعبي، عن زحر بن قيس قال: قدمت المدائن بعد ما ضرب علي بن أبي طالب رحمه الله، فلقيني ابن السوداء «2» وهو ابن حرب، فقال لي: ما الخبر؟ قلت: ضرب أمير المؤمنين ضربة يموت الرجل من أيسر منها ويعيش من أشد منها. قال: لو جئتمونا بدماغه في مائة صرة لعلمنا أنه لا يموت حتى يذودكم بعصاه. وقال الله تبارك وتعالى: وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ الآية. وقال الشاعر: رأيت الغانيات نفرن مني ... نفار الوحش من رام مفيق رأين تغيري وأردن لدنا ... كغصن البان ذي الفنن الوريق وقال أبو العتاهية: عريت من الشباب وكان غضا ... كما يعرى من الورق القضيب ألا ليت الشباب يعود يوما ... فأخبره بما صنع المشيب وقال الآخر: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 ولئن عمرت لقد عمرت كأنني ... غصن تينيه الرياح رطيب وكذاك حقا من يعمّر يبله ... كرّ الزمان عليه والتقليب حتى يعود من البلى وكأنه ... في الكفّ أفوق ناصل معصوب «1» مرط القذاذ فليس فيه مصنع ... لا الريش ينفعه ولا التعقيب «2» وقال عروة بن الورد: أليس ورائي أن أدبّ على العصا ... فيأمن أعدائي ويسأمني أهلي وأنشد: عصوا بسيوف الهند واعتركت بهم ... براكاء حرب لا يطير غرابها «3» وقال لبيد: أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزوم العصا تحنى عليها الأصابع وقال الآخر: نقيم العصا ما كان فيها لدونة ... وتأبى العصا في يبسها أن تقوّما وقال الآخر: إن الغصون إذا قوّمتها اعتدلت ... ولن تلين إذا قومتها الخشب وقال جرير: ما للفرزدق من عزّ يلوذ به ... إلا بني العم في أيديهم الخشب سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ... ونهر تيرى فما تدريكم العرب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 وقال جرير في هجائه بني حنيفة: أصحاب نخل وحيطان ومزرعة ... سيوفهم خشب فيها مساحيها «1» قطع الدبار وسقي النخل عادتهم ... قدما وما جاوزت هذا مساعيها «2» لو قيل اين هوادي الخيل ما عرفوا ... قالوا لأعجازها هذي هواديها أو قلت إن حمام الموت آخذكم ... أو تلجموا فرسا قامت بواكيها لما رأت خالدا بالعرض اهلكها ... قتلا واسلمها ما قال طاغيها دانت واعطت يدا للسلم طائعة ... من بعد ما كاد سيف الله يفنيها وقال سلامة بن جندل: كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له قرع الظنابيب ويقال للخاطب إذا كان مرغوبا فيه كريما: ذاك الفحل الذي لا يقرع أنفه. لأن الفحل اللئيم إذا هبّ على الناقة الكريمة ضربوا وجهه بالعصا. وقال الآخر: كأنها إذ رفعت عصاها ... نعامة أوحدها رألاها «3» وممن أضافوه إلى عصاه داود ملكين اليشكري، وكان ولي شرط البصرة. وجاء في الحديث أن أبا بكر رحمه الله أفاض من جمع وهو يخرش بعيره بمحجنه. وقال الأصمعي: المحجن: العصا المعوجّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 وفي الحديث المرفوع: «أنه طاف بالبيت يستلم الأركان بمحجنه» . والخرش: أن يضربه بمحجنه ثم يجذبه إليه، يريد بذلك تحريكه. وقال الراعي: فألقى عصا طلح ونعلا كأنها ... جناح السّمانى رأسه قد تصوّعا والعصا أيضا فرس شبيب بن كريب الطائي. أبو الحسن، عن علي بن سليم قال: كان شبيب بن كريب الطائي يصيب الطريق في خلافة علي بن أبي طالب رحمه الله، فبعث اليه أحمر بن شميط العجلي وأخاه في فوارس، فهرب شبيب وقال: ولما أن رأيت ابني شميط ... بسكة طيىء والباب دوني تجللت العصا وعلمت أني ... رهين مخيّس أن يثقفوني «1» ولو أنظرتهم شيئا قليلا ... لسأقوني إلى شيخ بطين شديد مجالز الكتفين صلب ... على الحدثان مجتمع الشؤون وقال النجاشي لأم كثير بن الصلت: ولست بهندي ولكن ضيعة ... على رجل لو تعلمين مزير «2» واعجبتني للسوط والنوط والعصا ... ولم تعجبيني خلّة لأمير «3» وقال أعشى بني ربيعة: وكان الخلائف بعد الرسو ... ل لله كلهم خاشعا شهيدين من بعد صدّيقهم ... وكان ابن صخر هو الرابعا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 وكان ابنه بعده خامسا ... مطيعا لمن قبله سامعا ومروان سادس من قد مضى ... وكان ابنه بعده سابعا وبشر يدافع عبد العزيز ... مضى ثامنا ذا وذا تاسعا وايهم ما يكن سائسا ... لها لم يكن أمرها ضائعا فأما تريني حليف العصا ... فما كنت من رثية خامعا «1» فساومني الدهر حتى اشترى ... شبابي وكنت له مانعا وقال عوف بن الخرع: ألا أبلغا عني جريحة آية ... فهل أنت عن ظلم العشيرة مقصر وإن ظعن الحيّ الجميع لطيّة ... فأمرك معصيّ وشربك مغور «2» أفي صرمة عشرين أو هي دونها ... قشرتم عصاكم فانظروا كيف تقشر «3» زعمتم من الهجر المضلل انكم ... ستنصركم عمرو علينا ومنقر «4» فيا شجر الوادي ألا تنصرونهم ... وقد كان بالمرّوت رمت وسخبر «5» ألم تجعلوا تيما على شعبتي عصا ... فما ينطق المعروف إلا معذر «6» وقال رجل من محارب يرثي ابنه: ألم يك رطبا يعصر القوم ماءه ... وما عوده للكاسرين بيابس وقال حاجب بن زرارة: «والله ما القعقاع برطب فيعصر، ولا يابس فيكسر» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 وقال حماد عجرد: وجروا على ما عوّدوا ... ولكل عيدان عصاره وقال أيضا: فأنت أكرم من يمشي على قدم ... وانضر الناس عند المحل اغصانا لو مجّ عود على قوم عصارته ... لمج عودك فينا المسك والبانا وقال آخر: إنا وجدنا الناس عودين: طيبا ... وعودا خبيثا ما يبض «1» على العصر تزين الفتى أخلاقه وتشينه ... وتذكر أخلاق الفتى حيث لا يدري وقال المؤمّل بن أميل: كانت تقيّد حين تنزل منزلا ... فاليوم صار لها الكلال قيودا والناس كالعيدان يفضل بعضهم ... بعضا كذاك يفوق عود عودا وقالت ليلى الأخيلية: نحن الأخايل لا يزال غلامنا ... حتى يدبّ على العصا مذكورا [الشعوبية تطعن على عصا الأنبياء] . أنظر- أبقاك الله- في كم فنّ تصرّف فيه ذكر العصا من أبواب المنافع والمرافق، وفي كم وجه صرفته الشعراء وضرب به المثل. ونحن لو تركنا الإحتجاج لمخاصر البلغاء، وعصي الخطباء، لم نجد بدا من الإحتجاج لجلة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 المرسلين، وكبار النبيين، لان الشعوبية قد طعنت في جملة هذا المذهب على قضيب النبي صلّى الله عليه وسلّم وعنزته، وعلى عصاه ومخصرته، وعلى عصا موسى، لأن موسى صلّى الله عليه وسلّم قد كان اتخذها من قبل أن يعلم ما عند الله فيها، وإلام يكون صيّور أمرها «1» . ألا ترى أنه لما قال الله عز وجل: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى ، قال: قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى . وبعد ذلك قال: قالَ أَلْقِها يا مُوسى. فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى . ومن يستطيع أن يدّعي الإحاطة بما فيها من مآرب موسى إلا بالتقريب وذكر ما خطر على البال؟! وقد كانت العصا لا تفارق يد سليمان بن داود عليه السلام في مقاماته وصلواته، ولا في موته ولا في أيام حياته، حتى جعل الله تسليط الأرضة عليها وسليمان ميّت وهو معتمد عليها، من الآيات عند من كان لا يعلم أن الجن لم تكن تعلم إلا ما تعلم الإنس. ولو علم القوم أخلاق كل ملة، وزي أهل كل لغة وعللهم في ذلك، واحتجاجهم له، لقل شغبهم، وكفونا مؤونتهم. هذه الرهبان تتخذ العصيّ، من غير سقم ولا نقصان في جارحة. ولا بد للجاثليق من قناع ومن مظلة وبرطلّة، ومن عكّاز ومن عصا، من غير أن يكون الداعي إلى ذلك كبرا ولا عجزا في الخلقة. وما زال المطيل القيام بالموعظة أو القراءة أو التلاوة يتخذ العصا عند طول القيام، ويتوكأ عليها عند المشي. كأن ذلك زائد في التكهل والزمانة «2» ، وفي نفي السخف والخفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 [السمات والأزياء] [المخصرة] وبالناس حفظك الله أعظم الحاجة إلى أن يكون لكل جنس منهم سيما، ولكل صنف منهم حلية وسمة يتعارفون بها. وقال الفرزدق بن غالب: له ندب مما يقول ابن غالب ... يلوح كما لاحت وسوم المصدق وقال آخر: أنار حتى صدقت سماته ... وظهرت من كرم آياته وأنشدني أبو عبيدة: سقاها ميسم من آل عمرو ... إذا ما كان صاحبها جحيشا «1» وذكر بعض الأعراب ضروبا من الوسم، فقال: بهنّ من خطّافنا خبط وسم «2» ... وحلق في أسفل الذفرى نظم معها نظام مثل خط بالقلم ... وقرمة ولست ادري من قرم عرض وخبط للمحليها المسم «3» وقال تبارك وتعالى: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ. وكما خالفوا بين الأسماء للتعارف، قال الله عز وجل: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ . فعند العرب العمّة وأخذ المخصرة من السيما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 وقد لا يلبس الخطيب الملحفة ولا الجبة ولا القميص ولا الرداء. والذي لا بد منه العمة والمخصرة. وربما قام فيهم وعليه إزاره قد خالف بين طرفيه. وربما قام فيهم وعليه عمامته، وفي يده مخصرته، وربما كانت قضيبا وربما كانت عصا، وربما كانت قناة. وفي القنا ما هو اغلظ من الساق، وفيها ما هو أدق من الخنصر. وقد تكون محكّكة الكعوب مثقّفة من الإعوجاج، قليلة الأبن. وربما كان العود نبعا وربما كان من شوحط، وربما كان من آبنوس، ومن غرائب الخشب ومن كرائم العيدان، ومن تلك الملس المصفاة. وربما كانت لبّ غصن كريم، فإن للعيدان جواهر كجواهر الرجال ولولا ذلك لما كانت في خزائن الخلفاء والملوك. ومنها ما لا تقربه الأرضة ولا تؤثر فيه القوادح والعكّازة إذا لم يكن في اسفلها زجّ فهي عصا، لأن أطول القنا أن يقال رمح خطل، ثم رمح بائن، ثم رمح مخموس، ثم رمح مربوع «1» ، ثم رمح مطرد، ثم عكازة، ثم عصا. ثم من العصي نصب المساحي والمرور «2» والقدم والفؤوس والمعاول والمناجل، والطبرزينات «3» . ثم يكون من ذلك نصب السكاكين والسيوف والمشامل «4» وكل سهام نبعية، وغير ذلك من العيدان، مما امتدحها أوس بن حجر أو الشّماخ بن ضرار، أو احد من الشعراء، فإنما هي من عصا. وكل قوس بندق فإنما جيء بقناتها من بروض، ومدح ببريها وصنعتها عصفور القواس. وقال الرقاشي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 أنعت قوسا نعت ذي انتقاء ... جاء بها جالب بروضاء بعد اعتيام منه وانتصاء «1» ... كافية الطول على انتهاء مجلوزة الأكعب في استواء ... سالمة من أبن السيساء فلم تزل مساحل البراء ... تأخذ من طوائف اللحاء حتى بدت كالحية الصفراء ... ترنو إلى الطائر في السماء بمقلة سريعة الأقذاء ... ليست بكحلاء ولا زرقاء وقال الآخر: قد اغتدي ملث الظلام بفتية ... للرمي قد حسروا له عن أذرع متنكبين خرائطا لبنادق ... ما بين مضفور وبين مرسع بأكفهم قضبان بروض قد غدوا ... للطير قبل نهوضها للمرتع تقذي منيات الطيور عيونها ... يوما إذا رمدت بأيدي النزّع «2» صفر البطون كأن ليط متونها ... سرق الحرير نواضر لم تسلع «3» وكانت العنزة التي تحمل بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- وربما جعلوها قبلة- أشهر وأذكر من أن يحتاج في تثبيتها إلى ذكر الإسناد. [القلائد] وكانت سيما أهل الحرم إذا خرجوا إلى الحلّ في غير الأشهر الحرم، أن يتقلدوا القلائد، ويعلقوا عليهم العلائق «4» . وإذا أوذم أحدهم الحج «5» تزيا بزي الحاج، وإذا ساق بدنة أشعرها «6» . وخالفوا بين سمات الإبل والغنم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 واعلموا البحيرة بغير علم السائبة «1» ، واعلموا الحامي بغير علم سائر الفحول «2» . وكذلك الفرع والوصيلة والرجيبة والعتيرة من الغنم «3» وكذلك سائر الأغنام السائمة. وإذا كانت الإبل من حباء ملك غرزوا في أسنمتها الريش والخرق ولذلك قال الشاعر. يهب الهجان بريشها ورعائها ... كالليل قبل صباحه المتبلّج «4» وإذا بلغت الإبل ألفا فقئوا عين الفحل، فإن زادت فقئوا العين الأخرى فذلك المفقأ والمعمّى. وقال شاعرهم: فقأت لها عين الفحيل تعيّفا ... وفيهن رعلاء المسامع والحامي وقال آخر: وهبتها وأنت ذو إمتنان ... يفقأ فيها أعين البعران وقال الآخر: فكان شكر القوم عند المنن ... كيّ الصحيحات وفقء الأعين وإذا كان الفحل من الإبل كريما قالوا فحيل، وإذا كان الفحل من النخل كريما قالوا فحّال. قال الراعي: كانت نجائب منذر ومحرّق ... أماتهن وطرقهن فحيلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 [الثياب] وكان الكاهن لا يلبس المصبّغ، والعرّاف لا يدع تذليل قميصه وسحب ردائه، والحكم لا يفارق الوبر. وكان لحرائر النساء زيّ، ولكل مملوك زيّ، ولذوات الرايات زي، وللإماء زي. وكان الزبرقان يصبغ بصفرة. وذكره الشاعر فقال: وأشهد من عوف حلولا كثيرة ... يحجون ستّ الزبرقان المزعفرا «1» وكان أبو أحيحة سعيد بن العاص إذا اعتمّ لم يعتمّ معه أحد، هكذا في الشعر. ولعل ذلك أن يكون مقصورا في بني عبد شمس. وقال أبو قيس بن الأسلت: وكان أبو أحيحة قد علمتم ... بمكة غير مهتضم ذميم إذا شدّ العصابة ذات يوم ... وقام إلى المجالس والخصوم فقد حرمت على من كان يمشي ... بمكة غير مدّخل سقيم وكان البختريّ غداة جمع ... يدافعهم بلقمان الحكيم بأزهر من سراة بني لؤي ... كبدر الليل راق على النجوم هو البيت الذي بنيت عليه ... قريش السر في الزمن القديم «2» وسطت ذوائب الفرعين منهم ... فأنت لباب سرهم الصميم وقال غيلان بن خرشة للأحنف: يا أبا بحر، ما بقاء ما فيه العرب؟ قال: إذا تقلدوا السيوف، وشدوا العمائم واستجادوا النعال، ولم تأخذهم حمية الأوغاد. قال وما حمية الأوغاد؟ قال أن يعدّوا التواهب ذلا. وقال الأحنف: استجيدوا النعال فإنها خلاخيل الرجال. والعرب تسمي السيوف بحمائلها أردية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه قولا أحسن من هذا، قال: «تما جمال المرأة في خفّها، وتمام جمال الرجل في كمّته «1» » . ومما يؤكد ذلك قول مجنون بني عامر: أأعقر من جرا كريمة ناقتي ... ووصلي مفروش لوصل منازل إذا جاء قعقعن الحليّ ولم أكن ... إذا جئت أرجو صوت تلك الصلاصل ولم تغن سيجان العراقين نقرة ... ورقش القلنسى بالرجال الأطاول والعصابة والعمامة سواء. وإذا قالوا سيد معمم فإنما يريدون أن كل جناية يجنيها الجاني من تلك العشيرة فهي معصوبة برأسه. وقال دريد بن الصّمّة: أبلغ نعيما وعوفا إن لقيتهما ... إن لم يكن كان في سمعيهما صمم فلا يزال شهاب يستضاء به ... يهدي المقانب ما لم تهلك الصمم عاري الأشاجع معصوب بلمته ... أمر الزعامة في عرنينه شمم وقال الكناني: تنخّبتها للنسل وهي غريبة ... فجاءت به كالبدر خرقا معمّما فلو شاتم الفتيان في الحي ظالما ... لما وجدوا غير التكذّب مشتما ولذلك قيل لسعيد بن العاصي: «ذو العصابة» . وقد قال القائل: كعاب أبوها ذو العصابة وابنه ... وعثمان ما أكفاؤها بكثير يقولها خالد بن يزيد وقال عمر بن الخطاب رحمه الله: «العمائم تيجان العرب» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 قال: وقيل لأعرابي: إنك لتكثر لبس العمامة؟ قال: إن شيئا فيه السمع والبصر لجدير أن يوقي من الحر والقر. وذكروا العمامة عند أبي الأسود الدؤلي فقال: «جنّة في الحرب، ومكنّة من الحر، ومدفأة من القر، ووقار في النديّ، وواقية من الأحداث، وزيادة في القامة، وهي بعد عادة من عادات العرب» . وقال عمرو بن امرىء القيس: يا مال والسيد المعمّم قد ... يبطره بعد رأيه السرف نحن بما عندنا وأنت بما عن ... دك راض والرأي مختلف [القناع] وكان من عادة فرسان العرب في المواسم والجموع، وفي أسواق العرب، كأيام عكاظ وذي المجاز وما أشبه ذلك، التقنّع، إلا ما كان من أتى سليط طريف بن تميم، أحد بني عمرو بن جندب، فإنه كان لا يتقنع ولا يبالي أن تثبت عينه جميع فرسان العرب، وكانوا يكرهون أن يعرفوا فلا يكون لفرسان عدوهم همّ غيرهم. ولما أقبل حمصيصة الشيباني يتأمل طريفا قال طريف: أو كلما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إلي عريفهم يتوسّم فتوسموني أنني أنا ذاكم ... شاك سلاحي في الحوادث معلم تحتي الأغرّ وفوق جلدي نثرة ... زغف ترد السيف وهو مثلم ولكل بكريّ إلي عداوة ... وأبو ربيعة شانىء ومحلّم فكان هذا من شأنهم. وربما مع ذلك أعلم نفسه الفارس منهم بسيما. كان حمزة يوم بدر معلما بريشة نعامة حمراء. وكان الزبير معلما بعمامة صفراء. ولذلك قال درهم بن زيد: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 إنك لاق غدا غواة بني الملك ... اء فانظر ما أنت مزدهف يمشون في البيض والدروع كما ... تمشي جمال مصاعب قطف «1» فأبد سيماك يعرفوك كما ... يبدون سيماهم فتعترف وكان المقنع الكندي الشاعر، واسمه محمد بن عمير، كان الدهر مقنعا. والقناع من سيما الرؤساء. والدليل على ذلك والشاهد الصادق، والحجة القاطعة، أن رسول الله صلى صلّى الله عليه وسلّم كان لا يكاد يرى إلا مقنّعا. وجاء في الحديث: «حتى كأن الموضع الذي يصيب رأسه من ثوبه ثوب دهان» . وكان المقنع الذي خرج بخراسان يدّعي الربوبية، لا يدع القناع في حال من الحالات. وجهل بإدعاء الربوبية من طريق المناسخة، فادعاها من الوجه الذي لا يختلف فيه الأحمر والأسود، والمؤمن والكافر، إن باطله مكشوف كالنهار. ولا يعرف في شيء من الملل والنحل القول بالتناسخ إلا في هذه الفرقة من الغالية. وهذا المقنع كان قصّارا من أهل مرو، وكان أعور ألكن. فما أدري أيهما أعجب، أدعواه بأنه رب، أو إيمان من آمن به وقاتل دونه؟! وكان اسمه عطاء. [العمامة] وقال الآخر: إذا المرء أثرى ثم قال لقومه ... أنا السيد المفضى إليه المعمّم ولم يعطهم شيئا أبوا أن يسودهم ... وهان عليهم رغمه وهو ألوم وقال الآخر: إذا كشف اليوم العماس عن استه ... فلا يرتدي مثلي ولا يتعمم «2» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 قال: وكان مصعب بن الزبير يعتم القفداء، وهو أن يعقد العمامة في القفا. وكان محمد بن سعد بن أبي وقاص، الذي قتله الحجاج، يعتم الميلاء. وقال الفرزدق: ولو شهد الخيل ابن سعد لقنعوا ... عمامته الميلاء عضبا مهندا وقال ثمعلة بن أخضر الضبي: جلبنا الخيل من أكناف فلج ... ترى فيها من الغزو أقورارا «1» بكل طمرّة وبكل طرف ... يزين سواد مقلته العذارا «2» حوالي عاصب بالتاج منا ... جبين أغر يستلب الدوارا رئيس ما ينازعه رئيس ... سوى ضرب القداح إذا استشارا وأنشد: إذا لبسوا عمائمهم لووها ... على كرم وإن سفروا أناروا يبيع ويشتري لهم سواهم ... ولكن بالطعان هم تجار إذا ما كنت جار بني تميم ... فأنت لأكرم الثقلين جار وأنشد: وداهية جرها جارم ... جعلت رداءك فيها خمارا ولذكر العمائم مواضع. قال زيد بن كثوة العنبري: منعت من العهّار أطهار امه ... وبعض الرجال الماعين زناء فجاءت به عبل القوام كأنما ... عمامته فوق الرجال لواء «3» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 لأن العمامة ربما جعلوها لواء. ألا ترى أن الأحنف بن قيس، يوم مسعود ابن عمرو، حين عقد لعبس بن طلق اللواء، إنما نزع عمامته من رأسه فعقدها له. وربما شدوا بالعمائم أوساطهم عند المجهدة، وإذا طالت العقبة «1» ولذلك قال شاعرهم: فسيروا فقد جنّ الظلام عليكم ... فباست امرىء يرجو القرى عند عاصم دفعنا إليه وهو كالذيخ خاظيا ... نشدّ على أكبادنا بالعمائم وقال الفرزدق: بني عاصم إن تلجئوها فإنكم ... ملاجىء للسوءات دسم العمائم وقال الآخر: خليليّ شدّا لي بفضل عمامتي ... على كبد لم يبق إلا صميمها [النعال] العرب تلهج بذكر النعال، والفرس تلهج بذكر الخفاف. وفي الحديث المأثور: «إن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا ينهون نساءهم عن لبس الخفاف الحمر والصفر، ويقولون: هو من زينة نساء آل فرعون» . وأما قول شاعرهم: إذا اخضرّت نعال بني غراب ... بغوا ووجدتهم أشرى لئاما فلم يرد صفة النعل، وإنما أراد أنهم إذا أخضرت الأرض وأخصبوا طغوا وبغوا. كما قال الآخر: وأطول في دار الحفاظ إقامة ... وأوزن أحلاما إذا البقل أجهلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 ومثل قوله: يا ابن هشام أهلك الناس اللبن ... فكلهم يسعى بسيف وقرن وأما قول الآخر: وكيف أرجّي أن أسود عشيرتي ... وأمي من سلمى أبوها وخالها رأيتكم سودا جعادا، ومالك ... مخصّرة بيض سباط نعالها فلم يذهب إلى مديح النعال في انفسها، وإنما ذهب إلى سباطة أرجلهم وأقدامهم، ونفى الجعودة والقصر عنهم. وقال النابغة: رقاق النعال طيّب حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب يصونون أجسادا قديما نعيمها ... بخالصة الأردان خضر المناكب «1» قال: وبنو الحارث بن سدوس لم ترتبط حمارا قط، ولم تلبس نعلا قط إذا نقبت. وقد قال قائلهم: ونلقي النعال إذا نقبت ... ولا نستعين بأخلاقها «2» ونحن الذؤابة من وائل ... إلينا تمد بأعناقها وهم رهط خالد بن المعمّر، الذي يقول فيه شاعرهم: معاوي أمّر خالد بن معمر ... فإنك لولا خالد لم تؤمّر وقائلهم الذي يقول: أغاضبة عمرو بن شيبان إن رأت ... عديدين من جرثومة ودخيس «3» فلو شاء ربي كان أير أبيكم ... طويلا كأير الحارث بن سدوس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 وكان عمر جعل رياسة بكر لمجزأة بن ثور، فلما استشهد مجزأة جعلها أبو موسى لخالد بن المعمر، ثم ردها عثمان إلى شقيق بن مجزأة بن ثور، فلما خرج أهل البصرة إلى صفين تنازع شقيق وخالد الرياسة، فصيرها عند ذلك علي إلى حضين بن المنذر، فرضي كل واحد منهما وكان يخاف أن يصيّرها إلى خصمه، فسكنت بكر وعرف الناس صحة تدبير علي في ذلك. وأما قول الآخر: يا ليت لي نعلين من جلد الضبع ... وشركا من أستها لا تنقطع «1» كلّ الحذاء يحتذي الحافي الوقع فهذا كلام محتاج، والمحتاج يتجوز. وأما قول النجاشي لهند بن عاصم: إذا الله حيا صالحا من عباده ... كريما فحيا الله هند بن عاصم وكلّ سلولي إذا ما لقيته ... سريع إلى داعي الندى والمكارم ولا يأكل الكلب السروق نعالهم ... ولا تنتقي المخّ الذي في الجماجم قال يونس: كانوا لا يأكلون الأدمغة، ولا ينتعلون إلا بالسبت. وقال كثير: إذا نبذت لم تطّب الكلب ريحها ... وإن وضعت في مجلس القوم شمّت وقال عتيبة بن مرداس، وهو ابن فسوة: إلى معشر لا يخصفون نعالهم ... ولا يلبسون السبت ما لم يخصّر وإذا مدح الشاعر النعل بالجودة فقد بدأ بمدح لابسها قبل أن يمدحها. قال الله تبارك وتعالى لموسى: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 طُوىً . وقال بعض المفسرين: كانت من جلد غير ذكي. وقال الزبيري: ليس كما قال، بل اعلمه حق المقام الشريف، والمدخل الكريم. ألا ترى أن الناس إذا دخلوا إلى الملوك ينزعون نعالهم خارجا. قال: وحدثنا سلام بن مسكين قال: ما رأيت الحسن إلا وفي رجليه النعل رأيته على فراشه وهي في رجليه، وفي مسجده وهو يصلي وهي في رجليه. وكان بكر بن عبد الله تكون نعله بين يديه فإذا نهض إلى الصلاة لبسها. وروي ذلك عن عمرو بن عبيد، وهاشم الأوقص، وحوشب، وكلاب، وعن جماعة من أصحاب الحسن. وكان الحسن يقول: «ما أعجب قوما يروون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلى في نعليه فلما انفتل من الصلاة علم أنه قد كان وطىء على كذا وكذا، وأشباها لهذا الحديث، ثم لا ترى أحدا منهم يصلي منتعلا» . وأما قوله: وقام بناتي بالنعال حواسرا ... وألصقن وقع السبت تحت القلائد فإن النساء ذوات المصائب إذا قمن في المناحات كن يضربن صدورهن بالنعال. وقال محمد بن يسير: كم أرى من مستعجب من نعالي ... ورضائي منها بلبس البوالي كل جرداء قد تحيّفها الخصف ... بأقطارها، بسرد النقال «1» لا تداني وليس تشبه في الخل ... قة إن أبرزت نعال الموالي لا ولا عن تقادم العهد منها ... بليت لا ولا لكرّ الليالي ولقد قلت حين أوثر ذا الو ... د عليها بثروتي وبمالي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 من يغالي من الرجال بنعل ... فسوائي إذا بهن يغالي أو بغاهن للجمال فإني ... في سواهن زينتي وجمالي في أخائي وفي وفائي ورائي ... وعفافي ومنطقي وفعالي ما وقاني الخفي وبلّغني الحا ... جة منها، فإنني لا أبالي وقال خلف الأحمر: سقى حجاجنا نوء الثريا ... على ما كان من مطل وبخل هم جمعوا النعال فأحرزوها ... وسدوا دونها بابا بقفل إذا أهديت فاكهة وشاة ... وعشر دجائج بعثوا بنعل ومسواكين طولهما ذراع ... وعشر من رديّ المقل خشل «1» فإن أهديت ذاك ليحملوني ... على نعل فدقّ الله رجلي وقال كثير: كأن ابن ليلى حين يبدو فينجلي ... سجوف الخباء عن مهيب مشمّت مقارب خطو لا يغير نعله ... رهيف الشراك سهلة المتسمت إذا طرحت لم تطّب الكلب ريحها ... وإن وضعت في مجلس القوم شمت وقال بشار: إذا وضعت في مجلس القوم نعلها ... تضوّع مسكا ما أصابت وعنبرا ولما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لصعصعة بن صوحان في المنذر بن الجارود ما قال: قال صعصعة: «لئن قلت ذاك يا أمير المؤمنين أنه لنظّار في عطفيه، تفّال في شراكيه، تعجبه جمرة برديه» . وذم رجل ابن التوأم فقال: «رأيته مشحّم النعل، درن الجورب، مغضّن الخفّ، دقيق الجربان «2» » . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 وقال الهيثم: يمين لا يحلف بها الأعرابي أبدا: أن يقول لا أود لك الله صادرا ولا أصدر لك واردا، ولا حططت رحلك، ولا خلعت نعلك. وقال آخر: علق الفؤاد بريّق «1» الجهل ... وابرّ واستعصى على الأهل وصبا وقد شابت مفارقه ... سفها وكيف صبابة الكهل أدركت معتصري «2» وأدركني ... حلمي ويسّر قائدي نعلي [إختلاف الأزياء] قال ابن عباس رحمه الله في تعظيم شأن عصا موسى عليه السلام: «الدابة ينشق عنها الصفا، معها عصا موسى، وخاتم سليمان، تمسح المؤمن بالعصا وتختم الكافر بالخاتم» . وجعل الله تبارك وتعالى أكبر آداب النبي عليه السلام في السّواك، وحضّ عليه صلّى الله عليه وسلّم. والمسواك ألا يكون إلا عصا. وقال أبو الوجيه: قضبان المساويك البشام، والضّرو «3» ، والعتم «4» والأراك، والعرجون، والجريد، والإسحل. وقد يلبس الناس الخفاف والقلانس في الصيف كما يلبسونها في الشتاء، إذا دخلوا على الخلفاء وعلى الأمراء، وعلى السادة والعظماء، لأن ذلك أشبه بالإحتفال، وبالتعظيم والإجلال، وأبعد من التبذل والإسترسال، وأجدر أن يفصلوا بين مواضع أنسهم في منازلهم ومواضع إنقباضهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 وللخلفاء عمّة، وللفقهاء عمة، وللبقالين عمة، وللأعراب عمة، وللصوص عمة، وللأبناء عمة، وللروم والنصارى عمة، ولأصحاب التشاجي «1» عمة. ولكل قوم زي: فللقضاة زي، ولأصحاب القضاة زي، وللشرط زي، وللكتّاب زي، ولكتاب الجند زي. ومن زيهم أن يركبوا الحمير وإن كانت الهماليج «2» لهم معرضة. وأصحاب السلطان ومن دخل الدار على مراتب: فمنهم من يلبس المبطّنة، ومنهم من يلبس الدّرّاعة، ومنهم من يلبس القباء، ومنهم من يلبس البازيكند ويعلق الخنجر، ويأخذ الجرز، ويتخذ الجمّة «3» . وزي مجالس الخلفاء في الشتاء والصيف فرش الصوف. وترى أن ذلك أكمل وأجزل وأفخم وأنبل. ولذلك وضعت ملوك العجم على رؤوسها التيجان، وجلست على الأسرة، وظاهرت بين الفرش. وهل يملأ عيون الأعداء ويرعب قلوب المخالفين، ويحشو صدور العوام إفراط التعظيم إلا تعظيم شأن السلطان، والزيادة في الأقدار، وإلا الآلات. وهل دواؤهم إلا في التهويل عليهم؟ وهل تصلحهم إلا إخافتك إياهم؟ وهل ينقادون لما فيه الحظ لهم ويسلسون بالطاعة التي فيها صلاح أمورهم إلا بتدبير يجمع المهابة والمحبة. وكانت الشعراء تلبس الوشي والمقطعات «4» والأردية السود، وكل ثوب مشهر. وقد كان عندنا منذ نحو خمسين سنة شاعر يتزيا بزي الماضين، وكان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 له برد أسود يلبسه في الصيف والشتاء، فهجاه بعض الطياب من الشعراء فقال في قصيدة له: بع بردك الأسود قبل البرد ... في قرة تأتيك صما صرد وكان لجربان «1» قميص بشار الأعمى وجبته لبنتان، فكان إذا أراد نزع شيء منها أطلق الأزرار فسقطت الثياب على الأرض، ولم ينزع قميصه من جهة رأسه قط. وقدّويه العدوي الشحّاجيّ، لم يلبس قط قميصا، وهو اليوم حي، وهو شيخهم، وهو شيخ كبير. وسعيد بن العاصي الجواد الخطيب، لم ينزع قميصه قط. فقدويه الشحاجي ضد سعيد بن العاصي الأموي. وقال الحطيئة: سعيد فلا يغررك قلة لحمه ... تخدّد عنه اللحم فهو صليب وكان شديد السواد نحيفا. ومن شأن المتكلمين أن يشيروا بأيديهم وأعناقهم وحواجبهم. فإذا أشاروا بالعصي فكأنهم قد وصلوا بأيديهم أيديا أخر. ويدل على ذلك قول الأنصاري حيث يقول: وسارت لنا سيارة ذات سؤدد ... بكوم المطايا والخيول الجماهر «2» يؤمون ملك الشام حتى تمكنوا ... ملوكا بأرض الشام فوق المنابر يصيبون فصل القول في كل خطبة ... إذا وصلوا إيمانهم بالمخاصر وقال الكميت بن زيد: ونزور مسلمة المهذّ ... ب بالمؤبدة السوائر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 بالمذهبات المعجبا ... ت لمفحم منا وشاعر أهل التجاوب في المحا ... فل والمقاول بالمخاصر وأيضا إن حمل العصا والمخصرة دليل على التأهب للخطبة، والتهيؤ للإطناب والإطالة، وذلك شيء خاص في خطباء العرب، ومقصور عليهم، ومنسوب إليهم. حتى أنهم ليذهبون في حوائجهم والمخاصر بأيديهم، ألفا لها، وتوقعا لبعض ما يوجب حملها، والإشارة بها. وعلى ذلك المعنى أشار النساء بالمآلي «1» وهن قيام في المناحات، وعلى ذلك المثال ضربن الصدور بالنعال. وإنما يكون العجز والذلة في دخول الخلل والنقص على الجوارح، وأما الزيادة فيها فالصواب فيه. وهل ذلك إلا كتعظيم كور العمامة، وإتخاذ القضاة القلانس العظام في حمّارة القيظ، وإتخاذ الخلفاء العمائم على القلانس فإن كانت القلانس مكشوفة زادوا في طولها وحدة رؤوسها، حتى تكون فوق قلانس جميع الأمة. وكذلك القناع، لأنه أهيب. وعلى ذلك المعنى كان يتقنّع العباس بن محمد وعبد الملك بن صالح، والعباس بن موسى وأشباههم. وسليمان بن أبي جعفر، وعيسى بن جعفر، وإسحاق بن عيسى، ومحمد بن سليمان ثم الفضل بن الربيع، والسندي بن شاهك وأشباههما من الموالى. لأن ذلك أهيب في الصدور، وأجل في العيون. والمقنع أروع من الحاسر، لأنه إذا لم يفارقه الحجاب وإن كان ظاهرا في الطرق كان أشبه بمباينة العوام وسياسة الرعية. وطرح القناع ملابسة وابتذال، ومؤانسة ومقاربة. والدليل على صواب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 هذا العمل من بني هاشم، ومن صنائعهم ورجال دعوتهم، وإنهم قد علموا حاجة الناس إلى أن يهابوهم، وإن ذلك هو صلاح شأنهم- إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان أكثر الناس قناعا. والدليل على أن ذلك قد كان شائعا في الأسلاف المتبوعين أنا نجد رؤوساء جميع أهل الملل، وأرباب النحل، على ذلك. ولذلك اتخذوا في الحروب الرايات والأعلام، وإنما ذلك كله خرق سود وحمر وصفر وبيض. وجعلوا اللواء علامة للعقد والعلم في الحرب مرجعا لصاحب الجولة. وقد علموا أنها وإن كانت خرقا على عصي إن ذلك أهيب في القلوب وأهول في الصدور، وأعظم في العيون. ولذلك أجمعت الأمم رجالها ونساؤها على إطالة الشعور، لأن ذا الجمة أضخم هامة وأطول قامة، وإن الكاسي أفخم من العاري. ولولا أن حلق الرأس طاعة وعبادة، وتواضع وخضوع، وكذلك السعي ورمي الجمار، لما فعلوا ذلك. وفي الحديث أنه لا يفتح عموريّة إلا رجال ثيابهم ثياب الرهبان وشعورهم شعور النساء. وكل ما زادوه في الأبدان، ووصلوه بالجوارح، فهو زيادة في تعظيم تلك الأبدان. والعصي والمخاصر مع الذي عددناه، ومع ذلك الذي ذكرناه ونريد ذكره من خصال منافعها، كله باب واحد. والمغنّي قد يوقّع بالقضيب على أوزان الأغاني، والمتكلم قد يشير برأسه ويده على أقسام كلامه وتقطيعه. ففرقوا ضروب الحركات على ضروب الألفاظ وضروب المعاني. ولو قبضت يده ومنع حركة رأسه، لذهب ثلثا كلامه. وقال عبد الملك بن مروان: لو ألقيت الخيزرانة من يدي لذهب شطر كلامي. وأراد معاوية سحبان وائل على الكلام، وكان قد اقتضبه إقتضابا، فلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 ينطق حتى أتوه بمخصرة، فرطلها «1» بيده فلم تعجبه حتى أتوه بمخصرة من بيته. والمثل المضروب بعصا الأعرج، يقولون: «أقرب من عصا الأعرج» ويضربون المثل بعصا النهدي. قال علقمة بن عبدة في صفة فرس أنثى: سلاءة كعصا النهدي غلّ لها ... منظّم من نوى قرّان معجوم «2» ويضربون المثل برميح أبي سعد. وكان أبو سعد أعرج، وفد في وفد عاد. قال ذو الأصبع العدواني: إن تكن شكّتي رميح أبي سع ... د فقد أحمل السلاح معا وقال عباس بن مرداس: جزى الله خيرا خيرنا لصديقه ... وزوّده زادا كزاد أبي سعد وزوّده صدقا وبرا ونائلا ... وما كان في تلك الوفادة من حمد وقال الآخر: فآب بجدوى زامل وابن زامل ... عدوّك، أو جدوى كليب بن وائل ويقولون: «لو كان في العصا سير» . ويقولون: «ما هو إلا أبنة عصا، وعقدة رشاء» . ويقولون: أخرج عوده كعصا البقّار، وأخرج أيضا عوده كعصا الحادي. وكان أبو العتاهية أهدى إلى أمير المؤمنين المأمون عصا نبع، وعصا شريان، وعصا آبنوس، وعصا أخرى كريمة العيدان، شريفة الأغصان، وأردية قطرية، وركاء يمانية، ونعالا سبتية «3» ، فقبل من ذلك عصا واحدة ورد الباقي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 وبعث إليه مرة أخرى بنعل وكتب إليه في ذلك: نعل بعثت بها لتلبسها ... تسعى بها قدم إلى المجد لو كنت أقدر أن أشركها ... خدي جعلت شراكها خدي فقبلها. الكلبي عن أبي صالح، عن أبن عباس، أن الشجرة التي نودي منها موسى عليه السلام عوسج، وأنه نودي من جوف العوسج، وأن عصاه كانت من آس الجنة، وأنها كانت من العود الذي في وسط الورقة، وكان طولها طول موسى عليه السّلام. وقالوا: من العليق. وقال الآخر: صفراء من نبع كلون الورس ... أبدؤها بالدهن قبل نفسي وأنشد الأصمعي عن بعض الأعراب: ألا قالت الخنساء يوم لقيتها ... كبرت ولم تجزع من الشّيب مجزعا رأت ذا عصا يمشي عليها وشيبة ... تقنّع منها رأسه ما تقنعا فقلت لها لا تهزئي بي فقلما ... يسود الفتى حتى يشيب ويصلعا وللقارح اليعبوب خير علالة ... من الجذع المجرى وأبعد منزعا «1» وقال إسحاق بن سويد: في رداء النبي أقوى دليل ... ثم في القعب والعصا والقضيب وقال أبو الشيص الأعمى في هارون الرشيد: يا بني هاشم أفيقوا فإن ال ... ملك منكم حيث العصا والرداء ما لهارون في قريش كفيّ ... وقريش ليست لهم أكفاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 وقال آخر: على خشبات الملك منه مهابة ... وفي الحرب عبل الساعدين قروع يشقّ الوغى عن رأسه فضل نجدة ... وأبيض من ماء الحديد وقيع ومما يجوز في العصا قول أبي الشيص: أنعي فتىّ مصّ الثرى بعده ... بقيّة الماء من العود أنعي فتى الجود إلى الجود ... ما مثل من أنعي بموجود ومن هذا الباب قول عبد الله بن جدعان: فلم أر مثلهم حيّين أبقى ... على الحدثان إن طرقت طروقا «1» وأضرب عند ضنك الأمر منهم ... وأسلكهم لأحزنه طريقا شريت صلاحهم بتلاد مالي ... فعاد الغصن معتدلا وريقا «2» ويقولون للرجل إذا أثرى وأفاد وكثرت نعمته: «ضع عصاك» ، و «قد وضع عصاه» . وقال أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: ونجرّ الأذيال في نعمة زو ... ل تقولان ضع عصاك لدهر ويقولون للمستوطن في البلد والمستطيب للمكان: «قد ألقى عصاه» . وقال زهير بن أبي سلمى: فلما وردن الماء زرقا جمامه ... وضعن عصي الحاصر المتخيّم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 كتاب الزهد نبدأ على اسم الله وعونه بشيء من كلام النسّاك في الزهد، وبشيء من ذكر أخلاقهم ومواعظهم. عوف «1» ، عن الحسن قال: «لا تزول قدما ابن آدم حتى يسأل عن ثلاث: شبابه فيما ابلاه، وعمره فيما أفناه، وماله من أين كسبه، وفيما أنفقه» . قالوا: وقال يونس بن عبيد: سمعت ثلاث كلمات لم أسمع بأعجب منهن: قول حسان بن أبي سنان: ما شيء أهون من ورع، إذا رابك شيء فدعه. وقول ابن سيرين: ما حسدت أحدا على شيء قط. وقول مورّق العجلي: لقد سألت الله حاجة منذ أربعين سنة، ما قضاها ولا يئست منها. فقيل لمورق: ما هي؟ قال: ترك مالا يعنيني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 وقال أبو حازم الأعرج: إن عوفينا من شر ما أعطينا لم يضرنا ما زوي عنا. وقال أبو عبد الحميد: لم أسمع أعجب من قول عمر: «لو أن الصبر والشكر بعيران ما باليت أيهما أركب» . وقال ابن ضبارة: أنا نظرنا فوجدنا الصبر على طاعة الله أهون من الصبر على عذاب الله. وقال زياد عبد (عبد الله بن) عياش بن أبي ربيعة: أنا من أن أمنع الدعاء أخوف من أن أمنع الإجابة. وقال له عمر بن عبد العزيز: يا زياد، إني أخاف الله مما دخلت فيه. قال: لست أخاف عليك أن تخاف، وإنما أخاف عليك ألا تخاف. وقال بعض النساك: كفى موعظة أنك لا تموت إلا بحياة، ولا تحيا إلا بموت. وهو الذي قال: أصحب من ينسى معروفة عندك. وهو الذي قال: «لا تجعل بينك وبين الله منعما، وعدّ النعم منه عليك مغرما» . ودخل سالم بن عبد الله، مع هشام بن عبد الملك البيت، فقال له هشام: سلني حاجتك. فقال: أكره أن أسأل في بيت الله غير الله. وقيل لرابعة القيسية: لو كلمت رجال عشيرتك فاشتروا لك خادما تكفيك مهنة بيتك؟ قالت: «والله إني لأستحي أن أسأل الدنيا من يملك الدنيا فكيف أسألها من لا يملكها؟!» . وقال بعض النساك: دياركم أمامكم، وحياتكم بعد موتكم. وقال السموأل بن عاديا اليهودي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 ميتا خلقت ولم أكن من قبلها ... شيئا يموت فمتّ حين حييت وقال أبو الدرداء: «كان الناس ورقا لا شوك فيه، وهم اليوم شوك لا ورق فيه» . الحسن بن دينار قال: رأى الحسن رجلا يكيد بنفسه، فقال: «إن آمرأ هذا آخره لجدير أن يزهد في أوله، وإن آمرأ هذا أوله لجدير أن يخاف آخره» . قال أبو حازم: الدنيا غرت أقواما فعملوا فيها بغير الحق، فلما جاءهم الموت خلفوا مالهم لمن لا يحمدهم، وصاروا إلى من لا يعذرهم. وقد خلفنا بعدهم، فينبغي لنا أن ننظر إلى الذي كرهناه منهم فنجتنبه، وإلى الذي غبطناهم به فنستعمله. موسى بن داود، رفع الحديث قال: «النظر إلى خمسة عبادة: النظر إلى الوالدين، والنظر إلى البحر، والنظر إلى المصحف، والنظر إلى الصخرة، والنظر إلى البيت» . عبد الله بن شداد، قال: «أربع من كنّ فيه فقد برىء من الكبر: من اعتقل البعير، وركب الحمار، ولبس الصوف، وأجاب دعوة الرجل الدون» . وذكر عند أنس الصوم فقال: «ثلاث من أطاقهن فقد ضبط أمره: من تسحر، ومن قال «1» ومن أكل قبل أن يشرب» . وقال أبو سعيد، عبد الكريم العقابي: من أخر السحور وقدم الفطور، وأكل قبل أن يشرب، وشرب ثم لم يأكل، فقد ضبط أمره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 وقال الجمّاز «1» : ليس يقوى على الصوم إلا من كبر لقمه، وأطاب أدمه. مجالد بن سعيد، عن الشعبي، قال: حدثني مرّة الهمداني «2» - قال مجالد: وقد رأيته- وحدثنا اسماعيل بن أبي خالد «3» أنه لم ير مثل مرة قط، كان يصلي في اليوم والليلة خمسمائة ركعة. وكان مرّة يقول: لما قتل عثمان رحمه الله: حمدت الله ألا أكون دخلت في شيء من قتله، فصليت مائة ركعة. فلما وقع الجمل وصفين حمدت الله ألا أكون في شيء من تلك الحروب، وزدت مائة ركعة. فلما كانت وقعة النهر وإن حمدت الله إذ لم أشهدها، وزدت مائة ركعة فلما كانت فتنة ابن الزبير حمدت الله إذ لم أشهدها، وزدت مائة ركعة. وأنا أسأل الله أن يغفر لمرة. على أنا لا نعرف لبعض ما قال وجها، لأنك لا تعرف فقيها من أهل الجماعة لا يستحل قتال الخوارج، كما أنا لا نعرف أحدا منهم لا يستحل قتال اللصوص. وهذا أبن عمر، وهو رئيس الحلسية «4» بزعمهم، قد لبس السلاح لقتال نجدة «5» . وقيل لشريح: الحمد لله الذي سلمك من القتال في شيء من هذه الفتن. قال: فكيف أصنع بقلبي وهواي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 قال الحسن: قتل الناقة رجل واحد، ولكن الله عم القوم بالعذاب، لأنهم عموه بالرضا. وسئل عمر بن عبد العزيز عن قتلة عثمان وخاذليه وناصريه فقال: تلك دماء كفّ الله يدي عنها، فأنا لا أحب أن أغمس لساني فيها. ودخل أبو الدرداء على رجل يعوده، فقال له: كيف تجدك؟ فقال: أفرق من الموت. قال: فمن أصبت الخير كله؟ قال: من الله. قال: فلم تفرق ممن لم تصب الخير كله إلا منه؟! ولما قذف ابراهيم عليه السّلام في النار قال له جبريل عليه السّلام: ألك حاجة يا خليل الله؟ قال: أما إليك فلا. قال: ورأى بعض النساك صديقا له من النساك مهموما، فسأله عن حاله ذلك فقال: كان عندي يتيم أحتسب فيه الأجر، فمات. قال: فاطلب يتيما غيره فإن ذلك لا يعدمك إن شاء الله. قال أخاف: أن لا أصيب يتيما في سوء خلقه. فقال: أما أني لو كنت مكانك لم أذكره سوء خلقه. قال: ودخل بعض النساك على صاحب له وهو يكيد بنفسه، فقال له: طب نفسا فإنك تلقى ربا رحيما. قال: أما ذنوبي فإني أرجو أن يغفرها الله لي، وليس اغتمامي إلا لمن أدع من بناتي. قال له صاحبه: الذي ترجوه لمغفرة ذنوبك فارجه لحفظ بناتك. قال: وكان مالك بن دينار يقول: لو كانت الصحف من عندنا لأقللنا الكلام. وقال يونس بن عبيد: لو أمرنا بالجزع لصبرنا. وكان يقول: كسبت في هذه السوق ستين ألف درهم، ما منها درهم إلا وأنا أخاف أن أسأل عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 قال: وسمع عمرو بن عبيد، عبد الرحيم بن صديقة يقول: قال الحطيئة: إنما أنا حسب موضوع: فقال عمرو: كذب ترحه الله، ذلك التقوى. وقال أبو الدرداء: نعم صومعة المؤمن منزل يكفّ فيه نفسه وبصره وفرجه. وإياكم والجلوس في هذه الأسواق، فإنها تلغي وتلهي. وقال الحسن: يا ابن آدم، بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا. يا ابن آدم، إذا رأيت الناس في الخير فنافسهم فيه، وإذا رأيتهم في الشر فلا تغبطهم به. الثواء ها هنا قليل، والبقاء هناك طويل. أمتكم آخر الأمم وأنتم آخر أمتكم، وقد أسرع بخياركم فماذا تنتظرون؟ آلمعاينة؟ فكأن قد. هيهات هيهات، ذهبت الدنيا بحاليها، وبقيت الأعمال قلائد في أعناق بني آدم، فيالها موعظة لو وافقت من القلوب حياة! أما أنه والله لا أمة بعد أمتكم، ولا نبيّ بعد نبيكم، ولا كتاب بعد كتابكم. أنتم تسوقون الناس والساعة تسوقكم، وإنما ينتظر بأولكم أن يلحق آخركم. من رأى محمدا صلّى الله عليه وسلّم فقد رآه غاديا رائحا، لم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة. رفع له علم فشمر إليه. فالوحاء والنجاء النجاء. علام تعرّجون. أتيتم ورب الكعبة. قد أسرع بخياركم وأنتم كل يوم ترذلون، فماذا تنتظرون. إن الله تعالى بعث محمدا عليه السلام على علم منه، إختاره لنفسه، وبعثه برسالته، وأنزل عليه كتابه، وكان صفوته مع خلقه، ورسوله إلى عباده، ثم وضعه من الدنيا موضعا ينظر إليه أهل الأرض، وآتاه منها قوتا وبلغه، ثم قال: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ، فرغب أقوام عن عيشه، وسخطوا ما رضي له ربه، فأبعدهم الله واسحقهم. يا ابن آدم، طأ الأرض بقدمك فإنها عما قليل قبرك، واعلم أنك لم تزل في هدم عمرك مذ سقطت من بطن أمك. فرحم الله رجلا نظر فتفكر، وتفكر فاعتبر، واعتبر فأبصر، وابصر فصبر. قد أبصر أقوام فلم يصبروا فذهب الجزع بقلوبهم ولم يدركوا ما طلبوا، ولم يرجعوا إلى ما فارقوا. يا ابن آدم، أذكر قوله: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً . عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك. خذوا صفاء الدنيا وذروا كدرها، فليس الصفو ما عاد كدرا، ولا الكدر ما عاد صفوا. دعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم. ظهر الجفاء وقلت العلماء، وعفت السنة وشاعت البدعة. لقد صحبت أقواما ما كانت صحبتهم إلا قرّة العين، وجلاء الصدر. ولقد رأيت أقواما كانوا من حسناتهم أشفق من أن ترد عليهم، منكم من سيئاتكم أن تعذبوا عليها، وكانوا فيما أحلّ الله لهم من الدنيا أزهد منكم فيما حرم عليكم منها. ما لي أسمع حسيسا ولا أرى أنيسا. ذهب الناس وبقي النسناس «1» . لو تكاشفتم ما تدافنتم. تهاديتم الأطباق ولم تتهادوا النصائح. قال إبن الخطاب: رحم الله امرأ أهدى إلينا مساوينا. أعدوا الجواب فإنكم مسؤولون. المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه ولكن أخذه من قبل ربه. إن هذا الحق قد جهد أهله وحال بينهم وبين شهواتهم، وما يصبر عليه إلا من عرف فضله، ورجا عاقبته. فمن حمد الدنيا ذم الآخرة، وليس يكره لقاء الله إلا مقيم على سخطه. يا ابن آدم، ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال. وكان إذا قرىء: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ قال: عم ألهاكم؟! ألهاكم عن دار الخلود، وجنة لا تبيد. هذا والله فضح القوم، وهتك الستر وأبدى العوار «2» . تنفق مثل ديتك في شهواتك سرفا، وتمنع في حق الله درهما. ستعلم يا لكع «3» . الناس ثلاثة: مؤمن، وكافر، ومنافق. فأما المؤمن فقد ألجمه الخوف، ووقمه ذكر العرض. وأما الكافر فقد قمعه السيف، وشرده الخوف، فأذعن بالجزية، وأسمح بالضريبة. وأما المنافق ففي الحجرات والطرقات، يسرون غير ما يعلنون، ويضمرون غير ما يظهرون. فاعتبروا إنكارهم ربهم بأعمالهم الخبيثة. ويلك! قتلت وليه ثم تتمنى عليه جنته! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 وكان يقول: رحم الله رجلا خلا بكتاب الله فعرض عليه نفسه، فإن وافقه حمد ربه وسأله الزيادة من فضله، وإن خالفه إعتتب وأناب «1» ، ورجع من قريب. رحم الله رجلا وعظ أخاه وأهله فقال: يا أهلي، صلاتكم صلاتكم، زكاتكم زكاتكم، جيرانكم جيرانكم، إخوانكم إخوانكم، مساكنكم مساكنكم، لعل الله يرحمكم. فإن الله تبارك وتعالى أثنى على عبد من عباده فقال: وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا . يا ابن آدم: كيف تكون مسلما ولم يسلم منك جارك، وكيف تكون مؤمنا ولم يأمنك الناس. وكان يقول: لا يستحق أحد حقيقة الإيمان حتى لا يعيب الناس بعيب هو فيه، ولا يأمر بإصلاح عيوبهم حتى يبدأ بإصلاح ذلك من نفسه، فإنه إذا فعل ذلك لم يصلح عيبا إلا وجد في نفسه عيبا آخر ينبغي له أن يصلحه. فإذا فعل ذلك شغل بخاصة نفسه عن عيب غيره. وإنك ناظر إلى عملك يوزن خيره وشره، فلا تحقرنّ شيئا من الخير وإن صغر، فإنك إذا رأيته سرّك مكانه. ولا تحقرن شيئا من الشر وإن صغر، فإنك إذا رأيته ساءك مكانه. وكان يقول: رحم الله أمرأ كسب طيّبا وأنفق قصدا، وقدّم فضلا. وجهوا هذه الفضول حيث وجهها الله، وضعوها حيث أمر الله، فإن من كان قبلكم كانوا يأخذون من الدنيا بلاغهم ويؤثرون بالفضل. ألا أن هذا الموت قد أضرّ بالدنيا ففضحها، فلا والله ما وجد ذولب فيها فرحا. فإياكم وهذه السبل المتفرقة، التي جماعها الضلالة وميعادها النار. أدركت من صدر هذه الأمة قوما كانوا إذا أجنّهم الليل فقيام على أطرافهم، يفترشون وجوههم، تجري دموعهم على خدودهم، يناجون مولاهم في فكاك رقابهم «2» . إذا عملوا الحسنة سرتهم وسألوا الله أن يتقبلها منهم، وإذا عملوا سيئة ساءتهم وسألوا الله أن يغفرها لهم. يا بن آدم، إن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس ها هنا شيء يغنيك، وإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 كان يغنيك ما يكفيك فالقليل من الدنيا يغنيك. يا بن آدم، لا تعمل شيئا من الحق رياء، ولا تتركه حياء. وكان يقول: إن العلماء كانوا قد استغنوا بعلمهم من أهل الدنيا، كانوا يقضون بعلمهم على أهل الدنيا ما لا يقضي أهل الدنيا بدنياهم فيها، وكان أهل الدنيا يبذلون دنياهم لأهل العلم رغبة في علمهم، فأصبح أهل العلم اليوم يبذلون علمهم لأهل الدنيا رغبة في دنياهم، فرغب أهل الدنيا بدنياهم عنهم، وزهدوا في علمهم لما رأوا من سوء موضعه عندهم. وكان يقول: لا أذهب إلى من يواري عني غناه ويبدي لي فقره ويغلق دوني بابه ويمنعني ما عنده، وادع من يفتح لي بابه ويبدي لي غناه ويدعوني إلى ما عنده. وكان يقول: يا بن آدم، لا غنى بك عن نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أفقر. مؤمن متّهم، وعلج أغتم «1» وأعرابيّ لا فقه له، ومنافق مكذّب، ودنياويّ مترف، نعق بهم ناعق فاتبعوه، فرّاش نار وذبّان طمع. والذي نفس الحسن بيده ما أصبح في هذه القرية مؤمن إلا وقد أصبح مهموما حزينا، وليس لمؤمن راحة دون لقاء الله، والناس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم، فصار المؤمن إلى إيمانه، والمنافق إلى نفاقه. أي قوم، إن نعمة الله عليكم أفضل من أعمالكم، فسارعوا إلى ربكم، فإنه ليس لمؤمن راحة دون الجنة، ولا يزال العبد بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همّه. وقال الحسن في يوم فطر، وقد رأى الناس وهيئاتهم: إن الله تبارك وتعالى جعل رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق أقوام ففازوا وتخلّف آخرون فخابوا. فالعجب من الضاحك والله ان لو كشف الغطاء لشغل محسن بإحسانه، ومسيء بإساءته، عن اللاعب في اليوم الذي يفوز فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 المحسنون، ويخسر فيه المبطلون. أما والله لو كشف الغطاء لشغل محسن بإحسانه ومسيء بإساءته عن ترجيل شعر وتجديد ثوب «1» . وحدّث عن عمر بن الخطاب رحمه الله أنه قال: الناس طالبان: فطالب يطلب الدنيا فارفضوها في نحره، فإنه ربما أدرك الذي طلب منها فهلك بما أصاب منها، وربما فاته الذي طلب منها فهلك بما فاته منها. وطالب الآخرة، فإذا رأيتم طالب الآخرة فنافسوه. وحدث عن عمر بن الخطاب رحمه الله أنه قال: يا أيها الناس، أنه أتى عليّ حين وأنا أحسب أنه من قرأ القرآن أنه إنما يريد به الله وما عنده. ألا وقد خيل إلي أن أقواما يقرأون القرآن يريدون به ما عند الناس. ألا فأريدوا الله بقراءتكم، وأريدوه بأعمالكم، فإنما كنا نعرفكم إذ الوحي ينزل، وإذ النبي صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرنا، فقد رفع الوحي وذهب النبي عليه السلام، فإنما أعرفكم بما أقول لكم. ألا فمن أظهر لنا خيرا ظننا به خيرا وأثنينا عليه، ومن أظهر لنا شرا ظننا به شرا وأبغضناه عليه. إقدعوا «2» هذه النفوس عن شهواتها، فإنها طلعة «3» ، وإنكم ألا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية. إن هذا الحق ثقيل مرىء، وإن الباطل خفيف وبيء، وترك الخطيئة خير من معالجة التوبة. ورب نظرة زرعت شهوة، وشهوة ساعة أورثت حزنا طويلا. وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد فكأنك بالدنيا لم تكن وكأنك بالآخرة لم تزل. وقال أبو حازم الأعرج: وجدت الدنيا شيئين: شيئا هو لي لن أعجله دون أجله ولو طلبته بقوة السموات والأرض، وشيئا هو لغيري لم أنله فيما مضى ولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 أناله فيما بقي. يمنع الذي لي من غيري، كما منع الذي لغيري مني. ففي أي هذين أفني عمري، وأهلك نفسي. ودخل على بعض الملوك من بني مروان فقال: أبا حازم، ما المخرج مما نحن فيه؟ قال: تنظر إلى ما عندك فلا تضعه إلا في حقه، وما ليس عندك فلا تأخذه إلا بحقه. قال: ومن يطيق ذلك يا أبا حازم؟ قال: فمن أجل ذلك ملئت جهنم من الجنة والناس أجمعين. قال: ما مالك؟ قال: مالان. قال: ما هما؟ قال: الثقة بما عند الله، واليأس مما في أيدي الناس. قال: أرفع حوائجك إلينا. قال: هيهات، قد رفعتها إلى من لا تختزل الحوائج دونه، فإن أعطاني منها شيئا قبلت، وإن زوى عنى منها شيئا رضيت. وقال الفضيل بن عياض: يا ابن آدم، إنما يفضلك الغني بيومك. أمس قد خلا، وغد لم يأت، فإن صبرت. يومك أحمدت أمرك، وقويت على غدك. وإن عجزت يومك أذممت أمرك، وضعفت عن غدك. وإن الصبر يورث البرء، وإن الجزع يورث السقم، وبالسقم يكون الموت، وبالبرء تكون الحياة. وقال الحسن: أيا فلان، أترضى هذه الحال التي أنت عليها للموت إذا نزل بك؟ قال: لا. قال: افتحدّث نفسك بالإنتقال عنها إلى حال ترضاها للموت إذا نزل بك؟ قال: حديثا بغير حقيقة. قال: أفبعد الموت دار فيها مستعتب «1» ؟ قال: لا. قال: فهل رأيت عاقلا رضي لنفسه بمثل الذي رضيت به لنفسك؟! قال عيسى بن مريم صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، وإلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها، فأماتوا منها ما خشوا أن يميت قلوبهم، وتركوا منها ما علموا أن سيتركهم» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 ورأوه يخرج من بيت مومسة، فقيل له: يا روح الله ما تصنع عند هذه؟ قال: «إنما يأتي الطبيب المرضى» . وقال حين مر ببعض الخلق فشتموه، ثم مر بآخرين فشتموه فكلما قالوا شرا قال خيرا، فقال له رجل من الحواريين: كلما زادوك شرا زدتهم خيرا حتى كأنك إنما تغريهم بنفسك، وتحثهم على شتمك! قال: «كل إنسان يعطي مما عنده» . وقال: «ويلكم يا عبيد الدنيا، كيف تخالف فروعكم أصولكم، وعقولكم أهواءكم. قولكم شفاء يبرىء الداء، وعملكم داء لا يقبل الدواء. لستم كالكرمة التي حسن ورقها، وطاب ثمرها، وسهل مرتقاها، بل أنتم كالسّمرة التي قل ورقها وكثر شوكها، وصعب مرتقاها. ويلكم يا عبيد الدنيا، جعلتم العمل تحت أقدامكم، من شاء أخذه، وجعلتم الدنيا فوق رؤوسكم لا يستطاع تناولها، لا عبيد أتقياء، ولا أحرار كرام، ويلكم أجراء السوء، الأجر تأخذون، والعمل تفسدون. سوف تلقون ما تحذرون يوشك رب العمل أن ينظر في عمله الذي أفسدتم، وفي أجره الذي أخذتم. ويلكم غرماء السوء تبدأون بالهدية قبل قضاء الدين، بالنوافل تطوعون، وما أمرتم به لا تؤدون. إن رب الدين لا يقبل الهدية حتى يقضي دينه» . وكان أبو الدرداء يقول: «أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب، واحذر أن تظلم من لا ناصر له إلا الله» . وقال وزر العبد: لعمر أبي المملوك ما عاش أنه ... وإن أعجبته نفسه لذليل يرى الناس أنصارا عليه وما له ... من الناس إلا ناصرون قليل شيخ من أهل البادية قال: المعرض بالناس أتقى صاحبه ولم يتق ربه. وكان بكر بن عبد الله يقول: «أطفئوا نار الغضب بذكر نار جهنم» . وقال: «من كان له من نفسه واعظ عارضه ساعة الغفلة، وحين الحمية» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 وقال علي للأشتر: «أنظر في وجهي» ، حين جرى بينه وبين الأشعث ابن قيس ما جرى. وكانت العجم تقول: «إذا غضب الرجل فليستلق، وإذا أعيا فليرفع رجليه» . وقال أبو الحسن: كان لرجل من النساك شاة، وكان معجبا بها، فجاء يوما فوجدها على ثلاث قوائم فقال: من صنع هذا بالشاة؟ قال غلامه: أنا. قال: ولم؟ قال: أردت أن أغمك. قال: لا جرم لأغمن الذي أمرك بغمي، إذهب فأنت حر. سعيد بن عامر «1» ، عن محمد بن علقمة، قال سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب الناس وهو يقول: ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعاضه من ذلك الصبر إلا كان ما عاضه الله أفضل مما انتزع منه. ثم قرأ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ. أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد «2» عن أصحابه قالوا: حضرت عمرو بن عبيد الوفاة فقال لعديله: نزل بي الموت ولم أتأهب له. اللهم إنك تعلم أنه لم يسنح لي أمران لك في أحدهما رضا لي في الآخر هوى إلا اخترت رضاك على هواي، فاغفر لي. ولما خبر أبو حازم سليمان بن عبد الملك بو عبد الله للمذنبين، قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال أبو حازم: قريب من المحسنين. قال: وخرج عثمان بن عفان رحمه الله من داره فرأى في دهليزه أعرابيا في بت، أشغى «3» ، غائر العينين، مشرف الحاجبين، فقال يا أعرابي: أين ربك؟ قال: بالمرصاد. وكان الأعرابي عامر بن عبد قيس، وكان ابن عامر سيره إليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 قال: وغدا أعرابي من طيىء مع امرأة له، فاحتلبا لبنا ثم قعدا يتمجعان «1» ، فقالت امرأته: أنحن أنعم عيشا أم بنو مروان؟ قال: هم أطيب طعاما منا، ونحن أردأ كسوة منهم، وهم أنعم منا نهارا، ونحن أظهر منهم ليلا. قال: وعظ عمر بن الخطاب رجلا فقال: لا يلهك الناس عن نفسك، فإن الأمر يصير إليك دونهم! ولا تقطع النهار سادرا «2» فإنه محفوظ عليك ما عملت. وإذا أسأت فأحسن، فإني لم أر شيئا أشد طلبا ولا أسرع دركا من حسنة حديثة لذنب قديم. قال: كان هلال بن مسعود يقول: زاهدكم راغب، ومجتهدكم مقصر، وعالمكم جاهل، وجاهلكم مغترّ. مسلمة بن محارب قال: قال عامر بن عبد قيس: الدنيا والدة للموت، ناقضة للمبرم، مرتجعة للعطية، وكل من فيها يجري إلى ما لا يدري، وكل مستقر فيها غير راض بها، وذلك شهيد على أنها ليست بدار قرار. قال الحسن: من أيقن بالخلف جاد بالعطية. وقال أسماء بن خارجة: إذا قدمت المودة سمج الثناء. وقال عمر بن عبد العزيز لمحمد بن كعب القرظيّ: عظني. قال: لا أرضى نفسي لك، إني لأصلي بين الفقير والغني فأميل على الفقير واوسع للغني. قال: وقال الحسن: ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل. قال: كان أبو بكر رحمه الله إذا قيل له: مات فلان، قال: «لا إله إلا الله» . وكان عثمان يقول: «فلا إله إلا الله» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 وركب سليمان بن عبد الملك يوما في زي عجيب، فنظرت إليه جارية له فقالت: إنك لمعني ببيتي الشاعر. قال: وما هما؟ فأنشدته: أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان ليس فيما بدا لنا منك عيب ... كان في الناس غير أنك فان قال: ويلك نعيت إليّ نفسي. قال: صام رجل سبعين سنة، ثم دعا الله بحاجة فلم يستجب له، فرجع لنفسه فقال: «منك أتيت» . فكان إعترافه أفضل من صومه. وقال: من تذكر قدرة الله لم يستعمل قدرته في ظلم عباد الله. وقال الحسن: إذا سرّك أن تنظر إلى الدنيا بعدك فانظر إليها بعد غيرك. وكان الحسن يقول: ليس الإيمان بالتحلي ولا التمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال. قال: مات ذر بن أبي ذر الهمداني، من بني مرهبة، وهو ذر بن عمر بن ذر فوقف على قبره فقال: يا ذر، والله ما بنا إليك من فاقة، وما بنا إلى أحد سوى الله من حاجة. يا ذر، شغلني الحزن لك عن الحزن عليك. ثم قال: اللهم إنك وعدتني بالصبر على ذر صلواتك ورحمتك. اللهم وقد وهبت ما جعلت لي من أجر على ذر لذر فلا تعرفه قبيحا من عمله، اللهم وقد وهبت له إساءته إلي فهب لي إساءته إلى نفسه، فإنك أجود وأكرم. فلما أنصرف عنه التفت إلى قبره وقال: يا ذر، قد أنصرفنا وتركناك ولو أقمنا ما نفعناك! سحيم بن حفص قال: قال هانيء بن قبيصة، لحرقة بنت النعمان، ورآها تبكي: ما لك تبكين؟ قالت: رأيت لأهلك غضارة، ولم تمتليء دار قط فرحا إلا امتلأت حزنا. قال: ونظرت امرأة أعرابية إلى امرأة حولها عشرة من بنيها كأنهم الصقور، فقالت: لقد ولدت أمكم حزنا طويلا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأزواجه: «أسرعكن بي لحاقا أطولكن يدا» . فكانت عائشة تقول: أنا تلك، أنا أطولكن يدا. فكانت زينب بنت جحش، وذلك أنها كانت امرأة كثيرة الصدقة، وكانت صناعا تصنع بيديها وتبيعه وتتصدق به. قال الشاعر: وما إن كان أكثرهم سواما ... ولكن كان أطولهم ذراعا قال: كان الحسن يقول: ما أنعم الله على عبد نعمة إلا وعليه فيها تبعة، إلا ما كان من نعمته على سليمان صلّى الله عليه وسلّم، فإن الله عز وجل قال عند ذكره: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ. قال: باع عبد الله بن عتبة بن مسعود أرضا بثمانين ألفا، فقيل له: لو اتخذت لولدك من هذا المال ذخرا. قال: «إنما أجعل هذا المال ذخرا لي عند الله، واجعل الله ذخرا لولدي» . وقسم المال. وقال رجل: صحبت الربيع بن خثيم سنتين فما كلمني إلا كلمتين، قال لي مرة: أمك حية؟ وقال لي مرة أخرى: كم في بني تميم من مسجد؟ وقال أبو فروة: كان طارق صاحب شرط خالد بن عبد الله القسري مر بابن شبرمة، وطارق في موكبه، فقال ابن شبرمة: فإن كانت الدنيا تحبّ فإنها ... سحابة صيف عن قليل تقشّع اللهم لي ديني ولهم دنياهم. فاستعمل ابن شبرمة بعد ذلك على القضاء فقال ابنه: أتذكر قولك يوم مر طارق في موكبه؟ فقال: يا بني، إنهم يجدون مثل أبيك، ولا يجد أبوك مثلهم. يا بني، إن أباك أكل من حلوائهم وحط في أهوائهم. قال الحسن: من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن خاف الناس أخافه الله من كل شيء. وقال الحسن ما أعطى رجل من الدنيا شيئا إلا قيل له خذه ومثله من الحرص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 قال: مر مروان بن الحكم في العام الذي بويع بزرارة بن جزيء الكلابي، وهم على ماء لهم، فقال: كيف أنتم آل جزي؟ قالوا: بخير زرعنا الله فأحسن زرعنا، وحصدنا فأحسن حصادنا. قال الحسن: يا ابن آدم، إنما أنت عدد فإذا مضى يوم فقد مضى بعضك. وقال الحسن: يا بن آدم، إن كان يغنيك من الدنيا ما يكفيك فأدنى ما فيها يغنيك. وإن كان لا يغنيك منها ما يكفيك فليس فيها شيء يغنيك. قال: نزل الموت بفتى وكان فيه رمق، فرفع رأسه فإذا أبواه يبكيان عند رأسه، فقال: مالكما تبكيان؟ قالا: تخوفا عليك من الذي كان من إسرافك على نفسك. فقال: لا تبكيا، فو الله ما يسرني أن الذي بيد الله بأيديكما. أبو الحسن، عن علي بن عبد الله القرشي قال: قال قتادة: يعطى الله العبد على نية الآخرة ما شاء من الدنيا والآخرة، ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا. عوانة قال: قال الحسن: قدم علينا بشر بن مروان أخو الخليفة وأمير المصرين، وأشبّ الناس، فأقام عندنا أربعين يوما ثم طعن في قدميه فمات، فأخرجناه إلى قبره، فلما صرنا إلى الجبّان «1» إذا نحن بأربعة سودان يحملون صاحبا لهم إلى قبره، فوضعنا السرير فصلينا عليه، ووضعوا صاحبهم فصلوا عليه، ثم حملنا بشرا إلى قبره وحملوا صاحبهم إلى قبره، ودفنا بشرا ودفنوا صاحبهم، ثم انصرفوا وانصرفنا، ثم التفت التفاتة فلم أعرف قبر بشر من قبر الحبشي. فلم أر شيئا قط كان أعجب منه. وقال عبد الله بن الزبعري: والعطيات خساس بيننا ... وسواء قبر مثر ومقل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 وتقول الحكماء: ثلاثة أشياء يستوي فيها الملوك والسوقة، والعلية والسّفلة: الموت، والطّلق، والنّزع. وقال الهيثم بن عدي، عن رجاله، بينا حذيفة بن اليمان وسلمان الفارسي يتذاكران أعاجيب الزمان، وتغير الأيام، وهما في عرصة أيوان كسرى، وكان أعرابي من غامد يرعى شويهات له نهارا، فإذا كان الليل صيرهن إلى داخل العرصة، وفي العرصة سرير رخام كان كسرى ربما جلس عليه، فصعدت غنيمات الغامدي على سرير كسرى، فقال سلمان: ومن أعجب ما تذاكرنا صعود غنيمات الغامدي على سرير كسرى. قال: لما انصرف علي بن أبي طالب رضي الله عنه من صفين مرّ بمقابر فقال: السلام عليكم أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات. أنتم لنا سلف فارط، ونحن لكم تبع، وبكم عما قليل لاحقون. اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم. الحمد لله الذي جعل الأرض كفاتا، أحياء وأمواتا. والحمد لله الذي خلقكم وعليها يحشركم، ومنها يبعثكم، وطوبى لمن ذكر المعاد، وأعد للحساب، وقنع بالكفاف. وقال عمر رحمه الله «استغفروا الدموع بالتذكّر» . وقال الشاعر: سمعن بهيجا أوجفت فذكرنه ... ولا يبعث الأحزان مثل التذكّر وقال أعرابي: لا تشرفنّ يفاعا إنه طرب ... ولا تغنّ إذا ما كنت مشتاقا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 قال ابن الأعرابي: سمعت شيخا أعرابيا يقول: إني لأسر بالموت، لا دين ولا بنات. علي بن الحسن قال: قال صالح المري: دخلت دار الموريانيّ فاستفتحت ثلاث آيات من كتاب الله، استخرجتها حين ذكرت الحال، فيها قوله عز وجل: فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ، وقوله: وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ، وقوله: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا. قال: فخرج اليّ أسود من ناحية الدار فقال: يا أبا بشر، هذه سخطة المخلوق، فكيف سخطة الخالق! قال: وأصاب ناسا مطر شديد وظلمة وريح، ورعد وبرق، فقال رجل من النساك: اللهم إنك قد أريتنا فدرتك فأرنا رحمتك. عوانة قال: قال عبد الله بن عمر: فاز عمر بن أبي ربيعة بالدنيا والآخرة: غزا في البحر فأحرقوا سفينته فاحترق. قال: وطلق أبو الخندق امرأته أم الخندق، فقالت: أتطلقني بعد طول الصحبة؟ فقال: ما دهاك عندي غيره. وكان أبو اسحاق يقول: ما ألأمها من كلمة. قال: مرّ عمر بن الخطاب رحمه الله بقوم يتمنون، فلما رأوه سكتوا، قال: فيم كنتم؟ قالوا: كنا نتمنى. قال: فتمنوا وأنا أتمنى معكم قالوا: فتمنّ. قال: أتمنى رجالا ملء هذا البيت مثل أبي عبيدة بن الجراح، وسالم مولى أبي حذيفة. إن سالما كان شديد الحب لله، لو لم يخف الله ما عصاه. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» . شعبة، عن عمرو بن مرّة قال: قدم وفد من أهل اليمن على أبي بكر رحمه الله، فقرأ عليهم القرآن فبكوا، فقال ابو بكر: هكذا كنا، حتى قست القلوب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 وقال أبو بكر: «طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام «1» » . قال سعد بن مالك، أو معاذ «2» : «ما دخلت في صلاة فعرفت من عن يميني ولا من عن شمالي، وما شيّعت جنازة قط إلا حدثت نفسي بما يقال له وما يقول، وما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال شيئا قط إلا علمت أنه كما قال. قال أبو الدرداء: أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث: أضحكني مؤمّل الدنيا والموت يطلبه، وغافل ولا يغفل عنه، وضاحك ملء فيه ولا يدري أساخط ربه أم راض. وأبكاني هول المطلع، وإنقطاع العمل، وموقفي بين يدي الله لا يدري أيأمر بي إلى الجنة أم إلى النار. سحيم بن حفص، قال: رأى أياس بن قتادة العبشمي شيبة في لحيته، فقال: «أرى الموت يطلبني، وأراني لا أفوته. أعوذ بك من فجاءات الأمور، وبغتات الحوادث. يا بني سعد، إني قد وهبت لكم شبابي فهبوا لي شيبتي» . ولزم بيته، فقال له أهله: تموت هزلا! قال: «لأن أموت مؤمنا مهزولا أحب إلي من أن أموت منافقا سمينا» . وذكر قوم ابليس فلعنوه وتغيظوا عليه، فقال أبو حازم الأعرج: وما ابليس؟! لقد عصي فما ضرّ، وأطيع فما نفع. قال: وقال بكر بن عبد الله المزني: الدنيا ما مضى منها فحلم، وما بقي منها فأماني. قال: ودخل أبو حازم مسجد دمشق، فوسوس إليه الشيطان، إنك قد أحدثت بعد وضوئك. قال: أوقد بلغ هذا من نصيحتك! وقال بعض الطيّاب: عجبت من ابليس في كبره ... وخبث ما أبداه من نيته تاه على آدم في سجدة ... وصار قوّادا لذريته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 قال: فأنشدتها مسمع ابن عاصم فقال: وأبيك لقد ذهب مذهبا. الفضل بن مسلم قال: قال مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير: لا تنظروا إلى خفض عيشهم، ولين ملابسهم، ولكن أنظروا إلى سرعة ظعنهم وسوء منقلبهم. قال أبو ذرّ: لقد أصبحت وإن الفقر أحبّ إلي من الغنى، والسقم أحبّ إلي من الصحة، والموت أحب إلي من الحياة. قال دهثم: «لكني لا أقول ذلك. قال: قال داود صلّى الله عليه وسلّم: اللهم لا صحة تطغيني، ولا مرضا يضنيني ولكن بين ذينك «1» » . قال الحسن: إن قوما جعلوا تواضعهم في ثيابهم، وكبرهم في صدورهم، حتى لصاحب المدرعة بمدرعته «2» ، أشدّ فرحا من صاحب المطرف بمطرفه «3» . قال: وقال داود النبي عليه السلام: «إن لله سطوات ونقمات» . فإذا رأيتموها فداووا قروحكم بالدعاء، فإن الله تبارك وتعالى يقول: (لولا رجال خشع، وصبيان رضع، وبهائم رتع، لصببت العذاب صبا) . قال: اشترى صفوان بن محرز بدنة بتسعة دنانير، فقيل له. أتشتري بدنة بتسعة دنانير وليس عندك غيرها؟ قال: سمعت الله تبارك وتعالى يقول: لَكُمْ فِيها خَيْرٌ. وقيل لمحمد بن سوقة «4» : تحج وعليك دين؟ قال: هو أقضى للدين. قال: ولقي ناسك ناسكا ومعه خف فقال: ما تصنع بهذا؟ قال عدة للشتاء. قال: كانوا يستحيون من هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 قال أبوذر: تخضمون ونقضم «1» ، والموعد لله. قال الزبير: يكفينا من خضمكم القضم ومن نصّكم العنق «2» . وقال أيمن بن خريم «3» : رجوا بالشقاق الأكل خضما فقد رضوا ... أخيرا من أكل الخضم أن يأكلوا قضما وقال عمرو لمعاوية: من أصبر الناس؟ قال: من كان رأيه رادا لهواه. وتواصفوا حال الزاهد بحضرة الزهري، فقال الزهري: «الزاهد من لم يغلب الحرام صبره، ولا الحلال شكره» . قال: وذكر عند أعرابي رجل بشدة الإجتهاد، وكثرة الصوم، وطول الصلاة، فقال: هذا رجل سوء، أو ما يظن هذا أن الله يرحمه حتى يعذب نفسه هذا التعذيب. قال أبو بكر: ما ظنك بخالق الكرامة لمن يريد كرامته وهو عليه قادر؟ وما ظنك بخالق الهوان لمن يريد هوانه وهو عليه قادر؟ وزعم أبو عمرو الزعفراني، قال: كان عمرو بن عبيد عند حفص بن سالم، فلم يسأله أحد من أهله وحشمه حاجة إلا قال: لا. فقال عمرو: أقلّ من قول لا، فإنه ليس في الجنة لا. قال: وقل عمرو: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سئل ما يجد أعطى، وإذا سئل ما لا يجد قال: يصنع الله. قال: وقال عمرو بن الخطاب رحمه الله: «أكثروا لهن من قول لا، فإن نعم يضريهن على المسألة» . قال: وإنما يخص بذلك عمر النساء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 قال الحسن: أدركت أقواما كانوا من حسناتهم أشفق من أن ترد عليهم، منكم من سيئاتكم أن تعذبوا عليها. قال أبو الدرداء: من يشتري مني عادا وأموالها بدرهم. ودخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه المقابر فقال: «أما المنازل فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، وأما الأزواج فقد نكحت. هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟ ثم قال: «والذي نفسي بيده لو أذن لهم في الكلام لأخبروا أن خير الزاد التقوى» . قال أبو سعيد الزاهد: عيرت اليهود عيسى بن مريم صلّى الله عليه وسلّم بالفقر فقال: «من الغنى أتيتم» . وقال آخر: لو لم يعرف من شرف الفقر إلا أنك لا ترى أحدا يعصي الله ليفتقر. وهذا الكلام بعينه مدخول. قال: سأل الحجاج أعرابيا عن أخيه محمد بن يوسف، كيف تركته؟ فقال: تركته بضا عظيما سمينا. قال: لست عن هذا أسألك. قال تركته ظلوما غشوما. قال: أو ما علمت أنه أخي؟ قال: أتراه بك أعز مني بالله! وقال بعضهم: نجد في زبور داود: «من بلغ السبعين اشتكى من غير علة» . جعفر بن سليمان قال: قال محمد بن حسان النبطي: لا تسأل نفسك العام ما أعطتك في العام الماضي. أبو إسحاق بن المبارك قال: قيل لخالد بن يزيد بن معاوية: ما أقرب شيء؟ قال: الأجل. قيل: فما أبعد شيء؟ قال: الأمل. قيل: فما أوحش شيء؟ قال: الميت. قيل: فما آنس شيء؟ قال: الصاحب المواتي: وقال آخر: نسي عامر بن عبد الله بن الزبير عطاءه في المسجد، فقيل له: قد أخذ. فقال: سبحان الله، وهل يأخذ أحد ما ليس له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 جرير بن عبد الحميد، عن عطاء بن السائب، عن عبدة الثقفي قال: لا يشهد علي الليل بنوم أبدا، ولا يشهد علي النهار بأكل أبدا. فبلغ ذلك عمر ابن الخطاب فعزم عليه، فكان يفطر في العيدين وأيام التشريق. وقال الحسن بن أبي الحسن: يكون الرجل عالما ولا يكون عابدا، ويكون عابدا ولا يكون عاقلا. وكان مسلم بن يسار عالما عابدا عاقلا. وقال عبادة بن الصامت: من الناس من أوتي علما ولم يؤت حلما وشداد بن أوس أوتي علما وحلما. قال إبراهيم: كان عمرو بن عبيد عالما عاقلا عابدا، وكان ذا بيان، وصاحب قرآن. إبراهيم بن سعد، عن أبي عبد الله القيسي قال: أبو الدرداء: لا يحرز المؤمن من شرار الناس إلا قبره. وقال عيسى بن مريم صلوات الله عليه: «الدنيا لابليس مزرعة، وأهلها له حراثون» . عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال: «ما الدنيا في الآخرة إلا كنفجة أرنب» . قال عمر رحمه الله: «لولا أن أسير في سبيل الله، وأضع جبهتي لله، وأجالس أقواما ينتقون أحسن الحديث كما ينتقى أطايب التمر، لم أبال أن أكون قد مت» . قال عامر بن عبد قيس: ما آسي من العراق إلا على ثلاث: ظمأ الهواجر، وتجاوب المؤذنين، وأخوان لي منهم الأسود بن كلثوم. قال مورّق العجلي: ضاحك معترف بذنبه خير من باك مدلّ على ربه. وقال: خير من العجب بالطاعة، أن لا تأتي بطاعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 قالوا: كان الربيع بن خثيم يقول: لا تطعم إلا صحيحا ولا تكس إلا جديدا، ولا تعتق إلا سويا. قال بعض الملوك لبعض العلماء: ذم لي الدنيا. فقال: أيها الملك، الآخذة لما تعطى، الموّرثة بعد ذلك الندم، السالبة ما تكسو، المعقبة بعد ذلك الفضوح، تسد بالأراذل مكان الأفاضل، وبالعجزة مكان الحزمة. تجد في كل من كل خلفا، وترضى من كل بكل بدلا. تسكن دار كل قرن قرنا، وتطعم سؤر كل قوم قوما. وكان سعيد بن أبي عروبة يطعم المساكين السكر، ويتأول قوله عز وجل: «ويطعمون الطعام على حبه» . قال: وكان محمد بن علي إذا رأى مبتلى أخفى الإستعاذة. وكان لا يسمع من داره: يا سائل بورك فيك، ولا يا سائل خذ هذا. وكان يقول: سموهم بأحسن أسمائهم. قال: وتمنى قوم عند يزيد الرقاشي، فقال يزيد: سأتمنى كما تمنيتم. قالوا: تمن قال: ليتنا لم نخلق، وليتنا إذ خلقنا لم نمت، وليتنا إذ متنا لم نبعث، وليتنا إذ بعثنا لم نحاسب، وليتنا إذ حوسبنا لم نعذب، وليتنا إذ عذبنا لم نخلد. قال: وقال رجل لأم الدرداء: إني أجد في قلبي داء لا أجد له دواء، وأجد قسوة شديدة، وأملا بعيدا. قالت: أطلع القبور، واشهد الموتى. ابن عون قال: قلت للشعبي: أين كان علقمة «1» من الأسود «2» ؟ قال: كان الأسود صوّاما قواما، وكان علقمة مع البطيء وهو يسبق السريع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 قال: وقيل لغالب بن عبد الله الجهضمي: أنا نخاف على عينيك العمى من طول البكاء. قال: هو لهما شهادة. محمد بن طلحة بن مصرّف، عن محمد بن جحادة، قال: لما قتل الحسين رضي الله عنه أتى قوم الربيع بن خثيم فقالوا: لنستخرجن اليوم منه كلاما. فقالوا: قتل الحسين. قال: الله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. وأتته بنية له فقالت: يا أبه، أذهب ألعب؟ قال: إذهبي فقولي خيرا وافعلي خيرا. وقال أبو عبيدة: استقبل عامر بن عبد قيس رجل في يوم حلبة، فقال: من سبق يا شيخ؟ قال: المقربون. عليّ بن سليم، قال: قيل للربيع بن خثيم: لو أرحت نفسك؟ قال: راحتها أريد، إن عمر كان كيّسا. وقال أبو حازم: ليتق الله أحدكم على دينه، كما يتقي على نعله. جعفر بن سليمان الضّبعي، قال: أتى مطّرف بن عبد الله بن الشّخّير، فجلس مجلس مالك بن دينار وقد قام، فقال أصحابه: لو تكلمت؟ قال هذا ظاهر حسن، فإن تكونوا صالحين فإنه كان للأوّابين غفورا. وقال رجل لآخر وباع ضيعة له: أما والله لقد أخذتها ثقيلة المؤونة قليلة المعونة. فقال الآخر: وأنت والله لقد أخذتها بطيئة الإجتماع، سريعة التفرق. واشترى رجل من رجل دارا فقال لصاحبه: لو صبرت لاشتريت منك الذراع بعشرة دنانير. قال: وأنت لو صبرت لبعتك الذراع بدرهم. ورأى ناسك ناسكا في المنام فقال له: كيف وجدت الأمر يا أخي؟ قال: وجدنا ما قدمنا، وربحنا ما أنفقنا وخسرنا ما خلفنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 وقال بكر بن عبد الله المزني: اجتهدوا في العمل، فإن قصر بكم ضعف فكفوا عن المعاصي. قال: وقال أعرابي: أنه ليقتل الحبارى جوعا ظلم الناس بعضهم لبعض. قال: قيل لمحمد بن علي «1» : من أشد الناس زهدا؟ قال: من لا يبالي الدنيا في يد من كانت. وقيل له: من أخسر الناس صفقة؟ قال: من باع الباقي بالفاني. وقيل له: من أعظم الناس قدرا؟ قال: من لا يرى الدنيا لنفسه قدرا. الأصمعي، عن شيخ من بكر بن وائل، أن ها؟؟؟ نيء بن قبيصة، أتى حرقة بنت النعمان وهي باكية، فقال لها: لعل أحدا آذاك؟ قالت: لا، ولكني رأيت غضارة في أهلكم، وقلما امتلأت دار سرورا إلا امتلأت حزنا. وقالوا: يهرم ابن آدم وتشبّ له خصلتان: الحرص والأمل. الأصمعي، قال: قال محمد بن واسع: ما آسى من الدنيا إلا على ثلاث بلغة من عيش ليس لأحد فيها علي منة ولا لله فيها علي تبعة وصلاة في جمع أكفي سهوها ويدخر لي أجرها، وأخ في لله إذا ما اعوججت قوّمني. وقال آخر: ما آسى من العراق إلا على ثلاث: ليل الحزيز ورطب السكر، وحديث ابن أبي بكرة. وقال آخر: إذا سمعت حديث أبي نضرة، وكلام ابن أبي بكرة، فكأنك مع ابن لسان الحمّرة «2» . وقال أبو يعقوب الخريمي الأعور: تلقاني مع طلوع الشمس سعيد بن وهب، فقلت: أين تريد؟ قال: أدور على المجالس فلعلي أسمع حديثا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 حسنا. ثم لم أجاوز بعيدا حتى تلقاني أنس بن أبي شيخ، فقلت له: أين تريد؟ قال: عندي حديث حسن فأنا أطلب له إنسانا حسن الفهم، حسن الإستماع. قال: قلت: حدثني فأنا كذاك. قال: أنت حسن الفهم رديء الإستماع، وما أرى لهذا الحديث إلا اسماعيل بن غزوان «1» . هشام، قال: أخبرني رجل من أهل البصرة قال: ولد للحسن بن أبي الحسن غلام، فقال له بعض جلسائه: بارك الله لك في هبته، وزادك في أحسن نعمته. فقال الحسن: الحمد لله على كل حسنة، وأسأل الله الزيادة في كل نعمة، ولا مرحبا بمن إن كنت عائلا «2» أنصبني، وإن كنت غنيا أذهلني، لا أرضى بسعيي له سعيا، ولا بكدي له في الحياة كدا، حتى أشفق عليه من الفاقة بعد وفاتي، وأنا في حال لا يصل إلي من همه حزن، ولا من فرحه سرور. قال الحسن للمغيرة بن مخارش التميمي: إن من خوّفك حتى تلقى الأمن، خير لك ممن أمنك حتى تلقى الخوف. وقال عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: ما أحسن الحسنة في أثر الحسنة، وأقبح السيئة في أثر السيئة. الحسن قال: ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من أمر نحن فيه. قال: وكان الحسن إذا ذكر الحجاج قال: يتلو كتاب الله على لخم وجذام، ويعظ عظة الأزارقة، ويبطش بطش الجبارين. وكان يقول: اتقوا الله، فإن عند الله حجاجين كثيرا. وقال سنان بن سلمة بن قيس: اتقوا الله، فإن عند الله أياما مثل شوّال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 وقال خالد بن صفوان: بت ليلتي كلها أتمنى، فكبست البحر الأخضر بالذهب الأحمر، فإذا الذي يكفيني من ذلك رغيفان، وكوزان، وطمران. وكان الحسن يقول: إنكم لا تنالون ما تحبون، إلا بترك ما تشتهون، ولا تدركون ما تؤملون إلا بالصبر على ما تكرهون. ودخل قوم على عوف بن أبي جميلة في مرضه، فأقبلوا يثنون عليه، فقال: دعونا من الثناء، وأمدونا بالدعاء. وقال أبو حازم: نحن لا نريد أن نموت حتى نتوب، ونحن لا نتوب حتى نموت. وكان الحسن يقول: يا ابن آدم، نهارك ضيفك فأحسن إليه، فإنك إن أحسنت إليه إرتحل بحمدك، وإن أنت أسأت إليه إرتحل بذمك. وكذلك ليلك. وقيل لبعض العلماء: من أسوأ الناس حالا؟ قال: عبد الله بن عبد الأعلى الشيباني، القائل عند موته: دخلتها جاهلا، وأقمت فيها حائرا، وأخرجت منها كارها- يعني الدنيا. وقيل لآخر: من أسوأ الناس حالا؟ قال: من قويت شهوته وبعدت همته، واتسعت معرفته وضاقت مقدرته. وقيل لآخر: من شرّ الناس؟ قال: من لا يبالي أن يراه الناس مسيئا وقيل لآخر: من شر الناس؟ قال: القاسي. فقيل: أيما شر، الوقاح «1» أم الجاهل، أم القاسي؟؟ قال: القاسي. وذكر أبو صفوان، عن البطّال أبي العلاء، من بني عمرو بن تميم قال: قيل له قبل موته: كيف تجدك يا أبا العلاء؟ قال: أجدني مغفورا لي. قالوا: قل إن شاء الله. قال: قد شاء الله. ثم قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 أوصيكم بالجلّة التلاد «1» ... فإنما حولكم الأعادي قال ابن الأعرابي: كان العباس بن زفر لا يكلم أحدا حتى تنبسط الشمس، فإذا إنفتل عن مصلاه ضرب الأعناق، وقطع الأيدي والأرجل. وكان جرير بن الخطفي لا يتكلم حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قذف المحصنات. قال: ومرت به جنازة فبكى وقال: أحرقتني هذه الجنائز! قيل: فلم تقذف المحصنات؟ قال: يبدو لي ولا أصبر. وكان يقول: أنا لا أبتدي ولكن أعتدي. الحسن بن الربيع الكندي بإسناد له، قال: قال رجل للنبي صلّى الله عليه وسلّم: دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس. قال: «إزهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس» . قال: وبلغني عن القاسم بن مخيمرة الهمداني، أنه قال: إني لأغلق بابي فما يجاوزه همي. وقال أبو الحسن: وجد في حجر مكتوب: يا بن آدم، لو إنك رأيت يسير ما بقي من أجلك لزهدت في طول ما ترجو من أملك، ولرغبت في الزيادة في عملك، ولقصرت في حرصك وحيلك. وإنما يلقاك غدا ندمك لو قد زلت بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، وتبرأ منك القريب، وانصرف عنك الحبيب، فلا أنت إلى أهلك بعائد، ولا في عملك بزائد. وقال عيسى بن مريم صلوات الله عليه: «تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها بغير العمل، ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل» . قال: أوحى الله تبارك وتعالى إلى الدنيا: من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 وقال: من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها. قال: مر عيسى بن مريم عليه السلام بقوم يبكون، فقال: ما بالهم يبكون، فقالوا: على ذنوبهم. قال: «أتركوها يغفر لكم» . قال: وقال زياد بن أبي زياد، مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة: دخلت على عمر بن عبد العزيز، فلما رآني تزحل عن مجلسه «1» وقال: إذا دخل عليك رجل لا ترى لك عليه فضلا فلا تأخذ عليه شرف المجلس. وقال الحسن: «إن أهل الدنيا وإن دقدقت بهم الهماليج «2» ، ووطىء الناس أعقابهم، فإن ذل المعصية في قلوبهم» . قالوا: وكان الحجاج يقول إذا خطب: «إنا والله ما خلقنا للفناء، وإنما خلقنا للبقاء، وإنما ننقل من دار إلى دار» . وهذا من كلام الحسن. ولما ضرب عبد الله بن علي تلك الأعناق قال له قائل: هذا والله جهد البلاء؟ فقال عبد الله: ما هذا وشرطة الحجام إلا سواء. وإنما جهد البلاء فقر مدقع بعد غنى موسع. وقال آخر: أشدّ من الخوف الشيء الذي من أجله يشتد الخوف. وقال آخر: أشد من الموت ما يتمنى له الموت، وخير من الحياة ما إذا فقدته أبغضت له الحياة. وقال أهل النار: (يا مالك ليقض علينا ربك) ، فلما لم يجابوا إلى الموت قالوا: (أفيضوا علينا من الماء) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 وقالوا: ليس في النار عذاب أشد على أهله من علمهم بأنه ليس لكرمهم تنفيس، ولا لضيقهم ترفيه، ولا لعذابهم غاية. ولا في الجنة نعيم أبلغ من علمهم أن ذلك الملك لا يزول. قالوا: قارف الزّهريّ ذنبا، فاستوحش من الناس وهام على وجهه، فقال له زيد بن علي: يا زهري، لقنوطك من رحمة الله التي وسعت كل شيء أشد عليك من ذنبك! فقال الزهري: (الله أعلم حيث يجعل رسالاته)) فرجع إلى ماله وأهله وأصحابه. قال ابن المبارك: أفضل الزهد أخفاه. الأوزاعي، عن مكحول قال: إن كان في الجماعة الفضيلة فإن في العزلة السلامة. اسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن دينار، قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله كره لكم العبث في الصلاة، والرفث في الصيام، والضحك في المقابر» . وقال أردشير خرّه: احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع. قال واصل بن عطاء: المؤمن إذا جاع صبر، وإذا شبع شكر. وقيل لعامر بن عبد قيس: ما تقول في الإنسان؟ قال: ما عسى أن أقول فيمن إذا جاع ضرع، وإذا شبع طغى. قال: ونظر أعرابي في سفره إلى شيخ قد صحبه، فرآه يصلي فسكن إليه، فلما قال: أنا صائم، إرتاب به، وأنشأ يقول: صلى فأعجبني وصام فرابني ... نحّ القلوص «1» عن المصلّي الصائم وهو الذي يقول: لم يخلق الله مسجونا تسائله ... ما بال سجنك إلا قال: مظلوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت «1» ، عن يحيى بن جعدة «2» ، قال: كان يقال: اعمل وأنت مشفق، ودع العمل وأنت تحبه. قال: وقيل لرابعة القيسية: هل عملت عملا قط ترين أنه يقبل منك؟ قالت: إن كان شيء فخوفي من أن يردّ عليّ. وقال محمد بن كعب القرظيّ، لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين لا تنظرن إلى سلعة قد بارت على من كان قبلك تريد أن تجوز عنك. الحسن قال: كان من كان قبلكم أرقّ منكم قلوبا وأصفق ثيابا، وأنتم أرقّ منهم ثيابا وأصفق منهم قلوبا. عبد الله بن المبارك قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الجراح بن عبد الله الحكمي: «إن استطعت أن تدع مما أحل الله لك ما يكون حاجزا بينك وبين ما حرم الله عليك فافعل، فإنه من استوعب الحلال كله تاقت نفسه إلى الحرام» . وقال أبو بكر الصديق رحمه الله لخالد بن الوليد حين وجهه: «أحرص على الموت توهب لك الحياة» . وقال رجل: أنا أحب الشهادة. فقال رجل من النساك: أحببها إن وقعت عليك، ولا تحبها حب من يريد أن يقع عليها. وقال رجل لداود بن نصير الطائي العابد: أوصني. قال: إجعل الدنيا كيوم صمته، واجعل فطرك الموت، فكأن قد، والسلام. قال: زدني. قال: لا يرك الله عندما نهاك عنه، ولا يفقدك عندما أمرك به. قال: زدني. قال: أرض باليسير مع سلامة دينك، كما رضي قوم بالكثير مع هلاك دينهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 قال رجل ليونس بن عبيد: أتعلم أحدا يعمل بعمل الحسن؟ قال: والله ما أعرف أحدا يقول بقوله، فكيف يعمل بمثل عمله؟! قال: صفه لنا. قال: كان إذا أقبل فكأنه أقبل في دفن حميمه، وكان إذا جلس فكأنه أسير قد أمر بضرب عنقه، وكان إذا ذكرت النار عنده فكأنها لم تخلق إلا له. وهيب بن الورد «1» قال: بينا أنا أدور في السوق إذ أخذ آخذ بقفاي فقال لي: يا وهيب، اتق الله في قدرته عليك، واستحي الله في قربه منك. وقال عبد الواحد بن زيد لأصحابه: ألا تستحيون من طول ما لا تستحيون! الهيثم قال: كان شيخ من أعراب طي كثير الدعاء بالمغفرة، فقيل له في ذلك، فقال: والله إن دعائي بالمغفرة مع قبح إصراري للؤم، وإن تركي الدعاء مع قوة طمعي لعجز. قال أبو بشر صالح المري: إن تكن مصيبتك في أخيك أحدثت لك خشية فنعم المصيبة مصيبتك، وإن تكن مصيبتك بأخيك أحدثت لك جزعا فبئس المصيبة مصيبتك. وقال عمر بن عبيد لرجل يعزيه: كان أبوك أصلك، وإبنك فرعك، فما بقاء شيء ذهب أصله ولم يبق فرعه. وقال الحسن: إن امرأ ليس بينه وبين آدم إلا أب ميت لمعرق في الموت. وقالوا: أعظم من الذنب اليأس من الرحمة، وأشد من الذنب المماطلة بالتوبة. ابن لهيعة، عن سيار بن عبد الرحمن، قال: قال لي بكير بن الأشج: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 ما فعل خالك؟ قلت لزم بيته. فقال: أما لئن فعل لقد لزم قوم من اهل بدر بيوتهم بعد مقتل عثمان رحمه الله، فما خرجوا منها إلا إلى قبورهم. وقال الحسن: إن لله ترائك في خلقه، لولا ذلك لم ينتفع النبيون وأهل الإنقطاع إلى الله بشيء من أمر الدنيا: وهي الأمل، والآجل، والنسيان. وقال مطرّف بن عبد الله لأبنه: يا بني لا يلهينّك الناس عن نفسك، فإن الأمر خالص إليك دونهم. إنك لم تر شيئا هو أشد طلبا ولا أسرع دركا من توبة حديثة لذنب قديم. وفي الحديث أن أبا هريرة مر بمروان وهو يبني داره، فقال يا أبا عبد القدوس، ابن شديدا وأمل بعيدا، وعش قليلا وكل خضما، والموعد الله. قال: كان عمرو بن خولة، أبو سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص- وأمه خولة من المسامعة- وكان ناسكا يجتمع إليه القراء والعلماء يوم الخميس. وقال الشاعر فيه: وأصبح زورك زور الخميس ... إليك كمرعية وارده وقال الآخر في ابن سيرين: فأنت بالليل ذئب لا حريم له ... وبالنهار على سمت ابن سيرين وقال ابن الأعرابي: قال بعض الحكماء: لا يغلبن جهل غيرك بك علمك بنفسك. قال: وصلى محمد بن المنكدر «1» ، على عمران بقرة، فقيل له في ذلك، فقال: إني لأستحي من الله أن أرى أن رحمته تعجز عن عمران بقرة. وقال محمد بن يسير: كأنه قد قيل في مجلس ... قد كنت آتيه وأغشاه محمد صار إلى ربه ... يرحمنا الله وإياه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 وقال الآخر: لقلّ عارا إذا ضيف تضيّفني ... ما كان عندي إذا أعطيت مجهودي فضل المقل إذا أعطاه مصطبرا ... ومكثر في الغنى سيان في الجود لا يعدم السائلون الخير أفعله ... إما توالي وإما حسن مردودي وكان الربيع بن خثيم، إذا قيل له: كيف أصبحت يا أبا يزيد؟ قال: أصبحنا ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا. وقال ابن المقفع: الجود بالمجهود منتهى الجود. قال مطرف بن عبد الله: كان يقال: لم يلتق مؤمنان إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه وكنت أرى أني أشد حبا لمذعور بن طفيل منه لي، فلما سير لقيني ليلا فحدثني فقلت: ذهب الليل! قال: ساعة. ثم قلت: ذهب الليل! فقال: ساعة. فعلمت أنه أشد حبا لي مني. فلما أصبح سيره ابن عامر مع عامر. قال: وقالوا لعيسى بن مريم: من نجالس؟ قال: من يذكّركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويرغبكم في الآخرة عمله. اسحاق بن ابراهيم قال: دخلنا على كهمس العابد «1» ، فجاءنا بإحدى عشرة بسرة حمراء. فقال: هذا الجهد من أخيكم، والله المستعان. الأصمعي، عن السكن الحرشيّ قال: اشتريت من أبي المنهال سيار بن سلامة، شاة بستين درهما، فقلت: تكون عندك حتى آتيك بالثمن. قال: ألست مسلما؟ قلت: بلى. قال: فخذها. فأخذتها ثم انطلقت بها ثم أتيته بالستين، فأخرج منها خمسة دراهم وقال لي: اعلفها بهذه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 وقال مساور الورّاق لأبنه: شمّر قميصك واستعدّ لقائل ... واحكك جبينك للقضاء بثوم واجعل صحابك كلّ حبر ناسك ... حسن التعهّد للصلاة صؤوم من ضرب حمّاد هناك ومسعر ... وسماك العبسي، وابن حكيم وعليك بالعنوي فاجلس عنده ... حتى تصيب وديعة ليتيم وقال: بينا سليمان بن عبد الملك يتوضأ، ليس عنده غير خاله والغلام يصب عليه الماء، إذ خر الغلام ميتا، فقال سليمان: قرب وضوءك يا حصين فإنما ... هذي الحياة تعلّة ومتاع ونظر سليمان في مرآة فقال: أنا الملك الشاب! فقالت جارية له: أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان قال: قيل لسعيد بن المسيب: إن محمد بن ابراهيم بن محمد بن طلحة، سقط عليه حائط فقتله. فقال: إن كان لوصولا لرحمه، فكيف يموت ميتة سوء! وقال أسماء بن خارجة: عيّرتني خلقا أبليت جدّته ... وهل رأيت جديدا لم يعد خلقا قال: وتمثل عبد الملك بن مروان: وكلّ جديد يا أميم إلى بلى ... وكل امرىء يوما يصير إلى كان وقال آخر: فاعمل على مهل فإنك ميّت ... واكدح لنفسك أيها الإنسان فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى ... وكأن ما هو كائن قد كان قال: وكان عثمان بن عفان رحمه الله يقول: «إني لأكره أن يأتي علي يوم لا أنظر فيه إلى عهد الله» ، يعني المصحف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 قال: وكان عثمان حافظا، وكان حجره لا يكاد يفارق المصحف، فقيل له في ذلك فقال: «إنه مبارك جاء به مبارك!» ولما مات الحجاج خرجت عجوز من داره وهي تقول: اليوم يرحمنا من كان يغبطنا ... واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا حدثني بكر بن المعتمر «1» ، عن بعض أصحابه قال أبو عثمان النهدي «2» : أتت علي ثلاثون ومائة سنة، ما مني شيء إلا وقد أنكرته، إلا أملي فإنه يزيد. قال مسور بن محرمة لجلسائه: لقد وارت الأرض أقواما لو رأوني معكم لاستحييت منهم. وأنشدني أعرابي: ما منع الناس شيئا جئت أطلبه ... ألا أرى الله يكفي فقد ما منعوا قال: جزع بكر بن عبد الله على امرأته، فوعظه الحسن، فجعل يصف فضلها، فقال الحسن: عند الله خير منها، فتزوج أختها! فلقيه بعد ذلك فقال: هي يا أبا سعيد خير منها! وأنشد: يؤمّل أن يعمّر عمر نوح ... وأمر الله يحدث كلّ ليله عوف، عن الحسن قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «للمسلم على أخيه ست خصال: يسلم عليه إذا لقيه، وينصح له إذا غاب، ويعوده إذا مرض، ويشيع جنازته إذا مات، ويحييه إذا دعاه، ويشمّته إذا عطس» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 وقال أعرابي: تبصّرني بالعيش عرسي كأنما ... تبصرني الأمر الذي أنا جاهله يعيش الفتى بالفقر يوما وبالغنى ... وكلا كأن لم يلق حين يزايله وأنشد أبو صالح: ومشيد دارا ليسكن داره ... سكن القبور، وداره لم يسكن وكان صالح المرّيّ أبو بشر ينشد في قصصه: وبات يروّي أصول الفسيل ... فعاش الفسيل «1» ومات الرجل وقال الآخر: إذا أبقت الدنيا على المرء دينه ... فما فاته منها فليس بضائر فلن تعدل الدنيا جناح بعوضة ... ولا وزن زفّ من جناح لطائر «2» فما رضى الدنيا ثوابا لمؤمن ... ولا رضى الدنيا عقابا لكافر وقال الآخر: أبعد بشر أسيرا في بيوتهم ... يرجو الخفارة «3» مني آل ظلام فلن أصالحهم ما دمت ذا فرس ... واشتدّ قبضا على السيلان إبهامي «4» فإنما الناس، يا لله أمهم، ... أكائل الطير أو حشو لآرام «5» هم يهلكون ويبقى بعد ما صنعوا ... كأن آثارهم خطّت بأقلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 وأنشد لمحمد بن يسير: عجبا لي ومن رضاي بحال ... أنا منها على شفا تغرير عالما لا أشكّ إني إلى عد ... ن إذا متّ أو عذاب السعير كلما مر بي على أهل ناد ... كنت حينا بهم كثير المرور قيل من ذا على سرير المنايا ... قيل هذا محمد بن يسير وأنشد: لكل أناس مقبر بفنائهم ... فهم ينقصون والقبور تزيد هم جيرة الأحياء أما محلهم ... فدان ولكن اللقاء بعيد وقال أبو العتاهية: سبحان ذي الملكوت ايّة ليلة ... مخضت بوجه صباح يوم الموقف لو أن عينا وهّمتها نفسها ... ما في الفراق مصورا لم تطرف وقال أبو العتاهية أيضا: يا خاطب الدنيا إلى نفسها ... تنحّ عن خطبتها تسلم إن التي تخطب غرارة ... قريبة العرس من المأتم وقال الآخر: ناداهما بفراق بين ... هما الزمان فأسرعا وكذاك لم يزل الزما ... ن مفرّقا ما جمّعا وقال آخر: يا ويح هذي الأرض ما تصنع ... أكلّ حيّ فوقها تصرع تزرعهم حتى إذا ما استووا ... عادت لهم تحصد ما تزرع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 وقال الآخر: ذكرت أبا أروى فبت كأنني ... برد أمور الماضيات وكيل لكل اجتماع من خليلين فرقة ... وكلّ الذي قبل الفراق قليل وإن افتقادي واحدا بعد واحد ... دليل على أن لا يدوم خليل وقال محمد بن المنتشر: «إذا أيسر الرجل ابتلى به أربعة: مولاه القديم ينتفي منه، وامرأته يتسرى عليها، وداره يهدمها ويبني غيرها، ودابته يستبدل بها» . وقال الآخر: يجدد أحزانا لنا كل هالك ... ونسرع نسيانا ولم يأتنا أمن فإنا، ولا كفران لله ربنا ... لكالبدن ما تدري متى يومها البدن الأوزاعي «1» ، عن مكحول قال: «إن كان في الجماعة فضل فإن في العزلة سلامة» . أبو جناب الكلبي، عن أبي المحجل، عن ابن مسعود قال: «ثلاث من كن فيه دخل الجنة: من إذا عرف حق الله عليه لم يؤخره، وكان عمله الصالح في العلانية على قوام من السريرة، وكان في جمع ما قد عمل صلاح ما يؤمل» . وقال: «كفى موعظة إنك لا تحيا إلا بموت، ولا تموت إلا بحياة» . وقال أبو نواس: شاع فيّ الفناء سفلا وعلوا ... وأراني أموت عضوا فعضوا ذهبت جدّتي بطاعة نفسي ... وتذكرت طاعة الله نضوا «2» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 وقال الآخر: وكم من أكلة منعت أخاها ... بلذة ساعة أكلات دهر وكم من طالب يسعى لشيء ... وفيه هلاكه لو كان يدري وقال الآخر: كلّ امرىء مصبّح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله وقال الآخر: استيقني في ظلم البيوت ... إنك إن لم تقتلي تموتي وقال عنترة بن شداد: بكرت تخوفني الحتوف كأنني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل فأجبتها إن المنية منهل ... لا بدّ أن أسقى بكأس المنهل فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتل إن المنية لو تصوّر صوّرت ... مثلي، إذا نزلوا بضنك المنزل وقال أبو العتاهية: اذن حيّ تسمعي ... واسمعي ثم عي وعي عشت تسعين حجة ... ثم وافيت مضجعي أنا رهن بمصرعي ... فاحذري مثل مصرعي ليس زاد سوى التقى ... فخذي منه أو دعي وقال الخليل بن أحمد. عش ما بدا لك قصرك الموت ... لا مهرب منه ولا فوت بينا غنى بيت وبهجته ... زال الغنى وتقوّض البيت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 وقال أبو العتاهية: اسمع فقد اسمعك الصوت ... إن لم تبادر فهو الفوت نل كلّ ما شيت وعش ناعما ... آخر هذا كله الموت وقال الوزيري: واعلم أنني سأصير ميتا ... إذا سار النواجع لا أسير وقال السائلون من المسجّى ... فقال المخبرون لهم وزير وقال أبو العتاهية: الحق أوسع من معا ... لجة الهوى ومضيقه لا تعرضنّ لكل أمر ... أنت غير مطيقه والعيش يصلح إن مزج ... ت غليظه برقيقه لا يخدعنّك زخرف الد ... نيا بحسن بريقه وإذا رأيت الرأي مضطرب ... افخذ بوثيقه ولربما غصّ البخي ... ل إذا استنيل بريقه وقال أيضا: من أجاب الهوى إلى كلّ ما يد ... عوه مما يضلّ ضلّ وتاها من رأى عبرة ففكّر فيها ... آذنته بالبين حين يراها ربما استغلقت أمور على من ... كان يأتي الأمور من مأتاها وسيأوي إلى يد كلّ ما تأ ... تي وتأوي إلى يد حسناها قد تكون النجاة تكرهها الن ... نفس وتأتي ما كان فيه أذاها وقال أيضا: لو أن عبدا له خزائن ما ... في الأرض ما عاش خوف أملاق يا عجبا كلنا يحيد عن الحي ... ن وكلّ لحينه لاقي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 كأن حيا قد قام نادبه ... والتفت الساق منه بالساق واستلّ منه حياته ملك المو ... ت خفيا وقيل: من راق وقال السموأل بن عادياء اليهودي: تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها إن الكرام قليل وما قلّ من كانت بقاياه مثلنا ... شباب تسامى للعلى وكهول وما ضرّنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل فنحن كماء المزن ما في نصابنا ... كهام ولا فينا يعدّ بخيل وأسيافنا في كل شرق ومغرب ... بها من قراع الدارعين فلول معوذة ألا تسلّ نصالها ... فتغمد حتى يستباح قتيل سلي، إن جهلت، الناس عنا وعنهم ... وليس سواء عالم وجهول وقال الربيع بن أبي الحقيق: ومن يك غافلا لم يلق بؤسا ... ينخ يوما بساحته القضاء تعاوره بنات الدهر حتى ... تثلمه كما ثلم الإناء وكلّ شديدة نزلت بحي ... سيأتي بعد شدتها رخاء وبعض خلائق الأقوام داء ... كداء الشيخ ليس له شفاء وأنشد: قد حال من دون ليلي معشر قزم ... وهم على ذاك من دوني مواليها والله يعلم أني إن نأت حججا ... أوحيل من دونها أن لست ناسيها وأنشد: وليل يقول الناس من ظلماته ... سواء بصيرات العيون وعورها كأن لنا منه بيوتا حصينة ... مسوح أعاليها وساج كسورها وقالوا: أتى سعيد بن عبد الرحمن بن حسان، أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو عامل سليمان بن عبد الملك، فسأله أن يكلم سليمان في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 حاجة له فوعده أن يقضيها ولم يفعل، وأتى عمر بن عبد العزيز فكلمه لقضى حاجته، فقال سعيد: ذممت ولم تحمد وأدركت حاجتي ... تولى سواكم شكرها واصطناعها أبى لك فعل الخير رأي مقصر ... ونفس أضاق الله بالخير باعها إذا هي حثته على الخير مرة ... عصاها وإن همت بشر أطاعها ستكفيك ما ضيعت منه، وإنما ... يضيع الأمور سادرا من أضاعها ولاية من ولاك سوء بلائها ... وولى سواك أجرها واصطناعها وأنشد: إذا ما أطعت النفس مال بها الهوى ... إلى كل ما فيه عليك مقال وأنشد: حسب الفتى من عيشه ... زاد يبلغه المحلا خبز وماء بارد ... والظلّ حين يريد ظلا وأنشد: وما العيش إلا شبعة وتشرق ... وتمر كأخفاف الرباع وماء قالوا: استبطأ عبد الملك بن مروان، ابنه مسلمة في مسيره إلى الروم، وكتب إليه. لمن الظعائن سيرهن تزحّف ... سير السفين إذا تقاعس يجذف فلما قرأ الكتاب مسلمة كتب إليه: ومستعجب مما يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترمرم ومسلمة هو القائل عندما دلى بعضهم في قبره، فتمثل بعض من حضر فقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدّما فقال مسلمة: لقد تكلمت بكلمة شيطان، هلا قلت: إذا مقرم منا ذرا حدّ نابه ... تخّمط فيه ناب آخر مقرم وكان مسلمة شجاعا خطيبا، وبارع اللسان جوادا، ولم يكن في ولد عبد الملك مثله ومثل هشام بعده. وقال بعض الأعراب يهجو قوما: تصبر للبلاء الحتم صبرا ... إذا جاورت حيّ بني أبان أقاموا الديدبان على يفاع ... وقالوا يا احترس للديدبان فإن أبصرت شخصا من بعيد ... فصفّق بالبنان على البنان تراهم خشية الأضياف خرسا ... يقيمون الصلاة بلا أذان وقال بعض الأعراب يمدح قوما: وسار تعنّاه المبيت فلم يدع ... له حابس الظلماء والليل مذهبا رأى نار زيد من بعيد فخالها ... وقد كذبته النفس والظنّ كوكبا رفعت له بالكف نارا تشبّها ... شآمية نكباء أو عارض صبا وقلت ارفعوها بالصعيد كفى بها ... مشيرا لساري ليلة إن تأوبا فلما أتانا والسماء تبلّه ... نقول له أهلا وسهلا ومرحبا وقمت إلى البرك الهواجد فاتقت ... بكوماء لم يترك لها النيّ مهربا فرحبت أعلى الجنب منها بطعنة ... دعت مستكنّ الجوف حتى تصبّبا وقال الآخر: واستيقني في ظلم البيوت ... إنك إن لم تقتلي تموتي وقال أبو سعيد الزاهد: «من عمل بالعافية فيمن دونه رزق العافية ممن فوقه» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 قال: وقال عيسى بن مريم عليه السلام: «في المال ثلاث خصال أو بعضها» . قالوا: وما هي يا روح الله؟ قال: «يكسبه من غير حله» . قالوا: فإن كسبه من حله؟ قال: «يمنعه من حقه» . قالوا: فإن وضعه في حقه؟ قال: «يشغله اصلاحه عن عبادة ربه» . قال: قيل لرجل مريض: كيف تجدك؟ قال: أجدني لم أرض حياتي لموتي. سعيد بن بشير، عن أبيه، إن عبد الملك قال حين ثقل ورأى غسالا يلوي ثوبا بيده: «وددت إن كنت غسالا لا أعيش إلا مما أكتسب يوما بيوم» . فذكر ذلك لأبي حازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم عند الموت يتمنون ما نحن فيه، ولا نتمنى عند الموت ما هم فيه. الهيثم قال: أخبرني موسى بن عبيدة الربذي عن عبد الله بن خداش الغفاري قال: قال أبوذر: فارقت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقوتي من الجمعة إلى الجمعة مدّ، ولا والله لا أزداد عليه حتى ألقاه» . قال: وكان يقول: إنما مالك لك، أو للجائحة، أو للوارث. فاغن ولا تكن أعجز الثلاثة. فضيل بن عياض، عن المطرّح بن يزيد، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد عن القاسم مولى يزيد بن معاوية، عن أبي أسامة الباهلي قال: قال عمر رحمه الله: «أدّبوا الخيل وتسوكوا، واقعدوا في الشمس، ولا تجاورنكم الخنازير، ولا يرفعن فيكم صليب، ولا تأكلوا على مائدة يشرب عليها خمر، وإياكم وأخلاق العجم، ولا يحل لمؤمن أن يدخل الحمام إلا بمئزر، ولا لأمرأة إلا من سقم، فإن عائشة حدثتني قالت: حدثني خليلي على مفرشي هذا: إذا وضعت المرأة خمارها في غير بيت زوجها هتكت ما بينها وبين الله فلم يتناه دون العرش» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 ومن نساك البصرة وزهادهم عامر بن عبد قيس، وبحالة بن عبدة العنبريان، وعثمان بن الأدهم، والأسود بن كلثوم، وصلة بن أشيم، ومذعور ابن الطفيل. ومن بني منقر: جعفر وحرب أبنا جرفاس. وكان الحسن يقول: إني لا أرى كالجعفرين جعفرا. يعني جعفر بن جرفاس، وجعفر بن زيد العبدي. ومن النساء: معاذة العدوية، إمرأة صلة بن أشيم، ورابعة القيسية. ومن زهاد الكوفة عمرو بن عتبة، وهمّام بن الحارث، والربيع بن خثيم، وأويس القرنيّ. قال الراجز: من عاش دهرا فسيأتيه الأجل ... والمرء تواق إلى ما لم ينل الموت يتلوه ويلهيه الأمل وقال الآخر: كلنا يأمل مدا في الأجل ... والمنايا هي آفات الأمل وقال الآخر: لا يغرّنك مساء ساكن ... قد يوافي بالمنيات السحر وقال الآخر: أنت وهبت الفتية السلاهب «1» ... وهجمة يحار فيها الحالب «2» وغنما مثل الجراد السارب «3» ... متاع أيام وكلّ ذاهب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 وقال المسعودي: إن الكرام مناهبو ... ك المجد كلهم فناهب أخلف وأتلف كلّ شي ... ء زعزعته الريح ذاهب وقال التيمي: إذا دانت السبعون سنك لم يكن ... لدائك إلا أن تموت طبيب وإن امرأ قد سار سبعين حجة ... إلى منهل من ورده لقريب إذا ما مضى القرن الذي كنت فيهم ... وخلّفت في قرن فأنت غريب إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل عليّ رقيب وقال غسان خال الغدار: ابيضّ مني الرأس بعد سواد ... ودعا المشيب حليلتي لبعاد واستحصد القرن الذي أنا منهم ... وكفى بذاك علامة لحصادي قال: كان علي بن عيسى بن ماهان «1» ، كثيرا ما يقول: (ربنا افرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين) . وكان كثيرا ما يقول: ويل للظالمين من الله! وقال محمد بن واسع: الإبقاء على العمل أشد من العمل. وكان أبو وائل النهشلي يقول في أول كلامه: إن الدهر لا يذوق طعم ألم الفراق ولا يذيقه أهله، وإنما يغتمسون في ليل، ويطفون في نهار، فيوشك شاهد الدنيا أن يغيب، وغائب الآخرة أن يشهد. قال: وسأل رجل رجلا، فقال المسؤول: إذهب بسلام! فقال السائل: قد أنصفنا من ردنا إلى الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 الحزاميّ، عن سفيان بن حمزة عن كثير بن الصلت ان حكيم بن حزام باع داره من معاوية بستين ألف درهم، فقيل له: غبنك والله معاوية! فقال: والله ما أخذتها في الجاهلية إلا بزق من خمر، اشهدكم أنها في سبيل الله، فانظروا أينا المغبون؟! قال سفيان الثوري: ليس من ضلالة إلا عليها زينة، فلا تعرضنّ دينك لمن يبغضه إليك. وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل. وأتى مسلما نصرانيّ يعزيه، فقال له: مثلي لا يعزي مثلك، ولكن انظر إلى ما زهد فيه الجاهل فارغب فيه. وكان الحسن بن زيد بن علي بن الحسين بن علي يلقب ذا الدمعة، فإذا عوتب في كثرة البكاء قال: وهل تركت النار والسهمان لي مضحكا! يريد قتل زيد بن علي، ويحيى بن زيد. وقيل لشيخ من الأعراب: قمت مقاما خفنا عليك منه! قال: آلموت أخاف، شيخ كبير وربّ غفور، ولا دين ولا بنات. وقال أبو العتاهية: وكما تبلى وجوه في الثرى ... فكذا يبلى عليهن الحزن وقال بشار: كيف يبكي لمحبس في طلول ... من سيفضي لحبس يوم طويل إن في البعث والحساب لشغلا ... عن وقوف برسم دار محيل وقال محمود الوراق: أليس عجيبا بأن الفتى ... يصاب ببعض الذي في يديه فمن بين باك له موجع ... وبين معزّ مغذّ إليه «1» ويسلبه الشيب شرخ الشباب ... فليس يعزيه خلق عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 وقال أيضا: بكيت لقرب الأجل ... وبعد فوات الأمل ووافد شيب طرا ... بعقب شباب رحل شباب كأن لم يكن ... وشيب كأن لم يزل طواك بشير البقاء ... وحلّ بشير الأجل طوى صاحب صاحبا ... كذاك اختلاف الدول وقال: رأيت صلاح المرء يصلح أهله ... ويعديهم داء الفساد إذا فسد يعظم في الدنيا بفضل صلاحه ... ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد وقال الحسن بن هانىء: أيّة نار قدح القادح ... وأيّ جدّ بلغ المازح لله در الشيب من واعظ ... وناصح لو حظي الناصح بأبى الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح فاسم بعينيك إلى نسوة ... مهورهن العمل الصالح لا يجتلي الحسناء من خدرها ... إلا أمرء ميزانه راجح من اتقى الله فذاك الذي ... سبق إليه المتجر الرابح وقال أيضا: خلّ جنبيك لرام ... وامض عنه بسلام مت بداء الصمت خير ... لك من داء الكلام إنما السالم من ... ألجم فاه بلجام ربما استفتحت بالقو ... ل مغاليق الحمام ربّ لفظ ساق آجا ... ل فئام وفئام «1» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 فالبس الناس على الصح ... ة منهم والسقام والمنايا آكلات ... شاربات للأيام شبت يا هذا وما تت ... رك أخلاق الغلام وقال أيضا: كن من الله يكن لك ... واتق الله لعلك لا تكن إلا معدا ... للمنايا فكأنك إنّ للموت لسهما ... واقعا دونك أو بك نحن نجري في أفا ... نين سكون وتحرك فعلى الله توكل ... وبتقواه تمسك وله أيضا: يا نواسيّ تفكّر ... وتعزّ وتصبر ساءك الدهر بشيء ... ولما سرّك أكثر يا كبير الذنب عفو الله ... من ذنبك أكبر أكبر الأشياء في أص ... غر عفو الله يصغر وقال سعد بن ربيعة بن مالك بن سعد بن زيد مناة بن تميم: ألا إنما هذا الملال الذي ترى ... وإدبار جسمي من ردى العثرات وكم من خليل قد تجلدت بعده ... تقطّع نفسي دونه حسرات وهذا من قديم الشعر. وقال الطرمّاح بن حكيم، في هذا المعنى: وشيبني أن لا أزال مناهضا ... بغير قوى أنزو بها وأبوع «1» وإن رجال المال أضحوا ومالهم ... لهم عند أبواب الملوك شفيع أمخترمي ريب المنون ولم أنل ... من المال ما أعصي به وأطيع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 ومن قديم الشعر قول الحارث بن يزيد، وهو جد الاحيمر اللص السعدي: لا لا أعق ولا أحو ... ب ولا أغير على مضر لكنما غزوي إذا ... ضج المطي من الدبر وقال آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: وإن قالت رجال قد تولى ... زمانكم وذا زمن جديد فما ذهب الزمان لنا بمجد ... ولا حسب إذا ذكر الجدود وما كنا لنخلد إذ ملكنا ... وأي الناس دام له الخلود وقيل لأخيه بعد أن رأوه حمالا: لقد حطك الزمان، وعضك الحدثان! فقال: ما فقدنا من عيشنا إلا الفضول! وقال عروة بن أذينة الكناني: نراع إذا الجنائز قابلتنا ... ويحزننا بكاء الباكيات كروعة ثلة لمغار ذئب ... فلما غاب عادت راتعات وقالت خنساء بنت عمرو: ترتع ما غفلت حتى إذا أدكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار وقال أبو النجم: فلو ترى التيوس مضجعات ... عرفت أن لسن بسالمات أقول إذ جئن مذبّحات ... ألم تكن من قبل راتعات ما أقرب الموت من الحياة وقال سليمان بن الوليد: ربّ مغروس يعاش به ... عدمته كفّ مغترسه وكذاك الدهر مأتمه ... أقرب الأشياء من عرسه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 وقال آخر: يا راقد الليل مسرورا بأوله ... إن الحوادث قد يطرقن اسحارا وقالت امرأة في بعض الملوك: أبكيك لا للنعيم والأنس ... بل للمعالي والرمح والفرس أبكي على فارس فجعت به ... أرملني قبل ليلة العرس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 [باب] أخلاط من شعر ونوادر وأحاديث قال هبيرة بن أبي وهب المخزومي: وإن مقال المرء في غير كنهه ... لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها وقال الراجز: والقول لا تملكه إذا نما ... كالسهم لا يرجعه رام رمى وإلى هذا ذهب عامر الشعبي حيث يقول: «وإنك على إيقاع ما لم توقع أقدر منك على رد ما قد أوقعت» . وأنشد: فداويته بالحلم والمرء قادر ... على سهمه ما دام في كفه السهم وقال الأنصاري: وبعض القول ليس له حصاة ... كمخض الماء ليس له إتاء «1» وبعض خلائق الأقوام داء ... كداء الشيخ ليس له دواء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 وقال الآخر: ومولى كداء البطن أما لقاؤه ... فحلم وأما غيبه فظنون وقال الآخر: تقسم أولاد الملمّة مغنمي ... جهارا، ولم يغلبك مثل مغلّب وقال الثلب اليماني: وهن شر غالب لمن غلب وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كتب أحدكم فليترّب كتابه، فإن التراب مبارك، وهو أنجح للحاجة» . وذكر الله آدم الذي هو أصل البشر فقال: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ . ولذلك كنّى النبيّ عليه السلام عليا أبا تراب. قالوا: وكانت أحب الكنى إليه. وقال الآخر: وإن جئت الأمير فقل سلام ... عليك ورحمة الله الرحيم وأما بعد ذاك فلي غريم ... من الأعراب قبّح من غريم له ألف عليّ ونصف ألف ... ونصف النصف في صك قديم دراهم ما انتفعت بها ولكن ... وصلت بها شيوخ بني تميم وقال الكميت: حلفت بربّ الناس: ما أمّ خالد ... بأمك إذ أصواتنا الهل والهب ولا خالد يستطعم الماء قائما ... بعدلك «1» والداعي إلى الموت ينعب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 وقال ابن نوفل: تقول لما أصابك أطعموني ... شرابا ثم بلت على السرير لأعلاج ثمانية وشيخ ... كبير السنّ ذي بصر ضرير وقال ابن هرمة: تراه إذا ما أبصر الضيف كلبه ... يكلمه من حبّه وهو أعجم قال: وقال المهلب: «عجبت لمن يشتري المماليك بماله ولا يشتري الأحرار بمعروفه» . وقال الشاعر: رزقت لبّا ولم أرزق مروءته ... وما المروءة إلا كثرة المال إذا أردت مساماة تقعّدني ... عما ينوّه باسمي رقة الحال وقال الأحنف: فلو مدّ سروري بمال كثير ... لجدت وكنت له باذلا فإن المروة لا تستطاع ... إذا لم يكن مالها فاضلا وقال جرير بن يزيد: خير من البخل للفتى عدمه ... ومن بنين أعقة عقمه قال: ومشى رجال من تميم إلى عتاب بن ورقاء، ومحمد بن عمير، في عشر ديات فقال محمد بن عمير: علي دية: فقال عتاب: علي الباقية. فقال محمد: نعم العون على المروءة المال. وقال الآخر: ولا خير في وصل إذا لم يكن له ... على طول مرّ الحادثات بقاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 وقال الآخر: شفاء الحبّ تقبيل وضمّ ... وجرّ بالبطون على البطون وأنشد: والله لا أرضى بطول ضمّ ... ولا بتقبيل ولا بشمّ إلا بهزهاز يسلي همي ... يسقط منه فتخي في كمّي لمثل هذا ولدتني أمي وأنشد: لا ينفع الجارية الخضاب ... ولا الوشاحان ولا الجلباب من دون أن تصطفق الأركاب ... وتلتقي الأسباب والأسباب ويخرج الزب له لعاب وقال الآخر: وقد بدا لي أن قلبك ذاهل ... عني وقلبي لو بدا لك أذهل كلّ يجامل وهو يخفي بغضه ... إن الكريم على القلى يتجمّل وقال الآخر: وحظك زورة في كلّ عام ... موافقة على ظهر الطريق سلاما خاليا من كل شيء ... يعود به الصديق على الصديق وقال الآخر: وزعمت أني قد كذبتك مرة ... بعض الحديث فما صدقتك أكثر وقال الآخر: أهينوا مطاياكم فإني وجدته ... يهون على البرذون موت الفتى الندب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 وقال الآخر: لا يحفل البرد من يبلي حواشيه ... ولا تبالي على من راحت الإبل وقال الآخر: ألا لا يبالي البرد من جرّ فضله ... كما لا تبالي مهرة من يقودها وقال الآخر: وإني لأرثي للكريم إذا غدا ... على حاجة عند اللئيم يطالبه وأرثي له من مجلس عند بابه ... كمرثيتي للطرف والعلج راكبه وقال الفرزدق: أترجو ربيع أن تجيء صغارها ... بخير وقد أعيا ربيعا كبارها وقال الشاعر: ألم تر أن سير الخير ريث ... وإن الشرّ راكبه يطير وقال ابن يسير: تأتي المكاره حين تأتي جملة ... وترى السرور يجي مع الفلتات قيل لبلال بن أبي بردة: لم لا تولي أبا العجوز بن أبي شيخ العراف- وكان بلال مسترضعا فيهم، وهو من بلهجيم- قال: لأني رأيت منه ثلاثا: رأيته يحتجم في بيوت أخوانه، ورأيت عليه مظلة وهو في الظل، ورأيته يبادر بيض البقيلة. وكان عندي شيخ عظيم البدن جهير الصوت، يستقصي الأعراب، وقد ولده رجل من أهل الشورى، وكان بقربي عبد أسود دقيق العظم يم الوجه، ورآني أكبره، فقال لي حين نهض ورأى عظما: يا أبا عثمان، لا والله أن يساوي ذلك العظم البالي، بصرت عيني به في الحمام وتناول قطعة من فخار فأعطاها رجلا وقال له: حكّ بها ظهري! افتظن هذا يا أبا عثمان يفلح أبدا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 قال أبو الحسن: سأل الحجاج غلاما فقال له: غلام من أنت؟ قال: غلام سيّد قيس. قال: ومن ذاك؟ قال: زرارة بن أوفى. قال: وكيف يكون سيد قيس وفي داره التي ينزل فيها سكان؟ قال: وقال رجل لأبنه: إذا أردت أن تعرف عيبك فخاصم شيخا من قدماء جيرانك. قال: يا أبت لو كنت إذا خاصمت جاري لم يعرف عيبي غيري كان ذلك رأيا، ولكن جاري لا يعرفني عيبي حتى يعرفه عدوي. وقد أخطأ الذي وضع هذا الحديث لأن أباه نهاه ولم يأمره. وقال الآخر: إصطنعني وأقلبني عثرتي ... إنها قد وقعت مني بقر واعلمن أن ليس ألفا درهم ... لمديحي وهجائي بخطر يذهب المال ويبقى منطق ... شائع يأثره أهل الخبر ثم أرميكم بوجه بارز ... لست أمشي لعدوي بخمر وقال أشهب بن رميلة يوم صفين: إلى أين يا بني تميم؟ قالوا: قد ذهب الناس. قال: تقرون وتعتذرون؟! قال: ونهض الحارث بن حوط الليثي إلى علي بن أبي طالب، وهو على المنبر، فقال: أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير كانا على ضلال؟ قال: «يا حار، انه ملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال. فاعرف الحق تعرف أهله!» . وقال عمر بن الخطاب رحمه الله: «لا أدركت أنا ولا أنت زمانا يتغاير الناس فيه على العلم كما يتغايرون على الأزواج» . قال: وبعث قسامة بن زهير العنبري إلى أهله بثلاثين شاة ونحي صغير فيه سمن، فسرق الرسول شاة، وأخذ من رأس النحي شيئا من السمن، فقال لهم الرسول: ألكم إليه حاجة أخبره بها؟ قالت له إمرأته: أخبره أن الشهر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 محاق، وإن جدينا الذي كان يطالعنا وجدناه مرثوما «1» . فاسترجع منه الشاة والسمن. قال علي بن سليمان لرؤبة: ما بقي من باهك يا أبا الجحاف: قال: يمتد ولا يشتد، واستعين بيدي ثم لا أورد، وأطيل الظمء ثم أقصر. قال: ذاك الكبر. قال: لا، ولكنه طول الرغاث. وقيل لأعرابي: أيّ الدواب آكل؟ قال: يرذونة رغوث «2» . وقيل لغيره: لم صارت اللبؤة انزق، وعلى اللحم أحرص؟ قال: هي الرغوث. قال: وقال عبيد الله بن عمر: اتقوا من تبغضه قلوبكم. وقال اسماعيل بن غزوان: لا تنفق درهما حتى تراه، ولا تثق بشكر من تعطيه حتى تمنعه، فالصابر هو الذي يشكر، والجازع هو الذي يكفر. عامر بن يحيى بن أبي كثير قال: لا تشهد لمن لا تعرف، ولا تشهد على من لا تعرف، ولا تشهد بما لا تعرف. أبو عبد الرحمن الضرير، عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيّب قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رأس العقل بعد الإيمان بالله التودّد إلى الناس» . وقالت عائشة: لا سمر إلا لثلاثة: مسافر، ومصلّ وعروس. قال: وقال معاوية يوما: من أنصح الناس؟ فقال قائل: قوم ارتفعوا عن لخلخانيّة الفرات، وتيامنوا عن عنعنة تميم وتياسروا عن كسكسة بكر «3» ، ليست الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 لهم غمغمة قضاعة ولا طمطمانية «1» حمير. قال: من هم؟ قال: قريش قال: ممن أنت؟ قال: من جرم. قال: إجلس. وقال الراجز: إن تميما أعطيت تماما ... وأعطيت مآثرا عظاما وعددا وحسبا قمقاما «2» ... وباذخا من عزها قدّاما في الدهر أعيا الناس أن يراما ... إذا رأيت منهم الأجساما والدلّ والشيمة والكلاما ... وأذرعا وقصرا «3» وهاما عرفت أن لم يخلقوا طغاما «4» ... ولم يكن أبوهم مسقاما لم تر فيمن يأكل الطعاما ... أقلّ منهم سقطا وذاما «5» تقول العرب: «لو لم يكن في الإبل إلا أنها رقوء الدم» . قال جندل بن صخر، وكان عبدا مملوكا: وما فك رقّي ذات دل خبرنج «6» ... ولا شاق مالي صدقة وعقول ولكن نماني كلّ أبيض خضرم ... فأصبحت أدري اليوم كيف أقول وقال الفقيمي، وهو قاتل غالب أبي الفرزدق: وما كنت نواما ولكن ثائرا ... أناخ قليلا فوق ظهر سبيل وقد كنت مجرور اللسان ومفحما ... فأصبحت أدري اليوم كيف أقول قال المغيرة بن شعبة: من دخل في حاجة رجل فقد ضمنها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 وقال عمر رحمه الله: لكل شيء شرف، وشرف المعروف تعجيله. وقال رجل لأبراهيم النخعي: أعد الرجل الميعاد فإلى متى؟ قال: إلى وقت الصلاة. قال: وقال لي بعض القرشيين: من خاف الكذب أقلّ من المواعيد. وقالوا: أمران لا يسلمان من الكذب: كثرة المواعيد، وشدة الإعتذار. وقال ابراهيم النظام: قلت لخنجير كون ممرور «1» الزياديين: أقعدها هنا حتى أرجع إليك. قال: أما حتى ترجع إلي فإني لا أضمن لك ولكن أقعد لك إلى الليل. وهذه رسالة ابراهيم بن سيابه إلى يحيى بن خالد بن برمك: وبلغني أن عامة أهل بغداد يحفظونها في تلك الأيام، وهي كما ترى. وأولها: للأصيد الجواد «2» ، الواري الزناد، الماجد الأجداد، الوزير الفاضل، الأشم الباذل، اللباب الحلاحل، من المستكين المستجير، البائس الضرير. فإني أحمد الله ذا العزة القدير، إليك وإلى الصغير والكبير، بالرحمة العامة، والبركة التامة. أما بعد فاغنم واسلم، واعلم إن كنت تعلم، إنه من يرحم يرحم، ومن يحرم يحرم، ومن يحسن يغنم، ومن يصنع المعروف لا يعدم. وقد سبق إلي تغضبك علي، واطراحك لي، وغفلتك عني بما لا أقوم له ولا أقعد، ولا أنتبه ولا أرقد، فلست بذي حياة صحيح، ولا بميت مستريح، فررت بعد الله منك إليك، وتحملت بك عليك. ولذلك قلت: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 أسرعت بي حثّا إليك خطائي ... فأناخت بمذنب ذي رجاء راغب راهب إليك يرجى ... منك عفوا عنه وفضل عطاء ولعمري ما من أصرّ ومن تا ... ب مقرّا بذنبه بسواء فإن رأيت- أراك الله ما تحب، وأبقاك في خير- ألا تزهد فيما ترى من تضرّعي وتخشّعي، وتذلّلي وتضعّفي، فإن ذلك ليس مني بنحيزة «1» ولا طبيعة، ولا على وجه تصيّد وتصنّع وتخدّع، ولكنه تذلل وتخشع وتضرع، من غير ضارع ولا مهين ولا خاشع لمن لا يستحق ذلك، إلا لمن التضرع له عز ورفعة شرف. والسلام. محمد بن حرب الهلالي قال: دخل زفر بن الحارث على عبد الملك، بعد الصلح فقال: ما بقي من حبك للضحاك؟ فقال: ما لا ينفعني ولا يضرك. قال: شدّ ما أحببتموه معاشر قيس! قال: أحببناه ولم نواسه، ولو كنا آسيناه لقد كنا أدركنا ما فاتنا منه. قال: فما منعك من مواساته يوم المرج. قال: الذي منع أباك من مواساة عثمان يوم الدار. قال الشاعر: لكل كريم من ألائم قومه ... على كلّ حال حاسدون وكشّح «2» قال: وقال سليمان بن سعد لو صحبني رجل فقال اشترط علي خصلة واحدة لا تزيد عليها لقلت: لا تكذبني. قال: كان يقال: أربع خصال يسود بها المرء: العلم، الأدب، والعفة والأمانة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 وقال الشاعر: لئن طبت نفسا عن ثنائي فإنني ... لأطيب نفسا عن نداك على عسري فلست إلى جدواك أعظم حاجة ... على شدّة الأعسار منك إلى شكري وقال الآخر: أأن سمتني ذلا فعفت حياضه ... سخطت، ومن يأب المذلة يعذر فهأنا مسترضيك لا من جناية ... جنيت ولكن من تجنيك فاغفر وقال أياس بن قتادة: وإنّ من السادات من لو أطعته ... دعاك إلى نار يفور سعيرها وقال الآخر: عزمت على إقامة ذي صباح ... لأمر ما يسودّ من يسود وقال الهذلي: وإنّ سيادة الأقوام فاعلم ... لها صعداء مطلبها طويل وقال حارثة بن بدر: إذا الهمّ أمسى وهو داء فأمضه ... ولست بمضيه وأنت تعادله ولا تنزلن أمر الشديدة بامرىء ... إذا رام أمرا عوقته عواذله وقل للفؤاد إن نزا بك نزوة ... من الروع أفرخ أكثر الروع باطله وقال الآخر: وإنّ بقوم سوّدوك لفاقة ... إلى سيد لو يظفرون بسيّد وقال الآخر: وما سدت فيهم إن فضلك عمّهم ... ولكن هذا الحظّ في الناس يقسم وقال حارثة بن بدر: خلت الديار فسدت غير مسوّد ... ومن الشقاء تفرّدي بالسّؤدد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 الفضل بن تميم قال: قال المغيرة: «من لم يغضب لم يعرف حلمه» . وقال الشاعر: ما بال ضبع ظلّ يطلب دائبا ... فريسته بين الأسود الضراغم وقال الآخر: ذكرت بها عهدا على الهجر والقلى ... ولا بدّ للمشتاق أن يتذكرا وقال الآخر: إذا ما شفيت النفس أبلغت عذرها ... ولا لوم في أمر إذا بلغ العذر وقال الآخر: لعمرك ما الشكوى بأمر حزامة ... ولا بدّ من شكوى إذا لم يكن صبر وقال الآخر: لو ثلاث هنّ عيش الدهر ... الماء والنوم وأم عمرو لما خشيت من مضيق القبر وقال لقيط بن زرارة: شتان هذا والعناق والنوم ... والمشرب البارد والظلّ الدوم وقال والبة: ما العيش إلا في المدا ... م وفي اللزام وفي القبل وإدارة الظبي الغري ... ر تسومه ما لا يحل وقال شيخ من أهل المسجد: ما كنت أريد أن أجلس إلى قوم إلا وفيهم من يحدث عن الحسن، وينشد للفرزدق. وقال أبو مجيب: لا ترى إمرأة مصبّرة العين، ولا امرأة عليها طاق يمنة، ولا شريفا يهنأ بعيرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 وقال أبو براح: ذهب الفتيان فلا ترى فتى مفروق الشعر بالدّهن، معلقا نعله، ولا ديكين في خطار «1» ، ولا صديقا له صديق أن قمر ضعا «2» ، وإن عوقب جزع، وإن خلا بصديق فتى خببه «3» ، وإن ضرب أقر، وإن طال حبسه ضجر، ولا ترى فتى يحسن أن يمشي في قيده ولا يخاطب أميره. وقال أبو الحسن: قال أبو عباية: ترى زقاق براقش، وبساتين هزار مرد «4» ما كان يسلكه غلام إلا بخفير، وهم اليوم يخترقونه. قلت: هذا من صلاح الفتيان. قال: لا ولكن من فسادهم. اليقطري، قال: قيل لطفيل العرائس: كم اثنان في اثنين؟ قال: أربعة أرغفة. وقال رجل لرجل: انتظرتك على الباب بقدر ما يأكل إنسان جردقتين «5» عبد الله بن مصعب قال: أرسل علي بن أبي طالب رحمه الله عبد الله بن عباس، لما قدم البصرة فقال: «أيت الزبير ولا تأت طلحة، فإن الزبير ألين، وإنك تجد طلحة كالثور عاقصا قرنه «6» ، يركب الصعوبة ويقول هي أسهل، فأقرئه السلام، وقل له: «يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق، فما عدا مما بدا لك؟» . قال: فأتيت الزبير فقال: مرحبا يا ابن لبابة أزائرا جئت أم سفيرا؟ قلت: كلّ ذلك. وأبلغته ما قال علي، فقال الزبير: أبلغه السلام وقل له: «بيننا وبينك عهد خليفة ودم خليفة، واجتماع ثلاثة وإنفراد واحد، وأم مبرورة، ومشاورة العشيرة، ونشر المصاحف، فنحل ما أحلت، ونحرم ما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 حرمت» . فلما كان من الغد حرّش بين الناس غوغاؤهم فقال الزبير: ما كنت أرى أن مثل ما جئنا له يكون فيه قتال! قال: ومن جيّد الشعر قول جرير: لئن عمرت تيم زمانا بغرّة ... لقد حديت تيم حداء عصبصبا فلا يضغمن الليث تيما بغرة ... وتيم يشمون الفريس المنيّبا وقال أعرابي: «كحّلني بالميل الذي تكحّل به العيون الداءة «1» » وقال أبن أحمر: بهجل من قسا ذفر الخزامى ... تهادي الجربياء به الحنينا «2» به تتزخّر القلع السواري ... وجنّ الخازباز به جنونا «3» تكاد الشمس تخشع حين تبدو ... لهن وما نزلن وما عسينا وقال الحكم الخضري: كوم تظاهر نيها وتربّعت ... بقلا بعيهم والحمى مجنونا والمجنون: المصروع، ومجنون بني عامر، ومجنون بني جعدة. وإذا فخر النبات قيل قد جنّ. وقال الشنفري: فدقّت وجلّت واسبكرّت وأنضرت ... فلو جنّ إنسان من الحسن جنّت قال: وسمع الحجاج امرأة من خلف حائط تناغي طفلا لها، فقال: مجنونة أو أم صبي! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 وقال أبو ثمامة بن عازب: وكلهم قد ذاقنا فكأنما ... يرون علينا جلد أجرب هامل وقال التغلبي: يرى الناس منا جلد أسود سالخ ... وفروة ضرغام من الأسد ضيغم وأنشدنا الأصمعي: منهرت الشّدقين «1» عود قد كمل ... كأنما قمّص من ليط جعل «2» وقال نصيب لعمر بن عبد العزيز: إن لي بنيّة ذررت عليها من سوادي. وقال عبد الملك للوليد: لا تعزل أخاك عبد الله عن مصر، وانظر عمك محمد بن مروان فأقرّه على الجزيرة، وأما الحجاج فأنت أحوج إليه منه إليك، وأنظر علي بن عبد الله فاستوص به خيرا. فضرب عليا بالسياط، وعزل أخاه وعمه. وقال أبو نخيلة: أنا ابن سعد وتوسّطت العجم ... فأنا فيما شيت من خال وعم وأنشد: هم وسط يرضى الأله بحكمهم ... إذا طرقت إحدى الليالي بمعظم يجعلون ذلك من قول الله تبارك وتعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 وأنشد: ولولا خلّة سبقت إليه ... وأخو من كان من عرق المدام دلفت له بأبيض مشرفي ... كما يدنو المصافح بالسلام وقال يزيد بن ضبّة: لا تبدينّ مقالة مأثورة ... لا تستطيع إذا مضت إدراكها وقال ابن ميادة: يا أيها الناس روّوا القول واستمعوا ... وكلّ قول إذا ما قيل يستمع وقال الآخر: ما المدلج الغادي إليه بسحرة ... إلا كآخر قاعد لم يبرح وقال العلاء بن منهال الغنوي في شريك بن عبد الله: فليت أبا شريك كان حيّا ... فيقصر عن مقالته شريك ويترك من تدرئه علينا ... إذا قلنا له هذا أبوكا وقال طارق بن أثال الطائي: ما إن يزال ببغداد يزاحمنا ... على البراذين أشباه البراذين أعطاهم الله أموالا ومنزلة ... من الملوك بلا عقل ولا دين ما شئت من بغلة سفواء ناجية ... ومن أثاث وقول غير موزون وقال منقذ بن دثار الهلالي «1» : لا تتركن- إن صنيعة سلفت ... منك وإن كنت لست تنكرها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 عند امرىء- أن تقول إن ذكرت ... يوما من الدهر: لست أذكرها فإن إحياءها إماتتها ... وإن منا بها يكدرها وقال بعض الحكماء: «صاحب من ينسى معروفه عندك، ويتذكر حقوقك عليه» : وقال منقر بن فروة المنقريّ: وإن خفت من أمر فواتا فوله ... سواك وعن دار الأذى فتحوّل وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ... ففي صالح الأخلاق نفسك فاجعل ونظر أبو الحارث جمين إلى برذون يستقي عليه الماء، فقال: وما المرء إلا حيث يجعل نفسه لو هملج هذا البرذون لم يجعل للرواية. وأنشد: لا خير في كلّ فتى نؤوم ... لا يعتريه طارق الهموم وأنشد: اجعل أبا حسن كمن لم تعرف ... واهجره معتزما وإن لم يخلف آخ الكرام المنصفين وصلهم ... واقطع مودّة كلّ من لم ينصف وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير: ما زال عصياننا لله يسلمنا ... حتى دفعنا إلى يحيى ودينار إلى عليجين لم تقطع ثمارهما ... قد طال ما سجدا للشمس والنار وشاتم أعرابي أعرابيا فقال: «إنكم لتعتصرون العطاء، وتعيرون النساء، وتبيعون الماء» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 وقال أبو الأسود الدؤلي: لنا جيرة سدوا المجازة بيننا ... فإن ذكّروك السدّ فالسد أكيس ومن خير ما ألصقت بالدار حائط ... تزلّ به صقع الخطاطيف أملس وأنشد: إذا لم يكن للمرء بد من الردى ... فأكرم أسباب الردى سبب الحبّ وقال الآخر: وإذا شنئت فتى شنئت حديثه ... وإذا سمعت غناءه لم أطرب وأنشد المسروحي، لكامل بن عكرمة: لها كلّ عام موعد غير منجز ... ووقت إذا ما رأس حول تجرما «1» فإن وعدت شرا أنى دون وقته ... وإن وعدت خيرا أراث وعتّما «2» وقال الآخر: ألم تر أن سير الخير ريث ... وأن الشرّ راكبه يطير وقال محمد بن يسير: تأتي المكاره حين تأتي جملة ... وترى السرور يجيء في الفلتات وقال الآخر: إذا ما بريد الشام أقبل نحونا ... ببعض الدواهي المفظعات فأسرعا فإن كان شرا سار يوما وليلة ... وإن كان خيرا قصّد السير أربعا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 وقال آخر: وتعجبنا الرؤيا فجلّ حديثنا ... إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا فإن حسنت لم تأت عجلى وأبطأت ... وإن قبحت لم تحتبس وأتت عجلى وقال آخر: وإذا نهضت فما النهوض بدائم ... وإذا نكبت توالت النكبات قال: قيل لأعرابي: ما أعددت للشتاء؟ قال: جلّة ربوضا، وصيصية «1» سلوكا، وشملة مكودا، وقرموصا دفيئا «2» ، وناقة مجالحة «3» . وقيل لآخر: ما أعددت للشتاء؟ قال: شدة الرعدة. وقيل لآخر: كيف ليلكم؟ قال: سحر كله. وقيل لآخر: كيف البرد عندكم؟ قال: ذاك إلى الريح. وقال معن بن أوس: فلا وأبي حبيب ما نفاه ... من أرض بني ربيعة من هوان وكان هو الغنيّ إلى غناه ... وكان من العشيرة في مكان تكنفه الوشاة فأزعجوه ... ودس من فضالة غير وان فلولا أن أم أبيه أمي ... وإن من قد هجاه فقد هجاني وأن أبي أبوه لذاق مني ... مرارة مبردي ولكان شاني إذا لأصابه مني هجاء ... يمر به الروي على لساني اعلمه الرماية كلّ يوم ... فلما اشتدّ ساعده رماني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 وقال بعض اليهود: ولو كنت أرضى لا أبالك بالذي ... به العائل الجثّام في الخفض قانع «1» إذا قصرت عندي الهموم وأصبحت ... علي وعندي للرجال صنائع ومما قالوا في المهالبة: إن المهالبة الكرام تحملوا ... دفع المكاره عن ذوي المكروه زانوا قديمهم بحسن حديثهم ... وكريم أخلاق بحسن وجوه وقال أبو الجهم العدوي في معاوية بن أبي سفيان: نقلّبه لنخبر حالتيه ... فنخبر منهما كرما ولينا نميل على جوانبه كأنا ... نميل إذا نميل على أبينا وقال الآخر في هذا الشكل: إن أجز علقمة بن سيف سعيه ... لا أجزه ببلاء يوم واحد لأحبني حبّ الصبي ورمني ... رمّ الهديّ إلى الغني الواجد «2» ولقد شفيت غليلتي فنقعتها ... من آل مسعود بماء بارد وقال بكير بن الأخنس: نزلت على آل المهلب شاتيا ... فقيرا بعيد الدار في سنة محل فما زال بي إلطافهم وافتقادهم ... وإكرامهم حتى حسبتهم أهلي وقال في كلمة له أخرى: وقد كنت شيخا ذا تجارب جمة ... فأصبحت فيهم كالصبي المدلّل ورأى المهلب وهو غلام فقال: خذوني به إن لم يسد سرواتهم ... ويبرع حتى لا يكون له مثل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 وقال الحزين، في طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه- وأمه عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، من ولد أبي بكر الصديق رحمه الله: فإن تك يا طلح أعطيتني ... جمالية تستخفّ السفارا «1» فما كان نفعك لي مرة ... ولا مرتين ولكن مرارا وقال أبو الطمحان: سأمدح مالكا في كل ركب ... لقيتهم، واترك كلّ رذل فما أنا والبكارة من مخاض ... عظام جلة سدس وبزل وقد عرفت كلابكم ثيابي ... كأني منكم ونسيت أهلي نمتكم من بني شمخ زناد ... لها ما شئت من فرع وأصل وقال أبو الشّغب: ألا إن خير الناس قد تعلمونه ... أسير ثقيف موثقا في السلاسل لعمري لئن أعمرتم السجن خالدا ... وأوطأتموه وطأة المتثاقل لقد كان نهّاضا بكل ملمة ... ومعطي اللهى غمرا كثير النوافل «2» فإن تسجنوا القسريّ لا تسجنوا اسمه ... ولا تسجنوا معروفه في القبائل ومن هذا الباب قول أعشى همدان، في خالد بن عتّاب بن ورقاء: رأيت ثناء الناس بالغيب طيبا ... عليك وقالوا: ماجد وابن ماجد بني الحارث السامين للمجد إنكم ... بنيتم بناء ذكره غير بائد هنيئا لما أعطاكم الله واعلموا ... بأني سأطري خالدا في القصائد فإن يك عتّاب مضى لسبيله ... فما مات من يبقى له مثل خالد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 ومن شكل هذا الشعر قول الحسين بن مطير الأسدي: ألماعلى معن وقولا لقبره ... سقتك الغوادي مربعا ثم مربعا فيا قبر معن كنت أول حفرة ... من الأرض خطّت للسماح وموضعا ويا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا بلى قد وسعت الجود والجود ميت ... ولو كان حيا ضقت حتى تصدعا فلما مضى معن مضى الجود والندى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا «1» فتى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا تعزّ أبا العباس عنه ولا يكن ... جزاؤك من معن بأن تتضعضعا فما مات من كنت ابنه لا ولا الذي ... له مثل ما أسدى أبوك وما سعى تمنى أناس شأوه من ضلالهم ... فأضحوا على الأذقان صرعى وظلّعا «2» وهذا مثل قول مسلم بن الوليد، في يزيد بن مزيد: قبر ببرذعة استسر ضريحه ... خطرا تقاصر دونه الأخطار أبقى الزمان على معد بعده ... حزنا كعمر الدهر ليس يعار نقضت به الآمال أحلاس الغنى ... واسترجعت نزّاعها الأمصار «3» فاذهب كما ذهبت غوادي مزنة ... أثنى عليها السهل والأوعار قيل: إذا رسخ الرجل في العلم رفعت عنه الرؤيا الصالحة. مسلمة، قال: كان عند عمر بن عبد العزيز رجلان، فجعلا يلحنان، فقال الحاجب: قوما فقد «أوذيتما» أمير المؤمنين! قال عمر: أنت آذى لي منهما. المدائني قال: قعد قدّام زياد رجل ضائعي- من قرية باليمن يقال لها «ضياع» - وزياد يبني داره، فقال له: أيها الأمير، لو كنت عملت باب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 مشرقها قبل مغربها، وباب مغربها من قبل مشرقها! فقال: أنى لك هذه الفصاحة؟ قال: إنها ليست من كتاب ولا حساب، ولكنها من «ذكاوة» العقل. فقال: ويلك، الثاني شر! شعبة، عن الحكم، قال: قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: لا أماري أخي، فأما أن أكذبه وأما أن أغضبه ابن أبي الزناد قال: إذا اجتمعت حرمتان تركت الصغرى للكبرى. وعن أبي بكر الهذلي- واسمه سلميّ- قال: إذا جمع الطعام أربعة فقد كمل: إذا كان حلالا، وكثرت عليه الأيدي، وسمّي الله على أوله، وحمد على آخره. وقال ابن قميئة: وأهون كفّ لا تضيرك ضيرة ... يد بين أيد في إناء طعام يد من قريب أو غريب بقفرة ... أتتك بها غبراء ذات قتام «1» وقال حمّاد عجرد: حبيش أبو الصلت ذو خبرة ... بما يصلح المعدة الفاسدة تخوّف تخمة أصحابه ... فعودهم أكلة واحدة وقال سويد المراثد: إني إذا ما الأمر بيّن شكّه ... وبدت بصائره لمن يتأمل وتبرأ الضعفاء من أخوانهم ... وألحّ من حرّ الصميم الكلكل ادع التي هي أرفق الخلات بي ... عند الحفيظة للتي هي أجمل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 ومما يكتب في العصا قوله: قالت إمامة يوم برقة واسط ... يا بن الغدير لقد جعلت تغيّر أصبحت، بعد شبابك الماضي الذي ... ذهبت بشاشته وغصنك أخضر شيخا دعامتك العصا ومشيعا ... لا تبتغي خيرا ولا تستخبر ويضم البيت الأخير إلى قوله: وهلك الفتى ألا يراح إلى الندى ... وألا يرى شيئا عجيبا فيعجبا ومن يتتبع مني الظلع «1» يلقني ... إذا ما رآني أصلع الرأس أشيبا وقال بعض الحكماء: «أعجب من العجب ترك التعجب من العجب» . وقيل لشيخ هم: أي شيء تشتهي؟ قال: أسمع بالأعاجيب. وأنشد: عريض البطان جديب الخوان ... قريب المراث من المرتع «2» فنصف النهار لكرياسه «3» ... ونصف لمأكله أجمع وفي العصا قوله: لعمري لئن حلّئت عن منهل الصبا ... لقد كنت ورادا لمشربه العذب «4» ليالي أغدو بين بردين لاهيا ... أميس كغصن البانة الناعم الرطب سلام على سير القلاص «5» مع الركب ... ووصل الغواني والمدامة والشرب سلام امرىء لم تبق منه بقية ... سوى نظر العينين أو شهوة القلب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 وقال حاجب بن ذبيان لأخيه زرارة: عجلت مجيء الموت حتى هجرتني ... وفي القبر هجر يا زرار طويل وقال الآخر: ألم تعلمي عمرتك الله أنني ... كريم على حين الكرام قليل وأني لا أخزى إذا قيل مملق «1» ... جواد، وأخزى أن يقال بخيل وألا يكن عظمي طويلا فأنني ... له بالخصال الصالحات وصول إذا كنت في القوم الطوال فضلتهم ... بعارفة «2» حتى يقال طويل ولا خير في حسن الجسوم وطولها ... إذا لم يزن حسن الجسوم عقول وكائن رأينا من فروع طويلة ... تموت إذا لم تحيهن أصول ولم أر كالمعروف أما مذاقه ... فحلو، وأما وجهه فجميل وقال زيادة بن زيد: إذا ما انتهى علمي تناهيت عنده ... أطال فأملى أم تناهى فأقصرا «3» ويخبرني عن غائب المرء فعله ... كفى الفعل عما غيّب المرء مخبرا وقال آخر: أبرّ فما يزداد إلا حماقة ... ونوكا وإن كانت كثيرا مخارجه وقال ابن الرقّاع: وقصيدة قد بتّ اجمع بينها ... حتى أقوّم ميلها وسنادها نظر المثقّف في كعوب قناته ... حتى يقيم ثقافه منآدها «4» وعلمت حتى لست أسأل واحدا ... عن حرف واحدة لكي أزدادها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 وقال بعض الأعراب: لولا مسّرة أقوام تصعدني ... أو الشماتة من قوم ذوي إحن ما سرني أن إبلي في مباركها ... وإنّ أمرا قضاه الله لم يكن وقال الآخر: وإني لأهوى ثم لا أتبع الهوى ... وأكرم خلاني وفيّ صدود وفي النفس عن بعض التعرض غلظة ... وفي العين عن بعض البكاء جمود وقال كثير: ترى القوم يخفون التبسم عنده ... وينذرهم عور الكلام نذيرها فلا هاجرات القول يؤثرن عنده ... ولا كلمات النصح مقصى مشيرها وقال المقشعرّ: يقرّ بعيني أن أرى قصد الفنا ... وصرعى رجال في وغى أنا حاضره وقال الكميت: أحسن منها ذياد خامسة ... في الورد، أو فيلق تجالدها وقال صالح بن مخراق في كلام له: لولا أن الله قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ، لأنبأتكم أني لا أكرهه. وقال الآخر: تركت الركاب لأربابها ... وأكرهت نفسي على ابن الصعق جعلت يديّ وشاحا له ... وبعض الفوارس لا يعتنق قال: وقال عمر بن عبد العزيز يوما في مجلسه: من أم النعمان بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 المنذر؟ فقال روح بن الوليد بن عبد الملك: سلمى بنت عقاب. قال: إنه ليقال ذلك، يا حاجب أحسن إذنه. وقالوا: عشر خصال في عشرة أصناف من الناس أقبح منها في غيرهم: الضيق في الملوك، والغدر في الأشراف، والكذب في القضاة، والخديعة في العلماء، والغضب في الأبرار، والحرص في الأغنياء، والسفه عند الشيوخ، والمرض في الأطباء، والزهو في الفقراء، والفخر في القراء. وأنشد: ولا تقبلوا عقلا وأموا بغارة ... بني عبد شمس بين دومة والهضب وهزوا صدور المشرفيّ كأنما ... يقعن بهام القوم في حنظل رطب ويضم إلى بيت الكميت وبيت المقشعر قول الحكمي: أحسن عندي من انكبابك بالفه ... هر ملحا به على وتد وقوف ريحانة على أذن ... وسير كأس إلى فم بيد وفي باب غير هذا يقول حسان بن ثابت: ما أبالي أنبّ بالحزن تيس ... أم لحاني بظهر غيب لئيم وأنشد: خبّرت أن طويلبا يغتابنا ... بعضيهة يتنحّل الأقوالا ما ضرّ سادة نهشل أهجاهم ... أم قام في عرض الخويّ فبالا وقال الفرزدق في هذا المعنى: ما ضرّ تغلب وائل أهجوتها ... أم بلت حيث تناطح البحران وقال الآخر في هذا المعنى: ما يضير البحر أمسى زاخرا ... أن رمى فيه غلام بحجر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 ومما يزاد في ذكر باب العصا قول جرير بن الخطفي: ويقضى الأمر حين تغيب تيم ... ولا يستأمرون وهم شهود وقد سلبت عصاك بنو تميم ... فما تدري بأيّ عصا تذود وقال الحسن بن عرفطة بن نضلة «1» : ليهنيك بغض في الصديق وظنّة ... وتحديثك الشيء الذي أنت كاذبه وأنك مهداء الخنا نطف النثا ... شديد السّباب رافع الصوت غالبه وإنك مشنوء إلى كلّ صاحب ... بلاك، ومثل الشر يكره جانبه ولم أر مثل الجهل أدنى إلى الردى ... ولا مثل بغض الناس غمّض صاحبه وقال قتادة بن خرجة الثعلبي، من بني عجب: خليلي يوم السّلسلين لو أنني ... بهبر اللّوى أنكرت ما قلتما ليا «2» ولكنني لم أنس ما قال صاحبي ... نصيبك من ذل إذا كنت نائيا وقال خالد بن نضلة «3» : إذا كنت في قوم عدى لست منهم ... فكل ما علفت من خبيث وطيّب وقال أحمد بن يوسف، وكان يتعشّق يحيى بن سعيد بن حمّاد: إن يحيى بن سعيد ... يشتهي أن أشتهيه فهو يلقاني بتوري ... م وأحيانا بتيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 وقال أبو سعد دعيّ بني مخزوم، في مهاجاة دعبل: ولولا نزار لضاق الفضاء ... ولم يبق حرز ولا معقل وأخرجت الأرض أثقالها ... وأدخل في إست أمه دعبل وقال: حدق الآجال آجال ... والهوى للمرء قتّال والهوى صعب مراكبه ... وركوب الصعب أهوال ليس من شكلي فأشتمه ... دعبل، والناس أشكال همتي في التاج ألبسه ... وله في الشعر آمال وقال: هذا اللبابي يحوي ... جوائز الخلفاء ففي حر أم مديحي ... وفي حر أم هجائي وفي حر أمي وإن كن ... ت سيد الشعراء وقال محمد بن يسير: في حر أم الناس كلهم ... وأنا في ذا من أولهم لست تدري حين تخبرهم ... أين أدناهم من أفضلهم وقال: إذا ما جاوز الندماء خمسا ... برب البيت والساقي اللبيب فأير في حر أمّ فتى دعانا ... وأير في حر أمّ فتى مجيب وقال سلم الخاسر «1» : بهارون قرّ الملك في مستقرّه ... وأبهجت الدنيا وأشرق نورها وليس لأيام المكارم غاية ... تتمّ بها إلا وأنت أميرها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 وقال بشار بن برد: من فتاة صبّ الجمال عليها ... في حديث كلذة النشوان ثم فارقت ذاك غير ذميم ... كلّ عيش الدنيا وإن طال فان وقال مزاحم العقيليّ: يزين سنا الماويّ كلّ عشية ... على غفلات الزين والمتجمّل وجوه لو أن المدلجين اعتشوا بها ... صدعن الدجى حتى ترى الليل ينجلي وقال المسعودي: إن الكرام مناهبو ... ك المجد كلهم فناهب أخلف وأتلف كلّ شي ... ء زعزعته الريح ذاهب وقال شيخ من الأطباء: الحمد لله، فلان يزاحمنا في الطب ولم يختلف إلى البيمار ستانات تمام خمسين سنة. وحدثني محمد بن عبد الملك- صديق لي- قال: سمعت رجلا من فرسان طبرستان يقول: فلان يدعي الفروسية، ولو كلف أن يخلي فروج فرسه «1» منحدرا لما قدر عليه. وقال بعض العبيد: أيبعثني في الشاء وابن مويلك ... على هجمة قد لوحتها الطبائخ «2» متى كان حمران الشّبابيّ راعيا ... وقد راعه بالدوّ أسود سالخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 وقال كثيّر في عمر بن عبد العزيز رحمه الله: تكلمت بالحق المبين وإنما ... تبيّن آيات الهدى بالتكلم ألا إنما يكفي القنا بعد زيغه ... من الأود الباقي ثقاف المقوّم «1» الأصمعي قال: قال يونس بن عبد الأعلى «2» : لا يزال الناس بخير ما داموا إذا تخلّج في صدر الرجل شيء وجد من يفرج عنه. وقال البعيث، في ابراهيم بن عربي: ترى منبر العبد اللئيم كأنما ... ثلاثة غربان عليه وقوع وقال الأعشى: ربّ رفد هرقته ذلك اليو ... م وأسرى من معشر أقيال وقالوا: «لا وكس ولا شطط» . وقال الشاعر «3» : ومد جج كره الكماة نزاله ... لا ممعن هربا ولا مستسلم وقال زهير: دون السماء وفوق الأرض قدرهما ... عند الذنابي فلا فوت ولا درك وقالوا: «خير الأمور أوساطها، وشر السير الحقحقة» . قال: والمثل السائر، والصواب المستعمل: «لا تكن حلوا فتزدرد، ولا مرا فتلفظ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 وقال عمر بن الخطاب رحمه الله: إن هذا الأمر لا يصلحه إلا لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف» . وكان الحجّاج يجاوز العنف إلى الخرق، وكان كما وصف نفسه، فإنه قال: «أنا حديد حقود، وذو قسوة حسود» . وذكره آخر فقال: كان شرا من صبي. وقال أكثم بن صيفي «1» : تناءوا في الديار، وتواصلوا في المزار. وكان ناشيء المشهور يقول: اللهم باعد بين نسائنا، وقارب بين رعائنا واجعل الأموال في سمحائنا. وقال آخر: شتى مراجلهم فوضى نساؤهم ... وكلهم لأبيه ضيزن سلف وقال الآخر: ترك الوطن أحد السباءين «2» . وقالوا: من أجدب انتجع. وقال آخر: من أمل أمرا هابه، ومن قصر عن شيء عابه. وقال الآخر: رجعنا سالمين كما بدأنا ... وما خابت غنيمة سالمينا وقال أمرؤ القيس بن حجر: لقد نقّبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 وقيل لأبن عباس: أيما أحب إليك، رجل يكثر من الحسنات ويكثر من السيئات، أو رجل يقل من الحسنات والسيئات؟ قال: ما أعدل بالسلامة شيئا! وقالت أعرابية: فلا تحمدوني في الزيارة إنني ... أزوركم إلا أجد متعلّلا يعقوب بن داود قال: ذم رجل الأشتر فقال له رجل من النّخع: اسكت فإن حياته هزمت أهل الشام، وموته هزم أهل العراق. أبو الحسن قال: أرسلت الخيل أيام بشر بن مروان، فسبق فرس عبد الملك بن بشر، فقال له اسماعيل بن الأشعث: والله لأرسلن غدا مع فرسك فرسا لا يعرف أن أباك أمير العراق! فجاء فرس اسماعيل سابقا، فقال: ألم أعلمك؟! وقال أبو العتاهية: أيا من لي بأنسك يا أخيّا ... ومن لي أن أبثّك ما لديّا كفى حزنا بدفنك ثم أني ... نفضت تراب قبرك عن يديا طوتك خطوب دهرك بعد نشر ... كذاك خطوبه نشر وطيا فلو نشرت قواك لي المنايا ... شكوت إليك ما صنعت إليا بكيتك يا أخيّ بدرّ عيني ... فلم يغن البكاء عليك شيا وكانت في حياتك لي عظات ... وأنت اليوم أوعظ منك حيا وقال الآخر: أبعد الذي بالعنف نعف كويكب ... رهينة رمس بين ترب وجندل أذكّر بالبقيا على من أصابني ... وبقياي أني جاهد غير مؤتل يقول: هذه بقياي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 قال: قيل لشريك بن عبد الله: كان معاوية حليما. قال: لو كان حليما ما سفه الحق، ولا قاتل عليا. ولو كان حليما ما حمل أبناء العبيد على حرمه، ولما أنكح إلا الأكفاء. وأصوب من هذا قول الآخر، قال: كان معاوية يتعرض ويحلم إذا أسمع. ومن تعرض للسفيه فهو سفيه. وقال الآخر: كان يحب أن يظهر حلمه وقد كان طار اسمه بذلك، فكان يحب أن يزداد في ذلك. وقال الفرزدق: وكان يجير الناس من سيف مالك ... فأصبح يبغي نفسه من يجيرها وكان كعنز السوء قامت بظلفها ... إلى مدية تحت التراب تثيرها وقال التّوت اليمانيّ: على أي باب أطلب الأذن بعدما ... حجبت عن الباب الذي أنا حاجبه وهذا مثل قوله: والسبب المانع حظّ العاقل ... هو الذي سبّب رزق الجاهل ومثله: وربّت حزم كان للسقم علّة ... وعلة برء الداء حظ المغفّل وقال آخر: يخيب الفتى من حيث يرزق غيره ... ويعطى الفتى من حيث يحرم صاحبه وقال عثمان بن الحويرث، لعمرو بن العاصي: له أبوان فهو يدعى إليهما ... وشر العباد من له أبوان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 وقد حكّما فيه لتصدق امه ... وكان لها علم به ببيان فقالت: صراح، وهي تعلم غيره ... ولكنها تهذي بغير لسان وقال الآخر «1» : يطلبن بالقوم حاجات تضمّنها ... بدر بكل لسان يلبس المدحا كأن فيض يديه قبل مسألة ... باب السماء إذا ما بالحيا انفتحا وكّلت بالدهر عينا غير غافلة ... من جود كفك تأسو كلّ ما جرحا ومثله: إذا افتقر المنهال لم ير فقره ... وإن أيسر المنهال أيسر صاحبه وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من أفضل العبادة الصمت، وانتظار الفرج. وقال يزيد بن المهلّب، وكان في سجن الحجاج: لهفي على طليّة بمائة ألف، وفرج في جبهة اسد. وأنشد: ربما تجزع النفوس من الأم ... ر له فرجة كحلّ العقال وأنشد: كرهت وكان الخير فيما كرهته ... وأحببت أمرا كان فيه شبا القتل «2» مثل قول الله تبارك وتعالى: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ. وكان يقال: خذ مقتصد العراق، ومجتهد الحجاز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 وقال الآخر: لكل كريم من الائم قومه ... على كل حال حاسدون وكشّح وقال جرير: إني لآمل منك خيرا عاجلا ... والنفس مولعة بحب العاجل وقال الله تبارك وتعالى: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ. وقال ابن هرمة: أشمّ من الذين بهم قريش ... تداوي بينها غبن القبيل كأنّ تلألؤ المعروف فيه ... شعاع الشمس في السيف الصقيل وقال امرؤ القيس: أجارتنا إن المزار قريب ... وإني مقيم ما أقام عسيب أجارتنا إنا غريبان ها هنا ... وكل غريب للغريب نسيب وقال بشار: وإذا اغتربت فلا تكن جشعا ... تسمو لغثّ الكسب تكسبه وقال حسان بن ثابت: أهدى لهم مدحي قلب يؤازره ... فيما أحبّ لسان حائك صنع وقال الأصمعي: أنشدنا أبو مهدية: ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا وقال الخزرجي، يرد على أبي قيس بن الأسلت، واسمه صيفيّ: أتفخر صيفيّ فيما تقو ... ل أن نلتم غيلة أربعة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 عرانين كلهم ماجد ... كثير الدسائع والمنفعة «1» فهلا حضرت غداة البقي ... ع لما استمات أبو صعصعه «2» ولكن كرهت شهود الوغى ... وكنتم كذلك في المعمعه سراعا إلى القتل في خفية ... بطاء عن القتل في المجمعه وأنشد الأصمعي: آتي النّديّ فلا يقرّب مجلسي ... وأقود للشرف الرفيع حماريا وقال حبيب بن أوس: كالخوط في القد والغزالة في البه ... جة وابن الغزال في غيده «3» وما حكاه، ولا نعيم له ... في جيده بل حكاه في جيده إلى المفدّى أبي يزيد الذي ... يضلّ غمر الملوك في ثمده «4» ظل عفاة يحب زائره ... حب الكبير الصغير من ولده «5» إذا أناخوا ببابه أخذوا ... حكمهم من لسانه ويده وقال أيضا: لعمرك ما كانوا ثلاثة أخوة ... ولكنهم كانوا ثلاث قبائل من خطباء الخوارج [وعلمائهم] قطريّ بن الفجاءة أحد بني كابية بن حرقوص، وكنيته أبو نعامة في الحرب، وفي السلم أبو محمد. وهو أحد رؤساء الأزارقة. وكان خطيبا فارسا، خرج زمن مصعب بن لزبير، وبقي عشرين سنة. وكان يدين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 بالإستعراض والسباء، وقتل الأطفال. وكان آخر من بعث إليه سفيان بن الأبرد الكلبي وقتله سورة بن أبجر الدارمي، من بني أبان بن دارم. ومن خطباء الخوارج وشعرائهم وعلمائهم: حبيب بن خدرة، عداده في بني شيبان، وهو مولى لبني هلال بن عامر ومن علمائهم وخطبائهم وأئمتهم: الضحاك بن قيس، أحد بني عمرو بن محلّم بن ذهل بن شيبان، ويكنى أبا سعيد. ملك العراق، وصلى خلفه عبد الله بن عمرو بن عبد العزيز، وعبد الواحد بن سليمان. وقال شاعرهم: ألم تر أن الله أظهر دينه ... وصلّت قريش خلف بكر بن وائل ومن علمائهم وخطبائهم: نصر بن ملحان، وكان الضحاك ولاه الصلاة بالناس، والقضاء بينهم. ومن علمائهم وخطبائهم: مليل، وأصفر بن عبد الرحمن، وأبو عبيدة كورين واسمه مسلم، وهو مولى لعروة بن أذينة. ومن علمائهم وخطبائهم وشعرائهم وقعدهم وأهل الفقه: عمران بن حطّان ويكنى أبا شهاب، أحد بني عمرو بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة. ومن الخوارج من بني ضبة ثم أحد بني صبّاح: القاسم بن عبد الرحمن ابن صديقة. وكان ناسبا عالما داهيا، وكان يشوب ذلك ببعض الظرف. ومن علمائهم ونسابهم وأهل الّلسن منهم: الجون بن كلاب، وهو من أصحاب الضحاك. ومن رجالهم وأهل النجدة والبيان منهم: خراشة، وكان ركّاضا، ولم يكن اعتقد. أخبرني أبو عبيدة قال: كان مسمار مستخفيا بالبصرة، فتخلصت إليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 فأخبرني أنه الذي طعن مالك بن علي في فيه، وذلك أنه فتح فاه يقول: أنا أبو علي! فشحا بها فاه «1» ، فطعنته في جوف فمه. ومن شعرائهم عتبان بن وصيلة الشيباني، وهو الذي يقول: ولا صلح ما دامت منابر أرضنا ... يقوم عليها من ثقيف خطيب [رأي في الخلفاء الراشدين] وعن عيسى بن طلحة قال: قلت لأبن عباس: أخبرني عن أبي بكر. قال: كان خيرا كله، على الحدة وشدة الغضب. قال: قلت: أخبرني عن عمر. قال: كان كالطائر الحذر قد علم أنه قد نصب له في كل وجه حبالة، وكان يعمل لكل يوم بما فيه، على عنف السباق. قال: قلت: أخبرني عن عثمان. قال: كان والله صوّاما قوّاما، لم يخدعه نومه عن يقظته. قال: قلت: فصاحبكم؟ قال: كان والله مملوءا حلما وعلما، غرته سابقته وقرابته، وكان يرى أنه لا يطلب شيئا إلا قدر عليه. قلت: أكنتم ترونه محدودا. قال: أنتم تقولون ذاك. من الأدب الحكمي: قال معاوية: ما رأيت سرفا قطّ إلا والى جنبه حقّ مضيّع. وقال عثمان بن أبي العاص: الناكح مغترس، فلينظر امرؤ أين يضع غرسه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 وقالت هند بنت عتبة: المرأة غلّ، ولا بد للعنق منه، فانظر من تضعه في عنقك. وقال ابن المقفع: الدّين رقّ فانظر عند من تضع نفسك. وقال عمرو بن مسعدة، أو ثابت أبو عباد: لا تستصحب من يكون استمتاعه بمالك وجاهك أكثر من امتاعه لك بشكر لسانه، وفوائد علمه. ومن كانت غايته الإحتيال على مالك، وإطراءك في وجهك فإن هذا لا يكون إلا رديّ الغيب، سريعا إلى الذم. [أدعية الصالحين والأعراب والملهوفين والنساك] قد قلنا في صدر هذا الجزء الثالث في ذكر العصا ووجوه تصرّفها. وذكرنا من مقطّعات كلام النساك، ومن قصار مواعظ الزهّاد، وغير ذلك مما يجوز في نوادر المعاني وقصار الخطب. ونحن ذاكرون، على اسم الله وعونه، صدرا من دعاء الصالحين والسلف المتقدمين، ومن دعاء الأعراب، فقد أجمعوا على استحسان ذلك واستجادته، وبعض دعاء الملهوفين، والنساك المتبتلين. وقال الله لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ . وقال ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ . وقال: يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً . وقال: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ. قالوا: كان عمرو بن معاوية العقيلي يقول: اللهم قني عثرات الكرام والكلام. وقال أعرابيّ لرجل سأله: جعل الله الخير عليك دليلا، ولا جعل حظّ السائل منك عذرة صادقة. وقال بعض كرام الأعراب ممن يقرض الشعر ويؤثر الشكر: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 لعل مفيدات الزمان يفدنني ... بني صامت في غير شيء يضيره قال شيخ أعرابي: اللهم لا تنزلني ماء سوء، فأكون امرأ سوء. قال: وسمعت عمر بن هبيرة يقول في دعائه: اللهم إني أعوذ بك من صديق يطري، وجليس يغري، وعدو يسري. قال: وكتب ابن سيابة إلى صديق له، أما مستقرضا وأما مستفرضا، فذكر صديقه خلة شديدة، وكثرة عيال، وتعذر الأمور عليه، فكتب إليه ابن سيابة: «إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا، وإن كنت مليما فجعلك الله معذورا» . وقال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: أعوذ بك من الفواقر والبواقر «1» ومن جار السّوء في دار المقامة والظعن، وما ينكّس برأس المرء ويغري به لئام الناس. قال الأصمعي: قيل لخالد بن نضلة: قال عبد يغوث بن وقاص ما أذم، ما فيها إلا عطنى «2» ، ليس خالد بن نضلة. يعني مضر. قال خالد: اللهم إن كان كاذبا فاقتله على يد الأم حي في مضر! فقتلته تيم الرّباب. قالوا: وقف سائل من الأعراب على الحسن فقال: رحم الله عبدا أعطى من سعة، وآسى من كفاف، وآثر من قلة. وقال: في الأثر المعروف: «حصنوا أموالكم بالزكاة، وادفعوا أمواج البلاء بالدعاء» . ومن دعائهم: أعوذ بك من بطر الغنى، وذلة الفقر. قال: ومن دعاء السلف: اللهم أحملنا من الرّجلة، واغننا من العيلة «3» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 وسأل أعرابي فقيل له: بورك فيك! فتوالى ذلك عليه من غير مكان، فقال: وكلكم الله إلى دعوة لا تحضرها نية. وقال أعرابي: أعوذ بك من سقم وعدواه، وذي رحم ودعواه، ومن فاجر وجدواه، ومن عمل لا ترضاه. وسأل أعرابي فقال له صبي من جوف الدار: بورك فيك! فقال: قبّح الله هذا الفم، لقد تعود الشر صغيرا! وهذا السائل هو الذي يقول: ربّ عجوز عرمس زبون ... سريعة الردّ على المسكين «1» تحسب أن «بوركا» يكفيني ... إذا غدوت باسطا يميني وقال آخر: اللهم أعني على الموت وكربته، وعلى القبر وغمّته، وعلى الميزان وخفته، وعلى الصراط وزلته، وعلى يوم القيامة وروعته. وقالت عجوز وبلغها موت الحجّاج: اللهم إنك امته فأمت سنته. قال: وكان محمد بن علي بن الحسين بن علي يقول: اللهم أعني على الدنيا بالغنى، وعلى الآخرة بالتقوى. وقال عمرو بن عبيد: اللهم أغنني بالإفتقار إليك، ولا تفقرني بالإستغناء عنك. وقال عمرو: اللهم أعني على الدنيا بالقناعة، وعلى الدين بالعصمة. قال: ومرض عوف بن أبي جميلة، فعاده قوم فجعلوا يثنون عليه، فقال: دعونا من الثناء، وأمدونا بالدعاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 قال: وسمعت عمر بن هبيرة يقول: اللهم إني أعوذ بك من طول الغفلة وإفراط الفطنة. اللهم لا تجعل قولي فوق عملي، ولا تجعل أسوأ عملي ما قارب أجلي. وقال أبو مرجح: اللهم اجعل خير عملي ما ولي أجلي. قال: ودعت أعرابية لرجل فقالت: كبت «1» الله كل عدو لك، إلا نفسك. وقال يزيد بن جبل: أحرس أخاك إلا من نفسه. قال: ودعا أعرابي فقال: اللهم هب لي حقك، وارض عني خلقك. قال: وكان قوم نساك في سفينة في البحر، فهاجت الريح بأمر هائل، فقال رجل منهم: اللهم قد أريتنا قدرتك فأرنا عفوك ورحمتك. قال: وسمع مطرف بن عبد الله رجلا يقول: استغفر الله وأتوب إليه! فأخذ بذراعه وقال: لعلك لا تفعل! من وعد فقد أوجب. وقال رجل لأبن قثم: كيف أصبحت؟ قال: إن كان من رأيك أن تسد خلّتي، وتقضي ديني، وتكسو عربي خبرتك، وإلا فليس المجيب بأعجب من السائل. وقال آخر: اللهم امتعنا بخيارنا، واعنا على شرارنا، واجعل الأموال في سمحائنا. وقال أعرابي: اللهم إنك قد أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا أنفسنا فاعف عنا. وقال أعرابي ورأى إبل رجل قد كثرت بعد قلة، فقيل له: إنه قد زوج أمه فجاءته بنافجة «2» ، فقال: اللهم إنا نعوذ بك من بعض الرزق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 أبو مجيب الربعي قال: قال أعرابي: جنبك الله الأمرّين، وكفاك شر الأجوفين. الأجوفان: البطن والفرج. والأمران: الجوع والعري. وجاء في الحديث: «من وقي شر قبقبه وذبذبه ولقلقه فقد وقي الشر كله» «1» . وقال أعرابي: منحكم الله منحة ليست بجدّاء ولا نكداء «2» ، ولا ذات داء. قال: قيل لأبراهيم المحلّمي: أي رجل أنت لولا حدة فيك! قال: استغفر الله مما أملك، واستصلحه ما لا أملك. وقال أعرابي ومات ابن له: اللهم إني قد وهبت له ما قصر فيه من برّي، فهب له ما قصر فيه من طاعتك. الفضل بن تميم قال: قال أبو حازم: لأنا من أن أمنع الدعاء أخوف مني من أن أمنع الإجابة. قال: ولما صاف قتيبة بن مسلم الترك وهاله أمرهم سأل عن محمد بن واسع، وقال: أنظروا ما يصنع؟ فقالوا: ما هو ذاك في أقصى الميمنة جانحا على سية قوسه، ينضنض «3» باصبعه نحو السماء. قال قتيبة: تلك الأصبع الفاردة أحب إلي من مائة ألف سيف شهير، وسنان طرير «4» . وقال سعيد بن المسيب، ومر به صلة بن أشيم: يا أبا الصهباء، أدع الله لي بدعوات. قال: زهدك الله في الفاني، ورغّبك في الباقي، ووهب لك يقينا تسكن إليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 أبو الدرداء قال: إن أبغض الناس إليّ أن أظلمه من لم يستعن علي إلا بالله. وقال خالد بن صفوان: احذروا مجانيق الضعفاء! يعني الدعاء. وقال لا يستجاب إلا لمخلص أو مظلوم. قال: وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: اللهم إن ذنوبي لا تضرك، وإن رحمتك إياي لا تنقصك، فاغفر لي ما لا يضرك، واعطني ما لا ينقصك. وقال أعرابي: اللهم إنك حبست عنا قطر السماء، فذاب الشحم، وذهب اللحم، ورق العظم، فارحم أنين الآنة، وحنين الحانة. اللهم أرحم تحيرها في مراتعها، وأنينها في مرابضها. قال: وحجت أعرابية فلما صارت بالموقف قالت: أسألك الصحبة، يا كريم الصحبة، وأسألك سترك الذي لا تزيله الرياح، ولا تخرقه الرماح. وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: كم بين الأرض والسماء؟ قال: دعوة مستجابة. قالوا: كم بين المشرق إلى المغرب؟ قال: مسيرة يوم للشمس، ومن قال غير هذا فقد كذب. قال: وحج أعرابي فقال: اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله، وإن كان في الأرض فأخرجه، وإن كان نائيا فقربه، وإن كان قريبا فيسّره. أبو عثمان البقطريّ، عن عبد الله بن مسلم الفهري قال: لما ولي مسروق «1» السلسلة إنبرى له شاب فقال له: وقال الله خشية الفقر وطول الأمل، حتى لا تكون دريّة للسفهاء، ولا شينا على الفقهاء. وقال أعرابي في دعائه: اللهم لا تخيّبني وأنا أرجوك، ولا تعذبني وأنا أدعوك. اللهم فقد دعوتك كما أمرتني، فأجبني كما وعدتني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 وقال عبد الله بن المبارك: قالت عائشة: يا بني لا تطلبوا ما عند الله من عند غير الله مما يسخط الله. قال: وقال رجل من النساك: إن ابتليت أن تدخل مع ناس على السلطان فإذا أخذوا في الثناء فعليك بالدعاء. وكان الفضل بن الربيع يقول: مسألة الملوك عن حالهم من تحية النوكى وتقرّب الحمقى، عليكم بأوجز الدعاء. وقال الكذاب الحرمازي «1» : لا همّ إن كانت بنو عميره ... رهط التلبّ دعوة مستوره قد أجمعوا لحلفة مصبوره ... وأجمعوا كأنهم قاروره «2» في غنم وابل كثيره ... فابعث عليهم سنة قاشوره «3» تحتلق المال احتلاق النّوره «4» وقال أعرابي: لا همّ أنت الرب تستغاث ... لك الحياة ولك الميراث وقد دعاك الناس فاستغاثوا ... غياثهم وعندك الغياث ولم يكن سيبك يستراث «5» ... لم يبق إلا عكرش انكاث «6» وشيجة أصولها مثّاث ... وطاحت الألبان والأرماث «7» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 وكان سعد بن أبي وقاص يسمى: «المستجاب الدعوة» . وقال لعمر حين شاطره ماله: لقد هممت. فقال له عمر: لتدعو الله علي؟ قال: نعم. قال: إذن لا تجدني بدعاء ربي شقيا. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كم من ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لابره «1» » . منهم البراء بن مالك. واجتمع الناس إليه وقد دهمهم العدو، فأقسم على الله، فمنحهم الله أكتافهم. الأصمعي وأبو الحسن قالا: أخبرنا ابراهيم بن حبيب بن الشهيد، عن أبيه، أو عن غيره، قال: بلغ سعدا شيء فعله المهلّب في العدو، والمهلب يومئذ فتى، فقال سعد: «اللهم لا تره ذلا» . فيرون أن الذي ناله المهلب بتلك الدعوة. وقال الآخر: الموت خير من ركوب العار ... والعار خير من دخول النار والله من هذا وهذا جاري قالها الحسن بن علي رضي الله عنهما. وقال الآخر، وكان قد وقع في الناس وباء جارف، وموت ذريع، فهرب على حماره، فلما كان في بعض الطريق ضرب وجه حماره إلى حيّه وقال: لن يسبق الله على حمار ... ولا على ذي ميعة مطار أو يأتي الحتف على مقدار ... قد يصبح الله أمام الساري الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 قال: سمع مجاشع الرّبعيّ رجلا يقول: الشحيح اعذر من الظالم! فقال إن شيئين خيرهما الشح لناهيك بهما شرا. قال المغيرة بن عيينة: سمع عمر بن الخطاب رحمه الله رجلا يقول في دعائه: اللهم اجعلني من الأقلين! قال عمر: ما هذا الدعاء؟ قال: سمعت الله يقول: وَقَلِيلٌ ما هُمْ ، وسمعته يقول: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ. فقال عمر: عليك من الدعاء بما يعرف. وقال ناس من الصحابة لعمر: ما بال الناس كانوا إذا ظلموا في الجاهلية فدعوا استجيب لهم ونحن لا يستجاب لنا وإن كنا مظلومين؟ قال: كانوا ولا مزاجر لهم إلا ذاك، فلما أنزل الله عز وجلّ الوعد والوعيد، والحدود، والقود والقصاص، وكلهم إلى ذلك. وقال عمر بن الخطاب: إن في يوم كذا وكذا من شهر كذا لساعة لا يدعو الله فيها أحد إلا استجيب له. فقال له قائل: أرأيت أن دعا فيها منافق؟ قال: فإن المنافق لن يوفق لتلك الساعة. ولما صعد المنبر قابضا على يد العباس يوم الإستسقاء، ولم يزد على الدعاء والإستغفار فقيل له: إنك لم تستسق وإنما كنت تستغفر. قال: «قد استسقيت بمجاديح «1» السماء» . ذهب إلى قوله: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً. وكان عمر حمل الهرمزان مع جماعة في البحر فغرقوا. قال ابن سيرين: لو كان دعا عليهم بالهلاك لهلكوا. قال: وقال محمد بن علي لأبنه: يا بني إذا أنعم الله عليك نعمة فقل: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 الحمد لله. وإذا حزبك «1» أمر فقل: لا حول ولا قوة إلا بالله. وإذا أبطأ عنك رزق فقل: استغفر الله. قالوا: كان محمد بن علي لا يسمع المبتلى لإستعادة من البلاء. قال: وقال قوم ليزيد بن أسد: أطال الله بقاءك! قال: دعوني أمت وفيّ بقية تبكون بها علي. ورأى سالم بن عبد الله سائلا يسأل يوم عرفة فقال: يا عاجز، في هذا اليوم تسأل غير الله؟! قال: وكان رجل من الحكماء يقول في دعائه: اللهم احفظني من الصديق. وكان آخر يقول: اللهم اكفني بوائق «2» الثقاب. وحدثني صديق لي كان قد ولي ضياع الري قال: قرأت على باب شيخ منهم: «جزى الله من لا نعرف ولا يعرفنا أحسن الجزاء، ولا جزى من نعرف ويعرفنا إلا ما هو أهله، إنه عدل لا يجور» . وكان على رشوم «3» عمر بن مهران التي كان يرشم بها على الطعام: «اللهم احفظه ممن يحفظه» . وقال المغيرة بن شعبة في كلام له: إن المعرفة لتنفع عند الكلب العقور، والجمل الصور، فكيف بالرجل الكريم. أبو الحسن قال: قالت امرأة من الأعراب: «اللهم إني أعوذ بك من شر قريش وثقيف، وما جمعت من اللفيف، وأعوذ بك من عبد ملك أمره، ومن عبد ملأ بطنه» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 قال: مر عمر بن عبد العزيز برجل يسبّح بالحصى فإذا بلغ المائة عزل حصاة، فقال له عمر: ألق الحصى واخلص الدعاء. وكان عبد الملك بن هلال الهنائي عنده زنبيل ملآن حصى، فكان يسبح بواحدة واحدة، فإذا مل شيئا طرح ثنتين ثنتين، ثم ثلاثا ثلاثا، فإذا مل قبض قبضة وقال: سبحان الله بعدد هذا، فإذا مل شيئا قبض قبضتين وقال: سبحان الله بعدد هذا، فإذا ضجر أخذ بعروتي الزنبيل وقلبه، وقال: سبحان الله بعدد هذا كله، وإذا بكر لحاجة لحظ الزنبيل لحظة وقال: سبحان الله عدد ما فيه. قال غيلان: إذا أردت أن تتعلم الدعاء، فاسمع دعاء الأعراب. قال سعيد بن المسيب: مر بي صلة بن أشيم، فما تمالكت أن نهضت إليه فقلت: يا أبا الصهباء، أدع الله لي. فقال: رغبك الله فيما يبقى، وزهدك فيما يفنى، ووهب لك اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا تعول في الدين إلا عليه. أبو الحسن قال: سمع رجل بمكة رجلا يدعو لأمه، فقال له: ما بال أبيك؟ قال: هو رجل يحتال لنفسه. أبو الحسن عن عروة بن سليمان العبدي قال: كان عندنا رجل من بني تميم يدعو لأبيه ويدع أمه، فقيل له في ذلك، فقال: إنها كلبية! ورفع أعرابي يده بمكة قبل الناس فقال: اللهم اغفر لي قبل أن يدهمك الناس! وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله يحب الملحين في الدعاء» . وقال آخر: دعوتان أرجو أحداهما وأخاف الأخرى: دعوة مظلوم اعنته، ودعوة ضعيف ظلمته. قال: كان من دعاء أبي الدرداء: اللهم امتعنا بخيارنا، واعنا على شرارنا، واجعلنا خيارا كلنا، وإذا ذهب الصالحون فلا تبقنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 وقال آخر لبعض السلاطين: أسألك بالذي أنت بين يديه أذلّ مني بين يديك، وهو على عقابك أقدر منك على عقابي، إلا نظرت في أمري نظر من برئي أحب إليه من سقمي. قالوا: وكان مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير يقول: اللهم إنك أمرتنا بما أمرتنا به ولا نقوى عليه إلا بعونك، ونهيتنا عما نهيتنا ولا ننتهي عنه إلا بعصمتك، واقعة علينا حجتك، غير معذورين فيما بيننا وبينك، ولا مبخوسين فيما عملنا لوجهك. عبد العزيز بن أبان «1» ، عن سفيان، في قوله: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ : كان أحدهم إذا أراد أن يدعو قال: سبحانك اللهم. سفيان عن بن جريج، عن عكرمة «2» ، قال في قوله تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما قال: كان موسى عليه السلام يدعو وهارون يؤمن، فجعلهما الله داعيين. قال: ولما وقع يونس في البحر وقد وكّل به حوت، فلما وقع إبتلعه فأهوى به إلى قرار الأرض، فسمع تسبيح الحصى، فنادى يونس في الظلمات أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ قال: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل. وقال الله تبارك وتعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. وفي الحديث المرفوع، إن من دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أعوذ بك من قلب لا يخشع، وبطن لا يشبع، ودعاء لا يسمع» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 علي بن سليم، أن قيس بن سعد قال: اللهم ارزقني حمدا ومجدا. فإنه لا حمد إلا بفعال، ولا مجد إلا بمال. عوف قال: قال رجل في مجلس الحسن: ليهنئك الفارس! قال له الحسن: فلعله حامر «1» . إذا وهب الله لرجل ولدا فقل: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب، وبلغ أشده، ورزقت بره. *** أبو سلمة الأنصاريّ قال: كان عمر بن عبد العزيز يقول: ما أحسن تعزية أهل اليمن! وتعزيتهم: لا يحزنكم الله ولا يفتنكم، وأثابكم ما أثاب المتقين الشاكرين، وأوجب لكم الصلاة والرحمة. قال: وكان أبو بكر- رحمه الله- إذا عزّى رجلا قال: ليس مع العزاء مصيبة، ولا مع الجزع فائدة. الموت أشد ما قبله، وأهون ما بعده. أذكروا فقد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تهن عندكم مصيبتكم. صلى الله على محمد، وعظم الله أجركم. وكان علي بن أبي طالب- رحمه الله- إذا عزى قوما قال: إن تجزعوا فأهل ذلك الرحم، وإن تصبروا ففي ثواب الله عوض من كل فائت. وإن أعظم مصيبة أصيب بها المسلمون محمد، صلّى الله عليه وسلّم، وعظم أجركم. وعزى عبد الله بن عباس، عمر بن الخطاب رحمهما الله: على بني له مات فقال: غوضك الله منه ما عوضه منك. وهذا الصبي الذي مات هو الذي كان عمر بن الخطاب قال فيه: ريحانة أشمها، وعن قريب ولد بارّ، أو عدوّ حاضر. *** سفيان قال: كان أبو ذر يقول: اللهم أمتعنا بخيارنا، واعنا على شرارنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 قال: ودعا أعرابي فقال: اللهم إني أعوذ بك من الفقر المدقع، والذل المضرع. عزّت امرأة المنصور على ابي العباس، مقدمه مكة فقالت: عظم الله أجرك، فلا مصيبة أعظم من مصيبتك، ولا عوض أعظم من خلافتك. قالوا: وقال عمر بن عبد العزيز، وقد سمعوا وقع الصواعق، ودويّ الريح، وصوت المطر، فقال وقد فزع الناس: هذه رحمته فكيف نقمته! وقال أبو اسحاق: اللهم إن كان عذابا فاصرفه، وإن كان صلاحا فزد فيه، وهب لنا الصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء. اللهم إن كانت محنة فمنّ علينا بالعصمة، وإن كان عقابا فمنّ علينا بالمغفرة. قال أبو ذرّ: الحمد لله الذي جعلنا من أمّة تغفر لهم السيئات، ولا تقبل من غيرهم الحسنات. وكان الفضل بن الربيع يقول: المسألة للملوك من تحية النوكى. فإذا أردت أن تقول كيف أصبحت؟ فقل: صبّحك الله بالخير. وإذا أردت أن تقول: كيف تجدك؟ فقل: انزل الله عليك الشفاء والرحمة. قال أحمد الهجيمي أبو عمر، أحد أصحاب عبد الواحد بن زيد: اللهم يا أجود الأجودين، ويا أكرم الأكرمين، ويا أعفى العافين، ويا أرحم الراحمين، ويا أحكم الحاكمين، ويا أحسن الخالقين، فرج عني فرجا عاجلا تاما، هنيئا مباركا لي فيه، إنك على كل شيء قدير. وكان عبد الله الشّقري، وهو الكعبي أحد أصحاب المضمار، من غلمان عبد الواحد بن زيد- وكنية عبد الواحد أبو عبيدة- يقول: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك. اللهم هب لي يقينا، وأدم لي العافية. وافتح عليّ باب رزقي في عافية. وأعوذ بك من النار والعار، والكذب والسخف، والخسف والقذف والحقد والغصب. وحببني إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 خلقك، وحببهم إلي. وأسألك فرجا عاجلا في عافية، إنك على كل شيء قدير. دعاء الغنوي في حبسه: أعوذ بك من السجن والدّين، والسّبّ والضرب، ومن الغلّ والقيد، ومن التعذيب والتخييس «1» . وأعوذ بك من الحور بعد الكور «2» ، ومن شر العدوى في النفس والأهل والمال. وأعوذ بك من الخوف والحزن، وأعوذ بك من الهم والأرق، ومن الهرب والطلب، ومن الإستخذاء والاستخفاء «3» ، ومن الإطراد والإغراب، ومن الكذب والعضيهة «4» ، ومن السعاية والنميمة، ومن لؤم القدرة، ومقام الخزي في الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير. ومن دعائه أيضا: أسألك اللهم طول العمر في الأمن والعافية، والحلم والعلم والحزم، والأخلاق الحسنة والأفعال المرضية، واليسر والتيسير، والنماء والتثمير، وطيب الذكر وحسن الأحدوثة، والمحبة في الخاصة والعامة. وهب لي ثبات الحجة، والتأييد عند المنازعة والمخاصمة، وبارك لي في الموت إنك على كل شيء قدير. وكان صالح المريّ كثيرا ما يردد في مجلسه: أعوذ بك من الخسف والمسخ، والرجفة والزلزلة، والصاعقة والريح المهلكة، وأعوذ بك من جهد البلاء، ومن شماتة الأعداء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 وكان يقول: اعوذ بك من التعب والتعدر، والخيبة وسوء المنقلب. اللهم من أرادني بخير فيسّر لي خيره، ومن أرادني بشرّ فاكفني شره. اللهم إني أسألك خصب الرّحل «1» ، وصلاح الأهل. وكان عيسى بن أبي المدور يقول: أعوذ بك من القلة والذلة، ومن الإهانة والمهنة، والإخفاق والوحدة. وأعوذ بك من الحيرة وقلة الحيلة، وأعوذ بك من جهد البلاء، وشماتة الأعداء. محمد بن عبد الله «2» قال: قال عمر بن الخطاب رحمه الله: من أعطى الدعاء لم يحرم الإجابة. قال الله: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ . ومن أعطي الشكر لم يحرم الزيادة، لقوله عز وجل: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ. ومن أعطي الإستغفار لم يحرم القبول، لقوله عز وجل: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وقال عمر بن الخطاب رحمه الله: كونوا أوعية الكتاب، وينابيع العلم، وسلوا الله رزق يوم بيوم. وروى محمد بن علي عن آبائه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا سألتم الله فسلوه بباطن الكفين، وإذا استعذتموه فاستعيذوه بظاهرهما» . وقال آخر: اللهم إني أعوذ بك من بطر الغنى وذلة الفقر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 أبو سعيد المؤدب، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة قالت: «سلوا ربكم حتى الشسع «1» ، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر» . سحيم، عن طاوس قال: يكفي من الدنيا ما يكفي العجين من الملح. قال: سأل رجل رجلا حاجة، فقال المسؤول: إذهب بسلام. فقال السائل: قد أنصفنا من ردنا إلى الله في حوائجنا. مجالد عن الشعبي قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم أذهب ملك غسان، وضع مهور كندة» . قال عمر بن الخطاب: «لكل شيء رأس، ورأس المعروف تعجيله» . [أصل العرب ولغتهم] القول في إنطاق الله عز وجل اسماعيل بن ابراهيم عليهما السلام، بالعربية المبينة على غير التلقين والتمرين، وعلى غير التدريب والتدريج، وكيف صار عربيا أعجميّ الأبوين. وأول من عليه أن يقرّ بهذا القحطاني، فإنه لا بد من أن يكون له أب كان أول عربي من جميع بني آدم صلّى الله عليه وسلّم. ولو لم يكن ذلك كذلك وكان لا يكون عربيا حتى يكون أبوه عربيا وكذلك أبوه وكذلك جده كان ذلك موجبا لأن يكون نوح صلّى الله عليه وسلّم عربيا، وكذلك آدم صلّى الله عليه وسلّم. قال أبو عبيدة: حدثنا مسمع بن عبد الملك عن أبي جعفر محمد بن علي ابن الحسين عن آبائه قال: أول من فتق لسانه بالعربية المبينة اسماعيل، وهو ابن أربع عشرة سنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «شهدت الفجار «1» وأنا ابن أربع عشرة سنة، وكنت أنبل على عمومتي» . يريد: أجمع لهم النبل. قال أبو عبيدة: فقال له يونس: صدقت يا أبا يسار هكذا حدثني نصر بن ظريف. وروى قيس بن الربيع «2» ، عن بعض أشياخه عن ابن عباس: إن الله ألهم اسماعيل العربية الهاما. قال الله تبارك وتعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ . قال: قد يرسل الله الرسول إلى قومه، ولو أرسل في ذلك الوقت إلى قوم اخرين لما كان الثاني ناقضا للأول. فإذا كان الأمر كذلك كان قومه أول من يفهم عنه، ثم يصيرون حجة على غيرهم. وإذا كان الله عز وجل بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم إلى العجم فضلا عن العرب، فقحطان وإن لم يكونوا من قومه أحق بلزوم الفرض من سائر العجم. وهذا الجواب جواب عوام النزارية. فأما الخواصّ الخلّص فإنهم قالوا: العرب كلهم شيء واحد، لأن الدار والجزيرة واحدة، والأخلاق والشيم واحدة، واللغة واحدة، وبينهم من التصاهر والتشابك، والإتفاق في الأخلاق وفي الأعراق، ومن جهة الخؤولة المردّدة والعمومة المشتبكة، ثم المناسبة التي بنيت على غريزة التربة وطباع الهواء والماء، فهم في ذلك بذلك شيء واحد في الطبيعة واللغة، والهمة والشمائل، والمرعى والراية، والصناعة والشهوة. فإذا بعث الله عز وجل نبيا من العرب فقد بعثه إلى جميع العرب، وكلهم قومه، لأنهم جميعا يد على العجم، وعلى كل من حاربهم من الأمم، لأن تناكحهم لا يعدوهم، وتصاهرهم مقصور عليهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 قالوا: والمشاكلة من جهة الإتفاق في الطبيعة والعادة، ربما كانت أبلغ وأوغل من المشاكلة من جهة الرّحم. نعم حتى تراه أغلب عليه من أخيه لأمه وأبيه. وربما كان أشبه به خلقا وخلقا، وأدبا ومذهبا. فيجوز أن يكون الله تبارك وتعالى حين حول اسماعيل عربيا أن يكون كما حوّل طبع لسانه إلى لسانهم، وباعده عن لسان العجم، أن يكون أيضا حول سائر غرائزه، وسلخ سائر طبائعه، فنقلها كيف أحب، وركبها كيف شاء. ثم فضله بعد ذلك بما عطاه من الأخلاق المحمودة، واللسان البين، بما لم يخصهم به. فكذلك يخصه من تلك الأخلاق ومن تلك الأشكال بما يفوقهم ويروقهم. فصار بإطلاق اللسان على غير التلقين والترتيب. وبما نقل من طباعه ونقل إليه من طبائعهم، وبالزيادة التي أكرمه الله بها، أشرف شرفا وأكرم كرما. وقد علمنا أن الخرس والأطفال إذا دخلوا الجنة وحوّلوا في مقادير البالغين، وإلى الكمال والتمام، لا يدخلونها إلا مع الفصاحة بلسان أهل الجنة. ولا يكون ذلك إلا على خلاف الترتيب والتدريج والتعليم والتقويم. وعلى ذلك المثال كان كلام عيسى بن مريم، صلّى الله عليه وسلّم، في المهد، وإنطاق يحيى عليه السلام بالحكمة صبيا. وكذلك القول في آدم وحواء عليهما السلام. وقد قلنا في ذئب أهبان بن أوس، وغراب نوح، وهدهد سليمان، وكلام النملة، وحمار عزير «1» ، وكذلك كل شيء أنطقه الله بقدرته، وسخره لمعرفته. وإنما يمتنع البالغ من المعارف من قبل أمور تعرض من الحوادث، وأمور في أصل تركيب الغريزة. فإذا كفاهم الله تلك الآفات، وحصنهم من تلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 الموانع، ووفر عليهم الذكاء، وجلب اليهم جياد الخواطر، وصرف أوهامهم إلى التعرف، وحبب إليهم التبين، وقعت المعرفة وتمت النعمة. والموانع قد تكون من قبل الأخلاط الأربعة على قدر القلة والكثرة، والكثافة والرقة. ومن ذلك ما يكون من جهة سوء العادة، وإهمال النفس، فعندما يستوحش من الفكرة، ويستثقل النظر. ومن ذلك ما يكون من الشواغل العارضة، والقوى المتقسمة. ومن ذلك ما يكون من خرق المعلم، وقلة رفق المؤدب، وسوء صبر المثقف. فإذا صفى الله ذهنه ونقحه، وهذبه وثقفه، وفرغ باله، وكفاه إنتظار الخواطر، وكان هو المفيد له والقائم عليه، والمريد لهدايته، لم يلبث أن يعلم. وهذا صحيح في الأوهام، غير مدفوع في العقول. وقد جعل الله الخال أبا. وقالوا: «الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم» . وقد رأينا إختلاف صور الحيوان، على قدر إختلاف طبائع الأماكن. وعلى قدر ذلك شاهدنا اللغات والأخلاق والشهوات. ولذلك قالوا: «فلان ابن بجدتها» ، و «فلان بيضة البلد» ، يقع ذما ويقع حمدا. وقال زياد: «والله للكوفة أشبه بالبصرة من بكر بن وائل بتميم» » . ويقولون: «ما أشبه الليلة بالبارحة» ، كأنهم قالوا: ما أشبه زمان يوسف ابن عمر بزمان الحجاج. وقال سهل بن عمرو: «أشبه أمرأ بعض بزه «1» » . وقال الأضبط بن قريع: «بكل واد بنو سعد» . ولولا أن الله عز وجل أفرد إسماعيل من العجم، وأخرجه بجميع معانيه إلى العرب، لكان بنو اسحاق أولى به. وإنما ذلك كرجل قد أحاط علمه بأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 هذا الطفل من نجل هذا الرجل، ولكن لما كان من سفاح لم يجز أن يضيفه إليه ويدعوه أباه. وقد جعل الله نسب ابن الملاعنة نسب أمه، وإن كان ولد على فراش أبيه. وقد أرسل الله موسى وهارون، إلى فرعون وقومه وإلى جميع القبط، وهما أمتان: كنعاني وقبطي. وقد جعل الله قوم كل نبي هم المبلغين والحجة. ألا ترى أنا نزعم أن عجز العرب عن مثل نظم القرآن حجة على العجم من جهة إعلام العرب العجم أنهم كانوا عن ذلك عجزة. وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خصصت بأمور: منها أني بعثت إلى الأحمر والأسود، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا» . فدل بذلك على أن غيره من الرسل إنما كان يرسل إلى الخاص. وليس يجوز لمن عرف صدق ذلك الرسول من الأمم أن يكذبه وينكر دعواه. والذي عليه ترك الإنكار والعمل بشريعة النبي الأول. هذا فرق ما بين من بعث إلى البعض، ومن بعث إلى الجميع. [إستحقاق الخلافة] قال: وقال حباب بن المنذر «1» يوم السقيفة: «أنا جذيلها «2» المحكّك، وعذيقها المرجّب «3» ، إن شئتم كررناها جذعة «4» . منا أمير ومنكم أمير، فإن عمل المهاجري شيئا في الأنصاري رد ذلك عليه الأنصاري، وإن عمل الأنصاري شيئا في المهاجري رد عليه المهاجري» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 فأراد عمر الكلام فقال أبو بكر: «على رسلك. نحن المهاجرون، أول الناس إسلاما، وأوسطهم دارا، وأكرم الناس أحسابا، وأحسنهم وجوها، وأكثر الناس ولادة في العرب، وأمسهم رحما برسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أسلمنا قبلكم وقدمنا في القرآن عليكم، فأنتم إخواننا في الدين وشركاؤنا في الفيء، وأنصارنا على العدو، آويتم ونصرتم ووآسيتم، فجزاكم الله خيرا. نحن الأمراء وأنتم الوزراء. لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش، وأنتم محقوقون ألا تنفسوا على أخوانكم من المهاجرين ما ساق الله إليهم» . قالوا: فإنا قد رضينا وسلمنا. عيسى بن يزيد قال: قال أبو بكر رحمه الله: «نحن أهل الله، وأقرب الناس بيتا من بيت الله، وأمسهم رحما برسول الله صلّى الله عليه وسلّم. إن هذا الأمر إن تطاولت له الخزرج لم تقصر عنه الأوس، وإن تطاولت له الأوس لم تقصر عنه الخزرج. وقد كان بين الحيين قتلى لا تنسى، وجرحى لا تداوى. فإن نعق منكم ناعق فقد جلس بين لحيي «1» أسد، يضغمه المهاجري ويجرحه الأنصاري» . قال ابن دأب: فرماهم والله بالمسكتة. من حديث ابن أبي سفيان بن حويطب، عن أبيه عن جده قال: قدمت من عمرتي فقال لي أهلي: أعلمت أن أبا بكر بالموت؟ فأتيته فإذا عيناه تذرقان، فقلت: يا خليفة رسول الله أليس كنت أول من أسلم وثاني إثنين في الغار، فصدقت هجرتك وحسنت نصرتك، ووليت فأحسنت صحبتهم، واستعملت خيرهم عليهم؟ قال: وحسنا ما صنعت؟ قلت: نعم والله. قال: الله؟! والله أشكر له واعلم به، ولا يمنعني ذلك من أن أستغفر الله. فما خرجت حتى مات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 أبو الخطاب الزراري، عن حجناء بن جرير قال: قلت يا أبه، إنك لم تهج أحد إلا وضعته، إلا التّيم؟ قال: لأني لم أجد حسبا فأضعه، ولا بناء فأهدمه! قال: وقيل للفرزدق: أحسن الكميت في مدائحه، في تلك الهاشميات! قال: وجد آجرا وجصا فبنى. عامر بن الأسود قال: دخل رجل من ولد عامر بن الظرب على عمر بن الخطاب رحمه الله، فقال له: خبرني عن حالك في جاهليتك، وعن حالك في إسلامك. قال: أما في جاهليتي فما نادمت فيها غير لمة، ولا هممت فيها بأمة، ولا خست فيها عن بهمة «1» ، ولا رآني راء إلا في ناد أو عشيرة، أو حمل جريرة، أو خيل مغيرة. عوانة قال: قال عمر: الرجال ثلاثة: رجل ينظر في الأمور قبل أن تقع فبصدرها مصدرها، ورجل متوكل لا ينظر فإذا نزلت به نازلة شاور أهل الرأي وقبل قولهم، ورجل حائر بائر «2» ، لا يأتمر رشدا، ولا يطيع مرشدا. قال: كلم علباء بن الهيثم السدوسي عمر بن الخطاب في حاجة، وكان أعور دميما، جيد اللسان حسن البيان، فلما تكلم في حاجته فأحسن، صعد عمر بصره فيه وحدره، فلما أن قام قال: «لكل أناس في جميلهم خبر» . أخبرنا عن عيسى بن يزيد عن أشياخه قال: قدم معاوية المدينة فدخل دار عثمان، فقالت عائشة بنت عثمان: وا أبتاه! وبكت، فقال معاوية: أبنت أخي إن الناس أعطونا طاعة وأعطيناهم أمانا، وأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، ومع كل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 إنسان سيفه، وهو يرى مكان أنصاره، وإن نكثنا بهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا، ولأن تكوني بنت عم أمير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عرض المسلمين. وقالت عائشة إبنة عثمان في أبان بن سعيد بن العاصي حين خطبها، وكان نزل بأيلة «1» وترك المدينة: نزلت ببيت الضبّ لا أنت ضائر ... عدوا ولا مستنفعا أنت نافع أبو الحسن قال: قال سلامة بن روح الجذامي، لعمرو بن العاص: أنه كان بينكم وبين العرب باب فكسرتموه، فما حملكم على ذلك؟ قال: أردنا أن نخرج الحق من جفير «2» الباطل. قدم ببيعة علي إلى الكوفة يزيد بن عاصم المحاربي، فبايع أبو موسى، فقال عمار لعلي: والله لينقضن عهده، وليحلن عقده، وليقرن جهده، وليسلمن جنده. وقال عليّ في رواية الشعبي: حملت إليكم درّة عمر لأضربكم بها لتنتهوا فأبيتم، حتى اتخذت الخيزرانة فلم تنتهوا. وقد أرى الذي تريدون: السيف. وإني لا أصلحكم بفسادي. [مقطعات شعرية] كانت العادة في كتاب الحيوان أن أجعل في كل مصحف من مصاحفها عشر ورقات من مقطّعات الأعراب، ونوادر الأشعار، لما ذكرت عجبك بذلك، فأحببت أن يكون حظ هذا الكتاب في ذلك أوفر إن شاء الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 قال همّام الرقاشيّ: أبلغ أبا مسمع عني مغلغلة ... وفي العتاب حياة بين أقوام «1» قدّمت قبلي رجالا لم يكن لهم ... في الحق أن يلجوا الأبواب قدامي لو عدّ قبر وقبر كنت أكرمهم ... قبرا وأبعدهم من منزل الذام «2» حتى جعلت إذا ما حاجتي عرضت ... بباب دارك أدلوها بأقوام «3» وقال أبو العرف الطهوي: وافى الوفود فوافى من بني حمل ... بكر الوفادة فاتي السنّ عرزوم كزّ الملاطين في السربال حيث مشى ... وفي المجالس لحاظ زراميم «4» لما رأى الباب والبواب أخرجه ... لؤم مخالطه جبن وتجزيم «5» قد كان لي بكم علم وكان لكم ... ممشى وراء ظهور القوم معلوم وقال الحارث بن حلّزة- قال أبو عبيدة: أنشدنيها أبو عمرو، وليست إلا هذه الأبيات. والباقي مصنوع: يأيها المزمع ثم انثنى ... لا يثنك الحازي ولا الشاحج «6» ولا قعيد أعضب قرنه ... هاج له من مرتع هائج «7» بينا الفتى يسعى ويسعى له ... تاح له من أمره خالج «8» يترك ما رقّح من عيشه ... يعيث فيه همج هامج «9» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 قلت لعمرو حين أرسلته ... وقد حبا من دوننا عالج «1» لا تكسع الشول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج «2» واصبب لأضيافك ألبانها ... فإن شرّ اللبن الوالج وقال زبّان بن سيّار بن جاير: تخبّر طيرة فيها زياد ... لتخبره وما فيها خبير أقام كأنّ لقمان بن عاد ... أشار له بحكمته مشير تعلّم أنه لا طير إلا ... على متطير وهو الثبور «3» بلى شيء يوافق بعض شيء ... أحايينا وباطله كثير ومن ينزح به لا بد يوما ... يجيء به نعيّ أو بشير وقال بعض الأعراب: نجية بطّال لدن شبّ همه ... لعاب الغواني والمدام المشعشع «4» جلا المسك والحمام والبيض كالدمى ... وفرق المداري رأسه فهو أنزع أسليم ذاكم لا خفا بمكانه ... لعين تدحّى أو لأذن تسمّع من النفر الشّمّ الذين إذا أنتموا ... وهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا إذا النفر السود اليمانون حاولوا ... له حوك برديه أرقّوا وأوسعوا وقال بعض الأعراب: ألبان إبل تعلّة بن مسافر ... ما دام يملكها عليّ حرام وطعام عمران بن أوفى مثله ... ما دام يسلك في البطون طعام إن الذين يسوغ في أعناقهم ... زاد يمنّ عليهم للئام لعن الاله تعلة بن مسافر ... لعنا يشنّ عليه من قدام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 وقال بعض الأعراب: جيبة قرم شادها القتّ والنوى ... بيثرب حتى نيّها متظاهر فقلت لها سيري فما بك علة ... سنامك ملموم ونابك فاطر فمثلك أو خيرا تركت رذية ... تقلّب عينيها إذا مرّ طائر «1» وقال بعض الأعراب- مجهول الاسم- وهو من جيد محدث أشعارهم: حفرنا على رغم اللهازم حفرة ... ببطن فليج والأسنة جنّح وقد غضبوا حتى إذا ملأوا الربى ... رأوا أن إقرارا على الضيم أروح وقال رجل من محارب: وقائلة تطوّف في جداد ... وأنت، إخال، معطى لو تقوم فقلت الضاربات الطلح وهنا ... على يمن إذا وضح النجوم قصرن عليّ بعد الله فقري ... فلا أسل الصديق ولا ألوم وقال بعض الطائيين، وهو حاتم: وإني لأستحيي حياء يسرني ... إذا اللؤم من بعض الرجال تطلّعا إذا كان أصحاب الإناء ثلاثة ... حييا ومستحيا وكلبا مجشّعا «2» فإني لأستحيي أكيلي أن يرى ... مكان يدي من جانب الزاد أقرعا أكف يدي من أن تمسّ أكفهم ... إذا نحن أهوينا وحاجتنا معا وإنك مهما تعط بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذمّ أجمعا وقال، وأظنها لبعض اليهود: وإني لأستبقي، إذا العسر مسني، ... بشاشة وجهي حين تبلى المنافع واعفي ثرا قومي، ولو شئت نولوا ... إذا ما تشكّى الملحف المتضارع «3» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 مخافة أن أقلى إذا جئت زائرا ... وترجعني نحو الرجال المطامع «1» فأسمع منّا أو أشرّف منعما ... وكل مصادي نعمة متواضع «2» وقال بعض بني أسد: ألا جعل الله اليمانين كلهم ... فدى لفتى الفتيان يحيي بن حيان ولو عريق فيّ من عصبية ... لقلت وألفا من معدّ بن عدنان ولكن نفسي لم تطب بعشيرتي ... وطبت له نفسا بأبناء قحطان وقال ثروان- أو ابن ثروان- مولى لبني عذرة: لو كنت مولى قيس عيلان لم تجد ... عليّ لإنسان من الناس درهما لكنني مولى قضاعة كلها ... فلست أبالي أن أدين وتغرما أولئك قومي بارك الله فيهم ... على كل حال ما أعفّ وأكرما جفاة المحزّ لا يصيبون مفصلا ... ولا يأكلون اللحم إلا تخذّما «3» وقال آخر: أيا إبنة عبد الله وإبنة مالك ... ويا إبنة ذي البردين والفرس الورد إذا ما عملت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فإني غير آكله وحدي كريما قصيا أو قريبا فإنني ... أخاف مذمات الأحاديث من بعدي وكيف يسيغ المرء زادا وجاره ... خفيف المعى بادي الخصاصة والجهد «4» وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد وإني لعبد الضعيف ما دام ثاويا ... وما فيّ إلا تلك من شيمة العبد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 وقال ابن عبدل: ولو شاء بشر كان من دون بابه ... طماطم سود أو صقالبة حمر ولكن بشرا سهّل الباب للتي ... يكون لبشر غبها الحمد والأجر «1» بعيد مراد العين ما ردّ طرفه ... جذار الغواشي باب دار ولا ستر «2» وقال بعض الحجازيين: لو كنت أحمل خمرا يوم زرتكم ... لم ينكر الكلب أني صاحب الدار لكن أتيت وريح المسك يفعمني ... والعنبر الورد أذكيه على النار «3» فأنكر الكلب ريحي حين أبصرني ... وكان يعرف ريح الزق والقار وقال أبن عبدل: نعم جار الخنزيرة المرضع الغر ... ثى إذا ما غدا، أبو كلثوم طاويا قد أصاب عند صديق ... من غذاء ملبق مأدوم «4» ثم أنحى بجعره حاجب الشم ... س فألقى كالمعلف المهدوم «5» وقال حبيب بن أوس: وحياة القريض إحياؤك الجو ... د فإن مات الجود مات القريض يا محبّ الإحسان في زمن أص ... بح فيه الإحسان وهو بغيض وقال: ثم أطرحتم قراباتي واصرتي ... حتى توهمت أني من بني أسد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 وقال: وطلعة الشعر أقلى في عيونهم ... وفي صدورهم من طلعة الأسد وقال: إياك يعني القائلون بقولهم ... إن الشقيّ بكلّ حبل يخنق سر حيث شئت من البلاد فلي بها ... سور عليك من الرجال وخندق وقال: من شاعر وقف الكلام ببابه ... واكتنّ في كنفي ذراه المنطق «1» قد ثقّفت منه الشام، وسهّلت ... منه الحجاز، ورققته المشرق وقال: بنو عبد الكريم نجوم ليل ... ترى في طييء أبدا تلوح إذا كان الهجاء لهم ثوابا ... فخبرني لمن خلق المديح وقال: أي شيء يكون أحسن من ص ... بّ أديب متيم بأديب وقال: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحبّ إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل وقال: إشرب فإنك سوف تعلم أنه ... قدح يصيب العرض منه خمار غاداك أسوار الكلام بشرّد ... عون القريض حتوفها أبكار غرر مني ما شئت كن شواهدي ... إن لم يكن لي والد عطّار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 وقال سلمة بن الخرشب الأنماري: ابلغ سبيعا وأنت سيدنا ... قدما وأوفى رجالنا ذمما أنّ بغيضا وأن أخوتها ... ذبيان قد ضرّموا الذي اضطرما نبئت أن حكّموك بينهم ... فلا يقولنّ بئس ما حكما إن كنت ذا عرفة بشأنهم ... تعرف ذا حقهم ومن ظلما وتنزل الأمر في منازله ... حزما وعزما وتحضر الفهما ولا تبالي من المحق ولا المب ... طل لا إلّة ولا ذمما فاحكم وأنت الحكيم بينهم ... لن يعدموا الحكم ثابتا صتما واصدع أديم السواء بينهم ... على رضا من رضي ومن رغما إن كان مال فقضّ عدّته ... مالا بمال وإن دما فدما هذا وإن لم تطق حكومتهم ... فانبذ إليهم أمورهم سلما وقال آخر: أبلغ ضرارا أبا عمرو مغلغلة ... إن كان قولك ظهر الغيب يأتينا إرهن قبيصة إن صلح هممت به ... إنّ ضرارا لكم رهن بما فينا إن ضحيكا قتيل من سراتكم ... وإن حطّان منا، فاعدلوا الدينا وانه عبيدا فلا يؤذي عشيرته ... نهيك خير له من نهي ناهينا وقال آخر: بني عدي ألا يا أنهوا سفيهكم ... إن السفيه إذا لم ينه مأمور وقال حضرمي بن عامر الأسدي، ومات أخوه فقال جزء: قد فرح بأكل الميراث: قد قال جزء ولم يقل امما ... إني تروحت ناعما جذلا «1» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 إن كنت أزننتني بها كذبا ... جزء فلاقيت مثلها عجلا «1» أفرح إن أرزأ الكرام وإن ... أورث ذودا شصائصا نبلا «2» وقال حريث بن سلمة بن مرارة: تقول ابنة العمري لما رأيتها: ... تنكرت حتى كدت منك أهال فإن تعجبي مني عمير فقد أتت ... ليال وأيام علي طوال وإني لمن قوم تشيب سراتهم ... كذاك وفيهم نائل وفعال ولو لقيت ما كنت ألقى من العدى ... إذا شاب منها مفرق وقذال ولكنها في كلّة كلّ شتوة ... وفي الصيف كن بارد وحجال «3» تصان وتعلى المسك حتى كأنها ... إذا وضعت عنها النصيف غزال وقال بعض الخوارج لأمرأته وأرادت أن تنفر معه: إن الحروريّة الحرّى إذا ركبوا ... لا يستطيع لهم أمثالك الطلبا أن يركبوا فرسا لا تركبي فرسا ... ولا تطيقي مع الرجالة الخببا وقال خزر بن لوذان لامرأته في شبيه بهذا: لا تذكري مهري وما أطعمته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب إن الغبوق له وأنت مسوءة ... فتأوهي ما شئت ثم تحوّبي كذب العتيق وماء شنّ بارد ... إن كنت سائلتي غبوقا «4» فاذهبي إني لأخشى أن تقول خليلتي: ... هذا غبار ساطع فتلّب إن العدوّ لهم إليك وسيلة ... أن يأخذوك تكحّلي وتخضّبي ويكون مركبك القعود وحدجه ... وابن النعامة يوم ذلك مركبي وأنا أمرؤ إن يأخذوني عنوة ... أقرن إلى شر الركاب وأجنب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 وأراد أعرابي أن يسافر فطلبت إليه امرأته أن تكون معه، فقال: إنك لو سافرت قد مذحت «1» ... وحكك الحنوان فانفشحت «2» وقلت هذا صوت ديك تحتي المذح: سحج «3» الفخذين بالأخرى. وفي شبيه بالمعنى الأول يقول عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة: وأعجبها من عيشها ظلّ غرفة ... وريان ملتف الحدائق أخضر ووال كفاها كلّ شيء يهمها ... فليست لشيء آخر الليل تسهر وقال سلامة بن جندل هذه الأبيات وبعث بها إلى صعصعة بن محمود بن مرثد، وكان أخوه أحمر بن جندل أسيرا في يده فأطلقه له: سأجزيك بالود الذي كان بيننا ... أصعصع إني سوف أجزيك صعصعا سأهدي وإن كنا بتثليث مدحة ... إليك وإن حلّت بيوتك لعلعا فإن يك محمود أباك فإننا ... وجدناك محمود الخلائق أروعا فإن شئت أهدينا ثناء ومدحة ... وإن شئت أهدينا لكم مائة معا قال: الثناء والمدحة أحب إلينا. وقال أوس بن حجر، حين حبس وأقام عند فضالة بن كلدة، وتولت خدمته حليمة بنت فضالة، شاكرا لذلك: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 لعمرك ما ملت ثواء ثويها ... حليمة إذ ألقي مراسي مقعدي «1» ولكن تلقّت باليدين ضمانتي ... وحلّ بفلج فالقنافذ عوّدي «2» وقد غبرت شهري ربيع كليهما ... بحمل البلايا والخباء الممدّد «3» ولم تلهها تلك التكاليف إنها ... كما شئت من أكرومة وتخرّد «4» هي ابنة أعراق كرام نمينها ... إلى خلق عفّ برازته قد سنجزيك أو يجزيك عنا مثوّب ... وحسبك أن يثني عليك وتحمدي وقال الخريميّ: فلم أجزه إلا المودة جاهدا ... وحسبك مني أن أودّ فأجهدا وقال الأسدي: فإني أحبّ الخلد لو أستطيعه ... وكالخلد عندي أن أموت ولم ألم وقال الحادرة: فأثنوا علينا لا أبا لأبيكم ... بأحسابنا، إن الثناء هو الخلد وأنشدني الأصمعي لمهلهل: فقتلا بتقتيل وعقرا بعقركم ... جزاء العطاس لا يموت من اتّأر وضاف أبو شليل العنزيّ بني حكم- فخذا من عنزة- فقال: أراني في بني حكم غريبا ... على قتر أزور ولا أزار أناس يأكلون اللحم دوني ... وتأتيني المعاذر والقتار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 وقال آخر: إذا مدّ أرباب البيوت بيوتهم ... على رجّح الأكفال ألوانها زهر فإن لنا منها خباء يحفنا ... إذا نحن أمسينا: المجاعة والفقر وقال الآخر، وهو أبو المهوّش الأسديّ: تراه يطوّف الآفاق حرصا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد وقال أيضا: وبنو الفقيم قليلة أحلامهم ... ثطّ «1» اللحى متشابهو الألوان لو يسمعون بأكلة أو شربة ... بعمان أصبح جمعهم بعمان متأبطين بنيهم وبناتهم ... صعر الأنوف لريح كلّ دخان وقال الآخر: وجيرة لن ترى في الناس مثلهم ... إذا يكون لهم عيد وإفطار إن يوقدوا يوسعونا من دخانهم ... وليس يبدو لنا ما تنضج النار وقال أبو الطروق الضبّيّ، في خاقان بن عبد الله بن الأهتم: شكّ الناس في خاقان لما ... أتى لولاده سنة وشهر وقالت أخته إني براء ... إلى الرحمن منك وذاك نكر ولم تسمع بحمل قبل هذا ... أتى من دونه دهر ودهر فنافرها فألحقه شبيب ... وأثبته فثاب عليه وفر وقال مكّيّ بن سوادة البرجمي فيه: تحير اللؤم يبغي من يحالفه ... حتى تناهى إلى أبناء خاقان أزرى بكم يا بني خاقان إنكم ... من نسل حجّامة من قنّ هزّان سفاكة لدماء القوم آكلة ... قدما لأموالهم من غير سلطان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 لو تسألون بها أيوب جاءكم ... على الذي قلت أيوب ببرهان أيام تعطيه خرجا من حجامتها ... يوما فيوما توفّيه بأربان «1» فإن رددتم عليه ما يقول أتى ... على مقالته فيها بتبيان ثم اشتراها أبو خاقان حين عست ... فالتقطت نطفة منه باقطان «2» فاستدخلتها ولا تدري بما فعلت ... حتى إذا ارتكضت جاءت بخاقان «3» وقال اللعين المنقري «4» في آل الأهتم: وكيف تسامون «5» الكرام وأنتم ... دوارج حيريون فدع القوائم بنو ملصق «6» من ولد حذلم لم يكن ... ظلوما ولا مستنكرا للمظالم وقال الآخر: قالت عهدتك مجنونا فقلت لها ... إن الشباب جنون برؤه الكبر وقال أعرابي، وهو أبو حيّة النميريّ: رمتني وستر الله بيني وبينها ... عشية آرام الكناس رميم ألا ربّ يوم لو رمتني رميتها ... ولكن عهدي بالنضال قديم رميم التي قالت لجارات بيتها ... ضمنت لكم ألا يزال يهيم وقال أبو يعقوب الأعور: بقلبي سقام لست أحسن وصفه ... على أنه ما كان فهو شديد تمر به الأيام تسحب ذيلها ... فتبلى به الأيام وهو جديد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 وقال الثقفي: من كان ذا عضد يدرك ظلامته ... إن الذليل الذي ليست له عضد تنبو يداه إذا ما قلّ ناصره ... ويأنف الضيم إن أثرى له عدد وقال أشجع السلمي «1» ، في هارون أمير المؤمنين: وعلى عدوك يا بن عم محمد ... رصدان: ضوء الصبح والأظلام فإذا تنبّه رعته وإذا هدا ... سلّت عليه سيوفك الأحلام وقال: انتجع الفضل أو تخلّ من الدن ... يا فهاتان غايتا الهمم وقال: أبت طبرستان إلا التي ... يعمّ البريّة من دائها ضممت مناكبها ضمة ... رمتك بما بين أحشائها قالوا: لم يدع الأول للآخر معنى شريفا ولا لفظا بهيا إلا أخذه، إلا بيت عنترة: فترى الذباب بها يغني وحده ... هزجا كفعل الشارب المترنّم غردا يسنّ ذراعه بذراعه ... فعل المكبّ على الزّناد الأجذم وقال الفقيمي، قاتل غالب أبي الفرزدق: وما كنت نوّاما ولكن ثائرا ... أناخ قليلا فوق ظهر سبيل وقد كنت مجرور اللسان ومفحما ... فأصبحت أدري اليوم كيف أقول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 وقال أبو المثلّم الهذلي: أصخر بن عبد الله إن كنت شاعرا ... فإنك لا تهدي القريض لمفحم وقال الهذلي «1» : على عبد بن زهرة طو ... ل هذا الليل أنتحب أخ لي دون من لي من ... بني عم وإن قربوا طوى من كان ذا نسب ... إلي وزاده النسب أبو الأضياف والأيتا ... م ساعة لا يعدّ أب ألا لله درّك من ... فتى قوم إذا ركبوا وقالوا من فتى ... للثغر يرقبنا ويرتقب فكنت أخاهم حقا ... إذا تدعى لها تثب وقد ظهر السوايغ في ... هم والبيض واليلب أقام لدى مدينة آ ... ل قسطنطين وانقلبوا نجيبا حين يدعى، إ ... ن آباء الفتى نجب وقال أدهم بن محرز الباهلي: لما رأيت الشيب قد شان أهله ... تفتّيت وابتعت الشباب بدرهم وقال آكل المرار الملك «2» : إن من غرّه النساء بشيء ... بعد هند لجاهل مغرور حلوة العين واللسان، ومرّ ... كل شيء يجنّ منها الضمير كل أنثى وإن بدت لك منها ... آية الحب، حبها خيتعور «3» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 وقال طفيل الغنويّ: إن النساء كأشجار نبتن معا ... منها المرار وبعض المرّ مأكول إن النساء متى ينهين عن خلق ... فإنه واجب لا بد مفعول لا ينثنين لرشد إن صرفن له ... وهنّ بعد ملاويم مخاذيل وقال علقمة بن عبدة «1» : فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب إذا قلّ مال المرء أو شاب رأسه ... فليس له من ودّهنّ نصيب يردن ثراء المال حيث علمنه ... وشرح الشباب عندهن عجيب وقال أبو الشّغب السّعديّ: أبعد بني الزهراء أرجو بشاشة ... من العيش أو أرجو رخاء من الدهر غطارفة زهر مضوا لسبيلهم ... ألهفي على تلك الغطارفة الزهر يذكرنيهم كلّ خير رأيته ... وشر فما أنفكّ منهم على ذكر وقال أبو حزابة «2» ، في عبد الله بن ناشرة: ألا لا فتى بعد ابن ناشرة الفتى ... ولا خير إلا قد تولّى وأدبرا وكان حصادا للمنايا ازدرعنه ... فهلا تركن النبت ما كان أخضرا لحا الله قوما أسلموك ورفّعوا ... عناجيج أعطتها يمينك ضمّرا «3» أما كان فيهم فارس ذو حفيظة ... يرى الموت في بعض المواطن أعذرا يكرّ كما كرّ الكليبي بعدما ... رأى الموت تحدوه الأسنة أحمرا فكر عليه الورد يدمي لبانه ... وماكر إلا رهبة أن يعيّرا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 وقال أعرابي: رعاك ضمان الله يا أمّ مالك ... ولله أن يشقيك أغنى وأوسع يذكرنيك الخير والشر والذي ... أخاف وأرجو والذي أتوقّع وقال دريد بن الصّمّة: وقالوا ألا تبكي أخاك، وقد أرى ... مكان الأسى لكن بنيت على الصبر فقلت أعبد الله أبكي أم الذي ... على الجدث النائي قتيل أبي بكر وعبد يغوث أو نديمي خالدا ... وعزّ المصاب وضع قبر حذا قبر أبى القتل إلا آل صمة أنهم ... أبوا غيره والقدر يجري إلى القدر فأما ترينا لا تزال دماؤنا ... لدى واتر يسعى بها آخر الدهر فإنا للحم السيف، غير نكيرة ... ونلحمه حينا وليس بذي نكر يغار علينا واترين فيشتفى ... بنا إن أصبنا أو نغير على وتر قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا ... فلا ينقضي إلا ونحن على شطر وقال الآخر: إذا ما تراءاه الرجال تحفّظوا ... فلم تنطق العوراء وهو قريب حبيب إلى الزوّار غشيان بيته ... جميل المحيا شبّ وهو أديب فتى لا يبالي أن يكون بجسمه ... إذا نال خلّات الكرام شحوب حليم إذا ما الحلم زيّن أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب حليف الندى يدعو الندى فيجيبه ... قريبا ويدعوه الندى فيجيب يبيت الندى يا أم عمرو ضجيعه ... إذا لم يكن في المنقيات حلوب يقول: إذا كان الجدب ولم يكن للمال لبن فهو وهوب مطعام في هذا الزمن. والمنقيات: المهازيل التي ذهب نقيهن. والنقي: مخ العظام وشحم العين، وجمعه أنقاء. وناقة منقية، أي ذات نقي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 وقال الآخر: ألا ترين وقد قطّعتني عذلا ... ماذا من الفوت بين البخل والجود «1» إلّا يكن ورق يوما أجود به ... للمعتفين فإني ليّن العود «2» وإلى هذا ذهب أبن يسير حيث يقول: لا يعدم السائلون الخير أفعله ... إما نوالى وإما حسن مردودي وقال الهذليّ: وهّاب ما لا تكاد النفس ترسله ... من التلاد وصول غير منّان قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: ومن الشوارد التي لا أرباب لها قوله: أن يفخروا أو يغدروا ... أو يبخلوا لا يحفلوا وعدوا عليك مرجل ... ين كأنهم لم يفعلوا كأبي براقش كلّ لو ... ن لونه يتخيل ومثله في بعض معانيه: أكول لأرزاق العيال إذا شتا ... صبور على سوء الثناء وقاح وقال: وما نفى عنك قوما أنت خائفهم ... كمثل وقمك جهالا بجهال «3» فاقعس إذا حدبوا وأحدب إذا قعسوا ... ووازن الشر مثقالا بمثقال «4» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 وقال الراجز: وقد تعللت ذميل العنس ... بالسوط في ديمومة كالترس «1» إذ عرّج الليل بروح الشمس «2» وقال الراجز: قد كنت إذ حبل صباك مدمش ... وإذ أهاضيب الشباب تبغش «3» وقال الراجز: طال عليهن تكاليف السّرى ... والنصّ في حين الهجير والضحى «4» حتى عجاهنّ فما تحت العجى» رواعف يخضبن مبيضّ الحصى «6» سمع ذلك أبن وهيب فرام مثله فقال: تخضب مروا دما نجيعا ... من فرط ما تنكب الحوامي «7» وقال عامر ملاعب الأسنة «8» : دفعتكم عني وما دفع راحة ... بشيء إذا لم تستعن بالأنامل يضعضعني حلمي وكثرة جهلكم ... علي، وإني لا أصول بجاهل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 وقال آخر: لا بدّ للسودد من أرماح ... ومن سفيه دائم النباح ومن عديد يتقي بالراح وقال أبو نخيلة لبعض سادات بني سعد: وأن القوم سوّدوك لفاقة ... إلى سيد لو يظفرون بسيد وتمثّل سفيان بن عيينة وقد جلس على مرقب عال، وأصحاب الحديث مدى البصر يكتبون، بقول الآخر: خلت الديار فسدت غير مسوّد ... ومن الشقاء تفرّدي بالسّودد وقال الأول في الأحنف: وإنّ من السادات من لو أطعته ... دعاك إلى نار يفور سعيرها وقال الآخر: فأصبحت بعد الحلم في الحي ظالما ... تخمط فيهم والمسوّد يظلم «1» وقال رجل من بني الحارث بن كعب، يقال له سويد: إني إذا ما الأمر بيّن شكّه ... وبدت بصائره لمن يتأمل وتبرأ الضعفاء من إخوانهم ... وألحّ من حرّ الصميم الكلكل «2» أدع التي هي أرفق الخلّات بي ... عند الحفيظة للتي هي أجمل وقال الآخر: ذهب الذين أحبهم فرطا ... وبقيت كالمغمور في خلف من كل مطويّ على حنق ... متضجع يكفى ولا يكفي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 وقال أبو الطمحان القيني: فكم فيهم من سيد وابن سيد ... وفيّ بعقد الجارحين يفارقه يكاد الغمام الغرّ يزعب أن رأى ... وجوه بني لأم وينهل بارقه «1» وقال طفيل الغنوي: وكان هريم من سنان خليفة ... وعمرو ومن أسماء لما تغيبوا نجوم سماء كلما غاب كوكب ... بدا وانجلت عنه الدجنة كوكب وقال رجل من بني نهشل: أنا لمن معشر أفنى أوائلهم ... قول الكماة لهم أين المحامونا لو كان في الألف منا واحد فدعوا ... من عاطف خالهم إياه يعنونا «2» وليس يذهب منا سيّد أبدا ... إلا افتلينا غلاما سيّدا فينا «3» وقال بعض الحجازيين: إذا طمع يوما عراني قريته ... كتائب بأس كرّها وطرادها «4» أكدّ ثمادى والمياه كثيرة ... أعالج منها حفرها واكتدادها «5» وأرضى بها من بحر آخر أنه ... هو الري إن ترضى النفوس ثمادها وقال أبو محجن الثقفي: ألم تسل الفوارس من سليم ... بنضلة وهو موتور مشيح رأوه فازدروه وهو خرق ... وينفع أهله الرجل القبيح «6» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 فلم يخشوا مصالته عليهم ... وتحت الرغوة اللبن الصريح «1» فكرّ عليهم بالسيف صلتا ... كما عضّ الشبا الفرس الجموح «2» فأطلق غلّ صاحبه وأردى ... جريحا منهم ونجا جريح وقال بعض اليهود: سئمت وأمسيت رهن الفرا ... ش من حمل قوم ومن مغرم ومن سفه الرأي بعد النهى ... ورمت الرشاد فلم يفهم فلو أن قومي أطاعوا الحلي ... م ولم يتعد ولم يظلم ولكن قومي أطاعوا السفي ... هـ حتى تعكّظ أهل الدم «3» فأودى السفيه برأي الحلي ... م فانتشر الأمر لم يبرم وقال بعض الشعراء: وكنت جليس قعقاع بن شور ... ولا يشقى بقعقاع جليس ضحوك السن إن نطقوا بخير ... وعند الشر مطراق عبوس وقال الآخر: ولست بدمّيجة في الفرا ... ش وجابة يحتمي أن يجيبا ولا ذي قلازم عند الحياض ... إذا ما الشريب أراب الشريبا وقال حجل بن نضلة: جاء شقيق عارضا رمحه ... إن بني عمّك فيهم رماح «4» هل أحدث الدهر لنا نكبة ... أم هل رقت أم شقيق سلاح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 وقال: ويل أمّ لذات الشباب معيشة ... مع الكثر يعطاه الفتى المتلف النّد وقد يقصر القلّ الفتى دون همه ... وقد كان لولا القلّ طلاع أنّجد «1» وقال الآخر: قامت تخاصرني بقبتها ... خود تأطّر غادة بكر كلّ يرى أن الشباب له ... في كل مبلغ لذة عذر وقال سعد بن ربيعة بن مالك بن سعد بن زيد مناة، وهو من قديم الشعر وصحيحه: ألا إنما هذا السلال الذي ترى ... وإدبار جسمي من ردى العثرات وكم من خليل قد تجلدت بعده ... تقطّع نفسي بعده حسرات وقال الطرمّاح في هذا المعنى: وشيبني أن لا أزال مناهضا ... بغير ثرا أشرو به وأبوع أمخترمي ريب المنون ولم أنل ... من المال ما أعصي به وأطيع وقال الأضبط بن قريع: لكلّ همّ من الهموم سعه ... والمسي والصبح لا فلاح معه فصل حبال البعيد إن وصل ال ... حبل واقص القريب إن قطعه وخذّ من الدهر ما أتاك به ... من قرّ عينا بعيشه نفعه لا تحقرنّ الفقير علك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 وقال أعرابي، ونحر ناقة في حطمة «1» أصابتهم: أكلنا الشوى حتى إذا لم نجد شوى ... أشرنا إلى خيراتها بالأصابع وللسيف أحرى أن تباشر حده ... من الجوع لا تثنى عليه المضاجع لعمرك ما سليت نفسا شحيحة ... عن المال في الدنيا بمثل المجاوع وقدم ناقة له أخرى إلى شجرة ليكون المحتطب قريبا من المنحر، فقال: أدنيتها من رأس عشاء عشّة ... مفصّلة الأفنان صهب فروعها وقلت لها لما شددت عقالها ... وبالكفّ ممهاة شديد وقوعها لقد غنيت نفسي عليك شحيحة ... ولكن يسخّي شحّة النفس جوعها وقال أسقف نجران: منع البقاء تصرف الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي وطلوعها بيضاء صافية ... وغروبها صفراء كالورس اليوم نعلم ما يجيء به ... ومضى بفصل قضائه أمس وقال الآخر: وهلك الفتى أن لا يراح إلى الندى ... وأن لا يرى شيئا عجيبا فيعجبا «2» ومن يتتبّع مني الظلع يلقني ... إذا ما رآني أصلع الرأس أشيبا وقال سحيم بن وثيل الرياحي «3» : تقول حدراء ليس فيك سوى ال ... خمر معيب يعيبه أحد فقلت أخطأت بل معاقرتي ال ... خمر وبذلي فيها الذي أجد هو الثناء الذي سمعت به ... لا سبد مخلدي ولا لبد «4» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 ويحك لولا الخمور لم أحفل ال ... عيش ولا أن يضمني لحد هي الحيا والحياة واللهو لا ... أنت ولا ثروة ولا ولد وقال عبد راع: غضبت علي لأن شربت بجزّة ... فلئن أبيت لأشربن بخروف ولئن نطقت لأشربنّ بنعجة ... حمراء من آل المذال سحوف وقال: ناحت رقية من شاة شربت بها ... ولا تنوح على ما يأكل الذيب وقال أبو حفص القريعي: قد تغربت للشقاوة حينا ... حين بذلت بالسعادة نوقا يوم فارقت بلدتي وقراري ... وتبدلت سوء رأي وموقا «1» ليت عندي بخير معزاي عشر ... طيلسانا من الطراز عتيقا وبخمس منهن أيضا قميصا ... سابريا أميس فيه رقيقا «2» قد هجرت النبيذ مذهنّ عندي ... وتمززت رسلهن مذيقا «3» فوجدت المذيق يوجع بطني ... ووجدت النبيذ كان صديقا يعد النفس بالعشي مناها ... ويسلّ الهموم سلا رفيقا وكان فتى طيّب من ولد يقطين لا يصحو، وكان في أهله روافض يخاصمون في أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي، وطلحة والزبير، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، فقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 ربّ عقار باذرنجية ... اصطدتها من بيت دهقان «1» جندرت أرواحا وطيبتها ... بعد اتساخ طال في ألحان سكتا وسلتا لم نخض في أذى ... من قتل عثمان بن عفّان ولا أبي بكر ولا طلحة ... ولا زبير يوم عثمان الله يجزيهم بأعمالهم ... ليس علينا علم ذا الشان وقال المنّحل اليشكري «2» : ولقد شربت من المدا ... مة بالقليل وبالكثير ولقد شربت من المدا ... مة بالصغير وبالكبير ولقد شربت الخمر بال ... خيل الإناث وبالذكور فإذا سكرت فإنني ... ربّ الخورنق والسدير وإذا صحوت فإنني ... ربّ الشويهة والبعير يا ربّ يوم للمنخّ ... ل قد لها فيه قصير وقال بعضهم لزائر له ورآه يومي إلى امرأته، وهو أبو عطاء السندي: كل هنيئا وما شربت مريئا ... ثم قم صاعرا فغير كريم لا أحبّ النديم يومض بالعي ... ن إذا ما خلا بعرس النديم وقال الآخر، وتعرضت له امرأة صاحبه: ربّ بيضاء كالقضيب تثني ... قد دعتني لوصلها فأبيت ليس شأني تحرّجا غير أني ... كنت ندمان زوجها فاستحيت وقال الآخر: فلا والله لا ألفى وشربا ... أنازعهم شرابا ما حييت ولا والله ما ألفى بليل ... أراقب عرس جاري ما بقيت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 سأترك ما أخاف علي منه ... مقالته وأجمله السكوت أبى لي ذاك آباء كرام ... وأجداد تمجدهم ربيت وقال السحيميّ: ما لي وجه في اللئام ولا يد ... ولكن وجهي في الكرام عريض أهشّ إذا لاقيتهم وكأنني ... إذا أنا لاقيت اللئام مريض وقال ابن كناسة: في انقباض وحشمة فإذا ... لاقيت أهل الوفاء والكرم خليت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غير محتشم وقال عبد الرحمن بن الحكم: وكأس نرى بين الإناء وبينها ... قذى العين قد نازعت أمّ أبان ترى شاربيها حين يعتقبانها ... يميلان أحيانا ويعتدلان فما ظنّ ذا الواشي بأبيض ماجد ... وبدّاء خود حين يلتقيان «1» وقال رمّاح بن ميّادة- وكان الأصمعي يقول: ختم الشعر بالرمّاح. وأظن النابغة أحد عمومته-: ألا ربّ خمار طرقت بسدفة ... من الليل مرتادا لندماني الخمرا فأنهلته خمرا وأحلف أنها ... طلاء حلال كي يحملني الوزرا «2» وقال آخر: ولقد شربت الخمر حتى خلتني ... لما خرجت أجرّ فضل المئزر قابوس أو عمرو بن هند قاعدا ... يجبى له ما بين دارة قيصر في فتية بيض الوجوه خضارم ... عند الندام عشيرهم لم يخسر «3» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 وقال ابن ميّادة: ومعتّق حرم الوقود كرامة ... كدم الذبيح تمجّه أوداجه «1» ضمن الكروم له أوائل حمله ... وعلى الدنان تمامه ونتاجه من الشعر السياسي: وأنشد اللائح لبعض الروافض: إذا المرجي سرّك أن تراه ... يموت بدائه من قبل موته فجدّد عنده ذكرى علي ... وصلّ على النبي وأهل بيته وقال بعضهم في البرامكة: إذا ذكر الشّرك في مجلس ... أنارت وجوه بني برمك وإن تليت عندهم آية ... أتوا بالأحاديث عن مزدك وقال آخر: لعن الله آل برمك إني ... صرت من أجلهم أخا أسفار إن يك ذو القرنين قد مسح الأر ... ض فإني موكل بالعيار «2» وقال آخر: إن الفراغ دعاني ... إلى ابتناء المساجد وإن رأيي فيها ... كرأي يحيى بن خالد وقال أبو الهول «3» في جعفر بن يحيى بن خالد: أصبحت محتاجا إلى الضرب ... في طلب العرف إلى الكلب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 إذا شكا صبّ إليه الهوى ... قال له مالي وللصبّ أعني فتى يطعن في دينه ... يشبّ معه خشب الصلب قد وقح السبّ له وجهه ... فصار لا ينحاش للسب وقال رجل شآمي: أبعد مروان وبعد مسلمه ... وبعد اسحاق الذي كان لمه صار على الثغر فريخ الرخمه «1» ... إن لنا بفعل يحيى نقمه مهلكة مبيرة منتقمه «2» ... أكلا بني برمك أكل الحطمه «3» إن لهذا الأكل يوما تخمه ... أيسر شيء فيه حزّ الغلصمه «4» وقال الشاعر: ما رعى الدهر آل برمك لما ... أن رمى ملكهم بأمر فظيع إن دهرا لم يرع حقا ليحيى ... غير راع ذمام آل الربيع وقال سهل بن هارون في يحيى بن خالد: عدو تلاد المال فيما ينوبه ... منوع إذا ما منعه كان أحزما مذلل نفس قد أبت غير أن ترى ... مكاره ما تأتي من الحق مغنما وقال اسحاق بن حسان: من مبلغ يحيى ودون لقائه ... زبرات كلّ خنابس همهام «5» يا راعي السلطان غير مفرط ... في لين مختبط وطيب شمام «6» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 يعذي مسارحه ويصفي شربه ... ويبيت بالربوات والأعلام «1» حتى تبحبح ضاربا بجرانه ... ورست مراسيه بدار سلام «2» في كل ثغر حارس من قلبه ... وشعاع طرف لا يفتّر سام وهذا شبيه بقول العتّابي في هارون: أمام له كف يضم بنانها ... عصا الدين ممنوعا من البري عودها وعين محيط بالبرية طرفها ... سواء عليه قربها وبعيدها وأصمع يقظان يبيت مناجيا ... له في الحشا مستودعات يكيدها «3» سميع إذا ناداه من قعر كربة ... مناد كفته دعوة لا يعيدها وقال أيضا كلثوم بن عمرو العتّابي: تلوم على ترك الغنى باهليّه ... زوى الدهر عنها كل طرف وتالد رأت حولها النسوان يرفلن في الكسا ... مقلدة أجيادها بالقلائد يسّرك أني نلت ما نال جعفر ... من الملك أو ما نال يحيى بن خالد وإن أمير المؤمنين أغصني ... مغصبها بالمرهفات البوارد ذريني تجئني. ميتتي مطمئنة ... ولم أتجشم هول تلك الموارد فإن كريمات المعالي مشوبة ... بمستودعات في بطون الأساود وقال الحسن بن هانىء: عجبت لهارون الإمام وما الذي ... يروّي ويرجو فيك يا خلقة السّلق «4» قفا خلف وجه قد أطيل كأنه ... قفا ملك يقضي الحقوق على بثق «5» وأعظم زهوا من ذباب على خرا ... وأبخل من كلب عقور على عرق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 أرى جعفرا يزداد بخلا ودقة ... إذا زاده الرحمن في سعة الرزق ولو جاء غير البخل من عند جعفر ... لما وضعوه الناس إلا على الحمق ولما أنشد ابن أبي حفصة الفضل بن يحيى بن خالد: ضربت فلا شلّت يد خالدية ... رتقت بها الفتق الذي بين هاشم قال له الفضل: قل: «فلا شلّت يد برمكية» ، فخالد كثير، وليس برمك إلا واحدا. وقال سلم في يحيى، ويحيى يومئذ شاب: وفتى خلا من ماله ... ومن المروءة غير خال وإذا رأى لك موعدا ... كان الفعال مع المقال لله درّك من فتى ... ما فيك من كرم الخلال أعطاك قبل سؤاله ... فكفاك مكروه السؤال ومن جيد ما قيل فيهم: للفضل يوم الطالقان، وقبله ... يوم أناخ به على خاقان «1» ما مثل يوميه اللذين تواليا ... في غزوتين حواهما يومان عصمت حكومته جماعة هاشم ... من أن يجرّد بينها سيفان تلك الحكومة لا التي عن لبسها ... عظم الثأي وتفرّق الحكمان «2» وقال الحسن بن هانىء، في جعفر بن يحيى: ذاك الوزير الذي طالت علاوته ... كأنه ناظر في السيف بالطول «3» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 ذكروا أن جعفر بن يحيى كان أول من عرّض الجربّانات «1» لطول عنقه. وقال معدان الأعمى، وهو أبو السّريّ الشميطيّ: يوم تشفى النفوس من يعصر اللؤ ... م ويثنى بسامة الرحّال وعدي وتيمها وثقيف ... وأميّ وتغلب وهلال لا حرورا ولا النوابت تنجو ... لا ولا صحب واصل الغزّال غير كفتي ومن يلوذ بكفتي ... فهم رهط الأعور الدجال «2» وبنو الشيخ والقتيل بفخ ... بعد يحيى وموتم الأشبال سنّ ظلم الإمام في القوم زيد ... إن ظلم الإمام ذو عقّال «3» وقال الكميت: آمت نساء بني أمية منهم ... وبنوهم بمضيعة أيتام نامت جدودهم وأسقط نجمهم ... والنجم يسقط والجدود تنام خلت المنابر والأسرة منهم ... فعليهم حتى الممات سلام وقال خليفة، أبو خلف بن خليفة: أعقبي آل هاشم يا أميا ... جعل الله بيت مالك فيّا إن عصى الله آل مروان والعا ... صي لقد كان للرسول عصيا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 وقال الراعي في بني أمية: بني أميّة إن الله ملحقكم ... عما قليل بعثمان بن عفّان وقال خلف بن خليفة: لو تصفّحت أولياء علي ... لم تجد في جميعهم باهليا وقال كعب الأشقري لعمر بن عبد العزيز: إن كنت تحفظ ما يليك فإنما ... عمال أرضك بالبلاد ذئاب لن يستجيبوا للذي تدعو له ... حتى تجلّد بالسيوف رقاب بأكفّ منصلتين أهل بصائر ... في وقعهن مزاجر وعقاب هلا قريش ذكرت بثغورها ... حزم وأحلام هناك رغاب لولا قريش نصرها ودفاعها ... ألفيت منقطعا بي الأسباب فلما سمع هذا الشعر قال: لمن هذا؟ قالوا: لرجل من أزد عمان، يقال له كعب الأشقري! قال: ما كنت أظن أهل عمان يقولون مثل هذا الشعر. قال أبو اليقظان: وقام إلى عمر بن عبد العزيز رجل وهو على المنبر فقال: إن الذين بعثت في أقطارها ... نبذوا كتابك واستحلّ المحرم طلس الثياب على منابر أرضنا ... كلّ يجور وكلهم يتظلم وأردت أن يلي الأمانة منهم ... عدل وهيهات الأمين المسلم وكان زيد بن علي كثيرا ما يتمثل بقول الشاعر: شرّده الخوف وأزرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 منخرق الخفّين يشكو الوجى ... تنكبه أطراف مرو حداد قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد وقال عبد الله بن كثير السهمىّ، وكان يتشيع، لولّادة كانت نالته. وسمع عمّال خالد بن عبد الله القسري يلعنون عليا والحسين على المنابر: لعن الله من يسبّ عليا ... وحسينا من سوقة وإمام أيسبّ المطيبون جدودا ... والكرام الأخوال والأعمام «1» يأمن الظبي والحمام ولا يأ ... من آل الرسول عند المقام «2» طبت بيتا وطاب أهلك أهلا ... أهل بيت النبي والإسلام رحمة الله والسلام عليهم ... كلما قام قائم بسلام وقال حين عابوه بذلك الرأي: إن أمرأ أمست معايبه ... حبّ النبي لغير ذي ذنب وبني أبي حسن ووالدهم ... من طاب في الأرحام والصلب أيعدّ ذنبا أن أحبهم ... بل حبهم كفّارة الذنب وقال يزيد بن أبي بكر بن دأب الليثي: الله يعلم في علي علمه ... وكذاك علم الله في عثمان وقال السيد الحميري: إني امرؤ حميري غير مؤتشب ... جدي رعين وأخوالي ذوو يزن ثم الولاء الذي أرجو النجاة به ... يوم القيامة للهادي أبي الحسن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 وقال ابن أذينة: سمين قريش مانع منك لحمه ... وغثّ قريش حيث كان سمين وقال ابن الرقيات: ما نقموا من بني أمية إلا ... أنهم يحلمون إن غضبوا وأنهم معدن الملوك ولا ... تصلح إلا عليهم العرب وقال عروة بن أذينة: إذا قريش تولي خير صالحها ... فاستيقنن بأن لا خير في أحد رهط النبي وأولى الناس منزلة ... بكل خير وأثرى الناس في العدد وقال حسان بن ثابت، يرثي أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: إذا تذكّرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا التالي الثاني المحمود مشهده ... وأول الناس منهم صدّق الرسلا وثاني اثنين في الغار المنيف وقد ... طاف العدو به إذ صعد الجبلا وكان حبّ رسول الله قد علموا ... خير البرية لم يعدل به رجلا وقال بعض بني أسد: لما تخيّر ربي فارتضى رجلا ... من خلقه كان منا ذلك الرجل لنا المساجد نبنيها ونعمرها ... وفي المنابر قعدان لنا ذلل وقال يزيد بن الحكم بن أبي العاص، في شأن السقيفة: قد اختصم الأقوام بعد محمد ... فسائل قريشا حين جدّ اختصامها ألم تك من دون الخليقة أمة ... بكف امريء من آل تيم زمامها هدى الله بالصدّيق ضلال امّة ... إلى الحق لما ارفضّ عنها نظامها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 وقالت صفية في ذلك اليوم: قد كان بعدك أنباء وهنبثة ... لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب «1» أنا فقدناك فقد الأرض وابلها ... واختلّ قومك فاشهدهم فقد سغبوا «2» وقال الفرزدق: صلى صهيب ثلاثا ثم أسلمها ... إلى ابن عفان ملكا غير مقصور ولاية من أبي حفص لثالثهم ... كانوا أخلّاء مهديّ ومحبور وقال مزرّد بن ضرار يرثي عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: عليك السلام من إمام وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزّق قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ... بوائق في أكمامها لم تفتّق «3» وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفي سبنتى أزرق العين مطرق «4» وقال: وسمعوا في تلك الليلة هاتفا يقول: ليبك على الإسلام من كان باكيا ... فقد أوشكوا هلكا وما قدم العهد وأدبرت الدنيا وأدبر خيرها ... وقد ملّها من كان يوقن بالوعد وعن أبي الجحاف، عن مسلم البطين: إنا نعاقب لا أبالك عصبة ... علقوا الفري وبروا من الصديق «5» وبروا سفاها من وزير نبيهم ... تبّا لمن يبرا من الفاروق إني على رغم العداة لقائل ... دنا بدين الصادق المصدوق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 وقال الكميت: فقل لبني أمية حيث حلوا ... وان خفت المهنّد والقطيعا أجاع الله من أشبعتموه ... وأشبع من بجوركم أجيعا بمرضيّ السياسة هاشمي ... يكون حيا لأمته ربيعا وقال حرب بن المنذر بن الجارود، وكان يتفتّى ويتشيّع، في كلمة له: فحسبي من الدنيا كفاف يقيمني ... وأثواب كتّان أزور بها قبري وحبي ذوي قربى النبي محمّد ... فما سالنا إلا المودّة من أجر [دولة الأمويين ودولة العباسيين والمؤرخون العرب] وجه التدبير في الكتاب إذا طال أن يداوي مؤلّفه نشاط القاريء له، ويسوقه إلى حظّه بالإحتيال له. فمن ذلك أن يخرجه من شيء إلى شيء، ومن باب إلى باب، بعد أن لا يخرجه من ذلك الفن، ومن جمهور ذلك العلم. وقد يجب أن نذكر بعض ما انتهى إلينا من كلام خلفائنا من ولد العباس، ولو أن دولتهم عجميّة خراسانية، ودولة بني مروان عربية أعرابية وفي أجناد شاميّة. والعرب أوعى لما تسمع، واحفظ لما تأتى، ولها الأشعار التي تقيّد عليها مآثرها، وتخلّد لها محاسنها. وجرت من ذلك في إسلامها على مثل عادتها في جاهليتها، فبنت بذلك لبني مروان شرفا كثيرا ومجدا كبيرا، وتدبيرا لا يحصى. ولو أن أهل خراسان حفظوا على أنفسهم وقائعهم في أهل الشام، وتدبير ملوكهم، وسياسة كبرائهم، وما جرى في ذلك من فرائد الكلام وشريف المعاني، كان فيما قال المنصور وما فعل في أيامه، وأسّس لمن بعده ما يفي بجماعة ملوك بني مروان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 ولقد تتبّع أبو عبيدة النحوي، وأبو الحسن المدائني وهشام بن الكلبي، والهيثم ابن عدي، أخبارا قد اختلفت، وأحاديث قد تقطّعت، فلم يدركوا إلا قليلا من كثير، وممزوجا من خالص. وعلى كل حال فإنا إذ صرنا إلى بقية ما رواه العباس بن محمد، وعبد الملك بن صالح، والعباس بن موسى، واسحاق بن عيسى، واسحاق بن سليمان «1» ، وأيوب بن جعفر «2» ، وما رواه إبراهيم بن السندي عن السندي «3» ، وعن صالح صاحب المصلّي، عن مشيخة بني هاشم ومواليهم- عرفت بتلك البقية كثرة ما فات، وبذلك الصحيح أين موضع الفساد مما صنعه الهيثم بن عدي، وتكلفه هشام بن الكلبي. أخبار المنصور والمهدي والمأمون وسنذكر جملا مما انتهى إلينا من كلام المنصور ومن شأن المأمون وغيرهما وإن كنا قد ذكرنا من ذلك طرفا، ونقصد من ذلك إلى التخفيف والتقليل، فإنه يأتي من وراء الحاجة، ويعرف بجملته مراد البقية. قال: وكان المنصور داهيا أريبا، مصيبا في رأيه سديدا، وكان مقدّما في علم الكلام، ومكثرا من كتاب الآثار. ولكلامه كتاب يدور في أيدي الوراقين معروف عندهم. ولما هم بقتل أبي مسلم سقط بين الإستبداد برأيه والمشاروة فيه، فأرق في ذلك ليلته، فلما أصبح دعا باسحاق بن مسلم العقيلي، فقال له: حدثني حديث الملك الذي أخبرتني عنه بحرّان. قال: أخبرني أبي عن الحصين بن المنذر أن ملكا من ملوك فارس- يقال له سابور الأكبر- كان له وزير ناصح قد اقتبس أدبا من آداب الملوك، وشاب ذلك بفهم في الدين، فوجهه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 سابور داعية إلى أهل خراسان، وكانوا قوما عجما يعظّمون الدنيا جهالة بالدّين، ويخلّون بالدين استكانة لقوت الدنيا، وذلا لجبابرتها، فجمعهم على دعوة من الهوى يكيد به مطالب الدنيا، واغتر بقتل ملوكهم لهم وتخوّلهم إياهم- وكان يقال: «لكل ضعيف صولة، ولكل ذليل دولة» - فلما تلاحمت أعضاء الأمور التي لقح، استحالت حربا عوانا شالت أسافلها بأعاليها، فانتقل العزّ إلى أرذلهم، والنباهة إلى أخملهم، فأشربوا له حبا مع خفض من الدنيا افتتح بدعوة من الدين، فلما استوسقت له البلاد بلغ سابور أمرهم وما أحال عليه من طاعتهم، ولم يأمن زوال القلوب وغدرات الوزراء، فاحتال في قطع رجائه عن قلوبهم، وكان يقال: وما قطع الرجاء بمثل يأس ... تبادهه القلوب على اغترار فصمّم على قتله عند وروده عليه برؤساء أهل خراسان وفرسانهم، فقتله، فبغتهم بحدث، فلم يرعهم إلا ورأسه بين أيديهم، فوقف بهم بين الغربة ونأي الرجعة، وتخطّف الأعداء، وتفرّق الجماعة، واليأس من صاحبهم، فرأوا أن يستتموا الدعوة بطاعة سابور، ويتعوضوه من الفرقة، فأذعنوا له بالملك والطاعة، وتبادروه بمواضع النصيحة، فملكهم حتى مات حتف أنفه. فأطرق المنصور مليا ثم رفع رأسه وهو يقول: لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علّم الإنسان إلا ليعلما وأمر اسحاق بالخروج ودعا بأبي مسلم، فلما نظر إليه داخلا قال: قد اكتنفتك خلّات ثلاث ... جلبن عليك محذور الحمام خلافك وامتنانك ترتميني ... وقودك للجماهير العظام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 ثم وثب إليه ووثب معه بعض حشمه بالسيوف على أبي مسلم، فلما رآهم وثب، فبدره المنصور فضربه ضربة طوّحه منها «1» ، ثم قال: إشرب بكأس كنت تسقي بها ... أمرّ في الحلق من العلقم زعمت أن الدين لا يقتضى ... كذبت فاستوف أبا مجرم ثم أمر فحز رأسه وبعث به إلى أهل خراسان وهم ببابه، فجالوا حوله ساعة ثم ردّ من شغبهم إنقطاعهم عن بلادهم، وأحاطة الأعداء بهم، فدلّوا وسلّموا له. فكان اسحاق إذا رأى المنصور قال: وما أحذو لك الأمثال إلا ... لتحذو إن حذوت على مثال «2» وكان المنصور إذا رآه قال: وخلفها سابور للناس يقتدى ... بأمثالها في المعضلات العظائم وكان المهديّ يحبّ القيان وسماع الغناء، وكان معجبا بجارية يقال لها «جوهر» ، وكان اشتراها من مروان الشامي، فدخل عليه ذات يوم مروان الشامي وجوهر تغنّيه، فقال مروان: أنت يا جوهر عندي جوهرة ... في بياض الدرّة المشتهره فإذا غنت فنار ضرّمت ... قدحت في كلّ قلب شرره فاتّهمه المهدي، وأمر به فدعّ «3» في عنقه إلى أن أخرج. ثم قال لجوهر: أطربيني. فأنشأت تقول: وأنت الذي أخلفتي ما وعدتني ... واشمتّ بي من كان فيك يلوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 وأبرزتني للناس ثم تركتني ... لهم غرضا أرمى وأنت سليم فلو أن قولا يكلم الجسم قد بدا ... بجسمي من قول الوشاة كلوم «1» فقال المهدي: ألا يا جوهر القلب ... لقد زدت على الجوهر وقد أكملك الله ... بحسن الدّل والمنظر «2» إذا ما صلت، يا أح ... سن خلق الله، بالمزهر «3» وغنّيت ففاح البي ... ت من ريحك بالعنبر فلا والله ما المهدي ... أولى منك بالمنبر فإن شئت ففي كف ... ك خلع ابن أبي جعفر قال الهيثم: أنشدت هارون وهو وليّ عهد أيام موسى، بيتين لحمزة بن بيض في سليمان بن عبد الملك: حاز الخلافة والداك كلاهما ... من بين سخطة ساخط أو طائع أبواك ثم أخوك أصبح ثالثا ... وعلى جبينك نور ملك ساطع قال: يا يحيى، أكتب لي هذين البيتين. ولما مدح ابن هرمة أبا جعفر المنصور، أمر له بألفي درهم، فاستقلّها، وبلغ ذلك أبا جعفر فقال: أما يرضى إني حقنت دمه وقد استوجب إراقته، ووفّرت ماله وقد استحقّ تلفه، وأقررته وقد استأهل الطرد، وقربته وقد استجزى البعد؟ أليس هو القائل في بني أمية: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 إذا قيل من عند ريب الزمان ... لمعترّ فهر ومحتاجها «1» ومن يعجل الخيل يوم الوغى ... بالجامها قبل اسراجها أشارت نساء بني مالك ... إليك به قبل أزواجها قال ابن هرمة: فإني قد قلت فيك أحسن من هذا! قال: هاته! قال: قلت: إذا قلت أيّ فتى تعلمون ... أهشّ إلى الطعن بالذابل «2» واضرب للقرن يوم الوغى ... وأطعم في الزمن الماحل أشارت إليك أكف الورى ... إشارة غرقى إلى ساحل قال المنصور: أما هذا الشعر فمسترق، وأما نحن فلا نكافيء إلا بالتي هي أحسن. ولما إحتال أبو الأزهر المهلّب لعبد الحميد بن ربعيّ بن خالد بن معدان، وأسلمه حميد إلى المنصور قال: لا عذر فأعتذر، وقد أحاط بي الذنب وأنت أولى بما ترى: قال: لست أقتل أحدا من آل قحطبة، بل أهب مسيئهم لمحسنهم، وغادرهم لوفيهم! قال: إن لم يكن في مصطنع فلا حاجة لي في الحياة، ولست أرضى أن أكون طليق شفيع، وعتيق ابن عمّ! قال: أسكت مقبوحا مشقوحا «3» ، وأخرج فإنك أنوك جاهل، أنت عتيقهم وطليقهم ما حييت. ولما داهن سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب في شأن إبراهيم ابن عبد الله «4» ، وصار إلى المنصور، أمر الربيع بخلع سواده والوقوف به على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 رأس اليمانية في المقصورة يوم الجمعة ثم قال: قل لهم: يقول لكم أمير المؤمنين: قد عرفتم ما كان من إحساني إليه، وحسن بلائي عنده، وقديم نعمتي عليه، والذي حاول من الفتنة، ورام من البغي، وأراد من شق العصا ومعاونة الأعداء، وإراقة الدماء، وأنه قد استحق بهذا من فعله أليم العقاب، وعظيم العذاب. وقد رأى أمير المؤمنين إتمام بلائه الجميل لديه، ورب نعمائه السابقة عنده، لما يتعرفه أمير المؤمنين من حسن عائدة الله عليه، وما يؤمله من الخير العاجل والآجل، عند العفو عمن ظلم، والصفح عمن أساء. وقد وهب أمير المؤمنين مسيئكم لمحسنكم، وغادركم لوفيكم. وقال سهل بن هارون يوما، وهو عند المأمون: من أصناف العلم مالا ينبغي للمسلمين أن يرغبوا فيه، وقد يرغب عن بعض العلم كما يرغب عن بعض الحلال! قال المأمون: قد يسمى بعض الشيء علما وليس بعلم، فإن كنت هذا أردت فوجهه الذي ذكرناه. ولو قلت: العلم لا يدرك غوره، ولا يسبر قعره، ولا تبلغ غايته، ولا يستقصى أصنافه، ولا يضبط آخره، فالأمر على ما قلت. فإذا فعلتما ذلك كان عدلا، وقولا صدقا. وقد قال بعض العلماء: أقصد من أصناف العلم إلى ما هو أشهى إلى نفسك وأخف على قلبك، فإن نفاذك فيه على حسب شهوتك له، وسهولته عليك. وقال أيضا بعض الحكماء: لست أطلب العلم طمعا في بلوغ غايته، والوقوف على نهايته. ولكن التماس مالا يسع جهله، ولا يحسن بالعاقل إغفاله. وقال آخرون: علم الملوك النسب والخبر وجمل الفقه، وعلم التجار الحساب والكتاب، وعلم أصحاب الحرب درس كتب المغازي وكتب السير. فأما أن تسمّي الشيء علما وتنهى عنه من غير أن يكون يشغل عما هو أنفع منه، بل تنهي نهيا جزما، وتأمر أمرا حتما! والعلم بصر، وخلافه عمى، والإستبانة للشر ناهية عنه، والإستبانة للخير آمرة به. ولما قرأ المأمون كتبي في الإمامة فوجدها على ما أمر به، وصرت إليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 وقد كان أمر اليزيدي «1» بالنظر فيها ليخبره عنها، قال لي: قد كان بعض من يرتضى عقله ويصدّق خبره خبّرنا عن هذه الكتب بأحكام الصنعة وكثرة الفائدة، فقلنا له: قد تربي الصفة على العيان، فلما رأيتها رأيت العيان قد أربى على الصفة، فلما فليتها أربى الفلي على العيان كما أربى العيان على الصفة. وهذا كتاب لا يحتاج إلى حضور صاحبه، ولا يفتقر إلى المحتجّين عنه، قد جمع استقصاء المعاني، واستيفاء جميع الحقوق، مع اللفظ الجزل، والمخرج السهل، فهو سوقي ملوكي، وعامي خاصي. ولما دخل عليه المرتدّ الخراساني وقد كان حمله معه من خراسان حتى وافى به العراق، قال له المأمون: لأن استحييك بحق أحبّ إلي من أن أقتلك بحق، ولأن أقبلك بالبراءة أحب إلي من أن أدفعك بالتهمة، قد كنت مسلما بعد أن كنت نصرانيا، وكنت فيها أتنخ «2» وأيامك أطول، فاستوحشت مما كنت به آنسا ثم لم تلبث أن رجعت عنا نافرا، فخبرنا عن الشيء الذي أوحشك من الشيء الذي صار آنس لك من ألفك القديم، وأنسك الأول. فإن وجدت عندنا دواء دائك تعالجت به، والمريض من الأطباء يحتاج إلى المشاورة. وإن أخطأك الشفاء ونبا عن دائك الدواء، كنت قد أعذرت ولم ترجع على نفسك بلائمة، فإن قتلناك قتلناك بحكم الشريعة. أو ترجع أنت في نفسك إلى الإستبصار والثقة، وتعلم أنك لم تقصر في إجتهاد، ولم تفرط في الدخول في باب الحزم. قال المرتد: أوحشني كثرة ما رأيت من الإختلاف فيكم! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 قال المأمون: لنا إختلافان: أحدهما كالإختلاف في الأذان وتكبير الجنائز، والإختلاف في التشهد وصلاة الأعياد وتكبير التشريق، ووجوه القراءات وإختلاف وجوه الفتيا وما أشبه ذلك. وليس هذا بإختلاف إنما هو تخيير وتوسعة، وتخفيف من المحنة. فمن أذن مثنى وأقام مثنى لم يؤثم، ومن أذن مثنى وأقام فرادى لم يحوّب «1» ، لا يتعايرون ولا يتعابيون، أنت ترى ذلك عيانا وتشهد عليه بتاتا. والإختلاف الآخر كنحو إختلافنا في تأويل الآية من كتابنا، وتأويل الحديث عن نبينا، مع إجماعنا على أصل التنزيل، وإتفاقنا على عين الخبر. فإن كان الذي أوحشك هذا حتى أنكرت من أجله هذا الكتاب، فقد ينبغي أن يكون اللفظ بجميع التوراة والأنجيل متفقا على تأويله، كما يكون متفقا على تنزيله، ولا يكون بين جميع النصارى واليهود إختلاف في شيء من التأويلات. وينبغي لك أن لا ترجع إلا إلى لغة لا إختلاف في تأويل ألفاظها. ولو شاء الله أن ينزل كتبه ويجعل كلام أنبيائه وورثة رسله لا يحتاج إلى تفسير لفعل، ولكنا لم نر شيئا من الدين والدنيا دفع إلينا على الكفاية، ولو كان كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحنة، وذهبت المسابقة والمنافسة، ولم يكن تفاضل، وليس على هذا بنى الله الدنيا. قال المرتدّ: أشهد أن الله واحد لا ندّ له ولا ولد، وأن المسيح عبده، وإن محمدا صادق، وإنك أمير المؤمنين حقا! فأقبل المأمون على أصحابه فقال: فروا عليه عرضه، ولا تبرّوه في يومه ريثما يعتق إسلامه، كي لا يقول عدوه أنه أسلم رغبة. ولا تنسوا بعد نصيبكم من برّه وتأنيسه ونصرته، والعائدة عليه. حدثنا أحمد بن أبي داود قال: قال لي المأمون: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 لا يستطيع الناس أن ينصفوا الملوك من وزرائهم، ولا يستطيعون أن ينظروا بالعدل بين الملوك وحماتهم وكفاتهم، وبين صنائعهم وبطانتهم. وذلك أنهم يرون ظاهر حرمة وخدمة، واجتهاد ونصيحة، ويرون إيقاع الملوك بهم ظاهرا، حتى لا يزال الرجل يقول: ما أوقع به إلا رغبة في ماله، أو رغبة في بعض مالا تجود النفس به، ولعل الحسد والملالة وشهوة الإستبدال، إشتركت في ذلك. وهناك خيانات في صلب الملك، أو في بعض الحرم، فلا يستطيع الملك أن يكشف للعامة موضع العورة في الملك، ولا أن يحتج لتلك العقوبة بما يستحق ذلك الذنب، ولا يستطيع الملك ترك عقابه لما في ذلك من الفساد، على علمه بأن عذره غير مبسوط للعامة، ولا معروف عند أكثر الخاصة. ونزل رجل من أهل العسكر، فغدا بين يدي المأمون، وشكا إليه مظلمته، فأشار بيده: أن حسبك! فقال له بعض من كان يقرب من المأمون: يقول لك أمير المؤمنين: إركب. قال المأمون: لا يقال لمثل هذا: إركب، إنما يقال له: إنصرف! وحدثني إبراهيم بن السندي قال: بينا الحسن اللؤلؤي يحدث المأمون ليلا وهو بالرقّة، وهو يومئذ ولي عهد، وأطال الحسن الحديث حتى نعس المأمون، فقال الحسن: نعست أيها الأمير! ففتح عينيه وقال: سوقي وربّ الكعبة! يا غلام خذ بيده. [نوادر النوكى والمجانين وجفاة الأعراب] ذكر بقية كلام النوكى والموسوسين والجفاة والأغبياء وما ضارع ذلك وشاكله، وأحببنا أن لا يكون مجموعا في مكان واحد إبقاء على نشاط القاريء والمستمع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 مرّ ابن أبي علقمة بمجلس بني ناجية، فكبا حماره لوجهه، فضحكوا منه، فقال: ما يضحككم؟ رأى وجوه قريش فسجد! أبو الحسن قال: أتى رجل عباديّا صيرفيا، يستسلف منه مائتي درهم، فقال: وما تصنع بها؟ قال: أشتري بها حمارا فلعلي أربح فيه عشرين درهما! قال: إذا أنا وهبتك العشرين فما حاجتك إلى المائتين؟ قال: ما أريد إلا المائتين! فقال: أنت لا تريد أن تردّها عليّ. قال: وأتى قوم عباديّا فقالوا: نحب أن تسلف فلانا ألف درهم وتؤخره سنة. فقال: هاتان حاجتان، وسأقضي لكم إحداهما، وإذا فعلت ذلك فقد أنصفت أما الدراهم فلا تسهل علي، ولكني أؤخره سنتين. ولعب رجل قدّام بعض الملوك بالشطرنج، فلما رآه قد استجاد لعبه وفاوضه الكلام «1» قال له: لم لا توليني نهر بوق؟ قال: أوليك نصفه، أكتبوا له عهده على بوق! وقال له مرّة: ولّني أرمينية. قال: يبطيء على أمير المؤمنين خبرك. وقدم آخر على صاحب له من فارس، فقال: قد كنت عند الأمير فأي شيء ولّاك؟ قال: ولّاني قفاه! قال: ونظر أمير إلى أعرابي فقال: لقد هم لي الأمير بخير؟ قال: ما فعلت؟ قال: فبشرّ؟ قال: وما فعلت؟ قال: إن الأمير لمجنون! قال أبو الحسن: شهد مجنون على امرأة ورجل بالزناء فقال الحاكم: تشهد أنك رأيته يدخله ويخرجه؟ قال: والله إن لو كنت جلدة استها لما شهدت بهذا. قال: وكان رجل من أهل الريّ يجالسنا، فاحتبس عنا، فأتيته فجلست الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 معه على بابه، وإذا رجل يدخل ويخرج فقلت: من هذا؟ فسكت، ثم أعدت فسكت، فلما أعدت الثالثة قال: هو زوج أخت خالتي! وقال الشاعر: إذا المرء جاز الأربعين ولم يكن ... له دون ما يأتي حياء ولا ستر فدعه ولا تنفس عليه الذي أتى ... ولو جر أرسان الحياة له الدهر أعرابي خاصمته امرأته إلى السلطان، فقيل له: ما صنعت؟ قال: خيرا، كبّها الله لوجهها، وأمر بي إلى السجن! قال أبو الحسن: عرض الأسد لأهل قافلة، فتبرّع عليهم رجل، فخرج إليه فلما رآه سقط وركبه الأسد، فشدوا عليه بأجمعهم، فتنحى عنه الأسد، فقالوا له: ما حالك؟ قال: لا بأس علي، ولكن الأسد خري في سراويلي. أبو الحسن: قال أبو عباية السّليطي: قد فسد الناس! قلت: وكيف؟ قال: ترى بساتين هزار مرد هذه ما كان يمر بها غلام إلا بخفير. قلت: هذا صلاح! قال: لا بل فساد. أبو الحسن قال: خطب سعيد بن العاص، عائشة بنت عثمان على أخيه فقالت: لا أتزوجه! قال: ولم؟ قالت: هو أحمق! له برذونان أشهبان، فيحتمل مؤونة إثنين وهما عند الناس واحد. قال: كان المغيرة بن المهلب ممرورا، وكان عند الحجاج يوما فهاجت به مرّته، فقال له الحجاج: ادخل المتوضأ وأمر من يقيم عنده حتى يتقيأ ويفيق. قال أبو الحسن: قالت خيرة بنت ضمرة القشيريّة، امرأة المهلب، للمهلب: إذا انصرفت من الجمعة فأحب أن تمر بأهلي. قال لها: إن أخاك أحمق! قالت: فإني أحب أن تفعل! فجاء وأخوها جالس وعنده جماعة فلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 يوسع له، فجلس المهلب ناحية ثم أقبل عليه فقال له: ما فعل ابن عمك فلان؟ قال: حاضر. فقال: ارسل إليه. ففعل، فلما نظر إليه غير مرفوع المجلس قال: يا ابن اللخناء، المهلب جالس ناحية وأنت جالس في صدر المجلس؟ وواثبه. فتركه المهلب وانصرف، فقالت له خيرة: أمررت بأهلي؟ قال: نعم، وتركت أخاك الأحمق يضرب! قال: وكتب الحجاج إلى الحكم بن أيوب: «أخطب على عبد الملك ابن الحجاج امرأة جميلة من بعيد، مليحة من قريب، شريفة في قومها، ذليلة في نفسها، أمة لبعلها» . فكتب إليه: «قد أصبتها لولا عظم ثدييها!» فكتب إليه الحجاج: لا يحسن نحر المرأة حتى يعظم ثدياها. قال المرّار بن منقذ العدويّ: صلتة الخدّ طويل جيدها ... ضخمة الثدي ولما ينكسر وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: «لا، حتى تدفيء الضجيع وتروي الرضيع» . وقال ابن صديقة لرجل رأى معه خفّا: ما هذه القلنسوة؟ فاحتكموا إلى عرباض، فقال عرباض: هي قلنسوة الرّجلين! قال أبو اسحاق: قلت لخنجير كوز: وعدتك أن تجيئني إرتفاع النهار فجئتني صلاة العصر! قال: جئتك إرتفاع العشي! قال: قيل لأعرابي: ما اسم المرق عندكم؟ قال: السحين. قال: فإذا برد؟ قال: لا ندعه حتى يبرد. باع نخّاس من أعرابي غلاما فأراد أن يتبرأ من عيبه، قال: أعلم أنه يبول في الفراش. قال: إن وجد فراشا فليبل فيه! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 حدثنا صديق لي قال: أتاني أعرابي بدرهم فقلت له: هذا زائف فمن أعطاكه؟ قال: لصّ مثلك! وقال زيد بن كثوة: أتيت بني كشّ هؤلاء، فإذا عرس، وبلق الباب، فادرنفق وأدّمج فيه سرعان من الناس، وألصت ولوج الدار فدلظني الحدّاد دلظة دهورني على قمة رأسي، وأبصرت شيخان «1» الحي هناك، ينتظرون المزيّة «2» ، فعجت إليهم، فو الله أن زلنا نظار نظار حتى عقل الظل «3» فذكرت من بني تبر، فقصدنهم وأنا أقول: تركن بني كشّ وما في ديارهم ... عوامد وأعصوصبن نحو بني تبر «4» إلى معشر شمّ الأنوف، قراهم ... إذا نزل الأضياف من قمع الجزر «5» وانصرفت وأتيت باب بني تبر، وإذا الرجال صتيتان «6» ، وإذا أرمداء «7» كثيرة، وطهاة لا تحصى، ولحمان في جثمان الإكام «8» صالح بن سليمان قال: من أحمق الشعر قول الذي يقول: أهيم بدعد ماحييت فإن أمت ... أوكّل بدعد من يهيم بها بعدي ولا يشبه قول الآخر: فلا تنكحي إن فرّق الدهر بيننا ... أغمّ القفا والوجه ليس بأنزعا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 قال: مات لأبن مقرّن غلام، فحفر لهم أعرابي قبره بدرهمين، وذلك في بعض الطواعين، فلما أعطوه الدرهمين قال: دعوهما حتى يجتمع لي عندكم ثمن ثوب! وأدخل أعرابي إلى المربد جليبا له «1» فنظر إليها بعض الغوغاء «2» فقال: لا إله إلا الله، ما أسمن هذه الجزر! قال له الأعرابي مالها تكون جزرا جزرك الله. قال أبو الحسن: جاء رجل إلى رجل من الوجوه فقال: أنا جارك وقد مات أخي فمر لي بكفن. قال: لا والله ما عندي اليوم شيء، ولكن تعهدنا وتعود بعد أيام، فسيكون ما تحب! قال: أصلحك الله، فتملحه إلى أن يتيسر عندكم شيء؟! قال: كان مولى البكرات يدّعي البلاغة، فكان يتصفّح كلام الناس فيمدح الرديء ويذم الجيد، فكتب إلينا رسالة يعتذر فيها من تركه المجيء، فقال: «وقطعني عن المجيء إليكم أنه طلعت في إحدى أليتي ابني بثرة، فعظمت وعظمت حتى صارت كأنها رمّانة صغيرة» . وقال علي الأسواري: «فلما رأيته أصفر وجهي حتى صار كأنه الكشوث «3» » . وقال له محمد بن الجهم: إلى أين بلغ الماء منك؟ قال: إلى العانة. قال شعيب بن زرارة: لو كان قال: إلى الشّعرة، كان أجود! وقال له محمد بن الجهم: هذا الدواء الذي جئت به قدركم آخذ منه؟ قال: قدر بعرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 وقال علي: جاءني رجل حزنبل «1» من ها هنا إلى ثمة! وقال قاسم التمّار: بينهما كما بين السماء إلى قريب من الأرض! وقال قاسم التمار: رأيت إيوان كسرى كأنما رفعت عنه الأيدي أوّل من أمس. وأقبل على أصحاب له وهم يشربون النبيذ، وذلك بعد العصر بساعة، فقال لبعضهم: قم صلّ فاتتك الصلاة! ثم امسك عنه ساعة، ثم قال الآخر: قم صل ويلك فقد ذهب الوقت! فلما أكثر عليهم في ذلك وهو جالس لا يقوم يصلي قال له واحد منهم: فأنت لم لا تصلي؟ فأقبل عليه فقال: ليس والله تعرفون أصلي في هذا. قلت: وأي شيء أصلك؟ قال: لا نصلي لأن هذه المغرب قد جاءت! وقال قاسم: أنا أنفس بنفسي على السلطان. وأتى منزل ابن أبي شهاب وقد تعشى القوم وجلسوا على النبيذ، فأتوه بخبز وزيتون وكامخ «2» فقال: أنا لا أشرب النبيذ إلا على زهومة «3» . وقال: حين بعت البغل بدأت بالسرج. وقال: ليس في الدنيا ثلاثة أنكح مني: أنا أكسل منذ ثلاث ليال في كل ليلة عشر مرات! كأن الإكسال عنده هو الإنزال «4» . وقال: ذهب والله مني الأطيبين؟ قلت: وأي شيء الأطيبين؟ قال: قوة اليدين والرجلين «5» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 وقال: فالتوى لي عرق حين قعدت منها مقعد الرجل من الغلام. وقال في غلام له رومي، ما وضعت بيني وبين الأرض أطيب منه. قال: ومحمد بن حسان لا يشكرني، فو الله ما ناك حادرا قط إلا على يدي «1» . وقال أبو خشرم: ما أعجب أسباب النيك؟ فقيل له: النيك وحده؟ قال: سمعنا الناس يقولون: ما أعجب أسباب الرزق، وما أعجب الأسباب! وكان قاسم التمار عند ابن لأحمد بن عبد الصمد بن علي، وهناك جماعة، فأقبل وهب المحتسب يعرض له بالغلمان، فلما طال ذلك على قاسم أراد أن يقطعه عن نفسه بأن يعرّفه هوان ذلك القول عليه فقال: أشهدوا جميعا أني أنيك الغلمان، وأشهدوا جميعا إني أعفج الصبيان! والتفت التفاتة فرأى الأخوين الهذليين وكانا يعاديانه بسبب الإعتزال فقال: عنيت بقولي: إشهدوا جميعا أني لوطي، أي أني على دين لوط! قال القوم بأجمعهم: أنت لم تقل أشهدوا إني لوطي، وإنما قلت: إشهدوا جميعا أني أنيك الصبيان! قال سفيان الثوري: لم يكن في الأرض أحد قط أعلم بالنجوم ثم بالقرانات «2» من «ما شاء الله كان» ، يريد ما شاء الله المنجم. وكان يقول: هو أكفر عندي من رام هرمز! يريد أكفر من هرمز. وممن وسوس: غلفاء بن الحارث، ملك قيس عيلان، وسوس حين قتل إخوته، يتغلف ويغلف أصحابه بالغالية «3» ، فسمي غلفاء بذلك. وكان رجل ينيك البغلات، فجلس يوما يخبر عن رجل كيف ناك بغلة، وكيف إنكسرت رجله، وكيف كان ينالها، قال: كان يضع تحت رجله لبنة، فبينما هو ينحي فيها إذ انكسرت اللبنة من تحت رجله، وإذا أنا على قفاي! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 ومن الأحاديث المولدة التي لا تكون، وهو في ذلك مليح، قولهم: ناك رجل كلبة فعقدت عليه، فلما طال البلاء رفع رأسه فصادف رجلا يطلع عليه من سطح، فقال له الرجل: أضرب جنبها. فلما ضرب جنبها وتخلص قال: قاتله الله، أي نياك كلبات هو! وكان عندنا بالبصرة قاص أعمى، ليس يحفظ من الدنيا إلا حديث جرجيس، فلما بكى واحد من النظارة قال القاص: أنتم من أي شيء تبكون! إنما البلاء علينا معاشر العلماء! قال: وبكى حول أبي شيبان ولده وهو يريد مكة، قال: لا تبكوا يا بنيّ، فإني أريد أن أضحّي عندكم! وقال أخوه: ولدت في رأس الهلال للنصف من شهر رمضان! أحسب أنت الآن هذا كيف شئت! وقال: تزوجت امرأة مخزومية عمها الحجاج بن الزبير الذي هدم الكعبة! وقال: ذلك لم يكن أبا، إنما كان ولدا! وقال أبو دينار: هو وإن كان أخا فقد ينبغي أن ينصف! ومن المجانين علي بن اسحاق بن يحيى بن معاذ. وكان أوّل ما عرف من جنونه أنه قال: أرى الخطأ قد كثر في الدنيا، والدنيا كلها في جوف الفلك، وإنما تؤتى منه، وقد تخلخل وتخرّم وتزايل، فاعتراه ما يعتري الهرمى، وإنما هو منجنون «1» فكم يصبر؟ وسأحتال في الصعود إليه، فإني إن نجرته ورندجته «2» وسوّيته، انقلب هذا الخطأ كله إلى الصواب. وجلس مع بعض متعاقلي فتيان العسكر، وجاءهم النخاس بجوار فقال: ليس نحن في تقويم الأبدان، إنما نحن في تقويم الأعضاء، ثمن أنف هذه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 خمسة وعشرون دينارا، وثمن أذنيها ثمانية عشر، وثمن عينيها ستة وسبعون، وثمن رأسها بلا شيء من حواسها مائة دينار! فقال له صاحبه المتعاقل: ها هنا باب هو أدخل في الحكمة من هذا! كان ينبغي لقدم هذ أن تكون لساق تلك، وأصابع تلك أن تكون لقدم هذه، وكان ينبغي لشفتي تيك أن تكون لفم تيك، وأن تكون حاجبا تيك لجبين هذه! فسمي مقوّم الأعضاء. ومن النوكى كلاب بن ربيعة، وهو الذي قتل الجشميّ قاتل أبيه دون أخوته، وهو القائل: ألم ترني ثأرت بشيخ صدق ... وقد أخذ الإداؤة فاحتساها ثأرت بشيخه شيخا كريما ... شفاء النفس أن شيء شفاها ومنهم: نعامة، وهو بيهس «1» ، وهو الذي قال: «مكره أخاك لا بطل» . وإياه يعني الشاعر: ومن حذر الأيام ما حزّ أنفه ... قصير ولاقى الموت بالسيف بيهس نعامة لما صرّع القوم رهطه ... تبين في أثوابه كيف يلبس وقال الحضرمي: أما أنا فأشهد أن تميما أكثر من محارب. وقال حيّان البزّاز: قبح الله الباطل، الرطب بالسكر والله طيب. قال أبو الحسن: سمعت أبا الصّغدي الحارثي يقول: كان الحجاج أحمق، بنى مدينة واسط في بادية النبط ثم قال لهم: لا تدخلوها. فلما مات دبوا إليها من قريب. مسعدة بن المبارك قال: قلت للبكراوي: أبأمرأتك حمل؟ قال: شيء ليس بشيء! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 قال: لما بنى عبيد الله بن زياد البيضاء، كتب رجل على باب البيضاء: «شيء، ونصف شيء، ولا شيء. الشيء: مهران الترجمان، ونصف شيء: هند بنت أسماء، ولا شيء: عبيد الله بن زياد!» . فقال عبيد الله: أكتبوا إلى جنبه: لولا الذي زعمت أنه لا شيء لما كان ذلك الشيء شيئا، ولا ذلك النصف نصفا. وقال هشام بن عبد الملك يوما في مجلسه: «يعرف حمق الرجل بخصال: بطول لحيته، وشناعة كنيته، وبشهوته، ونقش خاتمه» . فأقبل رجل طويل اللحية، فقال: هذه واحدة، ثم سأله عن كنيته فإذا هي شنعاء، فقال: هاتان ثنتان. ثم قال: وأي شيء أشهى إليك؟ قال: رمانة مصاصة» ! قال: امصك الله ببظر امك! وقيل لأبي القمقام: لم لا تغزو أو تخرج إلى المصيصة؟ قال: أمصني الله إذا ببظر أمي! وقال الشاعر: أأنصر أهل الشام ممن يكيدهم ... وأهلي بنجد ذاك حرص على النصر وقال لأبي الأصبغ بن ربعيّ: أما تسمع بالعدو وما يصنعون في البحر فلم لا تخرج إلى قتال العدو؟ قال: أنا لا أعرفهم ولا يعرفونني، فكيف صاروا لي أعداء؟! قال: كان الوليد بن القعقاع عاملا على بعض الشام، وكان يستسقي في كل خطبة وإن كان في أيام الشّعرى، فقام إليه شيخ من أهل حمص فقال: أصلح الله الأمير، إذا تفسد القطاني! يعني الحبوب، واحدها قطنيّة. وأما نفيس غلامي فإنه كان إذا صار إلى فراشه في كل ليلة في سائر السنة يقول في دعائه: اللهم علينا ولا حوالينا. قال: وكان بالرّقة رجل يحدث الناس عن بني اسرائيل، وكان يكنى أبا عقيل، فقال له الحجاج بن حنتمة: ما كان اسم بقرة بني اسرائيل؟ قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 حنتمة! فقال له رجل من ولد أبي موسى: في أي الكتب وجدت هذا؟ قال: في كتاب عمرو بن العاصي! ومن المجانين الأشراف: ابن ضحيان الأزديّ، وكان يقرأ: قل يا أيها الكافرين. فقيل له في ذلك، فقال: قد عرفت القراءة في ذلك، ولكني لا أجلّ أمر الكفار!. وقال حبيب بن أوس: ما ولدت حوّاء أحمق لحية ... من سائل يرجو الغنى من سائل وقال أيضا: أيوسف جئت بالعجب العجيب ... تركت الناس في شك مريب سمعت بكلّ داهية نآد ... ولم أسمع بسرّاج أديب «1» أما لو أن جهلك عاد حلما ... إذا لنفذت في علم الغيوب وما لك بالغريب يد ولكن ... تعاطيك الغريب من الغريب وأنشدوا: أرى زمنا نوكاه أسعد أهله ... ولكنما يشقى به كلّ عاقل مشت فوقه رجلاه والرأس تحته ... فكب الأعالي بارتفاع الأسافل وهذه أبيات كتبناها في غير هذا المكان من هذا الكتاب، ولكن هذا المكان أولى بها. وقال الشاعر: وللدهر أيام فكن في لباسها ... كلبسته يوما أجدّ وأخلقا وكن أكيس الكيسى إذا كنت فيهم ... وإن كنت في الحمقى فكن أنت أحمقا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 وقال الآخر: وأنزلني طول النوى دار غربة ... إذا شئت لاقيت الذي لا أشاكله فحامقته حتى يقال سجية ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله وقال أبو العتاهية: من سابق الدهر كباكبوة ... لم يستقلها من خطى الدهر فاخط مع الدهر إذا ما خطا ... وأجر مع الدهر كما يجري ليس لمن ليست له حيلة ... موجودة خير من الصبر وقال بشر بن المعتمر: حيلة ما ليست له حيلة ... حسن عزاء النفس والصبر وقال صالح بن عبد القدوس: وإنّ عناء أن تفهّم جاهلا ... ويحسب جهلا أنه منك أفهم متى يبلغ البنيان يوما تمامه ... إذا كنت تبنيه وآخر يهدم وقال بشر بن المعتمر: وإذا العبيّ رأيته مستغنيا ... أعيا الطبيب وحيلة المحتال ومن المجانين: مهدي بن الملوح الجعدي، وهو مجنون بني جعدة. وبنو المجنون قبيل من قبائل بني جعدة، وهو غير هذا المجنون. وأما مجنون بني عامر وبني عقيل، فهو: قيس بن معاذ، وهو الذي يقال له: مجنون بني عامر. وهما شاعران. قيل ذلك لهما لتجننهما بعشيقتين كانتا لهما، ولهما أشعار معروفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 [الجاحظ بين الرواة وخادمه نفيس] وقد أدركت رواة المسجديين والمربديين ومن لم يرو أشعار المجانين ولصوص الأعراب، ونسيب الأعراب، والأرجاز الأعرابية القصار، وأشعار اليهود، والأشعار المنصفة «1» ، فإنهم كانوا لا يعدونه من الرواة. ثم استبردوا ذلك كله ووقفوا على قصار الحديث والقصائد، والفقر والنتف من كل شيء. ولقد شهدتهم وما هم على شيء أحرص منهم على نسيب العباس بن الأحنف، فما هو إلا أن أورد عليهم خلف الأحمر نسيب الأعراب، فصار زهدهم في شعر العباس بقدر رغبتهم في نسيب الأعراب. ثم رأيتهم منذ سنيات، وما يروي عندهم نسيب الأعراب إلا حدث السن قد ابتدأ في طلب الشعر، أو فتيانيّ متغزّل. وقد جلست إلى أبي عبيدة، والأصمعي، ويحيى بن نجيم، وأبي مالك عمرو ابن كركرة «2» مع من جالست من رواة البغداديين، فما رأيت أحدا منهم قصد إلى شعر في النسيب فأنشده. وكان خلف يجمع ذلك كله. ولم أر غاية النحويين إلا كل شعر فيه أعراب. ولم أر غاية رواة الأشعار إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الإستخراج. ولم أر غاية رواة الأخبار إلا كل شعر فيه الشاهد والمثل. ورأيت عامتهم- فقد طالت مشاهدتي لهم- لا يقفون إلا على الألفاظ المتخيرة، والمعاني المنتخبة، وعلى الألفاظ العذبة والمخارج السهلة، والديباجة الكريمة، وعلى الطبع المتمكن وعلى السبك الجيد، وعلى كل كلام له ماء ورونق، وعلى المعاني التي إذا صارت في الصدور عمرتها وأصلحتها من الفساد القديم، وفتحت للسان باب البلاغة، ودلت الأقلام على مدافن الألفاظ، وأشارت إلى حسان المعاني. ورأيت البصر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 بهذا الجوهر من الكلام في رواة الكتاب أعم، وعلى ألسنة حذاق الشعراء أظهر. ولقد رأيت أبا عمرو الشيباني يكتب أشعارا من أفواه جلسائه، ليدخلها في باب التحفظ والتذاكر. وربما خيل إلي أن أبناء أولئك الشعراء لا يستطيعون أبدا أن يقولوا شعرا جيدا، لمكان أعراقهم من أولئك الآباء. ولولا أن أكون عيابا ثم للعلماء خاصة، لصورت لك في هذا الكتاب بعض ما سمعت من أبي عبيدة، ومن هو أبعد في وهمك من أبي عبيدة! قال ابن المبارك: كان عندنا رجل يكنى أبا خارجة، فقال له: لم كنوك أبا خارجة؟ قال: لأني ولدت يوم دخل سليمان بن علي البصرة. وكان عندنا شيخ حارس من علوج الجبل، وكان يكنى أبا خزيمة، فقلت لأصحابنا: هل لكم في مسألة هذا الحارس عن سبب كنيته، فلعل الله أن يفيد من هذا الشيخ علما وإن كان في ظاهر الرأي غير مأمول ولا مطمع! وهذه الكنية كنية زرارة بن عدس، وكنية خازم بن خزيمة، وكنية حمزة بن أدرك، وكنية فلان وفلان، وكل هؤلاء إما قائد متبوع، وإما سيد مطاع، فمن أين وقع هذا العلج الألكن على هذه الكنية! فدعوته فقلت له: هذه الكنية كناك بها إنسان أو كنيت بها نفسك؟ قال: لا، ولكني كنيت بها نفسي! قلت: فلم اخترتها على غيرها؟ قال: وما يدريني! قلت: ألك ابن يسمى خزيمة؟ قال: لا. قلت: أفكان أبوك أو عمك أو مولى لك يسمى خزيمة؟ قال: لا. قلت: فاترك هذه الكنية واكتن بأحسن منها وخذ مني دينارا! قال: لا والله ولا بجميع الدنيا!! أعطى المحلول ابنه درهما وقال: زنه، فطرح وزن درهمين وهو يحسبه وزن درهم، فلما رفعه وجده زالّا «1» ، فألقى معه حبتين، فقال له أبوه: كم فيه؟ قال: ليس فيه شيء، وهو ينقص حبتين! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 وكان عندنا قاص يقال له أبو موسى كوش، فأخذ يوما في ذكر قصر الدنيا وطول أيام الآخرة، وتصغير شأن الدنيا وتعظيم شأن الآخرة، فقال: هذا الذي عاش خمسين سنة لم يعش شيئا، وعليه فضل سنتين! قالوا: وكيف ذاك؟ قال: خمس وعشرون سنة ليل، هو فيها لا يعقل قليلا ولا كثيرا، وخمس سنين قائلة «1» ، وعشرون سنة إما أن يكون صبيا وإما أن يكون معه سكر الشباب فهو لا يعقل. ولا بد من صتحة بالغداة «2» ، ونعسة بين المغرب والعشاء، وكالغشى الذي يصيب الإنسان مرارا في دهره، وغير ذلك من الآفات. فإذا حصلنا ذلك فقد صح أن الذي عاش خمسين سنة لم يعش شيئا، وعليه فضل سنتين! وقال بعض الهلّاك «3» : دخل فلان على كسرى فقال: أصلحك الله، ما تأمر في كذا كذا؟ وقال رجل من وجوه أهل البصرة: حدثت حادثة أيام الفرس فنادى كسرى: الصلاة جامعة! وقلت لغلامي نفيس: بعثتك إلى السوق في حوائج فاشتريت ما لم آمرك به، وتركت كل ما أمرتك به! قال: يا مولاي، أنا ناقة وليس في ركبتي دماغ! وقال نفيس لغلام لي: الناس ويلك أنت حياء كلهم أقل! يريد: أنت أقل الناس كلهم حياء. وقلت لنفيس: ابن بريهة هذا الصبي، في أي شيء أسلموه؟ قال: في أصحاب سند نعال. يريد أصحاب النعال السندية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 [بلاغة النبي] وروى الأصمعي وابن الأعرابي، عن رجالهما، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنا معشر الأنبياء بكاء» ، فقال ناس: البكء: القّلة. وأصل ذلك من اللبن. فقد جعل صفة الأنبياء قلة الكلام، ولم يجعله من إيثار الصمت ومن التحصيل وقلة الفضول. قلنا: ليس في ظاهر هذا الكلام دليل على أن القلة من عجز في الخلقة، وقد يحتمل ظاهر الكلام الوجهين جميعا، وقد يكون القليل من اللفظ يأتي على الكثير من المعاني. والقلة تكون من وجهين: أحدهما من جهة التحصيل، والإشفاق من التكلف، وعلى تصديق قوله: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ، وعلى البعد من الصنعة، ومن شدة المحاسبة وحصر النفس، حتى يصير بالتمرين والتوطين إلى عادة تناسب الطبيعة. وتكون من جهة العجز ونقصان الآلة، وقلة الخواطر، وسوء الإهتداء إلى جياد المعاني، والجهل بمحاسن الألفاظ. ألا ترى أن الله قد استجاب لموسى عليه السلام حين قال: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي. كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً. وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً. إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً. قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى. وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى. فلو كانت تلك القلة من عجز كان النبي صلّى الله عليه وسلّم أحق بمسألة إطلاق تلك العقدة من موسى، لأن العرب أشد فخرا ببيانها، وطول ألسنتها، وتصريف كلامها، وشدة إقتدارها. وعلى حسب ذلك كانت زرايتها على كل من قصّر عن ذلك التمام، ونقص من ذلك الكمال. وقد شاهدوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وخطبه الطوال في المواسم الكبار، ولم يطل التماسا للطول، ولا رغبة في القدرة على الكثير، ولكن المعاني إذا كثرت، والوجوه إذا افتنت، كثر عدد اللفظ، وإن حذفت فضوله بغاية الحذف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 ولم يكن الله ليعطي موسى لتمام إبلاغه شيئا لا يعطيه محمدا، والذين بعث فيهم أكثر ما يعتمدون عليه البيان واللسن. وإنما قلنا هذا لنحسم جميع وجوه الشغب، لا لأن أحدا من أعدائه شاهد هناك طرفا من العجز! ولو كان ذلك مرئيا ومسموعا لاحتجوا به في الملا، ولتناجوا به في الخلا، ولتكلم به خطيبهم، ولقال فيه شاعرهم، فقد عرف الناس كثرة خطبائهم، وتسرع شعرائهم. هذا على أننا لا ندري أقال ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أم لم يقله، لأن مثل هذه الأخبار يحتاج فيها إلى الخبر المكشوف، والحديث المعروف. ولكنا بفضل الثقة، وظهور الحجة، نجيب بمثل هذا وشبهه. وقد علمنا أن من يقرض الشعر، ويتكلف الإسجاع، ويؤلف المزدوج، ويتقدم في تحبير المنثور، وقد تعمق في المعاني، وتكلف إقامة الوزن، والذي تجود به الطبيعة وتعطيه النفس سهوا رهوا، مع قلة لفظه وعدد هجائه- أحمد أمرا، وأحسن موقعا من القلوب، وأنفع للمستمعين، من كثير خرج بالكد والعلاج. ولأن التقدم فيه، وجمع النفس له، وحصر الفكر عليه، لا يكون إلا ممن يحب السمعة ويهوى النفج «1» والإستطالة. وليس بين حال المتنافسين، وبين حال المتحاسدين إلا حجاب رقيق، وحجاز ضعيف. والأنبياء بمندوحة من هذه الصفة، وفي ضد هذه الشيمة. وقال عامر بن عبد قيس: «الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان» . وتكلم رجل عند الحسن بمواعظ جمة ومعان تدعو إلى الرقة فلم ير الحسن رق، فقال الحسن: أما أن يكون بناشر أو يكون بك! يذهب إلى أن المستمع يرق على قد رقة القائل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 والدليل الواضح، والشاهد القاطع، قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نصرت بالصبا، وأعطيت جوامع الكلم» ، وهو القليل الجامع للكثير. وقال الله تعالى وقوله الحق: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ ثم قال: وَما يَنْبَغِي لَهُ ثم قال: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ فعم ولم يخص، وأطلق ولم يقيد. فمن الخصال التي ذمهم بها تكلف الصنعة، والخروج إلى المباهاة، والتشاغل عن كثير من الطاعة، ومناسبة أصحاب التشديق. ومن كان كذلك كان أشد افتقارا إلى السامع من السامع إليه، لشغفه أن يذكر في البلغاء، وصبابته باللحاق بالشعراء. ومن كان كذلك غلبت عليه المنافسة والمغالبة، وولد ذلك في قلبه شدة الحمية، وحب المجاذبة. ومن سخف هذا السّخف، وغلب الشيطان عليه هذه الغلبة، كانت حاله داعية إلى قول الزور، والفخر بالكذب، وصرف الرغبة إلى الناس، والإفراط في مديح من أعطاه، وذم من منعه. فنزّه الله رسوله، ولم يعلمه الكتاب والحساب، ولم يرغبه في صنعة الكلام، والتعبد لطلب الألفاظ، والتكلف لإستخراج المعاني فجمع له باله كله في الدعاء إلى الله، والصبر عليه، والمجاهدة فيه، والإنبتات إليه والميل إلى كل ما قرب منه، فأعطاه الإخلاص الذي لا يشوبه رياء، واليقين الذي لا يطوره شك، والعزم المتمكن، والقوة الفاصلة. فإذا رأت مكانه الشعراء، وفهمته الخطباء، ومن قد تعبّد للمعاني، وتعود نظمها وتنضيدها، وتأليفها وتنسيقها، واستخراجها من مدافنها، وإثارتها من مكامنها علموا أنهم لا يبلغون بجميع ما معهم مما قد استفرغهم واستغرق مجهودهم، وبكثير ما قد خولوه، قليلا مما يكون معه على البداهة والفجاءة، من غير تقدم في طلبه، واختلاف إلى أهله. وكانوا مع تلك المقامات والسياسات، ومع تلك الكلف والرياضات، لا ينفكون في بعض تلك المقامات من بعض الإستكراه والزلل، ومن بعض التعقيد والخطل، ومن التفنن «1» والإنتشار، ومن التشديق والإكثار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 ورأوه مع ذلك يقول: «إيّاي والتشادق» . و «أبغضكم إليّ الثرثارون المتفيهقون» . ثم رأوه في جميع دهره في غاية التسديد والصواب التام، والعصمة الفاضلة، والتأييد الكريم. علموا أن ذلك من ثمرة الحكمة ونتاج التوفيق، وإن تلك الحكمة من ثمرة التقوى. ونتاج الإخلاص. وللسلف الطيّب حكم وخطب كثيرة، صحيحة ومدخولة، لا يخفى شأنها على نقّاد الألفاظ وجهابذة المعاني، متميزة عند الرواة الخلّص وما بلغنا عن أحد من جميع الناس أن أحدا ولد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطبة واحدة. فهذا وما قبله حجة في تأويل ذلك إن كان حقا. وفي كتاب الله المنزل. أن الله تبارك وتعالى جعل منيحة داود الحكمة وفصل الخطاب، كما أعطاه إلانة الحديد. وفي الحديث المأثور، والخبر المشهور، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «شعيب خطيب الأنبياء» . وعلم الله سليمان منطق الطير، وكلام النمل، ولغات الجن. فلم يكن عزّ وجلّ ليعطيه ذلك ثم يبتليه في نفسه وبيانه عن جميع شأنه، بالقلة والمعجزة، ثم لا تكون تلك القلة إلا على الإيثار منه للقلة في موضعها، وعلى البعد من استعمال التكلف، ومناسبة أهل الصنعة، والمشغوفين بالسمعة. وهذا لا يجوز على الله عز وجل. فإن كان الذي رويتم من قوله: «إنا معشر الأنبياء بكاء» على ما تأولتم، وذلك أن لفظ الحديث عام في جميع الأنبياء، فالذي ذكرنا من حال داود وسليمان عليهما السلام، وحال شعيب والنبي صلّى الله عليه وسلّم، دليل على بطلان تأويلكم، ورد عموم لفظ الحديث: وهذه جملة كافية لمن كان يريد الإنصاف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 وكان شيح من البصريين يقول: إن الله إنما جعل نبيه أميّا لا يكتب ولا يحسب ولا ينسب، ولا يقرض الشعر، ولا يتكلّف الخطابة، ولا يتعمّد البلاغة، لينفرد الله بتعليمه الفقه وأحكام الشريعة، ويقصره على معرفة مصالح الدين دون ما تتباهى به العرب: من قيافة الأثر والبشر «1» ، ومن العلم بالأنواء وبالخيل، وبالأنساب وبالأخبار، وتكلف قول الأشعار، ليكون إذا جاء بالقرآن الحكيم، وتكلم بالكلام العجيب، كان ذلك أدل على أنه من الله. وزعم أن الله تعالى لم يمنعه معرفة آدابهم وأخبارهم وأشعارهم ليكون أنقص حظا من الحاسب الكاتب، ومن الخطيب الناسب، ولكن ليجعله نبيا، وليتولى من تعليمه ما هو أزكى وأنمى. فإنما نقصه ليزيده، ومنعه ليعطيه، وحجبه عن القليل ليجلّي له الكثير. وقد أخطأ هذا الشيخ ولم يرد إلا الخير، وقال بمبلغ علمه ومنتهى رأيه ونوزعم أن أداة الحساب والكتابة، وأداة قرض الشعر ورواية جميع النسيب، قد كانت فيه تامة وافرة، ومجتمعة كاملة، ولكنه صلّى الله عليه وسلّم صرف تلك القوى وتلك الإستطاعة إلى ما هو أزكى بالنبوة، وإذا احتاج إلى الخطابة كان أخطب الخطباء، وأنسب من كل ناسب، وأقوف من كل قائف، ولو كان في ظاهره، ثم أعطاه الله برهانات الرسالة، وعلامات النبوة- ما كان ذلك بمانع من وجوب تصديقه، ولزوم طاعته، والإنقياد لأمره على سخطهم ورضاهم، ومكروههم ومحبوبهم. ولكنه أراد ألا يكون للشاغب متعلق عما دعا إليه حتى لا يكون دون المعرفة بحقه حجاب وإن رقّ، وليكون ذلك أخفّ في المؤونة، وأسهل في المحنة. فلذلك صرف نفسه عن الأمور التي كانوا يتكلفونها ويتنافسون فيها، فلما طال هجرانه لقرض الشعر وروايته، صار لسانه لا ينطلق به، والعادة توأم الطبيعة. فأما في غير ذلك فإنه إذا شاء كان أنطق من كل منطيق، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 وأنسب من كل ناسب، وأقوف من كل قائف. وكانت آلته أوفر وأداته أكمل، إلا أنها كانت مصروفة إلى ما هو أرد. وبين أن نضيف إليه العجز، وبين أن نضيف إليه العادة الحسنة وامتناع الشيء عليه من طول الهجران له، فرق. ومن العجب أن صاحب هذه المقالة لم يره عليه السلام في حال معجزة قط، بل لم يره إلا وهو إن أطال الكلام قصّر عنه كل مطيل، وإن قصر القول أتى على غاية كل خطيب، وما عدم منه إلا الخط وإقامة الشعر. فكيف ذهب ذلك المذهب والظاهر من أمره عليه السلام خلاف ما توهم!؟ [قدر الشعر] وسنذكر بعض ما جاء في فضل الشعر والخوف منه، ومن اللسان البليغ، والمداراة له، وما أشبه ذلك. قال أبو عبيدة: إجتمع ثلاثة من بني سعد يراجزون بني جعدة، فقيل لشيخ من بني سعد: ما عندك؟ قال: أرجز بهم يوما إلى الليل لا أفثج «1» . وقيل لآخر: ما عندك؟ قال: أرجز بهم يوما إلى الليل لا أنكف. فقيل للآخر الثالث: ما عندك؟ قال: أرجز بهم يوما إلى الليل لا أنكش «2» . فلما سمعت بنو جعدة كلامهم انصرفوا وخلوهم. قال: وبنو ضرار، أحد بني ثعلبة بن سعد، لما مات أبوهم وترك الثلاثة الشعراء صبيانا، وهم: شمّاخ، ومزرّد، وجزء، أرادت أمهم- وهي أم أوس- أن تزوج رجلا يسمى أوسا، وكان أوس هذا شاعرا، فلما رآه بنو ضرار بفناء أمهم للخطبة، تناول شمّاخ حبل الدلو ثم متح، وهو يقول: أمّ أويس نكحت أويسا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 وجاء مزرد فتناول الحبل فقال: أعجبها حدارة وكيسا «1» وجاء جزء فتناول الحبل فقال: أصدق منها لجبة «2» وتيسا فلما سمع أوس رجز الصبيان بها هرب وتركها. قال أبو عبيدة: كان الرجل من بني نمير إذا قيل له: ممّن الرجل؟ قال: نميريّ كما ترى، فما هو إلا أن قال جرير: فغضّ الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا حتى صار الرجل من بني نمير إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: من بني عامر قال: فعند ذلك قال الشاعر يهجو قوما آخرين: وسوف يزيدكم ضعة هجائي ... كما وضع الهجاء بني نمير فلما هجاهم أبو الرّدينيّ العكلي فتوعدوه بالقتل قال أبو الرديني: توعّدني لتقتلني نمير ... متى قتلت نمير من هجاها فشدّ عليه رجل منهم فقتله. وما علمت في العرب قبيلة لقيت من جميع ما هجيت به ما لقيت نمير من بيت جرير. ويزعمون إن أمرأة مرّت بمجلس من مجالس بني نمير، فتأملها ناس منهم فقالت: يا بني نمير، لا قول الله سمعتم ولا قول الشاعر أطعتم! قال الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ، وقال الشاعر: فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 وأخلق بهذا الحديث أن يكون مولّدا، ولقد أحسن من ولّده. وفي نمير شرف كثير. وهل أهلك عنزة، وجرما، وعكلا، وسلول، وباهلة، وغنيا، إلا الهجاء؟! وهذه قبائل فيها فضل كثير وبعض النقص، فمحق ذلك الفضل كله هجاء الشعراء. وهل فضح الحبطات، مع شرف حسكة بن عتّاب، وعبّاد بن الحصين وولده، إلا قول الشاعر: رأيت الحمر من شرّ المطايا ... كما الحبطات شرّ بني تميم وهل أهلك ظليم البراجم إلا قول الشاعر: إن أبانا فقحة لدارم ... كما الظليم فقحة البراجم وهل أهلك بني العجلان إلا قول الشاعر: إذا الله عادى أهل لؤم ودقّة ... فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبّة خردل ولا يردون الماء إلا عشية ... إذا صدر الورّاد عن كلّ منهل وأما قول الأخطل: وقد سرني من قيس عيلان أنني ... رأيت بني العجلان سادوا بني بدر فإن هذا البيت لم ينفع بني العجلان، ولم يضرّ بني بدر. قال أبو عبيدة: كان الرجل من بني أنف الناقة إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: من بني قريع، فما هو إلا أن قال الحطيئة: قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا وصار الرجل منهم إذا قيل له: ممن أنت؟ قال: من بني أنف الناقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 وناس سلموا من الهجاء بالخمول والقلة، كما سلمت غسان وغيلان من قبائل عمرو بن تميم، وابتليت الحبطات لأنها أنبه منها شيئا. والنباهة التي لا يضرّ معها الهجاء مثل نباهة بني بدر وبني فزارة، ومثل نباهة بني عدس بن زيد وبني عبد الله بن دارم، ومثل نباهة الديان بن عبد المدان وبني الحارث بن كعب: فليس يسلم من مضرة الهجاء إلا خامل جدا أو نبيه جدا. وقد هجيت فزارة بأكل أير الحمار، وبكثرة شعر القفا، لقول الحارث بن ظالم: فما قومي بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشّعر الرّقابا ثم افتخر مفتخرهم بذلك ومدحهم به الشاعر، قال مزرد بن ضرار: منيع بين ثعلبة بن سعد ... وبين فزارة الشّعر الرقاب فما من كان بينهما بنكس ... لعمرك في الخطوب ولا بكاب «1» وأما قصة أير الحمار فإنما اللوم على المطعم لرفيقه ما لا يعرفه. فهل كان على حذف الفزاري في حق الأنفة أكثر من قتل من أطعمه الجوفان من حيث لا يدري «2» ؟ فقد هجوا بذلك وشرفهم وافر. وقد هجيت الحارث بن كعب، وكتب الهيثم بن عدي فيهم كتابا فما ضعضع ذلك منهم، حتى كان قد كتبه لهم. ولولا الربيع بن خثيم، وسفيان الثوري ما علم الناس أن في الرباب حيا يقال لهم بنو ثور. وفي عكل شعر وفصاحة، وخيل معروفة الأنساب، وفرسان في الجاهلية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 والإسلام. وزعم يونس أن عكلا أحسن العرب وجوها في غب حرب. وقال بعض فتاك بني تميم: خليلي الفتى العكلي لم أر مثله ... تحلّب كفاه ندى شائع القدر كأن سهيلا، حين أوقد ناره ... بعلياء، لا يخفى على أحد يسري ولم أكتب هذا الشعر ليكون شاهدا على مقدار حظهم في الشرف، ولكن لنضمه إلى قول جران العود: أراقب لمحا من سهيل كأنه ... إذا ما بدا من آخر الليل يطرف وربما أتيت القبيلة إذا برّزت عليها أخوتها، كنحو فقيم بن جرير بن دارم، وزيد بن عبد الله بن دارم، وكنحو الجرماز ومازن. ولذلك يقال: إن أصلح الأمور لمن تكلف علم الطب ألا يحسن منه شيئا، أو يكون من حذاق المتطببين، فإنه إن أحسن منه شيئا ولم يبلغ فيه المبالغ هلك وأهلك أهله. وكذلك العلم بصناعة الكلام. وليس كذلك سائر الصناعات، فليس يضر من أحسن باب الفاعل والمفعول به، وباب الإضافة، وباب المعرفة والنكرة، أن يكون جاهلا بسائر أبواب النحو. وكذلك من نظر في علم الفرائض، فليس يضر من أحكم باب الصّلب أن يجهل باب الجد، وكذلك الحساب. وهذا كثير. وذكروا أن حزن بن الحارث، أحد بني العنبر ولد محجنا، فولد محجن شعيث بن سهم، فأغير على إبله، فأتى أوس بن حجر يستنجده، فقال له أوس: أو خير من ذلك، أحضض لك قيس بن عاصم! وكان يقال إن حزن بن الحارث هو حزن بن منقر، فقال أوس: سائل بها مولاك قيس بن عاصم ... فمولاك مولى السّوء إن لم يغّير لعمرك ما أدري أمن حزن محجن ... شعيث بن سهم أم لحزن بن منقر فما أنت بالمولى المضيّع حقه ... وما أنت بالجار الضعيف المستر فسعى قيس في إبله حتى ردها على آخرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 وقال الآخر: ألهى بني تغلب عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم ومما يدلّ على قدر الشعر عندهم بكاء سيد بني مازن، مخارق بن شهاب حين أتاه محرز بن المكعبر العنبري الشاعر فقال: إن بني يربوع قد أغاروا على إبلي فاسع لي فيها؟ فقال: وكيف وأنت جار وردان بن مخرمة؟ فلما ولىّ عنه محرز محزونا بكى مخارق حتى بل لحيته، فقالت له ابنته: ما يبكيك؟ فقال: وكيف لا أبكي وقد استغاثني شاعر من شعراء العرب فلم أغثه؟ والله لئن هجاني ليفضحني قوله، ولئن كف عني ليقتلني شكره! ثم نهض فصاح في بني مازن فردت عليه إبله. وذكر وردان الذي كان أخفره «1» فقال: أقول وقد بزّت بتعشار بزة ... لوردان جدّ الآن فيها أو العب «2» فعضّ الذي أبقى المواسي من أمه ... خفير رآها لم يشمّر ويغضب «3» إذا نزلت وسط الرباب وحولها ... إذا حصّنت ألفا سنان محرّب «4» حميت خزاعيا وافناء مازن ... ووردان يحمي عن عدي بن جندب «5» ستعرفها ولدان ضبّة كلها ... بأعيانها مردودة لم تغيّب قال: وفد رجل من بني مازن على النعمان بن المنذر، فقال له النعمان: مخارق بن شهاب فيكم؟ قال: سيد كريم، وحسبك من رجل يمدح تيسه ويهجو ابن عمه! ذهب إلى قوله: ترى ضيفها فيها يبيت بغبطة ... وجار ابن قيس جائع يتحوّب «6» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 قال: ومن قدر الشعر وموقعه في النفع والضّر، إن ليلى بنت النضر بن الحارث بن كلدة لما عرضت للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يطوف بالبيت واستوقفته وجذبت رداءه حتى انكشف منكبه، وانشدته شعرها بعد مقتل أبيها، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو كنت سمعت شعرها هذا ما قتلته!» . والشعر: يا راكبا إنّ الأثيل مظنة ... من صبح خامسة وأنت موفّق أبلغ بها ميتا بأن قصيدة ... ما- إن تزال بها الركائب تخفق «1» فليسمعنّ النضر إن ناديته ... إن كان يسمع ميت لا ينطق ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقّق «2» قسرا يقاد إلى المنية متعبا ... رسف المقيّد وهو عان موثق «3» أمحمدها أنت ضنء نجيبة ... في قومها والفحل فحل معرق «4» ما كان ضرّك لو مننت وربما ... منّ الفتى وهو المغيط المحنق «5» فالنضر أقرب من تركت قرابة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق قال: ويبلغ من خوفهم من الهجاء ومن شدة السب عليهم، وتخوفهم أن يبقى ذكر ذلك في الأعقاب، ويسبّ به الأحياء والأموات، إنهم إذا أسروا الشاعر أخذوا عليه المواثيق، وربما شدوا لسانه بنسعة، كما صنعوا بعبد يغوث ابن وقاص الحارثي حين أسرته بنو تيم يوم الكلاب. وهو الذي يقول: أقول وقد شدوا لساني بنسعة ... أمعشر تيم أطلقوا من لسانيا «6» وتضحك مني شيخة عبشمية ... كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا «7» كأني لم أركب جوادا ولم أقل ... لخيلي كري كرة عن رجاليا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 فيا راكبا أما عرضت فبلغن ... نداماي من نجران أن لا تلاقيا أبا كرب والأيهمين كليهما ... وقيسا بأعلى حضر موت اليمانيا وكان سألهم أن يطلقوا لسانه لينوح على نفسه، ففعلوا، فكان ينوح بهذه الأبيات، فلما أنشد قومه هذا الشعر قال قيس: لبيك وإن كنت أخرتني. *** وقيل لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: كيف تقول الشعر مع الفقه والنسك؟ فقال: «لا بد للمصدور من أن ينفث» . وقال معاوية لصحار العبدي: ما هذا الكلام الذي يظهر منكم؟ قال: شيء تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا. وقال ابن حرب: من أحسن شيئا أظهره. وفي المثل: من أحب شيئا أكثر من ذكره. وقال: خاصم أبو الحويرث السحيمي حمزة بن بيض إلى المهاجر بن عبد الله في طويّ له «1» فقال أبو الحويرث: غمّضت في حاجة كانت تؤرقني ... لولا الذي قلت فيها قل تغميضي قال: وما قلت لك فيها؟ قال: حلفت بالله لي أن سوف تنصفني ... فساغ في الحلق ريق بعد تجريض «2» قال: وأنا أحلف بالله لأنصفنك. قال: فاسأل ألى عن ألى أن ما خصومتهم ... أم كيف أنت وأصحاب المعاريض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 قال: أوجعهم ضربا. قال: فاسأل لجيما إذا وافاك جمعهم ... هل كان بالبئر حوض قبل تحويضي قال: فتقدمت الشهود فشهدت لأبي الحويرث. قال: فالتفت إلي ابن بيض فقال: أنت ابن بيض لعمري لست أنكره ... حقا يقينا ولكن من أبو بيض إن كنت أنبضت لي قوسا لترميني ... فقد رميتك رميا غير تنبيض «1» أو كنت خضخضت لي وطبا لتسقيني ... فقد سقيتك وطبا غير ممخوض «2» إن المهاجر عدل في حكومته ... والعدل يعدل عندي كل عرّيض «3» *** قال: وتزوج شيخ من الأعراب جارية من رهطه، وطمع أن تلد له غلاما فولدت له جارية، فهجرها وهجر منزلها، وصار يأوي إلى غير بيتها، فمر بخبائها بعد حول وإذا هي ترقّص بنيتها منه وهي تقول: ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظلّ في البيت الذي يلينا غضبان أن لا نلد البنينا ... تالله ما ذلك في أيدينا وإنما نأخذ ما أعطينا فلما سمع الأبيات مرّ الشيخ نحوهما حضرا حتى ولج عليهما الخباء وقبّل بنيتها وقال: ظلمتكما وربّ الكعبة! *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 [مقطعات وأشعار بديعة] وقال مسلم بن الوليد: فإني واسماعيل عند فراقنا ... لكالجفن يوم الروع فارقه النصل أمنتجعا مروا بأثقال همه ... دع الثقل واحمل حاجة مالها ثقل ثناء كعرف الطيب يهدى لأهله ... وليس له إلا بني خالد أهل فإن أغش قوما بعدهم أو أزرهم ... فكالوحش يدنيها من الأنس المحل وقال ابن أبي عيينة: هل كنت إلا كلحم ميت ... دعا إلى أكله اضطرار وقال الآخر: لئن حبس العباس عنا رغيفه ... لما فاتنا من نعمة الله أكثر وقال أبو كعب: كان رجل يجري على رجل رغيفا في كل يوم، فكان يقول إذا أتاه الرغيف: لعنك الله ولعن من بعثك، ولعنني إن تركتك حتى أصيب خيرا منك. وقال بشار: إذا بلغ الرأي النصيحة فاستعن ... برأي نصيح أو نصاحة حازم «1» ولا تحسب الشورى عليك غضاضة ... مكان الخوافي نافع للقوادم وخلّ الهوينى للضعيف ولا تكن ... نؤوما فإن الحزم ليس بنائم وأدن على القربى المقرب نفسه ... ولا تشهد الشورى امرأ غير كاتم وما خير كفّ أمسك الغلّ أختها ... وما خير سيف لم يؤيّد بقائم «2» فإنك لا تستطرد الهم بالمنى ... ولا تبلغ العليا بغير المكارم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 وقال آخر: تعرفني هنيدة من بنوها ... واعرفها إذا اشتدّ الغبار متى ما تلق منا ذا ثناء ... يؤزّ كأن رجليه شجار «1» فلا تعجل عليه فإن فيه ... منافع حين يبتلّ العذار «2» أنا ابن المضرحيّ أبي شليل ... وهل يخفى على الناس النهار ورثنا صنعه ولكل فحل ... على أولاده منه نجار «3» وقال أعشى همدان في خالد بن عتّاب بن ورقاء: تمنيني إمارتها تميم ... وما أمري وأمر بني تميم وكان أبو سليمان خليلي ... ولكنّ الشراك من الأديم «4» أتينا أصبهان فهزّلتنا ... وكنا قبل ذلك في نعيم أتذكرنا ومرة إذ غزونا ... وأنت على بغيلك ذي الوسوم ويركب رأسه في كل وحل ... ويعثر في الطريق المستقيم وليس عليك إلا طيلسان ... نضيبيّ وإلا سحق نيم «5» وقال آخر: فلست مسلما ما دمت حيا ... على زيد بتسليم الأمير أمير يأكل الفالوذ سرا ... ويطعم ضيفه خبز الشعير أتذكر إذ قباؤك جلد شاة ... وإذ نعلاك من جلد البعير فسبحان الذي أعطاك ملكا ... وعلمّك الجلوس على السرير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 وقال آخر: دع عنك مروان لا تطلب إمارته ... ففيك راع لها ما عشت سرسور «1» ما بال بردك لم يمسس حواشيه ... من ثرمداء ولا صنعاء تحبير «2» وقال ابن قنان المحاربيّ: أقول لما جئت مجلسهم ... قبح الإله عمائم الخزّ لولا قتيبة ما اعتجرت بها ... أبدا ولا أقعيت في غرز «3» عجبا لهذا الخزّ يلبسه ... من كان مشتاقا إلى الخبز من كان يشتو في عباءته ... متقبضا كتقبّض العنز وقال ثابت قطنة، في رجل كان المهلّب ولاه بعض خراسان: ما زال رأيك يا مهلّب فاضلا ... حتى بنيت سرادقا لوكيع وجعلته ربا على أربابه ... ورفعت عبدا كان غير رفيع لورا أبوه سرادقا أحدثته ... لبكى وفاضت عينه بدموع وقال ابن شيخان، مولى المغيرة، في بني مطيع العدوّيين: حرام كنّتي مني بسوء ... واذكر صاحبي أبدا بذام لقد أحرمت ودّ بني مطيع ... حرام الدهن للرجل الحرام وخزّهم الذي لم يشتروه ... ومجلسهم بمعتلج الظلام «4» وإن جنف الزمان مددت حبلا ... متينا من حبال بني هشام «5» وريق عودهم أبدا رطيب ... إذا ما اغبرّ عيدان اللئام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 وقال آخر: لمن جزر ينحّرها سويد ... ألا يا مر للمجد المضاع كأنك قد سعيت بذمتيهم ... وكنت ثمال أيتام جياع «1» وقال: سبحان من سبّح السبع الطباق له ... حتى لهرثمة الذهليّ بوّاب وأنشدنا للأحيمر: بأقبّ منصلت اللّبان كأنه ... سيد تنصّل من جحور سعالى «2» وقال خلف: لم أر أجمع من بيت امرىء القيس: أفاد وجاد وساد وزاد ... وقاد وذاد وعاد وأفضل ولا أجمع من قوله: له أيطلا ظبي وساقا نعامة ... وأرخاء سرحان وتقريب تتفل «3» وقال الآخر: رمى الفقر بالفتيان حتى كأنهم ... بأقطار آفاق البلاد نجوم وإن امرأ لم يقفر العام بيته ... ولم يتخدّد لحمه للئيم «4» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابيّ: وليلة من ليالي الدهر صالحة ... باشرت في هولها مرأى ومستمعا ونكبة لو رمى الرامي بها حجرا ... أصمّ من جندل الصمان لأنصدعا «1» مرّت علي فلم أطرح لها سلبي ... ولا استكنت لها وهنا ولا جزعا وما أزال على أرجاء مهلكة ... يسائل المعشر الأعداء ما صنعا ولا رميت على خصم بفاقرة ... إلا رميت بخصم فرّ لي جذعا «2» ما سدّ مطلع يخشى الهلاك به ... إلا وجدت بظهر الغيب مطّلعا لا يملأ الهول قلبي قبل موقعه ... ولا أضيق به صدرا إذا وقعا وقال آخر: لقد طال إعراضي وصفحي عن التي ... أبلّغ عنكم والقلوب قلوب وطال انتظاري عطفة الرحم منكم ... ليرجع ودّ أو ينيب منيب فلا تأمنوا مني عليكم شبيهها ... فيرضي بغيض أو يساء حبيب وتظهر منا في المقام ومنكم ... إذا ما ارتمينا في النضال عيوب وإن لسان الباحث الداء ساخطا ... بني عمنا، ألوى البيان كذوب وقال الأشهب بن رميلة: إن الألى حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أمّ خالد هم ساعد الدهر الذي يتّقى به ... وما خير كفّ لا تنوء بساعد أسود شرىّ لاقت أسود خفيّة ... تساقوا على صرد دماء الأساود قوله: «ساعد الدهر» ، إنما هو مثل، وهذا الذي تسميه الرواة البديع. وقد قال الراعي: هم كاهل الدهر الذي يتّقى به ... ومنكبه إن كان للدهر منكب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 وقد جاء في الحديث: «موسى الله أحدّ، وساعد الله أشدّ» . والبديع مقصور على العرب، ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة، وأربت على كل لسان. والراعي كثير البديع في شعره، وبشّار حسن البديع، والعتّابي يذهب في شعره في البديع مذهب بشار. وقال كعب بن عديّ: شدّ العصاب على البريء بمن جنى ... حتى يكون لغيره تنكيلا والجهل في بعض الأمور إذا اغتدى ... مستخرج للجاهلين عقولا وقال زفر بن الحارث: إن عدت والله الذي فوق عرشه ... منحتك مسنون الغرارين أزرقا «1» فإن دواء الجهل أن تضرب الطلي ... وأن يغمس العرّيض حتى يغرقا «2» وقال مبذول العذريّ: ومولى كضرس السوء يؤذيك مسه ... ولا بدّ أن آذاك إنك فاقره «3» دوي الجوف أن ينزع يسؤك مكانه ... وإن يبق تصبح كل يوم تحاذره «4» يسرّ لك البغضاء وهو مجامل ... وما كل من يجني عليك تساوره «5» وما كل من مددت ثوبك دونه ... لتستره مما أتى أنت ساتره وقال آخر: أطال الله كيس بني رزين ... وحمقي إن شريت لهم بدين أأكتب أبلهم شاء وفيها ... بريع فصالها بنتا لبون فما خلقوا بكيسهم دهاة ... ولا ملجاء بعد فيعجبوني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 وقال آخر: عفاريتا علي وأكل مالي ... وعجزا عن أناس آخرينا فهلا غير عمكم ظلمتم ... إذا ما كنتم متظلمينا فلو كنتم لكيّسة أكاست ... وكيس ألام أكيس للبنينا وقالت رقيّة بنت عبد المطلب في النبي صلّى الله عليه وسلّم: أبنيّ إني رابني حجر ... يغدو بكفك حيثما تغدو وأخاف أن تلقى غويهم ... أو أن يصيبك بعد من يعدو ولما دخل مكة لقيه جواريها يقلن: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع ويضاف إلى باب الخطب وإلى القول في تلخيص المعاني والخروج من الأمر المشبه بغيره، قول حسان بن ثابت الأنصاري: إن خالي خطيب جابية الجو ... لان عند النعمان حين يقوم وهو الصقر عند باب ابن سلمى ... يوم نعمان في الكبول مقيم وسطت نسبتي الذوائب منهم ... كل دار فيها أب لي عظيم وأبي في سميحة القائل الفا ... صل يوم التفت عليه الخصوم يصل القول بالبيان وذو الرأ ... ي من القوم ظالع مكعوم تلك أفعاله وفعل الزبعرى ... خامل في صديقه مذموم رب حلم أضاعه عدم الما ... ل وجهل غطى عليه النعيم ولي البأس منكم إذ أبيتم ... أسرة من بني خصيّ صميم وقريش تجول منا لواذا ... أن يقيموا وخف منها الحلوم لم يطق حمله العواتق منهم ... إنما يحمل اللواء النجوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 ولما دفن سليمان بن عبد الملك أيوب ابنه وقف ينظر القبر ثم قال: كنت لنا أنسا ففارقتنا ... فالعيش من بعدك مرّ المذاق وقربت دابته فركب ووقف على قبره، وقال: وقوف على قبر مقيم بقفرة ... متاع قليل من حبيب مفارق ثم قال: عليك السلام! ثم عطف رأس دابته، وقال: فإن صبرت فلم ألفظك من شبع ... وإن جزعت فعلق منفس ذهبا «1» المدائني قال: لما مات محمد بن الحجاج جزع عليه فقال: إذا غسلتموه فأعلموني. فلما نظر إليه قال: الآن لما كنت أكرم من مشى ... وافترّ نابك عن شباة القارح وتكاملت فيك المروءة كلها ... واعنت ذلك بالفعال الصالح ثم أتاه موت أخيه محمد بن يوسف فقال: حسبي ثواب الله من كل ميّت ... وحسبي بقاء الله من كل هالك إذا ما لقيت الله عني راضيا ... فإن شفاء النفس فيما هنالك وتمثل معاوية في عبد الله بن بديل: أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا وبدنو إذا ما الموت لم يك دونه ... فدى الشبر يحمي الأنف أن يتأخرا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 ورأى معاوية هزاله وهو متعرّ فقال: أرى الليالي أسرعت في نقضي ... أخذن بعضي وتركن بعضي حنين طولي وتركن عرضي ... أقعدنني من بعد طول النهض وتمثل عبد الملك حين وثب بعمرو بن سعيد الأشدق: سكّنته ليقل مني نفره ... فأصول صولة حازم مستمكن غضبا ومحمية لنفسي أنه ... ليس المسيء سبيله كالمحسن «1» وسمع معاوية رجلا يقول: ومن كريم ماجد سميدع «2» ... يؤتى فيعطي من ندى ويمنع فقال: هذا منا، وهذا والله عبد الله بن الزبير. المدائني قال: قال معاوية: «إذا لم يكن الهاشمي جوادا لم يشبه قومه، وإذا لم يكن المخزومي تيّاها لم يشبه قومه، وإذا لم يكن الأموي حليما لم يشبه قومه» . فبلغ قوله الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما فقال: ما أحسن ما نظر لنفسه! أراد أن تجود بنو هاشم بأموالها فتفتقر إلى ما في يديه، وتزهى بنو مخزوم على الناس فتبغض وتشنأ، وتحلم بنو أمية ويخيب وقال بشار: أحسن صحابتنا فإنك مدرك ... بعض اللبانة باصطناع الصاحب وإذا جفوت قطعت عنك لبانتي ... والدرّ يقطعه جفاء الحالب تأتي اللئيم وما سعى حاجاته ... عدد الحصى ونجيب سعي الدائب وأنشد: إذا ما أمور الناس رثت وضيعت ... وجدت أموري كلها قد رممتها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 وقال أعرابي: ندين ويقضي الله عنا وقد نرى ... مكان رجال لا يدينون ضيّعا وقال أعرابي: وليس قضاء الدّين بالدين راحة ... ولكنه ثقل ممض إلى ثقل وأنشد أبو عبيدة لعبيد العنبري، وهو أحد اللصوص: يا ربّ عفوك عن ذي توبة وجل ... كأنه من حذار الناس مجنون قد كان قدّم أعمالا مقاربة ... أيام ليس له عقل ولا دين وقال أعرابي: يا ربّ قد حلف الأقوام واجتهدوا ... إيمانهم أنني من ساكني النار أيحلفون على عمياء ويلهم ... جهلا بعفو عظيم العفو غفّار وقال أعرابي وهو محبوس: أقيدا وسجنا واغترابا وفرقة ... وذكرى حبيب إن ذا لعظيم وإن أمرأ دامت مواثيق عهده ... على كلّ ما لاقيته لكريم وقال أعرابي: يا أمّ عمرو بيني أنت كلما ... ترفّع حاد أو دعا كلّ مسلم نظرت إليها نظرة ما يسرني، ... وإن كنت محتاجا، بها ألف درهم وقال الشاعر: وما كثرة الشكوى بأمر حزامة ... ولا بدّ من شكوى إذا لم يكن صبر ومثله: وابثثت بكرا كل ما في جوانحي ... وجرعته من مرّ ما أتجرّع ولا بدّ من شكوى إلى ذي حفيظة ... إذا جعلت أسرار نفسي تطلّع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 وقال الشاعر: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغيا أنه لدميم وقال بزر جمهر: ما رأينا اشبه بالمظلوم من الحاسد. وقال الأحنف بن قيس: لا راحة لحسود. وقال الشعبي: الحاسد منغّص بما في يد غيره. وقال الله تبارك وتعالى: «ومن شر حاسد إذا حسد» . وقال بعضهم يمدح أقواما: محسّدون وشرّ الناس منزلة ... من عاش في الناس يوما غير محسود وقال الشاعر: الرزق يأتي قدرا على مهل ... والمرء مطبوع على حبّ العجل وقالوا: «من تمام المعروف تعجيله» . ووصف بعض الأعراب أميرا فقال: إذا أوعد أخّر، وإذا وعد عجّل، وعيده عفو، ووعده إنجاز. وقال تبارك وتعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا. ودخل عمرو بن عبيد على المنصور وهو يومئذ خليفة- وروى هذا الحديث العتبي عن عتبة بن هارون قال: شهدته وقد خرج من عنده، فسألته عما جرى بينهما فقال: رأيت عنده فتى لم أعرفه فقال لي: يا أبا عثمان، أتعرفه؟ فقلت: لا. فقال: هذا ابن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين. فقلت له: قد رضيت له أمرا يصير إليه إذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 صار وقد شغلت عنه! فبكى ثم قال: عظني يا أبا عثمان؟ فقلت: إن الله قد أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك منه ببعضها، فلو أن هذا الأمر الذي صار إليك بقي في يدي من كان قبلك لم يصل إليك. وتذكّر يوما يتمخض بأهله لا ليلة بعده. المدائني قال: سمعت أعرابيا يسأل وهو يقول: «رحم الله امرأ لم تمجّ أذنه كلامي، وقدم لنفسه معاذة من سوء مقامي، فإن البلاد مجدبة والحال سيئة، والعقل زاجر ينهى عن كلامكم، والفقر عاذر يحملني على أخباركم، والدعاء أحد الصدقتين، فرحم الله امرأ أمر بمير، أو دعا بخير» . وقال رجل من طيىء: قتلنا بقتلانا من القوم مثلهم ... كراما ولم نأخذ بهم خشف النخل وقال آخر: قتلنا رجالا من تميم أخايرا ... بقوم كرام من رجال أخاير وسئل بعض العرب: ما العقل؟ قال: الإصابة بالظنون، ومعرفة ما لم يكن بما قد كان. وقال جرير يعاتب المهاجر بن عبد الله: يا قيس عيلان إني قد نصبت لكم ... بالمنجنيق ولما أرسل الحجرا فوثب المهاجر فأخذ بحقوه وقال: لك العتبي يا أبا حزرة لا ترسله! وقال سويد بن صامت: ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يفري «1» مقالته كالشحم ما دام شاهدا ... وبالغيب مأثور على ثغرة النحر «2» تبين لك العينان ما هو كاتم ... من الشر والبغضاء بالنظر الشزر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 يسرّك باديه وتحت أديمه ... نميمة غش تبتري عقب الظهر «1» فرشني بخير طالما قد بريتني ... وخير الموالي من يريش ولا يبري وقال حارثة بن بدر، لما تحالفت الأزد وربيعة: لا تحسبنّ فؤادي طائرا فزعا ... إذا تحالف ضبّ البرّ والنون وأنشد ابن الأعرابي لأعرابي: فإن أك قصدا في الرجال فإنني ... إذا حلّ أمر ساحتي لجسيم «2» تعيّرني الإعدام والوجه معرض ... وسيفي بأموال التجار زعيم وأنشد ابن الأعرابي لعمرو بن شأس: متى يبلغ البنيان يوما تمامه ... إذا كنت تبنيه وآخر يهدم وقال عبيد بن الأبرص: ساعد بأرض إذا كنت بها ... ولا تقل إنني غريب قد يوصل النازح النائي وقد ... يقطع ذو السهمة القريب «3» وأنشد الأصمعي لكثيّر: رأيت أبا الوليد غداة جمع ... به شيب وما فقد الشبابا ولكن تحت ذاك الشيب حزم ... إذا ما ظن أمرض أو أصابا «4» ويمدحون بإصابة الظن ويذمون بخطئه. قال أوس بن حجر: الألمعيّ الذي يظن بك الظ ... ن كأن قد رأى وقد سمعا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 وفي بعض الحكمة: «من لم ينتفع بظنه لم ينتفع بيقينه» وقال السموأل بن عاديا: وإنا لقوم ما نرى القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول يقرّب حبّ الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول تسيل على حد السيوف نفوسنا ... وليست على غير السيوف تسيل وما مات منا ميت في فراشه ... ولا طلّ منا حيث كان قتيل وقال حسان بن ثابت: لم تفتها شمس النهار بشيء ... غير أن السّبات ليس يدوم لو يدبّ الحولي من ولد الذ ... رّ عليها لأندبتها الكلوم وقال بشار بن برد: من فتاة صبّ الجمال عليها ... في حديث كلذة النشوان ثم فارقت ذاك غير ذميم ... كلّ عيش الدنيا وإن طال فان وقال مزاحم العقيلي: تزين سنا الماويّ كلّ عشية ... على غفلات الزين والمتجمل وجوه لو أن المدلجين اعتشوا بها ... صدعن الدجى حتى ترى الليل ينجلي وقال المسعودي: إن الكرام مناهبو ... ك المجد كلهم فناهب أخلف وأتلف كلّ شي ... ء زعزعته الريح ذاهب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 [خطب ووصايا متخيرة] قال: قام شداد بن أوس «1» وقد أمره معاوية بتنقص علي، فقال: الحمد لله الذي افترض طاعته على عباده، وجعل رضاه عند أهل التقوى آثر من رضا خلقه، على ذلك مضى أولهم، وعليه يمضي آخرهم. أيها الناس، إن الآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قادر، وإن الدنيا عرض حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وإن السامع المطيع لله لا حجة عليه وإن السامع العاصي لله لا حجة له، وإن الله إذا أراد بالعباد صلاحا عمل عليهم صلحاؤهم، وقضى بينهم فقهاؤهم، وملك المال سمحاؤهم، وإذا أراد بهم شرا عمل عليهم سفهاؤهم، وقضى بينهم جهلاؤهم، وملك المال بخلاؤهم. وإن من صلاح الولاة أن يصلح قرناؤهم. ونصح لك يا معاوية من أسخطك بالحق، وغشّك من أرضاك بالباطل. قال: اجلس رحمك الله، قد أمرنا لك بمال! قال: إن كان من مالك الذي تعهّدت جمعه مخافة تبعته، فأصبته حلالا وأنفقته إفضالا، فنعم، وإن كان مما شاركك فيه المسلمون فاحتجنته دونهم «2» ، فأصبته اقترافا «3» ، وأنفقته إسرافا، فإن الله يقول في كتابه: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ. وأذن معاوية للأحنف بن قيس، وقد وافى معه محمد بن الأشعث، ثم أذن له فقدمه عليه فوجد من ذلك محمد بن الأشعث، ثم أذن له فدخل فجلس بين معاوية والأحنف، فقال له معاوية: إنّا والله ما أذنّا له قبلك إلا ليجلس إلينا دونك، وما رأيت أحدا يرفع نفسه فوق قدرها إلا من ذلّة يجدها، وقد فعلت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 فعل من أحسّ من نفسه ذلا وضعة، وإنا كما نملك أموركم نملك تأديبكم، فأريدوا منا ما نريده منكم، فإنه أبقى لكم، وإلا قصرناكم كرها، فكان أشدّ عليكم وأعنف بكم. وقال معاوية لرجل من أهل سبأ: ما كان أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! فقال: بل قومك أجهل! قالوا حين دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الحق وأراهم البينات: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ . إلا قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له!! قال: ولما سقطت ثنيتا معاوية لفّ وجهه بعمامة، ثم خرج إلى الناس فقال: لئن ابتليت لقد ابتلي الصالحون قبلي، وإني لأرجو أن أكون منهم. ولئن عوقبت لقد عوقب الخاطئون قبلي، وما آمن أن أكون منهم. ولئن سقط عضوان مني لما بقي أكثر. ولو أتى على نفسي لما كان لي عليه خيار، تبارك وتعالى. فرحم الله عبدا دعا بالعافية، فو الله لئن كان عتب علي بعض خاصتكم لقد كنت حدبا على عامتكم. ولما بلغت معاوية وفاة الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما، دخل عليه ابن عباس فقال له معاوية: آجرك الله أبا عباس في أبي محمد الحسن بن علي! ولم يظهر حزنا، فقال ابن عباس: إنا لله وإنا إليه راجعون! وغلبه البكاء فردّه ثم قال: لا يسد والله مكانه جفرتك «1» ، ولا يزيد موته في أجلك، والله لقد أصبنا بمن هو أعظم منه فقدا فما ضيعنا الله بعده! فقال له معاوية: كم كانت سنه؟ قال: مولده أشهر من أن تتعرف سنه! قال: أحسبه ترك أولادا صغارا؟ قال: كلنا كان صغيرا فكبر، ولئن اختار الله لأبي محمد ما عنده، وقبضه إلى رحمته، لقد أبقى الله أبا عبد الله، وفي مثله الخلف الصالح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 الأصمعي عن أبان بن تغلب قال: مررت بامرأة بأعلى الأرض، وبين يديها ابن لها يريد سفرا وهي توصيه فقالت: إجلس امنحك وصيّتي وبالله توفيقك، وقليل إجدائها عليك أنفع من كثير عقلك: إياك والنمائم، فإنها تزرع الضغائن، ولا تجعل نفسك غرضا للرماة، فإن الهدف إذا رمي لم يلبث أن ينثلم، ومثّل لنفسك مثالا فما استحسنته من غيرك فاعمل به، وما كرهته منه فدعه واجتنبه، ومن كانت مودته بشّره كان كالريح في تصرفها. ثم نظرت فقالت: كأنك يا عراقي أعجبت بكلام أهل البدو؟ ثم قالت لابنها: إذا هززت فهزّ كريما، فإن الكريم يهتز لهزتك. وإياك واللئيم فإنه صخرة لا ينفجر ماؤها، وإياك والغدر فإنه أقبح ما تعومل به، وعليك بالوفاء ففيه النماء. وكن بمالك جوادا، وبدينك شحيحا. ومن أعطي السخاء والحلم فقد استجاد الحلة: ريطتها وسربالها! انهض على اسم الله. وقال أعرابي لرجل مطله في حاجة: إن مثل الظفر بالحاجة تعجيل اليأس منها إذا عسر قضاؤها، وإن الطلب وإن قل أعظم قدرا من الحاجة وإن عظمت، والمطل من غير عسر آفة الجود. خطب الفضل الرقاشيّ إلى قوم من بني تميم، فخطب لنفسه، فلما فرغ قام أعرابي منهم فقال: توسلت بحرمة، وأدليت بحق، واستندت إلى خير، ودعوت إلى سنّة، ففرضك مقبول، وما سألت مبذول، وحاجتك مقضيّة إن شاء الله تعالى. قال الفضل: لو كان الأعرابي حمد الله في أوّل كلامه وصلى على النبي صلّى الله عليه وسلّم لفضحني يومئذ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 المدائني قال: قال المنذر بن المنذر، لما حارب غسّان الشام، لأبنه النعمان يوصيه: إياك واطّراح الإخوان، وإطّراف المعرفة «1» وإياك وملاحاة الملوك، وممازحة السفيه. وعليك بطول الخلوة، والإكثار من السمر. والبس من القشر «2» ما يزينك في نفسك ومروءتك. واعلم أن جماع الخير كله الحياء فعليك به، فتواضع في نفسك وانخدع في مالك. واعلم أن السكوت عن الأمر الذي يغنيك خير من الكلام، فإذا اضطررت إليه فتحرّ الصدق والإيجاز، تسلم إن شاء الله تعالى. كلام من عزى بعض الملوك قال: إن الخلق للخالق، والشكر للمنعم، والتسليم للقادر، ولا بد مما هو كائن. وقد جاء ما لا يردّ، ولا سبيل إلى ردّ ما قد فات، وقد أقام معك ما سيذهب أو ستتركه، فما الجزع مما لا بد منه، وما الطمع فيما لا يرجى، وما الحيلة فيما سينتقل عنك أو تنقل عنه؟ وقد مضت أصول نحن فروعها، فما بقاء الفرع بعد ذهاب الأصل، فافضل الأشياء عند المصائب الصبر، وإنما أهل الدنيا سفر لا يحلون الركاب إلا في غيرها. فما أحسن الشكر عند النعم، والتسليم عند الغير. فاعتبر بمن رأيت من أهل الجزع، فإن رأيت الجزع رد أحدا منهم إلى ثقة من درك فما أولاك به. واعلم أن أعظم من المصيبة سوء الخلف منها، فأفق فإن المرجع قريب. واعلم انه إنما ابتلاك المنعم، وأخذ منك المعطي، وما ترك أكثر. فإن نسيت الصبر فلا تنس الشكر، وكلّا فلا تدع. واحذر من الغفلة استلاب النعم، وطول الندامة، فما أصغر المصيبة اليوم مع عظم الغنيمة غدا. فاستقبل المصيبة بالحسبة «3» تستخلف بها نعمى. فإنما نحن في الدنيا غرض ينتصل «4» فينا بالمنايا، ونهب للمصائب، مع كل جرعة شرق، ومع كل أكلة غصص، لا تنال نعمة إلا بفراق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 أخرى، ولا يستقبل معمّر يوما من عمره إلا بفراق آخر من أجله، ولا تحدث له زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبله من رزقه، ولا يحيا له أثر إلا مات له أثر. ونحن أعوان الحتوف على أنفسه، وأنفسنا تسوقنا إلى الفناء، فمن أين نرجو البقاء؟ وهذا الليل والنهار لم يرفعا من شيء شرفا إلا أسرعا الكرّة في هدم ما رفعا، وتفريق ما جمعا. فاطلب الخير من أهله، واعلم أن خيرا من الخير معطيه، وشرا من الشر فاعله. [أقوال وأشعار في الطلب والدعاء] وقال أبو نواس: أتتّبع الظرفاء أكتب عنهم ... كيما أحدّث من أحبّ فيضحكا وقال آخر: قدرت فلم أترك صلاح عشيرتي ... وما العفو إلا بعد قدرة قادر وقال آخر: أخو الجدّ إن جدّ الرجال وشمّروا ... وذو باطل إن شئت ألهاك باطله قبيصة بن عمر المهلبيّ، أن رجلا أتى ابن أبي عيينة، فسأله أن يكتب إلى داود بن يزيد كتابا، ففعل وكتب في أسفله: إن امرأ قذفت إليك به ... في البحر بعص مراكب البحر تجري الرياح به فتحمله ... وتكفّ أحيانا فلا تجري ويرى المنيّة كلما عصفت ... ريح به للهول والذعر للمستحقّ بأن تزوده ... كتب الأمان له من الفقر قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ما وجد أحد في نفسه كبرا إلا من مهانة يجدها في نفسه. ودخل رجل من بني مخزوم، وكان زبيريا، على عبد الملك بن مروان، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 فقال له عبد الملك: أليس قد ردك الله على عقبيك؟ قال: أو من رد إليك فقد رد على عقبيه؟ فاستحيا وعلم أنه قد أساء. وقال المخبل: إذا أنت لاقيت الرجال فلاقهم ... وعرضك من غثّ الأمور سليم وقال النضر بن خالد: كبره يبلغ الكواكب إلا ... أنه في مروءة البقّال وقال خداش بن زهير: الناس تحتك أقدام وأنت لهم ... رأس فكيف يسوّى الرأس والقدم إنّا لنعلم إنا ما بقيت لنا ... فينا السماح وفينا الجود والكرم وحسبنا من ثناء المادحين إذا ... أثنوا عليك بأن يثنوا بما علموا وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كانت قريش تألف منزل أبي بكر رضي الله تعالى عنه لخصلتين: العلم والطعام، فلما أسلم أسلم عامة من كان يجالسه. قال الأصمعي: وقف أعرابي يسأل فقال: ألا فتى أروع ذا جمال ... من عرب الناس أو الموالي يعينني اليوم على عيالي ... قد كثّروا همّي وقلّ مالي وساقهم جدب وسوء حال ... وقد مللت كثرة السؤال وقال أعرابي: يا ابن الكرام والدا وولدا ... لا تحرمنّ سائلا تعمّدا أفقره دهر عليه قد عدا ... من بعد ما كان قديما سيّدا وقال أعرابي: اللهم أسألك قلبا توّابا أوّابا، لا كافرا ولا مرتابا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 وهب رجل لأعرابي شيئا فقال: جعل الله للخير عليك دليلا، وجعل عندك رفدا جزيلا، وأبقاك بقاء طويلا، وأبلاك بلاء جميلا. وقف أعرابي على قوم فمنعوه فقال: اللهم أشغلنا بذكرك، واعذنا من سخطك، وجنّبنا إلى عفوك «1» ، فقد ضن خلقك على خلقك برزقك، فلا تشغلنا بما عندهم عن طلب ما عندك، وآتنا من الدنيا القنعان «2» ، وإن كان كثيرها يسخطك، فلا خير فيما يسخطك. الأصمعي قال: سمعت أعرابيا يدعو وهو يقول: اللهم أغفر لي إذ الصحف منشورة، والتوبة مقبولة، قبل أن لا أقدر على استغفارك، حين ينقطع الأمل، ويحضر الأجل، ويفنى العمل. الأصمعي قال: سمعت أعرابيا يدعو وهو يقول: اللهم أرزقني مالا أكبت به الأعداء، وبنين أصول بهم على الأقوياء. وكان منادي سعد بن عبادة «3» يقول على أطمه: من أراد خبزا ولحما فليأت أطم سعد. وخلفه ابنه قيس بن سعد، فكان يفعل كفعله، فإذا أكل الناس رفع يده إلى السماء وقال: اللهم إني لا أصلح على القليل، ولا يصلح القليل لي. اللهم هب لي حمدا ومجدا، فإنه لا حمد إلا بفعال، ولا مجد إلا بمال. وقال أعرابي: اللهم إن لك علي حقوقا فتصدّق بها علي، وللناس علي حقوقا فأدها عني، وقد أوجبت لكل ضيف قرى وأنا ضيفك، فاجعل قراي في هذه الليلة الجنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 وقف أعرابي على قوم يسألهم فأنشأ يقول: هل من فتى عنده خفّان يحملني ... عليهما إنني شيخ على سفر أشكو إلى الله أهوالا أمارسها ... من الصّداح ب؟؟؟ ي سيّء البصر إذا سرى القوم لم أبصر طريقهم ... إن لم يكن عندهم ضوء من القمر الأخفش قال: خرج أعرابي يطلب الصدقة ومعه ابنتان له، فقالت ابنته لما رأت إمساك الناس عنه: يأيها الراكب ذو التّعريس ... هل فيكم من طارد للبوس عن ذي هداج بيّن التقويس «1» ... بفضل سربال له دريس «2» أو فاضل من زاده خسيس ... أثابه الرحمن بالنفيس ووقف سائل على الحسن فقال: رحم الله عبدا أعطى من سعة، أو آسى من كفاف، أو آثر من قلّة. وقال الطائي: فتى كلما فاضت عيون قبيلة ... دما ضحكت عنه الأحاديث والذكر فتى مات بين الطعن والضرب ميتة ... تقوم مقام النصر إذ فاته النصر وقال: بكر إذا ابتسمت أراك وميضها ... نور الأقاح برملة ميعاس وإذا مشت تركت بصدرك ضعف ما ... بحليّها من كثرة الوسواس «3» قالت وقد حمّ الفراق فكأسه ... قد خولط الساقي بها والحاسي «4» لا تنسين تلك العهود فإنما ... سميت إنسانا لأنك ناسي هدأت على تأميل أحمد همتي ... وأطاف تقليدي به وقياسي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 نور العرارة نوره ونسيمه ... نشر الخزامى في اخضرار الآس أقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلا شرودا في الندى والباس فالله قد ضرب الأقلّ لنوره ... مثلا من المشكاة والنبراس وقال: احفظ رسائل شعر فيك ما ذهبت ... خواطر البرق إلا دون ما ذهبا يغدون مغتربات في البلاد فما ... يزلن يونسن في الآفاق مغتربا ولا تضعها فما في الأرض أحسن من ... نظم القوافي إذا ما صادفت أدبا [نقد الشعر والشعراء] أسر رؤبة في بعض حروب تميم فمنع الكلام، فجعل يصرخ: يا صباحاه، ويا بني تميم أطلقوا من لساني. وربما قال الشاعر في هجائه قولا يعيب به المهجوّ فيمتنع من فعله المهجو وإن كان لا يلحق فاعله ذم. وكذلك إذا مدحه بشيء أولع بفعله وإن كان لا يصير إليه بفعله مدح. فمن ذلك تقدّم كلثم بنت سريع مولى عمرو بن حريث، إلى عبد الملك ابن عمير، وهو على قضاء الكوفة، تخاصم أهلها، فقضى لها عبد الملك على أهلها، فقال هذيل الأشجعي: أتاه وليد بالشهود يقودهم ... على ما ادّعى من صامت المال والخول «1» وجاءت إليه كلثم وكلامها ... شفاء من الداء المخامر والخبل فأدلى وليد عند ذاك بحقه ... وكان وليد ذا مراء وذا جدل وكان لها دلّ وعين كحيلة ... فأدلت بحسن الدلّ منها وبالكحل ففتّنت القبطيّ حتى قضى لها ... بغير قضاء الله في السّور الطّول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 فلو كان من بالقصر يعلم علمه ... لما استعمل القبطي فينا على عمل له حين يقضي للنساء تخاوص ... وكان وما فيه التخاوص والحول «1» إذا ذات دلّ كلمته بحاجة ... فهمّ بأن يقضي تنحنح أو سعل وبرّق عينيه ولاك لسانه ... يرى كلّ شيء ما خلا شخصها جلل قال: فقال عبد الملك: أخزاه الله، والله لربما جاءتني السعلة أو النحنحة وأنا في المتوضأ فأذكر قوله فأردها لذلك. وزعم الهيثم بن عدي عن أشياخه، أن الشاعر لما قال في شهر بن حوشب: لقد باع شهر دينه بخريطة ... فمن يأمن القرّاء بعدك يا شهر ما مسّ خريطة «2» حتى مات. وقال رجل من بني تغلب، وكان ظريفا: ما لقي أحد من تغلب ما ألقى أنا! قلت: وكيف ذاك؟ قال: قال الشاعر «3» : لا تطلبنّ خؤولة في تغلب ... فالزّنج أكرم منهم أخوالا لو أن تغلب جمّعت أحسابها ... يوم التفاخر لم تزن مثقالا تلقاهم حلماء عن أعدائهم ... وعلى الصديق تراهم جهّالا والتغلبيّ إذا تنحنح للقرى ... حكّ استه وتمثّل الأمثالا والله إني لأتوهم أن لو نهشت أستي الأفاعي ما حككتها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 وكان الشاعر أرفع قدرا من الخطيب، وهم إليه أحوج، لردّه مآثرهم عليهم وتذكيرهم بأيامهم، فلما كثر الشعراء وكثر الشعر صار الخطيب أعظم قدرا من الشاعر. والذين هجوا فوضعوا من قدر من هجوه، ومدحوا فرفعوا من قدر من مدحوا، وهجاهم قوم فردوا عليهم فأفحموهم، وسكت عنهم بعض من هجاهم مخافة التعرض لهم، وسكتوا عن بعض من هجاهم رغبة بأنفسهم عن الرد عليهم، وهم إسلاميون: جرير والفرزدق والأخطل. وفي الجاهلية: زهير، وطرفة، والأعشى، والنابغة. هذا قول أبي عبيدة. وزعم أبو عمرو بن العلاء: أن الشعر فتح بامرىء القيس وختم بذي الرمّة. ومن الشعراء من يحكم القريض ولا يحسن من الرجز شيئا، ففي الجاهلية منهم: زهير، والنابغة، والأعشى. وأما من يجمعهما فامرؤ القيس وله شيء من الرجز، وطر؟؟؟ ة وله كمثل ذلك، ولبيد وقد أكثر. ومن الإسلاميين من لا يقدر على الرجز وهو في ذلك يجيد القريض: كالفرزدق وجرير. ومن يجمعهما فأبو النجم، وحميد الأرقط، والعماني، وبشّار بن برد. وأقل من هؤلاء يحكم القصيد والإرجاز والخطب. وكان الكميت، والبعيث، والطرماح شعراء خطباء، وكان البعيث أخطبهم. وقال يونس: لئن كان مغلّبا في الشعر لقد كان غلّب في الخطب. وإذا قالوا: غلّب فهو الغالب. وقال الحسين بن مطير الأسديّ: فيا قبر معن كنت أوّل حفرة ... من الأرض خطّت للمكارم مضجعا فلما مضى معن مضى الجود وانقضى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا فتى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا تعزّ أبا العباس عنه ولا يكن ... جزاؤك من معن بأن تتضعضعا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 فما مات من كنت ابنه لا ولا الذي ... له مثل ما أسدى أبوك وما سعى تمنّى أناس شأوه من ضلالهم ... فأضحوا على الأذقان صرعى وظلّعا وقال مسلم الأنصاريّ يرثي يزيد بن مزيد: قبر ببرذعة استسرّ ضريحه ... خطرا تقاصر دونه الأخطار أبقى الزمان على معدّ بعده ... حزنا كعمر الدهر ليس يعار نفضت بك الآمال أحلاس الغنى ... واسترجعت نزّاعها الأمصار فاذهب كما ذهبت غوادي مزنة ... أثنى عليها السهل والأوعار وقال همّام الرّقاشيّ: أبلغ أبا مسمع عني مغلغلة ... وفي العتاب حياة بين أقوام قدّمت قبلي رجالا لم يكن لهم ... في الحق أن يلجوا الأبواب قدّامي لو عدّ قبر وقبر كنت أكرمهم ... قبرا وأبعدهم من منزل الذّام حتى جعلت إذا ما حاجة عرضت ... بباب قصرك أدلوها بأقوام وقال الأبيرد الرياحيّ يرثي أخاه: فتى إن هو استغنى تخرّق في الغنى ... وإن قلّ مال لم يؤد متنه الفقر وسامى جسيمات الأمور فنالها ... على العسر حتى يدرك العسرة اليسر ترى القوم في العزّاء ينتظرونه ... إذا شك رأي القوم أو حزب الأمر «1» فليتك كنت الحي في الناس باقيا ... وكنت أنا الميت الذي غيّب القبر لقد كنت استعفي الآله إذا اشتكى ... من الأجر لي فيه وإن سرّني الأجر واجزع أن ينأى به بين ليلة ... فكيف ببين صار ميعاده الحشر وقال أبو عبيدة: أنشدني رجل من بني عجل: وكنت أعير الدمع قبلك من بكى ... فأنت على من مات بعدك شاغله لقد رحل الحيّ المقيم وودعوا ... فتى لم يكن يأذى به من ينازله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 ولم يك يخشى الجار منه إذا دنا ... أذاه ولا يخشى الحريمة سائلة فتى كان للمعروف يبسط كفّه ... إذا قبضت كفّ البخيل ونائله [أحاديث ورسائل ونصائح متفرقة] قال: دخل معن بن زائدة على أبي جعفر المنصور، فقارب في خطوه فقال المنصور: لقد كبرت سنك! قال: في طاعتك. قال: وإنك لجلد! قال: على عدائك، قال: وأرى فيك بقيّة! قال: هي لك. قال: كتب عبد الملك بن مروان إلى عمرو بن سعيد الأشدق، حين خرج عليه: أما بعد، فإن رحمتي لك تصرفني عن الغضب عليك، لتمكّن الخدع منك، وخذلان التوفيق إياك. نهضت بأسباب وهمتك أطماعك أن تستفيد بها عزا، كنت جديرا لو اعتدلت أن لا تدفع بها ذلّا. ومن رحل عنه حسن النظر واستوطنته الأماني ملك الحين تصريفه، واستترت عنه عواقب أمره. وعن قليل يتبيّن من سلك سبيلك، ونهض بمثل أسبابك، أنه أسير غفلة، وصريع خدع، ومغيض ندم. والرّحم تحمل على الصفح عنك ما لم تحلل بك عواقب جهلك، وتزجر عن الإيقاع بك. وأنت، إن ارتدعت، في كنف وستر. والسلام. فكتب إليه عمرو: أما بعد، فإن استدراج النّعم إياك أفادك البغي، ورائحة التدرة أورثتك الغفلة. زجرت عما واقعت مثله، وندبت إلى ما تركت سبيله. ولو كان ضعف الأسباب يؤيس الطلاب ما انتقل سلطان، ولا ذل عزّ. وعما قليل تتبيّن من أسير الغفلة، وصريع الخدع. والرحم تعطف على الإبقاء عليك، مع دفعك ما غيرك أقوم به منك. والسلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 قال أبو الحسن: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن الوليد بن عبد الملك: أما بعد فإنك كتبت تذكر أن عاملا أخذ مالك بالحمّة «1» وتزعم أني من الظالمين! وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من أمرك صبيا سفيها على جيش من جيوش المسلمين، لم تكن له في ذلك نية إلا حب الوالد لولده. وإن أظلم مني وأترك لعهد الله لأنت. فأنت عمر بن الوليد، وأمك صنّاجة «2» تدخل دور حمص، وتطوف في حوانيتها! رويدك أن لو قد التقت حلقتا البطان «3» لحملتك وأهل بيتك على المحجّة البيضاء، فطالما ركبتم بنيّات الطريق «4» . مع أني قد هممت أن أبعث إليك من يحلق دلادلك! فإني أعلم أنها من أعظم المصائب عليك. والسلام. قال أبو الحسن: كان عبد الملك بن مروان شديد اليقظة، وكثير التعهد لولاته، فبلغه أن عاملا من عمّاله قبل هدية، فأمر بإشخاصه إليه، فلما دخل عليه قال له: أقبلت هدية منذ وليتك؟ قال له: يا أمير المؤمنين، بلادك عامرة، وخراجك موفور، ورعيتك على أفضل حال! قال: أجب فيما سألتك عنه، أقبلت هدية منذ وليتك؟ قال: نعم. قال: لئن كنت قبلت هدية ولم تعوّض إنك للئيم. ولئن أنلت مهديك لا من مالك أو استكفيته ما لم يكن يستكفاه، إنك لجائر خائن. ولئن كان مذهبك أن تعوض المهدي إليك من مالك وقبلت ما اتهمك به عند من استكفاك وبسط لسان عائبك، واطمع فيك أهل عملك، إنك لجاهل. وما فيمن أتى أمرا لم يخل فيه من دناءة أو خيانة أو جهل مصطنع! نحّياه عن عمله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 قال أبو الحسن: عرض أعرابيّ لعتبة بن أبي سفيان وهو على مكة فقال: أيها الخليفة! قال: لست به ولم تبعد. قال: يا أخاه. قال: اسمعت. فقال: شيخ من بني عامر يتقرب إليك بالعمومة، ويختص بالخؤولة، ويشكو إليك كثرة العيال ووطأة الزمان، وشدّة فقر وترادف ضرّ، وعندك ما يسعه ويصرف عنه بؤسه! قال: استغفر الله منك، واستعينه عليك، قد أمرت لك بغناك، وليت إسراعي إليك يقوم بإبطائي عنك. وقال أعرابيّ يعيب قوما: هم أقلّ الناس ذنوبا إلى أعدائهم، وأكثرهم جرما إلى أصدقائهم، يصومون عن المعروف، ويفطرون على الفحشاء. وقال مجّاعة بن مرارة «1» ، لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: إذا كان الرأي عند من لا يقبل منه، والسلاح عند من لا يستعمله، والمال عند من لا ينفقه، ضاعت الأمور. الأصمعي قال: نعت أعرابيّ رجلا فقال: كأنّ الألسن والقلوب ريضت له، فما تنعقد إلا على ودّه، ولا تنطق إلا بحمده. وقال أعرابي: وعد الكريم نقد وتعجيل، ووعد اللئيم مطل وتعليل. أتى أعرابي عمر بن عبد العزيز فقال: رجل من أهل البادية ساقته الحاجة وانتهت به الفاقة، والله يسألك عن مقامي غدا! فبكى عمر. قال الشاعر: ومن يبق مالا عدّة وصيانة ... فلا البخل مبقيه ولا الدهر وافره ومن يك ذا عود صليب يعدّه ... ليكسر عود الدهر فالدهر كاسره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 وقال أبان بن الوليد لأياس بن معاوية: أنا أغنى منك! فقال أياس: بل أنا أغنى منك! قال أبان: وكيف ولي كذا وكذا! وعدد أموالا. قال: لأن كسبك لا يفضل عن مؤونتك، وكسبي يفضل عن مؤونتي. وكان يقال: حاجب الرجل عامله على عرضه. وقال أبو الحسن: رأيت امرأة أعرابية غمّضت ميتا وترحّمت عليه ثم قالت: ما أحقّ من ألبس العافية، وأطيلت له النظرة أن لا يعجز عن النظر لنفسه، قبل الحلول بساحته، والحيالة «1» بينه وبين نفسه! وقال ابن الزبير لمعاوية حين أراد أن يبايع لأبنه يزيد: تقدّم إبنك على من هو خير منه؟ قال: كأنك تريد نفسك؟ إن بيته بمكة فوق بيتك! قال ابن الزبير: إن الله رفع بالإسلام بيوتا، فبيتي مما رفع! قال معاوية: صدقت، وبيت حاطب بن أبي بلتعة «2» ! وقال: عاتب أعرابي أباه فقال: إن عظيم حقك علي لا يذهب صغير حقي عليك، والذي تمتّ إلي أمت بمثله إليك، ولست أزعم أنا سواء، ولكن أقول: لا يحلّ لك الإعتداء. قال: مدح رجل قوما فقال: أدبتهم الحكمة، وأحكمتهم التجارب، ولم تغررهم السلامة المنطوية على الهلكة، ورحل عنهم التسويف الذي قطع الناس به مسافة آجالهم، فأحسنوا المقال، وشفعوه بالفعال وقال بعض الحكماء: التواضع مع السخافة والبخل، أحمد عند العلماء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 من الكبر مع السخاء والأدب. فأعظم بحسنة عفّت على سيئتين «1» ، وأفظع بعيب أفسد من صاحبه حسنتين. وقيل لرجل- أراه خالد بن صفوان-: مات صديق لك! فقال: رحمة الله عليه، لقد كان يملأ العين جمالا، والأذن بيانا، ولقد كان يرجى ولا يخشى، ويغشى ولا يغشى، ويعطي ولا يعطى، قليلا لدى الشر حضوره، سليما للصديق ضميره. وقام أعرابي ليسأل فقال: أين الوجوه الصّباح، والعقول الصّحاح، والألسن الفصاح، والأنساب الصّراح «2» ، والمكارم الرّباح «3» ، والصدور الفساح، تعيذني من مقامي هذا؟! ومدح بعضهم رجلا فقال: ما كان أفسح صدره، وأبعد ذكره، وأعظم قدره، وأنفد أمره، وأعلى شرفه، وأربح صفقة من عرفه، مع سعة الفناء، وعظم الإناء، وكرم الآباء. وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لصعصعة بن صوحان: والله ما علمت إنك لكثير المعونة، قليل المؤونة، فجزاك الله خيرا. فقال صعصعة: وأنت فجزاك الله أحسن ذلك، فإنك ما علمت بالله عليم، والله في عينك عظيم. قال أبو الحسن: أوصى عبد الملك بن صالح ابنا له فقال: أي بنيّ أحلم فإن من حلم ساد، ومن تفهّم إزداد، والق أهل الخير، فإن لقاءهم عمارة للقلوب، ولا تجمح بك مطية اللجاج، ومنك من أعتبك، والصاحب مناسب، والصبر على المكروه يعصم القلب. المزاح يورث الضغائن، وحسن التدبير مع الكفاف خير من الكثير مع الإسراف، والإقتصاد يثمر القليل، والإسراف يثبّر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 الكثير «1» ، ونعم الحظ القناعة، وشر ما صحب المرء الحسد، وما كل عورة تصاب «2» . وربما أبصر العمي رشده، وأخطأ البصير قصده. واليأس خير من الطلب إلى الناس. والعفّة مع الحرفة خير من الغنى مع الفجور. أرفق في الطلب وأجمل في المكسب، فإنه رب طلب قد جر إلى حرب. ليس كل طالب بمنجح، ولا كل ملحّ بمحتاج، والمغبون من غبن نصيبه من الله. عاتب من رجوت عتباه، وفاكه من أمنت بلواه. لا تكن مضحاكا من غير عجب، ولا مشاء إلى غير أرب. ومن نأى عن الحق ضاق مذهبه، ومن اقتصر على حاله كان أنعم لباله. لا يكبرن عليك ظلم من ظلمك، فإنه إنما سعى في مضرته ونفعك. وعوّد نفسك السماح، وتخير لها من كل خلق أحسنه، فإن الخير عادة، والشر لجاجة، والصدود آية المقت، والتعلّل آية البخل. ومن الفقه كتمان السر، ولقاح المعرفة ودراسة العلم، وطول التجارب زيادة في العقل، والقناعة راحة الأبدان. والشرف التقوي. والبلاغة معرفة رتق الكلام وفتقه. بالعقل تستخرج الحكمة، وبالحلم يستخرج غور العقل، ومن شمّر في الأمور ركب البحور، شر القول ما نقض بعضه بعضا. من سعى بالنميمة حذره البعيد، ومقته القريب. من أطال النظر بإرادة تامة أدرك الغاية، ومن توانى في نفسه ضاع: من أسرف في الأمور انتشرت عليه، ومن اقتصد اجتمعت له، واللجاجة تورث الضياع للأمور. غبّ الأدب أحمد من إبتدائه. مبادرة الفهم تورث النسيان. سوء الإستماع يعقب العيّ. لا تحدّث من لا يقبل بوجهه عليك، ولا تنصت لمن لا ينمي بحديثه إليك. البلادة في الرجل هجنة «3» ، قلّ مالك إلا استأثر، وقلّ عاجز إلا تأخر. الإحجام عن الأمور يورث العجز، والإقدام عليها يورث إجتلاب الحظ. سوء الطّعمة يفسد العرض «4» ، ويخلق الوجه، ويمحق الدين. الهيبة قرين الحرمان، والجسارة قرين الظفر، ومنك من أنصفك، وأخوك من عاتبك، وشريكك من وفى لك، وصفيك من اترك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 أعدى الإعتداء العقوق. إتباع الشهوة يورث الندامة، وفوت الفرصة يورث الحسرة. جميع أركان الأدب التأتي للرفق. أكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تجد بما تبذل من دينك ونفسك عوضا. لا تساعد النساء فيمللنك، واستبق من نفسك بقية، فإنهن إن يرينك ذا إقتدار خير من أن يطلعن منك على إنكسار. لا تملك المرأة الشفاعة لغيرها فيميل من شفعت له عليك معها. أي بنيّ، إني قد اخترت لك الوصية، ومحضتك النصيحة، وأدّيت الحق إلى الله في تأديبك، فلا تغفلن الأخذ بأحسنها، والعمل بما. والله موفقك. قال الغنوي: احتضر رجل منا فصاحت ابنته، ففتح عينيه وهو يكيد بنفسه «1» ، فقال: عزاء لا أبا لك إنّ شيئا ... تولّى ليس يرجعه الحنين وقال بعض الشعراء: وما إن قتلناهم بأكثر منهم ... ولكن بأوفى بالطعان وأكرما المدائني قال: كان يقال: إذا انقطع رجاؤك من صديقك فألحقه بعدوك. وقال عبد الملك بن صالح: لا يكبرنّ عليك ظلم من ظلمك فإنما سعى في مضرته ونفعك. وقال مصعب بن الزبير: التواضع أحد مصايد الشرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: إياك ومؤاخاة الأحمق، فإنه ربما أراد أن ينفعك فضرّك. وكانوا يقولون: عشر في عشرة هي فيهم أقبح منها في غيرهم: الضيق في الملوك، والغدر في ذوي الأحساب، والحاجة في العلماء، والكذب في القضاة، والغضب في ذوي الألباب، والسفاهة في الكهول، والمرض في الأطباء، والاستهزاء في أهل البؤس، والفخر في أهل الفاقة، والشح في الأغنياء. ووصف بعض الأعراب فرسا فقال: انتهى ضموره، وذبل فريره «1» ، وظهر حصيره «2» ، وتفلّقت غروره «3» ، واسترخت شاكلته «4» ، يقبل بزبرة الأسد «5» ، ويدبر بعجز الذئب. ومات ابن لسليمان بن علي فجزع عليه جزعا شديدا، وامتنع من الطعام والشراب، وجعل الناس يعزونه فلا يحفل بذلك، فدخل عليه يحيى بن منصور فقال: عليكم نزل كتاب الله فأنتم أعلم بفرائضه، ومنكم كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنتم أعرف بسنته، ولست ممن يعلّم من جهل، ولا يقوّم من عوج، ولكني أعزيك ببيت من الشعر. قال: هاته. قال: وهوّن ما ألقى من الوجد أنني ... أساكنه في داره اليوم أو غدا قال: أعد. فأعاد، فقال: يا غلام الغداء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 قال: دعا أعرابي في طريق مكة فقال: «هل من عائد بفضل، أو مواس من كفاف؟» فأمسك عنه فقال: «اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا فنعجز، ولا إلى الناس فنضيع» . وقال أبو الحسن: جاء خلف الأحمر إلى حلقة يونس حين مات أبو جعفر فقال: قد طرّقت ببكرها بنت طبق «1» فقال له يونس: ماذا؟ فقال: فذمّروها خبرا ضخم العنق «2» فقال يونس: وماذا؟ فقال: موت الإمام فلقة من الفلق «3» قال أبو الحسن: أراد رجل أن يكذب بلالا، فقال له يوما: يا بلال، ما سنّ فرسك؟ قال: عظم. قال: فكيف جريه؟ قال: يحضر ما استطاع. قال: فأين تنزل؟ قال: موضعا أضع فيه رجلي. فقال له الرجل: لا أتعنتك أبدا. قال: ودخل رجل على شريح القاضي، يخاصم امرأة له، فقال: السلام عليكم. قال: وعليكم. قال: إني رجل من أهل الشام. قال: بعيد سحيق. قال: وإني قدمت إلى بلدكم هذا. قال: خير مقدم. قال: وإني تزوجت امرأة. قال: بالرّفاء والبنين. قال: وإنها ولدت غلاما. قال: ليهنئك الفارس. قال: وقد كنت شرطت لها صداقها. قال: الشرط أملك. قال: وقد أردت الخروج بها إلى بلدي. قال: الرجل أحق بأهله. قال: قد فعلت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 قال: وخرج الحجاج ذات يوم فأصحر، وحضر غداؤه فقال: أطلبوا من يتغدى معي. فطلبوا فإذا أعرابي في شملة، فأتي به، فقال: السلام عليكم. قال: هلم أيها الأعرابي. قال: قد دعاني من هو أكرم منك فأجبته. قال: ومن هو؟ قال: دعاني الله ربي إلى الصوم فأنا صائم! قال: وصوم في مثل هذا اليوم الحار! قال: صمت ليوم هو أحرّ منه، قال: فأفطر اليوم وصم غدا. قال: ويضمن لي الأمير أنني أعيش إلى غد؟ قال: ليس ذلك إليه! قال: فكيف يسألني عاجلا بآجل ليس إليه؟ قال: إنه طعام طيب. قال. ما طيبه خبازك ولا طباخك! قال: فمن طيبه؟ قال: العافية. قال الحجاج: تالله إن رأيت كاليوم! أخرجوه. قال أبو عمرو: خرج صعصعة بن صوحان عائدا إلى مكة، فلقيه رجل فقال له: يا عبد الله، كيف تركت الأرض؟ قال: عريضة أريضة «1» . قال: إنما عنيت السماء. قال: فوق البشر، ومدى البصر. قال: سبحان الله، إنما أردت السحاب! قال: تحت الخضراء، وفوق الغبراء. قال: إنما أعني المطر. قال: عفّى الأثر، وملأ القتر «2» ، وبلّ الوبر، ومطرنا أحيا المطر. قال: إنسيّ أنت أم جنيّ؟ قال: بل إنسي، من أمة رجل مهدي، صلّى الله عليه وسلّم. وقال بشار: وحمد كعصب البرد حمّلت صاحبي ... إلى ملك للصالحين قرين وقال أيضا: وبكر كنوّار الرياض حديثها ... تروق بوجه واضح وقوام وكتب الحجّاج بن يوسف إلى عبد الملك بن مروان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 أما بعد فإنّا نخبر أمير المؤمنين أنه لم يصب أرضنا وابل منذ كتبت أخبره عن سقيا الله إيانا، إلا ما بلّ وجه الأرض من الطشّ والرش والرذاذ «1» حتى دقعت الأرض واقشعّرت واغبرّت «2» ، وثارت في نواحيها أعاصير تذرو دقاق الأرض من ترابها، وامسك الفلاحون بأيديهم من شدة الأرض واعتزازها وامتناعها، وأرضنا أرض سريع تغيّرها، وشيك تنكّرها، سيء ظن أهلها عند قحوط المطر، حتى أرسل الله بالقبول يوم الجمعة «3» ، فأثارت زبرجا متقطّعا متمصّرا «4» ، ثم أعقبته الشّمال يوم السبت فطحطحت عنه جهامه «5» ، وألفت متقطّعة، وجمعت متمصّرة، حتى انتضد فاستوى، وطما وطحا، وكان جونا مرثعنا «6» قريبا رواعده، ثم عادت عوائده بوابل منهمل منسجل «7» يردف بعضه بعضا، كلما أردف شؤبوب أردفته شآبيب «8» لشدة وقعه في العراص «9» . وكتبت إلى أمير المؤمنين وهي ترمي بمثل قطع القطن، قد ملأ اليباب «10» ، وسد الشعاب، وسقي منها كل ساق. فالحمد لله الذي أنزل غيثه، ونشر رحمته من بعد ما قنطوا، وهو الوليّ الحميد. والسلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312