الكتاب: شرح صحيح البخارى لابن بطال المؤلف: ابن بطال أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك (المتوفى: 449هـ) تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم دار النشر: مكتبة الرشد - السعودية، الرياض الطبعة: الثانية، 1423هـ - 2003م عدد الأجزاء: 10   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- شرح صحيح البخارى لابن بطال ابن بطال الكتاب: شرح صحيح البخارى لابن بطال المؤلف: ابن بطال أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك (المتوفى: 449هـ) تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم دار النشر: مكتبة الرشد - السعودية، الرياض الطبعة: الثانية، 1423هـ - 2003م عدد الأجزاء: 10   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ـ[شرح صحيح البخارى لابن بطال]ـ المؤلف: ابن بطال أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك (المتوفى: 449هـ) تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم دار النشر: مكتبة الرشد - السعودية / الرياض الطبعة: الثانية، 1423هـ - 2003م عدد الأجزاء: 10 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 بسم الله الرحمن الرحيم) وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود: 88] 1 - [كتاب بدء الوحى] - باب كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقول الله عز وجل: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ) [النساء: 163] / 1 - فيه: عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَضِى اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : إنما الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ -. قال المؤلف: قال لى أبو القاسم المهلب بن أبى صفرة، رحمه الله: معنى هذه الآية أن الله تعالى أوحى إلى محمد، عليه الصلاة والسلام، كما أوحى إلى سائر الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، قبله وحى رسَالةٍ، لا وحى إلهام، لأن الوحى ينقسم على وجوه. قال: وإنما قدم البخارى، رحمه الله، حديث تمت الأعمال بالنيات - فى أول كتابه، ليعلم أنه قصد فى تأليفه وجه الله، عز وجل، ففائدة هذا المعنى، أن يكون تنبيهًا لكل من قرأ كتابه، أن يقصد به وجه الله تعالى كما قصده البخارى فى تأليفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وجعل هذا الحديث فى أول كتابه عوضًا من الخطبة التى يبدأ بها المؤلفون، ولقد أحسن العوض من عوَّض من كلامه كلام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذى ما ينطق عن الهوى. وقال جماعة من العلماء: إن هذا الحديث ثلث الإسلام، وبه خطب النبى (صلى الله عليه وسلم) حين وصل إلى دار الهجرة وشهر الإسلام. وقال أبو عبد الله بن الفخار: إنما ذكر هذا الحديث فى هذا الباب، لأنه متعلق بالآية التى فى الترجمة، والمعنى الجامع بينهما أن الله، عز وجل، أوحى إلى محمد (صلى الله عليه وسلم) وإلى الأنبياء قبله أن الأعمال بالنيات، والحجة لذلك قول الله، عز وجل: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة: 5] . وقال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) [الشورى: 13] . وقال أبو العالية: فى هذه الآية وصَّاهم بالإخلاص لله، عز وجل، وعبادته لا شريك له. وقال مجاهد فى قول الله تعالى: (مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) ، قال: أوصاك به وأنبياءه كلهم دينًا واحدًا. وقال أبو الزناد بن سراج: إنما خص المرأة بالذكر من بين سائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الأشياء فى هذا الحديث، لأن العرب فى الجاهلية كانت لا تزوج المولى العربية، ولا يزوجون بناتهم إلا من الأَكْفَاء فى النسب، فلما جاء الإسلام سوى بين المسلمين فى مناكحهم، وصار كل واحد من المسلمين كفئًا لصاحبه، فهاجر كثير من الناس إلى المدينة، ليتزوج بها، حتى سمى بعضهم مهاجر أم قيس. / 2 - وفيه: عَائِشَةَ، رَضِى اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ، سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْىُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت أَحْيَانًا يَأْتِينِى مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَىَّ، فَيُفْصَمُ عَنِّى، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِىَ الْمَلَكُ رَجُلا فَيُكَلِّمُنِى، فَأَعِى مَا يَقُولُ -. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْىُ فِى الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ، وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا. / 3 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِى النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا، إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِىَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَة، َ وَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ، وَهُوَ فِى غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى، فَقَالَ: اقْرَأْ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِى الثَّانِيَةَ فَغَطَّنِى حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى، فَقَالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) [العلق: 1 - 4] ، فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، فَقَالَ: تمت زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى -، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ، وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: تمت لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِى -، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلا وَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِى الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِالْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِىَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِىَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِى مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بخَبَرَ مَا رَأَى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعًا، يَا لَيْتَنِى أَكُونُ حَيًّا، إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت أَوَمُخْرِجِىَّ هُمْ -؟ قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلا عُودِىَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِى يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّىَ وَفَتَرَ الْوَحْىُ. وقَالَ جَابِرَ فِى حَدِيثِهِ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْىِ: قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِى، إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِى، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِى جَاءَنِى بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِىٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) [المدثر: 1 - 5] فَحَمِىَ الْوَحْىُ وَتَتَابَعَ. وَقَالَ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ: بَوَادِرُهُ. / 4 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ فِى قَوْلِ اللَّه تَعَالَى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) [القيامة: 16] قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (قَالَ: جَمْعُهُ لَكَ فِى صَدْرِكَ، وَتَقْرَأَهُ: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (قَالَ: وَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) [القيامة: 16 - 19] ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَقْرَأَهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) كَمَا قَرَأَ. قال المهلب: قوله: تمت فى مثل صلصلة الجرس -، يعنى قوة صوت الملك بالوحى، ليشغله عن أمور الدنيا، ويفرغ حواسه للصوت الشديد، فكان (صلى الله عليه وسلم) ، يعى عنه، لأنه لم يبق فى سمعه مكان لغير صوت الملك ولا فى قلبه. قال المؤلف: وعلى هذه الصفة تتلقى الملائكة الوحى من الله، عز وجل. ذكر البخارى عن ابن مسعود، قال: تمت إذا تكلم الله بالوحى، سمع أهل السماوات -. وقال أبو هريرة فى حديثه: تمت إذا قضى الله الأمر فى السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها، خضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك، قال: فإذا فزع عن قلوبهم وسكت الصوت عرفوا أنه الحق، وقالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق -. وقال أبو الزناد: إنما ذكر (صلى الله عليه وسلم) أنه يأتيه الوحى فى مثل صلصلة الجرس، ويتمثل له رجلاً ولم يذكر الرؤيا، وقد أعلمنا (صلى الله عليه وسلم) أن رؤياه وحى، وذلك أنه أخبرهم بما ينفرد به دون الناس، لأن الرؤيا الصالحة قد يشركه غيره فيها. وأما قول عائشة: تمت أول ما بدء به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الوحى الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح -. قال المهلب: هى تباشير النبوة وكيفية بدئها، لأنه لم يقع فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 ضغث، فيتساوى مع الناس فى ذلك، بل خص بصدقها كلها، وكذلك قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحى، وقرأ: (إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ) [الصافات: 102] فتمم الله عليه النبوة، بأن أرسل إليه الملك فى اليقظة، وكشف له عن الحقيقة، فكانت الأولى فى النوم، وصحة ما يوحى إليه فيه توشيحًا للنبوة وابتدائها حتى أكملها الله له فى اليقظة تفضلاً من الله تعالى، وموهبة خصَّه بها، والله يعلم حيث يجعل رسالاته والله ذو الفضل العظيم. قال غيره: وتزوده (صلى الله عليه وسلم) فى تحنثه يرد قول الصوفية: أن من أخلص لله أنزل الله عليه طعامًا. والرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، كان أولى بهذه المنزلة، لأنه أفضل البشر، وكان يتزود. وقال المهلب: قوله: تمت فغطنى - فيه من الفقه أن الإنسان يذكر وينبه إلى فعل الخير وإن كان عليه فيه مشقة. وقال أبو الزناد: قوله: تمت فغطنى - ثلاث مرات، فيه دليل على أن المستحب فى مبالغة تكرير التنبيه والحض على التعليم ثلاث مرات. وقد روى عنه (صلى الله عليه وسلم) : تمت أنه كان إذا قال شيئًا أعاده ثلاثًا -، للإفهام، وقد استدل بعض الناس من هذا الحديث، أن يؤمر المؤدب أن لا يضرب صبيًا أكثر من ثلاث ضربات. وقوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق: 1] يدل على أنها أول ما نزل من القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وقال أبو الحسن بن القصار: فى هذا رد على الشافعى فى قوله: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (آية من كل سورة، وهذه أول سورة نزلت عليه، ولم يذكر فيها) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (. قال غيره: رجوع الرسول فزعًا، فقال: تمت زملونى -، ولم يخبر بشىء حتى ذهب عنه الروع، فيه دليل: أنه لا يحب أن يسأل الفازع عن شىء من أمره ما دام فى حالة فزعه. وكذلك قال مالك وغيره: إن المذعور لا يلزمه بيع ولا إقرار ولا غيره فى حال فزعه. وقوله: تمت لقد خشيت على نفسى -، يدل أنه من نزلت به ملمة أن له أن يشارك فيها من يثق بنصحه ورأيه. وقولها: تمت كلا والله، ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل - إلى آخر الحديث إنما هو قياس منها على العادات، والأكثر فى الناس فى حسن عاقبة من فعل الخير، وفيه جواز تزكية الرجل فى وجهه بما فيه الخير، وليس بمعارض لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت احثوا التراب فى وجوه المداحين -. وإنما أراد بذلك إذا مدحوه بالباطل، وبما ليس فى الممدوح. وقول يونس ومعمر: تمت بوادره - يعنى: ترجف بوادره مكان رواية من روى: تمت يرجف فؤاده -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وسيأتى تفسير ذلك فى آخر هذا الباب، إن شاء الله تعالى. ومعنى أمره تعالى نبيه لا يحرك بالقرآن لسانه ليعجل به: وعدته له أن يجمعه فى صدره، لكى يتدبره ويتفهمه، وتبدو له عجائب القرآن وحكمته، وتقع فى قلبه مواعظه، فيتذكر بذلك، ولتتأسى به أمته فى تلاوته، فينالوا بركته، ولا يحرموا حكمته. وقد ذكر الله هذا المعنى، فقال: (لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [ص: 29] . وفيه: أن القرآن لا يحفظه أحد، إلا بعون الله له على حفظه وتيسيره، ويشهد لهذا قوله تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) [القمر: 17] . / 5 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِى رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِى كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ. قال المهلب: معنى ذلك: أنه امتثل، (صلى الله عليه وسلم) ، قول الله وأمره، فى تقديم الصدقة بين يدى نجوى الرسول، الذى كان [الله] تعالى أمر به عباده، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) [المجادلة: 12] ، ثم عفا عنهم لإشفاقهم منه، فامتثل ذلك النبى عند مناجاة الملك، وترداده عليه فى رمضان. فإن قيل: هذا أمر منسوخ، قيل: قد فعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى خاصته أشياء منع منها أمته، كالوصال فى الصيام، فإنه (صلى الله عليه وسلم) واصل، ونهى عنه غيره، وقال: تمت أيكم مثلى -؟ وكان يلتزم من طاعة ربه ما لا يقدر عليه غيره، وكان يصلى حتى تتفطر قدماه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ويقول: تمت أفلا أكون عبدًا شكورًا -؟ وما كانت مدارسته للقرآن إلا لتزيده رغبة فى الآخرة، وتزهدًا فى الدنيا. وفيه: دليل أن الجليس الصالح ينتفع بمجالسته. فإن قيل: فما معنى مدارسة جبريل للنبى (صلى الله عليه وسلم) القرآن وقد ضمن الله لنبيه ألا ينساه بقوله: (سَنُقْرِؤُكَ فَلاَ تَنسَى (؟ [الأعلى: 6] فالجواب: أن الله تعالى إنما ضمن له ألا ينساه بأن بقرئه إياه فى المستأنف، لأن السين فى) سَنُقْرِؤُكَ (دخلت للاستئناف، فأنجز له ذلك بإقراء جبريل، ومدارسته له القرآن فى كل رمضان. وخص رمضان بذلك، لأن الله تعالى أنزل فيه القرآن إلى السماء الدنيا، ولتتأسى بذلك أمته فى كل أشهر رمضان، فيكثروا فيه من قراءة القرآن، فيجتمع لهم فضل الصيام والتلاوة والقراءة والقيام. / 6 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِى رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ، فِى الْمُدَّةِ الَّتِى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ فِى مَجْلِسِهِ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِى يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِىٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا. فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّى، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ، فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ: إِنِّى سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِى فَكَذِّبُوهُ، فَوَاللَّهِ لَوْلا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَىَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: أَوَّلَ مَا سَأَلَنِى عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ اتَبَّعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِى مُدَّةٍ لا نَدْرِى مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا، قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّىِّ كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ، قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ. فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِى نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ؟ فَذَكَرْتَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 أَنْ لا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِى بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا، فَقُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمِ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا، وَكَذَلِكَ الإيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لا تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ، وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَىَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّى أَعْلَمُ أَنِّى أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ. ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الَّذِى بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ الكَلْبِى إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ، فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ: تمت بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ بن عَبْدِ اللَّهِ رسول اللَّه إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّى أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإسْلامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأرِيسِيِّين، َ وَ) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 أَنْ لا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} -[آل عمران: 64] . قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ، مَا قَالَ وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتِ الأصْوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا. فَقُلْتُ لأصْحَابِى حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِى كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِى الأصْفَر، فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ، حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَىَّ الإسْلامَ. وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ، وَهِرَقْلَ أسقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّاْمِ، يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ، قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ: وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِى النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِى النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلا الْيَهُودُ، فَلا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، وَاكْتُبْ إِلَى مَدَايِنِ مُلْكِكَ، فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِىَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ، يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ، قَالَ: اذْهَبُوا، فَانْظُرُوا، مُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لا؟ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْعَرَبِ، فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ، فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الأمَّةِ قَدْ ظَهَرَ، ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ، وَكَانَ هِرَقْلُ نَظِيرَهُ فِى الْعِلْمِ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ، حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ، يُوَافِقُ رَأْىَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ الرسول، وَأَنَّهُ نَبِىٌّ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِى دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِى الْفَلاحِ وَالرُّشْدِ، وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِىَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وَأَيِسَ مِنَ الإيمَانِ، قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَىَّ، وَقَالَ: إِنِّى قُلْتُ مَقَالَتِى آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ، فَسَجَدُوا لَهُ، وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ. قال المهلب: وقوله: تمت فى المدة التى مادَّ فيها رسول الله أبا سفيان وكفار قريش -، فإن أهل السير ذكروا أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) صالح أهل مكة سنة ست، عام الحديبة، عشر سنين، ثم إن أهل مكة نقضوا العهد الذى كان بينهم وبين الرسول بقتالهم خزاعة حلفاء النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ثم سألو أبا سفيان أن يجدد لهم العهد، فامتنع النبى (صلى الله عليه وسلم) من ذلك، فأنزل الله تعالى: (أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [التوبة: 13] بعد أن قال تعالى: (وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) [التوبة: 12] فأوجب قتالهم حين نكثوا أيمانهم. وغير جائز أن يترك النبى (صلى الله عليه وسلم) ما أمر به من قتالهم بعد قوله: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) [التوبة: 14، 15] فأمر بقتالهم وأخبر بما يكون من النصر والتشفى خبرًا لا يجوز أن ينقلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وفى سؤال هرقل: تمت أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل؟ - دليل أن أقارب الإنسان أولى بالسؤال عنه من غيرهم من أجل أنه لا ينسب إلى قريبه ما يلحقه به عار فى نسبه عند العداوة كما يفعل غير القريب. وقوله: تمت قربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره -، خشى أن يستحى منه أصحابه عند نظرهم إليه إن كذب فى قوله. وقال لهم: تمت كذبنى فكذبوه - وإن صدقنى فصدقوه. وقوله: تمت فوالله لولا الحياء من أن يأثروا على كذابًا لكذبت عليه - يدل أن الكذب مهجور فى كل أمة ومعيبًا فى كل ملة. وفيه: أن العدو لا يؤمن عليه الكذب على عدوه، وكذلك لا يجوز شهادته على عدوه. وفيه: أن الرسل لا ترسل إلا من أكرم الأنساب، لأن من شرف نسبه كان أبعد له من الانتحال لغير الحقائق. وقوله: تمت فى نسب قومها - يعنى: أفضله وأشرفه. وكذلك الإمام الذى هو خليفة الرسول ينبغى أن يكون من أشرف قومه. وفيه: أن الإمام الكاشف وجهه فى الإمامة وكل من حاول مطلبًا عظيمًا إذا لم يتأس بأحد تقدمه من أهله ولا طلب رئاسة سلفه كان أبعد للمظنة به وأبرأ لساحته. وفيه: أن من أخبر بحديث وهو معروف بالصدق أنه يصدق فيه، وإن كان معروفًا بالكذب أنه لا يقبل حديثه. وقوله: تمت أشراف الناس اتبعوه - فإن أشراف الناس هم الذين يأنفون من الخصال التى شرف صاحبهم عليهم بها، ويُحَطُّ شرفهم إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 أن يكونوا تابعين فى أحوال الدنيا، فلذلك قال: إن كان يعاديه أشراف الناس فهى دلالة على نبوته، وأما ضعفاؤهم الذين لا تتكبر نفوسهم عن اتباع الحق حيث رأوه ولا يجد الشيطان السبيل إلى نفخ الكبرياء فى نفوسهم، فهم متبعون للحق حيث سمعوه لا يمنعم من ذلك طلب رئاسة ولا أنفة شرف، وزيادتهم دليل على صحة النبوة، لأنهم يرون الحق كل يوم يتجدد ويتبين لهم، فيدخل فيه كل يوم طائفة. وأما سؤاله عن ارتدادهم، فإن كل من لم يدخل على بصيره فى شىء وعلى يقين منه فقريب رجوعه واضطرابه، ومن دخل على بصيرة وصحة يقين فيمتنع رجوعه. وأما سؤاله عن الغدر، فإن من طلب الرئاسة والدنيا خاصة لم يسأل عن أى طريق وصل إليها، ومن طلب شرف الآخرة والدنيا لم يدخل فيما يعاب ولا فيما يأثم فيه. وقوله: تمت ونحن منه فى مدة لا ندرى ما يكون منه -، قال: تمت ولم تمكنى كلمة أنتقصه فيها غير ما - فيه من الفقه: أن من شك فى كمال أحوال النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فهو مرتاب غير مؤمن به. وسؤاله عن حربهم وقوله: تمت وكذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لهم العاقبة - فتبتلى ليعظم لها الأجر ولمن اتبعها، ولئلا يخرج الأمر عن العادة، ولو أراد الله إخراج الأمر عن العادات لجعل الناس كلهم له متبعين، ولقذف فى قلوبهم الإيمان به، ولكن أجرى الأمور على العادة بحكمة بالغة؛ ليكون فريق فى الجنة، وفريق فى السعير. وأما قوله لترجمانه: تمت قل له: إنى سألتك عن نسبه - إلى آخر سؤاله، فقال فى كل فصل منها: وكذلك الرسل تبعث فى مثل هذا، فإنما أخبر بذلك عن الكتب القديمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وأن ذلك كله نعت للنبى (صلى الله عليه وسلم) مكتوبًا عندهم فى التوارة والإنجيل، وكذلك قوله: تمت قد كنت أعلم أنه خارج - إنما علم ذلك من التوارة والإنجيل. وقول هرقل: تمت لو كنت أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقاءه - دون خلع من ملكه، ولا اعتراض عليه فى شىء، وهذا التجشم هى الهجرة، وكانت فرضًا على كل مسلم قبل فتح مكة. فإن قيل: فإن النجاشى لم يهاجر قبل فتح مكة وهو مؤمن فكيف سقط عنه فرض الهجرة؟ . قيل له: هو فى أهل مملكته أعْنَى عن الله، وعن رسوله، وعن جماعة المسلمين منه، لو هاجر بنفسه فردًا؛ لأن أول عنائه حبسه الحبشة كلهم من مقاتلة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، والمسلمين مع طوائف الكفار، مع أنه كان ملجأ لمن أوذى من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) وردءًا لجماعة المسلمين، وحكم الردء فى جميع أحكام الإسلام حكم المقاتل، وكذلك فى رد اللصوص والمحاربين عند مالك وأكثر الكوفيين يقتل بقتلهم، ويجب عليه ما يجب عليهم، وإن كانوا لم يحضروا الفعل. ومثل تخلف عثمان وطلحة وسعيد بن زيد عن بدر، فضرب لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بسهامهم من غنيمة بدر، وقالوا: وأجرنا يا رسول الله؟ قال: تمت وأجركم -. وقوله: تمت أسلم تسلم - هذا التجنيس فى غاية البلاغة، وهو من بديع الكلام، ومثله فى كتاب الله: (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [النمل: 44] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وقوله: تمت يؤتك الله أجرك مرتين - أى: بإيمانك بعيسى، (صلى الله عليه وسلم) ، وإيمانك بى بعده. ودعاية الإسلام هى توحيد الله، عز وجل، والإيمان برسول الله (صلى الله عليه وسلم) . ولم يصح عندنا أن هرقل جهر بالإيمان وأعلن بالإسلام، وإنما عندنا أنه آثر ملكه على الجهر بكلمة الحق، ولسنا نقنع بالاعتقاد للإسلام دون الجهر به لقوله: تمت أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأنى رسول الله -، وقد أرخص الله لمن خاف، وأكره على الكفر أن يضمر الإيمان بقوله: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) [النحل: 106] ، ولم يبلغنا أن هرقل أكره على شىء من ذلك فيقوم له عذر وأمره إلى الله تعالى. وأما بعثه (صلى الله عليه وسلم) إلى هرقل بكتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، وآية من القرآن، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو -، وقال العلماء: لا يُمكَّن المشركون من الدراهم التى فيها اسم الله تعالى. وإنما فعل ذلك، والله أعلم، لأنه فى أول الإسلام، ولم يكن بد من أن يدع الناس إلى دين الله كافة وتبليغهم توحيده كما أمره الله تعالى. وقوله: تمت فإن عليك إثم الأريسيين - يريد الرؤساء المتبوعين على الكفر، وسيأتى اشتقاق هذه اللفظة فى آخر هذا الباب إن شاء الله. قال أبو الزناد: فحذره (صلى الله عليه وسلم) ، إذ كان رئيسًا متبوعًا مسموعًا منه أن يكون عليه إثم الكفر، وإثم من عمل به واتبعه عليه، وقد قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 (صلى الله عليه وسلم) : تمت من سنَّ سُنَّة سيئة كان عليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة -. قال المهلب: وأصله فى كتاب الله: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ) [العنكبوت: 13] . وليس على البخارى فى إدخاله أحاديث عن أهل الكتاب، هرقل وغيره، ولا فى قوله: تمت وكان حزَّاءً ينظر فى النجوم - حرج؛ لأنه إنما أخبر أنه كان فى الإنجيل ذكر محمد، (صلى الله عليه وسلم) ، وكان من يتعلق قبل الإسلام بالنجامة ينذر بنبوته؛ لأن علم النجامة كان مباحًا ذلك الوقت، فلما جاء الإسلام منع منه، فلا يجوز لأحد اليوم أن يقضى بشىء منه، وكان علم النجوم قبل الإسلام على التظنين والتبحيث يصيب مرة ويخطئ كثيرًا، فاشتغالهم بما فيه الخطأ الغالب ضلال، فبعث الله نبيه محمدًا (صلى الله عليه وسلم) بالوحى الصحيح، ونسخ ذلك العناء الذى كانوا فيه من أمر النجوم، وقال لهم: نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب. وقال أبو المعتز فى كتاب الأدب: لا يصلح لذى عقل ودين تعاطى علم النجوم؛ لأنه لا سبيل إلى إيصال الصواب منها، والذى يشبه الصواب منها إنما يتهيأ بالاتفاق، وكيف يرضى العاقل من نفسه أن يكذب مرة ويصدق أخرى، وإنما عمر الإنسان كالساعة التى لا ينبغى أن ينفقها إلا فى علم يزداد بالإيغال فيه بعدًا من الباطل وقربًا من الحق، ولو أمكن ألا يخطئ الناظر فى علم النجوم لكان فى ذلك تنغيص العيش، وتكدير لصفوه، وتضييق لمتفسح الآمال التى بها قوت الأنفس وعمارة الدنيا، ولم يف ما يرجى من الخير بما يتوقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 من الشر؛ لأن بعض الناس لو علم أنه يموت إلى سنة لم ينتفع بشىء من دنياه، وهذا لا يشبه بفضل الله وإحسانه ورأفته بخلقه، ولو علم الناظر فيها أنه يعيش مائة سنة فى صحة وغنى لبطر وما انتهى عن فاحشة ولا تورع عن محرم، ولا أتى حنقًا هاجمًا ولزالت نعمه، ولفسدت الدنيا بإهمال الناس لو تركوا أمره ونهيه ولأكل الناس بعضهم بعضًا، ولعل بعضهم كان يؤخر التوبة إلى يوم أو ساعة أو سنة قبل موته متحاذق على ربه، ويدخل الجنة بتوبته، وليس هذا فى حكمة الله وصواب تدبيره، ولا شك أن الخير فيما اختاره الله لنا من طى ذلك عنا، فلله الحمد على جميل صنعه ولطيف إحسانه. وقال أبو الحسن الجرجانى النسابة فى معنى نسبة قريشٍ رسول الله إلى أبى كبشة قال: إنما كانت تدعوه بذلك وتغير اسمه؛ عداوة له إذ لم يمكنهم الطعن فى نسبه المهذب، صلوات الله عليه، وكان وهب بن عبد مناف بن زهرة أبو آمنة أم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يدعى: أبا كبشة، وكان عمرو بن زيد بن أسد بن البخارى أبو سلمى أم عبد المطلب يدعى: أبا كبشة، وكان فى أجداده من قِبَل أمه أبو كبشة، وجد ابن غالب بن الحارث وهو أبو قيلة أم وهب بن عبد مناف أبى آمنة أم الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، وكان أبوه من الرضاعة يدعى: أبا كبشة وهو الحارث بن عبد العزى بن رفاعة السعدى. وقال ابن قتيبة: إنما نسبه، (صلى الله عليه وسلم) ، إلى أبى كبشة وهو الحارث بعض أجداد أمه؛ لأنه رجل عبد الشعرى، ولم تعرف العرب عبادة الشعرى لأحد قبله، وجعلوا فعله فى ذلك شذوذًا فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الدين، فلما جاءهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بما لا يعرفونه من دينهم ودين آبائهم وشذ عنهم فى ترك عبادة الأوثان، ودعا إلى دين الله ودين إبراهيم؛ شبهوه بأبى كبشة فى شذوذه فى عبادة الشعرى. ذكر ما فى كتاب بدء الوحى من غريب اللغة قوله: تمت صلصلة الجرس - الصلصلة والصليل: الصوت. يقال: صلت أجواف الإبل من العطش، إذا يبست ثم شربت فسمعت للماء فى أجوافها صوتًا، والجرس معروف، وهو شبه الناقوس الصغير يوضع فى أعناق الإبل، وأجرس بالجرس صوَّت به، والجرس: الصوت. وقوله: تمت فيفصم عنى -. قال صاحب الأفعال: فصمت الشىء فصما: صدعته من غير أن أبينه، وفصم الشىء عنك: ذهب، وفصمت العقدة: حللتها. ومنه قوله تعالى: (لاَ انفِصَامَ لَهَا) [البقرة: 256] . وفيه لغة أخرى. قال الأصمعى: يفصم: يقلع، ومنه قولهم: أفصم المطر إذا أقلع، فيقال: منه فعل وأفعل. وقوله: تمت يتفصد عرقًا - يعنى: يسيل عرقًا، ومنه الفصد: قطع العرق. وقول عائشة: تمت فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح - يعنى: ضوء الصبح، والفلق: هو الصبح بعينه، وقد قيل فى قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) [الفلق: 1] ، يعنى به الصبح، وقيل: إن الفلق اسم جبٍّ فى جهنم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وقوله: تمت كان يتحنث -. قال ابن قتيبة: التحنث تفعل من الحنث، وليس بمعنى كسب الحنث؛ إنما هو أن يلقيه عن نفسه، وجاءت ثلاثة أفعال مخالفة لسائر الأفعال يقال: تحنث، وتحوب، وتأثم: إذا ألقى الحنث، والحوب، والإثم عن نفسه، وغيرها من الأفعال إنما يكون تفعل منها بمعنى تكسب. وقوله: تمت فغطنى -. قال صاحب العين: غطه فى الماء يغِطه ويغَطه: غرَّقه. وقوله: تمت يرجف فؤاده -. يقال: رجف الشىء يرجف رجفًا: تحرك. وقول يونس ومعمر: ترجف بوادره. قال أبو عبيدة: البادرة: اللحمة التى بين أصل العنق والمنكب الضاربة. وأنشد غيره: وجاءت الخيل محمّرا بوادرها وقوله: تمت الناموس الذى نزل الله على موسى -. قال ابن دريد: ناموس الرجل: صاحب سره، وكل شىء سترت فيه شيئًا فهو ناموس له. وقال أبو عبيد: الناموس جبريل (صلى الله عليه وسلم) . وقوله: تمت نصرًا مؤزرًا - أى: قويًا، مأخوذ من الأزر وهو القوة. ومنه قوله عز وجل: (أَخِى اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى) [طه: 30، 31] أى: قوتى، وقيل: أزرى: ظهرى، خص الظهر؛ لأن القوة فيه. وقوله: تمت ثم لم ينشب ورقة أن توفى وفتر الوحى - أى: لم ينشب فى شىء من الأمور، وكأن هذه اللفظة عند العرب عبارة عن السرعة والعجلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وقوله: تمت فحمى الوحى - فتتابع هو، كقوله (صلى الله عليه وسلم) يوم حنين حين اشتدت الحرب وهاجت: تمت الآن حمى الوطيس - والوطيس: النفور. وقال صاحب العين: حميت النار والشمس: اشتد حرها وحمى الفرس إذا سخن وعرق، وأحميت الحديد فى النار. وقوله: تمت فى المدة التى ماد فيها كفار قريش - فهو صلح الحديبية، وتمت ماد -: فاعل من المدة التى اتفق معهم على الصلح مدة ما من الزمان، تقول العرب: تماد الغريمان والمتبايعان إذا اتفقا على أجل ومدة وهى مفاعلة من اثنين. وقوله: تمت الحرب بيننا وبينه سجال -، قال صاحب العين: الحرب سجال، أى: مرة فيها سجل على هؤلاء وسجل على هؤلاء، والسجل مثل الدلو، والمساجلة: المناوأة فى العمل أيهما يغلب صاحبه. وأنشد: من يساجلنى يساجل ماجدًا يملأ الدلو إلى عقد الكرب وأصله من تساجلهما فى الاستقاء. قال المبرد: فضربته العرب مثلا للمفاخرة والمساماة. وقوله: تمت وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب -، أصل البشاشة: اللطف والإقبال على الرجل، يقال: بششت بشا وبشاشة، وقد تبشبشت، عن صاحب العين، فبشاشة الإيمان على هذا فرح قلب المؤمن به وسروره. وقال الحربى فى تفسير تمت الأريسيين - عن بعض أهل اللغة قال: الأريس الأمير، والمؤرس الذى يستعمله الأمير وقد أرسه، والأصل رأسه، فقلب وغير فى النَسَبٍ، والنَسَبُ يغير له الكلام كثيرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 قال المؤلف: والصواب على هذا أن يقال: الإِرِّيسيين بكسر الهمزة وتشديد الراء. وذكر المطرز، عن ثعلب، عن عمرو بن أبى عمرو، عن أبيه، قال: الأريس الأكَّار، والصخب الصياح، صخب صخبًا إذا صاح. وقوله: تمت أَمِرَ أَمْرُ ابن أبى كبشة -، يقال: أمر الشىء إذا كثر. وقال ابن الأنبارى: وإنما قيل للروم: بنو الأصفر؛ لأن حبشيا غلب على ناحيتهم فى بعض الدهور فوطئ سبيًا فولدن أولادًا فيهم من بياض الروم وسواد الحبشة فكن صفرًا لعسًا، فنسبت الروم إلى الأصفر بذلك. وقوله: تمت ابن الناطور -، قال دريد: الناطور: حافظ النخل والتمر، وقد تكلمت به العرب وإن كان أعجميًا. وقال أبو عبيد: هو الناظور بالظاء المعجمة، والنبط يجعلون الظاء طاء وإنما سمى الناظور من النظر. قوله: تمت وكان حزَّاء -، قال صاحب العين: حَزَا يحزُّ حزوًا: إذا كهن، وحزى يحزى حزيًا وتحذى تحذية. وقوله: تمت فلم يرم حمص -، يعنى: لم يبرح، عن صاحب العين، يقال: ما يريم بفعل كذا، أى: ما يبرح. وتمت الدسكرة - بناء كالقصر حوله بيوت. وقوله: تمت حاصوا حيصة حمر الوحش -، قال أبو عبيد: حاص يحيص وجاص يجيص بمعنى واحد: إذا عدل عن الطريق، وقال أبو زيد: حاص رجع، وجاص: عدل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 بسم الله الرحمن الرحيم - تفسير كِتَابُ الإيمَانِ - بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بُنِىَ الإسْلامُ عَلَى خَمْسٍ وَهُوَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) [الفتح: 4] ،) وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) [الكهف: 13] ،) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) [مريم: 76] ،) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى) [محمد: 17] ،) وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) [المدثر: 31] ،) أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانا) [التوبة: 124] ) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا) [التوبة: 124] وَقَوْلُهُ: (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا) [آل عمران: 173] وَقَوْلُهُ: (وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب: 22] وَالْحُبُّ فِى اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِى اللَّهِ مِنَ الإيمَانِ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ: إِنَّ لِلإيمَانِ فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَحُدُودًا وَسُنَنًا، فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الإيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الإيمَانَ، فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ، (صلى الله عليه وسلم) : (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِى) [البقرة: 260] . وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الْيَقِينُ الإيمَانُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لا يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَدَعَ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (شَرَعَ لَكُمْ) [الشورى: 13] أَوْصَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَإِيَّاهُ دِينًا وَاحِدًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) [المائدة: 48] سَبِيلا وَسُنَّةً. 2 - باب دعاؤكم إيمانكم / 1 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت بُنِىَ الإسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ -. قال المؤلف: مذهب جماعة أهل السُّنَّة من سَلَف الأمة وخلفها أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، والحجة على زيادته ونقصانه ما أورده البخارى من كتاب الله من ذكر الزيادة فى الإيمان وبيان ذلك أنه من لم تحصل له بذلك الزيادة، فإيمانه أنقص من إيمان من حصلت له. فإن قيل: إن الإيمان فى اللغة التصديق وبذلك نطق القرآن، قال الله تعالى: (وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) [يوسف: 17] أى ما أنت بمصدق، يعنى فى إخبارهم عن أكل الذئب ليوسف فلا ينقص التصديق. قال المهلب: فالجواب فى ذلك أن التصديق وإن كان يسمى إيمانًا فى اللغة، فإن التصديق يكمل بالطاعات كلها، فما ازداد المؤمن من أعمال البر كان من كمال إيمانه، وبهذه الجملة يزيد الإيمان، وبنقصانها ينقص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ألا ترى قول عمر بن عبد العزيز: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودًا وسُننًا، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فمتى نقصت أعمال البر نقص كمال الإيمان، ومتى زادت زاد الإيمان كمالاً، هذا توسط القول فى الإيمان. وأما التصديق بالله وبرسله فلا ينقص، ولذلك توقف مالك فى بعض الروايات عنه عن القول بالنقصان فيه، إذ لا يجوز نقصان التصديق، لأنه إن نقص صار شكا، وانتقل عن اسم الإيمان. وقال بعض العلماء: إنما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان خشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصى من المؤمنين بالذنوب، وقد قال مالك بنقصان الإيمان مثل قول جماعة أهل السُنَّة، ذكر أحمد بن خالد، قال: حدثنا عبيد بن محمد، بصنعاء، قال: حدثنا مسلمة بن شبيب، ومحمد بن يزيد، قالا: سمعت عبد الرزاق يقول: سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحابنا سفيان الثورى، ومالك بن أنس، وعبد الله بن عمر، والأوزاعى، ومعمر بن راشد، وابن جريج، وسفيان بن عيينة، يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. ومن غير رواية عبد الرزاق، وهو قول ابن مسعود وحذيفة والنخعى. وحكى الطبرى: أنه قول الحسن البصرى، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وعبد الله بن المبارك. فإن قيل: قد تقدم من قولكم أن الإيمان فى اللغة التصديق، وأنه لا ينقص، فكيف يكون الإيمان قولاً وعملاً؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 قيل: كذلك نقول: التصديق فى نفسه لا ينقص إلا أنه لا يتم بغير عمل، إلا لرجل أسلم، ثم مات فى حين إسلامه قبل أن يدرك العمل فهذا معذور، لأنه لم يتوجه إليه فرض الأمر والنهى ولا لزمه. وأما من لزمه فرض الأمر والنهى فلا يتم تصديقه لقوله إلا بفعله. قال الطبرى: ألا ترى أن من وعد عدة، ثم أنجز وعده وحقق بالفعل قوله، أنه يقال: صدق فلان قوله بفعله، فالتصديق يكون بالقلب وباللسان والجوارح، والمعنى الذى يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين هو إتيانه بهذه المعانى الثلاثة، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أنه لو أقر وعمل على غير علم منه ومعرفة بربه أنه لا يستحق اسم مؤمن، ولو عرفه وعمل وجحد بلسانه وكذب ما عرف من توحيد ربه أنه غير مستحق اسم مؤمن، وكذلك لو أقر بالله وبرسله ولم يعمل الفرائض مؤمنًا بالإطلاق، وإن كان فى كلام العرب قد يجوز أن يسمى بالتصديق مؤمنًا، فغير مستحق ذلك فى حكم الله، لقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [الأنفال: 2 - 4] ، فأخبر تعالى أن المؤمن على الحقيقة من كانت هذه صفته، دون من قال ولم يعمل وضيع ما أمر به وفرط، والحجة لذلك من السُنَّة أيضًا ما رواه الطبرى، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن يزيد المكى، قال: حدثنا عبد السلام بن صالح، قال: حدثنا الرضا على بن موسى، عن جعفر، عن أبيه، عن علىِّ بن حسين، عن أبيه، عن علىِّ بن أبى طالب، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وتصديق بالعمل -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت بُنى الإسلام على خمس. . . . - إلى آخر الحديث. قال المهلب: فهذه الخمس هى دعائم الإسلام التى بها ثباته، وعليها اعتماده، وبإدامتها يعصم الدم والمال، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله -، وبهذا احتج الصِّدِّيق حين قاتل أهل الردة حين مَنْعِهِمُ الزكاة، وقال: واللهِ لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، واتبعه على ذلك جميع الصحابة. وكذلك ينبغى أن يقاس على فعل أبى بكر، رضى الله عنه، فنقتل من جحد فريضة ومن ضيعها، فيجب عليه قضاؤها، فصح أن الإيمان قول وعمل. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت بُنِىَ الإسلام على خمس -، كان فى أول الإسلام قبل فرض الجهاد، والله أعلم. وأما قول عمر بن عبد العزيز: إن للإيمان فرائض وشرائع، فإن أعش فسأبينها لكم. إن قال قائل: كيف ظن عمر بأهل العراق أنهم لا يعرفون شرائع الإسلام وعندهم علماء التابعين وكيف أخر تعريفهم بها؟ . فالجواب: أن عمر إنما رأى واجبًا على الإمام أن يتفقد، رعيته ويتخولهم أبدًا بذكر أمور الدين، وألا يدع ذلك على كل حال فيمن عَلِمَ منهم أو جَهِلَ، وفيمن قرب منهم أو بعد، فأراد عمر أن يخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 نفسه مما لزمه من ذلك، وأن يعيد ذكره مرارًا متى استطاع وأخر تعريفهم، لأن تأخير البيان جائز إذا لم تدع إليه ضرورة. وأما قول ابن عباس: تمت دعاؤكم إيمانكم -، فإن المفسرين اختلفوا فى تأويل قوله تعالى: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ) [الفرقان: 77] ، فعلى قول ابن عباس يكون معناه: قل: ما يعبأ بكم ربى لولا دعاؤكم الذى هو زيادة فى إيمانكم، لأنه قد جاء فى الحديث أن الدعاء أفضل العبادة. وقال مجاهد: المعنى ما يفعل بكم ربى لولا دعاؤه إياكم لتعبدوه وتطيعوه، قال: وهو مثل قوله تعالى: (مَّا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ) [النساء: 147] وقال ابن قتيبة: المعنى ما يعبأ بعذابكم ربى لولا دعاؤكم غيره، أى: لولا عبادتكم غيره، وقول ابن عباس يوافق مذهب البخارى، لأنه سمى الدعاء إيمانًا، والدعاء عمل. 3 - باب أُمُورِ الإيمَانِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ. . . . (إلى) الْمُتَّقُونَ) [البقرة: 177] وَقَوْلِهِ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون: 1] الآيَةَ. / 2 - فيه أَبو هُرَيْرَةَ أن رسول الله قَالَ: تمت الإيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمَانِ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 قال المؤلف: فقه هذا الباب كالذى قبله، أن كمال الإيمان بإقامة الفرائض والسنن والرغائب، وأن الإيمان قول وعمل بخلاف قول المرجئة. ومعنى قوله تعالى: (لَّيْسَ الْبِرَّ) [البقرة: 177] أى: ليس غاية البرِّ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن غاية البرِّ وكماله بِرُّ من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، إلى سائر ما ذكره تعالى فى الآية، فحذف الصفة وأقام الموصوف مقامه، ومثله قوله تعالى: (مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) [لقمان: 28] . قال سيبويه: أراد كخلق نفس واحدة وبعثها. وبالمبالغة فى أفعال البر مدح الله المؤمنين فى قوله: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ (إلى قوله: (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون: 1 - 11] . وهذا المعنى مُطابق لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة -، فجعله أشياء كثيرة، ثم قال: تمت الحياء شعبةٌ من الإيمان -، فدل الكتاب والسُّنَّة على خلاف قول المرجئة. قال أبو الزناد: وقوله: تمت الحياء شعبة من الإيمان - يريد، والله أعلم، أن الحياء يبعث على طاعة الله ويمنع من ارتكاب المعاصى، كما يمنع الإيمان، وإن كان الحياء غريزة فالإيمان فعل المؤمن، فاشتبها من هذه الجهة. فإن قال قائل من المرجئة: كيف يجوز أن تسمى أفعال البرِّ كلها إيمانًا، وقد تقدم من قولكم أن الإيمان هو التصديق؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 قيل: قد تقدم قول المهلب أن أعمال البر إذا انضافت إلى التصديق كمل تصديق صاحبها بها على تصديق من عرى من أعمال البر، وقد تقدم قول الطبرى أن التصديق يكون بالفعل كما يكون بالقول. وقد أجاب أبو بكر بن الطيب أيضًا فى ذلك قال: إن الرسول إنما سمَّى أفعال البرِّ كلها إيمانًا على معنى أنها من دلائل الإيمان وسجايا المؤمنين وأفعالهم، لأنه (صلى الله عليه وسلم) إنما مدح هذه الأفعال إذا وقعت من عارف بالله، ومصدق به، ولو وقعت من غير عارف به لم تكن قربةً ولا مدح فاعلها، فلما لم تكن قربة دون حصول المعرفة والإقرار بالقلب، سميت إيمانًا باسم الأصل الذى لا يتم الحكم لها بأنها طاعة وقربة دون حصوله. 4 - باب الْمُسْلِمِ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ / 3 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أن النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ -. قال المهلب: يريد المسلم المستكمل لأُمور الإسلام خلاف قول المرجئة. والمراد بهذا الحديث الحض على ترك أذى المسلمين باللسان واليد والأذى كله، ولهذا قال الحسن البصرى: الأبرار هم الذين لا يؤذون الذّر والنمل. وقوله: تمت والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه -. قال أبو الزناد: لما انقطعت الهجرة، وفضلها حزن على فواتها من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 لم يدركها من أصحاب الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، فأعملهم أن المهاجر على الحقيقة من هجر ما نهى الله عنه، وقال غيره: أعلم المهاجرين أنه واجب عليهم أن يلتزموا هجر ما نهى الله عنه، ولا يتكلوا على الهجرة فقط. 5 - باب أَىِّ الإسْلامِ أَفْضَلُ؟ / 4 - فيه: أَبو مُوسَى قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الإسْلامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: تمت مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ -. قال: هذا الجواب خرج على سؤال سائل، لأنه قد سُئل، (صلى الله عليه وسلم) ، مثل هذا السؤال، فأجاب بغير هذا الجواب، وذلك تمت أنه سئل: أى الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام -. فدل اتفاق السؤال واختلاف الجواب أن ذلك كله منه، (صلى الله عليه وسلم) ، فى أوقات مختلفة، لقوم شتى، فجاوب كل إنسان بما به الحاجة إلى علمه، وجعل إسلام من سلم المسلمون من لسانه ويده من أفضل الإسلام، وهو خلاف قول المرجئة. 6 - باب إِطْعَامِ الطَّعَامِ مِنَ الإيمان / 5 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَجُلا سَأَلَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَىُّ الإسْلامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: تمت تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ، وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ -. قال أبو الزناد: فى هذا الحديث الحض على المواساة، واستجلاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 قلوب الناس بإطعام الطعام وبذل السلام، لأنه ليس شىء أجلب للمحبة وأثبت للمودة منهما، وقد مدح الله المطعم للطعام، فقال: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ) [الإنسان: 8] الآية، ثم ذكر الله جزيل ما أثابهم عليه، فقال: (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) [الإنسان: 11، 12] . قال المؤلف: وصف تعالى من لم يطعمه بقوله تعالى فى صفة أهل النار: (مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) [المدثر: 43 - 45] ، وعاب تعالى من أراد أن يحرم طعامه أهل الحاجة إليه، فذكر أهل الجنة: (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (إلى) كَالصَّرِيمِ) [القلم: 17 - 20] ، يعنى المقطوع، فأذهب تعالى ثمارهم، وحرمهم إياها حين أمَّلُوا الاستئثار بها دون المساكين. وفى قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت وتقرأ السلام على من عرفت، ومن لم تعرف - ندب إلى التواضع وترك الكبر، قال المهلب: وهذا كما يظن العالم أن السائل محتاج إلى علمه، وهو من كمال الإيمان. ومعنى قوله: تمت تقرأ السلام - أى تسلم عليه، قال أبو زيد: أقرأنى خبرًا، أخبرنى به. وقال أبو حاتم: يقال: اقرأ (صلى الله عليه وسلم) وأقرئه الكتاب، ولا يقال: أقرئه السلام إلا أن يكون مكتوبًا فى كتاب، ويقال: أقرئه إياه، ولا يقال: أقرئ السلام إلا فى لغة شنوءة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 7 - باب مِنَ الإيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ / 6 - فيه: أَنَسٍ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ -. قال المؤلف: معناه: لا يؤمن أحدكم الإيمان التام، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وقال أبو الزناد: ظاهره التساوى وحقيقته التفضيل، لأن الإنسان يحب أن يكون أفضل الناس، فإذا أحب لأخيه مثله، فقد دخل هو فى جملة المفضولين، ألا ترى أن الإنسان يجب أن ينتصف من حقه ومظلمته، فإذا كمل إيمانه وكانت لأخيه عنده مظلمة أو حق، بادر إلى إنصافه من نفسه، وآثر الحق، وإن كان عليه فيه بعض المشقة. وقد روى هذا المعنى عن الفضيل بن عياض، أنه قال لسفيان بن عيينة: إن كنت تريد أن يكون الناس كلهم مثلك، فما أديت لله النصيحة، كيف وأنت تود أنهم دونك. وقال بعض الناس: المراد بهذا الحديث كف الأذى والمكروه عن الناس، ويشبه معناه قول الأحنف بن قيس، قال: كنت إذا كرهت شيئًا من غيرى لم أفعل بأحد مثله. 8 - بَابَ حُب الرسول مِنَ الإيمَانِ / 7 - فيه: أبو هُرَيْرَةَ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ -. / 8 - وَقالَ أَنَسٍ فِى حديثه: تمت وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 قال أبو الزناد: هذا من جوامع الكلم الذى أوتيه (صلى الله عليه وسلم) ، لأنه قد جمع فى هذه الألفاظ اليسيرة معانى كثيرة، لأن أقسام المحبة ثلاثة: محبة إجلال وعظمة كمحبة الوالد، ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد، ومحبة استحسان ومشاكلة كمحبة سائر الناس، فحصر صنوف المحبة. ومعنى الحديث، والله أعلم: أن من استكمل الإيمان علم أن حق الرسول وفضله آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين، لأن بالرسول استنقذ الله أُمته من النار وهداهم من الضلال، فالمراد بهذا الحديث بذل النفس دونه (صلى الله عليه وسلم) ، وقال الكسائى فى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 64] أى حسبك الله ناصرًا وكافيًا، وحسبك من اتبعك من المؤمنين ببذل أنفسهم دونك. 9 - باب حَلاوَةِ الإيمَانِ / 9 - فيه: أَنَسِ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِى الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِى النَّارِ -. معنى وجود حلاوة الإيمان هو استلذاذ الطاعات وتحمل المشقات فيما يرضى الله تعالى، ورسوله (صلى الله عليه وسلم) ، وإيثار ذلك على عرض الدنيا، رغبة فى نعيم الآخرة، الذى لا يبيد ولا يفنى. وروى عن عتبة الغلام أنه قال: كابدت الصلاة عشرين سنة، ثم تلذذت بها باقى عمرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ومحبة العبد لخالقه هى التزام طاعته والانتهاء عن معاصيه لقوله تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران: 31] ، وكذلك محبة رسول الله هى التزام شريعته واتباع طاعته، ولما لم نصل إلى الإيمان إلا بالرسول، كانت محبته من الإيمان، وقد سئل بعض الصالحين عن المحبة ما هى؟ فقال: مواطأة القلب لمراد الرب، أن توافق الله، عزَّ وجلَّ، فتحب ما أحب وتكره ما كره. ونظم محمود الوراق هذا المعنى فقال: تعصى الإله وأنت تظهر حبه لو كان حبًا صادقًا لأطعته هذا لعمرى فى القياس بديع إن المحب لمن يحب مطيع وقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت أن يحب المرء لا يحبه إلا لله -، فمن أجل أن الله قد جعل المؤمنين إخوة، وأكد النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كلامه بقوله: تمت لو كنت متخذًا خليلا لاتخذت أبا بكر، ولكن خلة الإسلام أفضل - وقال (صلى الله عليه وسلم) : تمت سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله - فعد منهم: تمت رجلين تحابا فى الله -، والمراد بالحديث: الحث على التحاب فى الله والتعاون على البر والتقوى، وما يؤدى إلى النعيم الدائم. قال الطبرى: فإن قيل: فهل حب المرء اكتساب للعبد أم غريزة وجبلَّة؟ فإن قلت: إن ذلك اكتساب للعبد، إذا شاء أحب وإذا شاء أبغض، قيل: فما وجه الخبر الوارد: تمت أن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها؟ - وإن قلت: إن ذلك جبلة وغريزة، فما وجه قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا يجد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله؟ - فالجواب: أن الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 تعالى، وإن كان هيأ القلوب هيئة لا يمتنع معها حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها، فإن العبد إنما يلحقه الحمد والذم على ما كلف مما له السبيل إليه من تذكيرها إحسان المحسن وإساءة المسىء إليها، وتنبيها على ما أغفلته من سالف أيادى المحسن إليها والمسىء، فإلى العبد التنبيه والتذكر الذى هو بفعله مأمور إن كان لله، تعالى، طاعة وعن التقدم عليه منهى إن كان له معصية، وذلك أن الرجل إذا تذكر سالف أيادى الله وأيادى رسوله، (صلى الله عليه وسلم) ، وما منَّ عليه أن هداه للإسلام وأنقذه من الضلالة، وعرفه الأسباب التى توخيه إلى النجاة من عذاب الأبد والخلود فى جهنم، وغير ذلك من النعم التى وصلت إليه به مما لا كفاء لها، ولا استحقها من الله لسابقة تقدمت منه إلا بفضله تعالى، وجب أن يخلص المحبة لله ولرسوله فوق كل شىء من جميع المحاب، وكذلك إذا علم ما فى حب المرء فى الله، عز وجل، من المنزلة عند الله آثرها على أسباب الدنيا، لينال ثوابها يوم القيامة ولم يحبه لأعراض الدنيا الفانية. قال غيره: وقوله: تمت وأن يكره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يقذف فى النار - معناه: أن من وجد حلاوة الإيمان وخالط قلبه علم أن الكافر فى النار، فكره الكفر لكراهيته لدخول النار، وقد ترجم له باب: من كره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يلقى فى النار. - باب عَلامَةِ الإيمَانِ حُبُّ الأنْصَارِ / 10 - فيه: أنس، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت آيَةُ الإيمَانِ حُبُّ الأنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأنْصَارِ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 / 11 - وفيه: عُبَادَةَ - وَكَانَ قَدَ شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: تمت بَايِعُونِى عَلَى ألا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلا تَعْصُوا الله فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ -. فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِك. قال المهلب: أما قوله: تمت علامة الإيمان حب الأنصار - فهو بَيِّن فى حديث أنس. وأما حديث عبادة فإنما ذكره فى الباب؛ لأن الأنصار لهم من السبق إلى الإسلام بمبايعة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما استحقوا به هذه الفضيلة، وهذه أول بيعة عقدت على الإسلام، وهو بيعة العقبة الأولى بمكة، ولم يشهدها غير اثنى عشر رجلا من الأنصار، ذكر ذلك ابن إسحاق. وكذلك قال عبادة: تمت وحوله عصابة من أصحابه -، مع أن المهاجرين بمكة قد كانوا أسلموا ولم يبايعوا مثل هذه البيعة، فصح أن الأنصار المبتدئون بالبيعة على إعلان توحيد الله وشريعته حتى يموتوا على ذلك؛ فحبهم علامة الإيمان، ومجازاة لهم على حبهم من هاجر إليهم، ومواساتهم لهم فى أموالهم كما وصفهم الله، تعالى، واتباعًا بحب الله لهم بقوله: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران: 31] ، فكان الأنصار ممن اتبعه أولا، فوجبت لهم محبة الله، ومن أحب الله وجب على العباد حبه، وقد مدح الله، تعالى، الذين يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 بالإيمان؛ لأنهم سنوا لنا سُنة حسنة لهم أجرها وآجر من عمل بها إلى يوم القيامة. ذكر ابن إسحاق قال: حدثنى يزيد بن أبى حبيب، عن أبى الخير مرثد بن عبد الله اليزنى، عن عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحى، عن عبادة بن الصامت قال: تمت كنت فيمن حضر العقبة الأولى وكنا اثنى عشر رجلا، فبايعنا رسول الله بيعة النساء، وذلك قبل أن تفرض الحرب، على ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزنى، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتى ببهتان - وساق الحديث على ما ذكره البخارى. وقوله: تمت فمن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب فى الدنيا فهو كفارة - لفظه لفظ العموم، والمراد به الخصوص، لأنا قد علمنا أن من أشرك فعوقب بشركه فى الدنيا فليس ذلك بكفارة له، فدل أنه أراد بقوله: تمت فمن أصاب من ذلك شيئًا - ما سوى الشرك، ومثله فى القرآن كثير كقوله تعالى: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ (، [الأحقاف: 25] ) وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ (، [النمل: 23] ومعلوم أنها لم تدمر السموات والأرض ولا جميع الأشياء ولا دمرت مساكنهم، ألا ترى إلى قوله: (فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ (، وقوله: (وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ (، ومعلوم أن بلقيس لم تؤت ملك سليمان. وقوله: تمت من أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه - يرد قول من أنفذ الوعيد على القاتل، وعلى سائر المذنبين من الموحدين، والحُجَّة فى السنة لا فى قول من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 خالفها، وسأذكر هذه المسألة فى كتاب الديات فى باب قوله تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا) [النساء: 93] ، أو فى آخر كتاب الطب فى باب: شرب السم، إن شاء الله تعالى. - باب مِنَ الدِّينِ الْفِرَارُ مِنَ الْفِتَنِ / 12 - فيه: أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ -. قال المؤلف: هذا الحديث يدل على إباحة الانفراد والاعتزال عند ظهور الفتن، طلبًا لإحراز السلامة فى الدين، خشية أن تحل عقوبة فتعم الكل، وهذا كله من كمال الدين، وقد جاء فى الحديث: تمت أنه إذا فشا المنكر، وكان بالناس قوة على تغييره، فلم يغيروه امتحنهم الله بعقوبة، وبعث الصالحين على نياتهم، وكان نقمة للفاسقين، وتكفيرًا للمؤمنين -. وقد اعتزل سلمة بن الأكوع عند قتل عثمان، وقال له الحجاج: أرتددت على عقبيك، تعربت؟ قال: لا، ولكن رسول الله أذن لى فى البدو. وقال أبو الزناد: خص الغنم من بين سائر الأشياء حضًا على التواضع وتنبيهًا على إيثار الخمول وترك الاستعلاء والظهور، وقد رعاها الأنبياء والصالحون، وقال (صلى الله عليه وسلم) : تمت ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم -. وأخبر أن السكينة فى أهل الغنم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وشعف الجبال: رءوسها، وشعفة كل شىء أعلاه، عن صاحب العين. - باب قَوْلِ الرَّسُولِ، (صلى الله عليه وسلم) : أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ -، وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُ الْقَلْبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [البقرة: 225] / 13 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَمَرَهُمْ مِنَ الأعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ، قَالُوا: لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر، َ فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الْغَضَبُ فِى وَجْهِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: تمت أَنَا أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ -. قال المؤلف: قوله: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ (أى بما اعتقدته وأضمرته، فسمى ذلك الإعتقاد فعلاً للقلب، وأخبر أنه لا يؤاخذ عباده من الأعمال إلا بما اعتقدته قلوبهم، فثبت بذلك أن الإيمان من صفات القلوب، خلاف قول الكرامية وبعض المرجئة: أن الإيمان قول باللسان دون عقد بالقلب، وإنما أمر أمته (صلى الله عليه وسلم) من الأعمال بما يطيقون ليأخذوها بالنشاط ولا يتجاوزوا حَدَّهم فيها فيضعفوا عنها، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إن المنبتَّ لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى - ضَرَبَه مثلاً فى الأعمال. قال أبو الزناد: وقولهم: تمت لسنا كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر -، فإنما قالوا ذلك رغبة فى التزيد من الأعمال، لما كانوا يعلمونه من اجتهاده فى العبادة، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 قد غفر له ما تقدم من ذنبه، فعند ذلك غضب إذ كان أولى منهم بالعمل، لعلمه بما عند الله تعالى، قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) [فاطر: 28] ، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت أفلا أكون عبدًا شكورًا -، وفى اجتهاده فى عمله، وغضبه من قولهم دليل أنه لا يجب أن يَتَّكل العامل على عمله، وأن يكون بين الرجاء والخوف. قال المهلب: وفيه من الفقه: أن الرجل الصالح يلزمه من التقوى والخشية ما يلزم المذنب التائب، لا يُؤَمِّن الصالح صلاحه، ولا يوئس المذنب ذنبه ويقنطه، بل الكل خائف راجٍ، وكذلك أراد تعالى أن يكون عباده واقفين تحت الخوف والرجاء اللذين ساس بهما خلقه سياسة حكمه لا انفكاك منها. وقوله: تمت إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا - فيه من الفقه أن للإنسان أن يخبر عن نفسه بما فيه من الفضل لضرورة تدعوه إلى ذلك، لأن كلامه (صلى الله عليه وسلم) بذلك وقع فى حال عتاب لأصحابه، ولم يُرِد به الفخر، كقوله: تمت أنا سيد ولد آدم ولا فخر -. - باب تَفَاضُلِ أَهْلِ الإيمَانِ فِي الأعْمَالِ / 14 - فيه: أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ، قَالَ النَّبِى، (صلى الله عليه وسلم) : تمت يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ، الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدِ اسْوَدُّوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَا - أَوِ الْحَيَاةِ شَكَّ مَالِكٌ - فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِى جَانِبِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً؟ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وَقَالَ وُهَيْبٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى: تمت خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ -. / 15 - وفيه: أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَىَّ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ: فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِىَّ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَىَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ -، قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تمت الدِّينَ -. قال المؤلف: تفاضل المؤمنين فى أعمالهم لا شك فيه، وأن الذى خرج من النار بما فى قلبه من مقدار حبة من خردل من إيمان معلوم أنه كان ممن انتهك المحارم وارتكب الكبائر، ولم تفِ طاعته لله عند الموازنة بمعاصيه. ومن أطاع الله وقام بما وَجَبَ عليه وبرئ من مظالم العباد فلا شك أن عمله أفضل من عمل الرجل المنتهك. وقد مَثَّل ذلك (صلى الله عليه وسلم) بالقمص التى كانت تبلغ الثدى، وبقميص عمر الذى كان يجرُّه، ومعلوم أن عمل عمر فى إيمانه أفضل من عمل من بلغ قميصه ثدييه. فإيمانه أفضل من إيمانه بما زاد عليه من العمل، وتأويله (صلى الله عليه وسلم) ذلك بالدين يدل أن الإيمان الواقع على العمل يُسمى دينًا، كالإيمان الواقع على القول. وهذا يرد قول أهل البدع الذين يزعمون أن إيمان المذنبين كإيمان جبريل، وأنه لا تفاضل فى الإيمان، وقولهم غلط لا يخفى، لأن الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وسائر الخلق يملُّون ويفترون. فكيف يبلغ أحدٌ منهم منزلتهم فى العمل، وفى كتاب الله حجةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 لتفاضل المؤمنين فى الإيمان، وذلك أن إبراهيم سأل ربه تعالى أن يريه كيف يحيى الموتى، فطلب المعاينة التى هى أعلى منازل العلم التى تسكن النفوس إليها، وتقع الطمأنينة بها، ولا يجوز أن نظن بإبراهيم خليل الله ونبيه أنه حين سأل المعاينة لم يكن مؤمنًا، أو أنه اعترضه شك فى إيمانه. والدليل على صحة هذا قوله لربه حين قال له: (أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى) [البقرة: 260] ، فأوجب لنفسه الإيمان قبل أن يعاين ما طلب معاينته، وعَذَرَهُ الله تعالى فى طلب ذلك، لأن المعاينة أشفى ويهجم على النفوس منها ما لا يهجم من الخبر. ألا ترى أن موسى حين كلمه ربه لم يشك أن الله هو المتكلم له، ولكن طلب ما هو أرفع من ذلك وهى المعاينة، فقال: (رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف: 143] ، فأعلمه ربه أنه لا يجوز أن تقع عليه حاسّة البصر، وأنه لا تدركه الأبصار بما أراه الله من الآيات فى الجبل الذى صار دكًا بتجليه له تعالى. ومما يشبه هذا المعنى أن الله تعالى أخبر موسى عن بنى إسرائيل بعبادة العجل، فلم يشك فى صدق خبره، فلما رجع إلى قومه وعاين حالهم حدث فى نفسه من الإنكار والتغيير ما لم يحدث بالخبر، فألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه. وقد نبَّه (صلى الله عليه وسلم) على ذلك، فقال: تمت ليس الخبر كالمعاينة -، والحبّة بذور البقل، ويقال: هو نبت ينبت فى الحشيش، عن صاحب العين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 - باب الْحَيَاءَ مِنَ الإيمَانِ / 16 - فيه: ابن عمر، أَنَّ النبِى (صلى الله عليه وسلم) مَرَّ عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِى الْحَيَاءِ، فَقَالَ: تمت دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإيمَانِ -. قال ابن قتيبة: معنى هذا الحديث أن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصى كما يمنعُ الإيمان، فجاز أن يُسمى إيمانًا، لأن العرب تُسمى الشىء باسم ما قام مقامه، أو كان شبيهًا به، ألا ترى أنهم يُسمون الركوع والسجود صلاةً، وأصل ذلك الدعاء، فلما كان الدعاء يكون فى الصلاة سميت صلاة، وكذلك الزكاة هى تثمير المال ونماؤه، فلما كان النماء يقع بإخراج الصدقة عن المال سمِّى زكاةً. قال غيره: وهذا الحديث يقتضى الحضّ على الامتناع من مقابح الأمور ورذائلها، وكل ما يحتاج إلى الاستحياء من فعله والاعتذار منه. - باب) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة: 5] / 17 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّها، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ -. قال المؤلف: قال أنس بن مالك: هذه الآية من آخر ما نزل من القرآن، وتوبتهم خلع الأوثان، وعبادتهم لربهم، وإقام الصلاة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وإيتاء الزكاة، ثم قال فى آية أخرى: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِى الدِّينِ) [التوبة: 11] ، فقام الدليل الواضح من هاتين الآيتين أن من ترك الفرائض، أو واحدة منها، فلا يُخلَّى سبيله، وليس بأخٍ فى الدين، ولا يُعصم دمه ومالُه، ويشهد لذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها -، وبهذا حكم أبو بكر الصِّدِّيق فى أهل الردة، وهذا يَرُد قول المرجئة أن الإيمان غير مفتقر إلى الأعمال. وقولهم مخالف لدليل الكتاب والآثار وإجماع أهل السُّنَّة. فمن ضيع فريضة من فرائض الله جاحدًا لها فهو كافر، فإن تاب وإلا قُتل، ومن ضيع منها شيئًا غير جاحد لها فأمره إلى الله، ولا يُقطع عليه بكفر، وسيأتى حكم تارك الصلاة فى كتاب المرتدين فى باب قتل من أبى قبول الفرائض، وما نسبوها إلى الردَّة، ويأتى فى باب دعاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) الناس إلى الإسلام والنبوة فى كتاب الجهاد، زيادة فى الكلام فى معنى هذا الحديث، إن شاء الله. وقوله: تمت وحسابهم على الله - يدل أن محاسبة العباد على سرائرهم وخفيان اعتقادهم إلى الله دون خلقه، وأن الذى جعل للنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وإلى الأئمة بعده ما ظهر من أمورهم دون ما خفى يدل على ذلك حديث أبى سعيد أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قَسم، فقال له رجل: اتق الله، فقال له: تمت ويلك أَوَ لست أحق أهل الأرض أن يتقى الله -؟ فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ قال: تمت لا، لعله أن يكون يصلِّى -، قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ما ليس فى قلبه، فقال (صلى الله عليه وسلم) : تمت إنى لم أؤمر أن أشق عن قلوب الناس، ولا عن بطونهم -، ذكره البخارى فى المغازى فى باب بعثه علىّ إلى اليمين. وفى هذا الحديث حجة لمن أجاز قبول توبة الزنديق، وسيأتى مذاهب العلماء فى ذلك فى الديات والحدود، إن شاء الله. - باب مَنْ قَالَ: إِنَّ الإيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف: 72] وَقَالَ عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر: 92، 93] عَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَقَالَ: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) [الصافات: 61] . / 18 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ سُئِلَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: تمت إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ -، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: تمت الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ -، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: تمت حَجٌّ مَبْرُورٌ -. قال المؤلف: قوله تعالى: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف: 72] حجة فى أن العمل تنال به درجات الجنة، وأن الإيمان قول وعمل ويشهد لذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) حين سئل أى العمل أفضل؟ فقال: تمت إيمان بالله -، ثم ذكر الأعمال معه فى جواب السائل. فإن قيل: أليس قد تقدم من قولكم أن الإيمان هو التصديق؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 قيل: التصديق هو أول منازل الإيمان، ويوجب للمصدق الدخول فيه، ولا يوجب له استكمال منازله، ولا يقال له: مؤمنًا مطلقًا، لأن الله تعالى فرض على عباده فرائض وشرع شرائع، لا يقبل تصديق من جحدها، ولم يرض من عباده المؤمنين بالتصديق والإقرار دون العمل لما تقدم بيانه فى غير موضع من هذا الكتاب. هذا مذهب جماعة أهل السُّنَّة، أن الإيمان قول وعمل. قال أبو عبيد: وهو قول مالك والثورى والأوزاعى ومن بعدهم من أرباب العلم والسُّنَّة الذين كانوا مصابيح الهدى، وأئمة الدين من أهل الحجاز والعراق والشام وغيرهم. وهذا المعنى أراد البخارى، رحمه الله، إثباته فى كتاب الإيمان وعليه بَوَّب أبوابه كلها، فقال: باب أمور الإيمان، وباب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وباب إطعام الطعام من الإيمان، وباب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وباب حب الرسول (صلى الله عليه وسلم) من الإيمان، وباب الصلاة من الإيمان، وباب الزكاة من الإيمان، وباب الجهاد من الإيمان وسائر أبوابه. وإنما أراد الرَّد على المرجئة، لقولهم: إن الإيمان قول بلا عمل، وتبيين غلطهم وسوء اعتقادهم ومخالفتهم للكتاب والسُّنَّة، ومذهب الأئمة. وقال المهلب فى حديث أبى هريرة: إنما اختلفت هذه الأحاديث فى ذكر الفرائض، لأنه (صلى الله عليه وسلم) أعلم كل قوم بما لهم الحاجة إليه، ألا تراه قد أسقط ذكر الصلاة والزكاة والصيام من جوابه للسائل: أى العمل أفضل، وهى آكد من الجهاد والحج، وإنما ترك ذلك لعلمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 أنهم كانوا يعرفون ذلك ويعملون به، فأعلمهم ما لم يكن فى علمهم حتى تمت دعائم الإسلام والحمد لله. - باب إِذَا لَمْ يَكُنِ الإسْلامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَكَانَ عَلَى الاسْتِسْلامِ أَوِ الْخَوْفِ مِنَ الْقَتْلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) [الحجرات: 14] وَإِذَا كَانَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ) [آل عمران: 19] . / 19 - فيه: سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَعْطَى رَهْطًا وَسَعْدٌ جَالِسٌ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلاً، هُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَىَّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلانٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّى لأرَاهُ مُؤْمِنًا، قَالَ: تمت أَوْ مُسْلِمًا -، فَسَكَتُّ قَلِيلاً، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَقُلْتُ ذَلِكَ ثلاثًا، وعاد (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ قَالَ: تمت يَا سَعْدُ إِنِّى لأعْطِى الرَّجُلَ، وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِى النَّارِ -. قال المهلب: الإسلام على الحقيقة، هو الإيمان الذى هو عقد القلب المصدق لإقرار اللسان، الذى لا ينفع عند الله غيره، ألا ترى قول الله للأعراب الذين قالوا: آمنا بألسنتهم دون تصديق قلوبهم: (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا (، فنفى عنهم الإيمان لما عرى من عقد القلب بقوله: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ) [الحجرات: 14] ، قال أبو بكر بن العربى: وهذه الآية حجة على الكرامية ومن وافقهم من المرجئة فى قولهم: إن الإيمان إقرار باللسان دون عقد القلب، وقد رَدَّ الله قولهم فى موضع آخر من كتابه، فقال: (أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ) [المجادلة: 22] ، ولم يقل: كتب فى ألسنتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 ومن أقوى ما يرد عليهم إجماع الأمة على إكفار المنافقين، وإن كانوا قد أظهروا الشهادتين، قال تعالى: (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم (إلى قوله: (وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة: 84] ، فجعلهم كفارًا، وقوله تعالى: (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا (يدل على أن الإسلام يكون بمعنى الاستسلام فيحقن به الدم، ولا يكون بمعنى الإيمان لقوله تعالى: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ) [الحجرات: 14] ، فكل إيمان إسلام، وليس كل إسلام إيمانًا، إلا الإسلام الحقيقى، فهو إيمان. قال المهلب: وقول سعد: تمت يا رسول الله، مالك عن فلان؟ فوالله إنى لأراه مؤمنًا - فيه التشفع للصديق والولى عند الأمراء والأئمة فيما ينتفعون به، وفيه مراجعة المسئول وتكرير السؤال فى المعنى الواحد، وفيه رد العالم على المتعلم أن يستثبت ولا يقطع على ما لا يعلم، لأنه لا يعلم سرائر الناس ولا يطلع عليها، وهى من مغيبات الأمور التى لا يجوز القطع فى مثلها، ألا ترى أن الرسول رد على امرأة الأنصارى، وقال: تمت والله ما أدرى وأنا رسول الله ما يُفعل بى -، فلا نشهد لأحد بالجنة إلا لمن شهد له الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، لأنه لا ينطق عن الهوى. قال المؤلف: وقوله: تمت خشية أن يكبه الله فى النار -، يريد من تعاصى على الإسلام ولم يدخل فيه إلا [. . . . . .] (-) فى العطاء، فإن مُنِعَ أبى عن الإسلام، كالمؤلفة قلوبهم: عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس وأصحابه، وسيأتى بيان ذلك فى كتاب الجهاد. وقد اختلف الناس قديمًا واشتد تنازعهم فى قولهم: أنا مؤمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 عند الله، وكان أول ذلك أن صاحبًا لمعاذ بن جبل قدم على ابن مسعود، فقال له أصحابه: أمؤمن أنت؟ قال: نعم، قالوا: من أهل الجنة؟ قال: لا أدرى لى ذنوب فلو أعلم أنها غفرت، لقلت لكم: إنى مؤمن من أهل الجنة، فتضاحك القوم، فلما خرج ابن مسعود، قالوا له: ألا تعجب؟ هذا يزعم أنه مؤمن ولا يزعم أنه من أهل الجنة، قال ابن مسعود: لو قلت إحداهما أتبعتها بالأخرى، فقال الرجل: رحم الله معاذًا، حذرنى زلة العالم، وهذه زلة منك، وما الإيمان إلا أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، والجنة والنار، والبعث والميزان، ولنا ذنوب لا ندرى ما يصنع الله فيها، فلو نعلم أنها غفرت لنا، لقلنا: إننا من أهل الجنة، فقال ابن مسعود: صدقت يا أخى، فوالله إن كان منى لزلة. وذكر أبو عبيد فى كتاب الإيمان، عن إبراهيم النخعى، وابن سيرين، وطاوس، قالوا: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله. قال النخعى: وقال رجل لعلقمة: أمؤمن أنت؟ قال: أرجو إن شاء الله. قال أبو عبيدة: وبهذا كان يأخذ سفيان، قال وكيع: كان سفيان إذا قيل له: أمؤمن أنت؟ قال: نعم، فإذا قيل له: عند الله؟ قال: أرجو. وجماعة يرون الاستثناء فيه، وهو قول محمد بن عبد الحكم، وابن عبدوس، وأحمد بن صالح الكوفى. قال أبو عبيد: وجماعة من العلماء يتسمون به بلا استثناء فيقولون: نحن مؤمنون، منهم: أبو عبد الرحمن السلمى، وعطاء بن أبى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 رباح، وسعيد بن جبير، وإبراهيم التيمى، وعون بن عبد الله، ومن بعدهم مثل: عمر بن ذر، والصلت بن بهرام، ومسعر بن كدام. قال أبو عبيد: وإنما ذكرت هذا عندهم على الدخول فى الإيمان لا على الاستكمال، ألا ترى أن الفرق بينهم وبين النخعى وطاوس وابن سيرين أن هؤلاء كانوا لا يلفظون به أصلاً. قال وكيع: وكان أبو حنيفة يقول: أنا مؤمن هاهنا وعند الله، قال أبو بكر بن الطيب: ووجه الاستثناء فى ذلك أنه لا يعلم هل يثبت على الإيمان ويتمسك به باقى عمره أو يضل عنه، ولهذا رغب المسلمون كافة فى حسن العاقبة والخاتمة، وأن يثبتهم الله بالقول الثابت، وأما وجه من قال: أنا مؤمن حقًا ومؤمن عند الله، وإنما يريد حال وجود إيمانه، لأنه مؤمن على الحقيقة فى تلك الحال، وإلى هذا ذهب محمد بن سحنون. قال أبو عبيد: لأن حكمه فى الدنيا حكم الإيمان فى الولاية والموارثة وجميع سنن المؤمنين. قال أبو بكر بن الطيب: وكلا القولين له وجه. قال أبو عبيد: وكان الأوزاعى يرى الاستثناء وتركه جميعًا [. . . . .] ، من قال: أنا مؤمن فحسن، ومن قال: أنا مؤمن، إن شاء الله فحسن، لقوله: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ) [الفتح: 27] ، وقد علم أنهم داخلون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 - باب السَّلامِ مِنَ الإسْلامِ وَقَالَ عَمَّارٌ: ثَلاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ جَمَعَ الإيمَانَ: الإنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلامِ لِلْعَالَمِ، وَالإنْفَاقُ مِنَ الإقْتَارِ. / 20 - فيه: ابْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَىُّ الإسْلامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: تمت تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ، وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ -. قال أبو الزناد: جمع عمار فى هذه الألفاظ الثلاث الخير كله، لأنك إذا أنصفته من نفسك، فقد بلغت الغاية بينك وبين خالقك، وبينك وبين الناس، ولم تضيع شيئًا. وبذل السلام هو كقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت وتقرأ السلام على من عرفت، ومن لم تعرف -، وهذا حض على مكارم الأخلاق واستئلاف النفوس. والإنفاق من الإقتار هى الغاية فى الكرم، وقد مدح الله مَنْ هذه صفته بقوله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر: 9] وهذا عام فى نفقة الرجل على أهله، وفى كل نفقة هى طاعة لله تعالى، ودل ذلك أن نفقة المعسر على أهله أعظم أجرًا من نفقة الموسر، وهذا كله من كمال الإيمان، فقد تقدم حديث عبد الله بن عمرو فى باب إطعام الطعام من الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 - باب الْمَعَاصِى مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلا يُكَفَّرُ صَاحِبُهَا بِارْتِكَابِهَا إِلا بِالشِّرْكِ باللَّه لِقَوْلِ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ - وفيه: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء 48] . وقوله: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات: 9] فسماهم المؤمنين. / 21 - فيه: الْمَعْرُورِ، قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّى سَابَبْتُ رَجُلاً فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت يَا أَبَا ذَرٍّ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ -. / 22 - وفيه: الأحْنَفِ، قَالَ: ذَهَبْتُ لأنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ، يعنى عليًا، فَلَقِيَنِى أَبُو بَكْرَةَ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ، قَالَ: ارْجِعْ، فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: تمت إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِى النَّارِ -، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: تمت إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ -. قال المؤلف: قوله: تمت إنك امرؤ فيك جاهلية - يريد إنك فى تعييره بأمه على خلق من أخلاق الجاهلية، لأنهم كانوا يتفاخرون بالأنساب، فجهلت وعصيت الله فى ذلك، ولم تستحق بهذا أن تكون كأهل الجاهلية فى كفرهم بالله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وغرض البخارى فى هذا الباب الرد على الرافضية والإباضية وبعض الخوارج فى قولهم: إن المذنبين من المؤمنين يخلدون فى النار بذنوبهم، وقد نطق القرآن بتكذيبهم فى غير موضع منه، فمنها قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء) [النساء: 48] ، والمراد بهذه الآية من مات على الذنوب، ولو كان المراد من تاب قبل الموت لم يكن للتفرقة بين الشرك وغيره معنى، إذ التائب من الشرك قبل الموت مغفور له، وقوله: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات: 9] ، فسماهم مؤمنين، وإن وقع التقاتل، واستحق أحد الطائفتين اسم البغى، فبان بهاتين الآيتين أن المؤمن لا يخرجه فسقه ومعاصيه من جملة المؤمنين، ولا يستحق بذلك التخليد فى النار مع الخالدين. وثبت أن حديث أبى بكرة لا يرد به الإلزام والحتم بالنار لكل قاتل ومقتول من المسلمين، لأنه (صلى الله عليه وسلم) سماهما مسلمين وإن التقيا بسيفيهما وقتل أحدهما صاحبه، ولم يخرجهما بذلك من الإسلام، وإنما يستحقان النار إن أنفذ الله عليهما الوعيد، ثم يخرجهما من النار بما فى قلوبهما من الإيمان وعلى هذا مضى السلف الصالح. حدثنا أبو بكر الرازى، قال: حدثنا الشيخ أبو نعيم أحمد بن عبد الله بأصبهان، قال: حدثنا أبو بكر الطلحى، قال: حدثنا عثمان بن عبيد الله الطلحى، قال: حدثنا إسماعيل بن محمد الطلحى، قال: حدثنا سعيد بن سلام العبدى، قال: سمعت أبا حنيفة يقول: لقيت عطاء بن أبى رباح، بمكة، فسألته عن شىء، فقال: من أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة، قال: أنت من أهل القرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا؟ قلت: نعم، قال: فمن أى الأصناف أنت؟ قلت: ممن لا يسب السلف، ويؤمن بالقدر، ولا يكفر أحدًا بذنب، قال لى عطاء: عرفت، فالزم. وفى حديث أبى ذر النهى عن سب العبيد وتعييرهم بآبائهم، والحض على الإحسان إليهم، وإلى كل من يوافقهم فى المعنى، ممن جعله الله تحت يد ابن آدم، وأجرى عليه حكمه، فلا يجوز لأحد أن يعير عبده بشىء من المكروه يعرفه فى آبائه وخاصة نفسه، لقوله تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى (فلا فضل لأحد على غيره من جهة الأبوة، وإنما الفضل بالإسلام والتقى، لقوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13] . وروى يونس، عن الحسن، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال لأبى ذر: تمت أعيرته بأمه؟ ارفع رأسك، فما كنت بأفضل ممن ترى من الأحمر والأسود إلا أن تفضل فى دين -، وقد جاء هذا الحديث فى كتاب الأدب. وقال فيه: تمت كان بينى وبين رجل كلام، وكانت أمه أعجمية، فنلت منها. . - وذكر الحديث. وقد روى سمرة بن جندب: أن بلالاً كان الذى عيره أبو ذر بأمه. روى الوليد بن مسلم، عن أبى بكر، عن ضمرة بن حبيب، قال: كان بين أبى ذر وبين بلال محاورة، فعيره أبو ذر بسواد أمه، فانطلق بلال إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فشكى إليه تعييره بذلك، فأمره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يدعوه، فلما جاءه أبو ذر، قال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : تمت شتمت بلالاً وعيَّرته بسواد أمه -؟ قال: نعم، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : تمت ما كنت أحسب أنه بقى فى صدرك من كبر الجاهلية شىء -، فألقى أبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 ذر نفسه بالأرض، ثم وضع خده على التراب، وقال: والله لا أرفع خدى من التراب حتى يطأ بلال خدى بقدمه، فوطأ خده بقدمه. وسيأتى ما للعلماء فى إطعام العبيد وكسوتهم فى كتاب العتق، إن شاء الله. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة فى حديث أبى بكرة: انظر حرص المقتول على قتل صاحبه، وأنه لو بقى لقتله وعوقب عليه، عذب الله الذين تقاسموا بالله، على صالح، لنبيتنه وأهله، فأهلكهم كلهم. قال أبو الزناد: ليس هذا بشىء، لأن الذين أرادوا قتل صالح كانوا كفرة فعاقبهم الله بكفرهم، وأن الذى كان حريصًا على قتل صاحبه أوجب له النبى (صلى الله عليه وسلم) النار بنيته ومباشرته للقتل، ولا يعارض هذا قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت مَن هَمَّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة -، لأن الذى لم يعمل السيئة ليس كمثل الذى شرع فى القتال مع الإصرار، وسأستقصى الكلام فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إذا التقى المسلمان بسيفيهما -، فى كتاب الفتن، إن شاء الله. - باب كُفْرَانِ الْعَشِيرِ وَكُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ / 23 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت أُرِيتُ النَّارَ فَرَأَيْتَ أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْنَ -، قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: تمت يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْر، َ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ -. قال المهلب: قال: الكفر هاهنا هو كفر الإحسان، وكفر نعمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 العشير، وهو الزوج، وتسخط حاله، وقد أمر الله رسوله بشكر النعم، وجاء فى الحديث: تمت لا يشكر الله من لا يشكر الناس -، وشكر نعمة الزوج هو من باب شكر نعمة الله، لأن كل نعمة فضل بها العشير أهله، فهى من نعمة الله أجراها على يديه، ومعنى هذا الباب كالذى قبله: أن المعاصى تنقص الإيمان ولا تخرج إلى الكفر الذى يوجب الخلود فى النار، لأنهم حين سمعوا رسول الله قال: تمت يكفرن - ظنوا أنه كفر بالله، فقالو: يكفرن بالله؟ قال: تمت يكفرن العشير ويكفرن الإحسان -. فبين لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه أراد كفرهن حق أزواجهن، وذلك لا محالة ينقص من إيمانهم، ودل ذلك أن إيمانهن يزيد بشكرهن العشير وبأفعل البر كلها، فثبت أن الأعمال من الإيمان، وأنه قول وعمل، إذ بالعمل الصالح يزيد، وبالعمل السيئ ينقص. وفيه: دليل أن المرء يعذب على الجحد للفضل والإحسان وشكر المنعم، وقيل: إن شكر المنعم فريضة. - باب ظُلْمٍ دُونَ ظُلْمٍ / 24 - فيه: ابن مسعود، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) [الأنعام: 82] قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13] . معنى هذا الباب كالذى قبله أن تمام الإيمان بالعمل، وأن المعاصى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ينقص بها الإيمان، ولا يخرج صاحبها إلى الكفر، والناس مختلفون فى ذلك على قدر صغر المعاصى وكبرها. وفيه من الفقه: أن المُفَسَّر يقضى على المجمل بخلاف قول أهل الظاهر، ألا ترى أن أصحاب النبى تأولوا قوله: (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ (على جميع أنواع الظلم، فبين الله أن مراده بذلك الظلم الشرك خاصة بقوله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (، فوجب بهذا حكم المفسر على المجمل، وهذا قول الجمهور، وقد احتج بهذا الحديث من قال: إن الكلام حكمه العموم، حتى يأتى دليل الخصوص. - باب عَلامَةِ الْمُنَافِقِ / 25 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أَن نبِىّ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ -. / 26 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: تمت أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ، حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ -. تَابَعَهُ شُعْبَةُ، عَنِ الأعْمَشِ. معنى هذا الباب كالأبواب المتقدمة قبله: أن تمام الإيمان بالأعمال، وأنه يدخل على المؤمن النقص فى إيمانه بالكذب، وخلف الوعد، وخيانة الأمانة، والفجور فى الخصام، كما يزيد إيمانه بأفعال البر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 قال أبو الزناد: ولم يُرد النبى (صلى الله عليه وسلم) بالنفاق المذكور فى هذين الحديثين النفاق الذى صاحبه فى الدرك الأسفل من النار، الذى هو أشد الكفر، وإنما أراد أنها خصال تشبه معنى النفاق، لأن النفاق فى اللغة أن يظهر المرء خلاف ما يبطن، وهذا المعنى موجود فى الكذب، وخلف الوعد، والخيانة. فإن قيل: قد قال (صلى الله عليه وسلم) فى حديث عبد الله بن عمرو: تمت كان منافقًا خالصًا -. قيل: معناه خالصًا فى هذه الخلال المذكورة فى الحديث فقط، لا فى غيرها، لقوله عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء) [النساء: 48] . وقد ثبت عن الرسول أنه يخرج مِن النار مَن فى قلبه مثقال حَبَّة من خردل من إيمان. قال المهلب: والمراد بالحديث، والله أعلم، من يكون الكذب غالبًا على كلامه، ومستوليًا على حديثه، والخيانة على أمانته، والخلف على مواعيده، فإذا كان هذا شأنه قويت العلامة والدلالة. وأمّا من كان الكذب على حديثه نادرًا فى خبره تافهًا، والخيانة فى أمانته شاذة يدعى العذر فيها، والخلف فى أوعاده، مثل ذلك معتذر بآفات منعته من الإنجاز فلا يقضى عليه بالنادر اليسير، إذ لا يمكن أن يسلم أحدٌ من كذب. وقد سُئل مالك بن أنس، عمن جُرب عليه كذب، قال: أى نوع من الكذب، لعله إذا حدَّث، عن غضادة عيش سلف زاد فى وصفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وأفرط فى ذكره، أو أخبر عَمَّا رآه فى سفره، أعيا فى خبره وأسرف، فهذا لا يضره، وإنما يضر من حدَّث عن الأشياء بخلاف ما هى عليه عامدًا للكذب. وكذلك الخلف فى الوعد، والخيانة فى الأمانة إذا كانت شاذة يدعى فيها العُذر. وذلك مغتفر له غير محكوم عليه فى انفاق أو سوء معتقد، وقد جُرَّب على من سلف من الأئمة بعض ذلك، فلم يضرهم، لأنه كان نادرًا. هذا وجه الحديث إن شاء الله. ويشهد لذلك ما حدثنا به أحمد بن محمد بن عفيف، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان، قال: حدثنا محمد بن عمر بن لبابة، حدثنا عثمان بن أيوب، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبى رواد، عن أبيه، قال: بلغنى أن رجلاً من أهل البصرة قدم مكة حاجًا، فجلس فى مجلس عطاء بن أبى رباح، فقال الرجل: سمعت الحسن يقول: من كان فيه ثلاث خصال لم أتحرج أن أقول فيه إنه منافق: من إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان، فقال له عطاء: أنت سمعت هذا من الحسن؟ قال: نعم، قال: إذا رجعت إلى الحسن، فقل له: إن عطاء بن أبى رباح يقرأ عليك السلام، ويقول لك: ما تقول فى بنى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، خليل الله، إذ حدثوا فكذبوا، ووعدوا فاخلفوا، وأؤتمنوا فخانوا، فكانوا منافقين؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 واعلم أنه لن يعدوا أهل الإسلام أن تكون منهم الخيانة والخلف، ونحن نرجو أن يعيذهم الله من النفاق، وما استقر اسم النفاق قط إلا فى قلب جاحد، وكذلك يقول الله: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ (إلى: (يَفْقَهُون) [المنافقون: 1 - 3] . ألا ترى أن الإيمان زال عن قلوبهم، ونحن نرجو أن لا يكون عن قلوب المؤمنين زائلاً، وإن كان فيهم ما سميتهم به، فَسُرَّ بذلك الحسن، وقال: جزاك الله خيرًا، ثم أقبل على أصحابه فقال لهم: ما لكم لا تصنعون ما صنع أخوكم هذا، إذ سمعتم منى حديثًا حدثتم به العلماء، فما كان منه صوابًا فحسن، وإن كان غير ذلك ردوا عَلَىَّ صوابه. وقد روى عن الرسول أن الحديث فى المنافقين، حدثنا أحمد بن محمد بن عفيف، حدثنا عبد الله بن عثمان، حدثنا أحمد بن خالد، حدثنا عبيد بن محمد الكشورى، حدثنا أسوار بن محمد الصنعانى، حدثنا المعتمر بن أبى المعتمر الجزرى، عن مقاتل بن حيان، أنه سأل سعيد ابن جبير عن قوله، (صلى الله عليه وسلم) : تمت ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وزعم أنه مؤمن: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان، ومن كانت فيه خصلة واحدة ففيه ثلث النفاق حتى يدعها -. قال مقاتل: وهذه مسألة قد أفسدت علىّ معيشتى، لأنى أظن أنى لا أسلم من هذه الثلاث، أو من بعضهن، ولن يسلم منهن كثير من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 الناس، فضحك سعيد بن جبير، ثم قال: أَهَمَّنِى من هذا الحديث مثل الذى أهمك، فأتيت ابن عمر وابن عباس فقصصت عليهما فضحكا، وقالا: أهمنا والله يا ابن أخى من هذا الحديث مثل الذى أهمك، فأتينا النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فسألناه عنه فضحك (صلى الله عليه وسلم) ، وقال: تمت ما لكم ولهن إنما خصصت بهن المنافقين. أما قولى: إذا حدث كذب فذلك فيما أنزل الله عَلىَّ: (إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (، [المنافقون: 1] لا يستيقنون نبوتك فى قلوبهم، فأنتم كذلك؟ قلنا: لا، قال: لا عليكم، أنتم من ذلك برآء. أما قولى: إذا وعد أخلف، فذلك فيما أنزل الله علىَّ: (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ (، إلى: (يَكْذِبُونَ) [التوبة: 75 - 77] ، أفأنتم كذلك؟ قلنا: لا، قال: فلا عليكم، أنتم من ذلك برآء. أما قولى: إذا اؤتمن خان، فذلك فيما أنزل الله عَلىَّ: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ (إلى: (جَهُولاً) [الأحزاب: 72] ، فكل مؤتمن على دينه، فالمؤمن يغتسل من الجنابة فى السر والعلانية، ويصوم ويصلى فى السر والعلانية، والمنافق لا يفعل ذلك إلا فى العلانية، أفأنتم كذلك؟ قلنا: لا، قال: لا عليكم، أنتم من ذلك برآء -. - باب قِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ الإيمَانِ / 27 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ رَمَضَانَ وَصَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ -. قال المؤلف: هذا الحديث حجة أيضًا أن الأعمال إيمان؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) جعل الصيام والقيام إيمانًا، ومعنى قوله: تمت إيمانًا وإحتسابًا - يعنى: مصدقًا بفرض صيامه، ومصدقًا بالثواب على قيامه وصيامه ومحتسبًا مريدًا بذلك وجه الله، بريئًا من الرياء والسمعة، راجيًا عليه ثوابه. - باب الْجِهَادِ مِنَ الإيمَان / 28 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لا يُخْرِجُهُ إِلا إِيمَانٌ بِي، وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ، أَوْ غَنِيمَةٍ، أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَلَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ -. وهذا الباب كالأبواب المتقدمة حجة فى أن الأعمال إيمان؛ لأنه لما كان الإيمان بالله هو المخرج له فى سبيله، كان الخروج إيمان بالله لا محالة، كما تسمى العرب الشىء باسم الشىء مما يكون من سببه فتقول للنبات: نوء؛ لأنه عن النوء يكون، وتقول للمطر: سماء؛ لأنه من السماء ينزل. وسيأتى معنى هذا الحديث فى كتاب الجهاد. وقوله: تمت انتدب الله - يريد أوجب الله وتفضل لمن أخلص النية لله فى جهاده أن ينجزه ما وعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ونبه (صلى الله عليه وسلم) بهذه الثلاثة الألفاظ أن المجاهد لا يخلو من الشهادة إن قتل، أو الغنيمة والأجر إن سلم. - باب الدِّينُ يُسْرٌ وقوله: (أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ / 29 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ -. معنى هذا الباب أيضًا أن الدين اسم واقع على الأعمال لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت الدين يسر -، ثم بين الطريقة التى يجب امتثالها من الدين بقوله: تمت فسددوا وقاربوا - إلى آخر الحديث. وهذه كلها أعمال سماها (صلى الله عليه وسلم) دينًا، والدين والإسلام والإيمان شىء واحد. قال أبو الزناد: والمراد بهذا الحديث الحض على الرفق فى العمل، وهو كقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت عليكم من العمل ما تطيقون -، وقال لعبد الله بن عمر: تمت وإذا فعلت هجمت عينك ونقمت نفسك -. وقوله: تمت أبشروا - يعنى بالأجر والثواب على العمل، وتمت استعينوا بالغدوة والروحة وشىء من الدلجة - كأنه خاطب مسافرًا يقطع طريقه إلى مقصده فنبهه على أوقات نشاطه التى يزكو فيها عمله؛ لأن الغدو والرواح والدلج أفضل أوقات المسافر، وقد حض الرسول المسافر على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 المشى بالليل، وقال: إن الأرض تطوى بالليل، وقال لعبد الله بن عمر: تمت كن فى الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل -، فشبه الإنسان فى الدنيا بالمسافر، وكذلك هو على الحقيقة؛ لأن الدنيا دار نقلة وطريق إلى الآخرة، فنبه أمته أن يغتنموا أوقات فرصتهم وفراغهم، والله الموفق. - باب الصَّلاةُ مِنَ الإيمَانِ وقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) [البقرة: 143] يَعْنِى صَلاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ المقدس / 30 - فيه: حديث البراء حين نسخت القبلة. قال: هذه الآية أقطع الحجج للجهمية والمرجئة فى قولهم: إن الفرائض والأعمال لا تسمى إيمانًا. وقولهم خلاف نص التنزيل؛ لأن الله سمى صلاتهم إلى بيت المقدس إيمانًا، ولا خلاف بين أهل التفسير أن هذه الآية نزلت فى صلاتهم إلى بيت المقدس، ومثل هذه الآية قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [الأنفال: 2، 3] ، حتى الزكاة، وفى تسميته لهم مؤمنين فإن كانوا للصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 عاملين وللزكاة مؤدين فما وجب به أن تكون الصلاة والزكاة إيمانًا؛ لأن المسمى مؤمنا بعمله لشىء يوجب أن يسمى ذلك الشىء إيمانًا. ومثله أيضًا قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) [النور: 62] ، فسماهم مؤمنين بإيمانهم بالله ورسوله، وأن لا يذهبوا إذا كانوا مع نبيهم حتى يستأذنوه، واستئذانهم له عمل مفترض عليهم سموا به مؤمنين كما سموا بإيمانهم بالله ورسوله. - باب حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ / 31 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلامُهُ، يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا -. / 32 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلامَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا -. قال المؤلف: قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت فحسن إسلامه - قد فسره حين سئل ما الإحسان؟ فقال: تمت أن تعبد الله كأنك تراه - أراد مبالغة الإخلاص لله بالطاعة والمراقبة له. وفى قوله: تمت إلا أن يتجاوز الله عنها - رد على من أنفذ الوعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 على العصاة المؤمنين؛ لأن قوله: تمت إلا أن يتجاوز الله عنها - يدل أنه قد يؤاخذ بها، وقد يتجاوز عنها إذا شاء، وهذا مذهب أهل السنة. وأما حديث أبى سعيد فإن البخارى أسقط بعضه، ولم يسنده، وهو حديث مشهور من رواية مالك فى غير الموطأ، ونص الحديث: قال رسول الله: تمت إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه كتب الله له كل حسنة كان زلفها، ومحى عنه كل سيئة كان زلفها، وكان عمله بعد الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله -. ذكره الدارقطنى فى غريب حديث مالك، ورواه عنه من تسعة طرق، وثبت فيها كلها ما أسقطه البخارى أن الكافر إذا حسن إسلامه يكتب له فى الإسلام كل حسنة عملها فى الشرك، ولله تعالى أن يتفضل على عباده بما شاء لا اعتراض لأحد عليه، وهو كقوله (صلى الله عليه وسلم) لحكيم بن حزام: تمت أسلمت على ما سلف من خير -، وهو مذكور فى كتاب الزكاة، وكتاب العتق. - باب أَحَبِّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ / 33 - فيه: عَائِشَةَ أَنَّ الرَّسُولِ (صلى الله عليه وسلم) دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ، قَالَ: تمت مَنْ هَذِهِ؟ - قَالَتْ: فُلانَةُ، تَذْكُرُ مِنْ صَلاتِهَا، قَالَ: تمت مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا، وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَادَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ -. قال المؤلف: قول عائشة: تمت وكان أحب الدين إلى الله ما دام - هو معنى الباب؛ لأنها سَمَّت الأعمال دينًا بخلاف قول المرجئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وقال المهلب وأبو الزناد: إنما قال ذلك (صلى الله عليه وسلم) ، والله أعلم، خشية الملال اللاحق بمن انقطع فى العبادة. وقد ذَمَّ الله من التزم فعل البرِّ ثم قطعه بقوله تعالى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) [الحديد: 27] . ألا ترى أن عبد الله بن عمرو لما ضعف عن العمل ندم على مراجعته رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى التخفيف عنه، وقال: ليتنى قبلت رخصة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ولم يقطع العمل الذى كان التزمه. قال ابن قتيبة: وقوله: تمت فإن الله لا يمل حتى تملوا -، معناه لا يمل إذا مللتم. ومثال ذلك: قولهم فى الكلام: هذا الفرس لا يفتر حتى يفتر الخيل، لا يريد بذلك أنه يفتر إذا فترت الخيل، ولو كان هذا المراد ما كان له فضيلة عليها إذا فتر معها. ومثله: قولهم فى الرجل البليغ: لا ينقطع حتى ينقطع خصومه، يعنى لا ينقطع إذا انقطع خصومه، ولا أراد أنه ينقطع إذا انقطعوا لم يكن له فضل على غيره ولا وجبت له به مدحة. قال الشاعر: صَليتْ مِنَّا هُذَيْلٌ بِحَرْبٍ لا نَمَلُّ الشَّرَّ حَتَّى تَمَلُّوا لم يرد أنهم يملون الشر إذا ملوا، ولو أراد ذلك ما كان لهم فيه مدح، لأنهم حينئذ يكونون فيه سواء كلهم، بل أراد أنهم لا يملون الشر، وإن مَلّه خصومهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وقال ابن فورك: معناه إن من شأنكم الملل، وليس هو صفات الله تعالى، لأن الملل صفة تقتضى تغيرًا وحلول الحوادث فى من حلت فيه، وهذا غير جائز فى صفة الله تعالى. وذكر الخطابى فيه وجهًا آخر، وهو أن يكون معناه أن الله لا يسأم الثواب ما لم تسأموا العمل، أى لا يترك الثواب ما لم تتركوا العمل. وقوله: تمت مَهْ - زجرٌ وكَفْ. - باب زِيَادَةِ الإيمَانِ وَنُقْصَانِهِ وقوله تَعَالَى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة: 3] فَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الْكَمَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ / 34 - فيه: أَنَسٍ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَفِى قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَفِى قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَفِى قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ -. / 35 - وفيه: ابن عمر، أَنَّ رَجُلاً مِنَ الْيَهُودِ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِى كِتَابِكُمْ، لَوْ عَلَيْنَا نَزَلَتْ لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: أَىُّ آيَةٍ؟ قَالَ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) [المائدة 3] ، وذكر الحديث. قال المؤلف: قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (حجة فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 زيادة الإيمان ونقصانه، لأن هذه الآية نزلت يوم عرفة فى حجة الوداع يوم كملت الفرائض والسُّنن واستقرَّ الدِّين، وأراد الله قبض نبيه، فدلت هذه الآية، أن كمال الدين إنما حصل بتمام الشريعة، فمن حافظ على التزامها فإيمانه أكمل من إيمان من قَصرَّ فى ذلك وضيع. ولذلك قال البخارى: فإذا ترك شيئًا من الكمال فهو ناقص، وقد تقدم فى أول كتاب الإيمان، أن القول بزيادة الإيمان ونقصانه هو مذهب أهل السُّنَّة وجمهور الأُمة. وقال المهلب: الذَّرة أقل الموزونات، وهى فى هذا الحديث التصديق الذى لا يجوز أن يدخله النقص، وما فى البُرّة والشعيرة من الزيادة على الذرة، فإنما هى زيادة على الأعمال يكمل التصديق بها، وليست زيادة فى التصديق لما قدمنا أنه لا ينقص التصديق. فإن قيل: فإنه لما أضاف هذه الأجزاء التى فى الشعيرة والبُرّة الزائدة على الذرة إلى القلب دَلَّ أنها من زائدة التصديق، لا من الأعمال. فالجواب: أنه لما كان الإيمان التام إنما هو قول وعمل، والعمل لا يكون إلا بنية وإخلاص من القلب، جاز أن يُنسب العمل إلى القلب، إذ تمامه بتصديق القلب، وقد عَبَّر عن هذه الأجزاء من الأعمال مرةً بالخير ومرةً بالإيمان، وكل سائغٌ واسعٌ. وقوله: تمت يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله - يدل أن ما ذكر بعد هذا من الذَّرة والبُرَّة والشعيرة، هى من الأعمال والطاعات، إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الأمة مجمعة على أن قول لا إله إلا الله هو صريح الإيمان والتصديق الذى شبه بالذرة عمل القلب أيضًا. وقال غير المهلب: ويحتمل أن تكون الذرة والشعيرة والبُّرة التى فى القلب كلها من التصديق، لأن قول: تمت لا إله إلا الله - باللسان لا يتم إلا بتصديق القلب. والناس يتفاضلون فى التصديق على قدر علمهم وجهلهم، فمن قَلَّ علمه كان تصديقه مقدار ذرة، والذى فوقه فى العلم تصديقه بمقدار بُرة وشعيرة. إلا أن التصديق الحاصل فى قلب كل واحد من هؤلاء فى أول مرة لا يجوز عليه النقصان، ويجوز عليه الزيادة بزيادة العلم والمعاينة. فأما زيادة التصديق بزيادة العلم، فقوله تعالى عند نزول السورة: (أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا) [التوبة: 24] فهذه زيادة العلم. وأما زيادة التصديق بالمعاينة، فقول إبراهيم إذ طلب المعاينة، قال له ربه: (أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى) [البقرة: 260] ، فطلب الطمأنينة بالمعاينة، وهى زيادة فى اليقين، وقد قال تعالى: (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) [التكاثر: 7] ، فجعل له مزية على علم اليقين، وبالله التوفيق. 30 - باب الزَّكَاةِ مِنَ الإسْلامِ قَوْلُهُ تعالى: (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاة) [البينة: 5] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 / 36 - فيه: طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الرَسُول (صلى الله عليه وسلم) مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرَ الرَّأْسِ، يُسْمَعُ دَوِىُّ صَوْتِهِ، وَلا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإسْلامِ، فَقَالَ له رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ -، فَقَالَ: هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: تمت لا، إِلا أَنْ تَطَوَّعَ -، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت وَصِيَامُ رَمَضَانَ -، قَالَ: هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: تمت لا، إِلا أَنْ تَطَوَّعَ -، قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الزَّكَاةَ، قَالَ: هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: تمت لا، إِلا أَنْ تَطَوَّعَ -، قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلا أَنْقُصُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ -. قال المؤلف: هذا الحديث حجة أن الفرائض تُسمى إسلامًا، ودل قوله: تمت أفلح إن صدق - على أنه إن لم يصدق فى التزامها أنه ليس بمفلح، وهذا خلاف قول المرجئة. فإن قيل: إن هذا الحديث ليس فيه فرض النهى عن المحارم، وعن ركوب الكبائر، وليس فيه الأمر باتباع النبى (صلى الله عليه وسلم) فيما سَنَّه لأمته، فكيف يفلح من لم ينته عما نهاه الله، ولم يتبع ما سَنَّه، (صلى الله عليه وسلم) ، وقد توعد الله على مخالفة نبيه (صلى الله عليه وسلم) ، بقوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63] . فالجواب: أنه يحتمل أن يكون هذا الحديث فى أول الإسلام قبل ورود فرائض النهى. ويحتمل أن يكون قوله: تمت أفلح إن صدق - راجعًا إلى قوله: أنه لا ينقص منها شيئًا ولم يزد، أفلح إن صدق فى أن لا يزيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 عليها شيئًا من الفرائض والسنن، ولا فرض الحج لم يأت فى هذا الحديث من طريق صحيح، ولا يجوز أن يسقط فرض الحج عمن استطاع إليه سبيلاً، كما لا يجوز أن تسقط عنه فرائض النهى كلها، وهى غير مذكورة فى هذا الحديث، ولا يجوز ترك اتباع النبى (صلى الله عليه وسلم) والاقتداء به فى سنته، لقوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) [الحشر: 7] ، فبان بهذا أن قوله: تمت أفلح إن صدق - ليس على العموم. وفيه تأويل آخر: يحتمل أن يكون قوله: تمت والله لا أزيد على هذا ولا أنقص - على معنى التأكيد فى المحافظة على الوفاء بالفرائض المذكورة، من غير نقصان شىءٍ من حدودها، كما يقول العبد لمولاه إذا أمره بأمر مهم عنده: والله لا أزيد على ما أمرتنى به ولا أنقص، أى أفعله على حسب ما حددته لى، لا أخل بشىءٍ منه، ولا أزيد فيه من عند نفسى غير ما أمرتنى به، ويكون الكلام إخبارًا عن صدق الطاعة وصحيح الائتمار. ومن كان فى المحافظة على ما أُمِرَ به بهذه المنزلة، فإنه متى ورد عليه أمرٌ لله تعالى أو لرسوله فإنه يبادر إليه، ولا يتوقف عنه، فرضًا كان أو سُنَّةً. فلا تعلق فى هذا الحديث لمن احتج أن تارك السُّنن غير حَرِجٍ ولا آثمٍ، لتوعد الله تعالى على مخالفة أمر نبيه. وبهذا التأويل تتفق معانى الآثار والكتاب، ولا يتضاد شىء من ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وهذا الرجل النجدى، هو ضمام بن ثعلبة، من بنى سعد بن بكر. وليس فى رواية مالك وإسماعيل بن جعفر فى هذا الحديث ذكر الحج، وقد رواه ابن إسحاق عن محمد بن الوليد بن نويفع، عن كريب، عن ابن عباس، ذكر فيه الحج. وحديث من لم يذكره أصح. وقد احتج برواية ابن إسحاق من قال: إن فرض الحج على الفور. وقالوا: إنه وفد على الرسول سنة تسع، هذا قول ابن هشام فى السير عن أبى عبيدة، وهو قول الطبرى. وقالت طائفة: إن فرض الحج على التراخى. وقالوا: إن قدوم ضمامٍ فى هذا الحديث على النبى (صلى الله عليه وسلم) كان فى سنة خمس، هذا قول الواقدى، وسيأتى اختلاف أهل العلم فى ذلك، فى كتاب الحج، إن شاء الله. ومن حُجَّة الذين قالوا بالتراخى، قالوا: لو صح أن فرض الحج نزل سنة تسع لم يكن فيه حجة لم قال بالفور، إلا أن يدعى أن نزوله كان فى آخر العام وقت الحج، حيث لا يمكن النبى (صلى الله عليه وسلم) أداءه تلك السنة، ولا سبيل إلى إثبات ذلك. فإن قيل: فلعل قوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) [النور: 63] أنزلت بعد حديث ضمام. قيل له: سواء نزلت قبله أو بعده لا يسوغ لأحدٍ مخالفة أمر الرسول، فلا تعلق لأحدٍ فى قوله: تمت أفلح إن صدق -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وقد قال مالك فى هذه الآية: نزلت يوم الخندق،) وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) [النور: 62] ، وقال: إن الخندق كان سنة أربع. قال المؤلف: قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) [النور: 63] نزلت قبل حديث ضمام على كلا القولين ممن قال: إن فرض الحج نزل سنة تسعٍ أو سنة خمس. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إلا أن يطوع - ندبٌ إلى التطوع. وقوله: تمت أفلح إن صدق -، أى فاز بالبقاء الدائم فى الخير والنعيم الذى لا يبيد. والفلاح فى اللغة: البقاء، وهو معنى قول المؤذن: حى على الفلاح، أى هلموا إلى العمل المؤدى إلى البقاء. 31 - باب اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ مِنَ الإيمَانِ / 37 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت مَنِ تَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهَا حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّه يَرْجِعُ بِقِيرَاطَيْنِ مِنَ الأجْرِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ -. وهذا الباب أيضًا حجة لأهل السُّنة أن الأعمال إيمان، لأنه (صلى الله عليه وسلم) جعل اتباع الجنازة إيمانًا بقوله: تمت من تبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وقال أبو الزناد: حض (صلى الله عليه وسلم) على التواصل فى الحياة وبعد الممات، والذى حض عليه فى الحياة قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت صِلْ من قطعك وأعط من حرمك -، وقال: تمت لا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا -. والذى حض عليه من الصلة بعد الممات فهو تشييعه إلى قبره والدعاء له، فهذا حق المؤمن على المؤمن. 32 - باب خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لا يَشْعُرُ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِىُّ: مَا عَرَضْتُ قَوْلِى عَلَى عَمَلِى إِلا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ. وَذكَرُ عَنِ الْحَسَنِ: مَا خَافَهُ إِلا مُؤْمِنٌ، وَلا أَمِنَهُ إِلا مُنَافِقٌ، وَمَا يُحْذَرُ مِنَ الإصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، لِقوله تَعَالَى: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 135] . / 38 - حَدَّثَنَا زُبَيْدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ عَنِ الْمُرْجِئَةِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِى عَبْدُاللَّهِ أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: تمت سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ -. / 39 - وَعَنْ عُبَادَة، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاحَى رَجُلانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: تمت إِنِّى خَرَجْتُ لأخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلاحَى فُلانٌ وَفُلانٌ، فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ، خَيْرًا لَكُمُ. . . -، وذكر الحديث. معنى قول إبراهيم: ما عرضت قولى على عملى إلا خشيت أن أكون مكذبًا، فإنما قال ذلك، والله أعلم، لأن الله تعالى ذَمَّ من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقَصرَّ فى عمله، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ) [الصف: 2، 3] فخشى أن يكون مكذبًا، إذْ لم تمنيه الغاية من العمل، وأشفق من تقصيره. وهكذا ينبغى أن تغلب الخشية على المؤمن، ألا ترى قول الحسن: ما خافه إلا مؤمن وما أمنه إلا منافق. وقول ابن أبى مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب الرسول (صلى الله عليه وسلم) كلهم يخاف النفاق على نفسه، وإنما هذا، والله أعلم، لأنها طالت أعمارهم حتى رأوا من التغيير ما لم يعهدوه، ولم يقدروا على إنكاره، فخشوا على أنفسهم أن يكونوا فى حيز من داهن ونافق. وقوله: ما منهم أحدٌ يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل، هذا مذهب أهل السُّنة. ذكر الطبرى بإسناده عن أيوب السختيانى، عن ابن أبى مليكة، عن عائشة، قالت: ما كان رسول الله يبوح بهذا الكلام، يقول: تمت إيمانى كإيمان جبريل وميكائيل -. قال سعيد بن عبد العزيز: هو إذا أقدم على هذه المقالة أقرب أن يكون إيمانه كإيمان إبليس، لأنه أقرَّ بالربوبية وكفر بالعمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وقال الفضيل بن عياض: يا سفيه ما أجهلك، لا ترضى أن تقول: أنا مؤمن حتى تقول: أنا مستكمل الإيمان، لا والله، لا يستكمل العبد الإيمان حتى يؤدى ما افترض الله عليه، ويجتنب ما حرم الله عليه، ويرضى بما قسم الله له، ثم يخاف مع ذلك ألا يتقبل منه. وذكر إسماعيل بن إسحاق بإسناده عن عائشة، أنها قالت: سألت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن قوله: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون: 60] قال: تمت هم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ومفرقون أن لا يتقبل منهم -. قال بعض السلف فى قوله تعالى: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزمر: 47] قال: أعمال كانوا يحسبونها حسنات بدت لهم سيئات، وإنما لحقهم ذلك لعدم المراعاة وقلة الإخلاص، أو لتعديهم السُّنَّة وركوبهم بالتأويل وجوه الفتنة. وغرض البخارى فى هذا الباب رد قول المرجئة: أن الله لا يعذب على شىء من المعاصى من قال: لا إله إلا الله، ولا يحبط عمله بشىءٍ من الذنوب، فأدخل فى صدر الباب هذا أقوال أئمة التابعين، وما نقلوه عن الصحابة أنهم مع اجتهادهم وفضلهم يستقلون أعمالهم، ويخافون ألا ينجون من عذاب ربهم. وبمثل هذا المعنى نزع أبو وائل، حين سُئل عن المرجئة، فقال: حدثنى عبد الله بن مسعود، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر -، إنكارًا لقول المرجئة، فإنهم لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 يجعلون سباب المسلم فسوقًا، ولا قتاله كفرًا، ولا يُفسقون مرتكبى الذنوب، وقولهم مخالف لقول النبى، وليس يريد بقوله: تمت وقتاله كفرٌ - الكفر الذى هو الجحد لله ولرسله، وإنما يريد كفر حق المسلم على المسلم، لأن الله قد جعل المؤمنين إخوةً، وأمر بالإصلاح بينهم ونصرتهم، ونهاهم برسوله، (صلى الله عليه وسلم) ، عن التقاطع، وقال: تمت المؤمن للمؤمن كالبنيان يَشُدُّ بعضه بعضًا -، فنهى عن مقاتلة بعضهم بعضًا، وأخبر أن من فعل ذلك، فقد كفر حق أخيه المسلم. وقد ترجم لهذا الحديث فى كتاب الفتن، باب قول الرسول: تمت لا ترجعوا بعدى كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض -. وقد يحتمل قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت وقتاله كفرٌ -، أن تكون المقاتلة بمعنى المشاركة والتناول له باليد والتطاول عليه، كما قال فى المار بين يدى المصلى: تمت فليدرأه، فإن أَبَى فليقاتله -، ولم يرد (صلى الله عليه وسلم) قطع الصلاة، واستباحة دَمِّه، وإنما أراد دفعه بالشدة والقوة. على هذا يدل مساق الكلام لذكره معه السباب، والعرب تُسمى المشاركة مقاتلة. والدليل على صحة قولنا: إجماع أهل السُّنَّة أن قتل المسلم للمسلم لا يخرجه من الإيمان إلى الكفر، وإنما فيه القود. فينبغى للمؤمن ترك السباب والمشاركة والملاحاة، ألا ترى عظيم ما حَرَم الله عباده من بركة علم ليلة القدر من أجل تلاحى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الرجلين بحضرة النبى، فكان ذلك عقوبة للمتلاحين ولمن يأتى بعدهم إلى يوم القيامة، لأنهم جمعوا مع التلاحى ترك أمر الله، لتوقير الرسول وتعزيزه، لقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ) [الحجرات: 2] ، ولكن قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت وعسى أن يكون خيرًا - بعض التأنس لهم. وقال أبو الزناد: إنما يحبط عمل المؤمن وهو لا يشعر، إذا عد الذنب يسيرًا فاحتقره وكان عند الله عظيمًا، وليس الحبط هاهنا بمخرج من الإيمان، وإنما هو نقصان منه، ولا قوله: (أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ (يوجب أن يكفر المؤمن وهو لا يعلم، لأنه كما لا يكون الكافر مؤمنًا إلا باختيار الإيمان على الكفر، والقصد إليه، فكذلك لا يكون المؤمن كافرًا من حيث لا يقصد إلى الكفر ولا يختاره، رحمة من الله لعباده، والدليل على صحة هذا قوله: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ) [التوبة: 115] . فإن قيل: فما أنت قائل فى حديث أبى بكر الصديق، وأبى موسى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل على الصفا -. وهذا يدل على أنه قد يخرج من الإيمان إلى الكفر من حيث لا يعلم، بخلاف ما قلت. قيل له: ليس كما ذكرت، وليس هذا الحديث بمخالف لما شرحناه، بل هو مبيِّن له وموضح لمعناه، وذلك أنه قد ثبت عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه قال: تمت اتقوا الرياء، فإنه الشرك الأصغر -. والرياء ينقسم قسمين: فإن كان الرياء فى عقد الإيمان فهو كفر ونفاق، وصاحبه فى الدرك الأسفل من النار، فلا يصح أن يخاطب بهذا الحديث. وإن كان الرياء لمن سلم له عقد الإيمان من الشرك، ولحقه شىء من الرياء فى بعض أعماله، فليس ذلك بمخرج من الإيمان إلا أنه مذموم فاعله، لأنه أشرك فى بعض أعماله حَمْدَ المخلوقين مع حَمْدِ ربه، فَحُرم ثواب عمله ذلك. يدل على هذا حديث أبى سعيد الخدرى، قال: تمت خرج علينا رسول الله ونحن نتحدث عن الدَّجال، فقال: إن أخوف عندى من ذلك الشرك الخفى، أن يعمل الرجل لمكان الرجل، فإذا دَعَا الله بالأعمال يوم القيامة، قال: هذا لى، فما كان لى قبلته، وما لم يكن لى تركته -، رواه الطبرى. فلا محالة أن هذا الضرب من الرياء، لا يوجب الكفر، وهذا المعنى فى الحديث. قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل -، ثم قال: تمت يا أبا بكر، ألا أدلك على ما يُذهب صغير ذلك وكبيره، قل: اللهم إنى أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم -. وفى بعض الطرق يقول ذلك ثلاث مرات. فبان بهذا الحديث أن من كان هذا القدر من الرياء فيه خفيًا كخفاء دبيب النمل على الصفا، أن عقد الإيمان ثابت له، ولا يخرج بذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 الخاطر الفاسد من الرياء، الذى زين له الشيطان فيه محمدة المخلوقين إلى الشرك، ولذلك عَلَّم النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمته مداواة ذلك الخاطر بالاستعاذة، مما يذهب صغير ذلك وكبيره، وليست هذه حالة المنافقين ولا صفات الكافرين، وليس هذا بمخالف لما بيَّنا، والله أعلم. 33 - باب سُؤَالِ جِبْرِيلَ عن الإيمَانِ وَالإسْلامِ وَالإحْسَانِ وَعِلْمِ السَّاعَةِ وَبَيَانِ الرسول ثُمَّ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ - فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا، وَمَا بَيَّنَ لِوَفْدِ عَبْدِ قَيْسِ مِنَ الإيمَانِ، وَقَوْلِهِ: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران: 85] . / 40 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ، (صلى الله عليه وسلم) ، بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ رَجُل فَقَالَ: مَا الإيمَانُ؟ قَالَ: تمت الإيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ، [وَكُتُبِهِ] وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ -، قَالَ: مَا الإسْلام؟ ُ قَالَ: تمت الإسْلامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، وَلا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤَدِّىَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ -، قَالَ: مَا الإحْسَانُ؟ قَالَ: تمت أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ -، قَال: َ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: تمت مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا وَلَدَتِ الأمَةُ رَبَّهَا، وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإبِلِ الْبُهْمُ فِى الْبُنْيَانِ، فِى خَمْسٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلا اللَّهُ -، ثُمَّ تَلا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ (الآيَةَ [لقمان: 34] ، ثُمَّ أَدْبَرَ، فَقَالَ: تمت رُدُّوهُ -، فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فَقَالَ: تمت هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ -. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: جَعَلَ ذَلِك كُلَّهُ مِنَ الإيمَانِ. / 41 - وفيه: قصة هِرَقْلَ تمت قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، فَكَذَلِكَ الإيمَانُ حَتَّى يَتِمّ، َ وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لا، وَكَذَلِكَ الإيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ -. قال المؤلف: فيه من الفقه: سؤال العالم العالم عمَّا لا يجهله السائل ليعلمه السامعون، وكل ما سأل عنه من الإسلام والإحسان، فاسم الإيمان والدين واقع عليه، ألا ترى قوله فى حديث هرقل: هل يرتد أحدٌ منهم سخطة لدينه؟ فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان، فسماه مرةً بالدين ومرةً بالإيمان، فهى أسماء متعاقبة لمعنىً واحدٍ بخلاف قول المرجئة. قال الطبرى: تمت وأشراط الساعة - علاماتها، واحدها شرط، ولذلك سمى الشُرَط شُرطًا لإعلامهم أنفسهم علامات يعرفون بها. قال أوس بن حُجْر: وأشرَطَ فيها نفسه وهو معصم يعنى أعلم نفسه للهلاك. وكان الأصمعى يقول: إن قول الناس أشرط فلان على فلان كذا فى بيعه، معناه جعلوا بينهم علامات. وقوله: تمت إذا ولدت الأمة رَبَّها - فهو أن تلد سرية الرجل الشريف ذى الحسب، منه ابنًا أو ابنةً، فَيُنْسب إلى الأب، وله به من الشرف ما لأبيه، وأمه أَمَة. وإنما قصد (صلى الله عليه وسلم) بذلك: الخبر عن أن من أمارة قيام الساعة: ارتفاع الأَسَافل وغير ذوى الأخطار من الرجال والنساء، فأعلم أن من ارتفاع من لا خطر له من النساء ولا قدر، يحوِّل بنات الإماء بولادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 أمهاتهن لهن من ساداتهن رباتٌ أمثال آبائهن، ومن ارتفاع وضعاء الرجال ومن لا خطر له منهم يحوِّل الذين كانوا حفاةً عراةً عالةً من الغنم رعاة أهل الشرف فى البنيان من الغنى وكثرة المال من بعد العَيْلة والفاقة. وهذا نظير قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع - يعنى العبيد والسَّفَلة من الناس. وقوله: تمت الإبل البُهْمُ - يعنى السُّود، وهن أدون الإبل وشرها، لأن الكرام منها الصفر والبيض. ومن روى تمت البَهْم - بفتح الباء فهو خطأ، لأن البهمة ليست من صغار الإبل، وإنما البهمة من ولد الضأن والمعز بعد ما تولد بعشرين يومًا، وجمعها بهم. 34 - باب فَضْلِ مَنِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ / 42 - فيه: النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: تمت الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمورٌ مُشْتَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِى الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِى أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلا وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِىَ الْقَلْبُ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 قال المهلب، رحمه الله: الوسائط التى بين الحلال والحرام يحتذ بها أصلان من كل الطرفين، فأيهما قام الدليل عليه أضيفت الوسيطة إليه، وقد يقوم دليلان من الطرفين فيقع الاشتباه، ويعسر الترجيح، فهذه الذى من اتَّقَاها استبرأ لعرضه ودينه كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، وهى حمى الله الذى حماه ليبعد عن محارمه، ولئلا يُتَذرع إليها فَتُواقع. وهذا الحديث أصلٌ فى القول بحماية الذرائع، وفيه دليل أن من لم يتق الشبهات المختلف فيها وانتهك حرمتها فقد أوجد السبيل إلى عرضه ودينه، وأنه يمكن أن يُنال من عرضه بذلك فى حديث رواه، أو شهادة يشهد بها، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه -. وفيه: أن الراسخين فى العلم يمكن أن يعلموا بعض هذه الشبهات لقوله: تمت لا يعلمها كثير من الناس - فدل أنه يعلمها قليل منهم، كما قال تعالى: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83] ، وسأتقصى فى الكلام على هذا الحديث فى أول كتاب البيوع، إن شاء الله. وفيه: أن العقل والفهم إنما هو فى القلب وموطنه، وما فى الرأس منه إنما هو عن القلب ومنه سببه. 35 - باب أَدَاءِ الْخُمُسِ مِنَ الإيمَانِ / 43 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت مَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 الْقَوْمُ، أَوْ مَنِ الْوَفْدُ -؟ قَالُوا: رَبِيعَةُ، قَالَ: تمت مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ أَوْ بِالْوَفْدِ، غَيْرَ خَزَايَا وَلا نَدَامَى -، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ إِلا فِى الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَىُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ، نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَنَدْخُلْ بِهِ الْجَنَّة، َ وَسَأَلُوهُ عَنِ الأشْرِبَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: أَمَرَهُمْ بِالإيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، قَالَ: تمت أَتَدْرُونَ مَا الإيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ -؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: تمت شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ -، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنِ الْحَنْتَمِ، وَالدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُزَفَّتِ، وَرُبَّمَا قَالَ الْمُقَيَّرِ، وَقَالَ: تمت احْفَظُوهُنَّ، وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ -. معنى هذا الحديث كالأبواب المتقدمة قبله: أن الإيمان واقع على الأعمال، ألا ترى أنه أوقع اسم الإيمان على الإقرار بشهادة التوحيد، وعلى إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأداء الخمس، على خلاف قول المرجئة، وإنما نهاهم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت، لأنه سألوه عن الأشربة، وكانت كثيرة عندهم، فأعلمهم بما يحتاجون إلى علمه. وكذلك أعلمهم أن أداء الخمس من الإيمان، لأنهم كانوا مجاورين لكفار مضر، وكانوا أهل جهاد ونكاية لهم. فإن قيل: فإنه جاء فى الحديث، أنه أمرهم بأربع، وإنما أمرهم بخمس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فالجواب: أنه (صلى الله عليه وسلم) أمرهم بالأربع التى وعدهم بها، ثم زادهم خامسةً، وهذا غير منكور، لأنه وَفَّى لهم بوعده فى الأربع التى سألوه عنها، ولم يجعل التوحيد، ولا الإيمان بالرسول من الأربع، لعلمهم بذلك، وإنما أمرهم بأربع لم تكن فى علمهم أنها دعائم التوحيد وأصله. وفيه: تحريض العَالِم للناس أن يحفظوا العلم، ويُعلموه. وفيه: أن للرجل أن يعلِّم أهل بيته، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت أخبروا بهن من وراءكم -. وقول ابن عباس لأبى جمرة: أقم عندى حتى أجعل لك سهمًا من مالى، فإنما قال ذلك، لأن أبا جمرة كان يتكلم بالفارسية، فأراد أن يجعله ترجمانًا بينه وبين من لا يعرف بالعربية. وفيه: جواز أخذ الأجرة على التعليم. 36 - باب مَا جَاءَ إِنَّ الأعْمَالَ بِالنِّيَّةِ وَالْحِسْبَةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَدَخَلَ فِيهِ الإيمَانُ وَالْوُضُوءُ وَالصَّلاةُ وَالزَّكَاةُ وَالْحَجُّ وَالصَّوْمُ وَالأحْكَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) [الإسراء: 84] عَلَى نِيَّتِهِ، وَقَد قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ -. / 44 - فيه: عُمَرَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت الأعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ -. / 45 - وفيه: ابن مَسْعُود، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ -. / 46 - وفيه: سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِى بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، إِلا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِى فَمِ امْرَأَتِكَ -. قال المؤلف: غرضه فى هذا الباب أيضًا الرد على من زعم من المرجئة أن الإيمان قول باللسان دون عقد بالقلب؛ ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يقتصر على قوله: تمت الأعمال بالنيات، ولكل امرئٍ ما نوى -، وإن كان ذلك كافيًا فى البيان عن أن كل ما لم تصحبه نية من الأعمال فهو ساقط غير معتد به، حتى أكد ذلك ببيان آخر فقال: تمت من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه -. ومثله حديث ابن مسعود: تمت إذا أنفق الرجل على أهله وهو يحتسبها فهو له صدقة -. وحديث سعد: تمت إنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أُجرت عليها -، ألا ترى أنه جعل الأجر فى هذين الحديثين المنفق على أهله بشرط احتساب النفقة عليهن، وإرادة وجه الله بذلك. وبهذا المعنى نطق التنزيل، قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة: 5] الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وقال الطبرى: فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت الأعمال بالنيات - فيه من الفقه تصحيح قول من قال: كل عامل عملاً، فإنه بين العامل وبين ربه على ما صرفه إليه بنيته ونواه بقلبه، لا على ما يبدو لعين من يراه، وبيان فساد قول من قال: إذا غسل الغاسل أعضاء الوضوء وهو ينوى تعليم جاهل، أو تبرُّدًا من حَمٍّ أصابه، أو تطهيرها من نجاسة، لا يقصد بغسلها أداء فرض الصلاة عليه، أنه مؤدٍ بذلك فرض الله الذى لزمه. وأن من صام رمضان بنية قضاء نذرٍ عليه، أو نية تطوع، أنه يجزيه عن فرض شهر رمضان. وكذلك من حج عمن لم يحج قبل عن نفسه، فنوى الحج عن غيره أن يجزئه عن فرض الحج عن نفسه، إذ كان (صلى الله عليه وسلم) جعل عمل كل عامل مصروفًا إلى ما صرفه إليه بنيته، وأراده بقلبه فيما بين وبين ربه. فإن كانت هجرته هجرة رغبة فى الإسلام وبراءة من الكفر، فهجرته هنالك لله ورسوله، وإن كانت هجرته طلب دنيا، فليست بالهجرة التى أمر الله عباده. فكذلك الصائم شهر رمضان بنية التطوع، أو قضاء النذر، وغاسل أعضاء الوضوء، والمحرم بالحج عن غيره، كل واحدٍ منهم غير فاعل ما عليه من فرض الله، لأن عمله لِمَا نواه دون ما لم ينوه. وقال غير الطبرى: وقد زعم بعض الفقهاء أن النية غير مفتقر إليها فى بعض الأعمال، كقول زُفَر: إن صيام شهر رمضان لا يحتاج إلى نية، وغيره من الصيام يفتقر إلى نية إلا أن يكون الذى يدركه رمضان مسافرًا أو مريضًا، فإنه لا يصحُ إلا بالنية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 فأمَّا الصحيح المقيم فلا يفتقر إلى نية، وهو قول عطاء ومجاهد، واحتجوا أن النية إنما احتيج إليها، لتمييز الفرض عن النفل، وزمن رمضان لا يصح فيه النفل، فلا معنى لاعتبار النية فيه. وكقول الأوزاعى: إن الطهارة والغسل والتيمم لا يحتاج شىء منها إلى نية، ذكره ابن القصار، وهو كقول الحسن بن حى. وكقول الثورى وأبى حنيفة: إن الطهارة لا تفتقر إلى نية، ونَاقَضَا فى التيمم فجعلاه يفتقر إلى نية، وسائر الفقهاء على خلافهم فتركوا قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت الأعمال بالنيات - وسائر الأحاديث المشروط فيها النية. وزعم الثورى وأبو حنيفة: أن التيمم مفارق للطهارة، لأن الله تعالى قال فى الماء: (فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) [المائدة: 6] ، ولم يذكر فيه نية، وقال فى التيمم: (فَتَيَمَّمُواْ (والتيمم: القصد فلا يجوز إلا بنية. قال ابن القصار: فيقال لهم: لو سلمنا لكم أن الله نصّ على النية فى التيمم، وأمسك عنها فى الوضوء، لجاز لنا القياس، فنقيس المسكوت عنه على المنصوص عليه، ولما دخلت النية فى التيمم، وهو أقل من الوضوء، كان الوضوء أولى بدخول النية فيه. واحتج الكوفيون أيضًا أن النجاسات يجوز غسلها بغير نية، فكذلك الوضوء، فيقال لهم: الفرق بين غسل النجاسات وبين الطهارة، أن النجاسة قد انخفض أمرها، لأنه عُفى عن اليسير منها يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 فى الثوب والبدن مثل الدم، وسمح بموضع الاستنجاء، وليس كذلك الطهارة، لأنه لم يسمح بترك شىء من الأعضاء فى الوضوء والغسل والتيمم. وفرق آخر: وهو أن الطهارة تجب عن أى حدث كان فى الأربعة الأعضاء، سواء كان الحدث غائطًا أو بولا أو غيره، وليست كذلك النجاسة، لأنه لو أصاب فخذه نجاسة لم يجب عليه غسل يده ورجله، ولو أصابت رجله لم يجب عليه غسل يده، فسقط اعتراضهم أنه لما جاز غسل النجاسة بغير نية أنه يجب مثله فى الوضوء. وقد سئل علىُّ بن أبى طالب عن رجل اغتسل للجنابة ولم ينو، قال: يعيد الغسل، ولا يعرف له مخالف، فصار كالإجماع. وأما قول من قال: إن صيام رمضان لا يفتقر إلى نية، فليس بشىء، لأن قضاءه لا يصح إلا بنية، فوجب أن يفتقر أداؤه إلى النية كالصلاة. وقال بعض العلماء: قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت الأعمال بالنيات - ليس على العموم، وقد توجد أشياء تصح من غير نية، وإن كانت يسيرة فمنها أن مالكًا والكوفيين والشافعى اتفقوا فى المرأة يغيب عنها زوجها مدة طويلة بموت ولا تعلم بموته فيبلغها ذلك بعد عام، أن عدتها من يوم الوفاة، لا من يوم بلغها موته، وهذه عدة بغير نية. ومنها قول ابن القاسم: أنه إذا أعتق الرجل عبده عن غيره فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 كفارة الظهار بغير علمه أن يجزئه من كفارته، والكفارة فرض عليه، وإن كان قد أبى ذلك أبو حنيفة والشافعى وأشهب، فقالوا: لا يعتق عنه بغير علمه، لأنه فرض وجب عليه. ومما يجزئ بغير نية ما قاله مالك: أن الخوارج إذا أخذوا الزكاة من الناس بالقهر والغلبة أجزأت عمن أخذت منه. ومنها: أن أبا بكر الصديق وجماعة الصحابة أخذوا الزكاة من أهل الردة بالغلبة والقهر ولو لم تجز عنهم ما أخذت منهم. واحتج من خالفهم فى ذلك وجعل قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت الأعمال بالنية - على العموم فقال: العدة إنما جعلت للاستبراء، وبراءة الرحم خوف الداخلة فى النسب، وهذه رحم قد حصل لها ما ابتغى من الاستبراء بمضى المدة، وإن كانت المرأة لم تعلم ذلك. وقد أجمعوا على أنها لو كانت حاملا لا تعلم بوفاة زوجها أو طلاقه، فوضعت حملها أن عدتها منقضية. وأما أخذ الخوارج الزكاة من الناس فلا حجة فيه لمن قال: إنه عمل بغير نية، لأن النية لا تنفك عنها من غلبة الخوارج، لأن معنى النية ذكره وقت أخذها منه أنه عن الزكاة، أخذها المتغلب عليه إذا لم يأخذها على غير وجه الزكاة، فلا ينفك علمه من ذلك، وهو كالذاكر للصلاة فى وقت أدائها. وقد قال الله تعالى لنبيه: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) [التوبة: 103] ، وقام الخلفاء بعده فى أخذها مقامه، وقام من بعدهم من فاسق وصالح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 معناهم معنى الظالم من الأمراء. ولم يختلف العلماء أن أخذ الظالم لها يجزئه، فالخارجى فى معنى الظالم. وأهل السنة مجمعون على أن المتغلب يقوم مقام الإمام العدل فى إقامة الحدود وجهاد العدو، وإقامة الجمعات والأعياد وإنكاح من لا ولى لها، فكذلك الخوارج، لأنهم من أهل القبلة وشهادة التوحيد. وأما قوله: إن الصديق أخذ الزكاة من أهل الردة بالغلبة فأجزأتهم فليس بشىء، لأن الصديق لم يقصد أخذ الزكاة بعينها منهم، وإنما قصد إلى حربهم وغنيمة أموالهم وسبيهم لكفرهم، ولو قصد إلى أخذ الزكاة فقط لرد عليهم ما فضل عنها من أموالهم. ونحن نقول: إنها لا تجب عليهم بعد كفرهم، ولو أسلموا بعد ذلك. وأما قول ابن القاسم فى الذى يعتق عبده عن غيره فى الظهار، فقد قال الأبهرى: القياس أنه لا يجزئه، لأن المعتق عنه بغير أمره لم ينو عتقه، فالعتق فى الكفارات لا يجزئ بغير نية، وليس ذلك بمنزلة العتق عن الميت فى كفارة عليه، لأن الميت معدوم النية وليس بواجب أن يعتق عنه إذا لم يوص بذلك، والحى غير معدوم النية، ولا يجوز أن تنوب نية غيره عنه، وإلى هذه المسألة رد ابن القاسم مسألة الظهار، ولم يصب وجه القياس على قول مالك. وقد قال أشهب وابن المواز: لا تجوز الكفارة بغير نية. وليس قول مالك والكوفيين فيمن وقف بعرفة بغير نية مغمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 عليه أنه يجزئه مما يعترض به فى هذا الباب، لأن من وقف بعرفة مغمى عليه فهو كمن أغمى عليه بعد الفجر فى يوم الصيام والإغماء: مرض، والمرض لا يبطل الصوم إلا أن يفطر فيه، وليس فى الإغماء أكثر من عدم العلم بالصوم، وعدم العلم به بعد الدخول فيه لا يبطله دليله النوم والنسيان فهو باق على حكم صيامه، وكذلك من أحرم وهو صحيح فحدث له الإغماء فهو باق على حكم إحرامه. وقال أبو محمد الأصيلى: النية والقصد عند الإحرام تجزئ كالإحرام للصلاة، فإذا أحرم بنية وقصد فإن غيرت النية تعد مع سائر الامتثال أجزأت الصلاة، وكذلك الوقوف بعرفة، ولا يعترض بالصغيرة تجب عليها العدة، وهى غير مخاطبة بالعبادة، لأنها قد تصح منها النية والقصد إلى القربة، وإن لم تكن مكلفة فوليها مكلف فى حملها عليها، ألا ترى أن المرأة التى حجت بالصبى الصغير، قالت: تمت ألهذا حج يا رسول الله؟ قال: نعم، ولك أجر - يعنى فى إحجاج الصبى. وكذلك من أوجب الزكاة فى مال الصغير، جعل الزكاة طهرة للمال وحقا فيه، وجعل ولى الصغير مخاطبًا فيه بدليل قوله: تمت ولك أجر -. قال الطبرى فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت الأعمال بالنيات -: فى هذا بيان من الرسول عن أعمال العباد التى يستوجبون عليها من ربهم الثواب والعقاب، وما منها لله تعالى وما منها لغير الله، وإنما يقترف ذلك عند ابتدائه، وفى أول دخوله فيه، فإذا كان ابتداؤها لله لم يضره ما عرض بعد ذلك فى نفسه وخطر بقلبه من حديث النفس ووسواس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الشيطان، ولا يزيله عن حكمه إعجاب المرء باطلاع العباد عليه بعد مضيه فيه ولا سروره بذلك، وهذا قول عامة السلف. قال الحسن البصرى: ما عمل آدمى قط عملا إلا سار فى القلب منه سورتان، فإذا كانت الأولى منهما لله لم تهده الأخرى، وإنما المكروه أن يبتدأه بالنية المكروه ابتداؤه بها أو بعمله غير خالص لله، فذلك الذى يستحق عامله عليه العقاب من ربه، وبنحو ذلك قال السلف. وروى الأعمش، عن خيثمة، عن الحارث بن قيس، قال: إذا كنت تصلى فأتاك الشيطان، فقال: إنك ترائى، فزدها طولا. وروى عن الحسن، أن رجلا كان حسن الصوت بالقرآن فقال له: يا أبا سعيد، إنى أقوم الليل فيأتينى الشيطان إذا رفعت صوتى فيقول: إنما تريد الناس، فقال الحسن: لك نيتك إذا قمت من فراشك. وروى أبو داود الطيالسى، قال: حدثنى سعيد بن سنان، عن حبيب بن أبى ثابت، عن أبى صالح، عن أبى هريرة، أن رجلاً قال: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل يسره، فإذا اطلع عليه أعجبه؟ فقال (صلى الله عليه وسلم) : تمت لك أجران، أجر السر، وأجر العلانية -. وقد قسم الطبرى هذه المسألة فى موضع آخر على قسمين، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ما كان من الأعمال التى يبتدأ بها لوجه الله، تعالى، لها اتصال كصلاة التطوع التى أقلها ركعة، وكالحج الذى إذا أحرم به فى وقته لم يحل منه إلا وقت طلوع الفجر من يوم النحر برمى الجمرة، والعمرة التى لا يحل منها إلا بالطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة، وشبه ذلك من الأعمال التى لها اتصال بابتداء وانقضاء، فلا تفسد بالعارض فيها من الوسواس من الرياء، وكان عمله على ما ابتدأ من النية، كما أنه لو حدث نفسه بالخروج منها، ولم يفعل فعلا يخرج به منه، لم يكن خارجًا منه، وما كان من الأعمال لا اتصال لها بأول متطاول كالصدقة على المساكين، وتلاوة القرآن، وذكر الله، والتسبيح، وشبهه مما لا تطاول له باتصال، فإن عليه مع كل فعل يفعله من ذلك إحداث نية مجددة، وإرادة منه بها وجه الله غير النية التى سبقت منه للتى قبلها، لأن كل فعلة من ذلك غير التى قبلها والتى بعدها، ولن تفسد الثانية إذا كانت صحيحة بفساد التى قبلها، ولم تصح فهى فاسدة بصحة ما قبلها، والصلاة تفسد الركعة منها بفساد الركعة الأخرى، وتصح بصحتها، ويصح السجود فيها بصحة الركوع، ويفسد بفساده فى بعض الأحوال، وكذلك سائو الأعمال التى لها ابتداء وانقضاء ولها تطاول باتصال. 37 - باب قَوْلِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : - الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ - وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة 91] / 47 - فيه: جَرِيرِ، قَالَ: تمت بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى إِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 / 48 - فيه: أن جَرِيرًا قَامَ يَوْمَ مَاتَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: تمت عَلَيْكُمْ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ، حَتَّى يَأْتِيَكُمْ أَمِيرٌ، فَإِنَّمَا يَأْتِيكُمُ الآنَ، ثُمَّ قَالَ: اسْتَعْفُوا لأمِيرِكُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْعَفْوَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَتَيْتُ الرسول فقلت: أُبَايِعُكَ عَلَى الإسْلامِ، فَشَرَطَ عَلَىَّ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، فَبَايَعْتُهُ عَلَى هَذَا، وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ إِنِّى لَنَاصِحٌ لَكُمْ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَنَزَلَ -. معنى هذا الباب: أن النصيحة تسمى دينًا وإسلامًا، وأن الدين يقع على العمل كما يقع على القول ألا ترى أن رسول الله بايع جريرًا على النصح، كما بايعه على الصلاة والزكاة، سوى بينهما فى البيعة؟ . وقد جاء عن الرسول أنه سمى النصيحة دينًا على لفظ الترجمة. رواه ابن عيينة، عن سهيل بن أبى صالح، عن عطاء بن يزيد الليثى، عن تميم الدارى، قال: قال رسول الله: تمت الدين النصيحة - قالها ثلاثًا. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: تمت لله، عز وجل، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم -. رواه ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبى صالح، عن أبى هريرة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . والنصيحة فرض يجزئ فيه من قام به، ويسقط عن الباقين، والنصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه ويطاع أمره، وأمن على نفسه المكروه. وأما إن خشى الأذى فهو فى سعة منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 قال أبو بكر الآجرى: ولا يكون ناصحًا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم إلا من بدأ بالنصيحة لنفسه، واجتهد فى طلب العلم والفقه، ليعرف به ما يجب عليه، ويعلم عداوة الشيطان له وكيف الحذر منه، ويعلم قبيح ما تميل إليه النفس حتى يخالفها بعلم. وروى الثورى عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبى ثمامة، وكان يقرأ الكتب، قال: قال الحواريون لعيسى ابن مريم: من الناصح لله تعالى؟ قال: الذى يبدأ بحق الله قبل حق الناس، فإذا عرض له أمران، أمر دنيا وآخرة، بدأ بعمل الآخرة، فإذا فرغ من أمر الآخرة تفرغ لأمر الدنيا. وقال الحسن البصرى: ما زال لله ناس ينصحون لله فى عباده، وينصحون لعباد الله فى حق الله عليهم، ويعملون له فى الأرض بالنصيحة، أولئك خلفاء الله فى الأرض. وقال الآجرى: والنصيحة لرسول الله على وجهين: فنصيحة من صَاحَبَهُ وشاهده، ونصيحة من لم يره. فأما صحابته، فإن الله شرط عليهم أن يعزروه ويوقروه وينصروه، ويعادوا فيه القريب والبعيد، وأن يسمعوا له ويطيعوا، وينصحوا كل مسلم، فَوَفُّوا بذلك وأثنى الله عليهم به. وأما نصيحة من لم يره: فأن يحفظوا سُنَّته على أمته وينقلوها ويعلموا الناس شريعته ودينه ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر، فإذا فعلوا ذلك فهم ورثة الأنبياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وأما النصيحة لأئمة المسلمين: فهى على قدر الجاه والمنزلة عندهم، فإذا أمن من ضرهم فعليه أن ينصحهم، فإذا خشى على نفسه فحسبه أن يغير بقلبه، وإن علم أنه لا يقدر على نصحهم فلا يدخل عليهم، فإنه يغشهم ويزيدهم فتنة ويذهب دينه معهم. وقد قال الفضيل بن عياض: ربما دخل العالم على الملك ومعه شىء من دينه فيخرج وليس معه شىء، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: يصدقه فى كذبه، ويمدحه فى وجهه. وقد روى الثورى، عن أبى حصين، عن الشعبى، عن عاصم العدوى، عن كعب بن عجرة، قال: خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: تمت إنه سيكون بعدى أمراء فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس منى، ولست منه، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو منى، وأنا منه، وسيرد علىَّ الحوض -. وأما نصيحة العامة بعضهم لبعض، فواجب على البائع أن ينصح للمشترى فيما يبيعه، وعلى الوكيل والشريك والخازن أن ينصح لأخيه، ولا يحب له إلا ما يحب لنفسه. وروى ابن عجلان عن عون بن عبد الله، قال: كان جرير إذا أقام السلعة بَصَّرهُ عيوبها، ثم خيره، فقال: إن شئت فاشتر، وإن شئت فاترك، فقيل له: إذا فعلت هذا لم ينفذ لك بيع، فقال: إنا بايعنا رسول الله على النصح لكل مسلم. وقال المهلب فى قول جرير: تمت عليكم بالسكينة والوقار - دليل أنه يجب على العَالِم إذا رأى أمرًا يخشى منه الفتنة على الناس، أن يعظهم فى ذلك ويرغبهم فى الألفة وترك الفرقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وقوله: تمت حتى يأتيكم أمير - يعنى ليقوم بأمركم وينظر فى مصالحكم. وقوله: تمت استعفوا لأميركم، فإنه كان يحب العفو - جعل الوسيلة له إلى عفو الله بالدعاء بأغلب خلال الخير عليه، وما كان يحبه فى حياته من العفو عن من أذنب إليه، وكذلك يجزى كل أحدٍ يوم القيامة بأحسن خلقه وعمله فى الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 بسم الله الرحمن الرحيم كِتَاب الْعِلْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة 11] وَقَوْلِهِ: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه 114] . قال المؤلف: جاء فى كثير من الآثار أن درجات العلماء تتلو درجات الأنبياء، ودرجات أصحابهم، والعلماء ورثة الأنبياء، وإنما ورثوا العلم وبينوه للأمة، وذبوا عنه، وحموه من تخريف الجاهلين وانتحال المبطلين. وروى ابن وهب، عن مالك، قال: سمعت زيد بن أسلم يقول فى قوله تعالى: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء) [يوسف: 76] ، قال: بالعلم. وذكر عن الأوزاعى قال: جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: يا أبا عبد الرحمن، أى الأعمال أفضل؟ قال: العلم، ثم سأله أى الأعمال أفضل؟ قال: العلم، قال: أنا أسألك عن أفضل الأعمال، وأنت تقول: العلم؟ قال: ويحك، إن مع العلم بالله ينفعك قليل العمل وكثيره، ومع الجهل بالله لا ينفعك قليل العمل ولا كثيره. وقال ابن عيينة فى قوله تعالى: (وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ) [مريم: 31] ، قال: معلمًا للخير. وفى فضل العلم آثار كثيرة، ومن أحسنها ما حدثنى يونس بن عبد الله، قال: حدثنا أبو عيسى يحيى بن عبد الله، قال: حدثنا سعيد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 فحلون، قال: حدثنا أبو العلاء عبد الأعلى ابن معلى، قال: حدثنا عثمان بن أيوب، قال: حدثنى يحيى بن يحيى، قال: أول ما حدثنى مالك بن أنس حين أتيته طالبًا لما ألهمنى الله إليه فى أول يوم جلست إليه قال لى: اسمك؟ قلت له: أكرمك الله يحيى، وكنت أحدث أصحابى سنًا، فقال لى: يا يحيى، الله الله، عليك بالجدِّ فى هذا الأمر، وسأحدثك فى ذلك بحديث يرغبك فيه، ويرهدك فى غيره، قال: قدم المدينة غلام من أهل الشام بحداثة سنك فكان معنا يجتهد ويطلب حتى نزل به الموت، فلقد رأيت على جنازته شيئًا لم أر مثله على أحد من أهل بلدنا، لا طالب ولا عالم، فرأيت جميع العلماء يزدحمون على نعشه، فلما رأى ذلك الأمير أمسك عن الصلاة عليه، وقال: قدموا منكم من أحببتم، فقدم أهل العلم ربيعة، ثم نهض به إلى قبره، قال مالك: فألحده فى قبره ربيعة، وزيد بن أسلم، ويحيى بن سعيد، وابن شهاب، وأقرب الناس إليهم محمد بن المنذر، وصفون بن سليم، وأبو حازم وأشباههم وبنى اللَّبِن على لحده ربيعة، وهؤلاء كلهم يناولوه اللَّبِن، قال مالك: فلما كان اليوم الثالث من يوم دفنه رآه رجل من خيار أهل بلدنا فى أحسن صورة غلام أمرد، وعليه بياض، متعمم بعمامة خضراء، وتحته فرس أشهب نازل من السماء فكأنه كان يأتيه قاصدًا ويسلم عليه، ويقول: هذا بَلَّغنى إليه العلم، فقال له الرجل: وما الذى بلغك إليه؟ فقال: أعطانى الله بكل باب تعلمته من العلم درجة فى الجنة، فلم تبلغ بى الدرجات إلى درجة أهل العلم، فقال الله تعالى: زيدوا ورثة أنبيائى، فقد ضمنت على نفسى أنه من مات وهو عالم سنتى، أو سنة أنبيائى، أو طالب لذلك أن أجمعهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 فى درجة واحدة فأعطانى ربى حتى بلغت إلى درجة أهل العلم، وليس بينى وبين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا درجتان، درجة هو فيها جالس وحوله النبيون كلهم، ودرجة فيها جميع أصحابه، وجميع أصحاب النبيين الذين اتبعوهم، ودرجة من بعدهم فيها جميع أهل العلم وطلبته، فسيرنى حتى استوسطتهم فقالوا لى: مرحبًا، مرحبًا، سوى ما لى عند الله من المزيد، فقال له الرجل: ومالك عند الله من المزيد؟ فقال: وعدنى أن يحشر النبيين كلهم كما رأيتهم فى زمرة واحدة، فيقول: يا معشر العلماء، هذه جنتى قد أبحتها لكم، وهذا رضوانى قد رضيت عنكم، فلا تدخلوا الجنة حتى تتمنوا وتشفعوا، فأعطيكم ما شئتم، وأشفعكم فيمن استشفعتم له، ليرى عبادى كرامتكم علىَّ، ومنزلتكم عندى. فلما أصبح الرجل حدث أهل العلم، وانتشر خبره بالمدينة، قال مالك: كان بالمدينة أقوام بدءوا معنا فى طلب هذا الأمر ثم كفوا عنه حتى سمعوا هذا الحديث، فلقد رجعوا إليه، وأخذوا بالحزم، وهم اليوم من علماء بلدنا، الله الله يا يحيى جد فى هذا الأمر. قال المؤلف: غير أن فضل العلم إنما هو لمن عمل به، ونوى بطلبه وجه الله تعالى. ذكر مالك أن عبد الله بن سلام قال لكعب: مَن أرباب العلم؟ قال: هم أهله الذين يعملون بعلمهم، قال: صدقت، قال: فما ينفى العلم من صدور العلماء بعد إذ علموه؟ قال: الطمع. وعن ابن عيينة عمن حدثه، عن عبد الله بن المسور، قال: جاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 رجل إلى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: أتيتك لتعلمنى من غرائب العلم، فقال له النبى، (صلى الله عليه وسلم) : تمت ما صنعت فى رأس العلم؟ - قال: وما رأس العلم؟ قال: تمت هل عرفت الرب؟ - قال: نعم، قال: تمت فما صنعت فى حقه؟ - قال: ما شاء الله، قال: تمت هل عرفت الموت؟ - قال: نعم، قال: تمت فما أعددت له؟ - قال: ما شاء الله، قال: تمت فاذهب فأحكم ما هناك، ثم تعال أعلمك من غرائب العلم -. وعن الحسن البصرى، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت العلم علمان: علم على اللسان، فتلك حجة الله على ابن آدم، وعلم فى القلب فذلك العلم النافع -. وذكر ابن وهب، عن أبى الدرداء أنه كان يقول: لست أخاف أن يقال لى: يا عويمر، ماذا علمت؟ ولكن أخاف أن يقال لى: يا عويمر، ماذا عملت فيما علمت؟ ولم يؤت الله أحدًا علمًا فى الدنيا إلا سأله يوم القيامة. ومن تعلم الحديث ليصرف به وجوه الرجال إليه، صرف الله وجهه يوم القيامة إلى النار. وقال مسروق: بحسب المرء من العلم أن يخشى الله، وبحسبه من الجهل ألا يخشى الله. وقوله تعالى:: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِى عِلْمًا) [طه 114] ، قال قتادة: إن الشيطان لم يدع أحدكم حتى يأتيه من كل وجه، حتى يأتيه من باب العلم، فيقول: ما تصنع بطلب العلم؟ ليتك تعمل بما قد سمعت، ولو كان أحد مكتفيًا لاكتفى موسى، (صلى الله عليه وسلم) ، حيث يقول: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) [الكهف: 66] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وذكر الطبرانى عن ابن عباس: تمت أن موسى سأل ربه، فقال: أى رب، أى عبادك أعلم؟ قال: الذى يبتغى علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تقربه إلى هدى أو ترده عن ردى -. - باب مَنْ سُئِلَ عِلْمًا وَهُوَ مُشْتَغِلٌ فِي حَدِيثِهِ، فَأَتَمَّ الْحَدِيثَ، ثُمَّ أَجَابَ السَّائِلَ / 1 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ، جَاءَهُ أَعْرَابِىٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ، فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ، قَالَ: تمت أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟ - قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: تمت فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأمَانَةُ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ -، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 قَالَ: تمت إِذَا وُسِّدَ الأمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ -. قال المهلب: فيه: أن من أدب المتعلم ألا يسأل العالم ما دام مشتغلا بحديث أو غيره، لأن من حق القوم الذين بدأ بحديثهم ألا يقطعه عنهم حتى يتمه. وفيه: الرفق بالمتعلم، وإن جفا فى سؤاله أو جهل، لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يوبخه على سؤاله قبل كمال حديثه. وفيه: وجوب تعليم السائل والمتعلم، لقوله النبى (صلى الله عليه وسلم) : تمت أين السائل؟ - ثم أخبره عن الذى سأله عنه. وفيه: مراجعة العالم إذا لم يفهم السائل، لقوله: كيف إضاعتها؟ . وفيه: جواز استماع العالم فى الجواب وأن ينتقى منه إذا كان ذلك لمعنى. وقوله: تمت إذا وسد الأمر إلى غير أهله - معناه أن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده، وفرض عليهم النصيحة لهم، لقوله، (صلى الله عليه وسلم) : تمت كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته -، فينبغى لهم تولية أهل الدين والأمانة للنظر فى أمر الأمة، فإذا قلدوا غير أهل الدين، واستعملوا من يعينهم على الجور والظلم فقد ضيعوا الأمانة التى فرض الله عليهم. وقد جاء عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه قال: تمت لا تقوم الساعة حتى يؤتمن الخائن ويستخون الأمين، وهذا إنما يكون إذا غلب الجهل، وضعف أهل الحق عن القيام به ونصرته -. 3 - باب مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْعِلْمِ / 2 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا الرَسُولُ (صلى الله عليه وسلم) فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلاةُ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: تمت وَيْلٌ لِلأعْقَابِ مِنَ النَّارِ -. مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا. وهذا حجة فى جواز رفع الصوت فى المناظرة فى العلم وذكر ابن عيينة قال: مررت بأبى حنيفة وهو مع أصحابه، وقد ارتفعت أصواتهم بالعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وقال ابن السكيت: أرهقتنا الصلاة: استأخرنا عنها حتى دنا وقت الأخرى، وأرهقنا الليل: دنا منا، وأرهقنا القوم: لحقونا. وقال المؤلف: إنما ترك أصحاب الرسول (صلى الله عليه وسلم) الصلاة فى الوقت الفاضل، والله أعلم، لأنهم كانوا على طمع من أن يأتى الرسول ليصلوا معه، لفضل الصلاة معه، فلما ضاق عليهم الوقت وخشوا فواته توضئوا مستعجلين، ولم يبالغوا فى وضوئهم فأدركهم (صلى الله عليه وسلم) وهم على ذلك فزجرهم، وأنكر عليهم نقصهم للوضوء بقوله: تمت ويل للأعقاب من النار -. ففيه من الفقه: أن للعالم أن ينكر ما رآه من التضييع للفرائض والسنن، وأن يغلظ القول فى ذلك، ويرفع صوته بالإنكار. وفيه: تكرار المسألة توكيدًا لها ومبالغة فى وجوبها. 4 - باب قَوْلِ الْمُحَدِّثِ: حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا وَقَال الْحُمَيْدِىُّ: كَانَ عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا وَسَمِعْتُ وَاحِدًا. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ. وَقَالَ أيضًا: سَمِعْتُ من النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَلِمَةً. وَقَالَ حُذَيْفَةُ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ حَدِيثَيْنِ. وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وَقَالَ أَنَسٌ وأَبُو هُرَيْرَةَ مثله. / 3 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ، (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، فَحَدِّثُونِى مَا هِىَ؟ . . . - وذكر الحديث. اختلف العلماء فى هذا الباب، فروى ابن وهب عن مالك أن حدثنا وأخبرنا سواء، وهو قول الكوفيين، وذهبت طائفة إلى الفرق بينهما، وقالوا: حدثنا لا يكون إلا مشافهة، وأخبرنا قد يكون مشافهةً وكتابًا وتبليغًا، لأنك تقول: أخبرنا الله بكذا فى كتابه، وأخبرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ولا تقول: حدثنا إلا أن يشافهك المخبر بذلك. فقال الطحاوى: فنظرنا فى ذلك فلم نجد بين الخبر، والحديث فرقًا فى كتاب الله، ولا سنة رسول الله، (صلى الله عليه وسلم) . فأمَّا كتاب الله وقوله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا) [الزمر: 23] ، وقوله: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) [الزلزلة: 4] فجعل الحديث والخبر واحدًا. وقال تعالى: (نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ) [التوبة: 94] وهى الأشياء التى كانت منهم. وقال تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) [البروج: 17] ،) وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا) [النساء: 42] . قال أبو جعفر الطحاوى: وكأن المراد فى هذا كله، أن الخبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 والحديث واحد، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت حدثونى عن شجرة مثلها مثل المؤمن -، وقال: تمت ألا أخبركم بخير دور الأنصار -، وقال (صلى الله عليه وسلم) : تمت أخبرنى تميم الدارى -، فذكر قصة الدَّجال. 5 - باب طَرْحِ الإمَامِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ / 4 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، حَدِّثُونِى مَا هِىَ -؟ قَالَ: فَوَقَعَ النَّاسُ فِى شَجَرِ الْبَوَادِى، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: فَوَقَعَ فِى نَفْسِى أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هِىَ، قَالَ: تمت هِىَ النَّخْلَةُ -. قال المهلب: معنى طرح المسائل على التلاميذ لترسخ فى القلوب وتثبت، لأن ما جرى منه فى المذاكرة لا يكاد ينسى. وفيه: ضرب الأمثال بالشجر وغيرها، وشبه (صلى الله عليه وسلم) النخلة بالمسلم، كما شبهها الله فى كتابه، وضرب بها المثل للناس، فقال: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَاء (يعنى النخلة التى) تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ) [إبراهيم: 26] ، وكذلك المسلم يأتى الخير كل حين من الصلاة، والصوم، وذكر الله تعالى، فكأن الخير لا ينقطع منه، فهو دائم كما تدوم أوراق النخلة فيها، ثم الثمر الكائن منها فى أوقاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 6 - باب الْقِرَاءَةُ وَالْعَرْضُ عَلَى الْمُحَدِّثِ ، وَرَأَى الْحَسَنُ وَالثَّوْرِىُّ وَمَالِكٌ الْقِرَاءَةَ جَائِزَةً. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِى الْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ بِحَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّىَ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ؟ قَالَ: تمت نَعَمْ -، قَالَ: فَهَذِهِ قِرَاءَةٌ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، أَخْبَرَ ضِمَامٌ قَوْمَهُ بِذَلِكَ فَأَجَازُوهُ. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِالصَّكِّ، يُقْرَأُ عَلَى الْقَوْمِ، فَيَقُولُونَ: أَشْهَدَنَا فُلانٌ، وَيُقْرَأُ عَلَى الْمُقْرِئِ، فَيَقُولُ الْقَارِئُ: أَقْرَأَنِى فُلانٌ. وَقَالَ: سُفْيَانَ وَمَالِكٍ: الْقِرَاءَةُ عَلَى الْعَالِمِ وَقِرَاءَتُهُ سَوَاءٌ. / 5 - فيه: أَنَس، دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِى الْمَسْجِدِ، ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ - وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ - فَقُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الأبْيَضُ الْمُتَّكِئُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا ابْنَ عَبْدِالْمُطَّلِبِ، فَقَالَ لَهُ (صلى الله عليه وسلم) : تمت قَدْ أَجَبْتُكَ -، فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : إِنِّى سَائِلُكَ، فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِى الْمَسْأَلَةِ، فَلا تَجِدْ عَلَىَّ فِى نَفْسِكَ، فَقَالَ: تمت سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ -، فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ، آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ: تمت اللَّهُمَّ نَعَمْ -، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّىَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ: تمت اللَّهُمَّ نَعَمْ -، قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قَالَ: تمت اللَّهُمَّ نَعَمْ -، قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا، فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت اللَّهُمَّ نَعَمْ -، فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِى مِنْ قَوْمِى، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، أَخُو بَنِى سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ. واختلف العلماء فى هذا الباب، فذهب الجمهور إلى أن القراءة على العالم وقراءته سواء فى استباحة الرواية وجوازها، وهو قول مالك والكوفيين، إلا أن مالكًا استحب القراءة على العالم. ذكر الدارقطنى فى كتاب الرواة عن مالك، عن محمد بن المحبر بن على الرعينى، لما قدم هارون الرشيد المدينة، حضر مالك بن أنس، فسأله أن يسمع منه محمد الأمين والمأمون، فبعثوا إلى مالك فلم يحضر، فبعث إليه أمير المؤمنين، فقال: العلم يؤتى أهله ويوقر، فقال: صدق أبو عبد الله سيروا إليه، فساروا إليه هم ومؤدبهم، فسألوه أن يقرأ هو عليهم فأبى، وقال: إن علماء هذا البلد، قالوا: إنما يُقرأ على العالم ويفتيهم مثل ما يُقرأ القرآن على المعلم ويرد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 سمعت ابن شهاب - بحر العلماء - يحكى عن سعيد، وأبى سلمة، وعروة، والقاسم، وسالك أنهم كانوا يقرءون على العلماء. وذكر الدارقطنى عن كادح بن رحمة، قال: قال مالك بن أنس: العرض خير من السماع وأثبت. وقالت طائفة: نقول فى العرض والقراءة على العالم: أخبرنا ولا يجوز أن نقول: حدثنا، إلا فى ما سمعت من لفظ العالم. وذهب قوم فيما قُرئ على العالم فأقرَّ به أن يقول فيه: قرئ على فلان، ولا يقول: حدثنا ولا أخبرنا، ولا وجه لهذين القولين، والقول الأول هو الصحيح، لأن ضمام بن ثعلبة قرأ على النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وأخبر بذلك قومه فأجازوه. وما احتج مالك فى الصَّك يقرأ على القوم فيقولون: أشهدنا حجة قاطعة، لأن الإشهاد أقوى حالات الإخبار، وكذلك القراءة على المقرئ. وفى حديث ضمام: قبول خبر الواحد، لأن قومه لم يقولوا له: لا نقبل خبرك عن النبى (صلى الله عليه وسلم) حتى يأتينا من طريق آخر. وفيه: جواز إدخال البعير فى المسجد، وعقله فيه، وهو دليل على طهارة أبوال الإبل وأرواثها، إذا لا يُؤمن ذلك فى البعير مدة كونه فى المسجد. وفيه: جواز تسمية الأَدْوَن للأعلى دون أن يكنيه، ويناديه بحطة إلا أن ذلك منسوخ فى الرسول لقوله: (لاَ تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا) [النور: 63] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 قال أبو الزناد: وفيه جواز الاتكاء بين الناس فى المجالس. وقال غيره: وقولهم: تمت هذا الأبيض - يجوز أن يُعرَّف الرجل بصفته من البياض والحمرة، والطول والقصر. وقال أبو الزناد: وقوله: تمت إنى سائلك فمشدد عليك -، فيه من الفقه أن يقدم الإنسان بين يدى حديثه مقدمة يعتذر فيها، ليحسن موقع حديثه عند المحدث ويصبر له على ما يأتى منه، وهو من حسن التوصل. قال المهلب: وقوله: تمت أسألك بربك - فيه جواز الاستحلاف على الحق ليحكم باليقين. وقد قال على: ما حدثنى أحد إلا استحلفته، فإذا حلف لى صدقته إلا أبو بكر، وحدثنى أبو بكر، وصدق أبو بكر. وقد جاء فى كتاب الله الحلف على الخبر فى ثلاثة مواضع: قال الله: (وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبِّى إِنَّهُ لَحَقٌّ) [يونس: 53] ، وقال: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ) [سبأ: 3] ، وقال: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ) [التغابن: 7] . قال المؤلف: فوافق هذا الأعرابى مذهب علىِّ فى تصديقه من حلف له على خبره، فكيف وقد كان النبى (صلى الله عليه وسلم) عندهم فى الجاهلية معروفًا بالصدق فى أحاديث الناس، فلم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله كما قال هرقل لأبى سفيان، وجعل ذلك من دلائل نبوته، فلذلك صَدَّقَهُ ضمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 7 - باب مَا يُذْكَرُ فِى الْمُنَاوَلَةِ وَكِتَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعِلْمِ إِلَى الْبُلْدَان وَقَالَ أَنَسُ: نَسَخَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الآفَاقِ. وَرَأَى عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ذَلِكَ جَائِزًا. وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ فِى الْمُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) حَيْثُ كَتَبَ لأمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا، وَقَالَ: تمت لا تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا -. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَكَانَ، قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . / 6 - فيه: ابن عَبَّاس، أَنَّ النّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلاً، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ، فَحَسِبْتُ [أَنَّ] ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ. / 7 - وفيه: أَنَس، كَتَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) كِتَابًا - أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ - فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلا مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ: تمت مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ -. قال المؤلف: فيه أن المناولة تجرى مجرى الرواية، ألا ترى أن أمير السرية ناوله كتابه، وأمر بقراءته على الناس، وجاز له الإخبار بما فيه عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) . وفيه أن الذين قُرئ عليهم الكتاب يجوز أن يرووه عن الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، لأن كتابه إليهم يقوم مقامه، وجائز للرجل أن يقول: حدثنى فلان إذا كتب إليه، والمناولة فى معنى الإجازة، واختلف العلماء فى الإجازة، فأجازها قوم، وكرهها آخرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وذكر ابن أبى خيثمة، عن ابن معين، قال: حدثنا ضمرة، عن عبد الله بن عمر، قال: كنت أرى الزهرى يأتيه الرجل بالكتاب لم يقرأه عليه، ولم يُقرأ عليه، فيقول له: أروى عنك؟ فيقول: نعم. وهذا معناه أنه كان يعرف ثقة صاحبه، ويعرف أنه من حديثه، وإنما كره الإجازة من كرهها، خشية أن يُحدث الذى أجيز له عن العالم بما ليس فى حديثه، أو ينقص من إسناد الحديث أو يزيد فيه. وروى ابن وهب، وابن القاسم، عن مالك أنه سُئل عن الرجل يقول له العالم: هذا كتابى فاحمله عنى، وحدث بما فيه عنى، قال: لا أرى هذا يجوز، ولا يعجبنى، لأن هؤلاء إنما يريدون الحمل الكثير بالإقامة اليسيرة، فلا يعجبنى ذلك. وفى حديث ابن عباس: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) بعث بكتابه رجلاً، ففقْهُ ذلك: أن الرجل الواحد يجزئ حمله لكتاب الحاكم إلى حاكم آخر إذا لم يشك الحاكم فى الكتاب ولا أنكره، كما لم ينكر كسرى كتاب النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ولا شك فيه، وليس من شرط ذلك أن يحمله شاهدان كما يصنع اليوم القضاة والحكام، وإنما حمل الحكام على شاهدين فى ذلك لما دخل الناس من الفساد، واستعمال الخطوط، ونقوش الخواتم، فاحتيط لتحصين الدماء والأموال بشاهدين. وسيأتى زيادة على هذا المعنى فى باب الشهادة على الخط، وكتاب الحاكم إلى عامله، وكتاب القاضى إلى القاضى فى كتاب الأحكام، إن شاء الله. وفى حديث ابن عباس: بركة دعوة الرسول، لأنه استجيب فى كسرى وطائفته، فمزقوا كل ممزق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وفى حديث أنس: أن ختم كتب السلطان والقضاة والحكام، سُنَّة متبعة، وإنما كانوا لا يقرءون كتابًا إلا مختومًا خوفًا على كشف أسرارهم، وإذاعة تدبيرهم، فصار الختم للكتاب سُنَّة بفعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) . وقيل فى قوله: (إِنِّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ) [النمل: 29] إنه كان مختومًا. 8 - باب مَنْ قَعَدَ حَيْثُ يَنْتَهِى بِهِ الْمَجْلِسُ وَمَنْ رَأَى فُرْجَةً فِى الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا / 8 - فيه: أَبُو وَاقِد اللَّيْثِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِى الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ، إِذْ أَقْبَلَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَذَهَبَ وَاحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِى الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت أَلا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ، فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا، فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ -. قال المهلب: فيه من الفقه: أن من جلس إلى حلقة فيها علم - أو ذكر - أنه فى كنف الله وفى إيوائه، وهو ممن تضع له الملائكة أجنحتها، وكذلك يجب على العالم أن يُؤوى من جلس إليه متعلمًا لقوله: تمت فآواه الله -. وفيه من الفقه أن من قصد العلم، ومجالسه، فاستحيا ممن قصده، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 ولم يمنعه الحياء من التعلم، ومجالسة العلماء، أن الله يستحى منه فلا يعذبه جزاء استحيائه. وقد قالت عائشة: تمت نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء من التفقه فى الدين -، فالحياء المذموم فى العلم هو الذى يبعث على ترك التعلم. وفيه أيضًا أن من قصد العلم ومجالسه، ثم أعرض عنها، فإن الله يعرض عنه، ومن أعرض الله عنه فقد تعرض لسخطه، ألا ترى قوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِىَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا) [الأعراف: 175] ، وهذا انسلخ من إيواء الله بإعراضه عنه. 9 - باب قَوْلِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ - / 9 - فيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَعَدَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى بَعِيرِهِ، وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ - أَوْ بِزِمَامِهِ - قَالَ: تمت أَىُّ يَوْمٍ هَذَا -؟ فَسَكَتْنَا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيَرِ اسْمِهِ، قَالَ: تمت أَلَيْسَ بَيَوْمَ النَّحْرِ -؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: تمت فَأَىُّ شَهْرٍ هَذَا -؟ فَسَكَتْنَا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: تمت أَلَيْسَ بِذِى الْحِجَّةِ -؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: تمت فَأَىُّ بَلد هَذَا -؟ فَسَكَتْنَا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: تمت أَلَيْسَ البلدة -؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: تمت فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا، لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 قال المهلب: فيه من الفقه: أن العالم واجب عليه تبليغ العلم لمن لم يبلغه، وتبيينه لمن لا يفهمه، وهو الميثاق الذى أخذه الله، عزَّ وجلَّ، على العلماء ليُبيننَّهُ للناس ولا يكتمونه. قال المؤلف: وسيأتى بعض شرح هذا المعنى فى باب قوله: ليبلغ الشاهد الغائب بعد هذا، إن شاء الله. قال المهلب: وفيه أنه قد يأتى فى آخر الزمان من يكون له من الفهم فى العلم ما ليس لمن تقدمه، إلا أن ذلك يكون فى الأقل، لأن تمت رُبّ - موضوعة للتقليل، وتمت عسى - موضوعة للطمع، وتمت ليست - لتحقيق الشىء. وفيه: أن حامل الحديث والعلم يجوز أن يُؤخذ عنه وإن كان جاهلاً معناه، وهو مأجور فى تبليغه، محسوب فى زمرة أهل العلم، إن شاء الله. وقال أبو الزناد: وفيه جواز القعود على ظهور الدواب، إذا احتيج إلى ذلك، ولم يكن لأَشَرٍ، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا تتخذوا ظهور الدواب مجالس -، وإنما خطب على البعير ليُسمع الناس، وإنما أمسك إنسان بخطامه ليتفرغ للحديث، ولا يشتغل بإمساك البعير. قال المهلب: وفيه أن ما كان حرامًا، فيجب على العالم أن يؤكد حرمته، ويغلظ فى التحظير عليه بأبلغ ما يجد، بالمعنى، والمعنيين، والثلاثة، كما فعل (صلى الله عليه وسلم) فى قوله: تمت كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 - باب الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِقَوْلِ اللَّهِ: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ) [محمد: 19] فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ، وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَالَ: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28] وَقَالَ: (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ) [العنكبوت: 43] ) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك: 10] وَقَالَ: (هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر: 9] . وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ -، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ. وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَوْ وَضَعْتُمُ الصَّمْصَامَةَ عَلَى هَذِهِ - وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ - ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّى أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا عَلَىَّ لأنْفَذْتُهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) [آل عمران: 79] حُلَمَاءَ فُقَهَاءَ. وَيُقَالُ: الرَّبَّانِىُّ الَّذِى يُرَبِّى النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ. قال المهلب: العمل لا يكون إلا مقصودًا لله معنًى متقدمًا، وذلك المعنى هو علم ما وعد الله عليه من الثواب وإخلاص العمل لله تعالى، فحينئذٍ يكون العمل مرجوَّ النفع إذ تقدمه العلم، ومتى خلا العمل من النية، ورجاء الثواب عليه، وإخلاص العمل لله تعالى، فليس بعمل، وإنما هو كفعل المجنون الذى رُفِعَ عنه القلم. وقد بيَّن ذلك (صلى الله عليه وسلم) ، بقوله: تمت الأعمال بالنيات -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 قال: وإنما سمى العلماء ورثة الأنبياء، لقوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا) [فاطر: 32] . قال أبو الزناد: وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت أتيت بقدح لبن فشربت، ثم أَعْطَيْتُ فضلى عمر بن الخطاب -، قالوا: فما أوَّلته يا رسول الله؟ قال: تمت العلم -. وقول أبى ذر: تمت لو وضعتم الصمصامة على هذه، ثم ظننت أنى أنفذُ كلمةً سمعتها من النبى (صلى الله عليه وسلم) - فإنه يعنى ما سمع من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الفرائض، والسنن، وما ينتفع الناس به فى دينهم مما أخذ الله به الميثاق على العلماء ليُبيننه للناس ولا يكتمونه، وإنما أراد أبو ذرٍ بقوله هذا الحضَّ على العلم والاغتباط بفضله، حين سهل عليه قتل نفسه فى جنب ما يرجو من ثواب نشره وتبليغه. ففى هذا من الفقه أنه يجوز للعالم أن يأخذ فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بالشدة، والعزيمة مع الناس، ويحتسب ما يصيبه فى ذلك على الله تعالى، ومباح له أن يأخذ بالرخصة فى ذلك، ويسكت إذا لم يطق على حمل الأذى فى الله، كما قال أبو هريرة: لو حدثتكم بكل ما سمعت من رسول الله لَقُطِعَ هذا البلعوم. وقال صاحب العين: تمت الربانى - نسبة إلى معرفة الربوبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 - باب مَا كَانَ (صلى الله عليه وسلم) يَتَخَوَّلُهُمْ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْعِلْمِ كَىْ لا يَنْفِرُوا / 10 - فيه: ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: تمت كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِى الأيَّامِ كَرَاهَيَة السَّآمَةِ عَلَيْنَا -. / 11 - وفيه: أَنَسِ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا -. - باب مَنْ جَعَلَ لأهْلِ الْعِلْمِ أَيَّامًا مَعْلُومَةً / 12 - فيه: أَبُو وَائِلٍ، قَالَ: كَانَ عَبْدُاللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِى كُلِّ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، لَوَدَدْنَا أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا فِى كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِى مِنْ ذَلِكَ أَنِّى أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّى أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ، كَمَا كَانَ (صلى الله عليه وسلم) يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا. قال ابن السكيت: معنى قوله: تمت يتخولنا بالموعظة - أى يصلحنا ويقوم علينا بها، ومنه قول العرب: إنه لخال مال، وخائل مال، وقد خال المال يخوله: أحسن القيام عليه. قال أبو الزناد: أراد (صلى الله عليه وسلم) الرفق بأمته ليأخذوا الأعمال بنشاط وحرص عليها، وقد وصفه الله بهذه الصفة، فقال: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 ومثل هذا الحديث: أمره (صلى الله عليه وسلم) أن لا يصلى أحد وهو ضام بين وركيه، وقوله: تمت ابدءوا بالعَشاء قبل الصلاة -، لئلا يشتغل عن الإقبال على الصلاة، وإخلاص النية فيها. وفى حديث عبد الله: ما كان عليه الصحابة من الاقتداء بالنبى (صلى الله عليه وسلم) والمحافظة على استعمال سُننه على حسب معاينتهم لها منه، وتجنب مخالفته لعلمهم بما فى موافقته من عظيم الأجر، وما فى مخالفته من شديد الوعيد والزجر. - باب مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ / 13 - فيه: مُعَاوِيَةَ، سَمِعْتُ الرسول يَقُولُ: تمت مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِى، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ -. فيه فضل العلماء على سائر الناس. وفيه فضل الفقه فى الدين على سائر العلوم، وإنما ثبت فضله، لأنه يقود إلى خشية الله، والتزام طاعته، وتجنب معاصيه، قال الله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28] وقال ابن عمر - للذى قال له: فقيه -: إنما الفقيه الزاهد فى الدنيا، الراغب فى الآخرة. ولمعرفة العلماء بما وعد الله به الطائعين، وأوعد العاصين، ولعظيم نعم الله على عباده اشتدت خشيتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وقوله: تمت إنما أنا قاسم - يدل على أنه لم يستأثر من مال الله دونهم، وكذلك قوله: تمت مالى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم -، وإنما قال: تمت إنما أنا قاسم -، تطييبًا لنفوسهم، لمفاضلته فى العطاء. وقوله: تمت والله يعطى -، أى والله يعطيكم ما أقسمه عليكم لا أنا، فمن قسمت له قليلاً فذلك بقدر الله له، ومن قسمت له كثيرًا بقدرٍ أيضًا، وبما سبق له فى أمِّ الكتاب، فلا يزاد أحدٌ فى رزقه، كما لا يزاد أحدٌ فى أجله. وقوله: تمت ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله -، يريد أن أمته آخر الأمم، وأن عليها تقوم الساعة، وإن ظهرت أشراطها، وضعف الدين، فلابد أن يبقى من أمته من يقوم به، والدليل على ذلك قوله: تمت لا يضرهم من خالفهم -، وفيه أن الإسلام لا يذل، وإن كثر مطالبوه. فإن قيل: فقد روى عبد الرزاق، عن معمر، عن ثابت، عن أنس، عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: تمت لا تقوم الساعة حتى لا يقول أحد الله الله -، وروى ابن مسعود، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت لا تقوم الساعة إلا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 شرار الناس -، رواه شعبة، عن على بن الأقمر، عن أبى الأحوص، عن عبد الله، وهذه معارضة لحديث معاوية. قال الطبرى: ولا معارضة بينهما بحمد الله، بل يحقق بعضها بعضًا، وذلك أن هذه الأحاديث خرج لفظها على العموم، والمراد منها الخصوص، ومعناه لا تقوم الساعة على أحدٍ يُوحد الله إلا بموضع كذا، فإن به طائفة على الحق، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس بموضع كذا، لأن حديث معاوية ثابت، ولا يجوز أن تكون الطائفة القائمة بالحق التى توحد الله التى هى شرار الناس. فثبت أن الموصوفين بأنهم شرار الناس غير الموصوفين بأنهم على الحق مقيمون. وقد جاء ذلك بَيِّنًا فى حديث أبى أمامة الباهلى، وحديث عمران بن حصين، قال الطبرى: حدثنا محمد بن الفرج، حدثنا ضمرة بن ربيعة، حدثنا يحيى بن أبى عمرو الشيبانى، عن عمرو بن عبد الله الحمصى، عن أبى أمامة الباهلى، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم -، قيل: فأين هى يا رسول الله؟ قال: تمت ببيت المقدس، أو أكناف بيت المقدس -. وروى قتادة عن مطرف بن الشخير، عن عمران بن حصين، عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت لا تزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم الدجال -. قال مطرف: وكانوا يرون أنهم أهل الشام. - باب الْفَهْمِ فِى الْعِلْمِ / 14 - فيه: مُجَاهِدٍ، قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمْ أَسْمَعْهُ يُحَدِّثُ عَنْ النِّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِلا حَدِيثًا وَاحِدًا: كُنَّا عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَأُتِىَ بِجُمَّارٍ، فَقَالَ: تمت إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُسْلِمِ -، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِىَ النَّخْلَةُ، فَإِذَا أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَسَكَتُّ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت هِىَ النَّخْلَةُ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 قال المؤلف: التفهم للعلم هو التفقه فيه، ولا يتم العلم إلا بالفهم، وكذلك قال على: والله ما عندنا إلا كتاب الله، أو فهم أُعطيه رجل مؤمن. فجعل الفهم درجة أخرى بعد حفظ كتاب الله، لأن بالفهم له تبين معانيه وأحكامه. وقد نفى (صلى الله عليه وسلم) العلم عمن لا فهم له بقوله: تمت رب حامل فقهٍ لا فقه له -. وقال مالك: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما هو نور يضعه الله فى القلوب، يعنى بذلك فهم معانيه واستنباطه. فمن أراد التفهم فليحضر خاطره، وبفرغ ذهنه، وينظر إلى نشاط الكلام، ومخرج الخطاب، ويتدبر اتصاله بما قبله، وانفصاله منه، ثم يسأل ربه أن يلهمه إلى إصابة المعنى، ولا يتم ذلك إلا لمن علم كلام العرب، ووقف على أغراضها فى تخاطبها وأُيِّدَ بِجَوْدَةِ قريحة، وثاقب ذهن، ألا ترى أن عبد الله بن عمر فهم من نشاط الحديث فى نفس القصة أن الشجرة هى النخلة، لسؤاله (صلى الله عليه وسلم) لهم عنها حين أُتى بالجمار، وقوى ذلك عنده بقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ) [إبراهيم: 24] . وقال العلماء: هى النخلة، شبهها الله بالمؤمن. وقول مجاهد: تمت إنه صحب ابن عمر إلى المدينة، فلم يحدّث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 إلا حديثًا واحدًا -، فذلك، والله أعلم، لأنه كان متوقِّيًا للحديث عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وقد كان عَلِمَ قول أبيه، رضى الله عنهما: أَقِلُّو الحديث عن رسول الله، وأنا شريككم. - باب الاغْتِبَاطِ فِى الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَقَالَ عُمَرُ، رضِى اللَّه عنه: تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا / 15 - فيه: ابن مَسْعُودٍ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا حَسَدَ إِلا فِى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِى الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ، فَهُوَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا -. قال المفسر: هذا الحسد الذى أباحه (صلى الله عليه وسلم) ليس من جنس الحسد المذموم، وقد بين (صلى الله عليه وسلم) ذلك فى بعض طرق هذا الحديث، فقال فيه: تمت فرآه رجل - يعنى ينفق المال ويتلو الحكمة، فيقول: ليتنى أوتيت مثل ما أوتى ففعلت مثل ما يفعل، فلم يتمنَّ أن يسلب صاحب المال ماله، أو صاحب الحكمة حكمته، وإنما تمنى أن يصير فى مثل حاله، من تفعّل الخير، وتمنى الخير والصلاح جائز وقد تمنى ذلك الصالحون والأخيار، ولهذا المعنى ترجم البخارى لهذا الباب باب الاغتباط فى العلم والحكمة، لأن من أوتى مثل هذه الحال فينبغى أن يغتبط بها وينافس فيها. وفيه من الفقه أن الغنى إذا قام بشروط المال، وفعل فيه ما يرضى الله، فهو أفضل من الفقير الذى لا يقدر على مثل حاله. وقول عمر: تمت تفقهوا قبل أن تسودوا -، فإن من سوده الناس يستحيى أن يقعد مقعد المتعلم خوفًا على رئاسته عند العامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وقال مالك: كان الرجل إذا قام من مجلس ربيعة إلى خطبة أو حكم، لم يرجع إليه بعدها. وقال يحيى بن معين: من عاجل الرئاسة فاته علم كثير. - بَاب مَا ذُكِرَ فِى ذَهَابِ مُوسَى (صلى الله عليه وسلم) فِى الْبَحْرِ إِلَى الْخَضِرِ وَقَوْلِهِ: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) [الكهف: 66] / 16 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِىُّ فِى صَاحِبِ مُوسَى، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ خَضِرٌ، فَمَرَّ بِهِمَا أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: إِنِّى تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِى هَذَا فِى صَاحِبِ مُوسَى الَّذِى سَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، هَلْ سَمِعْتَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَذْكُرُ شَأْنَهُ يَقُولُ: تمت بَيْنَمَا مُوسَى فِى مَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى: لا، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى: بَلَى، عَبْدُنَا خَضِرٌ. فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ لَهُ: إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ، فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ -. وذكر الحديث. فيه: من الفقه السفر والرحلة فى طلب العلم فى البرِّ والبحر. وقد ترجم له بذلك، وزاد فيه: تمت أن جابر بن عبد الله رَحَلَ مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس فى حديث واحد، يعنى حديث الستر على المسلم -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وفيه: جواز التمارى فى العلم إذا كان كل واحدٍ يطلب الحقيقة ولم يكن متعنتًا. وفيه: الرجوع إلى قول أهل العلم عند التنازع. وفيه: أنه يجب على العالم الرغبة فى التزيد من العلم، والحرص عليه، ولا يقنع بما عنده، كما فعل موسى ولم يكتف بعلمه. وفيه: أنه يجب على حامل العلم لزوم التواضع فى علمه، وجميع أحواله، لأن الله تعالى عتب على موسى حين لم يرد العلم إليه، وأراه من هو أعلم منه. وفيه: حمل الزاد وإعداده فى السفر بخلاف قول الصوفية. - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ - / 17 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، ضَمَّنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ: تمت اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ -. والكتاب هاهنا القرآن عند أهل التأويل، قالوا: كل موضع ذكر الله فيه الكتاب فالمراد به القرآن. وفيه: بركة دعوة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لأن ابن عباس كان من الأخيار الراسخين فى علم القرآن والسنة، أجيبت فيه الدعوة. وفيه: الحض على تعلم القرآن والدعاء إلى الله فى ذلك. وروى البخارى هذا الحديث فى فضائل الصحابة، وقال فيه: تمت اللهم علمه الحكمة -، ووقع فى كتاب الوضوء: تمت اللهم فقه فى الدين -، وتأوَّل جماعة من الصحابة والتابعين فى قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ) يُؤتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيراً) [البقرة: 269] . وتأولوا فى قوله: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [آل عمران: 48] أنها السنة التى سنها الرسول بوحى من الله، وكلا التأويلين صحيح، وذلك أن القرآن حكمة أحكم الله فيه لعباده حلاله وحرامه، وبَيَّن لهم فيه أمره ونهيه، فهو كما وصفه تعالى فى قوله: (وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ) [القمر: 4، 5] وكذلك سنن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حكمة، فصل بها بين الحق والباطل، وبيَّن لهم مجمل القرآن، ومعانى التنزيل، والفقه فى الدين، فهو كتاب الله وسنة نبيه، (صلى الله عليه وسلم) ، فالمعنى واحد وإن اختلفت الألفاظ. - باب مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ؟ / 18 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: تمت أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ - وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلامَ - وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَىْ بَعْضِ الصَّفوف، وَأَرْسَلْتُ الأتَانَ تَرْتَعُ، فَدَخَلْتُ فِى الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ عَلَىَّ -. / 19 - وفيه: مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: تمت عَقَلْتُ مِنَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) مَجَّةً مَجَّهَا فِى وَجْهِى وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ دَلْوٍ -. قال صاحب العين: مَجَّ الشَراب من فيه: رمى به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وقال المهلب: فيه جواز سماع الصغير وضبطه للسُّنن. وفيه: جواز شهادة الصبيان بعد أن يكبروا، فيما علموه فى حال الصغر. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: أخرج البخارى فى هذا الباب حديث ابن عباس، ومحمود بن الربيع، وأصغر سنا منهما عبد الله بن الزبير، ولم يخرجه يوم رأى أباه يختلف إلى بنى قريظة فى غزوة الخندق، فقال لأبيه: يا أبتاه، رأيتك تختلف إلى بنى قريظة، فقال: يا بنى إن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمرنى أن آتيه بخبرهم، والخندق على أربع سنين من الهجرة، وعبد الله أول مولود ولد فى الهجرة. قال المهلب: فيه أن التقدم إلى القعود لسماع الخطبة، إذا لم يضر أحدًا، والخطيب يخطب، جائز بخلاف إذا تخطى رقابهم. وفيه: أن الصاحب إذا فعل بين يدى الرسول شيئًا ولم ينكره، فهو حجة يُحكم به. وفيه: جواز الركوب إلى صلاة الجماعة والعيدين. وفيه: أن الإمام يجوز أن يصلى إلى غير سُترة، وذلك يدل أن الصلاة لا يقطعها شىء. وسيأتى اختلاف العلماء فى المرور بين يدى المصلى، فى كتاب الصلاة، إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 - باب فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ / 20 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت مَثَلُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ، أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِىَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِى دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ -. وَقَالَ إِسْحَاقُ: تمت قَيَّلَتِ الْمَاءَ -، مكان تمت قَبِلَت -. قال المهلب: فيه ضرب الأمثال فى الدين، والعلم، والتعليم. وفيه: أنه لا يقبل ما أنزل الله من الهدى والدين إلا من كان قبله نقيا من الإشراك والشك. فالتى قَبِلَت العلم والهُدى كالأرض المتعطشة إليه، فهى تنتفع به فتحيا فتنبت. فكذلك هذه القلوب البريئة من الشك والشرك، المتعطشة إلى معالم الهدى والدين، إذا وَعَت العلم حَيَتْ به، فعملت وأنبتت بما تحيا به أرماق الناس المحتاجين إلى مثل ما كانت القلوب الواعية تحتاج إليه. ومن الناس من قلوبهم متهيئة لقبول العلم لكنها ليس لها رسوخ، فهى تقبل وتمسك حتى يأتى متعطش فيروىَ منها ويَرِدُ على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 منهل يحيا به، وتسقى به أرض نقيَّة فتنبت وتثمر، وهذه حال من ينقل العلم ولا يعرفه ولا يفهمه. تمت ومنها قيعان - يعنى قلوبًا تسمع الكلام، فلا تحفظه، ولا تفهمه، فهى لا تنتفع به، ولا تنبت شيئًا، كالسِّباخ المالحة التى لا تمسك الماء ولا تنبت كلأ. وكان يصلح أن يُخرج تحت هذه الترجمة قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت خيركم من تعلم القرآن وعلمه -. وقوله: تمت أجادب - جمع جدب على غير لفظه، وكان القياس أن يكون جمع تمت أجدب - لو قيل، وقد جاء مثل هذا كثير، قالوا: محاسن جمع حسن، وكان القياس أن يكون جمع تمت محسن - لو قيل. وقالوا: متشابه جمه تمت شبه - على غير لفظه، وكان القياس أن يكون مشتبه. وقول إسحاق: تمت قيَّلت الماء مكان قبلت - فهو تصحيف وليس بشىءٍ. - باب رَفْعِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ وَقَالَ رَبِيعَةُ: لا يَنْبَغِى لأحَدٍ عِنْدَهُ شَىْءٌ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ. / 21 - وفيه: أَنَس، قَالَ: لأحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لا يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ بَعْدِى، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: تمت إِن مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ -. يحتمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 قول أنس: تمت لا يحدثكم أحدٌ بعدى -، أن يكون لأجل طول عمره، وأنه لم يبق من أصحاب النبى غيره، ويمكن أن يكون قاله لما رأى من التغيير ونقص العلم، فوعظهم بما سمع من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى نقص العلم أنه من أشراط الساعة، ليحضهم على طلب العلم، ثم أتى بالحديث على نصه. ومعنى قول ربيعة: أن من كان له قبول للعلم وفهم له، فقد لزمه من فرض طلب العلم ما لا يلزم غيره، فينبغى له أن يجتهد فيه، ولا يضيع طلبه فيضيع نفسه. - باب فَضْلِ الْعِلْمِ / 22 - فيه: ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) يقول: تمت بَيْنَما أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ، حَتَّى إِنِّى لأرَى الرِّىَّ يَخْرُجُ مِنْ أَظْفَارِى، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالُوا: مَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْعِلْمَ -. وقد تقدم فى أول تمت كتاب العلم - من فضل العلم ما يرغب فى طلبه، وسيأتى الكلام فى هذا الحديث فى تمت كتاب الرؤيا - إن شاء الله. - باب الْفُتْيَا وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الدَّابَّةِ وَغَيْرِهَا / - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، تمت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، فَقَالَ: تمت اذْبَحْ وَلا حَرَجَ. وَجَاءَ آخَرُ. . . - الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 فيه من الفقه: أن العالم يجوز سؤاله راكبًا وماشيًا، وواقفًا، وعلى كل أحواله، وقد تقدم أن الجلوس على الدابة للضرورة جائز، كما كان جلوسه (صلى الله عليه وسلم) عليها فى حجته ليشرف على الناس، ولا يخفى عليهم كلامه لهم. وترجم البخارى لهذا الحديث بعد هذا الباب. 23 - باب مَنْ أَجَابَ الْفُتْيَا بِإِشَارَةِ الْيَدِ وَالرَّأْسِ / 24 - وذكر: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تمت أَنَّ نَبِىُّ اللَّهِ سُئِلَ فِي حَجَّتِهِ، وزاد فيه، فَأَوْمَأَ الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، بِيَدِهِ، وَقَالَ: وَلا حَرَجَ -. / 25 - وذكر: حديث أَبَى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: تمت يَكْثُرُ الْهَرْجُ - قِيلَ: وَمَا الْهَرْجُ؟ فَقَالَ بِيَدِهِ فَحَرَّفَهَا - كَأَنَّه يُرِيدُ الْقَتْلَ. / 26 - وذكر: حديث أَسْمَاءَ فى الْكُسُوفِ: وأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا، أَن نَعَمْ - وذكر الحديث. ففى حديث ابن عباس، وأبى هريرة الإشارة باليد عند الفتوى وفى حديث أسماء الإشارة بالرأس، كما ترجم. قال أبو الزناد فيه من الفقه: أن الرجل إذا أشار بيده أو برأسه، أو بشىء يفهم به إشارته أنه جائز عليه. وفيه: حجة لمالك فى إجازة لعان المرأة الصماء البكماء ومبايعتها ونكاحها، إذ الإشارة تقوم مقام الكلام، ويفهم بها المعنى المقصود، وسيأتى فى كتاب الطلاق، فى باب الإشارة فى الطلاق والأمور، اختلف الفقهاء فى ذلك، ويأتى شىء منه أيضًا فى باب اللعان، إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وفى حديث أسماء أن المؤمنين فى قبورهم، وفيه أن الجنة والنار مخلوقتان، لأنه لا يمثل به إلا مخلوق. - باب تَحْرِيضِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَفْدَ عَبْدِالْقَيْسِ عَلَى أَنْ يَحْفَظُوا الإيمَانَ وَالْعِلْمَ وَيُخْبِرُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ وَقَالَ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ، قَالَ لَنَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : تمت ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ -. / 27 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: تمت إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ أَتَوُا النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: إِنَّا لا نَسْتَطِيعُ أَنْ نصل إليك إِلا فِي الشَهْرٍ الحَرَامٍ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نُخْبِرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ. . . -، وذكر الحديث، وَقَالَ: تمت احْفَظُوهُ وَأَخْبِرُوا بهُ مَنْ وَرَاءَكُمْ -. فيه من الفقه: أن من علم علمًا يلزمه تبليغه لمن لا يعلمه، وهو اليوم من فروض الكفاية، لظهور الإسلام وانتشاره، وأما فى أول الإسلام فكان فرضًا معينًا على كل من علم علما أن يبلغه، حتى يكمل الإسلام ويظهر على جميع الأديان، ويبلغ مشارق الأرض ومغاربها، كما أنذر به أمته (صلى الله عليه وسلم) ، فلزم العلماء فى بدء الإسلام من فرض التبليغ فوق ما يلزمهم اليوم. وفيه: أنه يلزم المؤمن تعليم أهله الإيمان، والفرائض لعموم قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت وأخبروا به من وراءكم -، ولقوله تعالى: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم: 6] ، ولأن الرجل راع على أهله ومسئول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 عنهم، وقد تقدم الكلام فى حديث وفد عبد القيس فى باب أداء الخمس من الإيمان فى آخر كتاب الإيمان فأغنى عن إعادته، وسيأتى شىء منه فى باب خبر الواحد إن شاء الله. - باب الرِّحْلَةِ فِى الْمَسْأَلَةِ النَّازِلَةِ، وَتَعْلِيمِ أَهْلِهِ / 28 - فيه: عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لأبِى إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إِنِّى قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ، وَالَّتِى تَزَوَّجَ بِهَا، فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ: مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِى، وَلا أَخْبَرْتِنِى، فَرَكِبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ -؟ فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ، وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ. فيه: الرحلة فى المسألة النازلة، كما ترجم، وهذا يدل على حرصهم على العلم، وإيثارهم ما يقربهم إلى الله تعالى والازدياد من طاعته عز وجل لأنهم إنما كانوا يرغبون فى العلم للعمل به، ولذلك شهد الله لهم أنهم خير أمة أخرجت للناس. وقال الشعبى: لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن لحفظ كلمة تنفعه فيما بقى من عمره، لم أَرَ سفره يضيع. فيه: فضل المدينة، وأنها معدن العلم، وإليها كان يفزع فى العلم من سائر البلاد. وسيأتى الكلام فى حديث عقبة فى كتاب الرَّضاع، والبيوع وغيره، إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 - باب التَّنَاوُبِ فِى الْعِلْمِ / 29 - فيه: عُمَرَ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِى مِنَ الأنْصَارِ فِى بَنِى أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَهِىَ مِنْ عَوَالِى الْمَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْوَحْىِ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ. . - وذكر الحديث. فيه: الحرص على طلب العلم. وفيه: أن لطالب العلم أن ينظر فى معيشته وما يستعين به على طلب العلم. وفيه: قبول خبر الواحد. وفيه: أن الصحابة كان يخبر بعضهم بعضًا بما يسمع من الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، ويقولون: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ويجعلون ذلك كالمسند، إذ ليس فى الصحابة من يكذب، ولا غير ثقةٍ. هذا قول طائفة من العلماء، وهو قول من أجاز العمل بالمراسيل، وبه قال أهل المدينة، وأهل العراق. وقالت طائفة: لا نقبل مرسل الصاحب، لأنه مرسل عن صاحب مثله، وقد يجوز أن يسمع ممن لا يضبط كوافد وأعرابى لا صحبة له، ولا تعرف عدالته، ألا ترى أن عمر لما وَقَّف أبا هريرة على روايته عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : تمت أنه من أصبح جنبًا فلا صوم له -، قال: لا علم لى بذلك، وإنما أخبرنيه مخبر، هذا قول الشافعى، واختاره القاضى ابن الطيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 - باب الْغَضَبِ فِى الْمَوْعِظَةِ وَالتَّعْلِيمِ إِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ / 30 - فيه: أَبُو مَسْعُودٍ الأنْصَارِىِّ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلاةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلانٌ، فَمَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، غَضب فِى مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْ يَوْمِئِذٍ، فَقَالَ: تمت أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ، فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ -. / 31 - وفيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ اللُّقَطَةِ؟ فَقَالَ: تمت اعْرِفْ وِكَاءَهَا، أَوْ قَالَ: وِعَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ -، قَالَ: فَضَالَّةُ الإبِلِ؟ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، أَوْ قَالَ: وَجْهُهُ، وَقَالَ: تمت مَا لَكَ وَلَهَا، مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَرْعَى الشَّجَرَ، فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا. . . -، وذكر الحديث. / 32 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: سُئِلَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: تمت سَلُونِى عَمَّا شِئْتُمْ -، قَالَ رَجُلٌ مَنْ أَبِى؟ قَالَ: تمت أَبُوكَ حُذَافَةُ -، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أَبِى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: تمت أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ -، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا فِى وَجْهِهِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وترجم لهذا الحديث: 28 - باب مَنْ بَرَكَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ الإمَامِ أَوِ الْمُحَدِّثِ وذكر باقى الحديث. قال أبو الزناد: قول الرجل: تمت لا أكاد أدرك الصلاة مما يطوِّل بنا فلان - يدل أنه كان رجلاً مريضًا أو ضعيفًا، فكان إذا طوَّل به الإمام فى القيام لا يكاد يبلغ الركوع والسجود، إلا وقد زاد ضعفًا عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 اتباعه، فلا يكاد يركع معه ولا يسجد، وإنما غضب عليه، لأنه كره التطويل فى الصلاة من أجل أن فيهم المريض، والضعيف وذا الحاجة، فأراد الرفق والتيسير بأمته، ولم يكن نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن الطول فى الصلاة من أجل أنه لا يجوز ذلك، لأنه كان (صلى الله عليه وسلم) يصلى فى مسجده، ويقرأ بالسور الطوال، مثل سورة يوسف وغيرها، وإنما كان يفعل هذا، لأنه كان يصلى معه جلةُ أصحابه، ومن أكثر همه طلب العلم والصلاة، وكذلك غضبه حين سُئل عن ضالة الإبل، لأنه لا يخشى عليها ضياع، ففارق المعنى الذى أُبيح من أجله أخذ اللقطة، وهو خوف تلفها. وقول الرجل للرسول: تمت مَنْ أَبِى -؟ فإنما سأله عن ذلك، والله أعلم، لأنه كان نُسب إلى غير أبيه إذا لاحى أحدًا فنسبه النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إلى أبيه. وفيه: فهم عمر وفضل علمه، لأنه خشى أن يكون كثرة سؤالهم له كالتعنيت له، والشَّك فى أمره (صلى الله عليه وسلم) ألا ترى قول عمر: رضينا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، فخاف أن تحل بهم العقوبة، لتعنيتهم له (صلى الله عليه وسلم) ولقول الله تعالى: (لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة: 101] . وقد جاء معنى هذا الحديث بَيِّنًا عن ابن عباس، قال: تمت كان قوم يسألون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) استهزاءً، فيقول الرجل: من أبى؟ ويقول الرجل يَضل ناقته: أين ناقتى؟ فنزلت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ (الآية كلها، ذكره البخارى فى تفسير القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وفيه: أنه لا يجب أن يُسأل العالم إلا فيما يحتاج إليه. وفى بروك عمر عند النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الاستجداء للعالم، والتواضع له، وسيأتى حديث ابن حذافة فى باب التعوذ من الفتنة فى كتاب الفتن، وفى باب ما يكره من كثرة السؤال، وتكلف ما لا يعنى فى كتاب الاعتصام. فيه شىء من الكلام فى معناه. - باب مَنْ أَعَادَ الْحَدِيثَ ثَلاثًا لِيُفْهَمَ عَنْهُ فَقَالَ: أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ فَمَا يَزَالَ يُكَرِّرُهَا وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت هَلْ بَلَّغْتُ -، ثَلاثًا. / 33 - فيه: أَنَس، كَانَ (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاثًا، حَتَّى يُفْهَمَ عَنْهُ، فَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلاثًا. / 34 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: تَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى سَفَرٍ سَافَرْنَاهُ، فَأَدْرَكَنَا، وَقَدْ أَرْهَقْنَا الصَّلاةَ، صَلاةَ الْعَصْرِ، وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: تمت وَيْلٌ لِلأعْقَابِ مِنَ النَّارِ -، مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاثًا. قال أبو الزناد: إنما كان يكرر الكلام ثلاثًا، والسلام ثلاثًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 إذا خشى أن لا يفهم عنه، أو لا يسمع سلامه، أو إذا أراد الإبلاغ فى التعليم، أو الزجر فى الموعظة. وفيه: أن الثلاث غاية ما يقع به البيان والإعذار به. 30 - باب تَعْلِيمِ الرَّجُلِ أَمَتَهُ وَأَهْلَهُ / 35 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: تمت ثَلاثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) ، وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ يطأها فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ -. ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِىِّ: أَعْطَيْنَاكَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وقَدْ كَانَ يُرْكَبُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ. قال المؤلف: قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت مؤمن أهل الكتاب يؤتى أجره مرتين - هو كقوله: تمت إذا أسلم فحسن إسلامه كتبت له كل حسنة كان ذلفها -، وكقوله لحكيم بن حزام: تمت أسلمت على ما سلف من خير -، والعبد المملوك له أجر عبادته لله، تعالى، وأجر طاعته لسيده، وتحمله مضض العبودية، والإذعان لحقوق الرق، والذى يعتق أمته فيتزوجها فله أجر العتق والتزويج، وأجر التأديب والتعليم. ومن فعل هذا فهو مفارق للكبر، آخذ بحظٍ وافرٍ من التواضع، وتارك للمباهاة بنكاح ذات شرفٍ ومنصب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وقول الشعبى: تمت أعطيناكها بغير شىء -، فيه أن للعالم أن يُعرِّف المتعلم منه قدر ما أفاده من العلم، وما خصه به، ليكون ذلك أدعى لحفظه، وأجلب لحرصه. وقوله: تمت وقد كان يرحل فى مثلها إلى المدينة - فيه إثبات فضل المدينة، وأنها معدن العلم وموطنه، وإليها كان يرحل فى طلبه ويقصد فى التماسه. فإن احتج بقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت ثم أعتقها فتزوجها - من قال: إن عتق الأمة صداقها. فيقال له: إن الأمة لما عتقت لحقت بالحرائر. فكما لا يجوز أن تتزوج حرة غير معتقة دون صداق، كذلك لا يجوز أن تتزوج المعتقة بغير صداق، لأن الصداق من فرائض النكاح وإنما لم يذكر فى الحديث للعلم به. 31 - باب عِظَةِ الإمَامِ النِّسَاءَ وَتَعْلِيمِهِنَّ / 36 - فيه: ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَوْ قَالَ عَطَاءٌ: أَشْهَدُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ الرَسُولَ خَرَجَ وَمَعَهُ بِلالٌ فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعْ النساء، فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي الْقُرْطَ وَالْخَاتَمَ، وَبِلالٌ يَأْخُذُ فِي طَرَفِ ثَوْبِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 فيه: أنه يجب على الإمام افتقاد أمور رعيته، وتعليمهم ووعظهم، الرجال والنساء فى ذلك سواء، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت الإمام راع ومسئول، ثم عن رعيته - فدخل فى ذلك الرجال والنساء، وأمر النساء بالصدقة لما رآهن أكثر أهل النار، ففيه دليل أن الصدقة تنجى من النار. وقيل: إنما أمرهن بالصدقة، لأنه كان وقت حاجة إلى المواساة، وكانت الصدقة يومئذ أفضل وجوه البِرّ. 32 - باب الْحِرْصِ عَلَى الْحَدِيثِ / 37 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لا يَسْأَلُنِى عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ -. قال المهلب: فيه أن الحريص على الخير والعلم يبلغ بحرصه إلى أن يسأل عن غامض المسائل، ودقيق المعانى، لأن المسائل الظاهرة إلى الناس كافة يستوى الناس فى السؤال عنها، لاعتراضها فى أفكارهم، وما غمض من المسائل، ولطف من المعانى، لا يسئل عنها إلا راسخ بَحَّاث، يبعَثُه على ذلك الحرص، فيكون ذلك سببًا إلى إثارة فائدة يكون له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وفيه: أن للعالم أن يتفرس فى متعلميه، فيظن فى كل واحد مقدار تقدمه فى فهمه، وأن ينبهه على تفرسه فيه، ويعرفه ذلك، ليبعثه على الاجتهاد فى العلم والحرص عليه. وفيه: أن للعالم أن يسكت إذا لم يسأل عن العلم حتى يسأل عنه، ولا يكون كاتمًا، لأن على الطالب أن يسأل، قال تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل: 43] ، وليس للعالم أن يسكت إذا رأى تغييرا فى الدين إذا علم أن ذلك لا يضره، ثم على العالم أن يبين إذا سئل، فإن لم يبين بعد أن يسأل فقد كتم، إلا أن يكون له عذر فيعذر. وفيه: أن الشفاعة إنما تكون فى أهل الإخلاص خاصة، وهم أهل التصديق بوحدانية الله، ورسله، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت خالصًا من قلبه، أو نفسه -. وقوله: تمت أول منك - يعنى قبلك. وقال سيبويه: هى بمنزلة أقدم منك. وقال السيرافى: يقال: هذا أول منك، ورأيت أول منك، ومررت بأول منك، فإذا حذفوا تمت منك - قالوا: هو الأول، ولا يقولوا: الأول منك، لأن الألف واللام تعاقب منك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 33 - باب كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ؟ وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ: تمت انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ فَاكْتُبْهُ، فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ، وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ، وَلا تَقْبَلْ إِلا حَدِيثَ النَّبِيِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَلْتُفْشُوا الْعِلْمَ، وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لا يَعْلَمُ، فَإِنَّ الْعِلْمَ لا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا -. / 38 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو، قَالَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالا، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا -. قال المؤلف: فى أمر عمر بن عبد العزيز بكتاب حديث النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، خاصَّة، وأن لا يقبل غيره الحض على اتباع السنن وضبطها، إذ هى الحجةُ عند الاختلاف، وإليها يلجأ عند التنازع، فإذا عدمت السنن ساغ لأهل العلم النظر، والاجتهاد على الأصول. وفيه: أنه ينبغى للعلماء نشر العلم وإذاعته. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إن الله لا ينزع العلم من العباد -، فمعنى ذلك أن الله لا يهب العلم لخلقه، ثم ينتزعه بعد أن تفضَّل به عليهم، والله يتعالى أن يسترجع ما وهب لعباده من علمه الذى يؤدى إلى معرفته والإيمان به وبرسله، وإنما يكون قبض العلم بتضييع التعلُّم فلا يوجد فيمن يبقى من يخلف من مضى، وقد أنذر (صلى الله عليه وسلم) بقبض الخير كله، ولا ينطق عن الهوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 34 - باب هَلْ يُجْعَلُ لِلنِّسَاءِ يَوْمٌ عَلَى حِدَةٍ فِي الْعِلْمِ / 39 - فيه: أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ، قَالَتِ النِّسَاءُ: يَا رسول اللَّه غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ، فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ، فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ، فَوَعَظَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ، فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ: تمت مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلاثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ -، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَيْنِ؟ قَالَ: تمت وَاثْنَيْنِ -. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: تمت يَبْلُغُوا الْحِنْثَ -. فيه: الترجمة. وفيه: سؤال النساء عن أمر دينهن، وجواز كلامهن مع الرجال فى ذلك، فيما لهن الحاجة إليه. وقد أُخِذَ العلم عن أزواج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وعن غيرهن من نساء السلف. وسيأتى الكلام فى هذا الحديث فى كتاب الجنائز فى باب فضل من مات له ولدٌ فاحتسبه، إن شاء الله. 35 - باب لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ / 40 - فيه: أَبُو شُرَيْحٍ، أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِى أَيُّهَا الأمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلاً قَامَ بِهِ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَاىَ، وَوَعَاهُ قَلْبِى، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَاىَ، حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ: حَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: تمت إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِيهَا فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِى فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأمْسِ، وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ -. فَقِيلَ لأبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ عَمْرٌو؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، لا تُعِيذُ عَاصِيًا وَلا فَارًّا بِدَمٍ، وَلا فَارًّا بِخَرْبَةٍ. / 41 - وفيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلا لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ -. قال المؤلف: لما أخذ الله على أنبيائه الميثاق فى تبليغ دينه، وتبيينه لأمتهم، وجعل العلماء ورثة الأنبياء، وجب عليهم تبليغ الدين، ونشره حتى يظهر على جميع الأديان، وقد بينا قبل هذا أن كل من خاطبه (صلى الله عليه وسلم) بتبليغ العلم فيمن كان فى عصره فقد تَعَيَّن عليه فرض التبليغ، وأما اليوم فهو من فروض الكفاية، لانتشار الدين وعمومه. وفى قول أبى شريح لعمرو حين رآه يبعث البعوث إلى مكة لقتال ابن الزبير: تمت ائذن لى أحدثك -، فيه من الفقه: أنه يجب على العالم الإنكار على الأمير إذا غَيَّر شيئًا من الدين، وإن لم يسأل العالم عن ذلك. واختلف أبو شريح، وعمرو بن سعيد فى تأويل هذا الحديث، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 فحمله أبو شريح على العموم، وحمله عمرو على الخصوص، فكلاهما ذهب إلى غير مذهب صاحبه، فذهب أبو شريح إلى أن حُرْمة مكة ثابتة، لا يجوز أن تستباح بفتنة، ولا تُنْصَبُ عليها حرب لقتال أحدٍ أبدًا بعدما حرمها الله عزَّ وجلَّ، لأنه أخبر (صلى الله عليه وسلم) حين نصب الحرب عليها لقتال المشركين، وفرغ من أمرهم أنها لله حَرَمٌ، ولم تحل لأحدٍ كان قبله، ولا تحل لأحد بعده، وإنما حلت له ساعة من نهار، وهى الساعة التى فتحها، ثم عادت حرمتها كما كانت قبل ذلك. فاحتج أبو شريح بالحديث على وجهه. ونهى عمرو بن سعيد عن بعث الخيل إلى قتال ابن الزبير بمكة خشية أن تستباح حرمتها، وابن الزبير عند علماء أهل السنة أولى بالخلافة من يزيد، وعبد الملك، لأنه بُويع لابن الزبير قبل هؤلاء، وهو من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقد قال مالك: إن ابن الزبير أولى من عبد الملك. وأما قول عمرو لأبى شريح: تمت أنا أعلم منك، إن مكة لا تعيذ عاصيًا، ولا فارًا بدمٍ، ولا فارًا بخربة -، فليس هذا بجواب لأبى شريح، لأنه لم يختلف معه فى أن من أصاب حدًا فى غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم هل يجوز أن يقام عليه فى الحرم، أم لا؟ وإنما أنكر عليه أبو شريح بعثه الخيل إلى مكة، واستباحة حُرمتها، ونصب الحرب عليها، فأحسن فى استدلاله، وحَاد عمرو عن الجواب، وجاوبه عن غير سؤاله، وهو الرجل يصيب حدًا فى غير الحرم، هل يعيذه الحرم؟ وسيأتى اختلاف العلماء فى هذه المسألة فى كتاب الحج، إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وأما قول عمرو بن سعيد لأبى شريح: تمت أنا أعلم منك -، فإن العلماء اخنلفوا فى الصاحب إذا روى الحديث عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، هل يكون أولى بتأويله ممن يأتى بعده أم لا؟ فقالت طائفة: تأويل الصحابى أولى، لأنه الراوى للحديث، وهو أعلم بمخرجه وسببه. وقالت طائفة: لا يلزم تأويل الصاحب إذا لم يصب التأويل واحتجوا بحديث أبى القعيس فى تحريم لبن الفحل، وقالوا: قد أفتت عائشة بخلافه، وهى راوية الحديث، فكان يدخل عليها من أرضعته أخواتها، ولا يدخل عليها من أرضعه نساء إخوتها، وهذا ترك منها للقول بما روته من تحريم لبن الفحل، فلم يلتفت مالك ولا الكوفويون، والشافعى إلى تأويلها، وأخذوا بحديثها. وكذلك فعلوا فى حديث ابن عباس، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) خَيَّر بريرة بعد أن اشترتها عائشة وأعتقتها. وكان ابن عباس يفتى بأن بيع الأمة طلاقها، وحديثه هذا مخالف لفتواه، لأنه لو كان بيعها طلاقها لم تُخَيَّر وهى مطلقة فى أن تطلق نفسها بعده. وذهب أئمة الفتوى إلى أن بيع الأمة ليس بطلاق لها على ما جاء فى الحديث. وكذلك حديث عائشة: تمت فرضت الصلاة ركعتين ركعتين -، ترك الكوفيون، وإسماعيل ابن إسحاق فتوى عائشة بخلاف روايتها، وأخذوا بالحديث، وقالوا: القصر فى السفر فريضة، ورواه أشهب، عن مالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وقالت طائفة: هو مخير بين القصر والإتمام، وهو قول الشافعى، والأبهرى، وابن القصار. وروى أبو مصعب عن مالك، أنه قال: قصر الصلاة فى السفر سُنَّة. ومن روى فى حديث أبى شريح تمت بخُربةٍ - بضم الخاء، فالخربة: الفساد فى الدين، عن صاحب العين. ومن رواه بفتح الخاء، فمعناه السرقة، قال صاحب الأفعال: خرب الرجل خربًا، وخرابة: سرق الإبل. قال الأصمعى: الخرابة: سرقة الإبل خاصة. 36 - باب إِثْمِ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِىِّ - (صلى الله عليه وسلم) - / 42 - فيه: عَلىّ بن أَبِى طَالب، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا تَكْذِبُوا عَلَىَّ، فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ -. / 43 - وفيه: ابن الزُّبَيْرِ أنَّه قَالَ لأَبِيهِ: إِنِّى لا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَمَا يُحَدِّثُ فُلانٌ وَفُلانٌ، قَالَ: أَمَا إِنِّى لَمْ أُفَارِقْهُ، وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: تمت مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 / 44 - وفيه: أَنَس، قَالَ: إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِى أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت مَنْ تَعَمَّدَ عَلَىَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ -. / 45 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ -. / 46 - وفيه: سَلَمَةَ بن الأكوع، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت مَنْ تَقَوَّل عَلَىَّ مَا لَمْ أَقُلْ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ -. قال الطبرى: إن قيل: معنى قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) : تمت فليتبوأ مقعده من النار - أهو إلى الكاذب بتبوء مقعده من النار فيؤمر بذلك، أم ذلك إلى الله؟ فإن يكن ذلك إليه فلا شك أنه لا يُبَوِّء نفسه ذلك، وله إلى تركه سبيل. وإن يكن ذلك إلى الله، فكيف أمر بتبوء المقعد، وأمرُ العبدِ بما لا سبيل إليه غَيْرُ جائز؟ . قيل: معنى ذلك غير ما ذكرت، وهو بمعنى الدعاء منه (صلى الله عليه وسلم) على من كذب عليه، كأنه قال: مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتعمدًا بَوَّأَهُ اللهُ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، ثم أخرج الدعاء عليه مخرج الأمر له به وذلك كثير فى كلام العرب. فإن قيل: ذلك عامٌ فى كل كذب فى أمر الدين، وغيره أو فى بعض الأمور؟ . قيل: قد اختلف السلف فى ذلك، فقال بعضهم: معناه الخصوص، والمراد: من كذب عليه فى الدين، فنسب إليه تحريم حلال، أو تحليل حرام متعمدًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وقال آخرون: بل كان ذلك منه (صلى الله عليه وسلم) فى رجل بعينه كذب عليه فى حياته، وادَّعى عند قوم أنه بعثه إليهم ليحكم فى أموالهم ودمائهم. فأمر (صلى الله عليه وسلم) بقتله إن وجد، أو بإحراقه إن وُجِد ميتًا. وقال آخرون: ذلك عام فيمن تعمد عليه كذبًا فى دين أو دنيا، واحتجوا بتهيب الزبير، وأنس كثرة الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وبقول عمر: أقلوا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنا شريككم. وقالوا: لو كان ذلك فى شخص بعينه لم يكن لاتقائهم ما اتقوا من ذلك، ولا لحذرهم ما حذروا من الزلل فى الرواية والخطأ وجه مفهوم، والصواب فى ذلك أن قوله على العموم فى كل من تعمد عليه كذبًا فى دين أو دنيا، لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان ينهى عن معانى الكذب كلها إلا ما رخَّص فيه من كذب الرجل لامرأته، وكذلك فى الحرب، والإصلاح بين الناس، وإذا كان الكذب لا يصلح فى شىءٍ إلا فى هذه الثلاث، فالكذب على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أجدر ألا يصلح فى دين ولا دنيا، إذْ الكذب عليه ليس كالكذب على غيره. وأن الدعاء الذى دعا على من كذب عليه لأحق بمن كذب عليه فى كل شىء. وقال الشيخ أبو الحسن بن القابسى: من أجل حديث على، وحديث الزبير هاب من سمع الحديث أن يحدث الناس بما سمع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وهو بيِّن فى اعتذار الزبير من تركه الحديث، لأنهما لم يذكرا عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) : تمت متعمدًا -. ولقد دار بين الزهرى وربيعة مُعاتبة، فقال ربيعة للزهرى: أنا إنما أُخبرُ الناسَ بِرَأْى إن شَاءوا أخذوا، وإن شاءوا تركوا، وأنت إنما تخبرهم عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فانظر ما تخبرهم به. وإنما امتنع الناس فى الرواية، لما فى حديث أبى هريرة: تمت من كذب علىَّ متعمدًا -، وكرهوا الإكثار لقول أنس: إنه ليمنعنى أن أحدثكم حديثًا كثيرًا. وقد كره الإكثار من الرواية عمر بن الخطاب، وقال: أَقِلُّوا الحديث عن رسول الله، (صلى الله عليه وسلم) ، وأنا شريككم. قال مالك: معناه وأنا أيضًا أقلِّ الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . رواه ابن وهب عنه. وإنما كره ذلك لما يُخَاف على المُكْثِر من دخول الوهم عليه، فيكون متكلفًا فى الإكثار، فلا يعذر فى الوهم، ولذلك قال مالك لابنى أخته: إن أردتما أن ينفعكما الله بهذا العلم فأقلا منه، وتفقَّها. وقال شعبة لكتبة الحديث: إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله، وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون؟ وإنما يريد شعبة عيب الإكثار، لما يدخل فى ذلك من اختلاط الأحاديث. وقد سهل مالك فى إصلاح الحرف الذى لا يشك فى سقوطه، مثل الألف والواو يسقط أحدهما من الهجاء، وأما اللحن فى الحديث فهو شديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وقال الشعبى: لا بأس أن يعرب الحديث إذا كان فيه اللحن. وقال أحمد بن حنبل: يجب إعراب اللحن، لأنهم لم يكونوا يلحنون، وإنما جاء اللحن بعدهم. وقال ابن القابسى: أخبرنى محمد بن هشام المصرى، أنه سأل أبا عبد الرحمن النسائى، عن اللحن فى الحديث، فقال: إن كان شيئًا تقولُهُ العربُ، وإن كان فى غير لغة قريش فلا يُغَيَّر، لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يكلم الناس بلسانهم، وإن كان لا يوجد فى كلام العرب، فرسول الله لا يلحن. واختلفوا فى رواية الحديث على المعنى، فقال أبو بكر بن الطيب: ذهب كثير من السلف إلى أنه لا تجوز رواية الحديث على المعنى، بل يجب تأدية لفظهِ بعينه من غير تقديم ولا تأخير، ولم يفصلوا بين العالم بمعنى الحديث وغيره. وذهب مالك، والكوفيون، والشافعى إلى أنه يجوز للعالم بمواقع الخطاب، ومعانى الألفاظ، رواية الحديث على المعنى. وليس بين العلماء خلاف، أنه لا يجوز ذلك للجاهل. وذهبت طائفة أخرى إلى أن الواجب على المحدث، أن يروى الحديث على لفظه إذا خاف وقوع لبس فيه متى غَيَّر لفظه، وذلك بأن يكون معناه غامضًا محتملاً للتأويل، فأما إن كان معناه ظاهرًا معلومًا فلا بأس أن يرويه على المعنى. 37 - باب كِتَابَةِ الْعِلْمِ / 47 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِعَلِىِّ: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 إِلا كِتَابُ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفَكَاكُ الأسِيرِ، وَلا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. / 48 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلاً مِنْ بَنِى لَيْثٍ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ بِقَتِيلٍ لهُمْ قَتَلُوهُ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَخَطَبَ فَقَالَ: تمت إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، أَوِ الْقَتْلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُوله وَالْمُؤْمِنِينَ، أَلا وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِى، وَلَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ بَعْدِى -، وذكر الحديث. فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: اكْتُبْ لِى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: تمت اكْتُبُوا لأبِى فُلانٍ -. / 49 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، مَا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّى، إِلا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلا أَكْتُبُ. / 50 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَجَعُهُ، قَالَ: تمت ائْتُونِى بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ [كِتَابًا] لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ -، قَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) غَلَبَهُ الْوَجَعُ، وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا، فَاخْتَلَفُوا، وَكَثُرَ اللَّغَطُ، قَالَ: تمت قُومُوا عَنِّى، وَلا يَنْبَغِى عِنْدِى التَّنَازُعُ -، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَبَيْنَ كِتَابِهِ. قال المؤلف: فى آثار هذا الباب إباحة كتابة العلم وتقييده، ألا ترى أن الرسول أمر بكتابه؟ فقال: تمت اكتبوا لأبى فلان -، وقد كتب على الصحيفة التى قرنها بسيفه، وكتب عبد الله بن عمرو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وقد كره قوم كتابة العلم، واعتلوا بأن كتابة العلم سبب لضياع الحفظ. والقول الأول أولى للآثار الثابته بكتابة العلم. ومن الحجة لذلك أيضًا ما اتفقوا عليه من كتاب المصحف الذى هو أصل العلم، فكتبته الصحابة فى الصحف التى جمع منها المصحف، وكان للنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كُتَّاب يكتبون الوحى. وإنما كره كتابه من كرهه، لأنهم كانوا حفاظًا، وليس كذلك من بعدهم، فلو لم يكتبوه ما بقى منه شىء لنبوِّ طباعهم عن الحفظ، ولذلك قال الشعبى: إذا سمعت شيئًا فاكتبه ولو فى الحائط. وقال المهلب: فى حديث علىِّ من الفقه ما يقطع بدعة المتشيعة المدعين على علىِّ أنه الوصى، وأنه المخصوص بعلم من عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يخص به غيره، لقوله ويمينه: أن ما عنده إلا ما عند الناس من كتاب الله تعالى، ثم أحل على الفهم الذى الناس فيه على درجاتهم، ولم يخص نفسه بشىء غير ما هو ممكن فى غيره فصح بهذا وثبت من إقراره على نفسه أنه ليس بوصى للنبى (صلى الله عليه وسلم) ، وقد جاء حديث أبى جحفة عند على لفظ العهد، فقال له: هل عهد إليك رسول الله بشىء لم يعهده إلى الناس؟ فأجابه بالحديث. وحديث ابن عباس يشهد لهذا المعنى، لأنه (صلى الله عليه وسلم) رَامَ أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 يعهد فى مرضه بقوله: تمت ائتونى بكتاب أكتب لكم لا تضلوا بعده - فاختلفوا فترك ذلك، فلو كان عند علىٍّ عهد منه أو وصية لأحال عليها، وكشف أمرها. واحتج من قال: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، دخل مكة عنوة، بقوله: تمت إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليهم رسوله والمؤمنين -، وهو قول الجمهور، وإنما خالفه فى ذلك الشافعى وحده. وسيأتى ذكر ذلك فى كتاب الحج عند حديث ابن خطل إن شاء الله. وفى قول عمر: حسبنا كتاب الله، حين قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : تمت ائتونى بكتاب أكتب لكم - فيه من فقه عمر وفضله أنه خشى أن يكتب النبى أمورًا ربما عجز عنها فاستحق عليها العقوبة، وإنما قال: حسبنا كتاب الله، لقوله: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) [الأنعام: 38] ، فعلم أن الله تعالى لا يتوفى نبيه حتى يكمل لهم دينهم، لقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة: 3] ، فقنع عمر بهذا، وأراد الترفيه عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، لاشتداد مرضه وغلبة الوجع عليه. فعمر أفقه من ابن عباس حين اكتفى بالقرآن الذى أكمل الله فيه الدين، ولم يكتف بذلك ابن عباس، وسيأتى هذا المعنى أيضًا فى باب النهى على التحريم إلا ما يعرف إباحته، فى كتاب الاعتصام، إن شاء الله. وفى قوله: تمت ائتونى بكتاب أكتب لكم - دليل على أن للإمام أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 يوصى عند موته بما يراه نظرًا للأمة، وفى تركه الكتاب إباحة الاجتهاد، لأنه أوكلهم إلى أنفسهم واجتهادهم. 38 - باب الْعِلْمِ وَالْعِظَةِ بِاللَّيْلِ / 51 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتِ: اسْتَيْقَظَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: تمت سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتَنِ؟ وَمَاذَا فُتِحَ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ أَيْقِظُوا صواحب الْحُجَرِ، فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَة -. قال المهلب: فيه دليل أن الفتن تكون فى المال، وغيره لقوله: تمت ماذ أنزل من الفتن، وماذا فتح من الخزائن -، وكذلك قال حذيفة لعمر: فتنة الرجل فى أهله وماله تكفرها الصلاة والصدقة. وقوله: تمت أيقظوا صواحب الحُجَر - يعنى أزواجه للصلاة والاستعاذة مما نزل ليكونوا أولى من استعاذ من فتن الدنيا. وفيه: أن للرجل أن يوقظ أهله بالليل لذكر الله وللصلاة، ولا سيما عند آية تحدث، أو مأثور رؤيا مخوفة، وقد أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من رأى رؤيا مخوفة فكرها أن ينفث عن يساره، ويستعيذ بالله من شرها، قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) [طه: 132] . وقوله: تمت رب كاسية فى الدنيا عارية فى الآخرة - يحتمل أن تكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الكاسيات مما لا يسترهن من واصف الثياب ورقيقه، فهى كاسية عارية، فربما عوقبت فى الآخرة بالتعرية والفضيحة التى كانت تبتغى فى الدنيا، ويحتمل أن تكون رُبَّ كاسيةٍ فى الدنيا لها المال تكتسى به رفيع الثياب وتكون عارية من الحسنات فى الآخرة، فَنَدَبَهَن إلى الصدقة، وحضهن على ترك السرف فى الدنيا، بأن يأخذن منها بأقل الكفاية ويتصدقن بما سوى ذلك. وسيأتى هذا المعنى فى كتاب الصلاة، فى باب تحريض النبى (صلى الله عليه وسلم) على صلاة الليل، وفى كتاب الفتنة، فى باب لا يأتى زمان إلا الذى بعده شر منه بزيادة فيه، إن شاء الله. 39 - باب السَّمَرِ فِي الْعِلْمِ / 52 - فيه: ابْنَ عُمَرَ، صَلَّى الرَّسُولُ الْعِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ، فَقَالَ: تمت أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ أَحَدٌ -. / 53 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِى مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَ (صلى الله عليه وسلم) عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا، فَصَلَّى النَّبِىُّ الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، ثُمَّ قَالَ: نَامَ الْغُلَيِّمُ - أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا - ثُمَّ قَامَ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِى عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ، أَوْ خَطِيطَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلاةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 فيه: أن السَّمَر بالعلم والخير مباح، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) أخبرهم بعد العشاء أنه لا يبقى ممن على ظهر الأرض أحد إلى رأس مائة سنة، وإنما أراد - والله أعلم - أنه هذه المدة تخترم الجيل الذى هم فيه، فوعظهم بقصر أعمارهم، وأعلمهم أنها ليست تطول أعمارهم كأعمار من تقدم من الأمم ليجتهدوا فى العبادة. وقد سمر السلف الصالح فى مذاكرة العلم. وقد روى شريك، عن ليث، عن أبى بردة، عن أبى موسى الأشعرى، قال: أتيت عمر أكلمه فى حاجة بعد العشاء، فقال: هذه الساعة؟ فقلت: إنه شىء من الفقه، قال: نعم، فكلمته، فذهبت لأقوم فقال: اجلس، فقلت: الصلاة، فقال: إِنَّا فى صلاة، فلم نزل جلوسًا حتى طلع الفجر. حدثنا به محمد بن حسان، قال: حدثنا محمد بن معاوية القرشى، قال: حدثنا ابن يحيى المروزى، قال: حدثنا عاصم بن علقمة، عن شريك. واختلف قول مالك فى هذه المسألة، فقال مرة: الصلاة أحبُّ إلىَّ من مذاكرة العلم، وقال فى موضع آخر: إن العناية بالعلم أفضل إذا صحت النية. ويذكر عن سحنون أنه قال: يلتزم أثقلهما عليه. وقال أبو الزناد: السَّامِر فى بيت ميمونة، كان ابن عباس. وفيه: من فضل ابن عباس، وحدقه على صغر سِنِّه أنه رصد الرسول (صلى الله عليه وسلم) طول ليلته، يدل على ذلك قوله فى الحديث: تمت فصلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 أربع ركعات، ثم نام، ثم قام، ثم قال: نام الغُلَيِّمُ؟ - مستفهمًا لميمونة، وذكر أنه عاين أفعال النبى (صلى الله عليه وسلم) كلها طول ليلته، وقد جاء هذا المعنى فى بعض طرق الحديث. ذكر فى كتاب الدعاء، فى باب الدعاء إذا انتبه من الليل، عن ابن عباس، قال: نام النبى (صلى الله عليه وسلم) عند ميمونة، ثم قام فتوضأ وضوءًا بين وضوئين لم يكثر، وقد أبلغ فصلى فقمت فتمطيت كراهية أن يرى أنى كنت أرصده، فتوضأت فقمت عن يساره. . . وذكر الحديث. وقيل: إن العباس كان أوصاه بمراعاة النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ليطلع على عمله بالليل. وإنما يكره السَّمَرُ إذا كان فى غير طاعة، وأحبوا أن يجعلوا الصلاة آخر أعمالهم بالليل، وكرهوا الحديث بعد العتمة، لأن النوم وفاة، فأحبوا أن يناموا على خير أعمالهم. وقد كان ابن عمر إذا تكلم أو قضى شيئًا من أموره قبل نومه قام فصلى ثم نام، ولم يفعل بين نومه وصلاته شيئًا. وقد ذكر البخارى هذا الحديث فى كتاب الصلاة. وتمت الغطيط - صوت النائم، قال صاحب العين: غَطّ النائم يَغُطُّ غطيطًا. وقال ابن دريد: غطيط النائم أعلى من النخير، وكذلك المخنوق والمذبوح. وقوله: تمت أو خطيطه - شك من المحدث، ولم أجدها عند أهل اللغة بالخاء، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 42 - باب حِفْظِ الْعِلْمِ / 54 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَوْلا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ يَتْلُو: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى (إِلَى قَوْلِهِ: (الرَّحِيمُ) [البقرة 159 - 160] إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ شَغَلَهُمْ الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الأنْصَارِ كَانَ شَغَلَهُمْ الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ لشِبَعِ بَطْنِهِ، وَيَحْضُرُ مَا لا يَحْضُرُونَ، وَيَحْفَظُ مَا لا يَحْفَظُونَ. (1) / 55 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ، قَالَ: تمت ابْسُطْ رِدَاءَكَ -. فَبَسَطْتُهُ، قَالَ: فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: تمت ضُمَّهُ -. فَضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ. (2) / 56 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وِعَاءَيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ. قال أبو الزناد: فيه حفظ العلم والدءوب عليه، والمواظبة على طلبه، وهى فضيلة لأبى هريرة، فضله (صلى الله عليه وسلم) بها بأن قال له: تمت ابسط رداءك، ثم قال: ضمه -، فما نسى شيئًا بعد. وجاء هذا الحديث فى كتاب البيوع، وقال فيه: تمت فما نسيتُ من مقالته تلك من شىء -، وهذا من بركة النبى (صلى الله عليه وسلم) . وفيه: فضل التقلل من الدنيا، وإيثار طلب العلم على طلب المال. وفيه: أنه جائز للإنسان أن يخبر عن نفسه بفضله إذا اضطر إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ذلك، لاعتذار من شىء، أو لتبيين ما يلزمه تبيينه إذا لم يقصد بذلك الفخر. وقوله: تمت وأما الآخر لو بثثته قطع هذا البلعوم -، قال المهلب، وأبو الزناد: يعنى أنها كانت أحاديث أشراط الساعة، وما عرف به (صلى الله عليه وسلم) من فساد الدين، وتغيير الأحوال، والتضييع لحقوق الله تعالى، كقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت يكون فساد هذا الدين على يدى أغيلمة سفهاء من قريش -، وكان أبو هريرة يقول: لو شئت أن أسميهم بأسمائهم، فخشى على نفسه، فلم يُصَرِّح. وكذلك ينبغى لكل من أمر بمعروف إذا خاف على نفسه فى التصريح أن يُعَرِّض. ولو كانت الأحاديث التى لم يحدث بها من الحلال والحرام ما وَسِعَهُ تركها، لأنه قال: لولا آيتان فى كتاب الله ما حدثتكم، ثم يتلو: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى) [البقرة: 159] . فإن قال قائل: قول أبى هريرة: تمت حفظت من النبى (صلى الله عليه وسلم) وعاءين -، يعارض قوله: تمت ما كان أحد من أصحاب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أكثر حديثًا منى إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب -، فقوله: تمت لا أكتب -، خلاف قوله: تمت حفظت وعاءين -، لأن الوعاء فى كلام العرب: الظرف الذى يجمع فيه الشىء. قيل: لقوله هذا معنًى صحيح لا يخالف بعضه بعضًا، وذلك أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 يجوز أن يريد أبو هريرة أن الذى حفظ من النبى من السنن التى حدث بها وحملت عنه لو كتبت لاحتملت أن يملأ منها وعاء، وما كتم من أحاديث الفتن لو حدث بها يخشى أن ينقطع منه البلعوم، يحتمل أن تملأ وعاء آخر، ولهذا المعنى قال: وعاءين، ولم يقل: وعاء واحدًا، لاختلاف حكم المحفوظ فى الإعلام به والستر له. وقال ثابت: البلعوم هو الحلقوم، وهو مجرى النفس إلى الرئة. قال أبو عبيد: هو البَلْعَمُ والبُلْعُوم. قال ثابت: والمرىء مجرى الطعام والشراب إلى المعدة متصل بالحلقوم، وهو المبتلع والمسترط. 41 - باب الإنْصَاتِ لِلْعُلَمَاءِ / 57 - فيه: جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: تمت اسْتَنْصِتِ النَّاسَ -، فَقَالَ: تمت لا تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ -. قال أبو الزناد: الإنصات للعلماء، والتوقير لهم، لازم للمتعلمين، لأن العلماء ورثة الأنبياء، وقد أمر الله عباده المؤمنين ألا يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ولا يجهروا له بالقول خوف حبوط أعمالهم، وكان عبد الرحمن بن مهدى إذا قرأ حديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمر الناس بالسكوت، وقرأ: (لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ) [الحجرات: 2] ، ويتأول أنه يجب من الإنصات والتوقير عند قراءة حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) مثل ما يجب له (صلى الله عليه وسلم) ، فكذلك يجب توقير العلماء والإنصات لهم، لأنهم الذين يحيون سنته، ويقومون بشريعته. وقال شريك: كان الأعمش لا يتجاوز صوته مجلسهُ إجلالاً للعلم. وقال مطرف: كان مالك إذا أراد الحديث عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، اغتسل وتطيب ولبس ثيابًا جددًا، ثم تحدث، إجلالاً لحديثه (صلى الله عليه وسلم) . وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال: كان يُستحب أن لا يُقرأ أحاديث النبى إلا على وضوءٍ. قال شعبة: كان قتادة لا يحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا وهو على طهارة. وحكى مالك عن جعفر بن محمد، مثله. وكان الأعمش إذا أراد أن يحدث، وهو على غير وضوء تَيَمَّمَ. وقال ابن أبى الزناد: ذكر سعيد بن المسيب حديثًا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو مريض، فقال: أجلسونى، فإنى أُعْظِمُ أن أحدث حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنا مضطجع. وقال ابن أبى أويس: كان مالك إذا جلس للحديث يقول: ليلينى منكم ذووا الأحلام والنهى، فربما قعد الفعنبى عن يمينه، وهذا كله من إجلال النبى (صلى الله عليه وسلم) وتوقيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 42 - باب مَا يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ إِذَا سُئِلَ أَىُّ النَّاسِ أَعْلَمُ أَن يَكِلُ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى / 58 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: عن أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، قَالَ: قَامَ مُوسَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، خَطِيبًا فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ أَىُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِى بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ بِهِ؟ فَقِيلَ لَهُ: احْمِلْ حُوتًا فِى مِكْتَلٍ، فَإِذَا فَقَدْتَهُ فَثَمَّ هُوَ، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ بِفَتَاهُ يُوشَعَ ابْنِ نُونٍ، وَحَمَلا حُوتًا فِى مِكْتَلٍ، حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا، فَنَامَا، فَانْسَلَّ الْحُوتُ مِنَ الْمِكْتَلِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَبًا -. قال المؤلف: روى عن أُبىّ بن كعب أنه قال: أعجب موسى بعلمه فعاقبه الله بما لقى مع الخضر، وكان ينبغى أن يقول: الله أعْلَمُ أىُّ الناس أعلم، لأنه لم يُحِط علمًا بكل عالم فى الدنيا، وقد قالت الملائكة: لا علم لنا إلا ما علمتنا. وسئل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن الروح وغيره، فقال: لا أدرى حتى أسأل الله تعالى، وقد قال تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء: 36] فيجب على من سئل عما لا يعلم، أن يقول: لا أعلم. وقد قال مالك: جُنَّة العالم لا أدرى، فإذا أخطأها أصيبت مقاتله. قال مالك: وكان الصديق يُسأل فيقول: لا أدرى، وأحدهم اليوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 يأنف أن يقول: لا أدرى، فليس المجترئ لحدود الإسلام كالذى يموج ويلعب. وقال مالك: سمعت ابن هرمز يقول: ينبغى للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدرى، حتى يكون أصلاً فى أيديهم. وقوله تعالى: (نَسِيَا حُوتَهُمَا) [الكهف: 61] إنما نَسِيَهُ يوشع فتى موسى ومتعلمه، فأضيف النسيان إليهما جميعًا، والدليل على أن فتاهُ نسيهُ قوله: (فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ) [الكهف: 63] كما قال تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ) [الأنعام: 130] ، وإنما الرسل من الإنس. وقوله: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا) [الكهف: 66] لم يسأله موسى عن شىء من دينه، لأن الأنبياء لا تجهل شيئًا من دينها الذى تعبدت به أمتها، وإنما سأله عما لم يكن عنده علمه مما ذكر فى السورة. قال المهلب: وقوله: (لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ) [الكهف: 74] روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: تمت كان طبع الغلام كافرًا، ولو أدرك أبويه لأرهقهما طغيانًا وكفرًا -، وهو معنى قوله: (فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا) [الكهف: 80] فدل أنه لو بلغ لكان كذلك. فإن قيل: فقد روى البخارى عن ابن عباس أنه كان يقرأ: وكان أبواه مؤمنين، وكان كافرًا فأوجب الله له الكفر فى الحال. فالجواب: أنه إنما سماه كافرًا لما يئول إليه أمره لو عاش، وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 جائز فى اللغة أن يسمى الشىء بما يئول إليه، قال تعالى: (إِنِّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا) [يوسف: 36] ، وإنما يعصر العنب لا الخمر. ووجه استباحة القتل لا يعلمهُ إلا الله تعالى ولله أن يميت من شاء من خلقه قبل البلوغ وبعده، ولا فرق بين قتله وموته، كل ذلك لا اعتراض عليه فيه، لا يُسأل عما يفعل. قال المؤلف: وفى قصة الخضر أصل عظيم من أصول الدين، وذلك أن ما تعبَّدَ الله به خلقه من شريعته ودينه، يجب أن يكون حجة على العقول، ولا تكون العقول حجةً عليه، ألا ترى أن إنكار موسى على الخضر خرق السفينة، وقتل الغلام، كان صوابًا فى الظاهر، وكان موسى غير ملوم فى ذلك، فلما بَيَّن الخضر وجه ذلك ومعناه، صار الصواب الذى ظهر لموسى من إنكاره خطأ، وصار الخطأ الذى ظهر لموسى من فعل الخضر صوابًا، وهذا حجةٌ قاطعة فى أنه يجب التسليم لله فى دينه، ولرسوله فى سنته، وبيانه لكتاب ربه، واتهام العقول إذا قصرت عن إدراك وجه الحكمة فى شىء من ذلك، فإن ذلك محنة من الله لعباده، واختبار لهم ليتم البلوى عليهم. ولمخالفة هذا ضل أهل البدع حين حكموا عقولهم وَرَدُّوا إليها ما جهلوه من معانى القدر وشبهه، وهذا خطأ منهم، لأن عقول العباد لها نهاية، وعلم الله لا نهاية له، قال الله عز وجل: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَىْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) [البقرة: 255] ، فما أخفاه عنهم فهو سِرُّ الله الذى استأثر به، فلا يحل تعاطيه، ولا يُكلَّف طلبه، فإن المصلحة للعباد فى إخفائه منهم، والحكمة فى طَيَّه عنهم إلى يوم تُبلى السرائر، والله هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 الحكيم العليم، قال تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ) [المؤمنون: 71] . وقوله: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى) [الكهف: 82] يدل أنه فعله بوحى من الله بذلك إليه، ويشهد لهذا وجوهٌ من نفس القصة، منها: أنه لا يجوز لأحدٍ أن يقتل نفسًا لما يتوقع وقوعه منها بعد حين مما يوجب عليها القتل، لأن الحدود لا تجب إلا بعد وقوعها. وأيضًا فإنه لا يقطع على فعل أحد قبل بلوغه، ولا يعلمه إلا الله، لأن ذلك إخبار عن الغيب. وكذلك الإخبار عن أخذ الملك السفينة غصبًا، والإخبار أيضًا عن بنيانه الجدار من أجل الكنز الذى تحته ليكون سببًا إلى استخراج الغلامين له إذا احتاجا إليه مراعاة لصلاح أبيهما، وهذا كله لا يدرك إلا بوحى من الله تعالى. وفى هذا الحديث: أن الخضر أقام الجدار بيده، وفى كتاب الأنبياء، قال سفيان: فأومأ بيده، وهذه آية عظيمة لا يقدر الناس على مثلها، وهى تشبه آية الأنبياء. وهذا كله حجة لمن قال بنبوة الخضر. وذكر الطبرى عن ابن عباس، قال: فكان قول موسى فى الجدار لنفسه، ولطلب شىء من الدنيا، وكان قوله فى السفينة والغلام لله. قال المهلب: وهو حجة لمن قال بنبوة الخضر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وفى هذا الحديث من الفقه استخدام الصاحب لصاحبه ومتعلمه إذا كان أصغر منه. وفيه: أن العالم قد يكرم، بأن تقضى له حاجة، أو يوهب له شىء، ويجوز له قبول ذلك، لأن الخضر حُمِل بغير أجر وهذا إذا لم يتعرض لذلك. وفيه: أنه يجوز للعالم، والرجل الصالح أن يُعِيبَ شيئًا لغيره إذا علم أن لصاحبه فى ذلك مصلحة. وأما قول أُبىِّ بن كعب لنوف: تمت كذب عدو الله - فإنما خرج ذلك على طريق الغضب، والإبلاغ فى التقريع، لأنه أراد بذلك خروجه عن ولاية الله وعن الدين، وألفاظ الغضب يؤتى بها على غير طريق الحقيقة فى الأكثر، وكان نوف قاضيًا. وذكر سعيد بن جبير: أن نوفًا ابن أخى كعب الأحبار. وقوله: بغير نول، يرد بغير جُعْلٍ، والنول والنَّال، والنَالة، كله الجُعْل، فأما النيل والنوال فإنهما العطية ابتداءً، يقال: رجل نال إذا كان كثير النول، ورجلان نالان، وقوم أنوال، كما قالوا: رجل مال: أى كثير المال، وكبش صاف: كثير الصوف، ويقال: نلت الرجل أنوله نولا، ونلت الشىء أناله نيلا، عن الخطابى. وقال صاحب تمت العين -: أنلته المعروف ونلته ونولته، والاسم: النوال، والنَّيْل، ويقال: نال يَنال منالا، ونَالَهُ، والنَّوْلَة اسم للقبلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 43 - باب مَنْ سَأَلَ وَهُوَ قَائِمٌ عَالِمًا جَالِسًا / 59 - فيه: أَبُو مُوسَى، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْقِتَالُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ؟ ، فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، فَرَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ، قَالَ: وَمَا رَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ إِلا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا، قَالَ: تمت مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ -. فيه: جواز سؤال العالم وهو واقف، كما ترجم، لعذر، أو لشغل، ولا يكون ذلك تركًا لتوقير العالم، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) لم ينكر ذلك عليه، ولا أمره بالجلوس. وجواب النبى (صلى الله عليه وسلم) ، بغير لفظ سؤاله، والله أعلم، من أجل أن الغضب والحمية قد يكونان لله عز وجل، ولعرض الدنيا، وهو كلام مشترك، فجاوبه النبى (صلى الله عليه وسلم) بالمعنى لا بلفظ الذى سأله به السائل، إرادة إفهامه وخشية التباس الجواب عليه لو قسم له وجوه الغضب والحمية، وهذا من جوامع الكلم الذى أوتيه (صلى الله عليه وسلم) . 44 - باب السُّؤَالِ وَالْفُتوى عِنْدَ رَمْىِ جِمَارِ العَقَبة / 60 - فيه: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ وَهُوَ يُسْأَلُ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِىَ، قَالَ: تمت ارْمِ وَلا حَرَجَ -، قَالَ آخَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ، قَالَ: تمت انْحَرْ وَلا حَرَجَ -، فَمَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلا أُخِّرَ إِلا قَالَ: تمت افْعَلْ وَلا حَرَجَ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 ومعنى هذا الباب أنه يجوز أن يسأل العالم عن العلم ويجيب وهو مشتغل فى طاعة الله، لأنه لا يترك الطاعة التى هو فيها إلا إلى طاعةٍ أخرى. 45 - باب قَوْلِ اللَّه: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) [الإسراء 85] / 61 - فيه: عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فِي خَرِبِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تَسْأَلُوهُ، لا يَجِيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنَسْأَلَنَّهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا الرُّوحُ؟ فَسَكَتَ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقُمْتُ، فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ، قَالَ: تمت) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا (-[الأسراء: 85] قَالَ الأعْمَشُ: هَكَذَا فِي قِرَاءَتِنَا. قال المهلب: هذا يدل على أن من العلم أشياء لم يُطلع الله عليها نبيًا، ولا غيره، أراد الله تعالى أن يختبر بها خلقه فيوقفهم على العجز عن علم ما لا يدركون حتى يضطرهم إلى رد العلم إليه، ألا تسمع قوله تعالى: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) [البقرة: 255] ، فعلم الروح مما لم يشأ تعالى أن يُطْلعِ عليه أحد من خلقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 46 - باب مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الاخْتِيَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَقْصُرَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ فَيَقعُ فِى أَشَدَّ مِنْهُ / 62 - فيه: عَائِشَةُ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت لَوْلا قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ: بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ منه، وَبَابٌ يَخْرُجُونَ - فَفَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ. قال المهلب: فيه أنه قد يترك شيئًا من الأمر بالمعروف إذا خشى منه أن يكون سببًا لفتنة قوم ينكرونه ويسرعون إلى خلافه واستبشاعه. وفيه: أن النفوس تحب أن تساس بما تأنس إليه فى دين الله من غير الفرائض، بأن يترك ويرفع عن الناس ما ينكرون منها. قال أبو الزناد: إنما خشى أن تنكره قلوب الناس لقرب عهدهم بالكفر، ويظنون أنما يفعل ذلك لينفرد بالفخر دونهم. وقد روى أن قريشًا حين بنت البيت فى الجاهلية تنازعت فى من يجعل الحجر الأسود فى موضعه، فحكموا أول رجل يطلع عليهم، فطلع النبى (صلى الله عليه وسلم) فرأى أن يجعل الحجر فى ثوب، وأمر كل قبيلة تأخذ بطرف الثوب، فرضوا بذلك، ولم يروا أن ينفرد بذلك واحد منهم خشية أن ينفرد بالفخر. فلما ارتفعت الشبهة فعل ابن الزبير فيه ما فعل، فجاء الحجاج فَرَدَّهُ كما كان، فتركه من بعده خشية أن يتلاعب الناس بالبيت، ويكثر هدمه وبنيانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وقد استدل أبو محمد الأصيلى من هذا الحديث فى مسألة من النكاح، وذلك أن جارية يتيمة غنية كان لها ابن عم، وكان فيه ميل إلى الصبا فخطب ابنة عمه وخطبها رجل غنى، فمال إليه الوصى وكانت اليتيمة تحب ابن عمها ويحبها، فأبى وصيها أن يزوجها منه ورفع ذلك إلى القاضى وشاور فقهاء وقته فكلهم أفتى أن لا تزوج من ابن عمها، وأفتى الأصيلى أن تزوج منه، خشية أن يقعا فى المكروه، استدلالا بهذا الحديث، فزوجت منه. 47 - باب مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهَةَ أَلا يَفْهَمُوا / 63 - وَقَالَ عَلِىٌّ: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. / 64 - فيه: أَنَسُ، أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) - قَالَ لِمُعَاذِ - وهو رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ، فَقَالَ: تمت يَا مُعَاذَ -، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثَلاثًا، قَالَ: تمت مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ -، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُون؟ قَالَ: تمت إِذًا يَتَّكِلُوا -. وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 (1) / 65 - وفيه: أَنَسَ، قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ لِمُعَاذِ: تمت مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، دَخَلَ الْجَنَّةَ -، قَالَ: أَلا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ تمت لا، إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا -. قال المهلب: فيه أنه يجب أن يُخَصَّ بالعلم قوم لما فيهم من الضبط وصحة الفهم، ولا يبذل المعنى اللطيف لمن لا يستأهله من الطلبة ومن يخاف عليه الترخص والاتكال لقصير فهمه، كما فعل (صلى الله عليه وسلم) ، وقد قال مالك بن أنس: تمت من إذالة العالم أن يجيب كل من سأله -، وإنما أراد ألا يوضع العلم إلا عند من يستحقه ويفهمه. وفيه: أن من عِلَمَ علمًا - والناس على غيره من أخذٍ بشدة، أو ميلٍ إلى رخصة - كان عليه أن يودعه مستأهله ومن يظن أنه يضبطه كما فعل معاذ حين حدث به بعد أن نهاه النبى (صلى الله عليه وسلم) عن أن يخبر به خوف الاتكال، فأخبر به عند موته خشية أن يدركه الإثم فى كتمانه. ومعنى قوله: تمت حرمه الله على النار - أى حرمه الله على الخلود فى النار، لثبوت قوله: تمت أخرجوا من النار من فى قلبه مثقال حبة خردل من إيمان -، ولإجماعهم أنه لا تسقط عنه مظالم العباد، هذا تأويل أهل السنة، والحديث عندهم على الخصوص، وهو خلاف مذهب الخوارج الذين يقولون بتخليد المؤمنين بذنوبهم فى النار. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت من لقى الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 تمت ومن قال: لا إله إلا الله دخل الجنة - فروى عن السلف فى تأويله ما ذكر الطبرى، قال: حدثنا محمد بن على بن الحسن ابن شقيق، قال: سمعت أبى يقول: أخبرنا أبو حمزة، عن الحسين بن عمران، عن الزهرى، أنه سئل عن الحديث تمت من قال لا إله إلا الله دخل الجنة - قال: حدثنى سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعروة بن الزبير، أن ذلك كان قبل نزول الفرائض. وذكر أبو عبيد، عن ابن أبى خيثمة، قال: حدثنا أبى، قال: حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن عطاء بن السائب، قال: سأل هشام بن عبد الملك، الزهرى، فقال: حدثنا بحديث النبى، (صلى الله عليه وسلم) : تمت من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق -، فقال الزهرى: أين يذهب بك يا أمير المؤمنين؟ كان هذا قبل الأمر والنهى. وذكر الطبرى، حدثنا ابن حميد، حدثنا حماد بن سلمة، عن الحسن بن عميرة، قال: قيل للحسن: من قال: تمت لا إله إلا الله دخل الجنة؟ - فقال: من قال: لا إله إلا الله فأدى حقها وفريضتها دخل الجنة. وذكر أبو عبيد، عن عطاء بن أبى رباح أنه قيل له: إن فى المسجد عمر بن ذر، ومسلم النحات، وسالم الأفطس يقولون: من زنى، وسرق، وقذف المحصنات، وأكل الربا، وعمل بالمعاصى أنه مؤمن كإيمان البر التقى الذى لم يعص الله، فقال عطاء: أبلغهم ما حدثنى به أبو هريرة: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت لا يقتل المؤمن حين يقتل وهو مؤمن، ولا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 مؤمن - فذكرت ذلك لسالم الأفطس وأصحابه، فقالوا: أين حديث أبى الدرداء تمت وإن زنى وإن سرق - فذكرت ذلك لعطاء، فقال: كان هذا ثم نزلت الحدود والأحكام بعد، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا إيمان لمن لا أمانة له - وتمت لايفتك مؤمن. . . -. وذكر البخارى حديث أبى الدرداء، وحديث أبى ذر فى كتاب الاستئذان، فى باب من أجاب بلبيك وسعديك، وذكر حديث أبى ذر أيضًا فى كتاب اللباس، فى باب الثياب البيض. قال أبو ذر: قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة - قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: تمت وإن زنى وإن سرق، ثلاث مرات، وإن رغم أنف أبى ذر -، وفسره البخارى قال: هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم، وقال: لا إله إلا الله غفر له. وقول البخارى: تمت إذا تاب - يعنى إذا تحلل من مظالم العباد، وتاب من ذنوبه التى بينه وبين الله تعالى. والتأثم: إلغاء الإثم عن نفسه، وقد تقدم فى كتاب بدء الوحى، وسيأتى ما للعلماء فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا يزنى الزانى وهو مؤمن - فى أول كتاب الحدود، إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 48 - باب الْحَيَاءِ فِى الْعِلْمِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لا يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحْىٍ وَلا مُسْتَكْبِرٌ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأنْصَارِ، لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِى الدِّينِ. / 66 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِى مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ -، فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَجْهَهَا، وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ قَالَ: تمت نَعَمْ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا؟ -. / 67 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: تمت مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ وَرَقُهَا هِىَ مَثَلُ الْمُسْلِمِ حَدِّثُونِى مَا هِيَ؟ - فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَادِيَةِ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِى أَنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَحَدَّثْتُ أَبِى بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِى، فَقَالَ: لأنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِى كَذَا وَكَذَا -. قال المؤلف: إنما أراد البخارى بهذا الباب ليبين أن الحياء المانع من طلب العلم مذموم، ولذلك بدأ بقول مجاهد وعائشة، وأما إذا كان الحياء على جهة التوقير والإجلال فهو حسن كما فعلت أم سلمة حين غطت وجهها، وقولها: إن الله لا يستحيى من الحق، فإن الاستحياء من الله غير الاستحياء من المخلوقين، وهو من الله تعالى الترك، وكذا قال أهل التفسير فى قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً) [البقرة: 26] ، بمعنى لا يترك أن يضرب مثلا، وإنما قالوا ذلك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 لأن الحياء هو الانقباض بتغيير الأحوال، وحدوث الحوادث فيمن يتغير به، لا يجوز على الله. وقولها: تمت لا يستحيى من الحق - يقتضى أن الحياء لا يمنع من طلب الحقائق. وفيه: أن المرأة تحتلم، غير أن ذلك نادر فى النساء، ولذلك أنكرته أم سلمة. وقوله: تمت تربت يمينك - هى كلمة تقولها العرب ولا تريد وقوع الفقر فيمن تخاطبه بها إذا لم يكن أهلا لذلك، كما يقول: قاتله الله ما أسعده، وهو لا يريد قتله الله، وسيأتى تفسيرها لأهل اللغة فى كتاب الأدب إن شاء الله. وقوله: تمت فبم يشبهها ولدها - يعنى إذا غلب ماء المرأة ماء الرجل أشبهها الولد، وكذلك إذا غلب ماء الرجل أشبهه الولد، ومن كان منه إنزال الماء عند الجماع أمكن منه إنزال الماء عند الاحتلام. قال المهلب: فى تمنى عمر، رضى الله عنه، أن يجاوب ابنه النبى (صلى الله عليه وسلم) ، بما وقع فى نفسه فيه من الفقه أن الرجل مباح له الحرص على ظهور ابنه فى العلم على الشيوخ، وسروره بذلك. وقيل: إنما تمنى له عمر ذلك رجاء أن يسر النبى بإصابته، فيدعو له، فينفعه الله بدعائه. وقد كان عمر بن الخطاب يسأل ابن عباس، وهو صغير مع شيوخ الصحابة. وذكر ابن سلام أن الحطيئة أتى مجلس عمر بن الخطاب فنظر إلى ابن عباس قد قرع الناس بلسانه، فقال: من هذا الذى نزل عن القوم فى سنه ومدته وتقدمهم فى قوله وعلمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وقالت العلماء: العالم كبير وإن كان حدثًا، والجاهل صغير وإن كان شيخًا. وفيه: أن الابن الموفق العالم أفضل مكاسب الدنيا، لقوله: تمت لأن كنت قلتها أحب إلى من كذا وكذا -. وفى سماع أشهب، عن مالك أنه سئل عن المصلى لله يقع فى نفسه أنه يجب أن يعلم، ويجب أن يلقى فى طريق المسجد، ويكره أن يلقى فى طريق غيره، فقال: إذا كان أول فعله لله فلا أرى بذلك بأسا، وإن المرء ليحب أن يكون صالحًا، وإن هذا ليكون من الشيطان مصدق فيقول: إنك لتحب أن يعلم ليمنعه ذلك، وهذا أمر يكون فى القلب لا يملك، فإذا كان أصله لله لم أر بذلك بأسا، قد قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت ما شجرة لا يسقط ورقها - فقال ابن عمر: فوقع فى نفسى أنها النخلة، فقال عمر: لأن تكون قلتها أحب إلى من كذا وكذا، وقال تعالى: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى) [طه: 39] ، وقال: (وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) [الشعراء: 84] . 49 - باب مَنِ اسْتَحْيَا فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِالسُّؤَالِ / 68 - فيه: عَلِىِّ، كُنْتُ رَجُلا مَذَّاءً، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: تمت فِيهِ الْوُضُوءُ -. إنما استحيا على أن يسأل رسول الله لمكان ابنته، وهذا الحياء محمود، لأنه لا يمتنع به من تعلم ما جهل وبعث من يقوم مقامه فى ذلك، ففيه: الحياء من الأصهار فى ذكر أمور الجماع وشبهه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وفيه: قبول خبر الواحد. 50 - باب مَنْ أَجَابَ السَّائِلَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَهُ / 69 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلا سَأَل النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟ فَقَالَ: تمت لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلا الْعِمَامَةَ، وَلا السَّرَاوِيلَ، وَلا الْبُرْنُسَ، وَلا ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرانُ أو الْوَرْسُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا، حَتَّى يَكُونَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ -. قال المهلب: فيه من الفقه أنه يجوز للعالم إذا سئل عن الشىء أن يجيب بخلافه، إذا كان فى جوابه بيان ما سئل عنه وتحديده، ألا ترى أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) سئل عما يلبس المحرم، فأجاب بما لا يلبس؟ إذ معلوم أن ما سوى ذلك مباح للمحرم، فأما الزيادة على سؤال السائل فقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت فإن لم يجد نعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين - فهذه زيادة وإنما زاده لعلمه بمشقة السفر وقلة وجود ما يحتاج إليه من الثياب فيه، ولما يلحق الناس من الحفى بالمشى، رحمة لهم وتنبيهًا على منافعهم، وكذلك يجب للعالم أن ينبه الناس فى المسائل على ما ينتفعون به، ويتسعون فيه، ما لم يكن ذريعة إلى ترخيص شىء من حدود الله. ونهيه له عن الوَرْسِ والزعفران، قطع للذريعة إلى الطيب للمحرم لما فيهما من دواعى النساء، وتحريك اللذة والله الموفق. آخر كتاب العلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 بسم الله الرحمن الرحيم 4 - كِتَاب الْوُضُوءِ - باب مَا جَاءَ فِي الْوُضُوءِ وَقَوْلِ اللَّهِ: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة: 6] . قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَبَيَّنَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَنَّ فَرْضَ الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً، وَتَوَضَّأَ أَيْضًا مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَثَلاثًا وَثَلاثًا، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلاثٍ، وَكَرِهَ أَهْلُ الْعِلْمِ الإسْرَافَ فِيهِ، وَأَنْ يُجَاوِزُوا فِعْلَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . قال المؤلف: قال الطحاوى وغيره: اختلف أهل العلم فى القيام المذكور فى هذه الآية، فقال بعضهم: كل قائم إلى صلاة مكتوبة فقد وجب عليه الوضوء قبل قيامه إليها، قالوا: وهذا كقوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [النحل: 98] ، أى إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله. ورووا ذلك عن على بن أبى طالب منقطعًا. وروى شعبة، عن مسعود بن على، أن على بن أبى طالب، كان يتوضأ لكل صلاة ويتلو: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ) [المائدة: 6] الآية. وممن كان يتوضأ لكل صلاة وإن كان طاهرًا: ابن عمر، وعبيد بن عمير، وعكرمة، وابن سيرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وقال جمهور أهل العلم: ليس على من أراد القيام إلى صلاة مكتوبةٍ أن يتوضأ، إلا أن يكون محدثًا فيتوضأ لحدثه، لأنه إذا كان متوضئًا للصلاة فلا معنى لتوضئه وضوءًا لا يخرجه من حدث إلى طهارة. وممن روى عنه الجمع بين صلوات بوضوء واحد: سعد بن أبى وقاص، وأبو موسى الأشعرى، وأنس بن مالك، وابن عباس. إلا أن بعض قائلى هذه المقالة قالوا: إن الوضوء لكل صلاة نسخ بما رواه الثورى عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم فتح مكة خمس صلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: ما هذا يا رسول الله؟ فقال: تمت عمدًا صنعته يا عمر -. وبما روى ابن وهب، عن ابن جريج، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، أن امرأة من الأنصار دعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى شاة مصلية، ومعه أصحابه، فصلى الظهر والعصر بوضوء واحد. وقال أكثر أهل هذه المقالة: إن جَمْع الرسول (صلى الله عليه وسلم) الصلوات بوضوء واحد يوم الفتح، وعند المرأة التى دعته للشاة المصلية، لم يكن ناسخًا لما تقدم من وضوئه (صلى الله عليه وسلم) لكل صلاة، وإنما بيَّن بفعله يوم الفتح أن وضوءه لكل صلاة كان من باب الفضل والازدياد فى الأجر، فمن اقتدى به فى ذلك فله فيه الأسوة الحسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 قالوا: ومما يدل على صحة ذلك ما رواه ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زياد، عن أبى عطية الهذلى، قال: صليت مع ابن عمر الظهر والعصر والمغرب، فتوضأ لكل صلاة، فقلت له: ما هذا؟ فقال: ليست بسنةٍ ولكنى سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: تمت من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات -. فبان بما ثبت عنه (صلى الله عليه وسلم) من سنته أن الوضوء لا يجب إلى القيام للصلوات إلا عن الأحداث الموجبة للطهارة، وهذا قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، وأصحابه، والأوزاعى، والشافعى، وعامة فقهاء الأمصار، ومن بعدهم إلى وقتنا هذا. وقوله: تمت وبين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن فرض الوضوء مرةً مرةً -، وذلك أنه صلى به فَعُلِمَ أنه الفرض، إذ لا ينقص (صلى الله عليه وسلم) من فرضه، وهو المُبَيِّن عن الله لأمته دينهم. ووضوءه (صلى الله عليه وسلم) مرتين وثلاثًا هو من باب الرفق بأمته والتوسعة عليهم ليكون لمن قصر فى المرة الواحدة عن عموم غسل أعضاء الوضوء أن يستدرك ذلك فى المرة الثانية والثالثة، ومن أكمل أعضاءه فى المرة الواحدة فهو مخير فى الاقتصار عليها أو الزيادة على المرة الواحدة. وكان تنويع وضوئه (صلى الله عليه وسلم) من باب التخيير، كما ورد التخيير فى كفارات الأَيْمَان بالله، وعقوبة المحاربين. وقال أبو الحسن بن القصار: نسق الأعضاء فى الآية بالواو بعضها على بعض دليل أن الرتبة غير واجبة فى الوضوء، لأن حقيقة الواو فى لسان العرب الجمع والاشتراك دون التعقيب، والتقديم، والتأخير، هذا قول سيبويه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 واختلف العلماء فى ذلك. فروى عن على، وابن مسعود، وابن عباس، أنهم قالوا: لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك فى الوضوء، وهذا قول عطاء، وسعيد بن المسيب، والنخعى، وإليه ذهب مالك، والليث، والثورى، وسائر الكوفيين، والأوزاعى، والمزنى. وقال الشافعى، وأحمد وإسحاق، وأبو ثور: لا يجزئه الوضوء غير مرتب حتى يغسل كلا فى موضعه، واحتجوا بأن الواو قد تكون للترتيب كقوله تعالى: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) [الحج: 77] ، وقوله: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ) [البقرة: 58] ، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت نبدأ بما بدأ الله به -. فأجابهم أهل المقالة الأولى فقالوا: إنا لا ننكر إذا صحب الواو بيان يدل على التقدمة أنها تصير إليه بدلالته، وإلا فالظاهر أن موضعها للجمع، ولو كانت الواو توجب رتبة لما احتاج (صلى الله عليه وسلم) إلى تبيين الابتداء بالصفا، وإنما بيَّن ذلك إعلامًا لمراد الله من الواو فى ذلك الموضع، وليس وضوءه (صلى الله عليه وسلم) على نسق الآية أبدًا بيانًا لمراد الله من آية الوضوء كبيانه لركعات الصلوات، لأن آية الوضوء بينة مستغنية عن البيان، والصلوات مختلفة مفتقرة إليه، ومما جاء فى القرآن مما لا توجب الواو فيه النسق قوله تعالى: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] ، فبدأ بالحج قبل العمرة، وجائز عند الجميع أن يعتمر الرجل قبل الحج، وكذلك قوله: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ) [البقرة: 110] جائز لمن وجب عليه إخراج زكاة فى حين صلاة أن يبدأ بالزكاة، ثم يصلى الصلاة فى وقتها عند الجميع، وكذلك قوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 فى قتل الخطأ: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) [النساء: 92] لا يختلف العلماء أن من وجب عليه إعطاء الدية، وتحرير الرقبة أن يعطى الدية قبل تحرير الرقبة، ومثله كثير فى القرآن وكلام العرب، لو قال: أعط زيدًا وعمرًا دينارًا تبادر الفهم من ذلك: الجمع بينهما فى العطاء، ولم يفهم منه تقديم أحدهما على الآخر فى العطاء. - باب لا تُقْبَلُ صَلاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ / 1 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا تُقْبَلُ صَلاةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ -. قَالَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ: مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: فُسَاءٌ أَوْ ضُرَاطٌ. أجمعت الأمة على أنه لا تجزئ صلاة إلا بطهارة، على ما جاء فى الحديث. وأما قول أبى هريرة: تمت الحدث فُساءٌ أو ضُرَاطٌ -، فإنما اقتصر على بعض الأحداث، لأنه أجاب سائلاً سأله عن المصلى يحدث فى صلاته، فخرج جوابه على ما يسبق المصلى من الإحداث فى صلاته، لأن البول، والغائط، والملامسة غير معهودة فى الصلاة، وهو نحو قوله للمصلى إذْ أمره باستصحاب اليقين فى طهارته، أى لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا، ولم يقصد به إلى تعيين الأحداث وتعدادها، والأحداث التى أجمع العلماء على أنها تنقض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الوضوء سوى ما ذكره أبو هريرة: البول، والغائط، والمذى، والودى، والمباشرة، وزوال العقل بأى حال زال، والنوم الكثير. والأحداث التى اختُلف فى وجوب الوضوء منها: القُبْلَة، والجَسَّة، ومس الذكر، والرعاف، ودم الفصد، وما يخرج من السبيلين نادرًا غير معتاد مثل سلس البول، والمذى، ودم الاستحاضة، والدود يخرج من الدبر وليس عليه أذى. فممن أوجب الوضوء فى القُبلة: ابن عمر، وهو قول مكحول، وربيعة، والأوزاعى، والشافعى. وذهب مالك إلى أنه إن قبلها بالشهوة انتقض وضوءه وهو قول الثورى، وأحمد، وإسحاق. وشرط أبو حنيفة، وأبو يوسف فى القبلة للشهوة الانتشار، وكذلك ينتقض عنده الوضوء، فإن قَبَّل لشهوة ولم ينتشر فلا وضوء عليه. وقال محمد بن الحسن: لا وضوء عليه فى القبلة، وإن انتشر حتى يمذى. وقال ابن عباس، وعطاء، وطاوس، والحسن: لا وضوء عليه فى القبلة. فأمَّا مَسُّ المرأة، فقال مالك، والثورى: إن مسَّها لشهوة انتقض وضوءه. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: لابد مع الشهوة من الانتشار، وإلا فلا وضوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وقال محمد بن الحسن: لابد أن يمذى مع الانتشار. وقال الشافعى: ينتقض وضوءه بكل حال، وبمسها بكل عضوٍ من أعضائه إذا كان بغير حائل. وأما مس الذكر، فقال مالك فى المدونة: إذا مسه لشهوة من فوق ثوب، أو تحته، بيده أو بسائر أعضائه انتقض وضوءه. وفى العتبية: قيل لمالك: إن مس ذكره على غلالة خفيفة؟ قال: لا وضوء عليه. ومن سماع أبى زيد: سئل مالك عن الوضوء من مسِّ الذكر، فقال: حسن وليس بسنة، وقال مرة أخرى: أحب إلىَّ أن يتوضأ. وذهب الثورى وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا ينتقض وضوءه على أى حال مسه. وذهب الليث، والأوزاعى، والشافعى إلى أنه إن مسه بباطن يده من غير حائل ففيه الوضوء وإن مسه لغير شهوة، وبه قال إسحاق، وأبو ثور. وأما الأحداث المختلف فيها، فسيأتى مذاهب العلماء فيها فى مواضعها، إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 3 - باب فَضْلِ الْوُضُوءِ وَالْغُرُّ الْمُحَجَّلينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ / 2 - فيه: نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ، قَالَ: رَقِيتُ مَعَ أَبِى هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ، فَتَوَضَّأَ، ثم قَالَ: إِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَقُولُ: تمت إِنَّ أُمَّتِى يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ، فَلْيَفْعَلْ -. قال أبو محمد الأصيلى: هذا الحديث يدل أن هذه الأمة مخصوصة بالوضوء من بين سائر الأمم. قال غيره: وإذا تقرر هذا بطل ما روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) : أنه توضأ ثلاثًا ثلاثًا، فقال: تمت هذا وضوئى ووضوء الأنبياء قبلى -، وهو حديث لا يصح سنده، ومداره على زيد العمى، عن معاوية بن قرة، عن ابن عمر، وزيد ضعيف. وقوله: تمت فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل -، تأوله أبو هريرة على الزيادة على حد الوضوء، فكان يتوضأ إلى نصف ساقيه، وإلى منكبيه، ويقول: إنى أحب أن أطيل غرتى، وربما قال: هذا موضع الحلية. وهذا شىء لم يتابع عليه أبو هريرة، والمسلمون مجمعون على أنه لا يتعدى بالوضوء ما حد الله ورسوله، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وهو أبدر الناس إلى الفضائل، وأرغبهم فيها، لم يجاوز قط موضع الوضوء فيما بلغنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ويُحتج على أبى هريرة بقوله تعالى: (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطلاق: 1] . وروى سفيان، عن موسى بن أبى عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رجلاً سأل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، عن الوضوء، فدعا بماء فتوضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: تمت هكذا الطهور، فمن زاد على هذا فقد تعدَّى وظلم -. ويحمل قوله: تمت فمن استطاع منكم أن يطيل غرته -، يعنى يديمها، فالطول والدوام بمعنى متقارب، أى من استطاع أن يواظب على الوضوء لكل صلاة فإنه يطيل غرته، أى يقوِّى نوره، ويتضاعف بهاؤه، فَكَنَّى بالغرة عن نور الوجه يوم القيامة. وقال أبو الزناد: قوله: تمت فمن استطاع منكم أن يطيل غرته - فإنه كنى بالغرة عن الحجلة، لأن أبا هريرة كان يتوضأ إلى نصف ساقيه، والوجه فلا سبيل إلى الزيادة فى غسله، فكأنه، والله أعلم، أراد الحجلة فكنى بالغرة عنها. وفيه: جواز الوضوء على ظهر المسجد، وهو من باب الوضوء فى المسجد، وقد كرهه قوم وأجازه الأكثر، وإنما ذلك تنزيه للمسجد، كما ينزه عن البصاق والنخامة، وحرمة أعلى المسجد، كحرمة داخله، وممن أجاز الوضوء فى المسجد: ابن عباس، وابن عمر، وعطاء، والنخعى، وطاوس، وهو قول ابن القاسم صاحب مالك، وأكثر العلماء. وكرهه ابن سيرين، وهو قول مالك، وسحنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وقال ابن المنذر: إذا توضأ فى مكان من المسجد يبلّه ويتأذى به الناس فإنى أكرهه، وإن فحص عن الحصى ورده عليه، فإنى لا أكرهه، وكذلك كان يفعل عطاء وطاوس. 4 - باب مَنْ لا يَتَوَضَّأُ مِنَ الشَّكِّ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ (1) / 3 - فيه: عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ عبد اللَّه بنِ زيد، أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الرَّجُلُ الَّذِى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّىْءَ فِى الصَّلاةِ، فَقَالَ: تمت لا تَنْفَتِلْ - أَوْ لا تَنْصَرِفْ - حَتَّى تَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ تَجِدَ رِيحًا -. على هذا جماعة من العلماء: أن الشك لا يزيل اليقين، ولا حكم له، وأنه ملغى مع اليقين، وقد اختلفوا فى ذلك، فروى ابن القاسم، عن مالك، أن من شك فى الحدث بعد تيقن الطهارة فعليه الوضوء. وروى عنه ابن وهب أنه قال: أحب إلىَّ أن يتوضأ. وروى ابن نافع، عن مالك أنه لا وضوء عليه. وقال الثورى، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعى: يبنى على يقينه، هو على وضوء بيقين، قالوا: وكذلك يبنى على الأصل حدثًا كان أو طهارة، وحجتهم قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا تنصرف حتى تسمع صوتًا، أو تجد ريحًا -، ولم يفرق بين أول مرة أو بين ما يعتاده من ذلك. قالوا: والأصول مبينة على اليقين، كقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إذا شك أحدكم فى صلاته فلم يدر أصلى ثلاثًا، أو أربعًا، فليبن على يقينه -، وكذلك لو شك هل طلق أم لا؟ لم يلزمه الطلاق، لأنه على يقين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 نكاحه، وهكذا لو شك هل أصاب ثوبه أو بدنه نجاسة أم لا؟ فإنه يبنى على يقين طهارته. والحجة لرواية ابن القاسم، عن مالك أنه قال: قد تعبدنا بأداء الصلاة بيقين الطهارة، فإذا طرأ الشك عليها فقد أبطلها، كالمتطهر إذا نام مضطجعًا، فإن الطهارة واجبة عليه بإجماع، وليس النوم فى نفسه حدثًا، وإنما هو من أسباب الحدث الذى ربما كان، وربما لم يكن، وكذلك إذا شك فى الحدث، فقد زال عنه يقين الطهارة. وقال المهلب: لا حجة للكوفيين فى حديث عبد الله بن زيد هذا، لأن الحديث إنما ورد فى المستنكح الذى يشك فى الحدث كثيرًا، ومن استنكحه ذلك فلا وضوء عليه عند مالك وغيره، والدليل على ذلك قوله فيه: تمت شكا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) - والشكوى لا تكون إلا من علة، ويؤيد هذا قوله: تمت إنه يخيل إلىَّ -، لأن التخييل لا يكون حقيقة، وقد بين ذلك حماد بن سلمة فى حديث عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت إذا كان أحدكم فى الصلاة فوجد حركة فى دبره فأَشكل عليه، فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا -. قال أحمد بن خالد: هذا حديث جيد ذكر القصة كيف هى، إنما هى فى الشك، لأن غيره اختصره، فقال: لا وضوء إلا أن يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا، وإنما هذا إذا شك وهو فى الصلاة كما قال هاهنا، لأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 من الشيطان. ومما يدل على ذلك أيضًا ما رواه حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبى سعيد الخدرى، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت إن الشيطان يأتى أحدكم فى صلاته، فيأخذ شعرة من دبره فيرى أنه قد أحدث فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا -. وقد قال بعض أهل العلم: إن قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا - معارض لقوله، (صلى الله عليه وسلم) : تمت من شك فى صلاته فلم يدر أصلى ثلاثًا، أم أربعًا، فليأت بركعة -، لأنه حين أمره أن لا ينصرف من صلاته حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا، فقد أمره بالحكم لليقين وإلغاء الشك، وفى حديث الشك فى الصلاة أمره بالحكم للشك وإلغاء اليقين حين أمره بالإتيان بركعة. وليس كما ظنه بل الحديثان متفقان فى إلغاء الشك والحكم لليقين، وذلك أنه أمر الذى يخيل إليه أنه يجد الشىء فى الصلاة أن لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا، لأنه كان على يقين من الوضوء فأمره (صلى الله عليه وسلم) بإطراح الشك، وأن لا يترك يقينه إلا بيقين آخر، وهو سماع الصوت، أو وجود الريح، والذى يشك فى صلاته فلا يدرى أثلاثًا صلى، أو أربعًا لم يكن على يقين من الركعة الرابعة، كما كان فى الحديث الآخر على يقين من الوضوء، بل كان على يقين من ثلاث ركعات شاكًا فى الرابعة، فوجب أن يترك شكه فى الرابعة، ويرجع إلى يقين من الإتيان بها، فصار حديث الشك فى الصلاة مطابقًا لحديث الشك فى الحدث، مشبهًا له فى أن اليقين يقدح فى الشك، ولا يقدح الشك فى اليقين، والحمد لله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 5 - باب التَّخْفِيفِ فِى الْوُضُوءِ / 4 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، بِتُّ عِنْدَ خَالَتِى مَيْمُونَةَ لَيْلَةً، فَقَامَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ فِى بَعْضِ اللَّيْلِ، قَامَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّقٍ وُضُوءًا خَفِيفًا - يُخَفِّفُهُ عَمْرٌو وَيُقَلِّلُهُ - وَقَامَ يُصَلِّى، فَتَوَضَّأْتُ نَحْوًا مِمَّا تَوَضَّأَ، ثُمَّ جِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ - وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: عَنْ شِمَالِهِ - فَحَوَّلَنِى، فَجَعَلَنِى عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ، فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ أَتَاهُ الْمُنَادِى، فَآذَنَهُ بِالصَّلاةِ، فَقَامَ مَعَهُ إِلَى الصَّلاةِ، فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. قُلْنَا لِعَمْرٍو: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) تَنَامُ عَيْنُهُ، وَلا يَنَامُ قَلْبُهُ، قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: رُؤْيَا الأنْبِيَاءِ وَحْىٌ، ثُمَّ قَرَأَ: (إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ) [الصافات: 102] . قال المهلب: قوله: تمت وضوءًا خفيفًا - يريد تمام غسل الأعضاء دون التكثر من إمرار اليد عليها، وهو مرة سابغة، وهو أدنى ما تجزئ به الصلاة، وإنما خففه المحدِّث لعلمه بأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يتوضأ ثلاثًا ثلاثًا للفضل، والواحدة بالإضافة إلى الثلاث تخفيف. وقد ذكر البخارى هذا الحديث فى كتاب التفسير وبينه، فقال: تمت فقام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه -، وذكره فى كتاب الدعاء، وقال: تمت فتوضأ وضوءًا بين وضوئين لم يكثر وقد أبلغ -. فهذا كله يفسر قوله: تمت وضوءًا خفيفًا - أنه وضوء تجوز به الصلاة. وقوله: تمت فنام حتى نفخ، ثم صلى - هو مما خص به (صلى الله عليه وسلم) من أنه تنام عينه، ولا ينام قلبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وفيه: دليل على أن من نام من سائر البشر حتى نفخ لا يصلى حتى يتوضأ، والنوم إنما يجب منه الوضوء إذا خامر القلب وغلب عليه، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا ينام قلبه، فلذلك لم يتوضأ. وفيه: أنه توضأ بعد نوم نامه، ثم نومًا آخر، ولم يتوضأ، فدل ذلك على اختلاف أحواله فى النوم، فمرة يستثقل نومًا، ولا يعلم حاله، ومرةً يعلم حاله من حدث وغيره. وفيه: جواز العمل الخفيف فى الصلاة. وفيه: رد على أبى حنيفة فى قوله: إن الإمام إذا صلى مع رجل واحد إنه يقوم خلفه لا عن يمينه، وهذا مخالف لفعل النبى (صلى الله عليه وسلم) . 6 - باب إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الإِسْبَاغُ الإنْقَاءُ . / 5 - فيه: أُسَامَةَ، قَالَ: دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشِّعْبِ نَزَلَ فَبَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ، فَقُلْتُ: الصَّلاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: تمت الصَّلاةُ أَمَامَكَ -، فَرَكِبَ، فَلَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ، نَزَلَ فَتَوَضَّأَ، فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِى مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الْعِشَاءُ، فَصَلَّى، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا. قال المهلب: قوله: تمت فتوضأ ولم يسبغ الوضوء -، يريد توضأ مرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 سابغة، وقد رواه إبراهيم ابن عقبة، عن كريب، قال: تمت فتوضأ وضوءًا ليس بالبالغ -، وإنما فعل ذلك، والله أعلم، لأنه أعجله دفعه الحاج إلى المزدلفة، فأراد أن يتوضأ وضوءًا يرفع به الحدث، لأنه كان (صلى الله عليه وسلم) لا يبقى بغير طهارة، ذكره مسلم فى الحديث، وقد جاء فى باب الرجل يوضئ صاحبه هذا الحديث مبينًا. قال أسامة: تمت إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عدل إلى الشعب يقضى حاجته، فجعلت أصب عليه ويتوضأ -، ولا يجوز أن يصب عليه إلا وضوء الصلاة لا وضوء الاستنجاء كما زعم من فسر قوله: تمت ولم يسبغ الوضوء - أنه استنجى فقط، وهذا لا يجوز على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، لأنه كان لا يقرب منه أحدٌ، وهو على حاجته، والدليل على صحة ما تأولناه قول أسامة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين صب عليه الماء: تمت الصلاة يا رسول الله -، لأنه محال أن يقول له: الصلاة، ولم يتوضأ وضوء الصلاة. وقوله: تمت الصلاة أمامك -، أى سنة الصلاة لمن دفع عن عرفة أن يصلى المغرب والعشاء بالمزدلفة، وإن تأخر الأمر عن العادة، ولم يعلم أسامة أن سنة الصلاة بالمزدلفة، إذ كان ذلك فى حجة الوداع، وهى أول سنة سنها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة، فلما أتى المزدلفة أسبغ الوضوء أخذًا بالأفضل والأكمل على عادته فى سائر الأيام. وقال أبو الزناد: توضأ ولم يسبغ لذكر الله تعالى، لأنهم يكثرون ذكر الله عند الدفع من عرفة. وقال غيره: وقوله: تمت الصلاة يا رسول الله - فيه من الفقه أن الأدون قد يُذَكِّر الأعلى، وإنما خشى أسامة أن ينسى الصلاة لما كان فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 من الشغل، فأجابه (صلى الله عليه وسلم) : أن للصلاة تلك الليلة موضعًا لا يتعدى إلا من ضرورة، مع أن ذلك كان فى سفر، ومن سنته (صلى الله عليه وسلم) أن يجمع بين صلاتى ليله، وصلاتى نهاره فى وقت إحداهما، ولم يختلف العلماء أن الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة سنة مؤكدة لمن دفع مع الإمام أو بعده. قال المهلب: وفيه اشتراك وقت صلاة المغرب والعشاء، وأن وقتهما واحد. وقوله: تمت صلى المغرب والعشاء ولم يصل بينهما - فيه حجة لمن لا ينتفل فى السفر، وكذلك قال ابن عمر: لو تنفلت لأتممت، يعنى فى السفر. وقال غيره: ليس فى ترك التنفل بين الصلاتين فى وقت جمعهما ما يدل على ترك النافلة فى السفر، لأنه إذا جمع بينهما فلا مدخل للنافلة هناك، لأن الوقت بينهما لا يتسع لذلك، ألا ترى أن من أهل العلم من يقول: لا يحطون رواحلهم تلك الليل حتى يجمعوا؟ ومنهم من يقول: يصلون الأولى، ثم يحطون رواحلهم، مع ما فى ترك الرواحل بأوقارها مما نهى عنه من تعذيبها؟ . وأما ترك التنفل فى السفر، فإن ابن عمر لم يتابع على قوله فى ذلك، والفقهاء متفقون على اختيار التنفل فى السفر، وقد تنفل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) راجلاً وراكبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 7 - باب التَّسْمِيَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَعِنْدَ الْوِقَاعِ / 6 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) : تمت لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَقُضِىَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرُّهُ -. هذا الحديث مطابق لقوله تعالى، حاكيًا عن مريم: (وِإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [آل عمران: 36] . وفى هذا الحديث حث وندب على ذكر الله فى كل وقت على حال طهارة وغيرها، ورد قول من أنكر ذلك، وهو قول يروى عن ابن عمر أنه كان لا يذكر الله إلا وهو طاهر، وروى مثله عن أبى العالية والحسن. وروى عن ابن عباس، أنه كره أن يذكر الله على حالتين: على الخلاء، والرجل يواقع أهله. وهو قول عطاء ومجاهد، قال مجاهد: يجتنب الملك الإنسان عند جماعه، وعند غائطه، وهذا الحديث خلاف قولهم. وفيه: أن التسمية عند ابتداء كل عمل مستحبة، تبركًا بها واستشعارًا أن الله سبحانه هو الميسر لذلك العمل، والمعين عليه. وكذلك استحب مالك وعامة أئمة الفتوى التسمية عند الوضوء. وذهب بعض من زعم أنه من أهل العلم إلى أن التسمية فرض فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 الوضوء، وحجة الجماعة قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) [المائدة: 6] الآية، ولم يذكر تسمية، فلا توجب غير ما أوجبته الآية إلا بدليل. فإن قيل: فقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، أنه قال: تمت لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه -. قيل: قد قال أحمد بن حنبل: لا يصح فى ذلك حديث، ولو صح لكان معناه لا وضوء كاملاً كما قال: تمت لا صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد -. وتمت لا إيمان لمن لا أمانة له -. وهذا الذى أوجب التسمية عند الوضوء لا يوجبها عند غسل الجنابة والحيض، وهذا مناقض لإجماع العلماء أن من اغتسل من الجنابة، ولم يتوضأ وصلى أن صلاته تامة. 8 - باب غَسْلِ الْوَجْهِ بِالْيَدَيْنِ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ / 7 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، تمت أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ، أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَتَمَضْمَضَ منهَا وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَجَعَلَ بِهَا هَكَذَا، أَضَافَهَا إِلَى يَدِهِ الأخْرَى، فَغَسَلَ بِهِمَا وَجْهَهُ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ. . .، وذكر الحديث. فيه: الوضوء مرة مرة. وفيه: أن الماء المستعمل فى الوضوء طاهر مطهر، وهو قول مالك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 والثورى، والحجة لذلك أن الأعضاء كلها إذا غسلت مرة مرة، فإن الماء إذا لاقى أول جزء من أجزاء العضو فقد صار مستعملاً، ثم يمر به على كل جزء بعده، وهو مستعمل فيجزئه، فلو كان الوضوء بالماء المستعمل لا يجوز لم يجز الوضوء مرةً مرةً، ولما أجمعوا أنه جائز استعماله فى العضو الواحد كان فى سائر الأعضاء كذلك، وسنذكر اختلاف العلماء فى هذه المسألة فى بابها بعد هذا، إن شاء الله. 9 - باب مَا يَقُولُ عِنْدَ الْخَلاءِ / 8 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا دَخَلَ الْخَلاءَ، قَالَ: تمت اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ -. ورواه غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، وَقَالَ: تمت إِذَا أَتَى الْخَلاءَ -. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ: عَنْ عَبْدُالْعَزِيزِ: تمت إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلاءَ -. قال المؤلف: فيه جواز ذكر الله على الخلاء، وهذا مما اختلفت فيه الآثار فروى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) : تمت أنه أقبل من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد (صلى الله عليه وسلم) حتى تيمم بالجدار -. واختلف فى ذلك أيضًا العلماء، فروى عن ابن عباس، أنه كره أن يذكر الله عند الخلاء، وهو قول عطاء، ومجاهد، والشعبى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وعكرمة، وقال عكرمة: لا يذكر الله فى الخلاء بلسانه، ولكن بقلبه. وأجاز ذلك جماعة من العلماء، وروى ابن وهب أن عبد الله بن عمرو بن العاص، كان يذكر الله فى المرحاض. وقال العرزمى: قلت للشعبى: أعطسُ وأنا فى الخلاء، أحمد الله؟ قال: لا، حتى تخرج، فأتيت النخعى فسألته عن ذلك، فقال لى: أحمد الله، فأخبرته بقول الشعبى، فقال النخعى: الحمد يصعد ولا يهبط. وهو قول ابن سيرين، ومالك بن أنس، وهذا الحديث حجة لمن أجاز ذلك. وذكر البخارى فى كتاب تمت خلق أفعال العباد -: قال عطاء فى الخاتم فيه ذكر الله: لا بأس أن يدخل به الإنسان الكنيف، أو يلم بأهله، وهو فى يده لا بأس به. وهو قول الحسن. وذكر وكيع، عن سعيد بن المسيب مثله. قال البخارى: وقال طاوس فى المنطقة تكون على الرجل تكون فيها الدراهم يقضى حاجته: لا بأس بذلك. وقال إبراهيم: لابد للناس من نفقاتهم. وأحب بعض التابعين ألا يدخل الخلاء بالخاتم فيه ذكر الله. قال البخارى: وهذا من غير تحريم يصح. وذكر وكيع عن سعيد بن المسيب مثل قول عطاء. وأما اختلاف ألفاظ الرواة فى قوله: تمت إذا دخل -، وتمت إذا أراد أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 يدخل -، فالمعنى فيه متقارب، ألا ترى قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [النحل: 98] ، والمراد إذا أردت أن تقرأ؟ غير أن الاستعاذة بالله متصلة بالقراءة، لا زمان بينهما، وكذلك الاستعاذة بالله من الخبث والخبائث لمن أراد دخول الخلاء متصلة بالدخول، فلا يمنع من إتمامها فى الخلاء، مع أن من روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه كان يقول ذلك إذا أتى الخلاء أولى من رواية من روى إذا أراد أن يدخل الخلاء، لأنها زيادة، والأخذ بالزيادة أولى. وأما حديث بئر جمل فإنما هو على الاختيار، والأخذ بالفضل، لأنه ليس من شرط رد السلام أن يكون على وضوء، قاله الطحاوى. وقال الطبرى: وأما حديث بئر جمل وشبهه، فإن ذلك كان منه (صلى الله عليه وسلم) على وجه التأديب للمُسَلِّم عليه ألا يُسَلِّم بعضهم على بعض على حال كونهم على الحدث، وذلك نظير نهيه وهم كذلك أن يحدث بعضهم بعضًا بقوله: تمت لا يتحدث المتغوطان على طوفهما، فإن الله يمقتهما -. وروى أبو عبيدة الباجى، عن الحسن، عن البراء، أنه سلم على الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو يتوضأ، فلم يرد عليه شيئًا حتى فرغ. وفسر أبو عبيد تمت الخبث والخبائث -، فقال: الخبث يعم الشر، والخبائث الشياطين. وقال أبو سليمان الخطابى: أصحاب الحديث يروونه: الخُبْث، ساكنة الباء، وإنما هو الخُبُث، مضموم الباء، جمع خبائث، والخبائث جمع خبيثة، استعاذ بالله من مردة الجن ذكورهم وإناثهم، فأما الخُبْث، ساكن الباء، فهو مصدر خَبُثَ الشىء يخبثُ خبثًا، وقد جعل اسمًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 قال ابن الأعرابى: وأصل الخبث فى كلام العرب المكروه، فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من المِلَلْ فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار. وقال الحسن: تمت إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا دخل أحدكم فليقل: اللهم إنى أعوذ بك من الرجس، والنجس، الخبيث، المخبث، الشيطان الرجيم -. وقال الحسن البصرى: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إذا خرج أحدكم من الغائط، فليقل: الحمد الله الذى عافانى، وأذهب عنى الأذى -. وقوله: تمت طوفهما -، يعنى حاجتهما. - باب وَضْعِ الْمَاءِ عِنْدَ الْخَلاءِ / 9 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، دَخَلَ الْخَلاءَ فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا، فَقَالَ: تمت مَنْ وَضَعَ هَذَا -؟ فَأُخْبِرَ، فَقَالَ: تمت اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِى الدِّينِ -. قال المؤلف: معلوم أن وضع الماء عند الخلاء إنما هو للاستنجاء به عند الحدث. وفيه: رد قول من أنكر الاستنجاء بالماء، وقال: إنما ذلك وضوء النساء، وقال: إنما كانوا يتمسحون بالحجارة. وقال المهلب: فيه: خدمة العالم. قال أبو الزناد: دعا له النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أن يفقهه الله فى الدين، سرورًا منه بانتباهه إلى وضع الماء، وهو من أمور الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وفيه: المكافأة بالدعاء لمن كان منه إحسان، أو عون، أو معروف. - باب لا تُسْتَقْبَلُ الْقِبْلَةُ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ إِلا عِنْدَ الْبِنَاءِ، جِدَارًا أَوْ نَحْوِهِ / 10 - فيه: أَبُو أَيُّوبَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ، فَلا يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ، وَلا يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ، شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا -. أما قوله فى الترجمة: تمت إلا عند البناء - فليس مأخوذًا من الحديث، ولكنه لما علم فى حديث ابن عمر استثناء البيوت، بوب فيه، لأن حديثه (صلى الله عليه وسلم) كله كأنه شىء واحد، وإن اختلفت طرقه، كما أن القرآن كله كالآية الواحدة وإن كثر. قال المهلب: إنما نهى عن استقبال القبلة، واستدبارها بالغائط والبول فى الصحارى، والله أعلم، من أجل من يصلى فيها من الملائكة، فيؤذيهم بظهور عورته مستقبلاً أو مستدبرًا، وأما فى البيوت والمبانى، وما يستتر فيه من الصحارى، وعمن فيها فليس ذلك عليه، ويحتمل أن يكون النهى عن ذلك، والله أعلم، إكرامًا للقبلة، وتنزيهًا لها، كما روى ابن جريج عن عطاء قال: يكره أن ينكشف الإنسان مستقبل القبلة يتخلى، أو يبول، أو يأتزر إلا أن يأتزر تحت ردائه أو قميصه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 - باب مَنْ تَبَرَّزَ عَلَى لَبِنَتَيْنِ / 11 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: إِذَا قَعَدْتَ عَلَى حَاجَتِكَ، فَلا تَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلا بَيْتَ الْمَقْدِسِ. فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَقَدِ ارْتَقَيْتُ يَوْمًا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلاً بَيْتَ الْمَقْدِسِ، بِحَاجَتِهِ، وَقَالَ: لَعَلَّكَ مِنِ الَّذِينَ يُصَلُّونَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ؟ فَقُلْتُ: لا أَدْرِى وَاللَّهِ. قال المؤلف: أما قول ابن عمر: تمت إن ناسًا يقولون: إذا قعدت لحاجتك فلا تستقبل القبلة، ولا بيت المقدس -، فرواه سعيد بن أبى مريم، قال: ثنا دواد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عمرو ابن يحيى المازنى، قال: ثنا أبو زيد مولى بنى ثعلبة، عن معقل بن أبى معقل الأسدى، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهى أن تستقبل القبلتان بغائط، أو بول. ولم يقل بهذا الحديث أحد من الفقهاء إلا النخعى، وابن سيرين، ومجاهد، فإنهم كرهوا أن يستقبل أحدٌ القبلتين أو يستدبرهما بغائط، أو بول، الكعبة وبيت المقدس. وهؤلاء غاب عنهم حديث ابن عمر، وهو يدل على أن النهى إنما أريد به الصحارى لا البيوت، ولم يرو أحد عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه فعل ذلك فى الصحارى، وإنما روى أنه فعله فى البيوت. وقال أحمد بن حنبل: حديث ابن عمر ناسخ للنهى عن استقبال بيت المقدس، واستدباره بالغائط والبول، والدليل على هذا ما روى مروان الأصفر، عن ابن عمر، أنه أناخ راحلته مستقبل بيت المقدس، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، أليس قد نهى عن هذا؟ قال: إنما نهى عن هذا فى الفضاء، وأما إذا كان بينك وبين القبلة شىء يسترك فلا بأس. وروى وكيع، وعبيد الله بن موسى، عن عيسى بن أبى عيسى الحناط، قال: قلت للشعبى: إن أبا هريرة يقول: لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها. وقال ابن عمر: كانت منى التفاتة فرأيت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى كنيفه مستقبل القبلة. فقال الشعبى: صدق ابن عمر، وصدق أبو هريرة، قول أبى هريرة فى البَرِّية، وقول ابن عمر فى الكنيف، وأما كنفكم هذه فلا قبلة لها. ودلت هذه الآثار على أن حديث أبى أيوب مخصص بحديث ابن عمر لا منسوخ به، وسيأتى اختلاف العلماء فى هذه الأحاديث فى أبواب القبلة فى كتاب الصلاة عند ذكر حديث أبى أيوب، إن شاء الله. وأما قوله: تمت إن ناسًا يقولون كذا -، ففيه دليل على أن الصحابة كانوا يختلفون فى معانى السنن، وكان كل واحد منهم يستعمل ما سمع على عمومه، فمن هاهنا وقع بينهم الاختلاف. وقال ابن القصار: إن قيل: كيف جاز لابن عمر أن ينظر إلى مقعد النبى (صلى الله عليه وسلم) ؟ فالجواب: أنه يجوز أن تكون كانت منه التفاتة فرآه، ولم يكن قاصدًا لذلك، فنقل ما رأى، وقصد ذلك لا يجوز كما لا يتعمد الشهود النظر إلى الزنا، ثم قد يجوز أن تقع أبصارهم عليه، ويجوز أن يتحملوا الشهادة بعد ذلك، وقد يجوز أن يكون ابن عمر قصد لذلك ورأى رأسه دون ما عدا ذلك من بدنه، ثم تأمل قعوده، فعرف كيف هو جالس ليستفيد فعله فنقل ما شاهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وقوله: تمت لعلك من الذين يُصَلُّون على أوراكهم - يعنى الذى يسجد ولا يرتفع عن الأرض لاصقًا بها. - باب خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْبَرَازِ / 12 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إِذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى الْمَنَاصِعِ - وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ - فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : احْجُبْ نِسَاءَكَ، فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَفْعَلُ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ زَوْجُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِى عِشَاءً، وَكَانَتِ امْرَأَةً طَوِيلَةً، فَنَادَاهَا عُمَرُ أَلا قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ، حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْحِجَابِ. / 13 - وفيه: عَائِشَةَ أنَّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت قَدْ أُذِنَ أَنْ تَخْرُجْنَ فِى حَاجَتِكُنَّ -. قَالَ هِشَامٌ: يَعْنِى الْبَرَازَ. قال المؤلف: البَراز، بفتح الباء، فى اللغة ما برز من الأرض واتسع، كنى به عن الحدث، كما كنى عن الغائط، والغائط المطمئن من الأرض. وقال المهلب: فيه مراجعة الأدون للأعلى فى الشىء يتبين للأدون. وفيه: فضل المراجعة إذا لم يقصد به التعنيت، وأنه قد تبين فيها من العلم ما يخفى، لأن نزول الآية كان سببه المراجعة. وفيه: فضل عمر، وهذه من إحدى الثلاث الذى وافق فيها ربه. وفيه: كلام الرجال مع النساء فى الطرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وفيه: جواز وعظ الرجل أمه فى البِرِّ، لأن سودة من أمهات المؤمنين. وفائدة هذا الباب أنه يجوز التصرف للنساء فيما بهن الحاجة إليه، لأن الله أذن لهن فى الخروج إلى البراز بعد نزول الحجاب، فلما جاز لهن ذلك جاز لهن الخروج إلى غيره من مصالحهن، أو صلة أرحامهن التى أوجبها الله عليهن، وقد أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) النساء بالخروج إلى العيدين. وفى قوله: تمت قد عرفناك يا سودة - دليل أنه قد يجوز الإغلاظ فى القول والعتاب إذا كان قصده الخير. قال عبد الواحد: فى قول عمر: تمت احجب نساءك - التزام النصحية لله ورسوله. - باب الاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ / 14 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَجِىءُ أَنَا وَغُلامٌ مَعَنَا إِدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ، يَعْنِى يَسْتَنْجِي بِهِ. قال المهلب: قال أبو محمد الأصيلى: الاستنجاء بالماء ليس بالبين فى هذا الحديث، لأن قوله: تمت يعنى يستنجى به -، ليس من قول أنس، وإنما هو من قول أبى الوليد الطيالسى. وقد رواه سليمان بن حرب، عن شعبة، وقال شعبة: تمت تبعته أنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وغلام، معنا إداوة من ماء -، ولم يذكر: فيستنجى به، فيحتمل أن يكون الماء لطهوره أو لوضوئه، فقال له أبو عبد الله بن أبى صفرة: قد تابع أبا الوليد النضرُ، وشاذان عن شعبة، وقالا: تمت يستنجى بالماء -، فقال: تواترت الآثار عن أبى هريرة، وأسامة وغيرهما من الصحابة على الحجارة. قال المؤلف: وقد اختلف السلف فى الاستنجاء بالماء فأما المهاجرون فكانوا يستنجون بالأحجار، وأنكر الاستنجاء بالماء سعد بن أبى وقاص، وحذيفة، وابن الزبير، وسعيد بن المسيب، وقال: إنما ذلك وضوء النساء. وكان الحسن لا يغسل بالماء، وقال عطاء: غسل الدبر محدث. وكان الأنصار يستنجون بالماء، وكان ابن عمر يرى الاستنجاء بالماء بعد أن لم يكن يراه، وهو مذهب رافع بن خديج، وروى ذلك عن حذيفة، وعن أنس أنه كان يستنجى بالخرص، واحتج الطحاوى للاستنجاء بالماء، فقال: قال الله تعالى: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222] ، فطلبنا تأويل ذلك، فوجدنا السلف قد تأولوا معنى الآية على قولين: فقال عطاء: إن الله يحب التوابين، يعنى من الذنوب، والمتطهرين بالماء، وروى عن على بن أبى طالب مثله. وعن أبى الجوزاء: ففى هذا أن الطهارة التى أحب الله أهلها عليها فى هذه الآية هى الطهارة بالماء. وقال أبو العالية: إن الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين من الذنوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 ولما اختلفوا فى التأويل طلبنا الوجه فيه من كتاب الله، فوجدنا الله قال: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة: 108] ، وقال الشعبى: لما نزلت هذه الآية، قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت يا أهل قباء، ما هذا الثناء الذى أثنى الله عليكم -؟ قالوا: ما منا أحد إلا وهو يستنجى بالماء. وروى سفيان، عن يونس بن خباب، عن عبد الرحمن بن أبى الزناد، عن عبد الله بن خباب، أن أهل قباء ذكروا للنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الاستنجاء بالماء، فقال: تمت إن الله قد أثنى عليكم فدوموا -. وقال محمد بن عبد الله بن سلام: أما تجدوه مكتوبًا علينا فى التوراة الاستنجاء بالماء -، فدل ذلك أن الطهارة المذكورة فى الآية الأولى هى هذه الطهارة. وقال غيره: روت معاذة، عن عائشة، قالت: مُرن أزواجكن أن يغسلوا أثر الغائط والبول والماء، فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يفعله. وروى مالك فى موطأه، عن عمر بن الخطاب، أنه كان يتوضأ بالماء وضوءًا لما تحت إزاره. قال مالك: يريد الاستنجاء بالماء، وترجم لحديث أنس باب من حمل معه الماء لطهوره، وباب حمل العَنَزَة مع الماء فى الاستنجاء. قال المهلب: معنى حمل العنزة، والله أعلم، أنه كان إذا استنجى توضأ، وإذا توضأ صلى، فكانت العنزة لسترته فى الصلاة. وفيه: أن خدمة العالم، وحمل ما يحتاج إليه من إناء وغيره، شرف للمتعلم، ومستحب له، ألا ترى قول أبى الدرداء: أليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 فيكم صاحب النعلين والطهور، والوسادة. يعنى عبد الله بن مسعود، فأراد بذلك الثناء عليه والمدح له، لخدمة النبى (صلى الله عليه وسلم) . - باب النَّهْىِ عَنِ الاسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ / 15 - فيه: ابن أَبِى قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلا يَتَنَفَّسْ فِى الإنَاءِ، وَإِذَا أَتَى الْخَلاءَ فَلا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَلا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ -. قال المؤلف: التنفس فى الإناء منهى عنه كما نُهى عن النفخ فى الإناء، وإنما السنة إراقة القذى من الإناء لا النفخ فيه، ولا التنفس، لئلا يتقذره جلساؤه. وقوله: تمت لا يمس ذكره بيمينه -، فهو فى معنى النهى عن الاستنجاء باليمين، لأن القبل والدبر عورة، وموضع الأذى، وهذا إذا كان فى الخلاء، وأما على الإطلاق على ما روى عن عثمان أنه قال: ما تغنيت، ولا تمنيت، ولا مسست ذكرى بيمينى مذ بايعت بها رسول الله، (صلى الله عليه وسلم) . فهذا على إكرام اليمين، وإجلا النبى (صلى الله عليه وسلم) فى مباشرته، وهذا كله عند الفقهاء نهى أدب. قال المهلب: وفيه: فضل الميامن، وقد قال على: يمينى لوجهى، يعنى للأكل وغيره، وشمالى لحاجتى، وقد نزع لهذا الكلام ابنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 الحسن حين امتخط بيمينه عند معاوية، فأنكر عليه معاوية، وقال: بشمالك. وأما الاستنجاء باليمين، فمذهب مالك، وأكثر الفقهاء أن من فعل ذلك فبئس ما فعل ولا شىء عليه. وقال بعض أصحاب الشافعى، وأهل الظاهر: لا يجزئه الاستنجاء بيمينه لمطابقة النهى. والصواب فى ذلك قول الجمهور، لأن النهى عن الاستنجاء باليمين من باب الأدب، كما أن النهى عن الأكل بالشمال من باب أدب الأكل، فمن أكل بشماله فقد عصى، ولا يحرم عليه طعامه بذلك، وكذلك من استنجى بيمينه، وأزل الغائط فقد خالف النهى، ولم يقدح ذلك فى وضوئه ولا صلاته، ولم يأت حرامًا. وترجم الحديث ابن أبى قتادة باب لا يمس ذكره بيمينه إذا بال، وهذا كله من باب الأدب، وتفضيل الميامن، ألا ترى قول عثمان: ولا مسست ذكرى بيمينى مذ بايعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فينبغى التأدب بأدب النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وسلف الصحابة، وتنزيه اليمنى عن استعمالها فى الأقذار ومواضعها. - باب الاسْتِنْجَاءِ بِالْحِجَارَةِ / 16 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: - اتَّبَعْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَكَانَ لا يَلْتَفِتُ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَقَالَ: تمت ابْغِنِى أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا، أَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 نَحْوَهُ، وَلا تَأْتِنِى بِعَظْمٍ وَلا رَوْثٍ -، فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ بِطَرَفِ ثِيَابِى، فَوَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ وَأَعْرَضْتُ عَنْهُ، فَلَمَّا قَضَى أَتْبَعَهُ بِهِنَّ. قال المؤلف: الاستنجاء هو إزالة النجو من المخرج بالأحجار أو بالماء، واختلف العلماء فى ذلك هل هو فرض أو سنة؟ فذهب مالك والكوفيون إلى أنه سنة لاينبغى تركها، فإن صلى كذلك فلا إعادة عليه، إلا أن مالكًا يستحب له الإعادة فى الوقت، وذهب الشافعى، وأحمد، وأبو ثور إلى أن الاستنجاء فرض، ولا تجزئ صلاة من صلى بغير استنجاء بالأحجار أو بالماء، واحتجوا بأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمر بالاستنجاء بثلاثة أحجار، فكل نجاسة قرنت فى الشرع بعدد، فإن إزالتها واجبة، كولوغ الكلب، وسيأتى الكلام على من أوجب العدد فى أحجار الاستنجاء فى الباب بعد هذا، إن شاء الله تعالى، فأما غسل الولوغ عند مالك وأصحابه فليس لنجاسة، وسيأتى بعد هذا، إن شاء الله تعالى. والحجة لقول مالك، والكوفيين أنه معلوم أن الحجر لا ينقى إنقاء الماء، فلما وجب أن يقتصر على الحجر فى ذلك مع بقاء أثر الغائط علم أن إزالة النجاسة سنة، وقد سئل ابن سيرين عن رجل صلى بغير استنجاء، فقال: لا أعلم به بأسًا. وقيل لسعيد بن جبير: إزالة النجاسة فرض؟ فقال: اتل علىَّ به قرآنًا. قال ابن القصار: فرأى أن الفرض لا يكون إلا بقرآن، وقد يكون ببيان الرسول (صلى الله عليه وسلم) لمجمل القرآن، فأما ما يبتدئه (صلى الله عليه وسلم) ، فليس بفرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 ومن الاستنجاء بالأحجار جعل أهل العراق أصلاً أن مقدار الدرهم من النجاسات فما دون، معفو عنه، قياسًا على دود الدبر، لأن الحجر لا يزيل أثر الغائط منه إزالة صحيحة. واختلفوا هل يجوز الاستنجاء بكل ما يقوم مقام الأحجار من الآجر والخزف، والتراب وقطع الخشب؟ . فأجاز مالك، وأبو حنيفة، والشافعى الاستنجاء بكل ما يقوم مقام الحجارة فى إزالة الأذى ما لم يكن مأكولاً أو نجسًا. وقال أهل الظاهر: لا يجوز الاستنجاء بغير الأحجار، قاله ابن القصار. وحجة الفقهاء أنه (صلى الله عليه وسلم) لما نهى عن العظم والروث دل أن ما عداهما بخلافهما، وإلا لم يكن لتخصيصهما بالنهى فائدة. فإن قيل: إنما نص عليهما تنبيهًا أن ما عداهما فى معناهما. قيل: هذا لا يجوز، لأن التنبيه إنما يفيد إذا كان فى المنبه عليه معنى المنبه له وزيادة. فأما أن يكون دونه فى المعنى فلا يفيد كقوله تعالى: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ) [الإسراء: 23] دخل فيه الضرب، لأن الضرب فيه أف، وأبلغ منه، ولو نص على الضرب لم يكن فيه التنبيه على المنع من أف، لأنه ليس فى أف معنى الضرب، وقد قال تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [آل عمران: 75] ، فعلم أن من أدى الأمانة فى القنطار كان أولى أن يؤديها فى الدينار، ومن لم يؤدها فى الدينار كان أولى ألا يؤديها فى القنطار، وكذلك ما عدا الروث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 والرَّمة من الطاهرات، لأنه ليس فى الطاهرات معنى الروث والرَّمة، فلم يقع التنبيه عليها، بل وقع على ما فى معناها من سائر النجاسات التى هى أعظم منها. - باب لا يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ / 17 - فيه: عَبْدَاللَّهِ يَقُولُ: أَتَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، الْغَائِطَ، فَأَمَرَنِى أَنْ آتِيَهُ بِثَلاثَةِ أَحْجَارٍ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ وَالْتَمَسْتُ الثَّالِثَ، فَلَمْ أَجِدْهُ فَأَخَذْتُ رَوْثَةً، فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ، وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: تمت هَذَا رِكْسٌ -. واختلف العلماء فى عدد الأحجار، فذهب مالك، وأبو حنيفة إلى أنه إن اقتصر على دون ثلاثة أحجار مع الإنقاء جاز. وقال الشافعى: لا يجوز الاقتصار على دون ثلاثة أحجار وإن أنقى. قال الطحاوى: وفى هذا الحديث دليل على أن عدد الأحجار ليس فرض، وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) ، قعد للغائط فى مكان ليس فيه أحجار، لقوله لعبد الله: تمت ناولنى ثلاثة أحجار -، ولو كان بحضرته من ذلك شىء لما احتاج أن يناوله من غير ذلك المكان، فلما أتاه عبد الله بحجرين وروثة فألقى الروثة، وأخذ الحجرين دل ذلك على أن الاستنجاء بهما يجزئ مما يجزئ منه الثلاثة، لأنه لو لم يجز إلا الثلاثة لما اكتفى بالحجرين، ولأمر عبد الله أن يبغيه ثالثًا. وقال ابن القصار: وقد روى فى بعض الآثار التى لا تصح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 أنه أتاه بثالث فأى الأمرين كان فالاستدلال لنا به صحيح، لأنه (صلى الله عليه وسلم) اقتصر للموضعين على ثلاثة أحجار، فحصل لكل واحد منهما أقل من ثلاثة، لأنه لم يقتصر على الاستنجاء لأحد الموضعين ويترك الآخر. قال: ويحتمل أن يكون أراد بذكر الثلاثة أن الغالب وجود الاستنقاء بها كما ذكر فى المستيقظ من النوم أن يغسل يده ثلاثًا قبل إدخالها الإناء على غير وجه الشرط، والدليل على أن الثلاثة ليست بحدّ أنه لو لم ينق بها لزاد عليها، فنستعمل الأخبار كلها فنحمل أخبارنا على جواز الاقتصار على الثلاثة إذا أنقت ولا يقتصر عليها إذا لم تنق، فعلم أن الفرض الإنقاء. ويجوز أن تحمل الثلاثة على الاستحسان، وإن أنقى بما دونها، لأن الاستنجاء مسح، والمسح فى الشرع لا يوجب التكرار، دليه مسح الرأس والخفين، وأيضًا فإنها نجاسة عفى عن أثرها، فوجب ألا يجب تكرار المسح فيها. وأيضًا فإن الحجر الواحد لو كان له ثلاثة أحرف قام مقام الثلاثة الأحجار فكذلك يقوم الحجر والحجران مقام الثلاثة إذا حصل بها قلع النجاسة. وقوله: تمت هذا ركس - يمكن أن يريد معنى الرجس، ولم أجد لأهل النحو شرح هذه الكلمة والرسول (صلى الله عليه وسلم) أعظم الأمة فى اللغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 - باب الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً / 18 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً. - باب الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ / 19 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ. - باب الْوُضُوءِ ثَلاثًا ثَلاثًا / 20 - فيه: عُثْمَانَ، أنّه تَوَضَّأَ ثَلاثًا ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِى هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ -. وَقَالَ مرةٌ: لأُحَدِّثَنكُمْ حَدِيثًا لَوْلا آيَةٌ فِى كَتاب اللَّه مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ، سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: تمت لا يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ مسلمٌ فيُحْسِنُ وُضُوءَهُ وَيُصَلِّى الصَّلاةَ، إِلا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاةِ حَتَّى يُصَلِّيَهَا -. قَالَ عُرْوَةُ الآيَةَ: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللهُ) [البقرة: 174] . قال الطحاوى: فى هذه الأحاديث دليل أن المفترض من الوضوء هو مرة مرة، وما زاد على ذلك فهو لإصابة الفضل لا الفرض، وأن المرتين والثلاثة من ذلك على الإباحة، فمن شاء توضأ مرة، ومن شاء مرتين، ومن شاء ثلاثًا وهذا قول أهل العلم جميعًا، لا نعلم بينهم فى ذلك اختلافًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب الوضوء والحمد لله. وفى حديث عثمان من الفقه أنه فرضٌ على العالم تبليغ ما عنده من العلم وبثه فى الناس، لأن الله قد توعد الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى باللعنة من الله وعباده، وأخذ الميثاق على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه، وهذه الآية وإن كانت نزلت فى أهل الكتاب، فقد دخل فيها كل من علم علمًا تعبد الله العباد بمعرفته، ولزمه من بثَّه وتبلغيه ما لزم أهل الكتاب من ذلك، والله الموفق. قال المهلب: فيه: أن الإخلاص لله فى العبادة، وترك الشغل بأسباب الدنيا يوجب الله عليه الغفران، ويتقبله من عبده، وإذا صح هذا وجب أن يكون من لها فى صلاته عما هو فيه، وشغل نفسه بالأمانى، فقد أتلف أجر عمله، وقد وبخ الله بذلك أقوامًا: (لاهية قلوبهم) [الأنبياء: 3] وقد جاء أن الله لا يقبل الدعاء من قلبٍ لاهٍ. قال غيره: وأما من وسوس له الشيطان وحدث نفسه فى صلاته بأشياء دون قصد منه لذلك، فإنه يرجى أن تقبل صلاته، ولا تبطل، وتكون دون صلاة الذى لم يحدث نفسه، بدليل أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قد اشتغل باله فى الصلاة حتى سها، وهذا قل ما يسلم منه أحد، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت إن الشيطان لا يزال بالمرء فى صلاته يذكره ما لم يكن يذكر حتى لا يدرى كم صلى -. وقوله فى حديث عثمان: تمت لا يحدث فيها نفسه -، يدل على هذا المعنى، لأنه ما ضمنه لمراعى ذلك فى صلاته من الغفران يدل على أنه قل ما تسلم صلاته من حديث نفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 - باب الاسْتِنْثَارِ فِى الْوُضُوءِ / 21 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ -. الاستنثار هو دفع الماء الحاصل فى الأنف بالاستنشاق، ولا يكون الاستنثار إلا بعد الاستنشاق، والاستنشاق هو أخذ الماء بريح الأنف، وإنما لم يذكر هاهنا الاستنشاق، لأن ذكر الاستنثار دليل عليه إذ لا يكون إلا منه، وقد أوجب بعض العلماء الاستنثار بظاهر هذا الحديث، وحمل ذلك أكثر العلماء على الندب، واستدلوا بأن غسل باطن الوجه غير مأخوذ علينا فى الوضوء، وسيأتى زيادة فى هذا المعنى فى باب المضمضة بعد هذا، إن شاء الله. - باب الاسْتِجْمَارِ وِتْرًا / 22 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِى أَنْفِهِ ماءً ثُمَّ لِيَنْثُرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِى وَضُوئِهِ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِى أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ -. بعض الرواة يقول فى هذا الحديث: تمت فليجعل فى أنفه ماء -، وهو الاستنشاق، وبعضهم لا يذكر ذلك، والمعنى مفهوم فى رواية من قصر عن ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت من استجمر فليوتر - فالاستجمار عند العرب: إزالة النجو من المخرج بالجمار، والجمار عندهم الحجارة الصغار، واحتج الفقهاء بهذا الحديث أن عدة الأحجار فى الاستجمار غير واجب. قال الطحاوى: والدليل على ذلك ما قال إبراهيم بن مروان، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ثور بن يزيد، قال: حدثنا حصين الحبرانى، قال: حدثنا أبو سعيد الخير، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : تمت من استجمر فليوتر، من فعل هذا فقد أحسن، ومن لا فلا حرج -. فدل فى الحديث أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إنما أمر بالوتر فى الآثار الأولى استحبابًا منه للوتر، لا أن ذلك من طريق الفرض الذى لا يجوز إلا هو. واختلف العلماء فى غسل اليد قبل إدخالها الإناء للوضوء فذهب مالك والكوفيون، والأوزاعى، والشافعى إلى أن ذلك مندوب إليه، وليس بواجب. وقال أحمد: إن كان من نوم الليل دون النهار وجب غسلهما. وذهب قوم إلى أنه واجب فى كل نوم لا لنجاسة، فإن أدخلها قبل غسلهما لم يفسد الماء. وقال الحسن البصرى: إن أدخلهما الإناء قبل غسلهما نجس الماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 سواء كان على يده نجاسة أم لا. واحتج الذين أوجبوا غسلهما بأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمر بغسلهما قبل إدخالهما الإناء أمرًا مطلقًا. قال ابن القصار: فيقال لهم: الحديث يدل على أنه استحباب، لأن الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، علل ونبه بقوله: تمت فإن أحدكم لا يدرى أين باتت يده -. فعلمنا انه على طريق الاحتياط، وأعلمنا أنه ليس لأجل الحدث بالنوم، لأنه لو كان ذلك لم يحتج إلى الاعتلال، لأن قائلاً لو قال: اغسل ثوبك فإنك لا تدرى أى شىء حدث فيه، وهل أصابه نجس أم لا؟ لعلم أن ذلك على الاحتياط، ولم يجب غسله إلا أن تظهر فيه نجاسة. وقال النخعى: كان أصحاب عبد الله إذا ذكر عندهم حديث أبى هريرة، قالوا: كيف يصنع أبو هريرة بالمهراس الذى بالمدينة؟ . وقال أعمش: عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن البراء بن عازب، أنه كان يدخل يده فى المطهرة قبل أن يغسلها. - باب الْمَضْمَضَةِ والاسْتَنْشَاقِ فِى الْوُضُوء قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ زَيْدٍ رَضِى اللَّهُ عَنْهُمْ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) . / 23 - فيه: عُثْمَانَ، أنًّه دَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِى الْوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، وَاسْتَنْثَرَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاثًا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلاثًا. . .، الحديث. قال ابن القصار: واختلف العلماء فى المضمضة والاستنشاق على أربعة مذاهب: فذهب ربيعة، ومالك، والليث، والأوزاعى، والشافعى إلى أنهما سنتان فى الوضوء، وفى غسل الجنابة جميعًا. وذهب إسحاق، وابن أبى ليلى إلى أنهما واجبتان فى الطهارتين جميعًا: الوضوء وغسل الجنابة. وذهب الثورى، وأبو حنيفة، وأصحابه إلى أنهما واجبتان فى غسل الجنابة، وغير واجبتين فى الوضوء، وهو قول إسحاق وحماد بن أبى سليمان. وذهب أحمد، وأبو ثور إلى أن الاستنشاق واجب فيهما، والمضمضة غير واجبة فيهما. وحجة القول الأول أنه لا فرض فى الوضوء إلا ما ذكر الله تعالى فى القرآن، وذكر غسل الوجه واليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين. قالوا: وما لم يوجبه الله فى كتابه، ولا أوجبه رسوله، ولا اتفق الجميع عليه فليس بواجب، والفرائض لا تثبت إلا من هذه الوجوه، وقالوا: الوجه ما ظهر لا ما بطن، وقد أجمعوا أنه ليس عليه غسل باطن عينيه، فكذلك المضمضة والاستنشاق، ورى عن ابن عمر أنه كان يدخل الماء فى عينيه فى وضوئه، ولم يتابع عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وحجة الكوفيين قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر، وأنقوا البشرة -، وفى الأنف ما فيه من الشعر، ولا يُوصَل إلى غسل الأسنان والشفتين إلا بالمضمضة، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت العينان تزنيان والفم يزنى -. وحجة من أوجبهما فى الوضوء والغسل قوله تعالى: (وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ) [النساء: 43] كما قال فى الوضوء: (فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ) [المائدة: 6] ، فما وجب فى الواحد من الغسل وجب فى الآخر، ولم يحفظ أحد عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه ترك ذلك فى وضوئه ولا غسله، وهو المُبَيِّن عن الله تعالى مراده. وحجة من فرق بين المضمضة والاستنشاق أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) [فعل] المضمضة ولم يأمر بها، وفعل الاستنشاق وأمر به، وأمره أقوى من فعله. - باب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَلا يَمْسَحُ عَلَى الْقَدَمَيْنِ / 24 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: تَخَلَّفَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَنَّا فِى سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا الْعَصْرَ، فَجَعَلْنَا نَتَوَضَّأُ، وَنَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: تمت وَيْلٌ لِلأعْقَابِ مِنَ النَّارِ -، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا. هذا الحديث تفسير لقوله: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ) [المائدة: 6] ، والمراد منه غسل الأرجل لا مسحها. قال الطحاوى: وقد ذهب قوم من السلف إلى خلاف هذا، وقالوا: الغرض فى الرجلين هو المسح لا الغسل وقرءوا: تمت وأرجلِكم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 بالخفض، روى ذلك عن الحسن البصرى، ومجاهد، وعكرمة، والشعبى. وقال الشعبى: نزل القرآن بالمسح والسنة الغسل، واحتجوا من طريق النظر بالتيمم، وقالوا: لما كان حكم الوجه واليدين فى الوضوء الغسل، وحكم الرأس المسح بإجماع، كان التيمم على الوجه واليدين المغسولين، وسقط عن الرأس الممسوح، كان حكم الرجلين بحكم الرأس أشبه، إذ سقط التيمم عنهما كما سقط عن الرأس. وقال أخرون: تمت أرجلَكم - بالنصب، وقالوا: عاد إلى الغسل، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس، والتقدير: اغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وأرجلكم إلى الكعبين، وامسحوا برءوسكم. قال غيره: والقراءتان صحيحتان ومعلوم أن الغسل مخالف للمسح وغير جائز أن تَبطُل إحدى القراءتين بالأخرى، فلم يبق إلا أن يكون المعنى الغسل، وقد وجدنا العرب تخفض بالجوار، وإتباع اللفظ، والمراد عندهم المعنى، كما قال امرؤ القيس: كبير أناس فى بجاد مزمل فخفض بالجوار، والمزمل الرجل، وإعرابه الرفع، ومثله كثير. وقد تقول العرب: تمسحت للصلاة، والمراد الغسل. وروى أشهب، عن مالك أنه سُئل عن قراءة من قرأ: تمت وأرجلِكم - بالخفض؟ فقال: هو الغسل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 قال الطحاوى: وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم، وهو قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، وأصحابه، والشافعى وغيرهم، واحتجوا بحديث هذا الباب، وقالوا: لما توعدهم النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، على مسح أرجلهم علم أن الوعيد لا يكون إلا فى ترك مفروض عليهم، وأن المسح الذى كانوا يفعلونه لو كان هو المراد بالآية، على ما قال الشعبى لكان منسوخًا بقوله: تمت ويل للأعقاب من النار - ويدل على صحة هذا أن كل من روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) صفة الوضوء روى أنه غسل رجليه، لا أنه مسحهما، وقد روى عنه (صلى الله عليه وسلم) ما يدل على أن حكمهما الغسل. روى مالك عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: تمت إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء، فإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه -. فهذا يدل على أن الرجلين فرضهما الغسل، لأن فرضهما لو كان المسح لم يكن فى غسلهما ثواب، ألا ترى أن الرأس الذى فرضه المسح لا ثواب فى غسله، والحجة على من قال بالمسح، ما أدخلوه من طريق النظر، أن يقال لهم: إنا رأينا أشياء يكون فرضها الغسل فى حال وجود الماء ثم يسقط ذلك الفرض فى حال عدم الماء، لا إلى فرض من ذلك الجنب عليه أن يغسل سائر جسده بالماء، فإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 عدم الماء وجب عليه التيمم فى وجهه ويديه، وسقط حكم سائر بدنه بعد الوجه واليدين لا إلى بدل، فلم يدل ذلك أن ما سقط فرضه كان فرضه فى حال وجود الماء المسح فبطلت علة المخالف إذ كان قد لزمه فى قوله مثل ما لزم خصمه، وهذه معارضة صحيحة، قاله الطحاوى. - باب غَسْلِ الأعْقَابِ وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَغْسِلُ مَوْضِعَ الْخَاتَمِ إِذَا تَوَضَّأَ. / 25 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أنه قَال للنَّاس، وهم يَتَوَضَّئُونَ مِنَ الْمِطْهَرَةِ: أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ، فَإِنَّ أَبَا الْقَاسِمِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت وَيْلٌ لِلأعْقَابِ مِنَ النَّارِ -. قد تقدم القول فى معنى هذا الحديث فى الباب الذى قبل هذا، ونزيده بيانًا، وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) لما أمرهم بإسباغ الوضوء دل أن فرض الرجلين الغسل، لأنه لما قال: تمت ويل للأعقاب من النار -، والأعقاب غير ممسوحة عند من يقول بالمسح كما لا تمسح من الخفين كان دليلاً أن فرض الرجلين غير المسح، لأنه لما قال لهم: أسبغوا الوضوء، لما تركوا من أرجلهم دل أن الأرجل توضأ، ولا يكون ذلك إلا بالغسل، ولما أراد منهم عموم الرجلين، حتى لا يبقى منها لُمعة كان ذلك دليلا على الغسل لا على المسح، قاله الطحاوى. واختلفوا فى تحريك الخاتم فى الوضوء فممن روى عنه تحريكه على بن أبى طالب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وهو قول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 ابن سيرين، والحسن، وعروة، وميمون بن مهران، وحماد الكوفى، وإليه ذهب أبو ثور. ورخص فى ترك تحريكه سالم، وهو قول مالك، والأوزاعى. وقال أحمد بن حنبل: إن كان ضيقًا يخلله، وإن كان سلسًا يدعه، وقاله عبد العزيز بن أبى سلمة. - باب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِى النَّعْلَيْنِ، وَلا يَمْسَحُ عَلَى النَّعْلَيْنِ / 26 - فيه: ابن عُمَرَ، أنه كان يَصنَع أَرْبَعًا لَمْ يكن أَحَد مِنْ أَصْحَابِه يَصْنَعُهَا، قَالَ: وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ، فَإِنِّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَلْبَسُ النَّعْلَ الَّتِى لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ، وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا. . . .، وذكر باقى الحديث. فى ترجمة البخارى لهذا الباب رد لما روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) : تمت أنه كان يمسح على النعلين فى الوضوء -، وروى أيضًا عن على بن أبى طالب أنه أجاز ذلك، وعن أبى مسعود الأنصارى، والبراء مثله، وروى أيضًا عن النخعى. وحجة هذا القول ما روى حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن أوس بن أبى أوس، عن أبيه، أنه كان فى سفر فمسح على نعليه، فقيل له: لم تفعل هذا؟ قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يمسح على النعلين. فأراد البخارى أن يعرفك من حديث ابن عمر أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 رواية من روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) المسح على النعلين كان وهمًا، وأنه كان غسلاً بدليل هذا الحديث، ولم يصح عند البخارى حديث المسح على النعلين. وأوس بن أبى أوس من الشيوخ الذين لا يوازون بعبيد بن جريج، عن ابن عمر. وبترك المسح على النعلين قال أئمة الفتوى بالأمصار. فإن قال قائل: فقد روى الثورى عن يحيى بن أبى حية، عن أبى الجلاس، عن ابن عمر، أنه كان يمسح على جوربيه ونعليه. فدل أن قوله فى حديث عبيد بن جريج: تمت أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يتوضأ فى النعال السبتية - أنه كان يمسح رجليه فى نعليه فى الوضوء لا أنه كان يغسلهما. قيل له: ليس الأمر كما توهمت، ولا يصح عن ابن عمر أنه كان يمسح على جوربيه ونعليه، لأن يحيى بن أبى حية ضعيف، ولا حجة فى نقله، والصحيح عن ابن عمر بنقل الأئمة: تمت أنه كان يغسل رجليه ولا يمسح عليهما -. روى أبو عوانة، عن أبى بشر، عن مجاهد أنه ذكر له المسح على القدمين، فقال: تمت كان ابن عمر يغسل رجليه غسلا، وكنت أسكب عليه الماء سكبًا -. وروى عبد العزيز بن الماجشون، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر مثله. وقال عطاء: لم يبلغنى عن أحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه مسح على نعليه. فهذا أبو هريرة مما روى عن ابن عمر أنه مسح على نعليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 قال الطحاوى: ونظرنا فى اختلاف هذه الآثار لنعلم صحيح الحكم فى ذلك، فرأينا الخفين الذين جوز المسح عليهما إذا تخرقا حتى بدت القدمان منهما أو أكثرهما، فكل قد أجمع أنه لا يمسح عليهما فلما كان المسح على الخفين إنما يجوز إذا غيبا القدمين، ويبطل إذا لم يغيبا القدمين، وكانت النعلان غير مغيبة للقدمين ثبت أنها كالخفين اللذين لا يغيبان القدمين، فلا يجوز المسح عليهما. والنعال السبتية هى التى لا شعر فيها. قال صحاب العين: سبت رأسه إذا حلقه، وسأزيد فى شرحه فى كتاب اللباس، فى باب النعال السبتية إن شاء الله. - باب التَّيَمُّنِ فِى الْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ / 27 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ أَن النَّبِىُّ قَالَ لَهُنَّ فِى غَسْلِ ابْنَتِهِ: تمت ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا -. / 28 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: أن النَّبِىُّ كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ. قال المهلب: فيه فضل اليمين على الشمال، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) حاكيا عن ربه: تمت وكلتا يديه يمين -، وقال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ) [الحاقة: 19] ، وهم أهل الجنة، وقال (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا يبصق أحد فى المسجد عن يمينه - فهذا كله يدل على فضل الميامن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 واستحب جماعة فقهاء الأمصار أن يبدأ المتوضئ بيمينه، قبل يساره، فإن بدأ بيساره قبل يمينه فلا إعادة عليه. وقد روى عن على، وابن مسعود أنهما قالا: لا تبالى بأى يديك ابتدأت. وبدؤه (صلى الله عليه وسلم) بالميامن فى شأنه كله، والله أعلم، هو على وجه التفاؤل من أهل اليمين باليمين، لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان يعجبه الفأل الحسن. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت وكلتا يديه يمين -، أراد نفى النقص عنه، عز وجل، لأن الشمال أنقص من اليمين. - باب الْتِمَاسِ الْوَضُوءِ إِذَا حَانَتِ الصَّلاةُ وَقَالَتْ عَائِشَةُ: حَضَرَتِ الصُّبْحُ، فَالْتُمِسَ الْمَاءُ، فَلَمْ يُوجَدْ، فَنَزَلَ التَّيَمُّمُ. / 29 - فيه: أَنَسِ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَحَانَتْ صَلاةُ الْعَصْرِ، فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوهُ، وَأُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِوَضُوءٍ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى ذَلِكَ الإنَاءِ يَدَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ، قَالَ: فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ. قال: الصلاة لا تجب إلا بدخول الوقت بإجماع الأمة، وعند وجوبها يجب التماس الماء للوضوء لمن كان على غير طهارة، والوضوء قبل الوقت حسن، لأنه من التأهب للصلاة، ألا ترى أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 التأهب للعدو قبل لقائه حسن؟ وليس التيمم هكذا، ولا يجوز عند أهل الحجاز التيمم للصلاة قبل وقتها، وأجازه أهل العراق، ولهذا أجازوا صلوات كثيرة بتيمم واحد. قال المهلب: وفيه أن الأملاك ترتفع عند الضرورة، لأنه إذا أتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالماء لم يكن أحد أحق به من غيره بل كانوا فيه سواء. فعرضته على بعض أهل العلم، فقال: ليس فى الحديث ما يدل على ارتفاع مالك مالكه، ولا فى الأصول ما يرفع الأملاك عن أربابها إلا برضى منهم، ولعله أراد أن المواساة لازمة عند الضرورة لمن كان فى مائه فضل عن وضوئه. قال عبد الواحد: مما يدل على أن ليس فى إتيانهم بالماء ارتفاع ملك مالكه أنه لو لم يكن فى ذلك الماء غير ما يفوت وضوء الآتى به لم يجز له أن يعطيه لغيره ويتيمم، لأنه كان يكون واجدًا للماء، فلا يجزئه التيمم إلا أن يكون الرسول أو إمام المسلمين فينبغى أن يفضله به على نفسه، لحاجة الإمام إلى كمال الطهارة، وأنها فيه أوكد من سائر الناس، والماء الذى أتى به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يرتفع ملك أحد عنه، لأن من أتى به فقد توضأ به، والماء الذى ينبع وعم الناس كان ببركة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ومن أجله، فلم يكن لأحد تملكه. وقال المزنى: ما أعطى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من هذه الآية العظيمة، والعلم الجسيم فى نبع الماء من بين أصابعه أعظم مما أوتيه موسى حين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، لأن الماء معهود أن تنفجر من الحجارة، وليس بمعهود أن يتفجر من بين أصابع أحد غير نبينا. وقال المهلب مثله، وزاد: أن الماء كان بمقدار وضوء رجل واحد، وعم أهل العسكر أجمعين ببركته (صلى الله عليه وسلم) . وهذا الحديث شهده جماعة كثيرة من أصحاب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إلا أنه لم يرو إلا من طريق أنس، وذلك، والله أعلم، لطول عمره، ولطلب الناس العلو فى السند. - باب الْمَاءِ الَّذِى يُغْسَلُ بِهِ شَعَرُ الإنْسَانِ وَكَانَ عَطَاءٌ لا يَرَى بِهِ بَأْسًا أَنْ يُتَّخَذَ مِنْهَا الْخُيُوطُ وَالْحِبَالُ. وَسُؤْرِ الْكِلابِ وَمَمَرِّهَا فِى الْمَسْجِدِ، قَالَ الزُّهْرِىُّ: إِذَا وَلَغَ فِى إِنَاءٍ لَيْسَ لَهُ وَضُوءٌ غَيْرُهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ. قَالَ سُفْيَانُ: هَذَا الْفِقْهُ بِعَيْنِهِ، لقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) [المائدة: 6] وَهَذَا مَاءٌ، وَفِى النَّفْسِ مِنْهُ شَىْءٌ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ. / 30 - فيه: ابْنِ سِيرِينَ، قُلْتُ لِعَبِيدَةَ: عِنْدَنَا مِنْ شَعَرِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَصَبْنَاهُ مِنْ قِبَلِ أَنَسٍ، فَقَالَ: لأنْ تَكُونَ عِنْدِى شَعَرَةٌ مِنْهُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. / 31 - وفيه: أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِى، (صلى الله عليه وسلم) ، لَمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ، كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَوَّلَ مَنْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 قال المهلب: هذه الترجمة أراد بها البخارى رد قول الشافعى أن شعر الإنسان إذا فارق الجسد نجس، وإذا وقع فى الماء نجسه، وذكر قول عطاء: أنه لا بأس باتخاذ الخيوط منها والحبال، ولو كان نجسًا لَمَا جاز اتخاذه. ولمَّا جاز اتخاز شعر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، والتبرك به، علم أنه طاهر، وعلى قول عطاء جمهور العلماء. قال المهلب: وفى حديث أنس دليل على أن ما أخذ من جسد الإنسان من شعر أو ظفر أنه ليس بنجس، وقد جعل خالد بن الوليد فى قلنسوته من شعر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فكان يدخل بها فى الحرب فسقطت له يوم اليمامة، فاشتد عليها شدة أنكر عليه أصحاب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لقتله من قتل فيها من المسلمين، فقال: إنى لم أفعل ذلك لقيمتها، لكنى كرهت أن تقع بأيدى المشركين وفيها من شعر الرسول (صلى الله عليه وسلم) . وأما قوله: تمت إن أبا طلحة أول من أخذ من شعر النبى -، فإنه (صلى الله عليه وسلم) ، لما حلق رأسه ناول أبا طلحة شعره فقسمه بين الناس، ذكر ذلك ابن المنذر. قال: ومن قول أصحابنا: أن من مس عضوًا من أعضاء زوجته أن عليه الوضوء، وليس على من مس شعرها طهارة. وذكر فى الباب أربعة أحاديث فى الكلب: / 32 - أولها: حديث أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِى إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 / 33 - وحديثه (صلى الله عليه وسلم) : تمت أَنَّ رَجُلا رَأَى كَلْبًا يَأْخُذُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ، فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ حَتَّى أَرْوَاهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ -. / 34 - وحديث حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَتِ الْكِلابُ تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِى الْمَسْجِدِ فِى زَمَانِ النَّبِى، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. / 35 - وحديث عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ، أن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: تمت إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ فَقَتَلَ، فَكُلْ -. وهذه الأحاديث معلقة بقوله فى الترجمة: وسؤر الكلاب وممرها فى المسجد، فتقدير الترجمة باب الماء الذى يغسل به شعر الإنسان، وباب سؤر الكلاب، وغرضه فى ذلك إثبات طهارة الكلب وطهارة سؤره. واختلف العلماء فى الماء الذى ولغ فيه الكلب: فقالت طائفة: الماء طاهر يتطهر به للصلاة ويغتسل به إذا لم يجد غيره. هذا قول الزهرى، ومالك والأوزاعى. وقال الثورى، وابن الماجشون، وابن مسلمة من أصحاب مالك، يتوضأ به ويتيمم، جعلوه كالماء المشكوك فيه. وذهب أبو حنيفة، وأصحابه، والليث، والشافعى، وأبو ثور إلى أن كل ما ولغ فيه الكلب نجس، ذكره ابن المنذر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وحكى الطحاوى عن الأوزاعى: أن سؤر الكلب فى الإناء نجس، وفى الماء المستنقع ليس بنجس. قال ابن القصار: والدليل على طهارته أمره (صلى الله عليه وسلم) بغسل الإناء سبعًا، ولو كان منه نجاسة لأمر بغسله مرة واحدة، إذا التعبد فى غسل النجاسة إزالتها لا بعدد من المرات، وقد يجوز أن يؤمر بغسل الطاهر مرارًا لمعنى كغسل أعضاء الوضوء مرتين مرتين، وثلاثًا ثلاثًا، والغرض منها مرة واحدة، وقد قال مالك: إذا ولغ فى الطعام أكل الطعام، ويغسل الإناء سبعًا، اتباعًا للحديث. قال ابن القصار: والدليل على طهارة الكلب أيضًا أنه قد ثبت فى الشرع أن الطاهر هو الذى أبيح لنا الانتفاع به مع القدرة على الامتناع منه لا لضرورة، والنجس ما نهى عن الانتفاع به مع القدرة عليه، وقد قامت الدلالة على جواز الانتفاع بالكلب لا لضرورة كالصيد وشبهه، وإنما أمر بغسل الإناء سبعًا على وجه التغليظ عليهم، لأنهم نهوا عنها لترويعها الضيف، والمجتاز كذلك. قال ابن عمر، والحسن البصرى: فلما لم ينتهوا، غلظ عليهم فى الماء لقلة المياه عندهم فى البادية حتى يشتد عليهم، فيمتنعون من اقتنائها، لا لنجاسة. قال المهلب: وأما حديث الذى سقى الكلب، فغفر له، ففيه دليل على طهارة سؤره، لأن الرجل ملأ خفه وسقاه به، ولا شك أن سؤره بقى فيه واستباح لباسه فى الصلاة وغيرها دون غسله، إذا لم يذكر فى الحديث أنه غسله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 قال غيره: وفيه وجه آخر، وذلك قوله: تمت فجعل يغرف حتى أرواه -. وذلك يدل أنه تكرر فعله فى تناوله الماء من البئر حتى أرواه مرة بعد أخرى، ولو كان سؤره نجسًا لأفسد البئر بذلك. قال المهلب: وفى هذا الحديث دليل أن فى كل كبد رطبة أجر، كان مأمورًا بقتله أو غير مأمور، فكذلك يجب أن يكون فى الأسرى من الكفار، لأن التعطيش، والتجويع تعذيب، والله تعالى لا يريد أن يعذب خلقه بل تمثل فيهم فضله من الإحسان على عصيانهم. وفى حديث حمزة أن الكلب طاهر، لأن إقبالها وإدبارها فى الأغلب أن تجر فيه أنوفها وتلحس فيه الماء وفتات الطعام، لأنه كان مبيت الغرباء والوفود، وكانوا يأكلون فيه، وكان مسكن أهل الصفة، ولو كان الكلب نجسًا لمنع من دخول المسجد لاتفاق المسلمين أن الأنجاس تجنب المساجد، قال الله تعالى: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) [التوبة: 28] . وقوله: تمت تقبل وتدبر - يدل على تكررها على ذلك، وتركهم لها يدل على أنه لا نجاسة فيها، لأنه ليس فى حىٍّ نجاسة. وقد روى ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب زيادة فى هذا الحديث عن ابن عمر، قال: تمت كانت الكلاب تبول، وتقبل وتدبر فى المسجد، فلم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك -. ورواه أبو داود. وأما حديث عدى، فهو أدل شىء على طهارة الكلب ولعابه، وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 احتج مالك على طهارته بقوله تعالى: (فكلوا مما أمسكن عليكم) [المائدة: 4] ، ومعلوم أنه إذا أمسك علينا فلابد من وصول لعابه مع أسنانه إلى جسم الصيد، ومعلوم أنهم فى مواضع الصيد يسمطونه ويشوونه بغشل وبغير غسل، ولو كان لعابه نجسًا لبيَّن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لمن صاده فى مكان لا ماء فيه أن لا يحل له أكله، فلما لم يأت فى هذا بيان منه، علم أنه مباح أكله، وإن لم يغسل من لعاب الكلب، إذ تداخله وغاص فيه. وقال ابن القصار: وأيضًا فإن الله تعالى جعل الكلب المعلم مذكيًا للصيد، ومحال أن يبيحنا تزكية نجس العين، وكل حى حصلت منه التذكية فهو طاهر العين كابن آدم. وقال محمد بن الجهم، ومحمد بن سحنون: اختلف قول مالك فى غسل الإناء من ولوغ الكلب، فقيل: إنه جعل معنى الحديث فى الكلب الذى لم يؤذن فى اتخاذه، وقيل: إنه جعله عامًا فى كل كلب، فالقول الأول هو قول محمد بن المعدل، وغسله عند مالك مسنون إذا أريد استعماله، فإن لم يرد استعماله لم يجب غسله. قال ابن القصار: وهذا مذهب الفقهاء إلا قوامًا من المتأخرين حكى عنهم أنه يجب غسله سبعًا سواء أريد استعماله أو لم يرد. قال المؤلف: ومن جعل سؤر الكلب نجسًا فغسل الإناء من ولوغه عنده فرض، ولا يُغسل الإناء عند مالك إذا ولغ فى لبن، أو طعام يؤكل الطعام واللبن، وإنما يُغسل فى الماء وحده، هذا قوله فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 المدونة، وذكر ابن حبيب عن مالك أن الإناء يغسل، وإن ولغ فى ماء أو لبن أو طعام. واختلفوا فى عدد غسل الإناء من ولوغه: فذهب ابن عباس، وعروة، وطاوس، ومالك، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور إلى أن يغسل سبعًا اتباعًا لحديث أبى هريرة. وقال الحسن البصرى: يغسل سبعًا والثامنة بالتراب، واحتج فى ذلك بما رواه شعبة عن أبى التياح، عن مطرف بن عبد الله، عن عبد الله بن مغفل، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمر بقتل الكلاب، ثم قال: تمت ما لى وللكلاب -، ثم قال: تمت إذا ولغ الكلب فى إناء أحدكم فليغسله سبع مرات، وعفروه الثامنة بالتراب -. وروى عطاء عن أبى هريرة فى الإناء يلغ فيه الكلب، قال: يُغسل ثلاثًا، وهو قول الزهرى. وقال عطاء: كلا، قد سمعت: سبعًا، وخمسًا، وثلاث مرات. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يُغسل من ولوغ الكلب كما يُغسل من سائر النجاسات ولا عدد فى ذلك. وأولى ما قيل به فى هذا الباب حديث أبى هريرة فى الغسل سبعًا، فهو أصح من حديث ابن مغفل، ومن كل ما روى فى ذلك، فقد اضطرب حديث ابن مغفل، فروى مرة عن شعبة، عن أبى التياح، عن مطرف، عن ابن مغفل، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) : تمت أمر بقتل الكلاب، ورخص فى كلب الزرع والصيد -. وروى مرة على خلاف هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وروى أبو شهاب، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن ابن مغفل، قال: تمت لولا أن الكلاب أمة لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها الأسود البهيم -. ومثل هذا الاضطراب يوجب سقوط الحديث. 30 - بَاب مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلا مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ مِنَ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ بِقَوْلُهِ تَعَالَى: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ) [المائدة: 6] . وَقَالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ يَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ الدُّودُ، أَوْ مِنْ ذَكَرِهِ نَحْوُ الْقَمْلَةِ: يُعِيدُ الْوُضُوءَ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ: إِذَا ضَحِكَ فِى الصَّلاةِ أَعَادَ الصَّلاةَ وَلَمْ يُعِدِ الْوُضُوءَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ، أَوْ مِنْ أَظْفَارِهِ، أَوْ خَلَعَ خُفَّيْهِ، فَلا وُضُوءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لا وُضُوءَ إِلا مِنْ حَدَثٍ. وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ فِى غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، فَرُمِىَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ، فَنَزَفَهُ الدَّمُ فَرَكَعَ، وَسَجَدَ، وَمَضَى فِى صَلاتِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ فِى جِرَاحَاتِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِىٍّ وَعَطَاءٌ وَأَهْلُ الْحِجَازِ: لَيْسَ فِى الدَّمِ وُضُوءٌ. وَعَصَرَ ابْنُ عُمَرَ بَثْرَةً، فَخَرَجَ مِنْهَا دَمُ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. وَبَزَقَ ابْنُ أَبِى أَوْفَى دَمًا، فَمَضَى فِى صَلاتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ فِيمَنْ احْتَجم: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلا غَسْلُ مَحَاجِمِهِ. هكذا رواه المستملى وحده بإثبات تمت إلا -، ورواه الكشميهنى وأكثر الرواة بغير تمت إلا -، فالمعروف عن ابن عمر، والحسن أن عليّا غسل محاجمه، ذكره ابن المنذر، فرواية المستملى هى الصواب. / 36 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا يَزَالُ الْعَبْدُ فِى صَلاةٍ مَا دام فِى الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ مَا لَمْ يُحْدِثْ -. فَقَالَ رَجُلٌ أَعْجَمِىٌّ: مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: الصَّوْتُ، يَعْنِى الضَّرْطَةَ. / 37 - فيه: عبد اللَّه بن زيد، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا تَنْصَرِفْ حَتَّى تَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ تَجِدَ رِيحًا -. / 38 - وفيه: الْمِقْدَادَ، أنه سأل النبِى، (صلى الله عليه وسلم) ، عن المذى، فَقَالَ: - فِيهِ الْوُضُوءُ -. / 39 - وفيه: عُثْمَانَ، عن النبِى، (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا جَامَعَ وَلَمْ يُمْنِ؟ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاةِ، وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ -. وقال ذلك: عَلِىًّ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ، وَأُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ. / 40 - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 الأنْصَارِ، فَجَاءَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت لَعَلَّنَا أَعْجَلْنَاكَ -؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا أُعْجِلْتَ، أَوْ أُقُحِطْتَ، فَعَلَيْكَ الْوُضُوءُ -. قال المؤلف: أما المخرجان فعند أبى حنيفة والشافعى أن كل ما يخرج منهما حدث ينقض الوضوء، نادرًا أو معتادًا، وعند مالك أن ما يخرج من المخرجين معتادًا أنه ينقض الوضوء، وما خرج نادرًا على وجه المرض لا ينقض الوضوء، كالاستحاضة، وسلس البول، والمذى، والحجر، والدود، والدم، وأما ما خرج من بدن الإنسان من الأنجاس من غير المخرجين كالقىء والرعاف، أو دم فصاد، أو دمل فلا وضوء عليه فيه عند جماعة العلماء، لا وضوء فى الجشاء المتغير، وهذا مذهب جماعة من الصحابة، وهو قول الحسن، وربيعة ومكحول، ومالك، والشافعى، وأبى ثور. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الوضوء فيما سال من ذلك وكثر، وإن لم يسل فلا وضوء عليه فيه، وكذلك القىء إن ملأ الفم ففيه الوضوء عنده، وإن كان دون ذلك فلا وضوء فيه، وممن كان يوجب فى الدم الوضوء. قال مجاهد فى الخدش يخرج منه الدم: يتوضأ وإن لم يسل. وقال سعيد بن جبير: لا يتوضأ حتى يسيل. وممن أوجب الوضوء فى الرعاف: سعيد بن المسيب، وعطاء، والثورى، وأبو حنيفة، وأحمد بن حنبل. وذكر ابن المنذر عن ابن عمر، والحسن، وعطاء، أنهم كانوا يرون من الحجامة الوضوء وغسل أثر المحاجم، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه وأحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 قال ابن المنذر: وقد روينا عن غير واحد أنهم كانوا يغتسلون من الحجامة، روى ذلك عن على، وابن عباس، ومجاهد، وابن سيرين. وذكر عن ابن عمر، والحسن البصرى، رواية أخرى: أنه لا وضوء من الحجامة، وإنما عليه غسل مواضعها فقط، وهو قول مالك، وأهل المدينة، والليث، والشافعى، وأبى ثور. وقال الليث: يجزئه أن يمسحه ويصلى ولا يغسله. وعلى هذا الفصل بوِّب البخارى هذا الباب رادًا عليه، أن لا وضوء إلا من المخرجين وذكر قول الصحابة والتابعين، أنه لا وضوء من الدم، ولا من الحجامة، واحتج بقوله تعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط) [النساء: 43، المائدة: 6] ، وحديث الذى رمى بسهم فنزفه الدم، ومضى فى صلاته حجة فى أن الدم لا ينقض الوضوء. وسائر أحاديث الباب حجة فى أن لا وضوء إلا من المخرجين. وقول عطاء فيمن خرج من دبره الدود، ومن ذكره نحو القملة، يعيد الوضوء، فهو مذهب أبى حنيفة والشافعى، فأما مالك فلا يوجب فى شىء من ذلك وضوءًا إلا أن يخرج معهما شىء من حدث. وقول جابر: إذا ضحك فى الصلاة أعاد الصلاة. فهو إجماع من العلماء، وإنما الخلاف هل ينقض وضوءه أم لا؟ . فذهب مالك والليث والشافعى إلى أنه لا ينقض وضوءه. وذهب الحسن والنخعى إلى أن الضحك فى الصلاة ينقض الوضوء، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، والثورى، والأوزاعى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وحجة من لم ير الوضوء من الضحك: أنه لما لم يكن حدثًا فى غير الصلاة لم يكن حدثًا فى الصلاة. وقول الحسن: من أخذ من شعره أو أظفاره، فلا وضوء عليه، هو قول أهل الحجاز والعراق. وروى عن أبى العالية، والحكم، ومجاهد، وحماد إيجاب الوضوء فى ذلك. وقال عطاء والشافعى والنخعى يمسه بالماء. وأما من خلع خفيه بعد المسح عليهما ففيهما أربعة أقوال: قال مكحول، والنخعى، والزهرى، وابن أبى ليلى، والأوزاعى، وأحمد وإسحاق: يستأنف الوضوء من أوله، وهو قول الشافعى القديم. وقال مالك والليث: يغسل رجليه مكانه، فإن لم يغسل استأنف الوضوء. وقال الثورى، وأبو حنيفة، والشافعى فى الجديد، والمزنى، وأبو ثور: يغسل رجليه إذا أراد الصلاة، ومن جعل الرتبة مستحبة فى الوضوء من أصحاب مالك يقول مثل هذا. وقال الحسن البصرى: لا شىء عليه ويصلى كما هو، وهو قول مالك، وروى مثله عن النخعى. وحديث الذى نزفه الدم من السهم، ومضى فى صلاته، يدل أن الرعاف والدم لا ينقضان الوضوء، وهو قول أهل الحجاز، وهو رد على أبى حنيفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وفى الحجامة عند أبى حنيفة وأصحابه: الوضوء، وهو قول أحمد بن حنبل. وعند ربيعة، ومالك، والليث، وأهل المدينة: لا وضوء فى الحجامة، وهو قول الشافعى، وأبى ثور، وقالوا: ليس فى الحجامة إلا غسل مواضعها فقط. وقال الليث: يجزئ أن يمسحه ويصلى ولا يغسله وسائر ما ذكره البخارى فى هذا الباب من أقوال الصحابة والتابعين أنه لا وضوء من الدم والحجامة مطابق للترجمة أنه لا وضوء فى غير المخرجين، وكذلك أحاديث الباب حجة فى ذلك أيضًا. وقوله: تمت الحدث الضرطة، ولا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا -، هو إجماع من العلماء. وحديث المقداد فى المذى، مجمع عليه أن فيه الوضوء أظنه إلا أن يسلس منه عند مالك فهو مرض، ولا يكون فيه الوضوء، وحجته فى مراعاة المعتاد من المخرجين قوله (صلى الله عليه وسلم) فى دم الاستحاضة: تمت إنما ذلك عرق، وليس بالحيض -، فعلل (صلى الله عليه وسلم) دم الاستحاضة بأنه عرق، ودم العرق لا يوجب وضوءًا، وسيأتى هذا المعنى مبينًا فى مواضعه، إن شاء الله. وأما حديث عثمان وأبى سعيد فأقل أحوالهما حصول المذى لمن جامع ولم يمن، فهما فى معنى حديث المقداد من وجه إلا أن جماعة العلماء، وأئمة الفتوى مجمعون على الغسل من مجاوزة الختان، لأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 رسول الله، (صلى الله عليه وسلم) ، بذلك، وهو زيادة بيان على حديث عثمان وأبى سعيد، يجب الأخذ بها إذ الأغلب فى ذلك سبق الماء للمولج وهو لا يشعر به لمغيب العضو، إذ ذلك بدء اللذة، وأول العسيلة، فالتزم المسلمون الغسل من مَغيِب الحشفة بالسنة الثابتة فى ذلك، وشذ عن جماعتهم جاهل، خرق الإجماع وخالف سبيل المؤمنين الذين أمرنا باتباعهم، فلا يلتفت إليه ولا يعد خلافًا، وسيأتى الكلام فى هذا المعنى مستوعبًا فى باب الغسل، إن شاء الله. وقوله: تمت أو قحطت - هكذا وقع فى الأمهات وذكر صاحب الأفعال قال: يقال: أقحط الرجل إذا أكسل فى الجماع عن الإنزال، ولم يذكر قحط، والله أعلم. 31 - باب الرَّجُلُ يُوَضِّئُ صَاحِبَهُ / 41 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ، أَنَّ النبِى، (صلى الله عليه وسلم) ، لَمَّا أَفَاضَ مِنْ عَرَفةَ عَدَلَ إِلَى الشِّعْبِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ، قَالَ أُسَامَةُ: فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَيْهِ، وَيَتَوَضَّأُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُصَلِّى؟ فَقَالَ: تمت الْمُصَلَّى أَمَامَكَ -. / 42 - وفيه: الْمُغِيرَةِ أَنَّهُ كَانَ مَعَ النبِى، (صلى الله عليه وسلم) ، فِي سَفَرٍ وَأَنَّهُ ذَهَبَ لِحَاجته، وَأَنَّ الْمُغِيرَةَ جَعَلَ يَصُبُّ عَلَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. قوله: تمت فجعلت أصب الماء عليه ويتوضأ -، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 فيه ما تُرجم به وهو قول جماعة العلماء، وهذا الباب رد لما روى عن عمر، وعلى، أنهما نهيا أن يستقى لهما الماء لوضوئهما، وقالا: نكره أن يشركنا فى الوضوء أحد، ورويا ذلك عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ولما روى عن ابن عمر أنه قال: ما أبالى أعاننى رجل على طهورى، أو على ركوعى وسجودى. وهذا كله مردود بآثار هذا الباب. قال الطبرى: وقد صح عن ابن عمر أن ابن عباس صب على يدى عمر الوضوء بطريق مكة، حين سأله عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وثبت عن ابن عمر خلاف ما ذُكر عنه، وروى شعبة، عن أبى بشير، عن مجاهد أنه كان يسكب على ابن عمر الماء، فيغسل رجليه. وهذا أصح مما خالفه عن ابن عمر، لأن راويه أيفع، وهو مجهول. والحديث عن على لا يصح، لأن راويه النضر بن ميمون، عن أبى الجنوب، عن على، وهما غير حجة فى الدين، فلا يعتد بنقلهما، ولو صح ذلك عن عمر لم يكن بالذى يبيح لابن عباس صب الماء على يديه للوضوء إذ ذاك أقرب للمعونة من استقاء الماء له، ومحال أن يمنع عمر استقاء الماء له ويبيح صب الماء عليه للوضوء مع سماعه من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الكراهية لذلك. وممن كان يستعين على وضوئه بغيره من السلف، قال الحسن: رأيت عثمان أمير المؤمنين يصب عليه من إبريق، وفعله عبد الرحمن بن أبزى، والضحاك بن مزاحم، وقال أبو الضحى: لا بأس للمريض أن توضئه الحائض. قال غيره: واستدل البخارى من صب الماء عليه عند الوضوء أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 يجوز للرجل أن يوضئه غيره، لأن لما لزم المتوضئ اغتراف الماء من الإناء لأعضائه وجاز له أن يكفيه ذلك غيره، بدليل صب أسامة الماء على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لوضوئه، والاغتراف بعض عمل الوضوء، فكذلك يجوز سائر الوضوء، وهذا من باب القربات التى يجوز أن يعملها الرجل عن غيره بخلاف الصلاة. ولما أجمعوا أنه جائز للمريض أن يوضئه غيره وييممه غيره إذا لم يستطع، ولا يجوز أن يصلى عنه إذا لم يستطع، دل أن حكم الوضوء بخلاف حكم الصلاة. 32 - باب قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْحَدَثِ وَغَيْرِهِ قَالَ إِبْرَاهِيمَ: لا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ فِى الْحَمَّامِ، وَبِكَتْبِ الرِّسَالَةِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمَ: إِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ إِزَارٌ فَسَلِّمْ، وَإِلا فَلا تُسَلِّمْ. / 43 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) - وَهِيَ خَالَتُهُ - فَاضْطَجَعْتُ فِى عَرْضِ الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَأَهْلُهُ فِى طُولِهَا، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ، فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ. . . . وذكر باقى الحديث. فى هذا الحديث من الفقه رد على من كره قراءة القرآن على غير طهارة لمن لم يكن جنبًا، وهو الحجة الكافية فى ذلك، لأنه (صلى الله عليه وسلم) قرأ العشر الآيات من آخر آل عمران بعد قيامه من نومه قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وضوئه، وقد قال عمر بن الخطاب لأبى مريم الحنفى، حين قال له: أتقرأ يا أمير المؤمنين على غير وضوء؟ فقال له عمر: من أفتاك بهذا أمسيلمة؟ وحسبك بعمر فى جماعة الصحابة، وهم القدوة الذين أُمرنا باتباعهم، ومن الحجة لهذه المقالة أيضًا أن الله لم يوجب فرض الطهارة على عباده المؤمنين إلا إذا قاموا إلى الصلاة، وقد صح عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه خرج من الخلاء فأتى بطعام، فقيل له: ألا تتوضأ، فقال: تمت أريد أن أصلى فأتوضأ -؟ فرأى (صلى الله عليه وسلم) تأخير الطهارة بعد الحدث إلى حال إرادته الصلاة. وكره جمهور العلماء مس المصحف على غير وضوء، وأجازه الشعبى، ومحمد بن سيرين. واختلف العلماء فى قراءة الجنب للقرآن، فروى عن جماعة من السلف أنه ممنوع من ذلك، وأجاز ذلك آخرون، وسيأتى ذكر ذلك بعد هذا، إن شاء الله. واختلفوا فى القراءة فى الحمام، فأجازه النخعى ومالك، وكرهه أبو وائل، والشعبى ومكحول، والحسن. 33 - باب مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ إِلا مِنَ الْغَشْىِ الْمُثْقِلِ / 44 - فيه: أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ، أَنَّهَا قَالَتْ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، حِينَ كسَفَتِ الشَّمْسُ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ، وَإِذَا هِىَ قَائِمَةٌ تُصَلِّى، فَقُلْتُ: مَا لِلنَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 فَقُلْتُ: آيَةٌ؟ فَأَشَارَتْ أَنْ نَعَمْ، فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلانِى الْغَشْىُ، وَجَعَلْتُ أَصُبُّ فَوْقَ رَأْسِى مَاءً. . . . . وذكر باقى الحديث. قال عبد الواحد: الغشى: مرض يَعْرِض من طول التعب والوقوف، يقال فيه: غشى عليه، وهو ضرب من الإغماء، إلا أنه أخف منه إذا كان خفيفًا، ولا ينقض الوضوء، ولا الصلاة، وإنما صَبت أسماء الماء على رأسها مدافعة للغشى، ولو كان كثيرًا لقطعت الصلاة، لأنه إذا كثر صار كالإغماء، ونقض الوضوء بإجماع. وقال صاحب العين: غشى عليه: ذهب عقله، وفى القرآن) كالذى يغشى عليه من الموت) [الأحزاب: 19] ، وقال: (فأغشيناهم فهم لا يبصرون) [يس: 9] . 34 - باب مَسْحِ الرَّأْسِ كُلِّهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) [المائدة: 6] وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: الْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ تَمْسَحُ عَلَى رَأْسِهَا. وَسُئِلَ مَالِكٌ: أَيُجْزِئُ أَنْ يَمْسَحَ بَعْضَ رَأْسِهِ؟ فَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ. / 45 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ زَيْدٍ أن رجلاً قَالَ لهُ: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِى كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَتَوَضَّأُ؟ فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ، فَغَسَلَ يَدَيه مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 رَأْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِى بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ. اختلف أهل التأويل فى قوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم) [المائدة: 6] . فقالت طائفة: المراد منه مسح جميع الرأس، واحتجوا فى ذلك بحديث عبد الله بن زيد، قالوا: وهذا الحديث يدل على عموم الرأس بالمسح كعموم ما سواه من الأعضاء بالغسل، هذا قول مالك. وقال آخرون: بل الفرض مسح بعضه، واختلف أهل هذه المقالة فى مقدار الممسوح منه، فقال أبو حنيفة وأصحابه: إن مسح ربع رأسه أجزأه، ويبدأ بمقدم رأسه. وقال الحسن بن حى: يبدأ بمؤخر رأسه، وقال محمد بن مسلمة صاحب مالك: يجزئه أن يمسح ثلثى رأسه. وقال أشهب: إن اقتصر على ثلثه أجزأه. ذكره عنه ابن القصار، وروى البرقى، عن أشهب فيمن مسح مقدم رأسه: يجزئه، وهو قول الأوزاعى، والليث. قال: وذكر ابن القصار عن الثورى والشافعى: يجزئه مسح ما يقع عليه الاسم، وقالوا: المسح فى لسان العرب ليس من شأنه الاستيعاب، واحتج الطحاوى لأصحابه، قال: لما احتمل قوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم) [المائدة: 6] مسح جميع الرأس واحتمل مسح بعضه، ودلت السنة فى حديث المغيرة أن بعضه يجزئ دل أن ذلك هو الفرض. وروى حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عمرو بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وهب الثقفى، عن المغيرة ابن شعبة، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، مسح بناصيته، وعلى عمامته. ورواه ابن عون، عن ابن سيرين، عن المغيرة. وقالوا فى حديث عبد الله بن زيد، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، مسح رأسه كله، وليس فى ذلك ما يدل على أنه الفرض لأنا رأيناه (صلى الله عليه وسلم) توضأ مرتين مرتين، وثلاثًا ثلاثًا لا على أن ذلك هو الفرض، ولكن منه فرض، ومنه فضل، ولما اكتفى (صلى الله عليه وسلم) بمسح الناصية عن مسح بقية الرأس، دل أن الفرض فى مسحه هو مقدار الناصية وأن ما فعله فى حديث عبد الله بن زيد وغيره مما جاوز به الناصية، كان على الفضل لا على الوجوب لا تَتضادّ الأحاديث. قالوا: ومن طريق النظر: أنَّا ومخالفونا نمسح على الخفين ونُجمعُ على أن المسح عليهما لا يعمهما، لأن من كان منا يمسح عليهما خطوطًا بالأصابع يقول: لا يمسح جانبيهما، ولا أعقابهما، ولا بطونهما، ومن كان منا يمسح على ظهورهما، وعلى بطونهما لا يمسح على جوانبهما، ولا على أعقابهما، فدل ذلك على أن ما فرضه المسح لا يراد عمومه، وإنما يراد بعضه. فأدخل عليهم الآخرون، وقالوا: وجدنا المتيمم يعم بالمسح الوجه واليدين، فكذلك المسح فى الوضوء، ينبغى أن يعم به العضو الممسوح قياسًا ونظرًا، ولأن الأمة مجمعة أن من مسح برأسه كله فهو مؤَدٍّ لفرضه، واختلفوا فيمن مسح بعضه، فالواجب أن لا يؤدى فرض الوضوء إلا بيقين، وهو مسح الرأس كله. فكان من حجة الآخرين عليهم أن التيمم يشبه بعضه بعضًا، ومنه التيمم على الوجه يعم به، ومن التيمم على اليدين تُعَمَّان، والوضوء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ليس كذلك، فمنه المسح على الخفين اللذين لا يُعمَّان به، والمسح على الرأس الذى منه أشبه بالمسح على الخفين الذى منه، من مسح التيمم الذى ليس منه، وقياس مسح الوضوء على مسح الوضوء أصح من قياسه على مسح التيمم، هذا قول الطحاوى. وقال غيره: ويقال لمن زعم أن مسح الوجه فى التيمم لا يجزئ بعضه: فكذلك مسح الرأس، لأن مسح الوجه فى التيمم بدل من عموم غسله، فلابد أن يأتى بالمسح على جميع مواضع الغسل منه، ومسح الرأس أصل، فهذا فرق ما بينهما. واحتج الذين قالوا بمسح جميع الرأس بأن الباء فى قوله: (برءوسكم) [المائدة: 6] للإلصاق لا للتبعيض، وهو قول سيبويه وغيره، لا اختلاف فى ذلك بين بصرى وكوفى كقوله: (وليطوفوا بالبيت العتيق) [الحج: 29] ، وقد أجمعوا أنه لا يجوز الطواف ببعضه، فكذلك مسح الرأس. قال ابن القصار: ويقال لمن احتج بأنه (صلى الله عليه وسلم) ، مسح بناصيته: يحتمل أن يراد البعض، وأن يرد الكل، كقوله تعالى: (فيؤخذ بالنواصى والأقدام) [الرحمن: 41] ، فالنواصى هاهنا الرءوس، ولا يجوز أن يراد بعضها، والحديث غير صحيح، لأن راويه عن أنس معقل بن مسلم، وصحيحه مرسل عن المغيرة، ولو صح كانت لنا فيه حجة، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لما لم يقتصر على مسح الناصية حتى قرن إلى ذلك مسح العمامة عُلِمَ أنه لا يجوز الاقتصار على الناصية، ويصرف مسحه على العمامة إلى العذر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وأيضًا فإن الصحابة بأجمعها نقلت وضوء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قولاً وفعلاً أنه مسح رأسه كله، وشذت رواية أنه مسح بناصيته، وحكت منه فعلة وقعت فى بعض الأوقات، فكان حملها على العذر أولى، لأنه لو أراد أن يُعَلِّم الناس الواجب لبين ذلك، كما قال لما توضأ مرة مرة: تمت هذا صفة الوضوء الذى لا يقبل الله الصلاة إلا به -. قال عبد الواحد: ولا حجة للحسن بن حى فى قوله فى الحديث: تمت فأقبل بهما وأدبر - على جواز أن يبدأ بمؤخر رأسه بالمسح، لأن قوله: تمت فأدبر بهما وأقبل - يحتمل التقديم والتأخير، إذ لا توجب الواو رتبة، وقد خرج البخارى هذا الحديث فى باب الوضوء من التور، وقال فيه: تمت فأدبر بهما وأقبل -. وهذا نص أنه بدأ بمقدم رأسه، وقد بين ذلك ما رواه مالك فى حديث هذا الباب، قال: تمت فأقبل بهما وأدبر بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذى بدأ منه -. وفى حديث هذا الباب جواز غسل بعض أعضاء الوضوء مرتين، وبعضهما ثلاثًا فى وضوء واحد، دليل على جواز غسل بعض أعضاء الوضوء مرة، وبعضها أكثر من ذلك. وقوله: تمت ثم - فى جميع الحديث لم يرد بها المهلة، وإنما أراد بها الإخبار عن صفة الغسل، وتمت ثم - هاهنا بمعنى تمت الواو -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 35 - باب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ / 46 - فيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ زَيْدٍ أنه تَوَضَّأَ لَهُمْ وُضُوءَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَكْفَأَ عَلَى يَدِيهِ مِنَ التَّوْرِ، وَغَسَلَهما ثَلاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِى التَّوْرِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهِ اليمنى إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. قد تقدم القول فى غسل الرجلين، وما للعلماء فى ذلك، فأغنى عن إعادته، ونذكر فى هذا الباب من ذلك ما لم يتقدم، وذلك قوله: تمت فغسل يديه إلى المرفقين وغسل رجليه إلى الكعبين -. فذهب جمهور العلماء إلى أن المرفقين يدخلان فى غسل الذراعين فى الوضوء، وهو قول مالك فى رواية ابن القاسم، وقول الكوفيين والشافعى وأحمد وجماعة. وخالف زفر أصحابه، وقال: لا يجب غسل المرفقين. وروى أشهب وابن نافع، عن مالك فى المجموع قال: ليس عليه مجاوزة المرفقين ولا الكعبين فى الغسل، وإنما عليه أن يبلغ إليهما. واحتج زفر بأن الله تعالى أمر بغسلهما إلى المرافق وجعل المرافق حدًا والحد لا يدخل فى المحدود، كقوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) [البقرة: 187] ، فجعل الليل حدا للصوم، ولم يدخل شىء من الليل فيه، وكما نقول: دار فلان تنتهى إلى دار فلان، فتكون دار فلان حدًا لها، ولا تدخل دار فلان فى داره وكذلك هاهنا. وقال الطبرى: كل غاية حُدَّتْ ب تمت إلى -، فقد تحتمل فى كلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 العرب دخول الغاية فى الحد وخروجها منه، وإذا احُتمِلَ ذلك لم يجز لأحد القضاء بأنها داخلة فيها إلا لمن لا يُجوِّز خلافه، ولا حكم فى ذلك عندنا ممن يجب التسليم لحكمه. وحجة الجماعة: أن قوله تعالى: (إلى المرافق) [المائدة: 6] بمعنى مع، وبمعنى الواو وتقديره: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم والمرافق، أو مع المرافق، كما قال تعالى: (من أنصارى إلى الله) [آل عمران: 52] ، أى مع الله) ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) [النساء: 2] ، أى مع أموالكم. وقد قال بعض أهل الفقه: لا يحتاج إلى هذا التأويل، ولو كما تأوله لوجب غسل اليد من أطراف الأصابع إلى أصل الكتف، ولا يجوز أن تخرج تمت إلى - عن بابها، وذلك لأنها بمعنى الغاية أبدًا وجائز أن تكون بمعنى الغاية، وتدخل المرافق فى الغسل، لأن الثانى إذا كان من الأول كان ما بعد تمت إلى - داخلاً فيما قبله، فدخلت المرافق فى الغسل لأنها من اليدين، ولم يدخل الصيام فى الليل فى قوله: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) [البقرة: 117] ، لأن الليل ليس من النهار. قال ابن القصار: واليد يتناولها الاسم إلى الإبط، بدليل ما روى عن عمار أنه كان يتيمم إلى الإبط، امتثالاً لما اقتضاه اسم اليد، وعمار من وجوه أهل اللغة، فما استثنى الله بعض ذلك بقوله: (إلى المرافق (بقى المرفق مغسولاً مع الذراعين نحو الاسم، ومن أوجب غسل المرفقين، فقد أدى فرضه بيقين، واليقين فى أداء الفرض واجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 والخلاف فى غسل الكعبين مع الرجلين كالخلاف فى غسل المرفقين مع الذراعين والحجة فيها واحدة. وأما قول مالك فى ذلك، فروى ابن القاسم عنه أنه إن ذهب المرفقان مع الذراعين فى القطع لم يكن عليه غسل موضع القطع، وأما الأقطع الكعبين، فلابد أن يغسل ما بقى منهما لأن الكعبين يبقيان فى الساقين بعد القطع. واختلف العلماء فى حد الكعبين اللذين يجب إليهما الوضوء، فروى أشهب عن مالك، قال: الكعب هو الملصق بالساق، المحاذى للعقب، وهو قول الشافعى وأحمد. وقال أبو حنيفة: هو الشاخص فى ظهر القدم، وأهل اللغة لا يعرفون ما قال. قال الأصمعى: الكعبان من الإنسان العظمان الناشزان من جانبى القدم، وأنكر قول العامة أنه الذى فى ظهر القدم. والكعب عند العرب ما نشز واستدار. وقال أبو زيد: فى كل رِجْلٍ كعبان، وهما عظما طرف الساق ملتقى القدمين، يقال لهما: منجمان، والدليل على صحة هذا قول النعمان بن بشير حين قال لهم النبى، (صلى الله عليه وسلم) : تمت أقيموا صفوفكم -، قال النعمان: فلقد رأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه، وهذا لا يصح إلا مع القول بأنهما الناتئان فى جانبى الساقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 36 - باب اسْتِعْمَالِ فَضْلِ وَضُوءِ النَّاسِ وَأَمَرَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ أَهْلَهُ أَنْ يَتَوَضَّئُوا بِفَضْلِ سِوَاكِهِ. / 47 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالْهَاجِرَةِ، فَأُتِىَ بِوَضُوءٍ، فَتَوَضَّأَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ، فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى: دَعَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ، وَمَجَّ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: تمت اشْرَبَا مِنْهُ، وَأَفْرِغَا عَلَى وُجُوهِكُمَا وَنُحُورِكُمَا -. / 48 - وفيه: مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، أن الرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَجَّ فِى وَجْهِهِ وَهُوَ غُلامٌ مِنْ بِئْرِهِمْ. / 49 - وفيه: الْمِسْوَرِ، أن النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا توضأ يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ. / 50 - وفيه: السَّائِبَ قَالَ: ذَهَبَتْ بِى خَالَتِى إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِى وَجِعٌ، فَمَسَحَ رَأْسِى، وَدَعَا لِى بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ. . . . . الحديث. قال المهلب: هذا الباب كله يقتضى طهارة فضل الوضوء، وهو الماء الذى يتطاير عن المتوضئ ويجمع بعدما غسل به أعضاء الوُضُوء. وفضل السواك هو الماء الذى ينقع فيه السواك ليرطب، وسواكهم الأراك وهو لا يغير الماء. فأراد البخارى أن يعرفك أن كل ما لا يتغير، فإنه يجوز الوضوء به، والماء المستعمل غير متغير فهو طاهر، واختلف العلماء فى ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 فأجاز النخعى، والحسن البصرى، والزهرى الوضوء بالماء الذى قد توضئ به، وهو قول مالك، والثورى، وأبى ثور. وقال محمد بن الحسن، والشافعى: هو طاهر غير مُطَهِّر. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: هو نجس، واحتجوا بأنه ماء الذنوب. قال ابن القصار: فيقال لهم: هذا مَثَلٌ ضربه النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أى كما يغسل الدرن من الثوب، كذلك تتحات الذنوب بالغسل، لا أن الذنوب شىء ينماع فى الماء ولا يؤثر فى حكمه، ثم إننا نعلم أن الذنوب تتحات من كل جزء عند أول جزء من الوجه، أو اليد ثم كلما انحدر على جزء آخر هو كذلك، فينبغى أن لا يجزئه ما مر على الجزء الثانى لأنه ماء الذنوب. ونقول: إن الإجماع حاصل على جواز استعمال الماء المستعمل، وذلك أن الماء إذا لاقى أول جزء من أجزاء العضو فقد صار مستعملا، ثم يُمرُّه على كل جزء بعده فيجزئه، ولو لم يجز الوضوء بالماء المستعمل لم يجز إمراره على باقى العضو، ولوجب عليه أن يأخذ لكل جزء من العضو ماءً جديدًا. فإن قالوا: الماء المستعمل عندنا هو إذا سقط عن جميع العضو، فأما ما دام على العضو فليس بمستعمل، قيل: يلزمكم أن لا يكون مستعملاً الأعضاء كلها، لأنه لا يصح أن تكون متوضئًا بغسل بعض الأعضاء وترك البعض مع القدرة، لأن الأعضاء كلها كالعضو الواحد فى حكم الوضوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وقد أجمعوا أن الإنسان غير مأخوذ عليه أن يوقى ثوبه، أو بدنه مما يترشش عليه من الماء المستعمل، وقد أخذ عليه أن يتحرز من ترشش البول، فلو كان نجسًا لوجب التحرز منه. فصح أنه طاهر، لأنه ماء لم يتغير طعمه ولا لونه ولا ريحه، ولم يؤثر الاستعمال فى عينه، فلم يؤثر فى حكمه، وهو طاهر لاقى جسمًا طاهرًا، فجاز أن يسقط به الفرض مرة أخرى كالماء الذى غسل به ثوب طاهر، فمن أين تحدث فيه نجاسة؟ . وقد روى عن على، وابن عمر، وأبى أمامة، وعطاء، ومكحول، والنخعى، والحسن أنهم قالوا فيمن نسى مسح رأسه فوجد فى لحيته بللاً: يجزئه أن يمسحه بذلك البلل، فدل أنهم كانوا يرون استعمال الماء المستعمل. وقال غيره: يقال لمن قال: إن ماء الذنوب نجس، بل هو ماء طاهر مبارك، لأنه الماء الذى رفع الله بالغسل به الخطايا، وقد رفع الله ما كانت فيه هذه البركة عن النجاسة، وبالله التوفيق. قال المهلب: ففى أحاديث هذا الباب دليل على أن لعاب أحد من البشر ليس بنجس ولا بقية شربه، وذلك يدل أن نهيه، (صلى الله عليه وسلم) ، عن النفخ فى الطعام والشراب ليس على سبيل أن ما تطاير فيه من اللعاب ينجسه، وإنما هو خشية أن يتقذره الآكل منه، فأمر بالتأديب فى ذلك، وهذا التقذر الذى نهى عن النفخ من أجله مرتفع عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بل كانت نخامته أطيب عند المسلمين من المسك، لأنهم كانوا يتدافعون عليها، ويدلكون بها وجوههم لبركتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وطيبها، وأنها مخالفة لخلوف أفواه البشر، وذلك لمناجاته الملائكة فطيب الله لهم نكهته، وخلوف فيه، وجميع رائحته. وفى قصة محمود: ممازحة الطفل بما يصعب عليه، لأن مج الماء قد يصعب عليه، وإن كان قد يستلذه. وحديث أبى موسى يحتمل أن يكون أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بالشرب من وضوئه الذى مج فيه، وأن يفرغا منه على نحورهما ووجوهما من أجل مرض، أو شىء أصابهما، وهو حديث مختصر لم يذكر فيه اللذان أمرهما بذلك. وفى حديث السائب: بركة الاسترقاء. وقوله فى حديث السائب: تمت إن ابن أختى وقع -، فمعناه أنه وقع فى المرض، وإن كان روى وقع بكسر القاف، وأهل اللغة يقولون: وقع الرجل، إذا اشتكى لحم قدمه، قال الراجز: كلَّ الحِذَاءِ يَحْتَذِى الحَافِى الوَقِعْ والمعروف عندنا وقع بفتح القاف والعين. 37 - باب مَنْ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ / 51 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُ غَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ تمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَا أَقْبَلَ وَمَا أَدْبَرَ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وترجم له: باب مَسْحِ الرَّأْسِ مسحة واحدة / 52 - وقال فيه: فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، فَأَقْبَلَ بِيَدَه وَأَدْبَرَ بِهِا. فى هذا الحديث أنه مضمض واستنشق ثلاثًا، بخلاف ما رواه عثمان، وابن عباس فى صفة وضوء النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ولم يذكرا مرتين ولا ثلاثًا، فدل أن المرة الواحدة تجزئ فى ذلك، وإنما اختلف فعله فى ذلك ليرى أمته التيسير فيه، وأن الوضوء لا حَدَّ فى المفروض منه والمسنون إلا بالإسباغ. واختلف العلماء فى المستحب والمسنون من مسح الرأس: فذهب جمهور العلماء أن مسح الرأس مسحة واحدة، وقال مالك: رَدُّ يديه من مؤخر رأسه إلى مقدمه مسنون، لأن مسح جميع الرأس هو أن يبدأ من مقدمه إلى مؤخره، فرده يديه بعد ذلك إلى مقدمه مسنون، ولو بدأ بالمسح من مؤخر رأسه إلى مقدمه لكان المسنون أن يرد يديه من المقدم إلى المؤخر. قال ابن القصار: وهذا مذهب ابن عمر، والحسن البصرى، وأحمد، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعى: المسنون ثلاث مسحات لمن توضأ ثلاثًا ثلاثًا. والحجة على الشافعى أن المستحب والمسنون يحتاجان إلى شرع. وفى حديث عبد الله بن زيد، وابن عباس أنه مسح، (صلى الله عليه وسلم) ، رأسه مرة واحدة. وفى حديث عثمان، وإن كان فيه أنه توضأ ثلاثًا ثلاثًا، فيه أنه مسح برأسه مرتين: بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى حيث بدأ، وهو خلاف قول الشافعى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وقد توهم بعض الناس فى حديث عبد الله بن زيد أن قوله فيه: تمت ثم مسح رأسه فأقبل بهما وأدبر - أنه بدأ من مؤخر رأسه فأقبل بهما، قاله الحسن بن حى. وتوهم غيره: أنه بدأ من وسط رأسه فأقبل بيديه وأدبر، وهذه كلها ظنون. وفى قوله: تمت بدأ بمقدم رأسه - ما يرفع الإشكال، وقد تقدم هذا المعنى فى باب مسح الرأس. وقوله: تمت من كفة واحدة - أراد من غرفة واحدة أو حفنة واحدة فاشتق لذلك من اسم الكف عبارة عن ذلك المعنى كما يسمى الشىء باسم ما كان منه سبب، ولا يعرف فى كلام العرب إلحاق هاء التأنيث فى الكف، والله أعلم. 38 - باب وُضُوءِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ وَفَضْلِ وَضُوءِ الْمَرْأَةِ وَتَوَضَّأَ عُمَرُ بِالْحَمِيمِ وَمِنْ بَيْتِ نَصْرَانِيَّةٍ. / 53 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَتَوَضَّئُون جَمِيعًا فِى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . قال ابن القصار: ذهب أئمة الفتوى بالأمصار إلى أنه لا بأس بالوضوء من فضل الحائض والجنب، مثل أن يفضل فى إنائهما ماء بعد فراغهما من غُسلهما، فيجوز للرجل أن يتوضأ بفضل وضوء المرأة وغسلها، إلا أحمد بن حنبل، فإنه قال: لا يجوز أن يتوضأ من فضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 ما توضأت به المرأة أو اغتسلت به متفردة، ووافقنا على أنه يجوز لها أن تتوضأ من فضل الرجل، والرجل من فضل الرجل، والمرأة من فضل المرأة، وكذلك إذا استعملاه جميعًا جاز أن يتوضأ الرجل منه. قال ابن القصار: وحديث ابن عمر يسقط مذهبه، لأن الرجال والنساء إذا توضئوا من ماء واحد فإن الرجل يكون مستعملا لفضل المرأة لا محالة. قال غيره: وحديث ابن عمر هذا يعارض ما روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) : تمت أنه نهى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة -. رواه شعبة عن عاصم الأحول، سمعت أبا حاجب يحدث عن الحكم الغفارى، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) . ورواه عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) مثله. وأحاديث الإباحة أصح. وقد سئل ابن عباس عن فضل وضوء المرأة، فقال: هن ألطف منا بنانا، وأطيب ريحًا. وهو قول زيد بن ثابت وجمهور الصحابة والتابعين، إلا ابن عمر فإنه كره فضل وضوء الجنب والحائض. وكره سعيد بن المسيب، والحسن البصرى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة. قال الطحاوى: فإن قيل: فإن حديث ابن عمر وعائشة ليس فيهما بيان لمن أجاز للرجل الوضوء من فضل المرأة، لأنه يجوز أن يكونا يغتسلان جميعًا، وإنما التنازع بين الناس إذا ابتدأ أحدهما قبل الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 فنظرنا فى ذلك، فحدثنا سليمان بن شعيب، قال: حدثنا الحصيب، حدثنا همام، عن هشام بن عروة، عن عائشة، أنها والنبى (صلى الله عليه وسلم) كانا يغتسلان من إناء واحد يغترف قبلها وتغترف قبله. وروى حماد بن زيد، عن أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة، قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) من إناء واحد تختلف فيه أيدينا من الجنابة. ففى هذه الآثار يتطهر كل واحد من الرجل والمرأة بسؤر صاحبه، فضادّ ذلك أحاديث النهى، فوجب النظر لنخرج به من المعنيين المتضادين معنى صحيحًا، فوجدنا الأصل المتفق عليه أن الرجل والمرأة إذا أخذا بأيديهم الماء معًا من إناء واحد أن ذلك لا ينجس الماء، ورأينا النجاسات كلها إذا وقعت فى الماء قبل أن يتوضأ منه أو مع التوضؤ منه أن حكم ذلك سواء، فلما كان ذلك كذلك، وكان وضوء كل واحد من الرجل والمرأة مع صاحبه لا ينجس الماء، كان وضوءه بعده من سؤره فى النظر أيضًا كذلك. قال الطبرى: والحميم الماء الساخن، وهو فعيل بمعنى مفعول، كما قيل: فتيل بمعنى مفتول، ورأس خضيب بمعنى مخضوب، ومن سمى الحمَّام حَمَّامًا لإسخانه من دخله، وقيل للمحموم محمومًا لسخونة جسده بالحرارة، ومنه قوله: (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن: 44] يراد به ماء قد أسخن فَأَنَّ حَرُّه، واشتد حتى انتهى إلى غايته. قال ابن السكيت: الحميم: ماء ساخن، يقال: احم لنا الماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 قال ابن المنذر: وأجمع أهل الحجاز والعراق جميعًا على الوضوء به غير مجاهد، فإنه كره الوضوء بالماء الساخن. وأما وضوء عمر من بيت نصرانية، فإنه كان يرى سؤرها طاهرًا. وممن كان لا يرى بسؤر النصرانى بأسًا: الأوزاعى، والثورى، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعى، وأبو ثور. قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدًا كره ذلك غيرأحمد وإسحاق، واختلف قول مالك فى ذلك، فقال فى المدونة: لا يتوضأ بسؤر النصرانى، ولا بما أدخل يده فيه. وفى العتبية لابن القاسم، عن مالك مرة أجازه، ومرة كرهه. والسؤر: بقية الماء فى الإناء عند العرب. 39 - باب صَبِّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَضُوءَهُ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ / 54 - فيه: جَابِر، قَالَ: جَاءَ الرَسُول (صلى الله عليه وسلم) يَعُودُنِى، وَأَنَا مَرِيضٌ لا أَعْقِلُ، فَتَوَضَّأ، َ وَصَبَّ عَلَىَّ مِنْ وَضُوئِه، ِ فَعَقَلْتُ. . . الحديث. قال المهلب: فيه دليل على طهور الماء الذى توضأ به، لأنه لو كان نجسًا لم يصبه عليه، وقد أمر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الذى عَانَ سهلا أن يتوضأ له، ويغسل داخلة إزاره ويصبه عليه، ولو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 كان نجسًا لم يأمر سهلا أن يغتسل منه، بل رجاء بركته، وأن يحمل عنه شر العين. وفيه: رقية الصالحين للماء، ومباشرتهم إياه، وذلك مما يرجى بركته. 40 - باب الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ فِى الْمِخْضَبِ وَالْقَدَحِ وَالْخَشَبِ وَالْحِجَارَةِ / 55 - فيه: أَنَسٍ، أُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِمِخْضَبٍ مِنْ حِجَارَةٍ فِيهِ مَاءٌ، فَصَغُرَ الْمِخْضَبُ أَنْ يَبْسُطَ فِيهِ كَفَّهُ، فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، قُلْنَا: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: ثَمَانِينَ وَزِيَادَةً. / 56 - وفيه: أَبُو مُوسَى، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، دَعَا بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ، وَمَجَّ. / 57 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَتَانا النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً فِى تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ، فَتَوَضَّأَ. / 58 - وفيه: عَائِشَةَ، لَمَّا ثَقُلَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ فِى أَنْ يُمَرَّضَ فِى بَيْتِى، فَأَذِنَّ لَهُ، فَقَالَ: تمت أهَرِيقُوا عَلَىَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ، لَعَلِّى أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ -، وَأُجْلِسَ فِى مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ. الحديث. قال المؤلف: فائدة هذا الباب أن الأوانى كلها من جواهر الأرض ونباتها طاهرة، إذا لم يكن فيها نجاسة. والمخضب يكون من حجارة ومن صفر، والذى فى حديث أنس كان من حجارة، وأما الذى فى حديث عائشة كان من صفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، عن عروة، أو غيره، عن عائشة، قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى مرضه الذى مات فيه: تمت صبوا علىّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلِّى أستريح فأعهد إلى الناس -، قالت عائشة: فأجلسناه فى مخضب لحفصة من نحاس. .، وذكر الحديث. قال ابن المنذر: روى عن على بن أبى طالب أنه توضأ فى طست، وعن أنس مثله. وقال الحسن البصرى: رأيت عثمان يُصبُّ عليه من إبريق، وهو يتوضأ. قال: وما علمت أحدًا كره النحاس والرصاص وشبهه إلا ابن عمر، فإنه كره الوضوء فى الصفر، وكان يتوضأ فى حجر، أو فى خشب أو فى أدم. وروى عن معاوية أنه كان يصلى بهم، وقال: نهيت أن أتوضأ فى النحاس. ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) الأسوة الحسنة، والحجة البالغة. وقال ابن جريج: ذكرت لعطاء كراهية ابن عمر للصفُر، فقال: أنا أتوضأ فى النحاس، وما يكره منه شىء إلا رائحته فقط. قال المؤلف: وقد وجدت عن ابن عمر أنه توضأ فيه، فهذه الرواية عنه أشبه بالصواب، وما عليه الناس. وقال بعض الناس: يحتمل أن تكون كراهية ابن عمر للنحاس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 والله أعلم، لما كان جوهرًا مسنخرجًا من معادن الأرض، شبهه بالذهب والفضة، فكرهه لنهى الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن الشرب فى آنية الفضة. وقد روى عن جماعة من العلماء أنهم أجازوا الوضوء فى آنية الفضة، وهم يكرهون الأكل والشرب فيها. وفى وضوء الثمانين رجلاً من مخضب صفُرٍ لم يبسط النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كفه فيه علَمٌ كبير من أعلام النبوة. وقال المهلب: إنما أمر، والله أعلم، أن يهراق عليه من سبع قرب على وجه التداوى، كما صب (صلى الله عليه وسلم) وضوءه على المغمى عليه، وكما أمر المعين أن يغتسل به، وليس كما ظن وغلط من زعم أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، اغتسل من إغمائه. وذكر عبد الوهاب بن نصر، عن الحسن البصرى، أنه قال: على المغمى عليه الغسل. وقال ابن حبيب: عليه الغسل إذا طال ذلك به. والعلماء متفقون، غير هؤلاء، أن من أغمى عليه فلا غسل عليه إلا أن يجنب. وقصده إلى سبع قرب تبركًا بهذا العدد، لأن الله تعالى خلق كثيرًا من مخلوقاته سبعًا سبعًا. وترجم لحديث عبد الله بن زيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 41 - باب الْوُضُوءِ مِنَ التَّوْرِ / 59 - وفيه: تمت فَمَسَحَ رَأْسَهُ، فَأَقْبَلَ بيديه وَأَدْبَرَ. . . -، وذكر الحديث. / 60 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ، فَأُتِىَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ فِيهِ شَىْءٌ مِنْ مَاءٍ، فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِيهِ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ. قال المؤلف: بهذا الحديث احتج الحسن بن حىّ ومن أجاز أن يبدأ المتوضئ بمسح الرأس من مؤخره، وليس كما ظن، لأن الواو لا توجب رتبة، لأن قوله: تمت فأدبر بيديه وأقبل - يحتمل التقديم والتأخير، ولو بدأ (صلى الله عليه وسلم) فى مسح رأسه بمؤخره - على ما جاء فى هذا الحديث - لم يدل ذلك على أن سنةَ مسح الرأس أن يبدأ بمؤخره، لأن هذه الفعلة إنما كانت نادرة منه (صلى الله عليه وسلم) وفعلها ليرى أمته السعة فى ذلك، وقد كان يفعل طوال دهره ما روى مالك فى حديث عبد الله بن زيد: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مسح رأسه فبدأ بمقدمه، ثم ذهب بهما إلى قفاه. وهذا يرفع الإشكال فى ذلك على ما بيناه. وقوله: تمت قد رحراح - هو القصير الجدار القريب القعر. وقال ابن قتيبة: يقال إناء رحراح ورحرح إذا كان واسعًا. قال الحربى: ومنه الرحرح فى حافر الفرس، وهو أن يتسع حافره ويقل عمقه، قال الأصمعى: ويكره فى الخيل. وقال أبو عبيد: المخضب مثل الإجانة التى تغسل فيها الثياب، وقد يقال لها: المركن أيضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 42 - باب الْوُضُوءِ بِالْمُدِّ / 61 - فيه: أَنَس، كَانَ (صلى الله عليه وسلم) يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ. قال أبو عبيد: اختلف أهل العراق، وأهل الحجاز فى مبلغ المد والصاع كم هو؟ فذهب أهل العراق إلى أن الصاع: ثمانية أرطال، والمُدّ: رطلان، واحتجوا بما رواه سهل ابن عبد الله بن عيسى، عن عبد الله بن حميد، عن أنس بن مالك، قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتوضأ برطلين ويغتسل بالصاع. قالوا: فإذا ثبت أن المُدّ رطلان ثبت أن الصاع ثمانية أرطال. وذهب أهل المدينة إلى أن المُدّ ربع الصاع، وهو رطل وثلث، والصاع خمسة أرطال وثلث. وهو قول أبى يوسف وإليه رجع حين ناظره مالك فى زنة المُدّ وأتاه بِمُدِّ أبناء المهاجرين والأنصار وراثة عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بالمدينة. وهو قول إسحاق بن راهويه. وحديث أنس لا حجة لأهل العراق فيه، لأنه قد روى بخلاف ما ذكروه، رواه شعبة عن عبد الله بن عبد الله بن جبير أنه سمع أنس بن مالك يقول: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتوضأ بالمكوك ويغتسل بخمسة مكاكى. وهذا بخلاف ما رواه عن أنس، والمكوك عندهم: نصف رطل إلى ثمانى أواقى. واختلفوا هل يجزئ الوضوء بأقل من المد، والغسل بأقل من الصاع؟ . فقال قوم: لا يجزئ أقل من ذلك لورود الخبر به، هذا قول الثورى والكوفيون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وقال آخرون: ليس المد والصاع فى ذلك بحتم، وإنما ذلك إخبار عن القدر الذى كان يكفيه (صلى الله عليه وسلم) لا أنه حد لا يجزئ دونه، وإنما قصد به التنبيه على فضيلة الاقتصاد وترك السرف. والمستحب لمن يقدر على الإسباغ بالقليل أن يقلل ولا يزيد على ذلك، لأن السرف ممنوع فى الشريعة. وقد روى عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: تمت سيكون فى هذه الأمة قوم يعتدون فى الطهور والدعاء -. وإلى هذا ذهب مالك وطائفة من السلف، وهو قول الشافعى، وإسحاق. وقال سعيد بن المسيب: إن لى ركوة، أو قداحًا، يسع نصف المد، أو نحوه وأنا أتوضأ منه وربما فضل فضل. وعن سليمان بن يسار مثله. وتوضأ القاسم بن محمد بقدر نصف المد وزيادة قليل. وقيل لأحمد بن حنبل: إن الناس فى الأسفار ربما ضاق عليهم الماء أفيجزئ الرجل أن يتوضأ بأقل من المد؟ فقال: إذا أحسن أن يتوضأ به وغسل فلم يمسح يجزئه. وقال ابن أبى زيد: القليل من الماء مع إحكام الوضوء سنة، والإسراف فيه غلو وبدعة. وهذا كله رد على الإباضية، ومن رأى أن قليل الماء لا يجزئ، والسنة حجة على من خالفها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 43 - باب الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ / 62 - فيه: سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ، أَن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَأَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ سَأَلَ أَبَاه عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إِذَا حَدَّثَكَ سَعْدٌ عَنِ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلا تَسْأَلْ عَنْهُ غَيْرَهُ. / 63 - وفيه: الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ،: أَن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، خَرَجَ لِحَاجَتِهِ، فَاتَّبَعَهُ الْمُغِيرَةُ بِإِدَاوَةٍ فِيهَا مَاءٌ، فَصَبَّ عَلَيْهِ حِينَ فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ، فَتَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. / 64 - وفيه: عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِىِّ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ رَأَى رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ. رواه شيبان، وأبان، وحرب، عَنْ يَحْيَى بن أَبِى كثير. / 65 - ورواه: الأوْزَاعِىُّ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِى سَلَمَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَخُفَّيْهِ. وَتَابَعَهُ مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِى سَلَمَةَ، عَنْ عَمْرٍو، رَأَيْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) . اتفق العلماء على جواز المسح على الخفين، ورويت فيه عن مالك روايات، والذى استقر عليه مذهبه جوازه. وقالت الخوارج: لا يجوز أصلاً، لأن القرآن لم يَرِدْ به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وقالت الشيعة: لا يجوز، لأن عليًّا امتنع منه. وحجة الجماعة ما روى فيه عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) من الطرق التى اشتهرت، وعن الصحابة الذين كانوا لا يفارقونه فى الحضر، ولا فى السفر. فممن نقل ذلك عنه (صلى الله عليه وسلم) : عمر بن الخطاب، وعلى، وسعد، وابن مسعود، والمغيرة، وخزيمة بن ثابت، وابن عباس، وجرير بن عبد الله، وأنس، وعمرو بن العاص، وأبو أيوب، وأبو أمامة الباهلى، وسهل بن سعد، وقيس بن سعد، وأبو موسى الأشعرى، وجابر، وأبو سعيد، وحذيفة، وعمار، وأبو مسعود الأنصارى، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وأبو بكرة، وبلال، وصفوان بن عسال، وغيرهم حتى قال الحسن البصرى: حدثنى سبعون من أصحاب محمد أنه مسح على الخفين، فجرى مجرى التواتر. وحديث المغيرة كان فى غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة، فسقط بهذا قول من يقول: آية الوضوء مدنية والمسح منسوخ بها، لأنه متقدم وغزوة تبوك آخر غزوة كانت بالمدينة، والمائدة نزلت بالمدينة قبل هذا. وقد تأول جماعة من الفقهاء قوله عز وجل: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) [النساء: 43، المائدة: 6] فى قراءة من خفض، أراد إذا كانا فى الخفين. ومما يدل أيضًا أن المسح غير منسوخ: حديث جرير أنه: رأى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، مسح على الخفين، وكان يعجبهم، لأن جريرًا أسلم بعد المائدة فأعجبهم حين رأوا المسح عن النبى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 (صلى الله عليه وسلم) ، بعد نزول المائدة، ولم يقل لهم النبى (صلى الله عليه وسلم) عند نزول المائدة أن هذه الآية قد نسخت المسح على الخفين. وأيضًا فإن حديث المغيرة فى المسح كان فى السفر، فأعجبهم استعمال جرير له فى الحضر، وأنه لم ينسخه شىء ذكره البخارى فى كتاب الصلاة. ولم يرو عن أحد من الصحابة إنكار المسح على الخفين إلا عن ابن عباس، وقد روى عن علىّ، وعائشة، وأبى هريرة، وأبى أيوب. فأما ابن عباس وأبو هريرة فقد روى عنهما خلاف ذلك فى موافقة سائر أصحابه. وقيل لأحمد بن حنبل: ما تقول فيما روى عن ابن عباس، وعائشة، وأبى أيوب فى إنكار المسح؟ إنما روى عن أبى أيوب أنه قال: حبب إلىّ الغسل. فإن ذهب ذاهب إلى مثل هذا القول ولم ينكر المسح لم نعبه وصلينا خلفه. وقد كان مالك يذهب إلى ذلك، ولم ينكر المسح، وإن ترك المسح، ولم يره كما صنع أهل البدع، فلا نصلى خلفه. وقال أبو محمد الأصيلى: ذكر العمامة فى هذا الحديث من خطأ الأوزاعى، لأن شيبان روى الحديث عن يحيى بن أبى كثير، ولم يذكر العمامة، وتابعه حرب بن شداد، وأبان العطار، فهؤلاء ثلاثة من رواة يحيى بن أبى كثير خالفوا الأوزاعى، فوجب تغليب الجماعة على الواحد، وأما متابعة معمر للأوزاعى، فهى مرسلة، وليس فيها ذكر العمامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 روى عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن عمرو بن أمية، قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يمسح على خفيه. هكذا وقع فى مصنف عبد الرزاق، ولم يذكر العمامة، وأبو سلمة لم يسمع من عمرو، وإنما سمع من ابنه جعفر، فلا حجة فيهما. وذكر ابن أبى خيثمة عن ابن معين أن حديث عمرو بن أمية فى المسح على العمامة مرسل. واختلف العلماء فى المسح على العمامة، فممن كان يمسح عليها: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وأنس بن مالك، وأبو أمامة، وسعد بن أبى وقاص، وأبو الدرداء، وبه قال الثورى، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وممن كان لا يرى المسح عليها: عَلىّ، وابن عمر، وجابر. ومن التابعين: عروة، والنخعى، والشعبى، والقاسم، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعى، واحتجوا بقوله تعالى: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ) [النساء: 43، المائدة: 6] ، ومن مسح على العمامة لم يمسح برأسه. وأجمعوا أنه لا يجوز مسح الوجه فى التيمم على حائل دونه، فكذلك الرأس. وقال ابن وهب، عن ابن جريج، عن عطاء بلغنا: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يتوضأ وعليه العمامة يؤخرها عن رأسه ولا يحلها، ثم يمسح برأسه، ثم يعيد عمامته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وقال ابن وهب: حدثنا معاوية بن صالح، عن عبد العزيز بن مسلم، عن أبى معقل، عن أنس بن مالك، قال: رأيت النبى (صلى الله عليه وسلم) يتوضأ وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه، ولم ينقض العمامة. واختلف العلماء فى صفة المسح على الخفين، فذهب ابن عمر، وسعد بن أبى وقاص إلى أنَّ الكمال والسنة: مسح أعلاهما وأسفلهما، وبه قال مالك، والشافعى. وقال ابن القاسم: لو مسح رجل ظاهر الخف، ثم صلى فأَحَبُّ إلىّ أن يعيد فى الوقت، لأن عروة كان لا يمسح بطونهما. فهذا يدل على أنه إن اقتصر على الظهور دون البطون أنه يجزئه فى مذهب مالك. وقالت طائفة: إن الممسوح أعلى الخف، فإن أسفله ليس بمحل للمسح لا مسنونًا ولا جائزًا، وذكر أنه قول أنس بن مالك، وهو مذهب الشعبى، والنخعى، والأوزاعى، والثورى، وأبى حنيفة. واحتجوا بما رووه عن المغيرة: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) مسح على ظهور خفيه. والذى ذكر البخارى فى هذا الباب عن سعد، والمغيرة: أن النبى مسح على الخفين. دون ذكر أعلاهما أو أسفلهما، وهذا لفظ محتمل للتأويل أن يفعل فى الخف ما يسمى مسحًا إلا أن الصحابة مجمعة أنه إن مسح أسفله دون أعلاه لم يجزئه، وهو قول فقهاء الأمصار. وذكر المزنى عن الشافعى أنه يجوز الاقتصار على أسفل الخف دون أعلاه، وذكره ابن عبد الحكم، عن أشهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 واختلفوا فى الخف المخرق يمسح عليه؟ . فقال مالك: يمسح إذا كان خَرْقًا يسيرًا لا يظهر منه القدم. وقال بعض أصحابه: معناه أن يكون الخرق لا يمنع من لبسه والانتفاع به. وهو قول الليث، والشافعى. وقال الثورى: يمسح وإن تفاحش خرقه، وما دام يسمى خُفّا، وقد كانت خفاف المهاجرين والأنصار لا تسلم من الخرق، وهو قول أبى ثور، وإسحاق. وقال الأوزاعى: يمسح الخُفَّ وما ظهر من القدم، وهو قول الطبرى فى جواز المسح على القدمين. وقال الحسن بن حى: يمسح على الخف إذا كان ما ظهر منه يغطيه الجورب، فإن ظهر شىء من القدم لم يمسح. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يمسح إذا ظهر من الرِّجْل أقل من ثلاثة أصابع، ولا يمسح إذا ظهر ثلاثة أصابع. 44 - باب إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ / 66 - فيه: الْمُغِيرَةِ، كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى سَفَرٍ، فَأَهْوَيْتُ لأنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ: تمت دَعْهُمَا فَإِنِّى أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ -، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا. قال المؤلف: من هذا الحديث قال مالك وجميع الفقهاء أنه من لبس خفيه على غير طهارة أنه لا يمسح عليهما، لقوله: تمت دعهما، فإنى أدخلتهما طاهرتين، ومسح عليهما -. وهذا تعليم منه (صلى الله عليه وسلم) السبب الذى يبيح المسح على الخفين، وهو إدخاله لرجليه وهما طاهرتان بطهر الوضوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 واختلفوا فيمن قدم غسل رجليه ولبس خفيه، ثم أتم وضوءه هل له أن يمسح عليهما إن أحدث؟ . فقال مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق: لا يجوز له أن يمسح عليهما حتى يكون طاهرًا الطهارة التامة قبل لبسهما، أو لبس أحدهما، وحجتهم ظاهر الحديث. وقال أبو حنيفة، والثورى، والمزنى: يجوز له المسح عليهما، وكذلك إذا غسل إحدى رجليه ولبس، وهو قول مطرف من أصحاب مالك. وحديث المغيرة يرد هذا القول، لقوله: تمت دعهما، فإنى أدخلتهما طاهرتين -. فجعل العلة فى جواز المسح وجود اللبس والرجلان طاهرتان بطهر الوضوء. واحتج الطحاوى للكوفيين، فقال: يجوز أن يقال: إن رجليه طاهرتان إذا غسلهما، وإن لم يكمل الطهارة، كما يقال: صلى ركعة، وإن لم تتم صلاته. وقال آخرون منهم: وإنما يراعى الحدث، والحدث لا يرد إلا على طهارة كاملة، فهو كمن لم يقدم رجليه. وحجة مالك أن من لبس خفيه قبل كمال طهارته، فكأنه لبسهما قبل غسل الرجلين بدليل الحديث. ومن هذه المسألة تفرع الجواب، فيمن لبس الخف اليمنى قبل أن يغسل الرجل اليسرى. فعند مالك والشافعى، وأحمد وإسحاق: لا يمسح، لأنه لبس الخف الأولى قبل تمام طهارته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وقال الثورى، وأبو حنيفة، والمزنى: يجوز له أن يمسح عليهما، وهو قول مطرف. وقال سحنون: لا يمسح إلا أن يخلع اليمنى فقط. وأجمعوا أنه لو نزع الخف الأولى، ثم لبسهما بعد، جاز له المسح. واختلفوا فيمن نزع خفيه بعد المسح عليهما: فقال النخعى، ومكحول، والأوزاعى فى رواية: يعيد الوضوء، وهو قول أحمد، وإسحاق. وقال الكوفيون، والمزنى، وأبو ثور: يغسل قدميه، وعن الأوزاعى مثله. واختلف قول الشافعى مثل قول الأوزاعى، فمرة قال: يتوضأ، ومرة قال: يغسل قدميه. وقال مالك، والليث: يغسل رجليه مكانه، فإن تطاول أعاد الوضوء. وقال الحسن البصرى، وابن أبى ليلى، وقتادة، ورواية عن النخعى: إذا نزع خفيه بعد المسح صلى، وليس عليه شىء. وحجة هذا القول: الإجماع على أنه من مسح برأسه فى الوضوء، ثم حلقه أنه لا يستأنف مسحه فكذلك رجليه. وإن نزع أحد خفيه بعد المسح، فقال مالك والليث، والكوفيون، والأوزاعى، والشافعى: يغسل رجليه جميعًا. وروى عن الثورى أنه قال: كان بعضهم يقول: يغسل إحدى رجليه، وهى رواية المعافري، عن الثوري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وروى أشهب، عن مالك: أنه يجزئه غسل تلك الرجل فقط، وروى عيسى، عن ابن القاسم مثله. قال المهلب: وفيه المسح فى السفر بغير توقيت، واختلف العلماء فى ذلك، فقال مالك، والليث: لا وقت للمسح على الخفين، وللمسافر والمقيم أن يمسح ما بدا له، وروى هذا عن عمر بن الخطاب، وسعد بن أبى وقاص، وعقبة بن عامر، وابن عمر، وبه قال الحسن البصرى. وقال الكوفيون، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد: يمسح المقيم يومًا وليلة، ويمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن، ورووا فى ذلك آثارًا كثيرة عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وصححها قوم، ودفعها آخرون. وقال عبد الرحمن بن مهدى: حديثان لا أصل لهما: التوقيت فى المسح، والتسليمتان. قال المهلب: فى حديث المغيرة خدمة العالم، وأن للخادم أن يقصد إلى ما يعرف من خدمته دون أن يؤمر بها، لقوله: تمت أهويت لأنزع خفيه -. قال غيره: وفيه إمكان الفهم عن الإشارة، ورد الجواب بالعلم على ما يفهم من الإشارة، لأن المغيرة أهوى لينزع الخفين، ففهم عنه (صلى الله عليه وسلم) ما أراد فأفتاه بأنه يجزئه المسح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 45 - باب مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ لَحْمِ الشَّاةِ وَالسَّوِيقِ وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ لحمًا، وَلَمْ يَتَوَضَّئُوا . / 67 - فيه: ابن عَبَّاس، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ، ثُمَّ صَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. رواه عمرو بن أمية عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . واختلف السلف قديمًا فى هذه المسألة، فذهب قوم إلى إيجاب الوضوء من أكل ما غيرت النار وهم: عائشة وأم حبيبة زوجا النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعرى، واختلف فى ذلك عن ابن عمر، وأبو طلحة، وأنس، وبه قال خارجة بن زيد، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وابن المنكدر، وابن شهاب، وعمر بن عبد العزيز، وهؤلاء كلهم مدنيون. وقال به أهل العرق: أبو قلابة، والحسن البصرى، وأبو مجلز، وذهبوا فى ذلك إلى ما روى ابن أبى ذئب، عن الزهرى، عن عبد الملك بن أبى بكر، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، قال: قال رسول الله: تمت توضئوا مما غيرت النار -. وبما رواه ابن شهاب، عن سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان أنه سأل عروة عن ذلك فقال: سمعت عائشة تقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : تمت توضئوا مما غيرت النار -. وقال آخرون: لا يتوضأ مما مست النار، وممن قال بذلك: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطابن وعثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو أمامة، وأُبىّ بن كعب، وأبو الدرداء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وهو قول مالك، والثورى فى أهل الكوفة، والأوزاعى فى أهل الشام، والشافعى، وأحمد، وأسحاق، وأبى ثور، واحتجوا بحديث هذا الباب أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ، وقالوا: هذا كان آخر الأمرين من رسول الله. قال الطحاوى: والدليل على ذلك ما حدثنا أبو زرعة الدمشقى، حدثنا على بن عياش، حدثنا سعيد بن أبى حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال: كان آخر الأمرين من رسول الله ترك الوضوء مما مست النار. وحدثنا ابن خزيمة، حدثنا حجاج، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أكل ثور أقط يومًا فتوضأ، ثم أكل كتفًا فصلى ولم يتوضأ. فثبت أن آخر الأمرين منه (صلى الله عليه وسلم) ترك الوضوء مما غيرت النار وأنه ناسخ لما قبله. وقال حماد بن زيد: سمعت خالدًا الحذاء يقول: كانوا يرون أن الناسخ من حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما كان عليه أبو بكر وعمر. وقال حماد: سمعت أيوب، قلت لعثمان البتى: إذا سمعت أبدًا اختلافًا عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فانظر ما كان عليه أبو بكر وعمر فشد عليه يدك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وروى محمد بن الحسن، عن مالك، قال: إذا جاء عن النبى (صلى الله عليه وسلم) حديثان مختلفان وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر، كان فى ذلك دلالة على أن الحق فيما عملا به. وقال الأوزاعى: كان محكول يتوضأ مما مست النار، فلقى عطاء بن أبى رباح فأخبره أن أبا بكر الصديق أكل كتفًا ثم صلى ولم يتوضأ، فترك مكحول الوضوء فقيل له: تركت الوضوء؟ فقال: لأن يقع أبو بكر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يخالف رسول الله. وقد ذهب قوم ممن تكلم فى غريب الحديث إلى أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت توضئوا مما غيرت النار - أنه عنى به غسل اليد، وهذا لا معنى له، ولو كان كما ظن لكان دسم ما لم تغيره النار وغيره لا تغسل منه اليد، وهذا يدل على قلة علمه بما جاء عن السلف فى ذلك من التنازع فى إيجاب الوضوء واختلاف الآثار فى ذلك عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . وقال الطحاوى: والحجة فى ذلك من جهة النظر أنا رأينا أن كل ما مسته النار أن أكلها قبل مماسة النار إياها لا ينقض الوضوء، فأردنا أن ننظر هل للنار حكم يجب فى الأشياء إذا مستها النار فينقل حكمها إليها؟ فرأينا الماء طاهرًا يؤدى به الفرض، ثم رأيناه إذا سخن أن حكمه فى الطهارة على ما كان عليه قبل مماسة النار له، فكان فى النظر أن الطعام الطاهر الذى لا يكون أكله قبل مماسة النار حدثا، إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 مسته النار لا تنقله عن حاله ولا تغير حكمه، ويكون حكمه بعد مسيس النار كحكمه قبل ذلك، قياسًا ونظرًا. وفرق أحمد بن حنبل وإسحاق بين أكل لحوم الإبل وغيرها، فقالا: إن أكل لحوم الإبل نيئًا أو مطبوخًا فعليه الوضوء. واحتج أحمد بما رواه سفيان، عن سماك، عن جعفر بن أبى ثور، عن جابر بن سمرة، قال: سئل النبى (صلى الله عليه وسلم) أنتوضأ من لحوم الإبل؟ فقال: تمت نعم - فقيل: أفنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: تمت لا -. وهذا لو صح، لكان منسوخًا بما ذكرنا أن آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار. وقد يحتمل أن يكون الوضوء محمولا على الاستحباب والنظافة لشهوكة الإبل لا على الإيجاب، لأن تناول الأشياء النجسة مثل الميتة والدم ولحم الخنزير لا ينقص الوضوء فلأن لا توجبه الأشياء الطاهرة أولى. 46 - باب مَنْ مَضْمَضَ مِنَ السَّوِيقِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ / 68 - فيه: سُوَيْدَ بْنَ النُّعْمَانِ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَامَ خَيْبَرَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ، وَهِيَ أَدْنَى خَيْبَرَ، فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَعَا بِالأزْوَادِ، فَلَمْ يُؤْتَ إِلا بِالسَّوِيقِ، فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّىَ، فَأَكَلَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَأَكَلْنَا، ثُمَّ قَامَ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. / 69 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) أَكَلَ عَنْدَ مَيْمُونَةَ كَتِفًا ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 قال المهلب: فى حديث سويد أن النبى (صلى الله عليه وسلم) مضمض من السويق، وليس فى حديث ابن عباس ذكر المضمضة ولا فى واحد من الحديثين، أنه (صلى الله عليه وسلم) غسل يده من ذلك، فمباح للإنسان أن يغفل من ذلك ما شاء. قال: ومعنى المضمضة من السويق، وإن كان لا دسم له، أنه تحتبس بقاياه بين الأسنان ونواحى الفم، فيشتغل تتبعه بلسانه المصلى عن صلاته. قال غيره: فى حديث سويد من الفقه إباحة اتخاذ الزاد فى السفر، وفى ذلك رد على الصوفية الذين يقولون: لا يدخر لغده. وفيه من الفقه: نظر الإمام لأهل العسكر عن قلة الأزواد وجمعها، ليقوت من لا زاد معه من أصحابه. وفيه: أن القوم إذا فنى أكثر زادهم فوجب أن يتواسوا فى زاد من بقى من زاده شىء، فإن أراد الذى بقى من زاده أن يأخذ فيه الثمن فذلك له إن كان عند القوم ثمن، وإن كان ثمنه قدرًا اجتهد فيه بلا بدل، فإن لم يكن عندهم ثمن فواجب عليهم أن يتواسوا إلى أن يخرجوا من سفرهم إلى موضع يجدون الزاد فيه، لأن على المسلم أن يواسى أخاه، وقد جاء فى الحديث: تمت لا يحل لمسلم أن يعلم أن جاره طاوٍ إلى جنبه وهو شبعان لا يرفقه بما يمسك مهجته -. وفيه: أن للسلطان أن يأخذ المحتكرين بإخراج الطعام إلى الأسواق عند قلته، فيبيعونه من أهل الحاجة بسعر ذلك اليوم. وقوله: تمت فثرى - يعنى بُلَّ بالماء، لما كان لحقه من اليبس والقدم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 ومنه قيل للثرى: ثرى، لرطوبته. وقال صاحب تمت الأفعال - يقال: ثريت الأرض وأثرت إذا وصل ندى المطر إلى ثراها. 47 - باب هَلْ يُمَضْمِضُ مِنَ اللَّبَنِ / 70 - فيه: ابْن عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) شَرِبَ لَبَنًا، فَمَضْمَضَ، وَقَالَ: تمت إِنَّ لَهُ دَسَمًا -. قال: المهلب: تمت إن له دسمًا - قد بين العلة التى من أجلها أمروا بالوضوء مما مست النار فى أول الإسلام، وذلك، والله أعلم، على ما كانوا عليه من قلة التنظف فى الجاهلية، فلما تقررت النظافة وشاعت فى الإسلام، نسخ الوضوء، تيسيرًا على المؤمنين. وفيه: أن مضمضة الفم عند أكل الطعام من أدب الأكل. 48 - باب الْوُضُوءِ مِنَ النَّوْمِ وَمَنْ لَمْ يَرَ مِنَ النَّعْسَةِ وَالنَّعْسَتَيْنِ أَوِ الْخَفْقَةِ وُضُوءًا / 71 - فيه عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّى فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ رَاقِدٌ، لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ -. / 72 - وفيه: أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: تمت إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ [فِى الصَّلاةِ] ، فَلْيَنَمْ، حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقْرَأُ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 قال المهلب: قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إذا نعس أحدكم فليرقد -، هو فى صلاة الليل، لأن صلوات الفرض ليست من نهاية الطول، ولا فى أوقات النوم فيحدث فيها مثل هذا، وقد ذكر (صلى الله عليه وسلم) العلة الموجبة لقطع الصلاة، وذلك أنه خاف عليه إذا غلب عليه النوم أن يخلط الاستغفار بالسب. قال المهلب: ومن صار فى مثل هذه الحال من ثِقَلِ النوم فقد انتقض وضوءه بإجماع، فأشبه من نهاه الله تعالى عن مقاربة الصلاة فى حال السكر بقوله تعالى: (لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ) [النساء: 43] . وقد قال الضحاك فى تأويل قوله تعالى: (وَأَنتُمْ سُكَارَى (أنه النوم. والأكثر أنها نزلت فى سكر الخمر، وبَيَّن حديث عائشة، وحديث أنس فى هذا أن المعنى واحد، لأن من أراد أن يستغفر ربه فيسب نفسه، فقد حصل من فقد العقل فى منزلة من لا يعلم ما يقول من سكر الخمر التى نهى الله تعالى عن مقاربة الصلاة فيها، ومن كان كذلك فلا تجوز صلاته، لأنه فقد عقله الذى خاطب الله أهله بالصلاة والفرائض، ورفع الخطاب بذلك والتكليف عمن عدمه. ودلت الآية على ما دل عليه الحديثان، أنه لا ينبغى للمصلى أن يقرب الصلاة مع شاغل له عنها، أو حائل بينه وبينها، لتكون همه لا هم له غيرها، وأن من استثقل نومه فعليه الوضوء، وهذا يدل أن النوم اليسير بخلاف ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وأجمع الفقهاء على أن النوم القليل الذى لا يزيل العقل لا ينقض الوضوء، إلا المزنى وحده، فإنه جعل قليل النوم وكثيره حدثًا، وخرق الإجماع. وكذلك أجمعوا أن نوم المضطجع ينقض الوضوء. واختلفوا فى هيئات النائمين، فقال مالك: من نام قائمًا أو راكعًا، أو ساجدًا فعليه الوضوء. وفرق الشافعى بين نومه فى الصلاة وغيرها، فقال: إن كان فى الصلاة لا ينقض، كما لا ينقض نوم القاعد، وله قول آخر كقول مالك. وعند الثورى وأبى حنيفة: لا ينقض الوضوء إلا نوم المضطجع فقط، واحتجوا بما روى أبو خالد الدالانى، عن قتادة، عن أبى العالية، عن ابن عباس، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، نام فى سجوده ونفخ، فقيل له: يا رسول الله، نمت فى سجودك وصليت، ولم تتوضأ؟ فقال: تمت إنما الوضوء على من نام مضطجعًا -. وهذا حديث منكر، قد ضعفه ابن حنبل وأبو داود، وقال أحمد: ما لأبى خالد يُدخِل نفسه فى أصحاب قتادة، ولم يلقه؟ . وأيضًا لم يروه أحد من أصحاب قتادة عنه، وقيل: لم يسمع قتادة من أبى العالية إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها. والقائم والراكع والساجد يمكن خروج الريح منه، لانفراج موضع الحدث منه، ولا يشبه القاعد المنضم الأطراف إلا أن يطول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 نومه جدًا فى حال قعوده، فعليه الوضوء عند مالك، والأوزاعى، وأحمد. ولم يفرق أبو حنيفة والشافعى بين نوم الجالس فى القِلَّة والكَثْرَة، وقالا: لا ينتقض وضوءه وإن طال. ويرد قولهم: أنه إذا طال نومه جدًا فى حال قعوده فهو شاك فى الطهارة، وقد أُخِذَ عليه أن يدخل الصلاة بيقين طهارة، وهذا قد زال يقينه، فعليه الوضوء، وسيأتى إن شاء الله فى كتاب الصلاة، فى باب النوم قبل العشاء لمن غلب عليه شىء من معنى هذا الباب. قال عبد الواحد: فإن قال قائل: فمن أين يخرج من هذا الباب قوله فى الترجمة: ومن لم ير من النعسة والنعستين والخفقة وضوءًا؟ قيل له: يخرج من معنى الحديث، لأنه لما أوجب، (صلى الله عليه وسلم) ، قطع الصلاة بغلبة النوم والاستغراق فيه، دل أنه إذا كان النعاس أقل من ذلك ولم يغلب عليه أنه معفو عنه، لا وضوء فيه، على ما يذهب إليه الجمهور. 49 - باب الْوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ / 73 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ، قُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: يُجْزِئُ أَحَدَنَا الْوُضُوءُ، مَا لَمْ يُحْدِثْ. / 74 - وفيه: سُوَيْدُ بْنُ النُّعْمَانِ، أَن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، صَلَّى الْعَصْرَ يوم خَيْبَرَ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. فيه: أن الوضوء من غير حدث ليس بواجب، وقد بين ذلك أنس بقوله: تمت يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث -. وعليه الفقهاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 والناس، ويشهد لصحة قول أنس فى ذلك صلاته (صلى الله عليه وسلم) يوم خيبر العصر والمغرب بوضوء واحد فى حديث سويد، وإنما فعل ذلك ليُرى أمته أن ما يلتزمه (صلى الله عليه وسلم) فى خاصته من الوضوء لكل صلاة ليس بلازم، وقد تقدم هذا المعنى فى أول كتاب الوضوء. وقال بعض العلماء: الوضوء عن غير حدث نور على نور. فمن أراد الاقتداء به (صلى الله عليه وسلم) فى جميع ذلك فمباح، وكان ابن عمر يلتزم اتباعه (صلى الله عليه وسلم) فى جميع أفعاله، ويتوخى المواضع التى صلى فيها، فيصلى فيها حتى أنه كان يدير ناقته فى المواضع التى كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يدير ناقته فيها، حبًا للاقتداء به ورغبةً فى امتثال أفعاله (صلى الله عليه وسلم) . 50 - باب مِنَ الْكَبَائِرِ أَنْ لا يَسْتَتِرَ مِنْ بَوْلِهِ / 75 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، مَرَّ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ، أَوْ مَكَّةَ فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِى قُبُورِهِمَا، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِى كَبِيرٍ -، ثُمَّ قَالَ: تمت بَلَى، كَانَ أَحَدُهُمَا لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَكَانَ الآخَرُ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ. . . . . - الحديث. قال المهلب: قوله: تمت وما يعذبان فى كبير -، يعنى عندكم، وهو كبير عند الله يدل على ذلك قوله: تمت بلى - أى بلى إنه لكبير عند الله وهو كقوله: تمت إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أنها تبلغ حيث ما بلغت، يكتب له بها سخطه إلى يوم يلقاه -. ومصداق هذا المعنى فى كتاب الله: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور: 15] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 واختلف أهل التأويل فى الكبائر التى تُغْفر الصغائر باجتنابها، فقال بعضهم: الكبائر سبع، وقال آخرون: هى تسع، وقال آخرون: كل ما نهى الله عنه فهو كبير. وقيل: كل ما عُصى الله به فهو كبير. هذا قول الأشعرية، ويحتمل أن يحتجوا بهذا الحديث، لأن ترك التحرز من البول لم يتقدم فيه وعيد من الله ولا من رسوله، (صلى الله عليه وسلم) ، حتى أخبر عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه كبير، وأن صاحبه يعذب عليه، فكذلك يجوز أن يكون كثير من الذنوب كبائر، وإن لم يتقدم عليها وعيد. وخالفهم الفقهاء وأهل تأويل القرآن فى ذلك، وفرَّقوا بين الكبائر والصغائر. وقد تقصيت مذاهب العلماء فيه، وما نزع به كل فريق فى كتاب الأدب، فهو أولى به. وروى هذا عن على بن أبى طالب، وعبيد بن عمير، وعطاء، واحتجوا بآثار عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك. فقال بعضهم: الكبائر تسع، روى هذا عن عبد الله بن عمر. وقال آخرون: كل ذنب ختمه الله بنار، أو لعنة، أو غضب، أو عذاب، فهو كبير. روى هذا عن ابن عباس. وروى عنه: كل ما نهى الله عنه فهو كبير، قال: ومنها النظرة. وقال مرة: كل شىء عُصى الله به فهو كبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وقال طاوس: قيل لابن عباس: الكبائر سبع؟ قال: هى إلى السبعين أقرب. وقال سعيد بن جبير: قال رجل لابن عباس: الكبائر سبع؟ قال: هى إلى سبع مائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار. وذهب أهل التأويل إلى أن الصغائر تُغفر باجتناب الكبائر، وخالفهم فى ذلك الأشعرية، وسيأتى بيان قولهم وما نزع إليه كل فريق منهم فى كتاب الأدب، إن شاء الله. إلا أن قوله: تمت يُعذبان وما يُعذبان فى كبير - حجة لقول ابن عباس، أن ما عُصى الله به فهو كبير، لأن ترك التحرز من البول لم يتقدم فيه وعيد من الله ولا من رسوله (صلى الله عليه وسلم) حتى أخبر أنه كبير، وأن صاحبه يُعذب عليه، فكذلك يجوز أن يكون كثير من الذنوب كبائر، وإن لم يتقدم عليها وعيد. قال أبو بكر الصديق: إن الله يغفر الكبير فلا تيئسوا، ويُعذب على الصغير فلا تغتروا. وفى حديث ابن عباس: أن عذاب القبر حق، يجب الإيمان به والتسليم له، وهو مذهب أهل السنة. وسيأتى فى كتاب الجنائز شىء من معنى هذا الحديث، إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 51 - باب مَا جَاءَ فِى غَسْلِ الْبَوْلِ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) لِصَاحِب الْقَبْرِ: تمت كَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ -، وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى بَوْلِ النَّاسِ. / 76 - فيه: أَنَس، كَانَ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا تَبَرَّزَ، أَتَيْتُهُ بِمَاءٍ، فَيَغْسِلُ بِهِ. / 77 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَرَّ بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: تمت إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِى كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ. . . . - الحديث. أجمع الفقهاء على نجاسة البول والتنزه عنه. وقوله: تمت كان لا يستتر من بوله -، يعنى أنه كان لا يستر جسده ولا ثيابه من مماسة البول، فلما عُذب على استخفافه لغسله والتحرز منه، دل أنه من ترك البول فى مخرجه، ولم يغسله أنه حقيق بالعذاب. وقد روى غير البخارى فى مكان تمت يستتر من بوله -: تمت يستبرئ من بوله -، معنى لا يستبرئ: لا يستفرغ البول جهده بعد فراغه منه، فيخرج منه بعد وضوئه فيصل غير متطهر. ذكر عبد الرزاق هذا الحديث وقال فيه: تمت أما أحدهما فكان لا يتنزه عن البول -. ورواه أيضًا: تمت أما هذا كان لا يتأذى ببوله -. هذه الروايات كلها معناها متقارب، واختلف الفقهاء فى إزالة النجاسة من الأبدان والثياب، فقال مالك: إزالتها ليست بفرض. وقال بعض أصحابه: إزالتها فرض، وهو قول أبى حنيفة، والشافعى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 إلا أن أبا حنيفة يعتبر فى النجاسات ما زاد على مقدار الدرهم. وحجة من أوجب إزالة النجاسة: أنه أخبر (صلى الله عليه وسلم) عن صاحب القبر: أنه يُعذب بسب البول، وذلك وعيد وتحذير، فثبت أن الإزالة فرض. واحتج ابن القصار بقول مالك، فقال: يحتمل صاحب القبر الذى عُذب فى البول أنه كان يدع البول يسيل عليه، فيصلى بغير طهر، لأن الوضوء لا يصح مع وجوده، ومحتمل أن يفعله على عمد لغير عذر، لأنه قد روى تمت لا يستبرئ -، وتمت لا يستنزه -، وعندنا أن من تعمد ترك سنن النبى (صلى الله عليه وسلم) بغير عذر ولا تأويل أنه مُتَوَعَّد مأثوم، فأما إذا لم يتعمد ذلك، وتركها متأولا أو لعذر، فصلاته صحيحة تامة. وقول البخارى: تمت ولم يذكر سوى بول الناس -، فإنه أراد أن يبين أن معنى روايته فى هذا الباب: تمت أما أحدهما فكن لا يستتر من البول -، أن المراد بول الناس لا بول سائر الحيوان، لأنه قد روى الحديث فى هذا الباب قبل هذا وغيره تمت لا يستتر من بوله -، فلا تعلق فى حديث هذا الباب لمن احتج به فى نجاسة بول سائر الحيوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 52 - باب تَرْكِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَالنَّاسِ الأعْرَابِىَّ حَتَّى فَرَغَ مِنْ بَوْلِهِ فِى الْمَسْجِدِ / 78 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، رَأَى أَعْرَابِيًّا يَبُولُ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: تمت دَعُوهُ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ، دَعَا بِمَاءٍ، فَصَبَّهُ عَلَيْهِ -. قال المهلب: فيه الرفق بالجاهل، لأنه لو قطع عليه بوله لأصاب ثوبه البول وتنجس، وكذلك وصَفهُ الله أنه بالمؤمنين رءوف رحيم، وأنه على خلق عظيم، وقال (صلى الله عليه وسلم) : تمت إنما بعثتم مُيسرين -، وفعل ذلك استئلافًا للأعراب الذين أخبر الله عنهم أنهم أشد كفرًا ونفاقًا، وأيضًا فإن ما جناه الأعرابى اسْتُدرِكَ غسله بالماء. وفيه: تطهير المساجد من النجاسات وتنزيهها عن الأقذار. 53 - باب صَبِّ الْمَاءِ عَلَى الْبَوْلِ فِى الْمَسْجِدِ / 79 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَامَ أَعْرَابِىٌّ، فَبَالَ فِى الْمَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمُ (صلى الله عليه وسلم) : تمت دَعُوهُ، وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلا مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ -. / 80 - فيه: أَنَس، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، مثله. فى هذا الحديث من الفقه: أن الماء إذا غلب على النجاسة، ولم يظهر فيه شىء منها فقد طهرها، وأنه لا يضر ممازجة الماء لها إذا غلب عليها، سواء كان الماء قليلاً، أو كثيرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 واختلف العلماء فى ذلك، فذهب مالك فى رواية المدنيين عنه: أن الماء الذى تحله النجاسة إذا لم يتغير طعمه، أو لونه، أو ريحه، فهو طاهر، قليلاً كان الماء، أو كثيرًا، وبه قال النخعى، والحسن، وابن المسيب، وربيعة، وابن شهاب، وفقهاء المدينة. وذهب الكوفيون إلى أن النجاسة تفسد قليل الماء وكثيره، إلا الماء المستبحر الكثير الذى لا يقدر أحد على تحريك جميعه قياسًا على البحر الذى قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : تمت هو الطهور ماؤه الحل ميتته -. وذهب الشافعى إلى أن الماء إن كان دون قلتين نجَس، وإن لم يتغير، وإن كان قلتين فصاعدًا لم ينجُس إلا بالتغير، وبه قال أحمد، وإسحاق. ولابن القاسم، عن مالك أن قليل النجاسة يُفسد قليل الماء، وإن لم تغيره، ولم يعتبر القلتين. وحديث بول الأعرابى فى المسجد يرد حديث القلتين، لأن الدلو أقل من القلتين، وقد طهر موضع بول الأعرابى، ويرد أيضًا على أبى حنيفة أصله فى اعتباره الماء المستبحر. وقال النسائى: لا يثبت فى انتجاس الماء إلا حديث بول الأعرابى فى المسجد، إلا أن أصحاب الشافعى لما لزمتهم الحجة به فزعوا إلى التفريق بين ورود الماء على النجاسة، وبين ورود النجاسة على الماء، فراعوا فى ورودها عليه مقدار القلتين، ولم يراعوا فى وروده عليها ذلك المقدار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 قال ابن القصار: وهذا لا معنى له، لأنه قد تقرر أن الماء إذا ورد على النجاسة لم ينجس إلا أن يتغير، فكذلك يجب إذا وردت النجاسة على الماء لا ينجس إلا أن يتغير، إذ لا فرق بين الموضعين. قال: ومما يَردُّ اعتبار الكوفيين والشافعى، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر بصب الذنوب على بول الأعرابى فى المسجد، وقد علمنا أنه إنما أراد تطهير المكان بهذا المقدار من الماء ولا يطهر إلا بزوال النجاسة ولم تزُل إلا بغلبة الماء الذى هو دون المقدار الذى يعتبره أبو حنيفة، والشافعى، ومعلوم أن هذا المقدار من الماء لا يزيل النجس إلا وقد حل فيه النجس أو بعضه، وإذا حصل فيه النجس لم يكن بد أن يُحكم له بالطهارة، لأنه لو لم يطهر لكان نجسًا، ولو كان نجسًا لما أزال النجاسة عن الموضع، لأنه كلما لاقى النجسُ الماءَ نَجَّسه، فأدى ذلك إلى أن لا تزول نجاسة ولا يطهر المكان. واختلفوا فى تطهير الأرض من البول والنجاسة، فقال مالك والشافعى وأبو ثور: لا يطهرها إلا الماء، واحتجوا بحديث بول الأعرابى. وروى عن أبى قلابة، والحسن البصرى، وابن الحنفية، أنهم قالوا: جفوف الأرض طهورها، وهو قول أبى حنيفة، وأبى يوسف، ومحمد، قالوا: الشمس تزيل النجاسة، فإذا ذهب أثرها صل فيها ولا تتيمم. وقال الثورى: إذا جف فلا بأس بالصلاة عليه. وعند مالك وزفر: لا يجزئه أن يصلى عليها إلا أن مالكًا، قال: يعيد فى الوقت، وكذلك قال إذا تيمم به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 قال الطحاوى: واختلفوا فيما يجوز به إزالة النجاسة من الأبدان والثياب، فقال مالك: لا يطهر ذلك إلا الماء الذى يجوز به الوضوء. وهو قول زفر، ومحمد بن الحسن، والشافعى. والحجة لهم قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا) [الفرقان: 48] ، وأمرُهُ (صلى الله عليه وسلم) بصب الدلو على بول الأعرابى فى المسجد. قالوا: فكذلك حكم الأبدان والثياب. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: تجوز إزالة النجاسة بكل مائع، وكل طاهر، والنار، والشمس، ولو أن جلد الميتة جف فى الشمس طهر من غير دباغ، واحتجوا على إزالة النجاسات بالمائعات، فقالوا: الخمر إذا انقلبت خلا فقد طهرت هى والدن جميعًا. ونحن نعلم أن الخمر كانت نجسة، والدن نجس، ولم يطهره إلا الخل. قال ابن القصار: فيقال لهم: إن الدن جامد وكان طاهرًا قبل حدوث الشدة فى الخمر، وإنما حصلت على وجهه أجزاء نجاسة من الخمر، فإذا انقلبت الخمر خلا انقلبت تلك الأجزاء خلا، فلم تزل بالخل، وإنما انقلبت كما انقلب نفس الخمر. ونظير مسألتنا أن يصب الثوب نجاسة فتنقلب عينها فتصير طاهرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 فنقول: إن هذا لا يحتاج إلى غسل، ثم نقول: إن الدن لو كان إنما طهر بالخل على طريق الغسل لوجب ألا يحكم بطهارته ولا بطهارة الخل، ألا ترى لو أن إناء فيه بول أو دم فصب عليه الخل حتى ملأ الدن، فإن الخل ينجس ولا يطهر الإناء؟ . فعلمنا أن الدن لم يطهر يكون الخل فيه، وإنما طهر بانقلاب عينه، ومن مذهبهم أن الماء الذى تغسل به النجاسة يكون نجسًا، فكيف بالخلِّ؟ ولو طهر الدن بغسل الخل له لنجس الخل، ألا ترى أنه لو كان الدن نجسًا بالخمر، ثم غسل بخلِّ آخر لم يطهر ولنجس الخل؟ . وقال أبو حاتم: تمت السَّجْل -، مذكر الدلو ملأى ماءً، ولا يقال لها وهى فارغة: سجل، فإذا لم يكن فيها ماء فهى دلو، وثلاثة أسجل، وهو السجال. ابن دريد: ودلو: سجل واسعة. يعقوب، عن ابن مهدى: دلو سجيلة، والذنوب الدلو الملأى، عن الخليل. 54 - باب بَوْلِ الصِّبْيَانِ / 81 - فيه: عَائِشَة، قَالَتْ: أُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِصَبِىٍّ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ إِيَّاهُ. / 82 - وفيه: أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ، أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ، لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجْرِهِ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 قال الأصيلى: انتهى آخر حديث أم قيس إلى قوله: تمت فنضحه -، وقوله: تمت فلم يغسله - من قول ابن شهاب، وقد رواه معمر، عن ابن شهاب، فقال فيه: تمت فنضحه -، ولم يزد، وروى ابن أبى شيبة، عن ابن عيينة، عن ابن شهاب، فقال فيه: تمت فدعا بماءٍ فرشه -، ولم يزد. واختلف العلماء فى بول الصبى، فقالت طائفة: بوله طاهر قبل أن يأكل الطعام، روى هذا عن على بن أبى طالب، وأم سلمة، وعطاء، والحسن، والزهرى. وهو قول الأوزاعى، وابن وهب صاحب مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. والحجة لهم قوله فى حديث أم قيس: تمت فنضحه، ولم يغسله -. وفرق هؤلاء الفقهاء بين بول الصبى والصبية، فقالوا: بول الصبية نجس، وإن لم تأكل الطعام بخلاف بول الصبى. واحتجوا فى ذلك بما رواه هشام، عن قتادة، عن أبى حرب بن أبى الأسود، عن أبيه، عن على بن أبى طالب، عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال فى الرضيع: تمت يغسل بول الجارية، وينضح بول الغلام -. وقالت طائفة أخرى: بول الصبى والصبية نجس، سواء أكلا الطعام أم لا، هذا قول النخعى، وإليه ذهب مالك، والكوفيون، وأبو ثور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 واحتج لهم الطحاوى فقال: أراد بالنضح فى هذا الحديث الغسل وصب الماء عليه، وقد تسمى العرب ذلك نضحًا، ومنه قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إنى لأعرف مدينة يقال لها: عُمان ينضح البحر بناحيتها لو جاءهم رسولى ما رموه بحجر -. فلم يعن بذلك النضح، الرش، ولكنه أراد يلزق بناحيتيها. والدليل على صحة هذا: أن عائشة روت حديث بول الصبى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقالت فيه: تمت فدعا بماءٍ فأتبعه إياه -، ولم تقل: فلم يغسله. رواه مالك، وأبو معاوية، عن هشام بن عروة. وهكذا رواه زائدة، عن هشام بن عروة، وقال فيه: تمت فدعا بماءٍ، فنضحه عليه -. قال الطحاوى: وإتباع الماء حكمه حكم الغسل، ألا ترى لو أن رجلاً أصاب ثوبه عذرة، فأتبعها الماء حتى ذهب بها أن ثوبه قد طهر؟ . قال ابن القصار: والنضح فى معنى الغسل فى قوله (صلى الله عليه وسلم) للمقداد: تمت انضح فرجك -، وكما قال فى حديث أسماء فى غسل الدم: تمت انضحيه -، فجعل النضح عبارة عن الغسل. قال المهلب: والدليل على أن النضح يراد به كثرة الصب والغسل، قول العرب للجمل الذى يستخرج به الماء من الأرض: ناضح. قال ابن القصار: وقد أجمع المسلمون على أنه لا فرق بين بول الرجل، وبول المرأة فى نجاسته، كذلك بول الغلام والجارية. قال المهلب: واللبن الذى قد رضعه الصبى هو طعام، وإنما قال فى الحديث: تمت لم يأكل الطعام -، ليحكى القصة كما وقعت، لا للفرق بين اللبن والطعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وقال جماعة من العلماء: حديث عائشة، وحديث أم قيس أصل فى غسل البول من الثياب والجسد وغيرهما. 55 - باب الْبَوْلِ قَائِمًا وَقَاعِدًا / 83 - فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ: أَتَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، سُبَاطَةَ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَجِئْتُهُ بِمَاءٍ، فَتَوَضَّأَ. فى نص الحديث جواز البول قائمًا، وأما البول قاعدًا فمن دليل الحديث، لأنه إذا جاز البول قائمًا فقاعدًا أجوز، لأنه أمكن. واختلف العلماء فى البول قائمًا، فروى عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك، وأبى هريرة، وسعد بن عبادة: أنهم بالوا قيامًا. وروى مثله عن ابن المسيب، وابن سيرين، وعروة بن الزبير. وكرهت طائفة البول قائمًا، ذكر ابن أبى شيبة، فى مصنفه إنكار عائشة أن يكون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بال قائمًا. وعن عمر بن الخطاب، أنه قال: ما بلت قائمًا منذ أسلمت. وعن مجاهد أنه قال: ما بال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قائمًا قط إلا مرة فى كثيب أعجبه. وروى عن ابن مسعود أنه قال: من الجفاء أن تبول وأنت قائم. وهو قول الشعبى. وكرهه الحسن، وكان سعد بن إبراهيم لا يجيز شهادة من بال قائمًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وفيه قول ثالث: أن البول إذا كان فى مكان لا يتطاير عليه منه شىء فلا بأس به، وإن كان فى مكان يتطاير عليه، فهو مكروه. هذا قول مالك، وهو دليل الحديث، لأنه (صلى الله عليه وسلم) أتى سباطة قوم فبال قائمًا. والسباطة: المزبلة، والبول فيها لا يكاد يتطاير منه كبير شىء، فلذلك بال قائمًا (صلى الله عليه وسلم) . ومن كره البول قائمًا، فإنما كرهه خشية ما يتطاير إليه من بوله، ومن أجازه قائمًا، فإنما أجازه خوف ما يُحدثه البائل جالسًا فى الأغلب من الصوت الخارج عنه إذا لم يمكنه التباعد عمن يسمعه. وقد جاء عن عمر بن الخطاب أنه قال: البول قائمًا أحصن للمدبر. وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا بال قائمًا لم يبعد عن الناس، ولا أبعدهم عن نفسه، بل أمر حذيفة بالقرب منه إذ بال قائمًا. وروى عنه (صلى الله عليه وسلم) من مرسل عطاء، وعبيد بن عمير، أنه بال جالسًا، فدنا منه رجل، فقال: تمت تنح، فإن كل بائلة تُفِيخُ -. ويُروَى: تمت تفيس -. وقال إسحاق بن راهويه: لا ينبغى لأحد يتقرب من الرجل يتغوط أو يبول جالسًا لقول النبى، (صلى الله عليه وسلم) : تمت تنح، فإن كل بائلة تُفيخُ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 56 - باب الْبَوْلِ عِنْدَ صَاحِبِهِ وَالتَّسَتُّرِ بِالْحَائِطِ / 84 - فيه: حُذَيْفَةَ، رَأَيْتُنِى أَنَا وَالنَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، نَتَمَاشَى، فَأَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ خَلْفَ حَائِطٍ، فَقَامَ، كَمَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ، فَبَالَ، فَانْتَبَذْتُ مِنْهُ، فَأَشَارَ إِلَىَّ فَجِئْتُهُ، فَقُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ، حَتَّى فَرَغَ. قال المروزى: من السنة أن يقرب من البائل إذا كان قائمًا، لحديث حذيفة هذا، إذا أمن أن يرى منه عورة، وأما إن كان قاعدًا، فالسنة أن تبتعد عنه لئلا يفيخ كما رُوى عنه (صلى الله عليه وسلم) . وقوله: تمت فانتبذت منه -، إنما فعل ذلك حذيفة لئلا يسمع منه (صلى الله عليه وسلم) شيئًا مما يجرى فى الحدث، فلما بال قائمًا، وأمن عليه ما خشيه حذيفة أمره بالتقرب منه. وفى قوله: تمت فأشار إلىَّ فجئته -، يدل أنه لم يبعد منه بحيث لا يراه، وإنما بعد عنه وعينه تراه، لأنه كان يحرسه، (صلى الله عليه وسلم) . وفيه: خدمة العالم، قاله المهلب. وفيه: أنه (صلى الله عليه وسلم) كان إذا أراد قضاء حاجة الإنسان توارى عن أعين الناس بما يستره من حائطٍ أو شجر، وبذلك كان يأمر أمته (صلى الله عليه وسلم) . 57 - باب الْبَوْلِ عِنْدَ سُبَاطَةِ قَوْمٍ / 85 - فيه: أَبُو وَائِلٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو مُوسَى الأشْعَرِىُّ يُشَدِّدُ فِى الْبَوْلِ، وَيَقُولُ: إِنَّ بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَ إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ قَرَضَهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَيْتَهُ أَمْسَكَ، أَتَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سُبَاطَةَ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا. تمت السباطة -: المزبلة، والبول قائمًا لا يكاد يسلم مما يتطاير منه، قال أبو عبيد: السباطة نحو الكناسة. ابن دريد: الكناسة: ما كنس. واختلف العلماء فى مقدار رءوس الإبر تتطاير من البول، فقال مالك، والشافعى، وأبو ثور: يغسل قليله وكثيره. وقال إسماعيل بن إسحاق: غسل ذلك عند مالك على سبيل الاستحسان والتنزه. وقال الكوفيون: ليس مقدار رءوس الإبر بشىء، وسهلوا فى يسير النجاسة. وقال الثورى: كانوا يرخصون فى القليل من البول. وقول حذيفة: تمت ليته أمسك -، يرد عليه تشديده فى البول، وهو حجة لمن رخص فى يسيره، لأن المعهود ممن بال قائمًا أن يتطاير إليه مثل رءوس الإبر. وفيه: يسر وسماحة، إذْ كان من قبلنا يقرض ما أصاب البول من ثوبه. وحديث حذيفة موافق لمذهب الكوفيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 58 - باب غَسْلِ الدَّمِ / 86 - فيه: أَسْمَاءَ، قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلى النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا تَحِيضُ فِى الثَّوْبِ، كَيْفَ تَصْنَعُ؟ قَالَ: تمت تَحُتُّهُ وَتَقْرُصُهُ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ بِالْمَاءِ وَتُصَلِّى فِيهِ -. / 87 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِى حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ، فَلا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا، إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَيْسَ بِالْحَيْضٍ -، إلى قوله: تمت فَاغْسِلِى عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّى -. حديث أسماء أصل عند العلماء فى غسل النجاسات من الثياب. وقوله: تمت تَحُتُّ - يعنى تقرصه وتنقضه. قال أبو عبيد: وقوله: تمت تقرصه - يعنى تقطعه بالماء، وكل مقطع مقرص، يقال منه: قرصت العجين إذا قطعته. وقال غيره: والنضح فى هذا الحديث يراد به الغسل. وذلك معروف فى لغة العرب على ما تقدم بيانه فى باب بول الصبيان، والدليل على أن النضح فيه يراد به الغسل، قوله (صلى الله عليه وسلم) لفاطمة بنت أبى حُبيش: تمت فاغسلى عنك الدم وصلِّى -. وهذا الحديث محمول عند العلماء على الدم الكثير، لأن الله تعالى شرط فى نجاسته أن يكون مسفوحًا، وكنى به عن الكثير الجاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 إلا أن الفقهاء اختلفوا فى مقدار ما يتجاوز عنه من الدم، فاعتبر الكوفيون فيه وفى سائر النجاسات: دون الدرهم فى الفرق بين قليله وكثيره، قياسًا على دور المخرج فى الاستنجاء بالحجارة. وقال مالك: قليل الدم معفو عنه، ويغسل قليل سائر النجاسات. وروى عنه ابن وهب أن قليل دم الحيض يُغسل ككثيره، كسائر الأنجاس، بخلاف سائر الدماء. وقال أشهب: لم يحد مالك فى الدم قدر الدرهم. وقال على بن زياد عنه: إن قدر الدرهم ليس بواجب أن تعاد منه الصلاة، ولكن الكثير الفاشى. وعند الشافعى: أن يسير الدم يغسل كسائر النجاسات إلا دم البراغيث، فإنه لا يمكن التحرز منه. والحجة لقول مالك: أن يسير دم الحيض ككثيره قوله (صلى الله عليه وسلم) لأسماء فى دم الحيض: تمت حتيه ثم اقرصيه بالماء -، ولم يفرق بين قليله وكثيره، ولا سألها عن مقداره، وقوله لفاطمة بنت أبى حُبيش: تمت فاغسلى عنك الدم وصلِّى -، ولم يحدّ فيه مقدار درهم من غيره. ووجه الرواية الأخرى: أن قليل الدم معفو عنه هو أن يسير الدم موضع ضرورة، لأن الإنسان لا يخلو فى غالب حاله من بثرة، أو دمل، أو برغوث، أو ذباب، فعفى عن القليل منه، ولهذا حرم الله تعالى المسفوح منه، فدل أن غيره ليس بمحرم، ولم يستثن فى سائر النجاسات غير الدم أن تكون مسفوحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وقالت عائشة: لو حرم الله قليل الدم لتتبع الناس ما فى العروق، ولقد كنا نطبخ اللحم والبرمة تعلوها الصفرة. وليس الغالب من الناس كون الغائط، والبول فى ثيابهم، وأبدانهم، لأن التحرز يمكن منه. وقال مجاهد: كان أبو هريرة لا يرى بالقطرة والقطرتين بأسًا فى الصلاة. وتنخم ابن أبى أوفى دمًا فى صلاته. وعصر ابن عمر بثرة فخرج منها دم وقيح، فمسحه بيده، وصلى ولم يتوضأ. وروى ابن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يقتل القملة فى الصلاة. ومعلوم أن فيها دمًا يسيرًا. 59 - باب غَسْلِ الْمَنِىِّ وَفَرْكِهِ وَغَسْلِ مَا يُصِيبُ مِنَ الْمَرْأَةِ / 88 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَغْسِلُ الْجَنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلاةِ، وَإِنَّ بُقَعَ الْمَاءِ فِى ثَوْبِهِ. واختلف العلماء فى المنى هل هو نجس أم طاهر؟ . فذهب مالك، والليث، والأوزاعى، والثورى، وأبو حنيفة، وأصحابه إلى أن المنى نجس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 إلا أن مالكًا لا يجزئ عنده فى رطبه ويابسه إلا الغسل، والفرك عنده باطل. وعند أبى حنيفة يغسل رطبه، ويفرك يابسه. وقال الثورى: إن لم يفركه أجزأته صلاته. وقال الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: المنى طاهر ويفركه من ثوبه، وإن لم يفركه فلا بأس. وممن رأى فرك المنى: سعد بن أبى وقاص، وابن عباس. قال ابن عباس: امسحه بإذخر أو خرقة، ولا تغسله إن شئت. قال الطحاوى: واحتج الذين قالوا بنجاسته من قول عائشة: تمت كنت أغسل الجنابة من ثوب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فيخرج إلى الصلاة، وإن بقع الماء فى ثوبه. واحتج الذين قالوا أنه طاهر بآثار عن عائشة مخالفة لهذا الحديث، وذلك ما رواه شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن همام، عن الحارث، أنه نزل على عائشة، رضى الله عنها، فاحتلم، فرأته جارية لعائشة وهو يغسل أثر الجنابة من ثوبه، فأخبرت بذلك عائشة، فقالت عائشة: لقد رأيتنى مع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وما أزيد على أن أفركه فى ثوب النبى (صلى الله عليه وسلم) . وروى الأوزاعى، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، قالت: كنت أفرك المنى من ثوب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا كان يابسًا، وأغسله إذا كان رطبًا. وقال لهم أهل المقالة الأولى: لا حجة لكم فى هذه الآثار، لأنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 إنما جاءت فى ثياب ينام فيها، ولم تأت فى ثياب يصلى فيها، وقد رأينا الثياب النجسة بالغائط والبول لا بأس بالنوم فيها، ولا تجوز الصلاة فيها، وإنما تكون هذه الآثار حجة علينا لو كنا نقول: لا يصلح النوم فى الثوب النجس، فأما إذا كنا نبيح ذلك ونوافق ما رويتم عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فيه ونقول من بعد: لا تصلح الصلاة فيها، فلم نخالف شيئًا مما روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى ذلك، وقد قالت عائشة: تمت كنت أغسل المنى من ثوب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيخرج إلى الصلاة، وإن بقع الماء فى ثوبه -. فكانت تغسل المنى من ثوبه الذى يصلى فيه وتفركه من ثوبه الذى لا يصلى فيه. واحتج عليهم الآخرون بما رواه حماد بن سلمة، عن حماد بن زيد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كنت أفركه من ثوب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ثم يصلى فيه. قالوا: فدل ذلك على طهارته. قال الطحاوى: ولا يدل ذلك على طهارته كما زعموا، فقد يجوز أن يفعل ذلك النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فيتطهر بذلك الثوب. والمنى فى نفسه نجس كما روى فيما أصاب النعلين من الأذى. روى محمد بن عجلان، عن المغيرة، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه، أو بنعليه، فطهورهما التراب -. فكان ذلك التراب يجزئ من غسلهما وليس ذلك دليل على طهارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 الأذى فى نفسه، فكذلك المنى يطهر الثوب بالفرك، والمنى فى نفسه نجس. قال ابن القصار: وأما دلائل القياس: فقد اتفقنا على نجاسة المذى، فكذلك المنى بعلة أنه خارج من مخرج البول. فإن قالوا: هو طاهر، لأنه خلق منه حيوان طاهر. قيل: قد يكون الشىء طاهرًا ويكون متولدًا عن نجس كاللبن، فإنه يتولد عن الدم. فإن قالوا: خلق منه الأنبياء فلا يجوز أن يكون نجسًا. قيل: وكذلك خلق منه الفراعنة والطغاة فوجب أن يكون نجسًا، يتولد عن الشهوة يجب فيه الغسل. فإن قالوا: يعارض قياسكم بقياس آخر، فتقول: اتفقنا على محة البيضة أنها طاهرة، فكذلك المنى بعلة أنه مائع خلق منه حيوان طاهر. قيل: ذلك لا يلزم، لأنا قد اتفقنا أنه يكون الشىء طاهرًا ويكون متولدًا عن نجس كاللبن، فإنه متولد عن الدم، وقيل: إنه دم كما يكون طاهرًا ويستحيل إلى النجس كالغذاء والماء فى جوف ابن آدم، وقد قيل: إن العلقة المتولدة عن المنى من دم نجس. فإن قالوا: خلق منه الأنبياء فلا يجوز أن يكون نجسًا. قيل: لو جاز أن يكون طاهرًا، لأن الأنبياء خلقوا منه لوجب أن يكون نجسًا، لأن الفراعنة والطغاة خلقوا منه. فإن قيل: فإن الله خلق آدم من ماء وطين، وهما طاهران فوجب أن يكون طاهرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 قيل: هذا لا يلزم لأنه لما لم يشاركه أحد فى ابتداء خلقه لم تجب مساواته له فيما ذكرتم، لأن آدم لم يتنقل فى رحم فيكون نطفة ثم علقة، والعلقة دم حكم لها بالنجاسة إذا انفصلت، ووجدنا الخارجات من البدن على ضربين: فضرب مائع طاهر ليس خروجه بحدث ولا ينقض الوضوء كاللبن، والعرق، والدموع، والبصاق، والمخاط. وضرب آخر نجس وخروجه حدث ينقض الطهارة ويجب غسله، كالبول، والغائط، ودم الحيض، والمذى. وثبت بالإجماع: أن المذى ينقض الطهر ويوجبه، فكذلك المنى. 60 - باب إِذَا غَسَلَ الْجَنَابَةَ أَوْ غَيْرَهَا فَلَمْ يَذْهَبْ أَثَرُهُ / 89 - فيه: عَائِشَةُ: كُنْتُ أَغْسِل الْمَنِىّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاةِ، وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِيهِ بُقَعُ الْمَاءِ. / 90 - وقال مرة: إن عَائِشَة كَانَتْ تَغْسِلُ الْمَنِىَّ مِنْ ثَوْبِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ أَرَاهُ فِيهِ بُقْعَةً أَوْ بُقَعًا. قوله: تمت وأثر الغسل - يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون معناه: بلل الماء الذى غُسل به الثوب، والضمير راجع فيه إلى أثر الماء، فكأنه قال: وأثر الغسل بالماء بقع الماء فيه، يعنى لا بقع الجنابة. ويحتمل أن يكون معناه: وأثر الغسل يعنى أثر الجنابة التى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 غسلت بالماء فيه بقع الماء التى غسلت به الجنابة، والضمير فيه راجع إلى أثر الجنابة لا إلى أثر الماء. وكلا الوجهين جائز، لكن قوله فى الحديث الآخر: تمت أنها كانت تغسل المنى من ثوب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثم أراه فيه بقعة أو بقعًا. يدل أن تلك البقع كانت بقع المنى، وطبعه لا محالة، لأن العرب أبدًا ترد الضمير إلى أقرب مذكور، وضمير المنى فى الحديث الآخر أقرب من ضمير الغسل. قال المهلب: وفيه من الفقه: أن أثر النجاسات بعد الغسل لا يضر، وأن تلك الآثار والطباع هى طبع النجاسة، وذلك باق فى الثوب، وإذا ثبت هذا، ثبت أن غسل النجاسات ليس بفرض، لعدم استئصال أثرها، وسائر النجاسات فى ذلك حكمها حكم الجنابة، وأنها إذا غسلت أعيانها وبقيت آثارها لم يضر ذلك، ولذلك قال البخارى: باب إذا غسل الجنابة. أو غيرها لم يذهب أثرها، قياسًا لسائر النجاسات على الجنابة، ولا أعلم خلافًا لهذا إلا ما يروى عن ابن عمر أنه كان إذا وجد دمًا فى ثوبه، فغسله فبقى أثره دعا بحلمين فقطعه. وقد روى عن عائشة أنها صلت فى ثوب كان فيه دم فبقى أثره. وروى مثله عن علقمة، وهو مذهب مالك، والشافعى، وجماعة. وفيه: خدمة المرأة لزوجها فى غسل ثيابه وشبه ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 61 - باب أَبْوَالِ الإبِلِ وَالْغَنَمِ وَالدَّوَابِّ وَمَرَابِضِهَا وَصَلَّى أَبُو مُوسَى فِى دَارِ الْبَرِيدِ، وَالسِّرْقِينِ، وَالْبَرِّيَّةُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ: هَاهُنَا، وَثَمَّ سَوَاءٌ. / 91 - فيه: أَنَس أَن نَاسًا مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ، قَدِموا الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوُهَا، فَأَمَرَهُمُ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِلِقَاحٍ وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا. . .، الحديث. / 92 - وفيه: أَنَس، أَن النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ يُصَلِّى فِى مَرَابِضِ الْغَنَمِ قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ. اختلف العلماء فى طهارة أبوال ما يؤكل لحمه: فذهب عطاء، والنخعى، والزهرى، وابن سيرين، والحكم، والشعبى إلى أنها طاهرة، وهو قول مالك، والثورى، والليث، ومحمد بن الحسن، وزفر، والحسن بن صالح، وأحمد، وإسحاق. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، والشافعى، وأبو ثور: الأبوال كلها نجسة. وروى مثله عن ميمون بن مهران، والحسن، وحماد. وقال ابن القصار: وحجة أهل المقالة الأولى: حديث أنس أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أباح للعرنيين شرب أبوال الإبل وألبانها، فجعل ذلك بمنزلة اللبن، فلو كانت نجسة ما أباح لهم ذلك. وقال أهل المقالة الثانية: لا حجة لكم فى هذا الحديث، لأنه (صلى الله عليه وسلم) إنما أباح لهم شرب البول للمرض، لأنهم استوخموا المدينة، فأباحهم ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 فعارضهم الأولون، فقالوا: محال أن يأمرهم (صلى الله عليه وسلم) بشرب أبوالها وهى نجسة، لأن الأنجاس محرمة علينا، وقد سئل (صلى الله عليه وسلم) عن الاستشفاء بالخمر، فقال: تمت ذلك داء، وليس بشفاء -. وقال ابن مسعود: ما كان الله ليجعل فيما حرم شفاء. فثبت أن بول الإبل الذى جعله دواء، أنه طاهر غير محرم. قاله الطحاوى. وقال ابن القصار: ومن جهة النظر أنا قد اتفقنا أن ريق ما يؤكل لحمه وعرقه طاهر، والمعنى فيه أنه مائع مستحيل من حيوان مأكول اللحم ليس بدم ولا قيح، فكذلك بوله. وذهب ابن علية، وأهل الظاهر إلى أن بول كل حيوان، وإن كان لا يؤكل لحمه طاهر غير ابن آدم. وروى مثله عن الشعبى، ورواية عن الحسن، وخالفهم سائر العلماء. وقول البخارى فى الترجمة: تمت باب أبوال الإبل والدواب -. وافق فيه أهل الظاهر، وقاس أبوال ما لا يؤكل لحمه على أبوال الإبل ولذلك قال: تمت وصلى أبو موسى فى دار البريد، والسرقين -، ليدل على طهارة أرواث الدواب وأبوالها، ولا حجة له فيه بينة، لأنه يمكن أن يصلى فى دار البريد على ثوب بَسطه فيه، أو فى مكان يابس لا تعلق به نجاسة منه. وقد قال عامة الفقهاء: إن من بسط على موضع نجس بُساطًا وصلى عليه أن صلاته جائزة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 ولو صلى على السرقين بغير بساط لكان مذهبًا له، ولم تجز مخالفة الجماعة به. وذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعى، إلى أن الأرواث كلها نجسة. وقال مالك، والثورى، وزفر، والحسن بن حى: ما أكل لحمه فروثه طاهر كبوله. وقال الثورى فى خرو الدجاج: ليس فيه إعادة وغسله أحسن. تمت اجتووا المدينة - واجتويت البلاد، إذا كرهتها، وإن كانت مرافقة لك فى بدنك. واستوبلتها، إذا لم توافقك فى بدنك وإن أحببتها. وتمت سمل -، وتمت سمر - بمعنى واحد. وقال صاحب الأفعال: سمر العين: فقأها. والسِّرْقِين، والسرجين: زبل الدواب. 62 - باب مَا يَقَعُ مِنَ النَّجَاسَاتِ فِى السَّمْنِ وَالْمَاءِ وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: لا بَأْسَ بِالْمَاءِ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ طَعْمٌ، أَوْ رِيحٌ، أَوْ لَوْنٌ. وَقَالَ حَمَّادٌ: لا بَأْسَ بِرِيشِ الْمَيْتَةِ. وَقَالَ الزُّهْرِىُّ فِى عِظَامِ الْمَوْتَى نَحْوَ الْفِيلِ وَغَيْرِهِ: أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ سَلَفِ الْعُلَمَاءِ يَمْتَشِطُونَ بِهَا، وَيَدَّهِنُونَ فِيهَا، لا يَرَوْنَ فيها بَأْسًا. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ: وَلا بَأْسَ بِتِجَارَةِ الْعَاجِ. / 93 - فيه: مَيْمُونَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِى سَمْنٍ، فَقَالَ: تمت أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 / 94 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : تمت كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ الْمُسْلِمُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا إِذْ طُعِنَتْ، تَفَجَّرُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالْعَرْفُ عَرْفُ مِسْكِ -. قال المؤلف: قول الزهرى: لا بأس بالماء ما لم يغيره لون، أو طعم، أو ريح. هو قول الحسن، والنخعى، والأوزاعى، ومذهب أهل المدينة، وهى رواية أبى مصعب، عن مالك. وقد روى عنه ابن القاسم أن قليل الماء ينجس بقليل النجاسة، وإن لم تطهر فيه، وهو قول الشافعى. قال المهلب: وهذا عند أصحاب مالك على سبيل الاستحسان والكراهية لعين النجاسة، وإن قلّت، وهذا القول يستنبط من حديث الفأرة تموت فى السمن، لأنه (صلى الله عليه وسلم) منع من أكل السمن لما خشى أن يكون يسرى شىء من الميتة المحرمة، وإن لم يتغير لون السمن، أو ريحه، أو طعمه بموت الفأرة فيه. قال المؤلف: وأما رواية أبى مصعب عن مالك الذى هو مذهب أهل المدينة، فإنه يستنبط من حديث الدم، ووجه الدلالة منه أنه لما انتقل حكم الدم بطيب الرائحة من النجاسة إلى الطهارة حين حكم له فى الآخرة بحكم المسك الطاهر، وجب أن ينتقل الماء الطاهر بخبيث الرائحة إذا حلت فيه نجاسة من حكم الطهارة إلى النجاسة. وإنما ذكر البخارى حديث الدم فى باب نجاسة الماء، لأنه لم يجد حديثًا صحيح السند فى الماء، فاستدل على حكم الماء المائع بحكم الدم المائع، إذْ ذلك المعنى الجامع بينهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 فإن قال قائل: لما حكم للدم من النجاسة إلى حكم الطهارة بطيب رائحته، وحكم له فى الآخرة بحكم المسك الطاهر، إذ لا يوصف فيها بطيب الرائحة شىء نجس، وجب أن يحكم للماء إذا تغير ريحه، أو لونه، أو طعمه بنجس حل فيه بحكم النجاسة لانتقاله من الطهارة إلى النجاسة، وخروجه عن حكم الماء الذى أباح الله به الطهارة، وهو الماء الذى لا يخالطه شىء يغيره عن صفته. فإن قال قائل: إنه لما حكم للدم بالطهارة بتغير ريحه إلى الطيب وبقى فيه اللون، والطعم، ولم يذكر تغيرهما إلى الطيب، وجب أن يكون الماء إذا تغير منه وصفان بالنجاسة، وبقى وصف واحد طاهر وجب أن يكون طاهرًا يجوز الوضوء به. قيل: ليس كما توهمت، لأن ريح المسك حكم للدم بالطهارة، فكان اللون، والطعم تبعًا للطاهر، وهو الريح الذى انقلب ريح مسك، فكذلك الماء إذا تغير منه وصف واحد بنجاسة حلت فيه، كان الوصفان الباقيان تبعًا للنجاسة، وكان الماء بذلك خارجًا عن حد الطهارة لخروجه عن صفة الماء الذى جعله الله طهورًا، وهو الماء الذى لا يخالطه شىء. وأما ريش الميتة وعظام الفيل ونحوه فهو طاهر عند أبى حنيفة، نجس عند مالك والشافعى، لا يدهن فيها، ولا يمتشط، إلا أن مالكًا قال: إذا ذكى الفيل فعظمه طاهر، والشافعى يقول: إن الذكاة لا تعمل فى السباع. وقال الليث، وابن وهب: إن غلى العظم فى ماءٍ سخن فطبخ جاز الإدهان به، والامتشاط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 ورخص عروة فى بيع العاج. وقال ابن المواز: ونهى مالك عن الانتفاع بعظم الميتة والفيل والإدهان به، ولم يطلق تحريمها، لأن عروة، وابن شهاب، وربيعة أجازوا الامتشاط فيها. قال ابن حبيب: وأجاز الليث، وابن الماجشون، ومطرف، وابن وهب، وأصبغ الامتشاط بها والإدهان، فأما بيعها فلم يرخص فيه إلا ابن وهب، قال: إذا غليت جاز بيعها، وجعلت كالدباغ لجلد الميتة يدبغ أنه يباع. وقال مالك، وأبو حنيفة: إن ذكى الفيل فعظمه طاهر. والشافعى يقول: إن الذكاة لا تعمل فى السباع، ومن أجاز تجارة العاج فهو عنده طاهر. وأما ريش الميتة، فطاهر عند أبى حنيفة فى عظام الفيل، بناءً على أصله، أن لا روح فيها، وعند مالك والشافعى نجسة. وقال ابن حبيب: لا خير فى ريش الميتة، لأنه له سنخ إلا ما لا سنخ له مثل الزغب وشبهه، فلا بأس به إذا غُسل. 63 - باب لاَ يَبُول فِى الْمَاءِ الدَّائِمِ / 95 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولَ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : تمت نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ -. / 96 - وَبِإِسْنَادِهِ قَالَ: تمت لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِى الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِى لا يَجْرِى، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 قال المهلب وغيره: النهى عن البول فى الماء الدائم مردود إلى الأصول، فإن كان الماء كثيرًا فالنهى عن ذلك على وجه التنزه لأن الماء على الطهارة حتى يتغير أحد أوصافه، فإن كان الماء قليلاً فالنهى عن ذلك على الوجوب، لفساد الماء بالنجاسة المغيرة له. ولم يأخذ أحد من الفقهاء بظاهر هذا الحديث إلا رجل جاهل نسب إلى العلم وليس من أهله، اسمه داود بن على، فقال: من بال فى الماء الدائم فقد حرم عليه الوضوء به، قليلاً كان الماء أو كثيرًا، فإن بال فى إناء وصبه فى الماء الدائم جاز له الوضوء به، لأنه إنما نهى عن البول فقط بزعمه، وصبه للبول من الإناء ليس ببول فلم ينه عنه، قال: ولو بال خارجًا من الماء الدائم فسال فيه جاز له أن يتوضأ به، قال: ويجوز لغير البائل أن يتوضأ فيما بال فيه غيره، لأن النبى إنما نهى البائل ولم ينه غيره، وقال ما هو أشنع من هذا: أنه إذا تغوط فى الماء الدائم كان له ولغير أن يتوضأ منه، لأنه إنما ورد فى البول فقط، ولم ينه عن الغائط. وهذا غاية فى السقوط وإبطال المعقول، ومن حمله طرد أصله فى إنكار القياس إلى التزام مثل هذا النظر، فلا يشك فى عناده وقلة ورعه، نعوذ بالله من الخذلان، وقد فطر الله العقول السليمة على منافرة قوله هذا ومضادته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وإنما أتى الرجل من جهله بالأسباب التى خرج عليها معنى الخطاب، والنبى (صلى الله عليه وسلم) قد جمع فى هذا الخبر معانى: أحدها: تحريم الوضوء بالماء النجس. والآخر: تأديبهم بأن يتنزهوا عن البول فى الماء الذى لا يجرى فيحتاجون إلى الوضوء منه، وهم على يقين من استقرار البول فيه، لأن من سنته (صلى الله عليه وسلم) النظافة وحسن الأدب، فدعا الناس إلى ذلك. والآخر: أنه زجرهم عن ذلك، إذ لو أطاق لهم البول فى الماء الدائم لأوشك أن يفسد الماء القيل ويتغير فيضيق وجود ماء طاهر على كثير من الناس. فيقال له: خبرنا عن البائل فى البحر أو الحوض الكبير أو الغدير الواسع الذى لا يتحرك بتحرك طرفه، هل يجوز أن يتوضأ منه؟ فإن قال: لا، قال: ما تعرف أن الحق فى خلافه؟ وإن أجاز ذلك قيل له: فقد تركت ظاهر الحديث، وفى ضرورتك إلى تركك ظاهره ما يوجب عليك أن تقول، إن معنى الحديث ما ذكرنا، قاله بعض أصحاب أبى حنيفة. وأما إدخال البخارى فى أول الحديث: تمت نحن الآخرون السابقون يوم القيامة - فيمكن، والله أعلم، سمع أبو هريرة ذلك من النبى فى نسق واحد فحدث بهما جميعًا كما سمعهما. وقد ذكر مثل ذلك فى كتاب الجهاد، وفى كتاب العبارة، وفى كتاب الأيمان والنذور، وفى كتاب قصص الأنبياء، وفى كتاب الاعتصام، ذكر فى أوائل الأحاديث كلها: تمت نحن الآخرون السابقون يوم القيامة -، ويمكن أن يكون همام سمع ذلك، لأنع سمع من أبى هريرة أحاديث ليست بكثيرة، وفى أوائلها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 تمت نحن الآخرون السابقون -، فذكرها على الرتبة سمعها من أبى هريرة، والله أعلم. وقد روى مالك فى موطئه مثل هذا فى موضعين: أحدهما: قول عبد الكريم بن أبى المخارق: وإن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: تمت إذا لم تستحى فاصنع ما شئت، ووضع اليد اليمنى على اليسرى فى الصلاة -، فحدث بهما جميعًا كما سمعهما. وفى الموضع الثانى: قول أبى هريرة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : تمت بينما رجل يمشى بطريق إذ وجد غصن شوك فأخذه فشكر الله له، فغفر له -. قال: تمت الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد فى سبيل الله -. ورواه جماعة، عن مالك، فزاد فيه: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت لو يعلم الناس ما فى النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه، ولو يعلمون ما فى التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما فى العتمة والصبح لأتوهما ولو حَبْوًا -. قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت بينما رجل يمشى بطريق وجد غصن شوك - إلى آخر الحديث، فى ذكر الشهداء، وهى ثلاثة أحاديث فى حديث واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 64 - باب إِذَا أُلْقِىَ عَلَى ظَهْرِ الْمُصَلِّى قَذَرٌ أَوْ جِيفَةٌ لَمْ تَفْسُدْ صَلاتُهُ قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا رَأَى فِي ثَوْبِهِ دَمًا، وَهُوَ يُصَلِّى، وَضَعَهُ، وَمَضَى فِي صَلاتِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ: إِذَا صَلَّى، وَفِى ثَوْبِهِ دَمٌ أَوْ جَنَابَةٌ، أَوْ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، أَوْ تَيَمَّمَ وصَلَّى، ثُمَّ أَدْرَكَ الْمَاءَ فِي وَقْتِهِ لا يُعِيدُ. / 97 - وفيه: ابْنَ مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابَهُ جُلُوسٌ، إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض: أَيُّكُمْ يَجِىءُ بِسَلا جَزُورِ بَنِى فُلانٍ، فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ، فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَجَاءَ بِهِ فَنَظَرَ حَتَّى إِذَا سَجَدَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ لا أُغْنِى شَيْئًا، لَوْ كَانَتْ لِى مَنَعَةٌ، فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سَاجِدٌ لا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتُهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ قَالَ: تمت اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ - ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ. فذكر الحديث إلى قوله: فَلَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) صَرْعَى فِى قَلِيبِ بَدْرٍ. قال المهلب: إنما جعل السلا جيفة، لأنهم لم يكونوا أهل كتابن فتكون ذبائحهم طاهرة، وإنما كانوا مشركين لا كتاب لهم يذبحون به، فكانت ذبائحهم ميتة. وأيضًا لو كان السَّلا من ذبائح المسلمين لكان نجسًا، لكثرة الدم فيه، ذكره مبينًا فى كتاب الصلاة، فقال: تمت أيكم يقوم إلى سلا جزور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها؟ فانبعث أشقى القوم - وذكر الحديث. ومعلوم أنهم كانوا مجوسًا لا كتاب لهم، ففيه من الفقه: أن غسل النجاسات فى الصلاة سنة على ما قاله مالك والأوزاعى وجماعة من التابعين. وقد ذكر البخارى بعضهم فى أول هذا الباب، ولو كانت فرضًا ما تمادى النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فى صلاته والفرس والدم على ظهره، ولقطع الصلاة. فإن قيل: فإن هذه الصلاة كانت فى أول الإسلام، ويحتمل أن تكون قبل أن تفرض عليه الصلاة، وتكون نافلة فلم يحتج إلى إعادتها. قيل: لا نعلم ما كانت، ولو كانت نافلة لكان سبيلها سبيل الفرائض، وأى وقت كانت هذه الصلاة، فلا شك أنها كانت بعد نزول قوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر: 4] لأن هذه الآية أول ما نزل عليه من القرآن قبل كل صلاة فريضة أو نافلة، وتأولها جمهور السلف أنها فى غير الثياب، وأن المراد بها طهارة القلب ونزاهة النفس عن الدناءة والآثام. وقالوا: وقول ابن سيرين أنه أراد بذلك الثياب شذوذ ولم يقله غيره. وفى هذا الحديث من الفقه: أن من صلى بثوب نجس وأمكنه طرحه فى الصلاة أنه يتمادى فى صلاته ولا يقطعها، على ما قاله الكوفيون، وهى رواية ابن وهب، عن مالك. وسأذكر اختلاف قول مالك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وأصحابه فى هذه المسألة، فى كتاب الصلاة، فى باب المرأة تطرح عن المصلى شيئًا من الأذى، إن شاء الله. وقد روى عن أبى مجلز أنه سئل عن الدم يكون فى الثوب، فقال: إذا كبرت ودخلت فى الصلاة ولم تر شيئًا ثم رأيته بعد فأتم الصلاة، وعن أبى جعفر مثله. واختلفوا فيمن صلى بثوب نجس ثم علم به بعد الصلاة. فقال ابن مسعود، وابن عمر، وعطاء، وابن المسيب، وسالم، والشعبى، والنخعى، ومجاهد، وطاوس، والزهرى: لا إعادة عليه، وهو قول الأوزاعى، وإسحاق، وأبى ثور. وقال ربيعة ومالك: يعيد فى الوقت. وقال الشافعى وأحمد: يعيد أبدًا. وأما من تعمد الصلاة بالنجاسة فإنه يعيد أبدًا عند مالك وكثير من العلماء، لاستخفافه بالصلاة إلا أشهب فقال: لا يعيد المتعمد إلا فى الوقت فقط. قال المهلب: وفيه أن من أوذى فله أن يدعو على من آذاه، كما دعا النبى (صلى الله عليه وسلم) على كفار قريش. قال المؤلف: هذا إذا كان الذى آذاه كافرًا، فإن كان مسلمًا فالأحسن ألا يدعو عليه، لقول النبى لعائشة حين دعت على السارق: تمت لاتسبخى عنه بدعائك عليه -. ومعنى لا تسبخى عنه أى: لا تخففى عنه. والتسبيخ: التخفيف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 عن صاحب تمت العين -. وقال المهلب: وفيه بركة دعوة النبى (صلى الله عليه وسلم) وأنها أجيبت فيمن دعا عليه. وقال أبو عبيد: السلا: الجلدة التى يكون فيها الولد. قال ابن دريد: وهى المشيمة. وقوله: تمت لو كانت لي منعة - يريد قوة أمتنع بها. قال صاحب تمت العين - يقال: رجل منيع فى عز ومنعة، وقد منع مناعة ومنعًا. وقوله: تمت ويحيل بعضهم على بعض - يعنى ينسب ذلك بعضهم إلى بعض من قولك: أحلت الغريم إذا جعلت له أن يتقاضى ماله عليك من غيرك، ويحتمل أن يكون من قول العرب: حال الرجل على ظهر الدابة حولا، وأحال: وثب. وفى الحديث أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما صبح أهل خيبر غدوة فرآه أهلها، أحالوا إلى الحصن أى وثبوا إليه. وتمت القليب - البئر قبل أن تطوى. وإنما سميت بدر بدرًا، ببدر بن قريش بن الحارث بن مخلد بن النضر بن كنانة، وهو الذى احتفرها، فنسبت إليه عن الخشنى. 65 - باب البصاق وَالْمُخَاطِ وَنَحْوِهِ فِي الثَّوْبِ قَالَ عُرْوَةُ عَنِ الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ: خَرَجَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) زَمَنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 الْحُدَيْبِيَةَ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَمَا تَنَخَّمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) نُخَامَةً إِلا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ. (1) / 98 - فيه: أنس قال: بصق النبى (صلى الله عليه وسلم) فى ثوبه. هذا الباب يدل على أن البزاق والمخاط طاهر، وهو أمر مجمع عليه لا أعلم فيه اختلافًا، إلا ما روى عن سليمان الفارسى صاحب رسول الله أنه جعله غير طاهر، وأن الحسن بن حى كرهه فى الثوب وذكر الطحاوى، عن الأوزاعى أنه كره أن يدخل سواكه فى وضوئه. وما ثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) من خلافهم هى السنة المتبعة والحجة البالغة، فلا معنى لقولهم وقد أمر النبى المصلى أن يبزق عن يساره أو تحت قدمه، ويبزق (صلى الله عليه وسلم) فى طرف ردائه، ثم رد بعضه على بعض وقال: تمت أو تفعل هكذا -. قال الطحاوى: وهذا حجة فى طهارته، لأنه لا يجوز أن يقوم المصلى على نجاسة، ولا أن يصلى وفى ثوبه نجاسة. 66 - باب لا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِالنَّبِيذِ وَلا الْمُسْكِرِ وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: التَّيَمُّمُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ وَاللَّبَنِ. / 99 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ -. اختلف العلماء فى الوضوء بالنبيذ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 فقال مالك وأبو يوسف والشافعى وأحمد: لا يجوز الوضوء بالنبيذ، نَيِّهِ ومطبوُخِهِ، مع عدم الماء ووجوده، تمرًا كان أو غيره، فإن كان مع ذلك مشتدًا فهو نجس لا يجوز شربه ولا الوضوء به. وأجاز الحسن الوضوء بالنبيذ. قال الأوزاعى: يجوز الوضوء بسائر الأنبذة، وروى هذا عن على. قال أبو حنيفة: لايجوز الوضوء به مع وجود الماء، فإذا عدم فيجوز بمطبوخ التمر خاصة إذا أسكر، فاما النيئ والنقيع فلا يجوز الوضوء به. وقال محمد بن الحسن: يتوضأ به ثم يتيمم. قال الطحاوى: واحتج الذين أجازوا الوضوء بالنبيذ بما رواه ابن لهيعة، عن قيس بن الحجاج، عن حنش الصنعانى، عن ابن عباس، أن ابن مسعود خرج ليلة الجن مع رسول الله، فسأله رسول الله: تمت أمعك ماء؟ - قال: معى نبيذ فى إداوتى، فقال رسول الله: تمت أصبب علىَّ - فتوضأ به، وقال: تمت شراب وطهور -. وبما رواه حماد بن سلمة، عن على بن زيد بن جدعان، عن أبى رافع مولى ابن عمر، عن ابن مسعود، أنه كان مع رسول الله ليلة الجن، وأنه احتاج (صلى الله عليه وسلم) إلى ماء يتوضأ به، ولم يكن معه إلا النبيذ، فقال: تمت تمرة طيبة وماء طهور - وتوضأ به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 واحتج عليهم مخالفوهم بأن هذه الآثار لا تثبتن ولا تقوم بها حجة. قال الطحاوى: وقد روى عن ابن مسعود من الطرق الثابته أنه لم يشهد ليلة الجن مع النبى، حدثنا ربيع المؤذن، حدثنا أسد، حدثنا يحيى بن زكريان حدثنا ابن ابى زائدة، حدثنا داود بن أبى هند، عن عامر، عن علقمة، قال: سألت ابن مسعود هل كان مع النبى (صلى الله عليه وسلم) ليلة الجن أحد؟ فقال: لم يصحبه من أحد، ولكن فقدناه تلك الليلة، فقلنا استطير أو اغتيل، فتفرقنا فى الشعاب والأودية نلتمسه، فقال: تمت إنى أتانى داعى الجن فذهبت أقرئهم القرآن - فارانا آثارهم. وهذا الإسناد أصح من آثارهم. وأما من طريق النظر فإنا رأينا الأصل المتفق عليه أنه لا يتوضأ بنبيذ الزبيب ولا الخل، وكان النظر على ذلك أن يكون نبيذ التمر كذلك. وأجمع العلماء أن نبيذ التمر إذا كان موجودًا مع الماء أنه لا يتوضأ به، لأنه ليس بماء، فلما كان خارجًا من حكم المياه فى حال وجود الماء كان خارجًا من حكم المياه فى حال عدم الماء. ووجه احتجاج البخارى رحمه الله فى هذا الباب بقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت كل شراب أسكر فهو حرام - هو أنه إذا أسكر الشراب فقد وجب اجتنابه لنجاسته، وحرم استعماله فى كل حال، ولم يحل شربه، وما لم يحل شربه لا يجوز الوضوء به، لخروجه عن اسم الماء فى اللغة والشريعة، وكذلك النبيذ غير المسكر أيضًا فهو فى معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 المسكر من جهة أنه لا يقع عليه اسم الماء، ولو جاز أن يسمى النبيذ ماء لأن فيه ماء، جاز أن يسمى الخل ماء، لأن فيه ماء. وهذا أبو عبيد وهو إمام فى اللغة يقول: النبيذ لا يكون طهورًا أبدًا لأن الله شرط الطهور بشرطين ولم يجعل لهما ثالثًا وهما: الماء، والصعيد، والنبيذ ليس بواحد منهما. قال ابن المنذر: وما رواه عن على فليس بثابت عنه. قال ابن القصار: ولو صح خبرهم لكان منسوخًا، لأن ليلة الجن كانت بمكة فى صدر الإسلام، وقوله: (فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء) [النساء: 43، المائدة: 6] نزلت فى غزوة المريسيع، حيث فقدت عائشة عقدها بالمدينة. 67 - باب غَسْلِ الْمَرْأَةِ أَبَاهَا الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: امْسَحُوا عَلَى رِجْلِى فَإِنَّهَا مَرِيضَةٌ. / 100 - وفيه: سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ سئل بِأَىِّ شَىْءٍ دُووِىَ جُرْحُ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَقَالَ: مَا بَقِيَ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّى كَانَ عَلِىٌّ يَجِىءُ بِتُرْسِهِ فِيهِ مَاءٌ، وَفَاطِمَةُ تَغْسِلُ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ، فَأُخِذَ حَصِيرٌ، فَأُحْرِقَ، فَحُشِيَ بِهِ جُرْحُهُ. فيه: غسل الدم من الجسد، وهو إجماع. قال المهلب: وفيه دليل على جواز مباشرة المرأة أباها وذوى محارمها، وإلطافها إياهم، ومداواة أمراضهم. ولذلك قال أبو العالية لأهله: امسحوا على رجلى، فإنها مريضة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 ولم يخص بعضهم دون بعض بل عمهم جميعًا. وفيه: إباحة التداوى، لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد داوى جرحه بالحصير المحرق. 68 - باب السِّوَاكِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِتُّ عِنْدَ خالتى ميمونة فَاسْتَنَّ رسول الله / 101 - فيه: أبو موسى، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَوَجَدْتُهُ يَسْتَنُّ بِسِوَاكٍ بِيَدِهِ، يَقُولُ: تمت أُعْ أُعْ - وَالسِّوَاكُ فِي يده، كَأَنَّه يَتَهَوَّعُ. / 102 - وفيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ: كَانَ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ. فيه: أن السواك سنة مؤكدة لمواظبته عليه بالليل، والليل لا يناجى فيه أحد من الناس، وإنما ذلك لمناجاة الملائكة، وتلاوته القرآن. وقد جاء فى الحديث تمت طيبوا طرق القرآن - يعنى بالسواك. وقد روى مالك: عن أبى الزناد، عن الأعرج، عن أبى هريرة، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: تمت لولا أن أشق على امتى لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء -. وعن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبى هريرة، أنه قال: تمت لولا أن يشق على أمته، لأمرهم بالسواك مع كل وضوء -. وقال ابن عباس: ما زال رسول الله يأمرنا بالسواك حتى ظننت أنه سينزل عليه فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وقالت عائشة: كان (صلى الله عليه وسلم) إذا دخل على أول ما يبدأ بالسواك. وقال: تمت السواك مطهرة للفم مرضاة للرب -. والعلماء كلهم يندبون إليه، وليس بواجب عندهم، ولو كان واجبًا عليهم لأمرهم به، يشق عليهم أو لم يشق. وقوله: تمت يشوص فاه -. قال ابن دريد الشوص: الاستياك من سفل إلى علو، وبه سمى هذا الداء الشوصة، لأنه ريح يرفع القلب عن موضعه. 69 - باب دَفْعِ السِّوَاكِ إِلَى الأكْبَرِ / 103 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت أَرَانِى أَتَسَوَّكُ، بِسِوَاكٍ فَجَاءَنِي رَجُلانِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الآخَرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأصْغَرَ مِنْهُمَا، فَقِيلَ لِى: كَبِّرْ، فَدَفَعْتُهُ إِلَى الأكْبَرِ مِنْهُمَا -. فيه: تقديم ذى السن فى السواك، وكذلك ينبغى تقديم ذى السن فى الطعام والشراب والكلام والمشى والكتاب وكل منزلة قياسًا على السواك واستدلالا من قوله (صلى الله عليه وسلم) لحويصة ومحيصة: تمت كبر كبر - يريد ليتكلم الأكبر، وهذا من باب أدب الإسلام. وقال المهلب: تقديم ذى السن أولى فى كل شى ما لم يترتب القوم فى الجلوس، فإذا ترتبوا فالسنة تقديم الأيمن فالأيمن من الرئيس أو العالم، على ما جاء فى حديث شرب اللبن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 70 - باب فَضْلِ مَنْ بَاتَ عَلَى الْوُضُوءِ / 104 - قَالَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأيْمَنِ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَا مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ، فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ -، قَالَ: فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا بَلَغْتُ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، قُلْتُ: وَرَسُولِكَ، قَالَ: تمت لا، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ -. فيه: أن الوضوء عند النوم مندوب إليه مرغب فيهن وكذلك الدعاء، لأنه قد تقبض روحه فى نومه، فيكون قد ختم عمله بالوضوء والدعاء الذى هو أفضل الأعمال، ولذلك كان ابن عمر يجعل آخر عمله الوضوء والدعاء، فإذا تكلم بعد ذلك استأنف الصلاة والدعاء، ثم ينام على ذلك اقتداء بالنبى (صلى الله عليه وسلم) لقوله: تمت اجعلهن آخر ما تتكلم به -. وقوله: تمت ونبيك الذى أرسلت -. حجة لمن قال: إنه لا يجوز نقل حديث النبى (صلى الله عليه وسلم) ، على المعنى دون اللفظ، وهو قول ابن سيرين، ومالك وجماعة من أصحاب الحديث. وقال المهلب: إنما لم تبدل ألفاظه (صلى الله عليه وسلم) ، لأنها ينابيع الحكمة، وجوامع الكلام، فلو جوز أن يعبر عن كلامه بكلام غيره سقطت فائدة النهاية فى البلاغة التى أعطيها (صلى الله عليه وسلم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وقال بعض العلماء: لم يرد النبى برده على البراء تحرى قوله فقط وإنما أراد بذلك ما فى قوله: تمت ونبيك الذى أرسلت - من المعنى الذى ليس فى قوله: تمت ورسولك الذى أرسلت - وذلك أنه إذا قال: ورسولك الذى أرسلت يدخل فيه جبريل وغيره من الملائكة الذين هم رسل الله إلى أنبيائه وليسوا بأنبياء، كما قال تعالى فى كتابه: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) [الحج: 75] فأراد بقوله: تمت ونبيك الذى أرسلت - تلخيص الكلام من اللبس أنه المراد (صلى الله عليه وسلم) بالتصديق بنبوته بعد التصديق بكتابه الذى أوحى الله تعالى إليه وأمرهم بالإيمان به، وإن كان غيره من رسل الله أيضًا واجب الإيمان بهم، وهذه شهادة الإخلاص والتوحيد الذى من مات عليها دخل الجنة، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت فإن مت مت على الفطرة - يعنى فطرة الإيمان. كمل كتاب الوضوء بحمد الله وعونه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 بسم الله الرحمن الرحيم عونك اللهم كِتَاب الْغُسْل - باب الغسل وَقَوله تَعَالَى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) [المائدة: 6] ) وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) [النساء: 43] اختلف العلماء فى صفة الغسل الذى عنى الله فى هاتين الآيتين، فقالت طائفة: يجزئ الجنب الانغماس فى الماء دون إمرار اليد على جسده، هذا قول الحسن، وعطاء، وسالم، والنخعى، والشعبى، والزهرى، وبه قال الثورى، والكوفيون، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، ومحمد بن عبد الحكم، وأبو الفرج المكى. وقالت طائفة: لا يجزئه حتى يمر يديه على جسده، هذا قول القاسم، وأبى العالية، وميمون بن مهران، وإليه ذهب مالك، والمزنى. واحتج أهل المقالة الأولى، فقالوا: إن كل من صب عليه الماء، فقد اغتسل، تقول العرب: غسلتنى السماء، ولا مدخل فيه لإمرار اليد، وقد وصفت عائشة وميمونة غسل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الجنابة، ولم تذكرا تدلكًا. واحتج المزنى لصحة قول من أوجب التدلك، فقال: إن الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 تعالى أمر الجنب بالاغتسال، كما أمر المتوضئ بغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ولم يكن بد للمتوضئ من إمرار يديه مع الماء على وجهه ويديه، فكذلك جميع جسد الجنب ورأسه، فى حكم وجه المتوضئ ويديه وهذا لازم. قال غيره: ألا تراهم أجمعوا أن الوضوء للصلاة لا يجزئ فيه إلا إمرار اليد، وأجمعوا أن الوضوء فى الغسل من الجنابة ليس بفرض؟ وإذا كان ذلك، فإن المغتسل من الجنابة الذى لا يقول بإمرار اليد إذًا لم يتوضأ لاغتساله، فقد أوجب وضوءًا للصلاة دون إمرار اليد، وهو لا يقول بذلك فنقض قوله. - باب الْوُضُوءِ قَبْلَ الْغُسْلِ / 1 - فيه عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِى الْمَاءِ، فَيُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ الشَعْرِ، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاثَ غُرَفٍ بِيَده، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ. / 2 - وفيه: مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَتْ: تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ غَيْرَ رِجْلَيْهِ، وَغَسَلَ فَرْجَهُ، وَمَا أَصَابَهُ مِنَ الأذَى، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، ثُمَّ نَحَّى رِجْلَيْهِ فَغَسَلَهُمَا، هَذِهِ صفة غُسْلُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ. قال المؤلف: العلماء مجمعون على استحباب الوضوء قبل الغسل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 تأسيًا برسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك، ويحتمل أن يكون قدّم الوضوء قبل الغسل، لفضل أعضاء الوضوء، أو لغير ذلك، وأما الوضوء بعد الغسل، فلا وجه له عند العلماء. وروى نافع، عن ابن عمر، أنه سئل عن الوضوء بعد الغسل، فقال: وأى وضوء أعم من الغسل. وقد ذكر ابن أبى شيبة، قال: حدثنا معمر بن سليمان، عن أبيه، عن عطاء بن السائب، عن أبى البخترى، أن عليًا كان يتوضأ بعد الغسل. وروى الزهرى، عن سالم، قال: كان أبى يغتسل، ثم يتوضأ، فأقول أما يجزئك الغسل؟ فقال: وأى وضوء أتم من الغسل للجنب، ولكنى يخيل إلىَّ أنه يخرج من ذكرى شىء فأمسه فأتوضأ لذلك. وأما حديث علىّ فهو مرسل، لأن يحيى بن معين، قال: أبو البخترى الطائى اسمه سعيد ابن عبيد ثقة، ولم يسمع من على بن أبى طالب، ولو ثبت عن علىّ لكان إنما فعله لانتقاض وضوئه، أو شكَّ فيه كما قال ابن عمر، وروى أبو إسحاق السبيعى، عن أبى الأسود بن يزيد، عن عائشة، قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يتوضأ بعد الغسل من الجنابة. 3 - باب غُسْلِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِه / 3 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ قَدَحٍ يُقَالُ لَهُ: الْفَرَقُ. فيه: دليل على جواز الغسل والوضوء بفضل الجنب والحائض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 وقد تقدم اختلاف العلماء فى هذه المسألة، وحجة كل فريق فى باب وضوء الرجل مع امرأته، فأغنى عن إعادته، وذكر ابن أبى شيبة، عن أبى هريرة أنه كان ينهى أن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد. وأظنه غاب عنه هذا الحديث، والحجة فى السنة لا فيما خالفها. وقال ابن جرير: الفَرَق بفتح الراء. وقال ابن يزيد الأنصارى: الفرق بفتح الراء وإسكانها. وقال أبو عبيد: الفرق ثلاثة أصوع، وهى ستة عشر رطلاً، فكان لكل واحد منهما ثمانية أرطال، وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الفرق ثلاثة أصوع، وهى ستة عشر رطلاً. وقال ابن مدين، عن عيسى بن دينار، قال ابن القاسم، وسفيان بن عيينة: الفرق ثلاثة أصوع، وإذا كان الفرق ثلاثة أصوع كما قال الأئمة، نصفه صاع ونصف، وذلك ثمانية أرطال فالصاع ثلثها، وهو خمسة أرطال وثلث، كما ذهب إليه أهل المدينة. 4 - باب الْغُسْلِ بِالصَّاعِ وَنَحْوِهِ / 4 - فيه: أَبُو سَلَمَةَ، أنه دَخَل عَلَى عَائِشَةَ مَعَ أَخِيهَا، فَسَأَلَهَا أَخُوهَا عَنْ غُسْلِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، فَدَعَتْ بِإِنَاءٍ نَحْو مِنْ الصَّاع، فَاغْتَسَلَتْ، وَأَفَاضَتْ عَلَى رَأْسِهَا، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا حِجَابٌ. / 5 - وفيه: جَابِر أنه سُئل عَنِ الْغُسْلِ، فَقَالَ: يَكْفِيكَ صَاعٌ. فَقَالَ رَجُلٌ: مَا يَكْفِينِى، قَالَ جَابِرٌ: قَدْ كَانَ يَكْفِى مَنْ هُوَ أَوْفَى مِنْكَ شَعَرًا، وَخَيْرٌ مِنْكَ، ثُمَّ أَمَّنَا فِى ثَوْبٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 / 6 - وفيه: ابْنُ عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَمَيْمُونَةَ كَانَا يَغْتَسِلانِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ. اختلف أهل الحجاز، وأهل العراق فى مقدار الصاع الذى كان يغتسل به النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فذهب أهل الحجاز إلى أنه خمسة أرطال وثلث، وذهب أهل العراق إلى أن وزنه ثمانية أرطال، واحتجوا بما رواه موسى بن الجهم الجهمى، عن مجاهد، قال: دخلنا على عائشة واستسقى بعضنا، فأتى بعس، فقالت عائشة: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يغتسل مثل هذا. قال مجاهد: فحزرته ثمانية أرطال، تسعة أرطال، عشرة أرطال. واحتج أهل المدينة بحديث عائشة المتقدم فى الباب قبل هذا قالت: كنت أغتسل أنا والنبى (صلى الله عليه وسلم) من إناء واحد من قدح يقال له: الفرق. وقد ذكرنا هنا أقوال العلماء، أن الفرق ثلاثة أصوع، وهى ستة عشر رطلاً. وإذا صح ذلك فنصف الفرق صاع ونصف، وذلك ثمانية أرطال، ثبت أن الصاع ثلثها، وذلك خمسة أرطال وثلث على ما قاله أهل المدينة، وقد رجع أبو يوسف القاضى إلى قول مالك فى ذلك حين قدم إلى المدينة، فأخرج إليه مالك صاعًا، وقال له: هذا صاع النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال أبو يوسف: فقدرته فوجدته خمسة أرطال وثلث، وأهل المدينة أعلم بمكيالهم، ولا يجوز أن يخفى عليهم قدره، ويعلمه أهل العراق، وإنما توارث أهل المدينة مقداره خلفًا عن السلف، نقل ذلك عالمهم وجاهلهم، إذْ كانت الضرورة بهم إليه فيما خصهم من أمر دينهم فى زكواتهم، وكفَّاراتهم، وبيوعهم، ولا يجوز أن يترك مثل نقل هؤلاء الذين لا يجوز عليهم التواطؤ والتشاعر إلى رواية واحد تحتمل روايته التأويل، وذلك أن قول مجاهد: فحزرته فوجدته ثمانية أرطال إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 تسعة أرطال، إلى عشرة أرطال. لم يقطع حزره على حقيقة فى ذلك، إذ الحزر لا يُعصم من الغلط وتعصم منه الكافة التى نقلت مقداره بالوزن لا بالحزر، وأيضًا فإن ذلك العس لو صح أن مقداره عشرة أرطال، أو تسعة أرطال، لم يكن لهم فى ذلك حجة، إذ ليس فى الخبر مقدار الماء الذى كان يكون فيه، هل هو ملؤه، أو أقل من ذلك؟ فقد يجوز أن يغتسل هو (صلى الله عليه وسلم) وحده بدون ملئه، وقد يجوز أن يغتسل هو وهى بملئه، فيكون بينهما عشرة أرطال، أو أقل، فيوافق ما قاله أهل المدينة. فلما احتمل هذا ولم يكن فى الخبر بيان يُقطع به لا يجوز خلافه، كان المصير إلى ما نقل أهل المدينة، خلفهم عن سلفهم، أن الصاع وزنه خمسة أرطال وثلث، مع ما ثبت عن عائشة أنها كانت تغتسل هى، وهو (صلى الله عليه وسلم) من قدح يقال له: الفرق. وقد روى عن النخعى، وهو إمام أهل الكوفة، ما يخالف قول الكوفيين، ويوافق قول أهل المدينة. وذكر ابن أبى شيبة، عن حسين بن على، عن زائدة، عن منصور، عن إبراهيم، قال: كان يقال: يكفى الرجل لغسله ربع الفرق، قال غيره: وإنما احتيج إلى مقدار الماء الذى كان يغتسل به (صلى الله عليه وسلم) ليردّ به قول الإباضية فى الإكثار من الماء، وهو مذهب قديم، وجملة الآثار المنقولة فى ذلك عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يدل على أنه لا توقيت فيما يكفى من الغسل والطهارة، لذلك استحب السلف ذكر المقدار من غير كيل. وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: كم بلغك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 أنه يكفى الجنب؟ قال: صاع للغسل من غير أن يكال، قال ابن جريج: وسمعت عبيد بن عمير يقول مثله. روى القعنبى، عن سليمان بن بلال، عن عبد الرحمن بن عطاء، قال: إنه سمع سعيد بن المسيب، وسأله رجل من أهل العراق عما يكفى الإنسان فى غسل الجنابة، فقال سعيد: إن لى تورًا يسع مدين ماء، أو نحوهما، أغتسل به فيكفينى ويفضل منه فضل، فقال الرجل: والله إنى لأستنثر بمدين من ماء، فقال سعيد: فما تأمن إن كان الشيطان يلعب بك، فقال له سعيد: ثلاثة أمداد، فقال: آلله هو قليل، فقال سعيد: فصاع، قال عبد الرحمن: فذكرته لسليمان بن يسار، فقال مثله، وذكرته لأبى عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، فقال: هكذا سمعنا أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقولون. 5 - باب مَنْ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاثًا / 7 - فيه: جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِم، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت أَمَّا أَنَا فَأُفِيضُ عَلَى رَأْسِى ثَلاثًا، وَأَشَارَ بِيَدَيْهِ كِلْتَيْهِمَا -. / 8 - حَدَّثَنَا جَابِر، كَانَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يَأْخُذُ ثَلاثَةَ أَكُفٍّ وَيُفِيضُهَا عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ يُفِيضُ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ. فَقَالَ لِىَ الْحَسَنُ: إِنِّى رَجُلٌ كَثِيرُ الشَّعَرِ، فَقُلْتُ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَكْثَرَ شَعَرًا مِنْكَ. فيه: غسل الرأس من الجنابة ثلاثًا، والعدد فى ذلك مستحب عند العلماء، وما أسبغ وعَمَّ فى ذلك أجزأ، وليس فى حديث هذا الباب الوضوء فى غسل الجنابة، ولذلك قال جماعة الفقهاء: إنه من سنن الغسل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 6 - باب الْغُسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً / 9 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَن مَيْمُونَةُ وَضَعْتُ لِلنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَاءً لِلْغُسْلِ، فَغَسَلَ يَدَهِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاثًا، ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى شِمَالِهِ، فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ، ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ بِالأرْضِ، ثُمَّ مَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَرَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ، فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ. فيه: الوضوء فى الغسل من الجنابة، وموضع الترجمة من الحديث فى قوله: تمت ثم أفاض على جسده -، ولم يذكر مرة ولا مرتين، فحمل على أقل ما يسمى غسلاً وهو مرة واحدة، والعلماء مجمعون أنه ليس الشرط فى الغسل إلا العموم والإسباغ لا عددًا من المرات. 7 - باب مَنْ بَدَأَ بِالْحِلابِ أَوِ الطِّيبِ عِنْدَ الْغُسْلِ / 10 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ دَعَا بِشَىْءٍ نَحْوَ الْحِلابِ، فَأَخَذَ بِكَفِّهِ، فَبَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الأيْمَنِ، ثُمَّ الأيْسَرِ، فَقَالَ بِهِمَا عَلَى وَسَطِ رَأْسِهِ. قال أبو سليمان الخطابى: الحلاب: إناء يسع حَلْبة ناقة، وهو المِحْلب، بكسر الميم، فأما المَحْلب، بفتح الميم، فهو الحَب الطيب الريح. قال المؤلف: وأظن البخارى جعل الحلاب فى هذه الترجمة ضربًا من الطيب، وإن كان ظن ذلك فقد وهم، وإنما الحلاب: الإناء الذى كان فيه طيب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الذى كان يستعمله عند الغسل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 وفى الحديث: الحث على استعمال الطيب عند الغسل تأسيًا بالنبى (صلى الله عليه وسلم) . 8 - باب الْمَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ من الْجَنَابَةِ / 11 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، عن مَيْمُونَةُ، قَالَتْ: صَبَبْتُ لِلنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، غُسْلا، فَأَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى يَسَارِهِ، فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ الأرْضَ فَمَسَحَهَا بِالتُّرَابِ، ثُمَّ غَسَلَهَا، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ، وَأَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ أُتِىَ بِمِنْدِيلٍ، فَلَمْ يَنْفُضْ بِهَا. وترجم له: بَاب مَسْحِ الْيَدِ بِالتُّرَابِ لِيَكُونَ أَنْقَى. قد تقدم اختلاف العلماء فى هذا الباب فى باب المضمضة فى الوضوء، فأغنى عن إعادته، ونزيد بيانًا، وذلك أن العلماء مجمعون على سقوط الوضوء فى غسل الجنابة، والمضمضة والاستنشاق سنتان فى الوضوء، فإذا سقط فرض الوضوء فى الجنابة سقطت توابعه، فدل أن ما روته ميمونة فى ذلك فى غسله، (صلى الله عليه وسلم) ، فهو سنة، لأنه كان يلتزم الكمال والأفضل فى جميع عباداته. قال المهلب: وقوله: تمت ثم قال بيده إلى الأرض - سمى الفعل قولا، كما سمى القول فعلا، فى حديث: تمت لا حسد إلا فى اثنتين - فى قوله فى الذى يتلو القرآن: تمت لو أوتيت مثل ما أوتى لفعلت مثل ما فعل -. وفيه: أن الإشارة باليد والعمل قد تسمى قولا، فقول العرب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 قل لى برأسك أى: أَمِلْهُ، وقالت الناقة، وقال البعير، وقال الحائط، وهذا كله مجاز. وتركه، (صلى الله عليه وسلم) ، للمنديل فإنه أراد، والله أعلم، إبقاء بركة الماء والتواضع بذلك وسنذكر اختلاف العلماء فى المسح بالمنديل فى باب نقض اليدين من غسل الجنابة، بعد هذا، إن شاء الله. وقوله: تمت فقال بيده الأرض، فمسحها بالتراب -، يدل، والله أعلم، أنه كان فيها أذى، وإلا فلو لم يكن فيها أذى، لاكتفى بصب الماء وحده عليها كما فعل غير مرة. والغُسل، بضم الغين، الماء الذى يغتسل به، والغَسل، بفتح الغين، فعل المغتسل، كالوُضوء والوَضوء، والوُقود والوَقود، فالوُضوء، بضم الواو، الماء الذى يتوضأ به، والوَضوء، بفتح الواو، فعل المتوضئ، والوُقود، بضم الواو، التوقد والتلهب، والوَقود، بفتح الواو، الحطب، وكذلك السُّحور، والسَّحور، بضم السين، الطعام، وبفتح السين، الفعل. قال ابن الأنبارى: وأجاز النحويون أن يكون الوضوء والسحور والوقود مصادر، والأول هو الذى عليه أهل اللغة. 9 - باب هَلْ يُدْخِلُ الْجُنُبُ يَدَهُ فِى الإنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا، إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى يَدِهِ قَذَرٌ غَيْرُ الْجَنَابَةِ؟ وَأَدْخَلَ ابْنُ عُمَرَ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ يَدَهُ فِى الطَّهُورِ، وَلَمْ يَغْسِلْهَا، ثُمَّ تَوَضَّأَ. وَلَمْ يَرَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ بَأْسًا بِمَا يَنْتَضِحُ مِنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 / 12 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيهِ. / 13 - وقَالَ: أَبُو بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ جَنَابَةٍ. / 14 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ غَسَلَ يَدَيهُ. / 15 - وفيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَالْمَرْأَةُ مِنْ نِسَائِهِ يَغْتَسِلانِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنَ الجَنَابِةِ. قال المهلب: قوله فى الترجمة: تمت هل يدخل الجنب يده فى الإناء قبل أن يغسلها إذا لم يكن على يديه قذر غير الجنابة -، يريد إذا كانت يده طاهرة من الجنابة ومن سائر النجاسات، وهو جنب، فإنه يجوز له أن يدخل يده فى الإناء قبل أن يغسلها، وليس شىء من أعضائه نجسًا بسب حال الجنابة، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت المؤمن لا ينجس -. فإن قال قائل: فأين موضع الترجمة من الأحاديث، فأكثرها لا ذكر فيه لغسل اليد، وإنما جاء ذكر اليد فى حديث هشام بن عروة، عن أبيه؟ . قيل له: حديث هشام بن عروة مُفسِّر لمعنى الباب، والله أعلم، وذلك أن البخارى حمل حديث غسل اليد قبل إدخالها فى الماء الذى رواه هشام، إذا خشى أن يكون قد علق بها شىء من أذى الجنابة، أو غيرها، وما لا ذكر فيه لغسل اليد من الأحاديث، حملها على يقين طهارة اليد من أذى الجنابة أو غيرها، فاستعمل من اختلاف الأحاديث فائدتين جمع بهما بين معانيها، وانتفى بذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 التعارض عنها، وقد روى هذا المعنى عن ابن عمر، ذكر ابن أبى شيبة، عن محمد بن فضيل، عن أبى سنان ضرار، عن محارب، عن ابن عمر، قال: من اغترف من ماء وهو جنب فما بقى منه نجس. فهذا محمول من قوله على أنه كان بيده قذر الجنابة، وإلا فهو معارض لما روى البخارى عن ابن عمر، وقد روى مثل هذا التأويل عن جماعة من السلف. روى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: إذا أمنت أن يكون بكفيك قشب، فما يضرك أن تدخلهما فى وضوئك قبل أن تغسلهما. وعن معمر، عن قتادة، أن ابن سيرين كان يخرج من الكنيف، فيدخل يده فى وضوئه قبل أن يغسلها، فقيل له: ما هذا؟ فقال: إنى لا أمس بها شيئًا. وعن سالم، وسعيد بن جبير مثله. وممن كان يدخل يده فى غسل الجنابة قبل أن يغسلها سعد بن أبى وقاص، وسعيد بن المسيب. وقال الشعبى: كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يدخلون أيديهم الماء قبل أن يغسلوها وهم جنب، والنساء وهن حيض، ولا يفسد ذلك بعضهم على بعض، وذكر ذلك كله ابن أبى شيبة، وعبد الرزاق. وأما قوله: تمت ولم ير ابن عمر، وابن عباس بأسًا بما ينتضح من غسل الجنابة -، فروى مثله عن أبى هريرة، وابن سيرين، والنخعى، والحسن، وقال الحسن: ومن ذلك انتشار الماء، إنّا لنرجو من رحمة الله ما هو أوسع من هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 - باب مَنْ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فِى الْغُسْلِ / 16 - فيه: مَيْمُونَةَ، قَالَتْ: وَضَعْتُ لِلنَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، غُسْلا فَسَتَرْتُهُ، فَصَبَّ عَلَى يَدِهِ، فَغَسَلَهَا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ فَرْجَهُ، ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالأرْضِ أَوْ بِالْحَائِطِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ. . . . وذكر تمام الغسل. هذا الحديث محمول عند البخارى على أنه كان فى يده أو فى فرجه جنابة أو أذى، فلذلك دلك يده بالأرض وغسلها قبل إدخالها فى وضوئه على ما قدمنا ذكره فى هذا الباب قبل هذا، والله أعلم. - باب تَفْرِيقِ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ غَسَلَ قَدَمَيْهِ بَعْدَمَا جَفَّ وَضُوءُهُ. / 17 - فيه: مَيْمُونَةُ قَالَتْ: وَضَعْتُ لِلنَّبِى، (صلى الله عليه وسلم) ، مَاءً يَغْتَسِلُ بِهِ. . . وذكر الحديث إلى قوله: ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى جَسَدِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى مِنْ مغتسله، فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ. اختلف العلماء فى تفريق الوضوء والغسل، فممن أجاز ذلك: ابن عمر، وابن المسيب، وعطاء، وطاوس، والنخعى، والحسن، والثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، ومحمد بن عبد الله ابن عبد الحكم. وممن لم يُجز تفرقته: عمر بن الخطاب، وهو قول قتادة، وربيعة، والأوزاعى، والليث إذا فرقه حتى جف، وهو ظاهر مذهب مالك إذا فرقه حتى جف، وإن فرقه يسيرًا جاز، وإن فرقه على وجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 النسيان يجزئه وإن طال، وأما إن تَعمِّد ذلك، فلا يجزئه. هذا قول ابن القصار. قال: ومن أصحاب مالك من قال: الموالاة مستحبة، وروى ابن وهب، عن مالك، قال: ولو نزع خفيه، وأقام طويلاً لم يغسل رجليه وأحب إلىَّ أن يأتنف الوضوء، وإن غسل رجليه وصلى أجزأه. وحجة من أجاز تفرقته، حديث ميمونة: تمت أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، تنحى عن مقامه، فغسل قدميه -، وفعل ابن عمر، ولو كان لا يجزئه، لبينه (صلى الله عليه وسلم) ، واحتجوا أيضًا بأن الله تعالى أمر المتوضئ بغسل الأعضاء، فمن أتى بغسل ما أمر به متفرقًا، فقد أدى ما أُمر به، وتمت الواو - فى الآية لا تعطى الفور. وقال الطحاوى: جفوف الوضوء ليس بحدث فلا ينقض، كما أن جفوف سائر الأعضاء لا يبطل الطهارة. واحتج من لم يجز التفرقة، بأن التنحى فى حديث ميمونة من موضع الغسل يقرب ويبعد، واسم التنحى بالقرب أولى، وأما جفوف الوضوء فى فعل ابن عمر فلا يكون إلا بالبعد، لكن الذى مضى عليه عمل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الموالاة، وتواطأ على ذلك فعل السلف، واحتج أهل المقالة الأولى أيضًا، أنه لما جاز التفريق اليسير جاز الكثير، أصله الحج، وعكسه الصلاة، لأنه لو وقف بعرفة وطاف يوم النحر أجزأه، وهذا تفريق يسير، ولو وقف وطاف بعد شهر أجزأه، ولو طاف خمسة أشواط، وطاف شوطين فى وقت آخر أجزأه. فعارضهم أهل المقالة الثانية، فقالوا: أما قياسكم على التفريق اليسير فغلط، لأن الأصول قد جوزت العمل اليسير فى الصلاة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 ومنعت من الكثير، ولو تعمد قتل عقرب، أو دب ليسدَّ الصفَ جاز، ولو اشتغل بإخراج غريق وهو فى الصلاة بطلت الصلاة، والقياس على الصلاة أولى من القياس على الحج، لأن الطهارة تراد للصلاة. - باب إِذَا جَامَعَ ثُمَّ عَاوَدَ وَمَنْ دَارَ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْل وَاحِدٍ (1) / 18 - فيه: عَائِشَةَ، كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا، يَنْضَحُ طِيبًا. / 19 - وفيه: أَنَس، كَانَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِى السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ امرأة، قُلْتُ لأنَسٍ: أَوَكَانَ يُطِيقُهُ؟ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِىَ قُوَّةَ ثَلاثِينَ. وَقَالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: عَن أَنَس: تمت تِسْعُ نِسْوَةٍ -. لم تختلف العلماء فى جواز وطء جماعة نساء فى غسل واحد على ما جاء فى حديث عائشة، وأنس. وروى ذلك عن ابن عباس، وقاله عطاء، ومالك، والأوزاعى. وإنما اختلفوا إذا وطئ جماعة نسائه فى غسل واحد، هل عليه أن يتوضأ وضوءه للصلاة عند وطء كل واحدة منهن أم لا؟ فروى عن عمر بن الخطاب، وابن عمر أنه إذا أراد أن يعود توضأ وضوءه للصلاة، وبه قال عطاء وعكرمة، وكان الحسن البصرى لا يرى بأسًا أن يجامع الرجل امرأته، ثم يعود قبل أن يتوضأ، وعن ابن سيرين مثله، وبهذا قال مالك وأكثر الفقهاء أنه لا وضوء عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وقال أحمد بن حنبل: إن توضأ أعجب إلىّ، فإن لم يفعل فأرجو ألا يكون به بأس. وبه قال إسحاق، وقال: لابد من غسل الفرج إذا أراد أن يعود. ويحتمل أن يكون دورانه (صلى الله عليه وسلم) عليهن فى يوم واحد لمعان: أحدها: أن يكون ذلك عند إقباله من سفره، حيث لا قسمة تلزمه لنسائه، لأنه كان إذا سافر أقرع بين نسائه فأيتهن أصابتها القرعة خرجت معه، فإذا انصرف استأنف القسمة بعد ذلك، ولم تكن واحدة منهن أولى بالابتداء من صاحبتها، فلما استوت حقوقهن، جمعهن كلهن فى ليلة، ثم استأنف القسمة بعد ذلك. والوجه الثانى: يحتمل أن يكون استطاب أنفس أزواجه، فاستأذنهن فى ذلك كنحو استئذانهن أن يُمرَّض فى بيت عائشة، قاله أبو عبيد. والوجه الثالث: قاله المهلب، قال: يحتمل أن يكون دورانه عليهن فى يوم يفرغ من القسمة بينهن، فيقرع فى هذا اليوم لهن كلهن يجمعهن فيه، ثم يستأنف بعد ذلك القسمة، والله أعلم. وفى هذا الحديث أن الإماء يعددن من نسائه، لقوله: تمت وهن إحدى عشرة امرأة -، لأنه لم يحل له من الحرائر إلا تسع، وهو حجة لمالك فى قوله: إن من ظاهر من أمته لزمه الظهار، لأنها من نسائه، واحتج بظاهر قوله تعالى: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم) [المجادلة: 2] وسيأتى فى كتاب النكاح زيادة من الكلام فى هذا الحديث، إن شاء الله عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 وقد احتج بحديث عائشة من لا يوجب التدلك فى الغسل، وقال: لو تدلك (صلى الله عليه وسلم) لم ينتضح منه الطيب. قال الطحاوى: وقد يجوز أن يكون دَلَكَ وقد غسله، وهكذا الطيب إذا كان كثيرًا، ربما غسله، فذهب وبقى وَبيصه. قال المؤلف: ومن روى هذا الحديث: تمت ينضخ طيبًا - بالخاء، فالنضخ عند العرب كاللطخ، يقال: نضخ ثوبه بالطيب، هذا قول الخليل. وفى كتاب الأفعال: نضخت العين بالماء نضخًا إذا فارت، واحتج بقوله الله تعالى: (فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ) [الرحمن: 66] ، ومن رواه تمت ينضح - بالحاء، فقال صاحب العين: نضحت العين بالماء إذا رأيتها تفور، وكذلك العين الناظرة، إذا رأيتها تغرورق، والوبيص: البريق واللمعان. - باب غَسْلِ الْمَذْىِ وَالْوُضُوءِ مِنْهُ / 20 - فيه: عَلِىّ بن أَبِى طالب، قَالَ: كُنْتُ رَجُلا مَذَّاءً، فَأَمَرْتُ رَجُلا أَنْ يَسْأَلَ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، لِمَكَانِ ابْنَتِهِ، فَسَأَلَه، فَقَالَ: تمت تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ -. اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة: يغسل الذكر كله من المذى، ثم يتوضأ مثل وضوئه للصلاة، روى هذا عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وهو قول مالك فى المدوّنة، وحجتهم قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت توضأ واغسل ذكرك -، وهذا ظاهره العموم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 وقال آخرون: إنما يجب غسل موضع الأذى من الذكر فقط مع الوضوء، لا غسل الذكر كله، وروى هذا عن ابن عباس أيضًا، وعن سعيد بن جبير، وعطاء، وهو قول الكوفيين. وقال ابن أبى زيد: قال البغداديون من أصحاب مالك: إن معنى غسل الذكر من المذى: غسل موضع الأذى فقط. واحتج الكوفيون بما رواه الأعمش، عن حبيب بن أبى ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال على: كنت رجلاً مذاءً فأمرت رجلاً فسأل النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: فيه الوضوء. ورواه أبو حصين، عن أبى عبد الرحمن، عن على، قال: كنت رجلاً مذاءً، فأرسلت رجلاً إلى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: تمت توضأ واغسله -. واحتج أبو عبد الله بن الفخار لقول البغداديين من أصحاب مالك، قال الدليل على صحته: أن مالكًا روى فى موطئه حديث المقداد فى غسل المذى، وفيه: تمت فليغسل فرجه وليتوضأ -، هكذا رواه القعنبى، وابن وهب، وابن بكير، وجماعة. قال: والفرج فى اللغة: الشق بين الجبلين، فحقيقة الفرج إنما تقع على موضع مخرج البول والمذى فقط. وروى يحيى بن يحيى تمت فلينضح فرجه -، ومعناه الغسل. قال الطحاوى: وأما النظر فى هذا الباب، فإنا رأينا خروج المذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 حدثًا، فأردنا أن نعلم ما يجب فى خروج الأحداث، فكان خروج الغائط يجب فيه غسل ما أصاب البدن لا غسل ما سوى ذلك، إلا التطهر للصلاة، فالنظر على ذلك أن يكون خروج المذى كذلك لا يجب فيه غسل غير الموضع الذى أصابه من البدن غير التطهر للصلاة. - باب مَنْ تَطَيَّبَ ثُمَّ اغْتَسَلَ وَبَقِىَ أَثَرُ الطِّيبِ / 21 - فيه: عَائِشَةَ، أَنّه ذُكر لَهَا قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ: مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَحُ طِيبًا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ طَافَ فِى نِسَائِهِ، ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا. / 22 - وفيه: وَقَالَتْ عَائِشَة: كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِى مَفْرِقِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ مُحْرِمٌ. قال المهلب: فيه أن السنة اتخاذ الطيب للنساء والرجال عند الجماع، فكان (صلى الله عليه وسلم) أملك لأربه من سائر أمته، فلذلك كان لا يتجنب الطيب فى الإحرام ونهانا عنه، لضعفنا عن ملك الشهوات، إذ الطيب من أسباب الجماع ودواعيه، والجماع يفسد الحج، فمنع فيه الطيب للذريعة. وسيأتى اختلاف العلماء فى الطيب للمحرم فى كتاب الحج، والوبيص: البريق واللَّمعان. وقد احتج بحديث عائشة من لا يوجب التدلك فى الغسل، وقالوا: لو تدلك فى غسله لم ينضح الطيب منه. وقال الطحاوى: وقد يجوز أن يكون دلك وقد غسله، وهكذا الطيب إذا كان كثيرًا، ربما غسله فذهب وبقى وبيصه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 - باب تَخْلِيلِ الشَّعَرِ حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ أَفَاضَ عَلَيْهِ / 23 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، غَسَلَ يَدَيْهِ، وَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ، ثُمَّ يُخَلِّلُ بِيَدِهِ شَعَرَهُ، حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ، أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثَلاثَ غرفات، ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ -. قال المؤلف: أما تخليل شعر الرأس فى غسل الجنابة فالعلماء مجمعون عليه، وعليه قاسوا شعر اللحية، لأنه شعر مثله، فحكمه حكمه فى التخليل، إلا أنهم اختلفوا فى تخليل اللحية، فممن كان يخلل لحيته: عثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب، وعمار بن ياسر، وابن عباس، وابن عمر، وأنس، ومن التابعين أبو قلابة، والنخعى، وسعيد بن جبير، وعطاء. وممن رخص فى تخليلها: الشعبى، وطاوس، والقاسم، والحسن، وأبو العالية، ورواية عن النخعى. واختلف قول مالك فى تخليلها، فروى عنه ابن القاسم أنه لا يجب تخليلها فى غسل الجنابة، ولا فى الوضوء، وروى عنه ابن نافع، وابن وهب فى المجموعة إيجاب تخليلها مطلقًا، ولم يذكرا غسلاً ولا وضوءًا، وروى عنه أشهب فى العتبية أن تخليلها فى الغسل واجب، ولا يجب فى الوضوء، وبه قال أبو حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والليث، وأحمد، وإسحاق. وحكى ابن القصار، عن الشافعى أن التخليل مسنون، وإيصال الماء إلى البشرة مفروض فى الجنابة مثل أن يغلغل الماء فى شعره، أو يبله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 حتى يعلم أن الماء قد وصل إلى البشرة، وقال المزنى، ومحمد بن عبد الحكم: تخليلها واجب فى الوضوء والغسل جميعًا. وحجة من قال بتخليلها فى الغسل حديث عائشة أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، اغتسل وخلل شعره بيديه. فدخل فيه شعر اللحية وغيرها. وأما تخليلها فى الوضوء، فقال ابن القاسم، عن مالك: ليس هو من أمر الناس، وعاب ذلك على من فعله، وقال أبو قرة: يكفيها ما مر عليها من الماء مع غسل الوجه، واحتج بحديث عبد الله بن زيد فى الوضوء، ولم يذكر فيه تخليل اللحية، وقال الطحاوى: التيمم فيه واجب مسح البشرة قبل نبات اللحية، ثم سقط بعدها عند جميعهم، فكذلك الوضوء، وحجة من لم ير تخليل اللحية فى الجنابة، أنا قد اتفقنا أن داخل العينين لا يجب غسله، بعلة أن درنه سائر من نفس الخلقة، وأيضًا فإن الأمرد الذى لا لحية له يجب عليه غسل ذقنه فى الوضوء والجنابة، ثم يسقط غسله فى الوضوء إذا غطاه الشعر، فينبغى أن يسقط فى الجنابة. - باب مَنْ تَوَضَّأَ فِى الْجَنَابَةِ ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ وَلَمْ يُعِدْ غَسْلَ مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مَرَّةً أُخْرَى / 24 - فيه: مَيْمُونَةَ أنها وَضَعَت للنَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَضُوء الجَنَابَة، فَأَكْفَأَ بِيَمِينِهِ عَلَى بَسَارِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ، ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ. . . . -، الحديث. أجمع العلماء على أن الوضوء ليس بواجب فى غسل الجنابة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 ولذلك قال ابن عمر: وأى وضوء أعم من الغسل؟ فلما ناب غسل مواضع الوضوء وهى سنة فى الجنابة عن غسلها فى الجنابة، وغسل الجنابة فريضة، صح بذلك قول مطرف، وابن الماجشون، وابن كنانة، وابن وهب، وابن نافع، وأشهب: أن غسل الجمعة يجزئ عن غسل الجنابة، ورووه كلهم عن مالك، وهى خلاف رواية ابن القاسم. قال المهلب: ووجه ذلك أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لما اجتزأ بغسل أعضاء الوضوء عن أن يغسلها مرة أخرى للجنابة، دل أن الطهارة إذا نوى بها رفع الحدث أجزأت عن كل معنى يراد به استباحة الصلاة، ولهذا الحديث، والله أعلم، قال عطاء: إذا غسلتُ كفَّىَّ قبل إدخالهما الإناء لم أغسلهما مع الذراعين فى الوضوء. وفى هذا الحديث أيضًا حجة لأحد قولى مالك فى رجل توضأ للظهر، ثم صلى، ثم أراد أن يجدد الوضوء للعصر للفضل، فلما صلى العصر، ذكر أن الوضوء الأول قد انتقض، فقال مرة: تجزئه صلاته، وقال مرة: إنها لا تجزئه. والصواب أنها تجزئه، لأن الوضوء عنده للسنن تجزئ به صلوات الفرائض، ومثل هذه المسألة اختلاف ابن القاسم، وابن الماجشون، فيمن صلى فى بيته، ثم صلى تلك الصلاة فى المسجد، فذكر أنه كان صلى فى بيته على غير وضوء، فقال ابن القاسم: تجزئه. وقال ابن الماجشون: لا تجزئه. وقول ابن القاسم الصواب بدليل هذا الحديث، فإنه وإن كان صلاها على طريقة الفضيلة، فإنه نوى بها تلك الصلاة بعينها والقربة إلى الله بتأديتها، كما نوى بغسل يديه وغسل مواضع الوضوء القربة إلى الله، ولم يحتج إلى إعادتها فى الغسل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 الجنابة، وقد قال ابن عمر للذى سأله عن الذى يصلى فى بيته، ثم يصلى تلك الصلاة فى المسجد تمت أيهما أجعل صلاتى؟ فقال: أو ذلك إليك؟ هى إلى الله يجعل أيتهما شاء -. وقوله فى الحديث فى الباب قبل هذا: تمت ثم غسل سائر جسده - كان أولى بهذه الترجمة، وهو تبيين لرواية من روى فيه: تمت ثم أفاض على جسده الماء، وصب أو أفرغ على جسده -، والمراد بذلك: الغسل لما بقى من الجسد دون أعضاء الوضوء بدليل قوله تعالى: (وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ) [النساء: 43] ، وقد تقدم من الحجة فى هذه المسألة فى أول كتاب الغسل ما فيه الكفاية. - باب إِذَا ذَكَرَ فِى الْمَسْجِدِ أَنَّهُ جُنُبٌ خَرَجَ كَمَا هُوَ وَلا يَتَيَمَّمُ / 25 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، وَعُدِّلَتِ الصُّفُوفُ قِيَامًا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا قَامَ فِى مُصَلاهُ، ذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ، فَقَالَ لَنَا: تمت مَكَانَكُمْ -، ثُمَّ رَجَعَ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا، وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَكَبَّرَ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ. قال المؤلف: من التابعين من يقول: إن الجنب إذا نسى، فدخل المسجد فذكر أنه جنب يتيمم، وكذلك يخرج، وهو قول الثورى، وإسحاق، وهذا الحديث يرد قولهم. وقال أبو حنيفة فى الجنب المسافر يمر على مسجد فيه عين ماء: فإنه يتيمم، ويدخل المسجد، فيستقى، ثم يخرج الماء من المسجد، وهذا الحديث يدل على خلاف قوله، لأنه لما لم يلزمه التيمم للخروج، كذلك من اضطر إلى المرور فيه جنبًا لا يحتاج إلى تيمم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 وقد اختلف العلماء فى مرور الجنب فى المسجد، فرخص فيه على، وابن مسعود، وابن عباس، وقال جابر: كان أحدنا يمر فى المسجد وهو جنب. وممن روى عنه إجازة دخوله عابر سبيل: سعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن، وسعيد بن جبير، وهو قول الشافعى. ورخصت طائفة للجنب أن يدخل المسجد ويقعد فيه، قال زيد بن أسلم: كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يحتبون فى المسجد وهم جنب. وكان أحمد بن حنبل يقول: يجلس الجنب فى المسجد ويمر فيه إذا توضأ، ذكره ابن المنذر. وقال مالك والكوفيون: لا يدخل فيه الجنب، ولا عابر سبيل، وروى عن ابن مسعود أيضًا أنه كره ذلك للجنب. وحجة الذين رخصوا فى ذلك قوله تعالى: (لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ) [النساء: 43] . وأن المراد مكان الصلاة، فتقديره: لا تقربوا مكان الصلاة جنبًا إلا عابرى سبيل، قالوا: وقد سمى المسجد باسم الصلاة فى قوله تعالى: (لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ) [الحج: 40] . وحجة الذين منعوا الجنب من دخول المسجد: أن المراد بالآية نفس الصلاة وحملها على مكان الصلاة مجاز، على أنا نحمله على عمومه فنقول: لا تقربوا الصلاة ولا مكانها على هذه الحال إلا أن تكونوا مسافرين فتيمموا واقربوا ذلك، وصلوا، ونكون بهذا أسعد منكم لأن فيه تعظيمًا لحرمة المسجد، ويمكن أن يستدل من هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 الآية بقول الثورى، وإسحاق، وذلك أن المسافر إذا عدم الماء منع دخول المسجد والصلاة فيه إلا بالتيمم وذلك لضرورة، وأنه لا يقدر على ماء، فكذلك الذى يجنب فى المسجد، فى القياس، لا يخرج إلا بعد التيمم، لأنه مضطر لا ماء معه، فأشبه المسافر العابر سبيل المذكور فى الآية لولا ما يعارضه من حديث أبى هريرة المفسر لمعنى الآية، لجواز خروجه من المسجد دون تيمم، ولا قياس لأحد مع مجئ السنن، وإنما يُفزع إلى القياس عند عدمها، والله الموفق. - باب نَفْضِ الْيَدَيْنِ مِنَ غُسلِ الْجَنَابَةِ / 26 - فيه: مَيْمُونَةُ: تمت وَضَعْتُ لِلنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، غُسْلا. . . -، وذكر الحديث: تمت فَنَاوَلْتُهُ ثَوْبًا، فَلَمْ يَأْخُذْهُ فَانْطَلَقَ، وَهُوَ يَنْفُضُ يَدَيْهِ -. اختلف العلماء فى المسح بالمنديل بعد الوضوء، فكره ذلك جابر، وعطاء، وابن أبى ليلى، وابن المسيب، والنخعى، وأبو العالية، وهو قول الحسن بن حى. وكره ابن عباس أن يمسح بالمنديل من الوضوء، ولم يكرهه من الجنابة. وممن رخص فى ذلك عثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب، وابن عمر، وأنس بن مالك، وبشير بن أبى مسعود، والحسن، والشعبى، وابن سيرين، وعلقمة، والأسود، ومسروق، وهو قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق. قال ابن المنذر: ذلك مباح كله. قال المهلب: ويمكن أن يريد بترك المنديل إبقاء بركة بلل الماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 والتواضع بذلك لله تعالى، أو لشىء رآه فى المنديل من حرير، أو وسخ، أو لاستعجال كان به، والله أعلم. وقد روى ابن وهب، عن زيد بن الحباب، عن أبى معاذ، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كانت له خرقة يتنشف بها بعد الوضوء. - باب مَنِ اغْتَسَلَ عُرْيَانًا وَحْدَهُ فِى الْخَلْوَةِ وَمَنْ تَسَتَّرَ، وَالتَّسَتُّرُ أَفْضَلُ وَقَالَ بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ -. / 27 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: تمت كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَكَانَ مُوسَى يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلا أَنَّهُ آدَرُ، فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ، فَخَرَجَ مُوسَى فِى إِثْرِهِ، يَقُولُ: ثَوْبِى يَا حَجَرُ، ثَوْبِى يَا حَجَرُ، ثَوْبِى يَا حَجَرُ، حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مُوسَى، وَقَالتْ: وَاللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ، وَأَخَذَ ثَوْبَهُ، وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا -. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَنَدَبٌ بِالْحَجَرِ سِتَّةٌ، أَوْ سَبْعَةٌ ضَرْبًا بِالْحَجَرِ. / 28 - وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْتَثِى فِى ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى وَعِزَّتِكَ، وَلَكِنْ لا غِنَى بِى عَنْ بَرَكَتِكَ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 قال المهلب: فى حديث موسى، وأيوب دليل على إباحة التعرى فى الخلوة للغسل وغيره، بحيث يأمن أعين الناس، لأن أيوب وموسى من الذين أمرنا أن نهتدى بهداهم، ألا ترى أن الله عاتب أيوب على جمع الجراد، ولم يعاتبه على غسله عريانًا، ولو كلف الله عباده الاستتار فى الخلوة كان فى ذلك حرج على العباد، إذ كان المغتسل من الجنابة لا يجد بدًا من التعرى والله تعالى لا يغيب عنه شىء من خلقه، عراة كانوا أو مكتسين، وسيأتى شىء من هذا المعنى فى كتاب الصلاة، فى باب كراهية التعرى فى الصلاة وغيرها، إن شاء الله، إلا أن الاستتار فى الخلوة من حسن الأدب. وقد روى ابن وهب، عن ابن مهدى، عن خالد بن حميد، عن بعض أهل الشام، أن ابن عباس لم يكن يغتسل فى بحر ولا نهر إلا وعليه إزار، فإذا سئل عن ذلك، قال: إن له عامرًا. وروى برد، عن مكحول، عن عطية، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت من اغتسل بليل فى فضاء فليتحاذر على عورته، ومن لم يفعل ذلك فأصابه لمم فلا يلومن إلا نفسه -. وفى مرسلات الزهرى، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت لا تغتسلوا فى الصحراء إلا أن لا تجدوا متوارى، فإن لم تجدوا متوارى فليخط أحدكم كالدائرة، ثم يسمى الله ويغتسل فيها -. وفى حديث موسى دليل على إباحة النظر إلى العورة عند الضرورة الداعية إلى ذلك من مداواة، أو براءة مما رمى به من العيوب كالبرص وغيره من الأدواء التى يتحاكم الناس فيها مما لابد فيها من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 رؤية أهل النظر بها، فلا بأس برؤية العورات للبراءة من ذلك أو لإثبات العيوب فيه والمعالجة. وفيه: آية لموسى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى مشى الحجر. وفيه: إجراء خُلق الإنسان عند الضجر على من يعقل، ومن لا يعقل، كما جرى من موسى فى ضربه للحجر، وإن كان الحجر قد جعل الله فيه قوةً مشى بها فلذلك ضربه، لأنه إذا أمكن أن يمشى بثوبه، أمكن أن يخشى الضرب، ألا ترى قول أبى هريرة: والله إنه لندب بالحجر، يعنى آثار ضرب موسى، (صلى الله عليه وسلم) ، بقيت فى الحجر آية لهم. وفيه: جواز الحلف على الأخبار لحلف أبى هريرة أن موسى ضرب الحجر وأَثَّر فيه ضربه. وقوله: تمت إنه لندب بالحجر -، قال صاحب العين: الندب أثر الجرح. وأما غتسال بنى إسرائيل عراة ينظر بعضهم إلى بعض، فيدل أنهم كانوا عصاة له فى ذلك غير مقتدين بسنته إذ كان هو يغتسل حيث لا يراه أحد، ويطلب الخلوة، فكان الواجب عليهم الاقتداء به فى ذلك، ولو كان اغتسالهم عراةً فى غير الخلوة عن علم موسى وإقراره لذلك، لم يلزمنا فعله، لأن فى شريعتنا الأمر بستر العورة عن أعين الآدميين، وذلك فرض علينا، وهو فى الخلاء حسن غير واجب. وأما حديث بهز بن حكيم: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 تمت إن الله أحق أن يستحى منه -، فهو محمول عند الفقهاء على الندب والاستحباب للتستر فى الخلوة لا على الإيجاب لما ذكرناه. وفى حديث أيوب جواز الحرص على المال الحلال وفضل الغنى، لأنه سماه بركةً. - باب التَّسَتُّرِ فِى الْغُسْلِ عِنْدَ النَّاسِ / 29 - فيه: أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِى طَالِبٍ، قَالَتْ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَامَ الْفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ، وَفَاطِمَةُ تَسْتُرُهُ، فَقَالَ: تمت مَنْ هَذِهِ -؟ قُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ. / 30 - وفيه: مَيْمُونَةَ، قَالَتْ: سَتَرْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ. . . الحديث. أجمع العلماء على وجوب ستر العورة عن أعين الناظرين، وأصل هذين الحديثين ومصداقهما فى كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النور: 58] الآية. ثم قال: (ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ) [النور: 58] ، وفى هذا دليل على أن الجناح غير مرفوع فيهن، وقوله: (ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ (أى إن هذه الأوقات أكثر ما يخلو فيها الرجل بأهله للجماع، حظر الله ذلك على الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء، ولا جرت عليهم الأقلام، يدل أنه واجب على غيرهم من الرجال والنساء التستر الذى أراده الله. وقد قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 تعالى: (يَا بَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِى سَوْءَاتِكُمْ) [الأعراف: 26] ، فعد علينا نعمته فى ذلك. وقال تعالى: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [النور: 30] ، فقرن غض الأبصار عن العورات بحفظ الفروج، وقال (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا يطوفن بالبيت عريان -، فكما لا يحل لأحد أن يبدى عن فرجه لأحد من غير ضرورة مضطرة له إلى ذلك، فكذلك لا يجب أن ينظر إلى فرج أحد من غير ضرورة، واتفق أئمة الفتوى على أنه من دخل الحمام بغير مئزر أنه تسقط شهادته بذلك، هذا قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، وأصحابه، والشافعى. واختلفوا إذا نزع مئزره، ثم دخل الحوض وبدت عورته عند دخوله، فقال مالك والشافعى: تسقط شهادته بذلك أيضًا. وقال أبو حنيفة والثورى: لا تسقط شهادته بذلك، وهذا يعذر به، لأنه لا يمكن التحرز منه. وروى بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال له: تمت احفظ عورتك واسترها إلا عن زوجتك وأمتك -. وأجمع العلماء على أن للرجل أن يرى عورة أهله وترى عورته. - باب إِذَا احْتَلَمَتِ الْمَرْأَةُ / 31 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ امْرَأَةُ أَبِى طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِى مِنَ الْحَقِّ، هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ، إِذَا هِىَ احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 لا خلاف بين العلماء أن النساء إذا احتلمن ورأين الماء، أن عليهن الغسل وحكمهن حكم الرجال فى ذلك، وفيه دليل أن ليس كل النساء يحتلمن، لأن فى غير هذه الرواية أن أم سلمة غطت وجهها استحياءً من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وقالت لأم سليم: وهل ترى ذلك المرأة؟ . وكذلك أنكرت عائشة أيضًا فى حديث مالك، عن ابن شهاب، عن عروة. وقد يفقد بعض الرجال الاحتلام، فكذلك النساء. وفى قول أم سليم: تمت إن الله لا يستحى من الحق -، أنه يلزم كل من جهل شيئًا من دينه أن يسأل عنه العالمين به، وأنه محمود بذلك، ألا ترى قول عائشة، رضى الله عنها: تمت نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء من التفقه فى الدين -. وإنما يكون الحياء فيما تجد المرأة من ذكره بدا، وأما ما يلزم السؤال عنه، فلا حياء فيه. وإنما اعتذرت أم سليم من مشافهة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك، إذ سؤالها له أثبت فى نفسها، فلذلك قدمت بين يدى قولها: تمت إن الله لا يستحى من الحق -. - باب عَرَقِ الْجُنُبِ وَأَنَّ الْمُسْلِمَ لا يَنْجُس ُ / 32 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، لَقِيَهُ فِى بَعْضِ طَرِقِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ جُنُبٌ، فَانْبخَسْتُ مِنْهُ، فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: تمت أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ -؟ قَالَ: كُنْتُ جُنُبًا، فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ، وَأَنَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، فَقَالَ: تمت سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ الْمُؤمن لا يَنْجُسُ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 قال المهلب: هذا يدل على أن الجنابة إذا لم تكن عينًا فى الأجسام، فإن المؤمن حينئذ طاهر الأعضاء، بحال ما المؤمنون عليه من التطهر والنظافة لأعضائهم، بخلاف ما عليه المشركون من ترك التحفظ من النجاسات والأقذار، فحملت كل طائفة على خلقها وعادتها، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة: 28] تغليبًا للحال، وقد قيل فى قوله الله: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (ليس بمعنى نجاسة الأعضاء، لكن بمعنى نجاسة الأفعال، والكراهة لهم، والإبعاد عما قد بَيَّن الله من بقعة أو كتاب أو رجل صالح، ولا خلاف بين الفقهاء فى طهارة عرق الجنب والحائض. قال ابن المنذر: وكذلك عرق اليهودى، والنصرانى، والمجوسى عندى طاهر. وقال غيره: لما أباح الله نكاح نساء أهل الكتاب، ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من ضاجعهن، وأجمعت الأمة على أنه لا غسل عليه من الكتابية إلا كما عليه من المسلمة، دل ذلك على أن ابن آدم ليس بنجس فى ذاته، ما لم تعرض له نجاسة تحل به. وقوله: تمت فانبخست منه -، وهكذا وقعت هذه اللفظة تمت فانبخست منه - بالخاء، وفى بعض النسخ لابن السكن تمت فانبجست منه - بالجيم، وأما بالخاء فلا أعرف له معنى، وأما بالجيم فيحتمل أن يكون من قوله تعالى: (فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا) [الأعراف: 16] أى انفجرت وجرت، والأشبه أن يكون فانخسنت منه، قال صاحب العين: يقال: خنس من بين القوم يخنس خنوسًا: إذا انقبض، وخنوس الكواكب اختفاؤها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 - باب الْجُنُبُ يَخْرُجُ وَيَمْشِى فِى السُّوقِ وَغَيْرِهِ وَقَالَ عَطَاءٌ: يَحْتَجِمُ الْجُنُبُ، وَيُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ، وَيَحْلِقُ رَأْسَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ. / 33 - فيه: أَنَسَ: كَانَ (صلى الله عليه وسلم) يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ. / 34 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ لَقِيَنِى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنَا جُنُبٌ، فَأَخَذَ بِيَدِى، فَمَشَيْتُ مَعَهُ، حَتَّى قَعَدَ، فَانْسَلَلْتُ منه وَأَتَيْتُ الرَّحْلَ فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ جِئْتُ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَقَالَ: تمت أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ - فَقُلْتُ لَهُ، فَقَالَ: تمت سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ -. وإنما أراد البخارى أن يريك أن الجنب لا ينجس بالسنة، وأنه يجوز له التصرف فى أموره كلها قبل الغسل، ويرد قول طائفة من السلف أوجبت عليه الوضوء. روى عن سعد بن أبى وقاص أنه كان إذا أجنب لا يخرج لحاجته حتى يتوضأ وضوءه للصلاة، وعن ابن عباس مثله، وبه قال عطاء والحسن. ومنهم من قال: لا يأكل ولا يشرب حتى يتوضأ للصلاة. روى ذلك عن على، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعطاء. والذى عليه الناس فى ذلك ما روى عن أبى الضحى أنه سئل أيأكل الجنب؟ قال: نعم، ويمشى فى الأسواق، ولم يذكر أنه توضأ قبل ذلك وهذا قول مالك، وأكثر الفقهاء، أن الوضوء ليس بواجب عليه إذا أراد الخروج فى حاجاته، وليس فى حديث أنس أن النبى كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 يتوضأ حين كان يطوف على كل امرأة من نسائه، ولا فى حديث أبى هريرة أن المؤمن لا ينجس إذا كان قد توضأ بعد الجنابة. وممن قال لا وضوء عليه إذا أراد أن يطعم: مالك، والكوفيون، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وهو الذى يدل عليه حديث أبى هريرة. وفى حديث أبى هريرة: جواز أخذ الإمام والعالم بيد تلميذه ومن هو دونه ومشيه معه معتمدًا عليه ومرتفقًا به. وفيه: أن من حسن الأدب لمن مشى معه معلمه أو رئيسه أن لا ينصرف عنه ولا يفارقه حتى يعلمه بذلك، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) لأبى هريرة حين انصرف إليه: تمت أين كنت يا أبا هريرة؟ - فدل ذلك على أنه استحب له أن لا يفارقه حتى ينصرف معه. - باب كَيْنُونَةِ الْجُنُبِ فِى الْبَيْتِ / 35 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَرْقُدُ وَهُوَ جُنُبٌ وَيَتَوَضَّأُ. / 36 - وفيه: عُمَرَ أَنه سَأَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، أَيَرْقُدُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ؟ قَالَ: تمت نَعَمْ، إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْقُدْ - وَهُوَ جُنُبٌ. / 37 - وقَالَ لَهُ مرة: تمت تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ، ثُمَّ نَمْ -. / 38 - وفيه: عَائِشَةَ كَانَ النَّبِىُّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ، غَسَلَ فَرْجَهُ، وَتَوَضَّأَ لِلصَّلاةِ. واختلف العلماء فى نوم الجنب، فقالت طائفة: بظاهر خبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، أنه توضأ وضوءه للصلاة، وكذلك ينام، روى هذا عن على، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 وابن عباس، وعائشة، وأبى سعيد الخدرى، ومن التابعين: النخعى، وطاوس، والحسن، وبه قال: مالك، والليث، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، كلهم يستحبون الوضوء، ويأمرون به. وشذ أهل الظاهر، فأوجبوا عليه الوضوء فرضًا، وهذا قول مهجور لم يتابعهم عليه أحد، فلا معنى له، وروى عن سعيد بن المسيب أنه قال: إن شاء أن ينام قبل أن يتوضأ، وإليه ذهب أبو يوسف، فقال: لا بأس أن ينام الجنب قبل أن يتوضأ، لأن الوضوء لا يخرجه من حال الجنابة إلى حال الطهارة، ومن حجته ما رواه الأعمش، عن أبى إسحاق، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يجنب ثم ينام ولا يمس ماء، حتى يقوم بعد ذلك فيغتسل. قال الطحاوى: هذا الحديث غلط، اختصره أبو إسحاق من حديث طويل فأخطأ فيه، وذلك ما حدثنا فهد، قال: حدثنا أبو غسان، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا أبو إسحاق، قال: أتيت الأسود بن يزيد فقلت: حدثنى ما حدثتك عائشة عن صلاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: قالت: كان ينام أول الليل، ويحيى آخره، ثم إن كانت له حاجة، قضى حاجته، ثم ينام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 قبل أن يمس ماء، فإذا كان عند النداء الأول، أفاض عليه الماء، وإن نام جنبًا توضأ وضوء الرجل للصلاة، فهذا الأسود بن يزيد قد بان فى حديثه أنه كان إذا أراد أن ينام، وهو جنب، توضأ للصلاة، وبان أن قولها: ثم ينام قبل أن يمس ماء، يعنى الغسل لا الوضوء، والدليل على صحة ذلك ما رواه البخارى عن عمر، وعائشة، وعلى هذا التأويل لا تتضاد الأخبار، وقد روى قبيصة بن ذؤيب، عن زيد بن ثابت، قال: إذا توضأ قبل أن ينام، كان كمن اغتسل فى الثواب الذى يكتب لمن بات على طهر. وقالت عائشة: لا ينام الجنب حتى يتوضأ للصلاة فإنه لا يدرى لعل نفسه تصاب فى نومه، فيكون قد أخذ بأى الطهارتين. فأما ما روى عن ابن عمر أنه كان يتوضأ، ولا يغسل قدميه، فيدل ذلك أن محمل الحديث عندهم على الندب، لا على الوجوب، لأن ابن عمر روى الحديث عن أبيه، عن النبى وعَلِمَهُ فلم يترك غسل قدميه، إلا أنهم تلقوا الحديث على أن الوضوء على غير الإيجاب. - باب إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ / 39 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأرْبَعِ، ثُمَّ جَهَدَهَا، فَقَدْ وَجَبَ الْغَسْلُ -. ذهب جماعة فقهاء الأمصار إلى وجوب الغسل إذا التقى الختانان، وإن لم ينزلا، على ما ثبت فى هذا الحديث، وقد روى مالك فى الموطأ عن عائشة أنها قالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، وهى أعلم بهذا، لأنها شاهدت تطهر رسول الله حياته وعاينته عملا، فقولها أولى ممن لم يشاهد ذلك، وروى عن على بن أبى طالب خلافه. قال ابن القصار: وأجمع التابعون ومن بعدهم على القول بهذا الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 وإذا كان فى المسألة قولان بعد انقراض الصحابة، ثم أجمع العصر الثانى بعدهم على أحد القولين، كان ذلك مسقطًا للخلاف قبله ويصير ذلك إجماعًا، وإجماع الأعصار عندنا حجة كإجماع الصحابة، وسنتقصى الكلام فى هذه المسألة فى الباب الذى بعد هذا إن شاء الله. وقوله: تمت جهدها - أى بلغ مشقتها، قال صاحب الأفعال: يقال: جهدته جهدًا، وأجهدته بلغت مشقته، هذا قول الأصمعى، وقال الأعمش: جهدن لها مع إجهادها به وجهده المرض وأجهده، وجهد فى الأمر، وأجهد: بلغ فيه الجهد، وجهدت الفرس، وأجهدته: استخرجت جهده. وقال الحسن، رحمه الله: إن الحق جهد الناس ولن يصبر عليه إلا من رجا ثوابه عز وجل. - باب غَسْلِ مَا يُصِيبُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ / 40 - فيه: زَيْدَ بْنَ خَالِد أَنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَلَمْ يُمْنِ؟ قَالَ عُثْمَانُ: يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاةِ، وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ، وَقَالَ عُثْمَانُ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَطَلْحَةَ ابْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَأُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ، فَأَمَرُوهُ بِذَلِكَ. / 41 - وفيه: أَبُو أَيُّوبَ الأنصارى أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 / 42 - ورواه أَبُو أَيُّوبَ، مرة، عَنْ أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، عَنْ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ: تمت يَغْسِلُ مَا مَسَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّى -. قَالَ البخارى: الْغَسْلُ أَحْوَطُ، وَذَاكَ الآخِرُ وَإِنَّمَا بَيَّنَّاه لاخْتِلافِهِمْ. قال المؤلف: قال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن حديث عطاء بن يسار، عن زيد بن خالد، قال: سألت خمسة من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) : عثمان، وعلى، وطلحة، والزبير، وأُبَىّ بن كعب، فقالوا: الماء من الماء، فيه علة؟ قال: نعم، ما يروى من خلافه عنهم. وقال يعقوب بن شيبة: سمعت على بن المدينى وسئل عن هذا الحديث، فقال: إسناد حسن، ولكنه حديث شاذ، فإن على بن زيد قد روى عن عثمان، وعلى، وأُبَىّ بأسانيد حسان أنهم أفتوا بخلافه. قال يعقوب: وهو حديث منسوخ، كانت هذه الفتيا فى أول الإسلام، ثم جاءت السنة بعد ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إذا جاوز الختان الختان، فقد وجب الغسل -. وروى ابن وهب عن عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، قال: حدثنى بعض من أرضى، عن سهل بن سعد، عن أُبَىّ بن كعب أخبره، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جعل الماء من الماء رخصة فى أول الإسلام، ثم نهى عن ذلك، وأمر بالغسل بعد ذلك. وقال موسى بن هارون: رواه أبو حازم، عن سهل بن سعد، وأظن ابن شهاب سمعه منه، فهذا أُبَىّ يخبر أن هذا من الناسخ لقوله: تمت الماء من الماء -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وروى يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن كعب، عن محمود بن لبيد أنه سأل زيد بن ثابت عن الرجل يصيب أهله ثم يكسل ولا ينزل؟ فقال زيد: يغتسل، فقلت: إن أُبَىّ بن كعب كان لا يرى الغسل، قال: إن أُبَىّ نزع عن ذلك قبل أن يموت. فهذا أُبَىّ قد قال هذا، وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) خلافه، فلا يجوز أن يقول هذا إلا وقد ثبت عنده نسخ ذلك، وأما رجوع عثمان، فرواه مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن عمر وعثمان وعائشة كانوا يقولون: إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل، فلا يجوز أن يقول هذا عثمان إلا وقد ثبت عنده النسخ. وأما رجوع على، فرواه معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن على، قال: كما يجب الحد يجب الغسل، ورواه الثورى عن أبى جعفر، عن على، ثم قد كشف عن ذلك عمر بن الخطاب بحضرة أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار فلم يثبت عنده إلا الغسل، فحمل الناس عليه، فسلموا لأمره، فدل ذلك على رجوعهم إلى قوله. روى الليث، عن يزيد بن أبى حبيب، عن معمر بن أبى حيية، عن عبيد الله بن عدى بن الخيار قال: تذاكر أصحاب رسول الله عند عمر بن الخطاب الغسل من الجنابة، فقال بعضهم: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، وقال بعضهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 الماء من الماء. فقال عمر: قد اختلفتم وأنتم أهل بدر الأخيار، فكيف بالناس بعدكم؟ فقال على: يا أمير المؤمنين، إن أردت أن تعلم ذلك، فأرسل إلى أزواج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فاسألهن عن ذلك، فأرسل إلى عائشة، فقالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فقال عمر عند ذلك: لا أسمع أحدًا يقول: الما من الماء إلا جعلته نكالا، فحمل الناس عليه ولم ينكره عليه منكر. قال الطحاوى: فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار، وأما من طريق النظر، فإنا رأيناهم لم يختلفوا أن الجماع فى الفرج الذى لا إنزال معه حدث، فقال قوم: هذا أغلظ الأحداث، فأوجبوا فيه أغلظ الطهارات، وهو الغسل، وقال قوم: هو كأخف الأحداث، فأوجبوا فيه الوضوء، فأردنا أن ننظر فى ذلك، لنعلم الصواب فيه، فوجدنا أشياء يوجبها الجماع، وهو فساد الصيام والحج، فكان ذلك بالتقاء الختانين، وإن لم يكن معه إنزال فيوجب ذلك فى الحج: الدم وقضاء الحج، ويوجب فى الصيام: القضاء والكفارة، ولو جامع فيما دون الفرج لوجب عليه فى الحج الدم فقط، ولم يجب عليه فى الصيام شىء إلا أن ينزل، وكذلك لو زنا بامرأة وإن لم ينزل فعليه الحد، ولو فعل ذلك على وجه شبهة لسقط عنه الحد، ووجب عليه المهر، وكان لو جامعها فيما دون الفرج لم يجب عليه حد ولا مهر، ولكنه يعزر إن لم يكن هناك شبهة، وكذلك من تزوج امرأة فجامعها فى الفرج، ثم طلقها كان عليه المهر أنزل أو لم ينزل ووجبت عليها العدة، وأحلها ذلك لزوجها الأول، فإن جامعها فيما دون الفرج لم يجب عليه شىء، وكان عليه فى الطلاق نصف المهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 إن كان سمى لها مهرًا، أو المتعة إن لم يكن سمى لها مهرًا، فلما وجب فى هذه الأشياء التى لا إنزال معها ما يجب فى الجماع الذى معه الإنزال من الحد، والمهر، وغير ذلك، فالنظر على ذلك أن يكون فيه أغلظ مما يجب فى الأحداث وهو الغسل. وحجة أخرى: وهو أنا رأينا هذه الأشياء التى وجبت بالتقاء الختانين إذا كان بعدها الإنزال، لم يجب للإنزال حكم ثان، وإنما الحكم لالتقاء الختانين، ألا ترى لو أن رجلا زنا بامرأة والتقى ختاناهما، وجب عليهما الحد بذلك، ولو أقام عليها حتى أنزل لم تجب عليه عقوبة غير الحد الذى وجب عليه لالتقاء الختانين، فكان الحكم فى ذلك هو لالتقاء الختانين لا للإنزال الذى بعده، فالنظر فى ذلك أن يكون الغسل لالتقاء الختانين لا للإنزال الذى بعده، قاله الطحاوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 بسم الله الرحمن الرحيم 6 - كِتَاب الْحَيْض قَالَ اللَّه تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى (إِلَى: (الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222] . اختلف العلماء فى تأويل هذه الآية، فقالت طائفة: لا يجوز وطء الحائض، وإن انقطع دمها حتى تغتسل بالماء، روى هذا عن الحسن، والنخعى، ومكحول، وسليمان بن يسار، وعكرمة، ومجاهد، وهو قول مالك، والليث، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. واختلف العلماء فى الحائض هل يجوز وطؤها إذا انقطع دمها قبل أن تغتسل أم لا؟ فقال مالك، والليث، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: لا توطأ حتى تغتسل بالماء، وهو قول الشعبى، ومجاهد، والحسن، ومكحول، وسليمان بن يسار، وعكرمة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن انقطع دمها بعد عشرة أيام، الذى هو عنده أكثر الحيض، جاز له أن يطأها قبل الغسل، وإن انقطع دمها قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل أو يمر عليها وقت صلاة، لأن الصلاة تجب عنده آخر الوقت، فإذا مضى عليها آخر الوقت ووجبت عليها الصلاة، علم أن الحيض قد زال، لأن الحائض لا يجب عليها صلاة. وقال الأوزاعى: إن غسلت فرجها جاز لزوجها وطؤها، وإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 لم تغسله لم يجز، وبه قالت طائفة من أصحاب الحديث، وروى مثله عن عطاء، وطاوس، وقتادة. واحنج أهل هذه المقالة بقوله: (حتى يطهرن) [البقرة: 222] أى حتى ينقطع دمهن، فجعل تعالى غاية منع قربها انقطاع دمها، والدليل على ذلك أن الصوم قد حل لها بانقطاع دمها، فوجب أن يحل وطؤها قبل الغسل، كالجنب يجوز مجامعتها قبل الغسل، قالوا: ولا يخلو بعد انقطاع الدم وقبل الغسل أن تكون طاهرًا أو حائضًا، فإن كانت حائضًا فالغسل ساقط عنها، وفى اتفاقهم أن الغسل عليها واجب بانقطاع الدم دليل أنها قد طهرت من حيضتها، والطاهر جائز وطؤها، وقوله تعالى: (فإذا تطهرن) [البقرة: 222] إباحة ثانية، وابتداء كلام غير الأول، لأن الطهر شىء والتطهير غيره، مثال ذلك، لو أن رجلا صائمًا قال لرجل: لا تكلمنى حتى أفطر، فإذا صليت المغرب كلمنى، وإنما وقع التحريج فى المخاطبة فى وقت الصوم، لأن غاية التحريج كانت إلى الإفطار، ثم إباحة أن يكلمه بعد وجوب الإفطار وبعد أن يصلى المغربن كما أبيح وطء الحائض بعد الطهر، وبعد التطهير تأكيدًا للتحليل، غير أن قوله: (يحب التوابين ويحب المتطهرين) [البقرة: 222] دلالة أن الذى يأتى زوجته بعد أن تنتظف بالماء أحمد عند الله، كمن توضأ ثلاثًا ثلاثًا كان أحمد ممن توضأ مرة مرة. واحتج أهل المقالة الأولى، فقالوا: الدليل على أن المراد بالآية التطهر بالماء قوله تعالى: (فإذا تطهرن) [البقرة: 222] فأضاف الفعل إليهن، ولا يجوز أن يعود إلى انقطاع الدم، لأنه لا فعل لها فى قطعه، فعلم أنه أراد التطهير بالماء، ألا ترى أنه تعالى أثنى على من فعل ذلك بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 ) إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) [البقرة: 222] ، والثناء لا يقع إلا على فعل يقع من جهتهن، وتقدير الآية: لا تقربوهن حتى يطهرن ويتطهرن وهذا كقولك: لا تعط زيدًا شيئًا حتى يدخل الدار، فإذا دخل الدار وقعد فأعطه، فيقتضى ألا يستحق العطاء إلا بشرطين وهما: الدخول والقعود، وقد يقع التحريم بشىء، ولا يزول بزواله بعلة أخرى، كقوله فى المبتوتة: (فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره) [البقرة: 230] ، وليس بنكاح الزوج تحل له حتى يطلقها الزوج، وتعتد منه، وكقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض - ومعلوم أنها لا توطأ نفساء ولا حائض حتى تطهر، ولم تكن هاهنا تمت حتى - بمبيحة لما قام الدليل على خَطَرِه. وقول أبى حنيفة لا وجه له، وقد حكم أبو حنيفة وأصحابه للحائض بعد انقطاع دمها بحكم الحائض فى العدة، وقالوا: لزوجها عليها الرجعة ما لم تغتسل، فعلى قياس قولهم هذا لا يجب أن توطأ حتى تغتسل. قال إسماعيل بن إسحاق: ولا أعلم أحدًا ممن روى عنه العلم من التابعين ذكر فى ذلك وقت صلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 - باب كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْحَيْضِ وَقَوْلُ الرَسُولُ: (هَذَا شَىْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ أَوَّلُ مَا أُرْسِلَ الْحَيْضُ عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ. وَحَدِيثُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَكْثَرُ. / 1 - فيه: عَائِشَةَ خَرَجْنَا لا نَرَى إِلا الْحَجَّ، فَلَمَّا كُنَّا بِسَرِفَ حِضْتُ، فَدَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا أَبْكِى، قَالَ: تمت مَا لَكِ أَنُفِسْتِ؟ - قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: تمت إِنَّ هَذَا شَىْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِى مَا يَقْضِى الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِى بِالْبَيْتِ - الحديث. قال المؤلف: هذا الحديث يدل على أن الحيض مكتوب على بنات آدم فمن بعدهن من البنات كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، وهو من أصل خلقتهن الذى فيه صلاحهن، قال الله فى زكريا (صلى الله عليه وسلم) : (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه) [الأنبياء: 90] . قال أهل التأويل: يعنى رد الله إليها حيضها لتحمل، وهو من حكمة البارى الذى جعله سببًا للنسل، ألا ترى أن المرأة إذا ارتفع حيضها لم تحمل، هذه عادة لاتنخرم. قال غيره: وليس فيما أتى به من قصة زكريا حجة، لأن زكريا من أولاد بنى إسرائيل، والحجة القاطعة فى ذلك، قول الله فى قصة إبراهيم حين بُشِّر بالولد: (وامرأته قائمة فضحكت) [هود: 71] . قال قتادة: يعنى حاضت وهذا معروف فى اللغة، يقال: ضحكت المرأة إذا حاضت، وكذلك الأرنب. وإبراهيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 هو جد إسرائيل، لأن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ولم ينزل على بنى إسرائيل كتاب إلا على موسى، فدل ذلك على أن الحيض كان قبل بنى إسرائيل، وحديث النبى يشهد لصحة هذا التأويل، وسيأتى تفسير قوله: تمت أنفست؟ - فى باب من سمى النفاس حيضًا، بعد هذا إن شاء الله. - باب غَسْلِ الْحَائِضِ رَأْسَ زَوْجِهَا وَتَرْجِيلِهِ / 2 - فيه: عَائِشَةَ: كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنَا حَائِضٌ. / 3 - وفيه: عُرْوَةَ أَنَّهُ سُئِلَ أَتَخْدُمُنِى الْحَائِضُ، أَوْ تَدْنُو مِنِّى الْمَرْأَةُ وَهِيَ جُنُبٌ؟ قَالَ عُرْوَةُ: كُلُّ ذَلِكَ عَلَىَّ هَيِّنٌ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ فِى ذَلِكَ بَأْسٌ، أَخْبَرَتْنِى عَائِشَةُ، أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ وَهِىَ حَائِضٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حِينَئِذٍ مُجَاوِرٌ فِى الْمَسْجِدِ، يُدْنِى لَهَا رَأْسَهُ، وَهِىَ فِى حُجْرَتِهَا. لا اختلاف بين العلماء فى جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، إلا شىء روى عن ابن عباس فى ذلك. ذكر ابن أبى شيبة، قال: حدثنا ابن عيينة، عن منبوذ، عن أمه قالت: دخل ابن عباس على ميمونة، فقالت: أى بنى، مالى أراك شعثًا رأسك، قال: إن أم عمار مرجلتى حائض، فقالت: أى بنى، وأين الحيضة من اليد؟ كان رسول الله يضع رأسه فى حجر إحدانا وهى حائض. واستدلال عروة فى ذلك حسن، كاستدلال ميمونة، وهو حجة فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 طهارة الحائض وجواز مباشرتها، وفيه دليل على أن المباشرة التى قال الله: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون فى المساجد) [البقرة: 187] لم يرد بها كل ما وقع عليه اسم لمس، وإنما أراد بها تعالى الجماع، وما دونه من دواعى اللذة، ألا ترى أنه معتكفًا فى المسجد، ويدنى لها رأسه ترجله. تمت والجوار - هو الاعتكاف. وفى الحديث حجة على الشافعى فى أن المباشرة الحقيقية مثل ما فى الحديث لا تنقض الوضوء. وفيه: ترجيل الشعر للرجال وما فى معناه من الزينة. وفيه: خدمة الحائض زوجها وتنظيفها له، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) حين طلب منها الخمرة: تمت ليس حيضتك فى يدك -. وفيه: أن الحائض لا تدخل المسجد تنزيهًا له وتعظيمًا. 3 - باب قِرَاءَةِ الرَّجُلِ فِي حَجْرِ امْرَأَتِهِ وَهِىَ حَائِضٌ وَكَانَ أَبُو وَائِلٍ يُرْسِلُ خَادِمَهُ وَهِيَ حَائِضٌ إِلَى أَبِى رَزِينٍ، لتَأْتِيهِ بِالْمُصْحَفِ، فَتُمْسِكُهُ بِعِلاقَتِهِ. / 4 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولِ اللَّهِ يَتَّكِئُ فِى حَجْرِى وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 قال المؤلف: غرض البخارى فى هذا الباب أن يدل على جواز حمل الحائض المصحف، وقراءتها للقرآن، لأ المؤمن الحافظ له أكبر أوعيته وها هو ذا (صلى الله عليه وسلم) أفضل المؤمنين بنبوته وحرمة ما أودعه الله من طيب كلامه فى حجر حائض تاليًا للقرآن. وقد اختلف العلماء فى ذلك فمن رخص للحائض والجنب فى حمل المصحف بعلاقته، الحكم بن عيينة، وعطاء بن أبى رباح، وسعيد بن جبير، وحماد بن أبى سليمان، وهو قول أهل الظاهر. واحتجوا بأن تأويل قوله: (لا يمسه إلا المطهرون) [الواقعة: 79] أنهم السفرة الكرام البررة، ولو كان ذلك نهيًا لقال تعالى: لا يَمَسَّه. وقالوا أيضًا: لما جاز للحائض والجنب حمل الدنانير والدراهم وفيها ذكر الله فكذلك المصحف. واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت المؤمن لا ينجس -، وبكتابه (صلى الله عليه وسلم) إلى هرقل آية من القرآن، ولو كان حرامًا ما كتب رسول الله بآى القرآن، وهو يعلم أنهم يمسونه بأيديهم وهم أنجاس، قالوا: وقد قامت الدلالة بأن ذكر الله مطلق للجنب والحائض، وقراءة القرآن فى معنى ذكر الله، ولا حجة تفرق بينهما. وذكر ابن أبى شيبة أن سعيد بن جبير دفع المصحف بعلاقته إلى غلام له مجوسى، وأجاز الشعبى، ومحمد بن سيرين مس المصحف على غير وضوء، وقال جمهور العلماء: لا يمس المصحف حائض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 ولا جنب، ولا يحمله إلا طاهر غير محدث، روى ذلك عن ابن عمر، وهو قول مالك، والأوزاعى، والثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، واحتج أكثرهم بقوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون) [الواقعة: 79] ، قالوا: فلا يحمله إلا طاهر، إلا أن مالكًا قال: لا بأس أن يحمله المسافر غير طاهر فى خرج أو عيبة، إذا لم يقصد لحمله ولا مسه، ولا بأس أن يحمله اليهودي والنصرانى فى القلم للضرورة، وأرجو أن يكون إمساك الصبيان للمصاحف للتعليم على غير وضوء خفيفًا، إن شاء الله. واحتج هؤلاء الذين لم يجيزوا حمل المصحف إلا للطاهر بكتابه (صلى الله عليه وسلم) إلى عمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن: تمت لا يمس المصحف إلا طاهر - وأن عائشة كانت تقرأ القرآن وهى حائض ويُمسَكُ لها المصحف ولا تمسكه هى، ولو كان إمساكها له وهى حائض كإمساك غيرها لما أمسكه غيرها، ولعرفها أحد من الصحابة أن قراءتها فيه جائز، وسأذكر اختلافهم فى قراءة الحائض، وحجة كل فريق منهم فى باب تقضى الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، بعد هذا إن شاء الله. 2 - باب مَنْ سَمَّى النِّفَاسَ حَيْضًا / 5 - فيه: أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِىِّ مُضْطَجِعَةٌ فِي خَمِيصَةٍ إِذْ حِضْتُ فَانْسَلَلْتُ فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِى، قَالَ: تمت أَنُفِسْتِ؟ - قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَانِى فَاضْطَجَعْتُ مَعَهُ فِى الْخَمِيلَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 قال المهلب: كان حق الترجمة أن يقول باب من سمى الحيض نفاسًا، فلما لم يجد البخارى للنبى نصا فى النفساء، وحكم دمها فى المدة المختلفة، وسمى الحيض نفاسًا فى هذا الحديث، فهم منه أن حكم دم النفاس حكم دم الحيض فى ترك الصلاة، لأنه إذا كان الحيض نفاسًا وجب أن يكون النفاس حيضًا، لاشتراكهما فى التسمية من جهة اللغة العربية أن الدم هو النفس، ولزم الحكم بما لم ينص عليه مما نص وحكم للنفساء بترك الصلاة ما دان دمها موجودًا. وقال أبو سليمان الخطابى: إنما هو تمت أَنَفِسْتِ - بفتح النون وكسر الفاء، ومعناه حضت، يقال: نَفِسَت المرأة إذا حاضت ونُفِست من النفاس مضمومة النون. قال المؤلف: رواية أهل الحديث نُفِسْتِ بضم النون فى الحيض صحيحة فى لغة العرب،. ذكر أبو على، عن أبى حاتم، عن الأصمعى، قال: نُفست المرأة تنفُس، فى الحيض والولادة، وهى نُفساء ونَفِساء. وفى كتاب الأفعال: نُفِسَت ونَفِسَت لغتان من النفاس. 5 - باب مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ / 6 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِىُّ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ كِلانَا جُنُبٌ، وَكَانَ يَأْمُرُنِى فَأَتَّزِرُ، فَيُبَاشِرُنِى، وَأَنَا حَائِضٌ. / 7 - وقَالَتْ مرة: كَانَتْ إِحْدَانَا إِذَا كَانَتْ حَائِضًا وَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُبَاشِرَهَا أَمَرَهَا أَنْ تَتَّزِرَ فِى ثوب حَيْضَتِهَا، ثُمَّ يُبَاشِرُهَا. قَالَتْ: وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَمْلِكُ إِرْبَهُ؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 / 8 - وفيه: مَيْمُونَةَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُبَاشِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ أَمَرَهَا فَاتَّزَرَتْ، وَهِىَ حَائِضٌ. اختلف العلماء فى مباشرة الحائض، فقال مالك، والأوزاعى، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، والشافعى: له منها ما فوق الإزار، ولا يقرب ما دون الإزار، وهو ما دون الركبة إلى الفرج، وهو قول سعيد بن المسيب، وسالم، والقاسم، وطاوس، وشريح، وقتادة، وسليمان ابن يسار. وحجة أهل هذه المقالة ظاهر حديث عائشة وميمونة، لأنه لو كان الممنوع منها موضع الدم فقط لم يقل لها (صلى الله عليه وسلم) : تمت شدى عليك إزارك - لأنه لا يخاف منه (صلى الله عليه وسلم) التعرض لمكان الدم الممنوع، لملكه لإربه، ولكنه امتنع مما قارب الموضع الممنوع، لأنه من دواعيه، وقد جاء فى الشريعة المنع من دواعى الشىء المحرم لغلظه، من ذلك: الخطبة فى العدة، ونكاح المحرم، وتطيبه، لأن ذلك يدعو إلى شهوة الجماع المفسد للحج، وحكم لما قرب من الفأرة من السمن بحكم الفأرة، وقال (صلى الله عليه وسلم) : تمت من رتع حول الحمى يوشك أن يواقعه - وقالت طائفة: يجوز له أن يستمع منها بما دون الفرج، روى هذا عن ابن عباس، ومسروق، والنخعى، والشعبى، والحكم، وعكرمة، وهو قول الثورى، ومحمد بن الحسن، وبعض أصحاب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأصبغ بن الفرج. واحتجوا بما رواه أيوب، عن أبى معشر، عن النخعى، عن مسروق، قال: سألت عائشة، رضى الله عنها، ما يحل لى من امرأتى وهى حائض؟ قالت: كل شىء إلا الفرج. فلما منع من الإيلاج فى الفرج لم يمنع مما قاربه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 واحتجوا أيضًا بما رواه الأعمش، عن ثابت بن عبيد، عن القاسم، عن عاشة، أن النبى قال لها: تمت ناولينى الخمرة - قلت: إنى حائض، قال: تمت إن حيضتك ليست فى يدك - فبان أن كل موضع لا يكون موضعًا للحيض لا يتعلق به حكم الحيض. وقال الطحاوى: لما كان الجماع فى الفرج يوجب الحد، والمهر والغسل، ورأينا الجماع فى غيره لا يوجب شيئًا من ذلك، دل أن الجماع فيما دون الفرج تحت الإزار أشبه بالجماع فوق الإزار منه بالجماع فى الفرج، وثبت أن ما دون الفرج مباح. وفى حديث عائشة وميمونة من الفقه بيان قول الله: (فاعتزلوا النساء فى المحيض) [البقرة: 222] أن المراد به الجماع، لا المؤاكلة، ولا الاضطجاع فى ثوب واحد وشبهه، ورفع الله عنا الإصر الذى كان على بنى إسرائيل فى ذلك، وذلك أن المرأة منهن كانت إذا حاضت أخروها عن البيت، ولم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، فسئل عن ذلك النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فأنزل الله تعالى: (يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء فى المحيض) [البقرة: 222] فقال النبى: تمت جالسوهن فى البيوت، واصنعوا كل شىء إلا النكاح -. رواه حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس. 6 - باب تَرْكِ الْحَائِضِ الصَّوْمَ / 9 - فيه: أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى أَضْحَى، أَوْ فِطْرٍ، إِلَى الْمُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ: تمت يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ - قُلْنَ: وَلمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تمت تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ -، قُلْنَ: وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تمت أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ - قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: تمت فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا - قَالَ: تمت أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟ - قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: تمت فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا -. قال المؤلف: قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت أليس إذا حاضت لم تصل، ولم تصم - نص أن الحائض يسقط عنها فرض الصلاة، ولا يجوز لها الصوم فى أيام حيضها، والأمة على ذلك، وأجمعوا أن عليها قضاء ما تركت من الصيام، ولا قضاء عليها للصلاة، إلا طائفة من الخوارج يرون عليها قضاء الصلاة، وعلماء الأمة من السلف والخلف على خلافهم. وفيه: خروج النساء إلى العيدين. وفيه: الشفاعة للمساكين وغيرهم أن يسأل لهم. وفيه: حجة على من كره السؤال لغيره. قال المهلب: وفيه أن على الخطيب فى العيدين أن يفرد النساء باللقاء لهن والموعظة، ويخبرهن بما يخصهن من تقوى الله، والنهى عن كفران العشير، وما يلزمهن من ذلك، إذا لم يمكنه إسماعهن، فحينئذ يمر بهن ويعظهن بالكلمة والكلمتين فى موضعهن، كما فعل النبى. وفيه: دليل أن الصدقة تكفر الذنوب التى بين المخلوقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 وفيه: دليل أن الكلام القبيح من اللعن والسخط مما يعذب الله عليه. وفيه: أن للعالم أن يكلم من دونه من المتعلمين بكلام يكون عليهم فيه بعض الشدة والتنقيص فى العقل. وقال غيره: مقابلة الجماعة بالوعظ تسهل فيه الشدة، لأنه يسليهم شموله لجماعتهم، وكذلك فعل النبى بالنساء، لم يخص منهن واحدة، وإنما قابل جماعتهن، وكذلك الواعظ والخطيب له أن يشتد فى وعظه للجماعة، ولا يقابل واحدًا بعينه بالشدة، بل يلين له ويرفق به. وفى هذا الحديث ترك العتب للرجل أن تغلب محبة أهله عليه، لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد عذره، بقوله: تمت ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب الرجل الحازم منكن - فإذا كن يغلبن الحازم فما الظن بغيره. 7 - باب تَقْضِى الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لا بَأْسَ أَنْ تَقْرَأَ الآيَةَ، وَلَمْ يَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْقِرَاءَةِ لِلْجُنُبِ بَأْسًا. وَكَانَ الرَسُول يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ، وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ الْحُيَّضُ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ وَيَدْعُونَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَنِى أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ دَعَا بِكِتَابِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 فَقَرَأَ فَإِذَا فِيهِ: بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَ: (قَل يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ) [آل عمران: 64] الآيَةَ. قَالَ عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ: حَاضَتْ عَائِشَةُ، فَنَسَكَتِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَلا تُصَلِّى. وَقَالَ الْحَكَمُ: إِنِّى لأذْبَحُ وَأَنَا جُنُبٌ. وَقَالَ اللَّهُ: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) [الأنعام: 121] . / 10 - فيه: عَائِشَةَ: أنها حاضت بسَرِفَ، فَقَالَ لها النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّ ذَلِكِ شَىْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَافْعَلِى مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِى بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِى -. قال المؤلف: هذا الباب كله مبنى على مذهب من إجاز للحائض والجنب تلاوة القرآن، وهو قول حماد بن أبى سفيان، والحكم بن عتيبة، وأهل الظاهر. وقال إبراهيم النخعى: لا بأس أن يقرأ الجنب والحائض الآية ونحوها، وأجاز عكرمة للجنب أن يقرأ، وليس له أن يتم سورة كاملة، ذكره الطبرى. واختلف قول مالك فى قراءة الحائض، فروى عنه ابن القاسم وغيره إباحة الحائض أن تقرأ ما شاءت من القرآن، وروى عنه ابن عبد الحكم منعها من ذلك إلا الآية والآيتين. ومنعها أبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور من قليله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 وكثيره، وروى مثله عن جابر ابن عبد الله، وعن عطاء، وأبى العالية، وسعيد بن جبير، والزهرى. وكذلك اختلف قول مالك فى قراءة الجنب، فروى عنه ابن القاسم أنه يقرأ الآية والاثنتين للارتباع وشبهه، وذكر ابن شعبان، عن مالك، قال: إنه ليأخذ بنفسى أن يقرأ الجنب القرآن. وقال الأوزاعى: لا يقرأ الجنب إلا آية الركوب، وآية النزول: تمت سبحان الذى سخر لنا هذا) [الزخرف: 13] الآية،) وقل رب أنزلنى منزلا مباركًا) [المؤمنون: 29] الآية. وقال أبو حنيفة: لا يقرأ الجنب إلا بعض آية، ومنعه الشافعى قليله وكثيره. وأما اختلاف السلف فى ذلك فروى عن جابر أن الحائض لا تقرأ القرآن، وهو قول أبى العالية، وعطاء، وسعيد بن جبير، والزهرى، وروى عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وجابر أنه لا يقرأ الجنب القرآن، وهو قول أبى وائل. وحجة الذين كرهوا ذلك، ما رواه موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت لا يقرأ الجنب والحائض شيئًا من القرآن -. واحتج من منع الجنب بما رواه شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن على، قال: لم يكن النبى (صلى الله عليه وسلم) يحجبه عن القرآن شىء غير الجنابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 واحتج الذين أجازوا ذلك بأن ابن عباس كان يقرأ ورده وهو جنب، فقيل له فى ذلك، فقال: ما فى جوفى أكثر منه. وقال حماد: سألت ابن المسيب أيقرأ الجنب القرآن؟ قال: أليس فى جوفه؟ . وبما رواه عبادة بن نسى، عن عبد الرحمن بن غنم أنه سأل معاذ بن جبل أيقرأ الجنب القرآن؟ قال: نعم، إن شاء، قلت: والحائض والنفساء؟ قال: نعم، لا يدعن أحد ذكر الله، وتلاوة كتابه على حال، قلت: فإن الناس يكرهونه، قال: من كرهه فإنما كرهه تنزهًا، ومن نهى عنه فإنما يقول بغير علم، ما نهى رسول الله عن شىء من ذلك. قال الطبرى: واعتلوا من طريق النظر بأن تلاوة القرآن قد ندب إليها الناس كما ندبوا إلى ذكر الله والتسبيح والتهليل، قالوا: وقد قامت الدلالة بأن ذكر الله مطلق للجنب والحائض، قالوا: وقراءة القرآن فى معنى ذلك فى أنها مطلقة لهما، إذ لا حجة تفرق بين ذلك. قال الطبرى: والصواب عندنا فى ذلك ما روى عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يقرأ القرآن ما لم يكن جنبًا، وخبر عائشة أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يذكر الله على كل أحيانه، فإن قراءته القرآن طاهرًا كان اختيارًا منه لأفضل الحالتين، والحال التى كان يذكر الله فيها ويقرأ القرآن غير طاهر، فإن ذلك كان تعليمًا منه أن ذلك جائز لهم وغير محظور عليهم ذكر الله وتلاوة القرآن، إذ بعثه الله إلى خلقه معلمًا وهاديًا، غير أنى أستحب له أن يقرأ القرآن على أتم أحوال الطهارة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 وليس ذلك وإن أحببته بواجب، لأن الله لم يوجب فرض الطهارة على عبادة المؤمنين إلا إذا قاموا إلى الصلاة. قال المهلب: فى شهود الحائض المناسك كلها وتكبيرها فى العيدين دليل على جواز قراءتها للقرآن، لأنه من السنة ذكر الله فى المناسك، وفى كتابه إلى هرقل بآية من القرآن دليل على ذلك، وعلى جواز حمل الحائض والجنب القرآن، لأنه لو كان حرامًا لم يكتب النبى إليهم بآى من القرآن، وهو يعلم أنه يمسونه بأيديهم وهم أنجاس، لكن القرآن وإن كان لا يلحقه أذى، ولا تناله نجاسة، فالواجب تنزيهه وترفيعه عمن لم يكن على أكمل أحوال الطهارة، لقوله تعالى: (فى صحف مكرمة مرفوعة مطهرة) [عبس: 13، 14] ، فلم يكن إطهاره تكريمه وترفيعه ما ظهر ملك مكرم الصحف التى وصفها الله تعالى بالطهارة، كما أراك فى رواية القاسم أن قوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون) [الواقعة: 79] ليس بمعنى الإلزام والحتم بل بمعنى الأدب والتوقير، وأباح للحائض قراءة القرآن لطول أمرها، وكرهه للجنب إلا الشىء اليسير، لقرب أمره. 8 - باب الاسْتِحَاضَةِ / 11 - فيه: عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِى حُبَيْشٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى لا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ، فَاتْرُكِى الصَّلاةَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا، فَاغْسِلِى عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّى -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 قال ابن القصار: فى هذا الحديث حجة لمالك والشافعى فى أن المستحاضة إذا ميزت دم الحيض من دم الاستحاضة أنها تعتبر الدم وتعمل على إقباله وإدباره، فإذا أقبلت الحيضة تركت الصلاة، وإذا أدبرت اغتسلت وصلت. وقال أبو حنيفة: إنما تعمل على عدد الليالى والأيام، واحتج بحديث أبى أسامة، عن هشام بن عروة، عن عائشة، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال لفاطمة بنت أبى حبيش: تمت إنما ذلك عرق، ولكن دعى الصلاة قدر الأيام التى كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلى وصلى -. وقد روى: تمت دعى الصلاة قدر أقرائك -، واحتج أيضًا بحديث سليمان بن يسار، عن أم سلمة، أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاستفتت لها أم سلمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: تمت لتنظر عدد الليالى والأيام التى كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الدم الذى أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك الشهر -. قالوا: فردها (صلى الله عليه وسلم) إلى الأيام، وتركوا حديث مالك، عن هشام بن عروة الذى فيه اعتبار الدم، وهو يرد قولهم، ويدل أن الأيام لا حكم لها بمجردها، وإنما لها حكم مع الدم، فيجب أن يدار معه حيث دار، لأنه لا يقول لها: تمت إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة، وإذا أقبلت الحيضة فدعى الصلاة -، إلا وهى عارقة بالحيضة، فإذا ميزتها عملت على إقبال الدم وإدباره، وكذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) لفاطمة: تمت دعى الصلاة أيام أقرائك -، الذى احتج به أبو حنيفة فى مراعاة الأيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 والليالى، حجة عليه أيضًا، لأنه (صلى الله عليه وسلم) قال لها: تمت دعى الصلاة أيام أقرائك -، فدل أنها كانت مميزة، فأحالها على أيام أقرائها التى تعرفها مع وجود الدم الذى لا تعرفه، لأنه لما قال: أيام حيضتك، أو أيام أقرائك، فلابد أن تكون عرفت الحيض بلونه ورائحته، وإلا كان مشكلا، لأنها سألت عن الزائد على دمها هل هو حيض أو غيره، ولو أراد أيام حيضتك فيما مضى، لكان أيضًا مشكلا إن لم تكن تعرف دم الحيض وتميزه، فإنما أحالها على حيض تعرفه، وقد يمكن أن تكون هذه المرأة لها تمييز وظنت مع التمييز أنه إذا انقطع عنها دم الحيض بعد أيامها وتغير أن حكمها واحد فى ترك الصلاة، فأعلمها أنه إذا تغير بعد تقضى أيامها التى كانت تحيضها أنها تغتسل وتصلى، وأنها إذا رأت الدم الذى تعرفه فى تلك الأيام أنها تترك الصلاة. هذا قول ابن القصار، قال: ويحتمل أن يكون قوله فى حديث مالك، عن هشام بن عروة: تمت إذا أقبلت الحيضة، فدعى الصلاة -، فى امرأة لها تمييز، وقوله: تمت لتنظر عدد الأيام والليالى -، فى امرأة لا تمييز لها، فيكون الحديثان فى امرأتين مختلفتى الأحوال. قال المؤلف: وهذا يشبه قول الكوفيين، لأن الكوفيين يقولون: إذا لم تميز دم الحيض من دم الاستحاضة فإنها تترك الصلاة عدد أيام حيضتها المعروفة إن كان لها أيام، وإن لم تكن لها أيام فعدة عشرة أيام، الذى هو عند أبى حنيفة أكثر الحيض، ثم تكون مستحاضة، تصوم وتصلى، ويأتيها زوجها، حتى تأتى على مثل أيامها من الشهر المستقبل، فتترك الصلاة عددها، ثم هى مستحاضة، ثم لا تزال تفعل ذلك فى كل شهر، ولا تراعى تغير الدم. وعند مالك إذا لم تميز إقبال الدم وإدباره، فهى - قبل: تقضى أكثره، تقعد إلى أكثر أيامها المعروفة إن كان لها أيام، أو قعدت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 خمسة عشر يومًا، الذى هو أكثر الحيض - وبعد ذلك تصلى أبدًا، وإن طال انتظارها لأن دمها دم عرق حتى يتغير إلى دم الحيض، ولا تشك فيه فتعمل على إقباله وإدباره، وهذا قول الكوفيين الذين يراعون الأيام أيضًا، فيمن لم تميز دم الحيض من دم الاستحاضة، ولا يراعون الدم، ووافقهم الشافعى، وعند مالك أنه لابد من مراعاة الدم مع مقدار الأيام سواءً ميزت دم الحيض من دم الاستحاضة أو لم تميزه، فإن ميزته عملت على إقبال الدم وإدباره سواء كان قبل تقضى مدة أكثر الحيض، أو بعده، فإن لم تميزه فهى قبل تقضى أكثره تقصد إلى الكثرة، وبعد ذلك تصلى أبدًا حتى ترى دمًا لا شك فيه، فتعمل على إقباله وإدباره. والدليل على أن لفظ الحديثين، وإن كان مختلفًا فهو فى امرأة واحدة فى حالة واحدة، أن فاطمة هذه سألت النبى (صلى الله عليه وسلم) لما تمادى الدم بها وجاز أيام حيضتها المعروفة، فقال لها: إن دمك ليس دم حيض، وإنما هو دم عرق، ودم العرق لا يوجب حكمًا، فإذا أقبلت الحيضة وميزت دمها بلونه ورائحته فدعى الصلاة، لأنه لا يقول لها ذلك إلا وهى عارفة بالحيضة، وكذلك قوله: تمت إذا أدبرت -، لا يقوله إلا للمميزة لدم الاستحاضة من دم الحيضة، ثم لما تمادى بها الدم، سألته سؤالاً ثانيًا، ليزيدها شفاء فى مقدار جلوسها، إذ لم يكن فى جوابها الآخر، فى رواية مالك عن هشام، مقدار الأيام التى تجلسها، وإنما كان فيه اعتبار الدم خاصة، فأرادت الاستثبات فى أمرها، إذ قد يمكن أن يطول ذلك الدم بها، فقال لها: تمت دعى الصلاة قدر الأيام التى كنت تحيضين فيها -، فأخبرها بمقدار مدة الأيام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وقد كان أمرها مرة أخرى أن تعمل على إقبال دم الحيض وإدباره، فوجب اعتبار تغير الدم، واعتبار قدر الأيام، واستعمال الحديثين جميعًا إذ كان كل واحد منهما يبين معنى صاحبه ولا يخالفه. وإن قيل: كيف يعتبر قدر الأيام؟ . قيل: وجه ذلك، والله أعلم، لو أن امرأة كانت تحيض عن رأس كل هلال ثمانية أيام، فأطبق عليها الدم ولم ينقطع عنها، فإنا نقول لها: صلى حتى ترى دمًا تنكرينه، فإن رأت الدم المنكر قبل رأس الهلال بثلاثة أيام أو أربعة احتسبت بتلك الأيام، وجلست عن الصلاة تمام ثمانية أيام على ما كانت تعتاده، وهكذا تفعل أيضًا إن تغير الدم بعد رأس الهلال بأيام، فإن بقى الدم بحاله لم تترك الصلاة، لأن دمها دم عرق، وإنما تعتبر أبدًا تغير الدم مع مقدار الأيام. ومما يدل على صحة ما قلنا، أن الحديثين وإن اختلف لفظ الجواب فيهما عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى امرأة واحدة وقصة واحدة أن حديث سليمان بن يسار، عن أم سلمة، أن امرأة كانت تهراق الدماء فاستفتت لها أم سلمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . إنما كان فى قصة فاطمة بنت أبى حبيش، وأنها كانت تسأل عن حالها أبدًا بنفسها، وتبعث غيرها على السؤال رغبة فى الاستثبات، وتزيد اليقين فى أمرها ويدل على ذلك ما رواه الحميدى عن سفيان بن عيينة، قال: حدثنا أبو أيوب السختيانى، عن سليمان بن يسار، أنه سمعه يحدث عن أم سلمة أنها قالت: كانت فاطمة بنت أبى حبيش تستحاض، فسألت النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: تمت إنه ليس بالحيضة، ولكنه عرق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 وأمرها أن تدع الصلاة قدر أقرائها، أو قدر حيضتها، ثم تغتسل. وهذا يدل أن قدر الدم أو قدر أيام الدم واحد فى المعنى، لأن القُرء اسم للدم واسم للوقت، وأن أم سلمة فهمت ذلك فى جواب واحد، فى مسألة واحدة. واختلفوا فى مقدار المدة التى تترك فيها المستحاضة الصلاة، فأما المبتدأة فى الحيض يتمادى بها الدم، ففى رواية المدونة عن مالك أنها تقعد خمسة عشر يومًا ثم تصلى، وروى عن على بن زياد عن مالك أنها تقعد أيام لداتها، ثم هى مستحاضة. وحكى ابن حبيب أن قول مالك اختلف فيها، فقال مرة: تقعد خمسة عشر يومًا، وأخذ به الأكابر من أصحابه: المغيرة، وابن دينار، وابن أبى حازم، ومطرف، وابن الماجشون، وابن نافع. وقال بعد مالك: تقعد قدر أيام لداتها، وأخذ به: ابن كنانة، وابن وهب، وابن القاسم، وأشهب، وابن عبد الحكم، وأصبغ. قال ابن حبيب: ثم اختلفوا فى الاستطهار على أيام لداتها، فقال ابن كنانة وأصبغ: تستطهر على أيام لداتها بثلاثة أيام، وقال ابن القاسم: لا تستطهر، والمعروف عن ابن القاسم خلاف ما حكاه ابن حبيب. وقد حكى أبو الفرج أن ابن القاسم روى عن مالك فى المبتدأة بالدم أنها تقعد أيام لداتها، ثم تستطهر بثلاثة أيام كاستطهار التى لها أيام معروفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 وقال الكوفيون والشافعى: إذا استمر بالمبتدأة الدم تدع الصلاة عشرًا، ثم تغتسل وتصلى عشرين يومًا، ولا تزال تفعل ذلك كل شهر حتى ينقطع عنها الدم، واحتجوا بما رواه الخالد ابن أيوب، عن أنس، قال: أقل الحيض ثلاثة، وأكثره عشرة. وهذا لا حجة فيه لأن الخالد ابن أيوب مجهول، ولا يعتد بنقله. وقال الأوزاعى: تقعد كما تقعد نساؤها: أمها، وخالتها، وعمتها، ثم هى بعد ذلك مستحاضة، فإن لم تعرف أقراء نسائها، فلتقعد على أقراء النساء سبعة أيام، ثم تغتسل وتصلى وهى مستحاضة، وبه قال أحمد، وإسحاق، وهو أحد قولى الشافعى. فإن كانت المرأة ممن قد حاضت، ولها أيام متفقة لم تختلف، فإن قول مالك اختلف فيها إذا تمادى بها الدم، فكان أول قوله: أنها تقعد خمسة عشر يومًا، وبه أخذ الأكابر من أصحابه الذين ذكرنا أولاً، ثم رجع فقال: تستطهر على أيامها بثلاث ما لم تجاوز خمسة عشر يومًا، وأخذ به: ابن كنانة، وابن وهب، وابن القاسم، وأشهب، وابن عبد الحكم، وأصبغ. فإن اختلفت أيامها، فقال ابن القاسم، ومن قال معه بالاستطهار: أنها تستطهر على أكثر أيامها، حاشا أصبغ، فإنه قال: على أقلها. فإن أطبق عليها الدم، ولم ينقطع عنها، فإنها تغتسل بعد خمسة عشر يومًا على قول مالك الأول من بعد أيامها، والاستطهار بثلاث على قوله الآخر، ثم تصلى، وتصوم، ويأتيها زوجها، ودمها دم عرق حتى يتغير إلى دم الحيض. والنساء يعرفنه بلونه ورائحته. فإذا تغير دم الاستحاضة إلى دم الحيض، وتمادى بها الدم المتغير، ففى المستخرجة روى عيسى، عن ابن القاسم، أنها تستطهر بثلاثة أيام على مقدار أيامها المعهودة، وقاله ابن الماجشون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 وروى أصبغ عن ابن القاسم أنها تجلس مقدار أيامها المعهودة ولا تستطهر بشىء، وفى العتبية عن ابن القاسم أنها تستطهر مقدار أيامها إذا كان لون دمها متغيرًا، وأما إن انقطع التغير قبل تمام أيام حيضتها المعهودة، وعاد إلى دم الاستحاضة، فإنها تغتسل حينئذ، ويكون بمنزلة من انقطع دمها، وهو قول أصحاب مالك كلهم إلا أصبغ، فإن ابن مزين حكى عنه أنه إذا تغير دمها إلى الحيض قبل تمام أيامها، ثم عاد بعد ذلك إلى دم الاستحاضة، فإنها تقعد مقدار أيامها تلفق من أيام الاستحاضة مع أيام الدم المتغير مقدار أيام حيضتها المعهودة، وهذا خلاف الحديث، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمر فاطمة إذا أدبرت الحيضة، وأقبل دم الاستحاضة، أنها تغتسل وتصلى. قال ابن حبيب: وإنما انتهى فى أكثر الحيض إلى خمسة عشر يومًا من أجل أنه يقال: أكثر ما تدع المرأة الصلاة نصف عمرها، أخبرنى بذلك مطرف، وقد روى ذلك عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . ودفع الكوفيون والشافعى الاستطهار، واحتجوا بقوله لفاطمة: تمت دعى الصلاة عدد الأيام التى كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلى -. فأمرها بالغسل بعد أيامها المعروفة، ولم يأمرها بالاستطهار، ولا بالزيادة على أيام حيضتها، قالوا: فالسنة تنفى الاستطهار، لأن دمها جائز أن يكون حيضة، وجائز أن يكون استحاضة، والصلاة فرض بيقين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 فلا يجوز أن تدعها حتى تتيقن أنها حائض، قالوا: وقد قال مالك ما يدل على ذلك، قال: لأن تصلى المستحاضة وليست عليها، خير من أن تدع الصلاة، وهى واجبة عليها. وروى ابن وهب عن مالك، قال: إنا لنقول: تستطهر الحائض، وما ندرى أحق هو أم لا، ذكره ابن المواز. واختلفوا فى المستحاضة تترك الصلاة أيام استحاضتها جاهلة، أو متأولة، فروى أبو زيد عن ابن القاسم: إنها إذا تركت الصلاة جاهلة، أنها لا تعيدها ولو أعادتها كان أحب إلىّ. وقال ابن شعبان: إذا تركت المستحاضة الصلاة شهرًا تظنه حيضًا أنه لا قضاء عليها، وكذلك النفساء لو طال بها الدم ثلاثة أشهر، وظنت أنه دم نفاس. وأنكر سحنون هذا من قول ابن القاسم، وقال: عليها الإعادة، وقال: لا يعذر أحد فى الصلاة بالجهل، وبهذا قال: أبو حنيفة، والشافعى. واحتج أبو عبد الله بن أبى صفرة لقول ابن القاسم أنه لا إعادة عليها بحديث فاطمة بنت أبى حبيش، فقال: ألا ترى قولها: إنى لا أطهر، أفأدع الصلاة؟ . فدل ذلك أنه طال انتظارها للدم حتى تفاحش عليها، وهى فى ذلك تاركة الصلاة، فقالت للنبى (صلى الله عليه وسلم) : إنى لا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال: تمت إنما ذلك عرق -، ولم يأمرها بإعادة ما تركته من الصلوات فى أول انتظارها. وقال غيره: بل حديث فاطمة هذا يدل أن عليها الإعادة، لأنها إنما قالت للنبى (صلى الله عليه وسلم) : إنى لا أطهر أفأدع الصلاة؟ فدل أنها كانت مصلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 تلك الأيام، لأنها لا تقول: أفأدع الصلاة إلا مَنْ هى فاعلة للصلاة وغير تاركة لها، إلا أنه لما تمادى بها الدم، خشيت أن يكون حيضًا، فسألت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، هل تتمادى على ما كانت عليه من التزام الصلاة أم هل تتركها؟ فأجابها (صلى الله عليه وسلم) بجواب دل على أنها لو تركتها لكان عليها قضاؤها، وذلك قوله: تمت ولكن دعى الصلاة قدر الأيام التى كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلى وصلى -. فدل أنه لا تسقط الصلاة عنها إلا فى مقدار أيام حيضتها خاصة. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت فاغسلى عنك الدم وصلى -. فإن العلماء مجمعون على أن المستحاضة تغتسل عند إدبار الحيضة، ودل أيضًا هذا الحديث أن المستحاضة لا يلزمها الوضوء عند كل صلاة، ولا يلزمها غير ذلك الغسل، لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يأمرها بغيره، ولو لزمها غيره لأمرها به، وفى ذلك رد على من رأى عليها الغسل لكل صلاة، ولقول من رأى عليها أن تجمع بين صلاتى النهار بغسل واحد، وبين صلاتى الليل بغسل واحد، وتغتسل للصبح، لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يأمرها بشىء من ذلك كله فى حديث هشام بن عروة، وهو أصح ما فى هذا الباب. وأما مذاهب العلماء فى ذلك: فإن طائفة منهم ذهبت إلى أنه يجب على المستحاضة الغسل لكل صلاة، ورووا فى ذلك آثارًا عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وروى هذا عن على، وابن عباس، وابن الزبير، وقالوا: لا يأتى عليها وقت صلاة إلا وهى شاكة هل هى طاهر، أو حائض؟ . فوجب عليها الغسل لكل صلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 وعن سعيد بن جبير مثله، وقال آخرون: يجب عليها أن تغتسل للظهر والعصر غسلاً واحدًا، وللمغرب والعشاء غسلاً واحدًا، وللصبح غسلاً واحدًا، ورووا بذلك آثارًا. وروى عن على، وابن عباس مثل ذلك، وهو قول النخعى، وقال آخرون: تغتسل كل يوم مرة أى وقت شاءت، وروى ذلك عن على. وقال آخرون: تغتسل من طهر إلى طهر، هذا قول ابن عمر، وأنس، وعن الحسن، وعطاء، وسالم، وسعيد بن المسيب مثله. وقد روى عن ابن المسيب أنها لا تغتسل إلا من طهر إلى طهر، وهو انقضاء أيام دمها، أو تمييز إقبال استحاضتها، وهو قول مالك، وسائر فقهاء الأمصار، إلا أنهم اختلفوا، هل تتوضأ لكل صلاة بعد الغسل؟ فذهب الثورى، وأبو حنيفة، والليث، والأوزاعى، والشافعى، إلى أنها تغتسل غسلاً واحدًا عند إدبار حيضتها أو إقبال استحاضتها، ثم تغسل عنها الدم، وتتوضأ لكل صلاة. واحتجوا بما رواه حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، فى حديث فاطمة بنت أبى حبيش، أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال لها: تمت فإذا ذهب قدرها فاغسلى عند الدم، وتوضئ وصلى -. قالوا: وهذه زيادة لحماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، يجب قبولها، وقد كانت عائشة تفتى بالوضوء لكل صلاة، وهى رواية الحديث، فهى أعلم بمخرجه. وذهب عكرمة، وربيعة، ومالك، وأيوب، وجماعة: إلى أنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 تغتسل عند إدبار حيضتها، وإقبال استحاضتها، ولا تتوضأ إلا عند إيجاب الحدث، على ما جاء فى حديث هذا الباب. وقالوا: هكذا رواه مالك، والليث، وعمرو بن الحارث، عن هشام بن عروة وهم الحفاظ، ولم يأمرها بالوضوء لكل صلاة، وقد علل ذلك (صلى الله عليه وسلم) بقوله: تمت إنما ذلك دم عرق، وليس بالحيضة -. ودم العروق لا يوجب وضوءًا للصلاة كالفصاد. ولما كان دم الاستحاضة لا يفسد الصلاة، لم يوجب طهارة، لأنَّا نجدها تصلى، وإن قطر الدم على الحصير، ولا لجرح تتوضأ، وحرمة الصلاة أوكد، فوجب أن تكون فى غير الصلاة كذلك. 9 - باب غَسْلِ دَمِ الْحَيْضِ / 12 - فيه: أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْر، أن امْرَأَةٌ سَألت رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا إِذَا أَصَابَ ثَوْبَهَا الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ، كَيْفَ تَصْنَعُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ إِحْدَاكُنَّ الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ، فَلْتَقْرُضْهُ، ثُمَّ لِتَنْضَحْهُ بِمَاءٍ، ثُمَّ لِتُصَلِّى فِيهِ -. / 13 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَتْ إِحْدَانَا تَحِيضُ، ثُمَّ تَقْتَرِضُ الدَّمَ مِنْ ثَوْبِهَا عِنْدَ طُهْرِهَا فَتَغْسِلُهُ، وَتَنْضَحُ عَلَى سَائِرِهِ، ثُمَّ تُصَلِّى فِيهِ. قد تقدم القول فى هذين الحديثين فى باب غسل الدم فى كتاب الوضوء، وحديث عائشة يفسر حديث أسماء، وأن ما روته من نضح الدم، فمعناه الغسل كما قالت عائشة، فأما نضحها على سائره، فهو رش لا غسل، وإنما فعلت ذلك، لتطيب نفسها لأنها لم تنضح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 على مكان فيه دم، لأنه قد بان فى هذه الرواية أنها كانت تغسل الدم، فلا يجوز أن تغسل بعضه وتنضح بعضه، وإنما نضحت ما لا دم فيه دفعًا للوسوسة، وكذلك حكم الثوب إذا شك فيه هل أصابه نجاسة أم لا. فالنضح عند الفقهاء لأن الأصل فى كل شىء طاهر أنه على طهارته، حتى يتيقن حلول النجاسة فيه. وقوله: تمت تقرضه -، بمعنى تغسله بأطراف أصابعها، ومنه قيل: قرضت فلانًا. وإنما أمر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بقرضه، لأن الدم وغيره مما يصيب الثوب إذا قرض بالغسل كان أحرى بأن يذهب أثره، يُنَقَّى الثوب منه من أن يعنف عليه، ويغسل باليد كلها، قاله ابن قتيبة. وفى كتاب العين: قرضت الشىء قطعته. وتمت الحيضة - بكسر الحاء الاسم، مثل القعدة والجلسة والركبة اسم للقعود والجلوس والركوب، والحيضة، بفتح الحاء، الفعلة الواحدة. - باب اعْتِكَافُ الْمُسْتَحَاضَةِ / 14 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) اعْتَكَفَ مَعَهُ بَعْضُ نِسَائِهِ، وَهِىَ مُسْتَحَاضَةٌ تَرَى الدَّمَ، فَرُبَّمَا وَضَعَتِ الطَّسْتَ تَحْتَهَا مِنَ الدَّمِ. وَأَنَّ عَائِشَةَ رَأَتْ مَاء، الْعُصْفُرِ. / 15 - وَقَالَتِ مرة: فَكَانَتْ تَرَى الدَّمَ وَالصُّفْرَةَ، وَالطَّسْتُ تَحْتَهَا، وَهِىَ تُصَلِّى. قال المهلب: فيه من الفقه أن المستحاضة حكمها حكم الطاهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 واستحاضتها غير الحيض المتروك له الصلاة، وهو عرق كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، ولذلك اعتكفت فى المسجد. والعلماء مجمعون أن الحائض لا يجوز لها دخول المسجد، ولا الاعتكاف فيه. قال عبد الواحد: وفيه دليل على إباحة الاعتكاف لمن به سلس البول، أو المذى، أو به جرح يسيل قياسًا على المستحاضة. - باب هَلْ تُصَلِّى الْمَرْأَةُ فِى ثَوْبٍ حَاضَتْ فِيهِ؟ / 16 - فيه: عَائِشَة قَالَتْ: مَا كَانَ لإحْدَانَا إِلا ثَوْبٌ وَاحِدٌ، تَحِيضُ فِيهِ، فَإِذَا أَصَابَهُ شَىْءٌ مِنْ الدَّمِ، قَالَتْ بِرِيقِهَا، فَمَصَعَتْهُ بِظُفْرِهَا. قال المهلب: من لم تكن لها إلا ثوب واحد تحيض فيه فمعلوم أنها فيه تصلى عند انقطاع حيضتها وتطهيرها لأثر الدم من ثوبها، وقد جعل الله الماء طهورًا لكل نجاسة، وليس هذا الحديث بمخالف لحديث عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، أنها قالت: كانت إحدانا تقرض الدم من ثوبها عند طهرها، فتغسله. وإنما هو مبنى عليه ومحمول على غسلها الدم الثابت عنها، أو يكون هذا الدم الذى مصعته قليلاً معفوًا عنه لا يجب عليها بغسله، فلذلك لم تذكر أنها غسلته بالماء. وقال صاحب العين: المصع: التحريك، والدابة تمصع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 بذنبها، ومصع الطائر بذرقه: رمى به، وإنما أرادت فى الحديث أنها كانت تحكه وتحته بظفرها وتقلعه. - باب الطِّيبِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ غُسْلِهَا مِنَ الْمَحِيضِ / 17 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: تمت كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ، إِلا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلا نَكْتَحِلَ، وَلا نَتَطَيَّبَ، وَلا نَلْبَسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطُّهور، إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا فِى نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ، وَكُنَّا نُنْهَى عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ -. قال المهلب: أبيح للحائض مُحِدا كانت أو غير مُحدٍّ عند غسلها من المحيض أن تدرأ رائحة الدم عن نفسها بالبخور بالقسط لما هى مستقبلة من الصلاة ومجالسة الملائكة لئلا تؤذيهم برائحة الدم. وقولها: تمت نبذة من كست -، يعنى ما تنبذه وتطرحه فى النار مرةً واحدةً عند الطهى، وإنما أرادت بذلك التقليل منه بمقدار ما يقطع زفرة رائحة دم المحيض. وقولها فى الحديث: تمت كست أظفار -، هكذا روى فيه، وصوابه: كست ظفار، منسوب إلى ظفار وهو ساحل من سواحل عدن، والكست والقسط لغتان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 - باب دَلْكِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا إِذَا تَطَهَّرَتْ مِنَ الْمَحِيضِ، وَكَيْفَ تَغْتَسِلُ، وَتَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً تَتَّبِعُ بِهَا أَثَرَ الدَّمِ / 18 - فيه: عَائِشَة، أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَنْ غُسْلِهَا مِنَ الْمَحِيضِ، فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ، فَقَالَ: تمت خُذِى فِرْصَةً مِنْ مَسْكٍ فَتَطَهَّرِى بِهَا -، قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ؟ قَالَ: تمت تَطَهَّرِى بِهَا -، قَالَتْ: كَيْفَ؟ قَالَ: تمت سُبْحَانَ اللَّهِ، تَطَهَّرِى -، فَاجْتَبَذْتُهَا إِلَىَّ، فَقُلْتُ: تَتَبَّعِى بِهَا أَثَرَ الدَّمِ. الفرصة: القطعة، وفرصت الشىء فرصًا قطعته، ومن سمى المفراص: الحديدة التى يقطع بها الجلد. وقال ابن قتيبة: اختلف الناس فى تأويل الفرصة، فذهب بعض الفقهاء إلى أنها المطيبة بالمسك، وبعضهم يذهب إلى أنها المأخوذة من مسك شاة وهو الجلد، ولا أرى هذين التفسيرين صحيحين، ومن كان منهم يستطيع أن يمتهن بالمسك هذا الامتهان حتى تمسح به دم الحيضة؟ ولا نعلم فى الصوف لتتبع الدم معنى يخصه به دون القطن والخرق، والذى عندى فى ذلك، والله أعلم، أن الناس يقولون للحائض: احتملى معك كذا، يريدون عالجى به قُبُلك، أو احتشى به، أو أمسكى معك كذا وكذا يكنون به، فيكون أحسن من الإفصاح فقوله: خذى معك فرصة، أى قطعة من صوف، أو قطن، أو خرقة. وقوله: تمت ممسَّكة -، يعنى متحملة، يريد تحملينها معك تمسح القبل، والعرب تقول: مسكت كذا، بمعنى أمسكت وتمسكت، قال الله تعالى: (والذين يمسكون بالكتاب) [الأعراف: 170] ، فالكتاب على هذا ممسك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 وقال غيره: هذا تأويل حسن، وهو خارج على رواية من روى فى هذا الحديث: تمت فرصه ممسَّكة -، وهى رواية وهيب، عن منصور، وأما على رواية ابن عيينة، عن منصور: تمت خذى فرصة من مسك -، فلا مسوغ أن تكون الفرصة إلا من مسك. قال المهلب: وإنما يريد قطعة من جلد فيها صوفها لم تنتف، وإذا كان كذلك مَنَعَ الجلد أن يصل بلل الصوف بالدم إلى يدها، فتسلم يدها من زفرته، ويكون أنظف لها. وقوله: تمت تتبعى بها أثر الدم -، يريد فى فرجها حيث كان الأذى، وليس ذلك بموجب لدلك الجسم كله، إذا لم يكن فيه أذى، وهكذا حكم النجاسات الثابتة العرك والدلك، والمتابعة لصب الماء عليها. وفيه: أنه ليس على المرأة عار أن تسأل عن أمر حيضتها وما تستبين به إذا كان من أمر دينها. وفيه: أن العالم يجيب بالتعريض فى الأمور المستورة. وفيه: تكرير الجواب لإفهام السائل دون أن يكشف. وفيه: مراجعة السائل إذا لم يفهم. وفيه: أن السائل إذا لم يفهم وفهمه بعض من فى مجلس العالم والعالم يسمع، أن ذلك سماع من العالم يجوز أن يقول فيه حدثنى وأخبرنى. وترجم له باب غسل المحيض، وذكر فيه حديث وهيب عن منصور: تمت خذى فرصة ممسَّكة -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 - باب امْتِشَاطِ الْمَرْأَةِ عِنْدَ غُسْلِهَا مِنَ الْمَحِيضِ / 19 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَهْلَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَكُنْتُ مِمَّنْ تَمَتَّعَ، وَلَمْ يَسُقِ الْهَدْىَ، فَحَاضَتْ، وَلَمْ تَطْهُرْ، حَتَّى دَخَلَتْ لَيْلَةُ عَرَفَةَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت انْقُضِى رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِى، وَأَمْسِكِى عَنْ عُمْرَتِكِ -، فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا قَضَيْتُ الْحَجَّ، أَمَرَ عَبْدَالرَّحْمَنِ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ، فَأَعْمَرَنِى مِنَ التَّنْعِيمِ، مَكَانَ عُمْرَتِى الَّتِى نَسَكْتُ. وترجم له باب نقض المرأة شعرها عند غسل الحيض. اختلف العلماء فى نقض المرأة شعرها للاغتسال، فروى عن عبد الله بن عمرو أنه كان يأمر نساءه إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن. وروى همام، عن حذيفة أنه قال لامرأته: خللى رأسك بالماء لا تُحِلِّهِ، فإن قليل بقاؤه عليه. وقال النخعى: تنقض العروس رأسها للغسل وحجتهم حديث عائشة. وقال طاوس: تنقض الحائض شعرها إذا اغتسلت، فأما من الجنابة فلا. وقال ابن المنذر: لا فرق بين الحائض والجنابة. وفيه قول آخر روى عن عائشة، وأم سلمة، وابن عمر، وجابر، أنهم قالوا: ليس على المرأة نقض شعرها للاغتسال من الحيض ولا من الجنابة، وهو قول عكرمة، وعطاء، والزهرى، والحكم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 ومالك، والكوفيين، والشافعى، وعامة الفقهاء كلهم يقولون: أن المرأة بأى وجه أوصلت الماء إلى أصول شعرها، وعمته بالغسل، أنها قد أدت ما عليها، وحجتهم حديث أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، إنى امرأة أشد ضفر رأسى، أفأنقضه للجنابة؟ قال: تمت لا، إنما كان يكفيك أن تحثى عليه ثلاث حثيات، وتغمرى قرونك، فإذا أنت قد طهرت -. وحديث عائشة أصح إسنادًا غير أن العمل عند الفقهاء على حديث أم سلمة، وقد قال حماد قولاً جمع فيه بين الحديثين، فقال: إن كانت ترى أن الماء أصاب أصول شعرها أجزأ عنها، وإن كانت ترى أن الماء لم يصب، فلتنقضه. وقد استدل الكوفيون بحديث عائشة، وعلله المالكيون ودفعوه بما سنورده فى رفض العمرة للحائض والمراهق، وسنذكره فى كتاب الحج. - باب كَيْفَ تُهِلُّ الْحَائِضُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ / 20 - فيه: عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) عام حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، فَقَدِمْنَا مَكَّةَ، فَحِضْتُ، فَلَمْ أَزَلْ حَائِضًا حَتَّى كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ، فَأَمَرَنِى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنْ أَنْقُضَ رَأْسِى، وَأَمْتَشِطَ، وَأُهِلَّ بِحَجٍّ، وَأَتْرُكَ الْعُمْرَةَ. . . . الحديث. فيه: أن الحائض تهل بالحج والعمرة، وتبقى على حكم إحرامها، وتفعل فعل الحج كله غير الطواف بالبيت على ما روته عائشة عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى كتاب الحج، فإذا طهرت اغتسلت، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 وطافت بالبيت وأكملت حجها، ويحتمل أن يأمرها (صلى الله عليه وسلم) بالاغتسال ونقض رأسها عند إهلالها بالحج، وهى حائض لا أنه يجب الغسل عليها. قال بعض الناس: فأمره (صلى الله عليه وسلم) أن تنقض شعرها، وامتشاطها وهى حائض، لا يُجب ذلك عليها، وإنما ذلك، والله أعلم، لإهلالها بالحج، لأن من سنة الحائض والنفساء أن يغتسلا عند الميقات بالحج والإهلال، كما أمر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أسماء بنت عميس حين ولدت محمد بن أبى بكر بالبيداء بالاغتسال والإهلال، وكان مذهب ابن عمر أن تغتسل لدخول مكة ولوقوف عشية عرفة، فلما حاضت بسرف، أمرها (صلى الله عليه وسلم) أن تغتسل لإهلالها بالحج، فدل ذلك على أن اغتسال الحائض والنفساء عند الإهلال سنة لهما، ذلك على أن اغتسال الحائض، والنفساء عند الإهلال سنة لهما، وسأزيد فى بيان ذلك فى كتاب الحج فى باب كيف تهل الحائض والنفساء، إن شاء الله، حين أمرها أن تدع العمرة وتهل بالحج. - باب: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ / 21 - فيه: أَنَس، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: تمت إِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا، يَقُولُ: يَا رَبِّ نُطْفَةٌ، يَا رَبِّ عَلَقَةٌ، يَا رَبِّ مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْضِىَ خَلْقَهُ، قَالَ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ شَقِىٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ وَمَا الأجَلُ؟ فَيُكْتَبُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ -. قال المهلب: فيه أن الله قد علم أحوال خلقه قبل أن يخلقهم، ووقت آجالهم، وأرزاقهم، وسبق علمه فيهم بالسعادة، أو الشقاء، وهذا مذهب أئمة أهل السنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 قال غيره: ويمكن أن يكون أراد البخارى بهذا التبويب، معنى ما روى عن علقمة فى تأويل هذه الآية، قال علقمة: تمت إذا وقعت النطفة فى الرحم، قال الملك: مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة محت الرحم دمًا، وإن قال: مخلقة، قال: أذكر، أو أنثى -؟ فغرضه فى هذا الباب، والله أعلم، أن الحامل لا تحيض كما ذهب إليه أهل الكوفة، والأوزاعى، وهو أحد قولى الشافعى، قالوا: لأن اشتمال الرحم على الدم منع خروج دم الحيض. وفى الآية تأويل ثان، قيل: إن معنى غير مخلقة أنها تكون أولاً غير مخلقة وهى الحالة الثانية، ثم تخلق بعد ذلك، والواو لا توجب الترتيب. وأجمع العلماء أن الأمة تكون أم ولد بما أسقطته من ولدٍ تام الخلق، واختلفوا فيما لم يتم خلقه من المضغة والعلقة، فقال مالك، والأوزاعى، وجماعة: تكون بالمضغة أم ولد كانت مخلقة، أو غير مخلقة وتنقضى بها العدة، وقال أبو حنيفة، والشافعى، وجماعة: إن كان قد تبين فى المضغة شىء من الخلق أصبع، أو عين، أو غير ذلك، فهى أم ولد، وكلا القولين تحتمله الآية، والله أعلم بما أراد. - باب إِقْبَالِ الْمَحِيضِ وَإِدْبَارِهِ وَكُنَّ نِسَاءٌ يَبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَةَ بِالدُّرَجَةِ فِيهَا الْكُرْسُفُ فِيهِ الصُّفْرَةُ، فَتَقُولُ: لا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ، تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنَ الْحَيْضَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 وَبَلَغَ بِنْتَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ نِسَاءً يَدْعُونَ بِالْمَصَابِيحِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، يَنْظُرْنَ إِلَى الطُّهْرِ، فَقَالَتْ: مَا كَانَ النِّسَاءُ يَصْنَعْنَ هَذَا، وَعَابَتْ عَلَيْهِنَّ. / 22 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِى حُبَيْشٍ كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، فَسَأَلَتِ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: تمت ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ، فَدَعِى الصَّلاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِى، وَصَلِّى -. أما إقبال المحيض فهو دفعة من دم، فإذا رأتها المرأة أمسكت عن الصلاة، وهذا إجماع من العلماء، إلا أن الدفعة من الدم لا تحسب قرء فى العدة عندهم. وأما إدبار الحيض، فهو إقبال الطهر، وله علامتان: القصة البيضاء، والجفوف، وهو أن تدخل الخرقة فتخرجها جافة. اختلف أصحاب مالك عنه فى أيهما أبلغ براءة فى الرحم من الحيض؟ فروى ابن القاسم عن مالك: أنه إذا كانت ممن ترى القصة البيضاء، فلا تطهر حتى تراها، وإن كانت ممن لا تراها فطهرها الجفوف، وبه قال عيسى بن دينار، أن القصة أبلغ من الجفوف. وممن روى عنه ذلك من السلف: أسماء بنت أبى بكر، ومكحول. وذكر ابن عبد الحكم، عن مالك: أنها تطهر بالجفوف، وإن كانت ممن ترى القصة البيضاء، لأن أول الحيض دم، ثم صفرة، ثم كدرة، ثم يكون رقيقًا كالقصة، ثم ينقطع، فإذا انقطع قبل هذه المنازل، فقد برئت الرحم من الحيض، لأنه ليس بعد الجفوف انتظار شىء. وممن قال: إن الجفوف أبلغ: عمر، وعطاء بن أبى رباح، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 قول عائشة: تمت لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء -، يدل على أنها آخر ما يكون من علامات الطهر، وأنه لا علامة بعدها أبلغ منها، ولو كانت علامة أبلغ منها، لقالت: حتى ترين القصة أو الجفوف. وفى قولها: تمت لا تعجلن حتى ترين القصة -، دليل أن الصفرة والكدرة فى أيام الحيض حيض، لأنها فى حكم الحائض حتى ترى القصة البيضاء، وقد ترى قبلها صفرة، أو كدرة. والقصة: الماء الأبيض الذى يدفعه الرحم عند انقطاع الحيض، شبه لبياضه بالقص، وهو الجص، وفى الحديث: تمت نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن تقصيص القبور -، ويروى: تمت عن تجصيص القبور -، وهو تلييسها بالجص. قال المهلب: فيه من الفقه أن العادة الرافعة للحرج هى السنة، ومن خالفها بما يدخل الحرج، فهو مذموم، كما ذمته بنت زيد بن ثابت. قال غيره: إنما أنكرت ابنة زيد افتقاد أمر الحيض فى غير أوقات الصلوات، لأن جوف الليل ليس بوقت صلاة، وإنما على النساء افتقاد أحوالهن للصلاة، فإن كن قد طهرن تأهبن للغسل لها. واختلف الفقهاء فى الحائض تطهر قبل الفجر، ولا تغتسل حتى يطلع الفجر، فقال مالك، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: هى بمنزلة الجنب تغتسل وتصوم، ويجزئها صوم ذلك اليوم. وقال الأوزاعى: تصومه، وتقضيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 وقال أبو حنيفة: إن كانت أيامها أقل من عشرة صامته وقضت، وإن كانت أكثر من عشرة صامته ولم تقضه. قال بعض الناس: قد اتفق هؤلاء على صومه، واختلفوا فى قضائه، ولا حجة مع من أوجب قضاءه إلا الرأى والدعوى، والفرائض لا تثبت إلا من جهة التوقيف، وقد قال عبد الملك بن الماجشون: يومها ذلك يوم فطر، ولا أدرى إن كان يرى صومه أم لا، فإن كان لا يراه فهو شذوذ لا يعرج عليه، ولا معنى لمن اعتل به من أن الحيض ينقض الصوم، والاحتلام لا ينقضه، لأن من طهرت من حيضتها ليست بحائض، والغسل إنما يجب عليها إذا طهرت، ولا يجب الغسل على حائض. وقوله: تمت كن نساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف -، هكذا يرويه أصحاب الحديث الدرجة، بكسر الدال وتشديدها وفتح الراء، يعنون بذلك جمع دِرَج، وهو الذى يجعل فيه النساء الطيب، وأهل اللغة ينكرون ذلك، ويقولون: أما الذى كن يبعثن به الخرَق فيها القطن، كن يمتحن بها أمور طهورهن، واحدتها دُرْجة، بضم الدال وسكون الراء. قال ابن الأعرابى: يقال للذى يدخل فى حياء الناقة إذا أرادوا إرآمها الدُّرَجَة والدُّرْج، وجمعه أَدْراج ودِرَجَة ودريج، وقد أدرجت الناقة، واستدرجت المرأة. والكرسف: القطن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 - باب لا تَقْضِى الْحَائِضُ الصَّلاةَ وَقَالَ جَابِرُ، وَأَبُو سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت تَدَعُ الصَّلاةَ -. / 23 - فيه: مُعَاذَةُ، أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ: أَتَجْزِئ إِحْدَانَا صَلاتَهَا، إِذَا طَهُرَتْ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ كُنَّا نَحِيضُ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَلا يَأْمُرُنَا بِهِ، أَوْ قَالَتْ: فَلا نَفْعَلُهُ. قال المهلب: معنى قولها: تمت أتجزئ إحدانا صلاتها؟ - معناه أتقضى إحدانا صلاتها؟ ولذلك سمى يوم القيامة يوم الجزاء إذا جوزى الناس بأعمالهم يوم القضاء. وهذا الحديث أصل إجماع المسلمين: أن الحائض لا تقضى الصلاة، ولا خلاف فى ذلك بين الخلف والسلف، إلا طائفة من الخوارج يرون على الحائض قضاء الصلاة لا يشتغل بهم، ولا يُعَدون خلافًا، لشذوذهم عن سلف الأمة، فلذلك قالت عائشة: تمت أحرورية أنت؟ - للمرأة التى سألت عن ذلك منكرة عليها، إذ خشيت أن تعتقد مذهب الحرورية فى ذلك، ونزعت لها بالحجة التى لا يجوز خلافها، وهو قولها: تمت قد كنا نحيض مع النبى (صلى الله عليه وسلم) فلا يأمرنا به -، تعنى بقضاء الصلوات أيام الحيض، وقد سئل ابن عباس عن الحائض والنفساء هلى يقضيان الصلاة؟ فقال: هؤلاء نساء النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لو فعلن ذلك أمرنا نساءنا به. وقال معمر: قال الزهرى: تقضى الحائض الصوم، ولا تقضى الصلاة. قلت: عمن؟ قال: اجتمع الناس عليه، وليس فى كل شىء نجد الإسناد. قال ابن جريج: قلت لعطاء: أتقضى الصلاة؟ قال: ذلك بدعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وقال حذيفة: ليكونن فى آخر هذه الأمة قوم يكذبون أولهم ويلعنونهم، يقولون: جلدوا فى الخمر، وليس فى كتاب الله، ورجموا وليس فى كتاب الله، ومنعوا الحائض الصلاة، وليس فى كتاب الله. - باب مَنِ اتَّخَذَ ثِيَابَ الْحَيْضِ سِوَى ثِيَابِ الطُّهْرِ / 24 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مُضْطَجِعَةٌ فِي خَمِيلَةٍ، حِضْتُ، فَانْسَلَلْتُ، فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِى، فَقَالَ: تمت أَنُفِسْتِ -؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَانِى، فَاضْطَجَعْتُ مَعَهُ فِى الْخَمِيلَةِ. قال المؤلف: إن قيل: هذا الحديث يعارض قول عائشة: تمت ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه -، قيل: لا تعارض بينهما، بحمد الله، ويمكن أن يكون حديث عائشة فى بدء الإسلام، فإنهما كانوا حينئذ فى شدة وقِلَّة، قبل أن يفتح الله عليهم الفتوح، ويغنم الغنائم، فلما فتح الله عليهم واتسعت أحوالهم، اتخذ النساء ثيابًا للحيض سوى ثياب لباسهن، فأخبرت أم سلمة عن ذلك الوقت. والخميلة والخملة: ثوب مخمل من الصوف. - باب شُهُودِ الْحَائِضِ الْعِيدَيْنِ، وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَعْتَزِلْنَ الْمُصَلَّى / 25 - فيه: حَفْصَةَ، قَالَتْ: كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ فِى الْعِيدَيْنِ، فَقَدِمَتِ امْرَأَةٌ، فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِى خَلَفٍ، فَحَدَّثَتْ عَنْ أُخْتِهَا، وَكَانَ زَوْجُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 أُخْتِهَا غَزَا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ثِنْتَىْ عَشَرَةَ غَزْوَةً، وَكَانَتْ أُخْتِى مَعَهُ فِى سِتٍّ، قَالَتْ: كُنَّا نُدَاوِى الْكَلْمَى، وَنَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى، فَسَأَلَتْ أُخْتِى النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) : أَعَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ، أَنْ لا تَخْرُجَ؟ قَالَ: تمت لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا، وَلْتَشْهَد الْخَيْرَ، وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ -، فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ سَأَلْتُهَا: أَسَمِعْتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَتْ: بِأَبِى نَعَمْ، وَكَانَتْ لا تَذْكُرُهُ إِلا قَالَتْ: بِأَبِى، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: تمت يَخْرُجُ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ، أَوِ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ وَالْحُيَّضُ، وَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى -. قَالَتْ حَفْصَةُ: قُلْتُ: الْحُيَّضُ؟ فَقَالَتْ: أَلَيْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ وَكَذَا وَكَذَا؟ . قال المهلب: فيه جواز خروج النساء الطاهرات والحُيَّض إلى العيدين وشهود الجماعات، ويعتزل الحيض المصلى، ويكنَّ فيمن يدعو، ويُؤَمِّن، رجاء بركة المشهد الكريم، وسأذكر اختلاف العلماء فى ذلك فى كتاب العيدين، إن شاء الله. وفيه: أن الحائض لا تقرب المسجد، وتقرب غيره من المواضع التى ليست بمساجد محظرة. وفيه: جواز استعارة الثياب، للخروج إلى الطاعات. وفيه: جواز اشتمال المرأتين فى ثوب واحد، لضرورة الخروج إلى طاعة الله. وفيه: غزو النساء المتجالات ومداواتهن الجرحى، وإن كن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 غير ذى محارم منهم، وأما إن كن غير مُتَجَالات، فيعالجن الجرحى، وإن كن غير ذى محرم منهن بحائل بينهن وبينهم، أو يأمرن غيرهن بوضع الدواء عليهم. وفيه: قبول خبر المرأة. وفى قولها: تمت كنا نداوى الكَلْمى -، جواز نقل الأعمال فى زمن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وإن كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يخبر بشىء من ذلك. وفيه: جواز النقل عمن لا يُعرف اسمه من الصحابة خاصة إذا بين مسكنه ودل عليه. وقولها: تمت بأبأ - تريد بأبى، وهى لغة لبعض العرب قالت عمرة الخثعمية من أبيات الحماسة: لقد زعموا أنى جزعت عليها وهل جزع أن قلت وا بأبأهما؟ تريد بأبى هما، أى يُفديان بأبى. وعن ابن الجنى: ويجوز أبيبابيا مخلصة يريد أبًا، ثم يخفف الهمزة، ويحذفها، ويبقى فتحتها على الياء. - باب إِذَا حَاضَتْ فِى الشَهْرٍ ثَلاثَ حِيَضٍ وَمَا تُصَدَّقُ النِّسَاءُ فِى الْحَمْلِ وَالْحَيْضِ فِيمَا يُمْكِنُ مِنَ الْحَيْضِ، لِقَوْلِ اللَّهِ: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ) [البقرة: 228] . وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِىٍّ وَشُرَيْحٍ، إِنِ [امْرَأَةٌ] جَاءَتْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا، مِمَّنْ يُرْضَى دِينُهُ، أَنَّهَا حَاضَتْ ثَلاثًا فِى كل شَهْرٍ، صُدِّقَتْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 وَقَالَ عَطَاءٌ: أَقْرَاؤُهَا مَا كَانَتْ، وَبِهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْحَيْضُ يَوْمٌ إِلَى خَمْسَ عَشْرَةَ ليلة. وَقَالَ مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ: سَأَلْتُ: ابْنَ سِيرِينَ عَنِ الْمَرْأَةِ تَرَى الدَّمَ بَعْدَ قُرْئِهَا بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ؟ قَالَ: النِّسَاءُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ. / 26 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِى حُبَيْشٍ سَأَلَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَتْ: إِنِّى أُسْتَحَاضُ فَلا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ؟ فَقَالَ: تمت لا، إِنَّ ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَكِنْ دَعِى الصَّلاةَ قَدْرَ الأيَّامِ الَّتِى كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا، ثُمَّ اغْتَسِلِى، وَصَلِّى -. قال ابن المنذر: اختلف أهل العلم فى العدة التى تصدق فيها المرأة إذا ادعتها، فروى عن على، وشريح: أنها إذا ادعت أنها حاضت ثلاث حيض فى شهر، أو خمس وثلاثين ليلة، وجاءت ببينة من النساء العدول من بطانة أهلها صُدِّقت، وهو قول أحمد بن حنبل. قال المؤلف: وقد رُوى مثله عن مالك، قال فى كتاب إرخاء الستور من المدونة، قال: إذا قالت المطلقة: حضت ثلاث حيض فى شهر، سئل النساء عن ذلك، فإن أمكن ذلك عندهن صُدِّقت. وقالت طائفة: لا تصدق إذا ادعت أن عدتها انقضت فى أقل من شهرين إذا كانت من ذوات الحيض، قال: لأنه ليس فى العادة أن تكون امرأة على أقل الطهر، وأقل الحيض، لأنه إذا كثر الحيض قل الطهر، وإذا قل الطهر كثر الحيض، وهذا قول أبى حنيفة. وقالت طائفة: لا تُصدق فى أقل من تسعةٍ وثلاثين يومًا، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 قول الثورى، وأبى يوسف، ومحمد، وذلك لأن أقل الحيض عندهما ثلاثة أيام، وأقل الطهر خمسة عشر يومًا. وقال أبو ثور: أقل ما يكون فى ذلك إذا طلقها فى أول الطهر سبعة وأربعون يومًا، وذلك أن أقل الطهر خمسة عشر يومًا، وأقل الحيض يوم وذكر ابن أبى زيد عن سحنون أن أقل العدة أربعون ليلة. وقال الشافعى: تُصَدَّق فى أكثر من اثنين وثلاثين يومًا، وذلك أن يطلقها زوجها وقد بقى من الطهر ساعة، فتحيض يومًا وتطهر خمسة عشر يومًا، ثم تحيض يومًا وتطهر خمسة عشر يومًا، فإذا دخلت فى الدم من الحيضة الثالثة، فقد انقضت عدتها. وقال إسحاق، وأبو عبيد: إن كانت أقراؤها معلومة قبل أن تبتلى حتى عرفها بطانة أهلها مما يرضى دينهن فإنها تُصدق، وإن لم تعرف ذلك، وكان أول ما رأت الحيض أو الطهر، فإنها لا تصدق فى أقل من ثلاثة أشهر، لأن الله جعل بدل كل حيضة شهرًا فى اللائى يئسن من المحيض، واللائى لم تحضن، فإذا أشكل على مسلم انقضاء عدة امرأة ردها إلى الكتاب والسنة. ووجه الموافقة أنه ليس فى العادة أن تكون امرأة على أقل الطهر وأقل الحيض، لأن إذا كثر الحيض قل الطهر، وإذا قل الحيض كثر الطهر، فجعل لما ينحصر الأكثر، ولما لا ينحصر الأقل، وبدأ بالحيض. وقال أبو يوسف، ومحمد: لا تُصدق فى أقل من تسعة وثلاثين يومًا وهو قول الثورى، ووجه الموافقة بين الحديثين والترجمة هو قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت دعى الصلاة قدر الأيام التى كنت تحيضين فيها -، فوكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 ذلك إلى أمانتها وعادتها، وقدر الأيام قد يقل ويكثر على قدر أحوال النساء فى أسنانهن وبلدانهن إلا أنها إذا ادعت ما لا يكاد يعرف لم يقبل قولها إلا ببينة. قال إسماعيل بن إسحاق: ألا ترى إلى قول علىّ وشريح فى ذلك، ولو كان عندهما أن ثلاث حيض لا تكون فى شهر لما قبلا قول نسائها، وهو معنى قول عطاء وإبراهيم، وقد فسر إسماعيل بن إسحاق قول علىّ وشريح بتفسير آخر، قال: وليس قولهما عندنا: تمت إن جاءت ببينة من بطانة أهلها - أنها قد حاضت هذا الحيض، وإنما هو فيما نرى، والله أعلم، أن تشهد نساء من نسائها أن هذا يكون، وقد كان فى نسائهن، فإنه أحرى أن يوجد فيهن مثل ما فيها، وأن يقارب حيضهن وحيضها، وأنه إن لم يوجد ما قالت من الحيض فى نسائها كانت هى منه أبعد، فعلى هذا معنى هذا الحديث، وهو يقوى مذهب أهل المدينة أن العدة إنما تحمل على المعروف من حيض النساء لا على المرأة والمرأتين الذى لا يكاد يوجد، ولا يعرف. قال غيره: والأشبه ما أراد علىّ وشريح، والله أعلم، بمعنى أن تكون حاضت، لقولهما: إن جاءت ببينة من بطانة أهلها أنها حاضت، ولم يقولا: أن غيرها من النساء حاض كذلك. قال إسماعيل: وفى قول علىّ وشريح أن أقل الطهر لا يكون خمسة عشر يومًا، وأن أقل الحيض لا يكون ثلاثة، كما قال أبو حنيفة وأصحابه، وليس فيه بيان لأقل الطهر، وأقل الحيض كم هو، غير أن فيه بيانًا أنهما لم ينكرا ما زعمه النساء فى ذلك. قال غيره: والمشهور عن مالك أنه لا حد عنده لأقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 الطهر، ولا لأقل الحيض إلا ما تثبته النساء، وقد اختلف فى ذلك، ففى المدونة ما يدل أن أقل الطهر ثمانية أيام، وهو قول سحنون، وروى يحيى بن يحيى، عن ابن القاسم، عن مالك: أن أقل الطهر عشرة أيام. وروى ابن الماجشون، عن مالك: أن أقل الطهر خمسة، وأقل الحيض خمسة، إلا أنه قال: هذا لا يكون فى حيض واحد، لأنه إذا قل الحيض كثر الطهر، وإذا قل الطهر كثر الحيض. وقالت طائفة: أقل الحيض يوم وليلة، روى ذلك عن عطاء، وهو قول الشافعى، وأحمد، وأبى ثور. وقال الأوزاعى: عندنا امرأة تحيض غدوة وتطهر عشية، وقال الأوزاعى: يرون أنه جنس، تدع له الصلاة. وقال محمد بن سلمة: أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره خمسة عشر يومًا، وهو قول الشافعى فى أكثر الحيض. وقال أبو حنيفة، والثورى: أقل الحيض ثلاثة، وأكثره عشرة، وهو قول الشافعى، ومحمد بن مسلمة فى أقل الطهر، وهو الصحيح، لأن الله تعالى جعل عدة ذوات الأقراء ثلاثة قروء، وجعل عدة من لا تحيض من صغر أو كبر ثلاثة أشهر، فكان كل قرء عوضًا من شهر، والشهر يجمع الطهر والحيض، فإذا قل الطهر كثر الحيض، وإذا قل الحيض كثر الطهر، فلما كان أكثر الحيض خمسة عشر يومًا، وجب أن يكون بإزائه أقل الطهر خمسة عشر يومًا، ليكمل فى الشهر الواحد حيض وطهر، وهو المتعارف فى الأغلب من خلقة النساء، أو جبلتهن مع دلائل القرآن والسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 واحتج أهل العراق لقولهم: إن الأقراء الحيض، بقوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث فاطمة: تمت ولكن دعى الصلاة قدر الأيام التى كنت تحيضين فيها -. قالوا: وهذا مثل قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت دعى الصلاة أيام أقرائك -. ولا يجوز أن يأمرها (صلى الله عليه وسلم) بترك الصلاة أيام طهرها، وإنما أمرها أن تترك الصلاة أيام الحيض، فيقال لهم: ما أنكرتم أن يكون (صلى الله عليه وسلم) أمرها بترك الصلاة أيام أقرائها التى هى فيهن حائض، وأضاف الأيام إلى الأقراء والإطهار جميعًا، فكأنه قال: تدع المستحاضة الصلاة الأيام التى كانت تحيضها من أقرائها، وهذا سائغ فى كلام العرب، لأن الأقراء عندهم اسم للطهر واسم للحيض، وسيأتى زيادة بيان فى هذا المعنى فى كتاب الطلاق فى العدة، إن شاء الله. - باب الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ فِى غَيْرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ / 27 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: كُنَّا لا نَعُدُّ الصُّفْرَة وَالْكُدْرَةَ شَيْئًا. ذهب جمهور العلماء فى معنى الحديث إلى ما ذهب إليه البخارى فى ترجمته، فقال أكثرهم: الصفرة والكدرة حيض فى أيام الحيض خاصة، وبعد أيام المحيض ليست بشىء، روى هذا عن علىّ بن أبى طالب، وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن، وابن سيرين، وإليه ذهب ربيعة، والثورى، والأوزاعى، والليث، وأبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 حنيفة، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وإليه أشار البخارى فى هذا الباب. وفيه قول ثان: قال أبو يوسف: لا تكون الصفرة والكدرة قبل الحيض حيضًا، وهى فى آخر الحيض حيض، وهو قول أبى ثور. قالوا: وهذا ظاهر الحديث لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إذا أقبلت الحيضة، فدعى الصلاة -، والكدرة والصفرة فى آخر أيام الدم من الدم حتى ترى النقاء. وفيه قول ثالث: قال مالك فى المدونة: الكدرة والصفرة حيض فى أيام الحيض وغيرها. وهذا خلاف للحديث، ولا يوجد فى فتوى مالك أن الصفرة والكدرة ليست بشىء، على ما جاء فى الحديث، إلا التى انطبق دم حيضتها مع دم استحاضتها، ولم تميزه، فقال: إذا رأت دمًا أسود فهو حيض، وإذا رأت صفرة أو كدرة، أو دمًا أحمر، فهو طهر تصلى له وتصوم بعد أن تغتسل، وأظنه لم يبلغه حديث أم عطية، والله أعلم. والحجة لأهل المقالة الأولى: أنهم قالوا: لا يجوز أن يكون قول أم عطية: تمت كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئًا -، عامًا فى أيام الحيض وغيرها لا يعد شيئًا لما قالته عائشة: تمت لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء -. ومعلوم أن هؤلاء النساء كن يرين عند إدبار المحيض صفرة وكدرة، فأخبرتهن أنها من بقايا الحيض، وأن حكم الصفرة والكدرة حكم الحيض، قالوا: فلم يبق بحديث أم عطية معنى غير أنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئًا فى غير أيام المحيض، وقد جاء هذا المعنى فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 حديث أم عطية مكشوفًا، روى حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أم الهذيل، عن أم عطية أنها قالت: كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الغسل شيئًا. - باب عِرْقِ الاسْتِحَاضَةِ / 28 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ، فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ، فَقَالَ: تمت هَذَا عِرْقٌ -، فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلاةٍ. قال المهلب: قوله: تمت فهذا عرق - يدل أن المستحاضة لا تغتسل لكل صلاة كما زعم من أوجب ذلك، واحتج بهذا الحديث، لأن دم العرق لا يوجب غسلاً. وقوله: تمت فكانت تغتسل لكل صلاة -، يريد تغتسل من الدم الذى كان يصيب الفرج، لأن المشهور من قول عائشة أنها لا ترى الغسل لكل صلاة للمستحاضة، وقد ذكر الطحاوى عن يونس، عن يحيى بن بكير، عن الليث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: تمت أن أم حبيبة استحيضت. . . . - وذكر الحديث، قال الليث: لم يذكر ابن شهاب أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر أم حبيبة أن تغتسل لكل صلاة، وقال غيره: ومن ذكر حديث أم حبيبة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمرها بالغسل لكل صلاة، فليس بحجة على من سكت عنه، لأن الحفاظ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 أصحاب ابن شهاب لا يذكرونه، وإيجاب الغسل عليها إيجاب فرض، والفرائض لا تثبت إلا بيقين، ولا يقين هنا من بينة ثابتة، ولا من إجماع، وإنما الإجماع فى إيجاب الغسل من الحيض. قال الطحاوى: وقد قيل: إن حديث أم حبيبة منسوخ بحديث فاطمة بنت أبى حبيش، لأن عائشة أفتت بحديث فاطمة بعد النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وخالفت حديث أم حبيبة، وقد علمت ما خالفه وما وافقه من قوله (صلى الله عليه وسلم) ، ولا يجوز عليها أن تدع الناسخ، وتفتى بالمنسوخ، بل الأمر بضد ذلك، فحديث فاطمة أول ما صير إليه فى هذا الباب ذكره الطحاوى. وأما قوله: تمت إن أم حبيبة استحيضت سبع سنين -، ففيه حجة لابن القاسم فى قوله: إن من استحيضت، فتركت الصلاة جاهلة، وظنته حيضًا أنه لا إعادة عليها، وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يأمرها بإعادة صلوات السبعة الأعوام، ووجه ذلك أنها لما سألته فأمرها بالغسل، علم أنها لم تغتسل قبل، ولو اغتسلت لقالت: إنى قد اغتسلت، فعلم أن فى السبعة الأعوام كانت عند نفسها حائضًا، فأمرها بالغسل من ذلك الحيض، ولم يأمرها بإعادة صلوات تلك المدة. - باب الْمَرْأَةِ تَحِيضُ بَعْدَ الإفَاضَةِ / 29 - فيه: عَائِشَةَ أن صَفِيَّةَ قَدْ حَاضَتْ، فَقَالَ لِهَا رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : تمت لَعَلَّهَا تَحْبِسُنَا، أَلَمْ تَكُنْ قَدْ طَافَتْ مَعَكُنَّ -؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: تمت فَاخْرُجِن -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 / 30 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: رُخِّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ فِى أَوَّلِ أَمْرِهِ: إِنَّهَا لا تَنْفِرُ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ، يَقُولُ: تَنْفِرُ. قوله: تمت ألم تكن طافت معكن -، يريد يوم النحر، وهو طواف الإفاضة المفترض فى الحج. ففيه من الفقه أن طواف الإفاضة يغنى عن طواف الوداع، لأنه غير واجب، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يسأل إن كانت طافت لدخول مكة، وإنما سأل إن كانت طافت يوم النحر، فكما يغنى طواف الإفاضة عن كل طواف قبله، كذلك يغنى عن كل طواف بعده، فدل هذا على أن على الإنسان فى حجه كله طوافًا واحدًا، وهو طواف الإفاضة. وقول ابن عباس: تمت رخص للحائض أن تنفر -، يعنى إذا طافت طواف الإفاضة، وأما إذا لم تطفه فلا تنفر، ولا حج لها، وسيأتى بيان هذا كله فى كتاب الحج، إن شاء الله. - باب إِذَا رَأَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ الطُّهْرَ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ تَغْتَسِلُ، وَلَوْ سَاعَةً وَتُصَلِّى، وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا، والصَّلاةُ أَعْظَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 / 31 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ، فَدَعِى الصَّلاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ، فَاغْسِلِى عَنْكِ الدَّمَ، وَصَلِّى -. قوله: تمت إذا رأت المستحاضة الطهر -، يريد إذا أقبل دم الاستحاضة الذى هو دم عرق، الذى يوجب الغسل والصلاة، وميزته من دم حيضتها فهو طهر من الحيض، فاستدل من هذا أن لزوجها وطؤها، وجمهور الفقهاء وعامة العلماء بالحجاز والعراق على جواز وطء المستحاضة. ومنع من ذلك قوم، روى ذلك عن عائشة، قالت: تمت المستحاضة لا يأتيها زوجها -، وهو قول النخعى، والحكم، وابن سيرين، وسليمان بن يسار، والزهرى، قال الزهرى: إنما سمعنا بالرخصة فى الصلاة. وحجة الجماعة: أن دم الاستحاضة ليس بأذى يمنع الصلاة والصوم، فوجب أن لا يمنع الوطء. وقول ابن عباس: تمت الصلاة أعظم من الجماع -، من أبين الحجة فى ذلك، وقد نزع بمثلها سعيد بن جبير، ولا يحتاج إلى غير ما فى هذا الباب. - باب الصَّلاةِ عَلَى النُّفَسَاءِ وَسُنَّتِهَا / 32 - فيه: سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، أَنَّ امْرَأَةً مَاتَتْ فِى بَطْنٍ، فَصَلَّى عَلَيْهَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَامَ وَسَطَهَا. يحتمل أنه قصد فى هذا الباب أن النفساء، وإن كانت لا تصلى أنها طاهر، لها حكم غيرها من النساء ممن ليست نفساء، لأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 (صلى الله عليه وسلم) إذا صلى عليها أوجب لها حكم الطهارة، وإنما امتناعها من الصلاة ما دام بها الدم، عبادة لا على طريق التنجيس، وهذا يرد على من ذهب إلى أن ابن آدم ينجس بموته، لأن النفساء التى صلى عليها النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وأبان لنا سنته فيها جمعت الموت، وحمل النجاسة بالدم اللازم لها، فلما لم يضرها ذلك كان الميت الطاهر الذى لا تسيل منه نجاسة أولى بإيقاع اسم الطهارة عليه. وأشار إلى شىء من هذا المعنى ابن القصار، وذكر أن لبعض أصحاب مالك فى العتبية: أن ابن آدم طاهر إذا مات. قال: واختلف فيه قول الشافعى، قال: والصواب عندى أنه طاهر، ونزع أن الصلاة عليه بعد موته تكرمة له وتعظيم، فخرج بها عن حكم الإنجاس. - بَاب / 33 - فيه: مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنَّهَا كَانَتْ تَكُونُ حَائِضًا لا تُصَلِّى، وَهِىَ مُفْتَرِشَةٌ بِحِذَاءِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ يُصَلِّى عَلَى خُمْرَتِهِ، إِذَا سَجَدَ أَصَابَنِى بَعْضُ ثَوْبِهِ. وهذا الباب كالذى قبله يدل أن الحائض ليست بنجس، لأنها لو كانت نجسًا لما وقع ثوبه عليها وهو يصلى، ولا قربت من موضع مصلاه. وفيه: أن الحائض تقرب من المصلى، ولا يضر ذلك صلاته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 ولا يقطعها، لأنها كانت تقرب قبلته، أنه لا يصيبها بثوبه عند سجوده إلا وهى قريب منه. وأقولا ما يستدل به على طهارة الحائض مباشرته (صلى الله عليه وسلم) لأزواجه وهن حيِّض فيما فوق المئزر، إلا أنها، وإن كانت طاهرًا، فإنه لا يجوز لها دخول المسجد بإجماع، لأمره فى العيدين باعتزال الحيض المصلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 بسم الله الرحمن الرحيم كِتَاب التَّيَمُّمِ - كتاب التَّيَمُّمِ قَوْلُه تَعَالَى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً، فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) [المائدة: 6] . / 1 - فيه: عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ، انْقَطَعَ عِقْدٌ لِى، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقَالُوا: أَلا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالنَّاسِ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِى، قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِى أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِى بِيَدِهِ فِى خَاصِرَتِى، فَلا يَمْنَعُنِى مِنَ التَّحَرُّكِ إِلا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى فَخِذِى، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَتَيَمَّمُوا، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ: مَا هِىَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِى بَكْرٍ؟ . قَالَتْ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِى كُنْتُ عَلَيْهِ، فَأَصَبْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ. / 2 - وفيه: جَابِر، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : تمت أُعْطِيتُ خَمْسًا، لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِى، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِىَ الأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِى أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ، فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِىَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِى، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِىُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً -. قال المؤلف: قوله تعالى: (فتيمموا صعيدًا طيبًا) [المائدة: 6] يعنى اقصدوا وتعمدوا، تقول العرب: يَمَّمت كذا إذا قصدته، ومنه قوله تعالى: (ولا آمين البيت الحرام) [المائدة: 2] ، يعنى قاصدين. واختلف أهل التأويل فى الصعيد ما هو؟ . فقال قتادة: الصعيد الأرض التى ليس فيها شجر ولا نبات، وقال ابن دريد: الصعيد المستوى، وقال غيره: الصعيد التراب. وقوله: تمت طيبًا -، يعنى طاهرًا، واختلف الفقهاء فى الصعيد الذى يجوز به التيمم، فقالت طائفة: يجوز التيمم على كل أرض طاهرة، سواء كانت حجرًا لا تراب عليها، أو عليها تراب، أو رمل، أو زرنيخ، أو تورة، أو غير ذلك. هذا قول مالك، وأبى حنيفة، ومحمد. وقال أبو يوسف: لا يجوز التيمم على صخر لا تراب عليه، وهو قول الشافعى، والتراب عندهما شرط فى صحة التيمم. قال الطحاوى: ولما اختلفوا فى ذلك، ولم نجد لما اختلفوا فيه دليلاً فى الكتاب التمسناه فى سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فوجدنا قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت جعلت لى الأرض مسجدًا وطهورًا -، فلما أخبر أن الله جعل له الأرض مسجدًا وطهورًا، وكان المراد بالمسجد الصلاة عليها، والمراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 بالطهور التيمم بها كانت كل أرض جازت الصلاة عليها جاز التيمم بها. قال ابن القصار: والدليل على أن المراد الأرض كلها قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت فأيما رجل أدركته الصلاة، فليصل -، ولم يخص موضعًا منها دون موضع، وقد يدركه فى موضع منها من الأرض لا تراب عليه فيه رمل، أو جص كما تدركه فى أرض عليها تراب. فإن قيل: قوله تعالى: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) [المائدة: 6] شرط الممسوح به لأنه لا يقال: مسح منه إلا إذا أخذ منه جزءًا، وهذه صفة التراب لا صفة الجبل الذى لا يمكن الأخذ منه. فالجواب: أنه لا يجوز أن تكون تمت منه - صلة فى الكلام كقوله: (وننزل من القرآن ما هو شفاء) [الإسراء: 82] ، والقرآن كله شفاء. ولو سلمنا أنه أراد غير الصلة لقلنا: إنه أراد ب تمت منه - الموضع الطاهر من الصعيد الذى يجوز السجود عليه، ولو أراد بالصعيد التراب لقال تعالى: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم به. ولم يقل: منه، فلما قال: منه، دل أنه أراد مما تصاعد من الأرض، ولم يخص بعض ما تصاعد منها دون بعض. وقال ابن الأعرابى: الصعيد اسم للأرض، واسم للتراب، واسم للطريق، واسم للقبر، فإذا تناول كل واحد من هذه حقيقة، فيجعل للعموم فى جميعها. فإن قالوا: قد روى فى الحديث: تمت جعلت لى الأرض مسجدًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 وتربتها طهورًا -، وهذا نص فى التراب، فدل أن غير التراب ليس بطهور، والتراب زيادة يجب قبولها، والحديث رواه ابن أبى شيبة، عن محمد بن فضيل، عن أبى مالك الأشجعى، عن ربعى بن حراش، عن حذيفة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . قال الأصيلى: انفرد أبو مالك الأشجعى بذكر التراب فى هذا الحديث، ولا اعتداد بمن خالفه الناس، فكذلك ما يذكرونه فى حديث أبى ذر: تمت التراب كافيك، ولو إلى عشر سنين -، المشهور من رواية الثقات عن أبى قلابة، وابن سيرين: تمت الصعيد كافيك، ولو إلى عشر سنين -، وكذلك فى حديث أبى رجاء، عن عمران بن حصين، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال له: تمت عليك بالتراب، فإنه كافيك -. وقولكم: إن التراب زيادة يجب قبولها، فإننا نقول بالزائد والمزيد عليه، فيجوز الأمرين جميعًا، وهذه زيادة فى الحكم لا محالة، فهى أولى من الاقتصار على الزائد فقط. فإن قالوا: إن الحجر والجص معدن من الأرض، فلا يجوز التيمم به كالحديد والذهب والفضة، قيل: الصعيد عندنا هو الأرض نفسها، فالتيمم يقع عليها سواء كانت جصية أو رملية، فأما على الجص مفردًا، أو الكحل مفردًا، أو الزرنيخ مفردًا، فلا يجوز التيمم به، وقد قال الله تعالى: (صعيدًا زلقًا) [الكهف: 40] ، و) صعيدًا جرزًا) [الكهف: 8] ، والجرز الأرض الغليظة التى لا تنبت شيئًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 وقد جوز الشافعى التيمم على السباخ اليابسة، ولا غبار عليها يعلق باليد، فكذلك ينبغى أن يجوز فى غيرها مما لا تراب عليه. وقال المهلب: فى حديث عائشة من الفقه: السفر بالنساء. وفيه: النهى عن إضاعة المال، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أقام على تفتيش العقد بالعسكر ليلةً، وقد ذكر فى غير هذا الحديث أن العقد كان لأختها، وكان ثمنه اثنى عشر درهمًا. وفيه: شكوى المرأة إلى أبيها، وإن كان لها زوج. وفيه: الإنصاف منها، وإن كان لها زوج. وفيه: أن للأب أن يدخل على ابنته وزوجها معها إذا علم أنها معه فى غير خلوة مباشرة، وأن له أن يعاتبها فى أمر الله، وأن يضربها عليه. وفيه: أنه يعاتب من نسب إلى ذنب أو جريمة، كما عاتب أبو بكر ابنته على حبس النبى (صلى الله عليه وسلم) والناس بسببها. وفيه: نسبة الفعل إلى من هو سببه، وإن لم يفعله، لقولهم: ألا ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبالناس، وليسوا على ماء. فنسب الفعل إليها إذْ كانت سببه. قال غيره: وقولهم: تمت ليس معهم ماء -، دليل أن الوضوء قد كان لازمًا لهم قبل ذلك، وأنهم لم يكونوا يصلون بغير وضوء قبل نزول آية التيمم، ألا ترى قوله: فأنزل الله آية التيمم، وهى آية الوضوء التى فى المائدة، والآية التى فى النساء، وليس التيمم مذكورًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 فى غير هاتين الآيتين، وهما مدنيتان، ومعلوم أن غسل الجنابة لم يفترض قبل الوضوء، كما أنه معلوم عند جميع أهل السير أن الصلاة فرضت بمكة، والغسل من الجنابة، وأنه لم يصلِّ قط إلا بوضوء مثل وضوئه بالمدينة، ونزلت آية الوضوء، ليكون فرضها التقدم متلوا فى التنزيل، فقولهم: تمت نزلت آية التيمم -، ولم يذكر الوضوء يدل أن الذى طرأ عليهم من العلم فى ذلك حكم التيمم لا حكم الوضوء، وذلك رفق من الله بعباده أن أباح لهم التيمم بالصعيد عند عدم الماء، وكذلك قال أسيد بن الحضير: تمت ما هى بأول بركتكم يا آل أبى بكر -. قال المهلب: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت جعلت لى الأرض مسجدًا وطهورًا -، والذى خُصَّ به من ذلك (صلى الله عليه وسلم) أن جعلت طهورًا للتيمم، ولم يكن ذلك للأنبياء قبله، وأما كونها مسجدًا، فلم يأت فى أثر أنها منعت من غيره، وقد كان عيسى (صلى الله عليه وسلم) يسيح فى الأرض ويصلى حيث أدركته الصلاة، فكأنه قال (صلى الله عليه وسلم) : جعلت لى الأرض مسجدً وطهورًا، وجعلت لغيرى مسجدًا، ولم تجعل له طهورًا. وفى قوله: تمت فأيما رجل أدركته الصلاة، فليصل -، يعنى يتيمم ويصلى، دليل على تيمم الحضرى إذا عُدم الماء، وخاف فوت الصلاة. وفيه: ما خصه الله تعالى به من الشفاعة، ويدل أنه لا يشفع فى أحد يوم القيامة إلا شُفِّع فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 قوله فى حديث الشفاعة: تمت قل يا محمد نسمع، واشفع تشفع، وسل تعط -، ولم يعط ذلك من قبله من الأنبياء، ولا تكون الشفاعة إلا فى المذنبين المستحقين للعقوبة، لأن من لا يستحق العقوبة لا يحتاج إلى الشفاعة. وقوله: تمت بعثت إلى الناس كافة -، دليل أن الحجة تلزم بالخبر، كما تلزم بالمشاهدة، وذلك أن الآية المعجزة باقية مساعدة للخبر، مبينة له، رافعة لما يخشى من آفات الأخبار، وهى القرآن الباقى، ولذلك خص الله نبيه ببقاء آيته، لبقاء دعوته، ووجوبها على من بلغته إلى آخر الزمان. - باب إِذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلا تُرَابًا / 3 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلادَةً، فَهَلَكَتْ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلا، فَوَجَدَهَا، فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلاةُ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَصَلَّوْا، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ لِعَائِشَةَ: جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا، فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ، إِلا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكِ لَكِ، وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْرًا. قال المؤلف: الذى لا يجد ماءً ولا ترابًا هو المكتوف والمحبوس والمهدوم عليه والمعطوب ومن أشبههم تحضره الصلاة، فاختلف العلماء فى ذلك، فقالت طائفة: يصلون إيماءً بغير وضوء ولا تيمم، كصلاة الطالبين للعدو، ولا إعادة عليهم. ذكر ابن أبى زيد أن هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 قول ابن نافع وسحنون، وحكاه ابن القصار، عن أشهب والمزنى، وذكره ابن المنذر، عن أبى ثور. وقالت طائفة: يصلون وعليهم الإعادة، هذا قول الثورى، وابن القاسم، وأكثر أصحاب مالك، وهو قول أبى يوسف، ومحمد، والشافعى. وقال ابن خويز منداد: روى المدنيون عن مالك فيمن لا يقدر على الماء، ولا على الصعيد حتى يخرج الوقت، أنه لا يصلى ولا إعادة عليه والصلاة عنه ساقطة، قال: وهو الصحيح من مذهب مالك. وروى معن بن عيسى عن مالك فى الذى يكتفه الوالى ويمنعه من الصلاة، حتى يخرج وقتها، أنه لا إعادة عليه، وهذا القول اختيار ابن القصار، وحكى أنه مذهب أبى حنيفة. ووجه القول الأول، أنهم يصلون ولا قضاء عليهم، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يأمر الذين طلبوا العقد حين صلوا بغير وضوء ولا تيمم بالإعادة. قال المهلب: إن حُكْمنا فى عدم الشرعين، الوضوء والتيمم، كحكمهم فى عدم الشرع الواحد، وهو الوضوء الذى كان عليهم، فلما ساغ لهم الصلاة بالتيمم بغير وضوء، ساغ لنا الصلاة بغير تيمم ولا وضوء. وقال أبو ثور: القياس فيمن لم يقدر على الطهارة أن يصلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 ولا يعيد، كمن لم يقدر على الثوب وصلى عريانًا الصلاة لازمة له، يصلى على ما يقدر، ويؤدى ما عليه بقدر طاقته. وقال ابن القصار: كل من أدّى فرضه على ما كلفه لم يلزمه إعادة، كالمستحاضة، ومن به سلس البول، والعاجز عن أركان الصلاة يصلى على حسب حاله، وكالمسايف، والمسافر يحبس الماء خوفًا على نفسه من العطش، يتيمم ويصلى، كل هؤلاء إذا صلوا على حسب تمكنهم لم تجب عليهم إعادة. ووجه قول من قال: يصلون وعليهم إعادة الصلاة: فإنهم احتاطوا للصلاة فى الوقت على حسب الاستطاعة لاحتمال قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا يقبل الله صلاة بغير طهور -، لمن قدر عليه، ولم يكونوا على يقين من هذا التأويل فرأوا الإعادة واجبة مع وجود الطهارة، إذ ليس فى الحديث أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يأمرهم بالإعادة، وقد يحتمل أن يكون أمرهم ولم ينقل ذلك، والله أعلم. ووجه قول الذين قالوا: لا يصلون حتى يجدوا ماءً أو ترابًا: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: تمت لا تقبل الصلاة بغير طهور -، وليس فرض الوقت بأوكد من فرض الطهور. وأما رواية معن، عن مالك التى اختارها ابن القصار، فإنه قال: وجه ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا يقبل الله صلاة بغير طهور -، قال: وهذا دليل على سقوط حكمها إذا صلى بغير طهور، فإذا سقط عنه أن يصلى بغير طهور، ومعه عقله لم يجب عليه قضاء كالحائض، وأيضًا فلو وجب عليه ابتداءً الدخول فى الصلاة لو كان طاهرًا لوجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 أن يسقط فرضه، فلما قالوا: لا يسقط فرضه، لم تجب عليه، ولو وجب عليه أن يبتدئ الصلاة حتى يتمها ويقضى، لأوجبنا عليه صلاتى فرض من جنس واحد فى يوم واحد، وهذا لا يجوز. وأما قوله: تمت فبعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رجلاً فوجدها -، فإنه يعارض ما رواه القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: تمت فبعثنا البعير الذى كنت عليه، فأصبنا العقد تحته -، وقد حمل إسماعيل بن إسحاق على هشام بن عروة، وجعل حديثه مناقضًا لحديث عبد الرحمن بن القاسم. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وليس بمناقض، ويحتمل أن يكون قوله: تمت فبعث رجلاً -، يعنى أسيدًا، فوجدها أسيد بعد رجوعه من طلبها، ويحتمل أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) وجدها عند إثارة البعير بعد انصراف المبعوثين من موضع طلبها، ويتفق الحديثان بغير تعارض، والحمد لله. 3 - باب التَّيَمُّمِ فِى الْحَضَرِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ، وَخَافَ فَوْتَ الصَّلاةِ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ، فِى الْمَرِيضِ عِنْدَهُ الْمَاءُ، وَلا يَجِدُ مَنْ يُنَاوِلُهُ: يَتَيَمَّمُ. وَأَقْبَلَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ أَرْضِهِ بِالْجُرُفِ، فَحَضَرَتِ الْعَصْرُ بِمَرْبَدِ النَّعَمِ، فَتَيَمَّمَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ فَلَمْ يُعِدْ. / 4 - فيه: أَبُو جُهَيْمِ، أَقْبَلَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ، فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ (صلى الله عليه وسلم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 واختلف العلماء فى الحضرى يخاف فوات الصلاة إن علاج الماء، هل له أن يتيمم؟ . فقال مالك: يتيمم ويصلى ولا يعيد، وهو قول الأوزاعى، والثورى، وأبى حنيفة، ومحمد. وروى عن مالك: أنه يصلى بالتيمم ويعيد الصلاة، وهو قول الليث، والشافعى. وروى عن مالك أنه يعالج الماء، وإن طلعت الشمس، وهو قول أبى يوسف، وزفر، قالا: لا يصلى أصلا ويتعلق الفرض بذمته إلى أن يقدر على الماء، لأنه لا يجوز التيمم عندهما فى الحضر، واحتجا بأن الله جعل التيمم رخصة للمريض والمسافر، ولم يبحه إلا بشرط المرض والسفر، فلا دخول للحاضر ولا للصحيح فى ذلك، لخروجهما من شرط الله. واحتج من قال: يتيمم ويصلى ويعيد، قال: لأنا قد رأينا من يفعل ما أمر به ولا تسقط عنه الإعادة، وهو واقع موقع فساد، مثل من أفسد حجه أو صومه المفترض عليه، فإنه مأمور بالمضى فيه فرض عليه ومع هذا فعليه الإعادة، وأيضًا فإن المسافر والمريض قد أبيح لهما الفطر فى رمضان، ففعلا المأمور به ولم يسقط عنهما القضاء، كذلك الحاضر إذا تيمم وصلى لا يسقط عنه القضاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 واحتج عليه من قال: يتيمم ويصلى ولا يعيد، وهم أهل المقالة الأولى، فقالوا: هذاسهو، لأن الفطر رخصة لهما ولم يفعلا الصوم، والمتيمم فعل الواجب وفعل الصلاة، فلو رخص له فى الخروج من الصلاة كما رخص للمسافر فى الفطر لوجب عليه القضاء. وأما من أفسد حَجَّه أو صومه فإنما أمر بالمضى فيه عقوبة لإفساده له، ثم وجب عليه قضاؤه، ليؤدى الفرض كما أمر به. والحاضر إذا تعذر عليه الماء، وخاف فوت الصلاة صار مطيعًا بالتيمم والصلاة ابتداءً، ولم يفسد شيئًا يجب معه عليه القضاء. والحجة لأهل المقالة الأولى فى أنه لا إعادة عليه ما ذكره البخارى عن ابن عمر أنه تيمم بمربد النعم وهو فى طرف المدينة، لأنه خشى فوت الوقت الفاضل ولم يجد ماء، ثم صلى، وهو حجة للحاضر يخاف فوت الوقت كله أنه يجوز له التيمم، لأنه لما جاز لابن عمر التيمم والصلاة، ثم دخل المدينة وقد بقى عليه من الوقت بقية، ولم يعد الصلاة، كمان أحرى أن يجوز التيمم والصلاة للحضرى يخاف خروج الوقت كله. قال المهلب: وأما حديث بئر جمل، فإن فيه التيمم فى الحضر، إلا إنه لا دليل فيه أنه رفع بذلك التيمم الحدث رفعًا استباح به الصلاة، لأنه أراد أن يجعله تحية لرد السلام، إذ كره أن يذكر الله على غير طهارة، هكذا رواه حماد بن سلمة فى مصنفه فى هذا الحديث. قال المؤلف: فذكرت هذا لبعض أهل العلم، فقال لى: وهو وإن كان كما ذكره المهلب فإنه يستنبط منه جواز التيمم فى الحضر، إذا لم يستطع الوصول إلى الماء، وخاف فوات الصلاة، لأنه لما تيمم فى الحضر لرد السلام، وكان له أن يرد (صلى الله عليه وسلم) قبل تيممه، استدل منه أنه إذا خشى فوات الصلاة فى الحضر أن له التيمم، بل ذلك أوكد، لأنه لا يجوز له الصلاة بغير وضوء ولا تيمم، ويجوز له أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 بغير وضوء ولا تيمم، وأيضًا فإن التيمم إنما ورد فى المسافرين والمرضى لإدراك وقت الصلاة وخوف فوته، فكل من لم يجد الماء وخاف فوت الصلاة، تيمم إن كان مسافرًا أو مريضًا بالنص، وإن كان حاضرًا صحيحًا بالمعنى، وهذا دليل قاطع. وقد احتج الطحاوى بهذا الحديث فى جواز التيمم للجنازة إذا خاف فوت الصلاة عليها. وهو قول الكوفيين، والليث، والأوزاعى. قال الطحاوى: فتيمم (صلى الله عليه وسلم) لرد السلام فى المصر وهو فرض لخوف الفوت، لأنه لو فعل بعد التراخى لم يكن جوابًا. فإن قيل: ليست الطهارة شرطًا فى صحة رد السلام؟ قيل: قد ثبت لهذه الطهارة حكم لولاه لم يفعلها النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ولو لم يكن ثبت حكم التيمم فى هذه الحالة لما فعله النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ومنع مالك، والشافعى، وأحمد بن حنبل، الصلاة على الجنائز بالتيمم. قال ابن القصار: وفى تيمم النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بالجدار رد على أبى يوسف، والشافعى فى قولهما: إن التراب شرط فى صحة التيمم، لأنه (صلى الله عليه وسلم) تيمم بالجدار، ومعلوم أنه لم يعلق بيده منه تراب إذ لا تراب على الجدار، وقد تقدم فى باب ما يقول عند الخلاء زيادة فى معنى تركه (صلى الله عليه وسلم) لرد السلام حين تيمم بالجدار، كرهنا تكراره فتأمله هناك إن شاء الله. والمربد والجرين، والبيدر الأندر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 4 - باب هَلْ يَنْفُخُ فِيهِمَا / 5 - فيه: سَعِيدِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ ابْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: إِنِّى أَجْنَبْتُ، فَلَمْ أُصِبِ الْمَاءَ، فَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَمَا تَذْكُرُ أَنَّا كُنَّا فِى سَفَرٍ أَنَا وَأَنْتَ، أَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ، فَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ لِلنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا -، فَضَرَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِكَفَّيْهِ الأرْضَ، وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ. اختلف العلماء فى نفض اليدين من التيمم فكان الشعبى يقول بنفضهما وهو قول الكوفيين، وقال مالك أيضًا: نفضًا خفيفًا. وقال الشافعى: لا بأس أن ينفضهما إذا بقى فى يديه غبار يماس الوجه وهو قول إسحاق. وقال أحمد: لا يضر فعل أو لم يفعل وكان ابن عمر لا ينفض يديه. قال المهلب: فيه من الفقه أن المتأول لا إعادة عليه ولا لوم، ألا ترى أن عمارًا قال: تمت أما أنا فتمرغت فى التراب -، لأنه تأول أن التيمم للوجه والكفين، لا يجزئ فى الجنابة، كما يجزئ فى الوضوء وكان فى السفر، فلم يأمره النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بإعادة التيمم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 والصلاة لأنه عمل أكثر مما كان يجب عليه فى التيمم، بل أخبره أنه كان يجزئه ضربة للوجه والكفين عن غسل الجنابة، وسيأتى الخلاف فى تيمم الجنب بعد هذا، إن شاء الله. 5 - باب التَّيَمُّمُ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ / 6 - فيه: عَمَّارٌ قال لعمر: تَمَعَّكْتُ، فَأَتيت النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: تمت يَكْفِيكَ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ -. / 7 - وقَالَ عَمَّارٌ مرة: فَضَرَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدِهِ الأرْضَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ. اختلف العلماء فى حد مسح الكفين فى التيمم، فقال قوم: هو إلى الكوعين روى هذا عن على بن أبى طالب وسعيد بن المسيب، والأعمش، وعطاء، وهو قول الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق. وروى ابن القاسم عن مالك أنه إن تيمم إلى الكوعين أعاد فى الوقت وهذا يدل أن التيمم إلى المرفقين مستحب عنده. وقال قوم: التيمم إلى المرفقين. روى هذا عن ابن عمر، وجابر، والنخعى، والحسن، وهو قول مالك، وأبى حنيفة وأصحابه والثورى، والليث، والشافعى، قالوا: لا يجزئه إلا ضربتان ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، ولا يجزئه دون المرفقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 وقال الزهرى: هو إلى الآباط. واحتج الزهرى بما رواه عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه، عن عمار بن ياسر، قال: تيممنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، إلى المناكب، رواه جويرية، عن مالك، عن ابن شهاب. وحجة من ذهب إلى أن المراد مسحهما إلى المرفقين فما رواه الثورى عن سلمة بن كهيل، عن أبى مالك، عن عبد الرحمن بن أبزى، عن عمار بن ياسر، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال له: تمت إنما كان يكفيك هكذا، وضرب بيديه، ثم نفخهما ومسحهما بوجهه وكفيه وذراعيه إلى نصفيهما -. وأنصاف الذراعين عندهم هو نهاية المرفقين، ومن جهة النظر أن التيمم بدل من الوضوء، ولما أجمعوا أن الوضوء إلى المرفقين، وجب أن يكون التيمم كذلك. وكان من حجة من ذهب إلى أن المسح إلى الكوعين قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) [المائدة: 38] ، قال ابن القصار: واسم اليد تخصيص إلى الكوعين، لقطع النبى (صلى الله عليه وسلم) ، والمسلمين بعده من الكوع مع إطلاق اسم اليد فى الآية، والحكم إذا تعلق بما هذه صفته تعلق بأول الاسم وأخصه. واحتجوا من الآثر بقوله فى حديث عمار: تمت أن النبى ضرب بيده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 الأرض، ثم مسح بهما وجهه وكفيه -. قالوا: وهذا توقيف من النبى (صلى الله عليه وسلم) ، لعمار على المراد من قوله تعالى: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) [المائدة: 6] يرفع الإشكال. ويدل على ذلك أيضًا حديث أبى جهيم: تمت حين تيمم النبى (صلى الله عليه وسلم) ، على الجدار فمسح وجهه ويديه -، وما روى أنه مسح الذراعين إلى المرافق، فنحمله على الاستحباب، وأما التيمم إلى المناكب، فالأمة فى جميع الأمصار على خلافه. قال الطحاوى: ولم يرو عن أحد من المتقدمين غير ابن شهاب، وليس فى حديث ابن شهاب، عن عمار أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، أمرهم بالتيمم إلى المناكب، ولا أنه تيمم هو كذلك، فيكون فيه حجة، بل الآثار أنه تيمم إلى الكوعين وإلى المرفقين. قال الطحاوى: وأما النظر فى ذلك، فرأينا التيمم قد أسقط عن بعض أعضاء الوضوء، وهو الرأس والرجلان، فكان التيمم على بعض ما عليه الوضوء، فبطل بذلك قول من قال: إنه إلى المناكب، لأنه لما بطل على الرأس والرجلين، وهم مما يتوضآن كان أحرى ألا يجب على ما لا يتوضأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 6 - باب الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ، يَكْفِيهِ مِنَ الْمَاءِ وَقَالَ الْحَسَنُ وابن عَبَّاس: يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ مَا لَمْ يُحْدِثْ، وَأَمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُتَيَمِّمٌ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: لا بَأْسَ بِالصَّلاةِ عَلَى السَّبَخَةِ، وَالتَّيَمُّمِ بِهَا. / 8 - فيه: عِمْرَانَ قَالَ: كُنَّا فِى سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) : وَإِنَّا سْرَيْنَا، حَتَّى كُنَّا فِي آخِرِ اللَّيْلِ، وَقَعْنَا وَقْعَةً، وَلا وَقْعَةَ أَحْلَى عِنْدَ الْمُسَافِرِ مِنْهَا، فَمَا أَيْقَظَنَا إِلا حَرُّ الشَّمْسِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ فُلانٌ ثُمَّ فُلانٌ ثُمَّ فُلانٌ يُسَمِّيهِمْ أَبُو رَجَاءٍ، فَنَسِىَ عَوْفٌ ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الرَّابِعُ، وَكَانَ النَّبِيُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا نَامَ، لَمْ نُوقَظْه حَتَّى يَكُونَ هُوَ المسْتَيْقِظُ، لأنَّا لا نَدْرِي مَا يَحْدُثُ لَهُ فِى نَوْمِهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ عُمَرُ وَرَأَى مَا أَصَابَ النَّاسَ، وَكَانَ رَجُلا جَلِيدًا، فَكَبَّرَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ، فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ، حَتَّى اسْتَيْقَظَ لِصَوْتِهِ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ، شَكَوْا إِلَيْهِ الَّذِي أَصَابَهُمْ، قَالَ: تمت لا ضَيْرَ، أَوْ لا يَضِيرُ، ارْتَحِلُوا -، فَارْتَحَلَوا، فَسَارَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ نَزَلَ، فَدَعَا بِالْوَضُوءِ، فَتَوَضَّأَ وَنُودِيَ بِالصَّلاةِ، فَصَلَّى بِالنَّاس، فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صَلاتِهِ، إِذْ هُوَ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: تمت مَا مَنَعَكَ يَا فُلانُ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ -؟ قَالَ: أَصَابَتْنِى جَنَابَةٌ، وَلا مَاءَ، قَالَ: تمت عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ، فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ -، ثُمَّ سَارَ (صلى الله عليه وسلم) فَاشْتَكَى إِلَيْهِ النَّاسُ مِنَ الْعَطَشِ، فَنَزَلَ، فَدَعَا فُلانًا كَانَ يُسَمِّيهِ أَبُو رَجَاءٍ، نَسِيَهُ عَوْفٌ، وَدَعَا عَلِيًّا، فَقَالَ: تمت اذْهَبَا، فَابْتَغِيَا الْمَاءَ -، فَانْطَلَقَا، فَتَلَقَّيَا امْرَأَةً بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ أَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 سَطِيحَتَيْنِ مِنْ مَاءٍ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا، فَقَالا لَهَا: أَيْنَ الْمَاءُ؟ فقَالَتْ: عَهْدِي بِالْمَاءِ أَمْسِ هَذِهِ السَّاعَةَ، وَنَفَرُنَا خُلُوفًا، قَالا لَهَا: انْطَلِقِي إِذًا، قَالَتْ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالا: إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَتِ: الَّذِي يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ؟ قَالا: هُوَ الَّذِي تَعْنِينَ، فَانْطَلِقِي، فَجَاءَا بِهَا إِلَى رَسُولِ الله (صلى الله عليه وسلم) وَحَدَّثَاهُ الْحَدِيثَ. قَالَ: تمت فَاسْتَنْزَلُوهَا عَنْ بَعِيرِهَا -، وَدَعَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) بِإِنَاءٍ، فَفَرَّغَ فِيهِ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَزَادَتَيْنِ أَوْ السَطِيحَتَيْنِ، وَأَوْكَأَ أَفْوَاهَهُمَا، وَأَطْلَقَ الْعَزَالِيَ، وَنُودِيَ فِي النَّاسِ اسْتَقُوا واسْقُوا، فَسَقَى مَنْ سقى، وَاسْتَقَى مَنْ شَاءَ، وَكَانَ آخِرُ ذَاكَ أَنْ أَعْطَى الَّذِي أَصَابَتْهُ الْجَنَابَةُ إِنَاءً مِنْ مَاءٍ، قَالَ: تمت اذْهَبْ، فَأَفْرِغْهُ عَلَيْكَ -، وَهِيَ قَائِمَةٌ، تَنْظُرُ إِلَى مَا يُفْعَلُ بِمَائِهَا، وَايْمُ اللَّهِ لَقَدْ أُقْلِعَ عَنْهَا، وَإِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْنَا أَنَّهَا أَشَدُّ مِلأةً مِنْهَا حِينَ ابْتَدَأَ فِيهَا، قَالَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : تمت اجْمَعُوا لَهَا -، فَجَمَعُ لَهَا مِنْ بَيْنِ عَجْوَةٍ وَدَقِيقَةٍ وَسَوِيقَةٍ حَتَّى جَمَعُوا لَهَا طَعَامًا، فَجَعَلُوه فِي الثَوْب، وَحَمَلُوهَا عَلَى بَعِيرِهَا، وَوَضَعُوا الثَّوْبَ بَيْنَ يَدَيْهَا، قَالَ لَهَا: تمت تَعْلَمِينَ مَا رَزِئْنَا مِنْ مَائِكِ شَيْئًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِى أَسْقَانَا -، فَأَتَتْ أَهْلَهَا، وَقَدِ احْتَبَسَتْ عَنْهُمْ، قَالُوا: مَا حَبَسَكِ يَا فُلانَةُ؟ قَالَتِ: الْعَجَبُ لَقِيَنِى رَجُلانِ، فَذَهَبَا بِى إِلَى هَذَا الرَّجُل الَّذِى يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ، فَفَعَلَ كَذَا، وَكَذَا فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لأسْحَرُ النَّاسِ مِنْ بَيْنِ هَذِهِ، وَهَذِهِ، وَقَالَتْ بِإِصْبَعَيْهَا الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ، فَرَفَعَتْهُمَا إِلَى السَّمَاءِ، تَعْنِي السَّمَاءَ وَالأرْضَ، أَوْ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ ذَلِكَ يُغِيرُونَ عَلَى مَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلا يُصِيبُونَ الصِّرْمَ الَّذِي هِيَ مِنْهُ، فَقَالَتْ يَوْمًا لِقَوْمِهَا: مَا أُرَى أَنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 يَدْعُونَكُمْ عَمْدًا، فَهَلْ لَكُمْ فِي الإسْلامِ؟ فَأَطَاعُوهَا، فَدَخَلُوا فِي الإسْلامِ. قال المهلب: قوله للجنب: تمت عليك بالصعيد فإنه يكفيك من الماء -، فيحتمل أن يكفيه ما لم يحدث إذا لم يجد ماء كما يكفيه الوضوء، وإنما قال أهل العلم: إنه يتيمم لكل صلاة خوفًا أن يضيع طلب الماء ويتكل على التيمم ويأنسوا إلى الأخف، ويحتمل أن يكفيه لتلك الصلاة وحدها، لأنها هى التى يستباح فيها خوف فوات وقتها. واختلف العلماء فى ذلك فقالت طائفة: يصلى بالتيمم ما لم يحدث جميع الصلوات وروى ذلك عن عطاء، والحسن البصرى، والنخعى، والزهرى، والثورى، والكوفيين. وقالت طائفة: لا يصلى بالتيمم إلا صلاة واحدة، وعليه أن يتيمم لكل صلاة، روى ذلك عن على، وابن عمر، وعمرو بن العاص، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والشعبى، ومكحول، وربيعة، وهو قول مالك، والليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وفيها قول ثالث: أن من صلى الصلوات فى أوقاتهن يتيمم لكل صلاة، وإذا فاتته صلوات صلاها بتيمم واحد، روى هذا عن مالك، وهو قول أبى ثور. واحتج الكوفيون فقالوا: التيمم مرتب على الوضوء، فلما قامت الدلالة على أنه يصلى صلوات كثيرة بوضوء واحد، كان التيمم مثله. وحجة من أوجب التيمم لكل صلاة، قالوا: إن الله أوجب على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 كل قائم إلى الصلاة طلب الماء، لقوله: (فلم تجدوا ماء فتيمموا) [النساء: 43، المائدة: 6] ، وحقيقة هذا أنه لا يقال لمن لم يطلب الشىء لم يجده، وأوجب عند عدمه التيمم عند دخول وقت صلاة أخرى مثل ما عليه فى الأولى، وليست الطهارة بالصعيد مثل الطهارة بالماء، وإنما هى طهارة ضرورة لاستباحة الصلاة قبل خروج الوقت بدليل بطلانها بوجود الماء قبل الصلاة، وأن الجنب يعود جنبًا بعدها إذا وجد الماء، والوضوء بالماء لا يبطل، فلذلك أمر من صلى، به أن يطلب الماء لصلاة أخرى. وقال إسماعيل بن إسحاق: المتيمم لا يشبه المتوضئ، لأن المتوضئ له أن يتوضأ للصلاة قبل وقتها، والمتيمم لا يجوز له ذلك، فإذا لم يجز له أن يتيمم للعصر حتى يدخل وقتها، وجب ألا يكون التيمم للعصر يجزئ للمغرب، إذ كان متيممًا لها قبل وقتها، لأن العلة المانعة من المتيمم للعصر قبل وقتها هى المانعة له من المغرب. وأما إمامة المتيمم للمتوضيئن، فهو قول مالك، وأبى حنيفة، وأبى يوسف، وزفر، والثورى، والشافعى. وقال الأوزاعى، ومحمد بن الحسن: لا يؤم متيمم متوضئًا، وروى ذلك عن علىّ، والنخعى. واحتج مالك فى ذلك، فقال: من قام إلى الصلاة، فلم يجد ماءً فتيمم، فقد أطاع الله، وليس الذى وجد الماء بأطهر منه، ولا أتم صلاة، لأنهما أمرا جميعًا، فكل عَمِلَ بما أمره الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 وحجة الأوزاعى: أن شأن الإمامة الكمال، ومعلوم أن الطهارة بالصعيد طهارة ضرورة كما تقدم، فأشبهت صلاة القاعد المريض يؤم قيامًا، والأمى يؤم من يحسن القراءة. وأما التيمم بالسبخة فهو قول جماعة العلماء على ظاهر قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت جعلت لى الأرض مسجدًا وطهورًا -، فدخل فيه السبخة وغيرها. وخالف ذلك إسحاق بن راهويه، فقال: لا يجزئه التيمم بالسبخة. قال المهلب: فى حديث المزادتين من الفقه: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قد ينام كنوم البشر فى بعض الأوقات، إلا أنه لا يجوز عليه الأضغاث، لقوله: تمت رؤيا الأنبياء وحى -. وفيه: أن الأمور يحكم فيها بالأعم، لقوله: تمت كنا لا نوقظ النبى (صلى الله عليه وسلم) ، لأنا لا نعلم ما يحدث له فى نومه -، وقد يحدث له وحى، أو لا يحدث، فحكموا بالأعم كما حكم على النائم غيره بحكم الحدث، وقد يكون الحدث، أو لا يكون. وفيه: التأدب فى إيقاظ السيد كما فعل عمر، لأنه لم يوقظ النبى (صلى الله عليه وسلم) بالنداء بل أيقظه بذكر الله إذ علم عمر أن أمر الله يحثه على القيام. وفيه: أن عمر أجلد المسلمين كلهم، وأصلبهم فى أمر الله. وفيه: أن من حَلَّت به فتنة فى بلد، فليخرج عنه، وليهرب من الفتنة بدينه كما فعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بارتحاله عن بطن الوادى الذى تشاءم به لما فتنهم فيه الشيطان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 وفيه: أن من ذكر صلاة أن له أن يأخذ فيما يصلحه لصلاته طهور ووضوء، وانتقاء البقعة التى تطيب عليها نفسه للصلاة، كما فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعد أن ذكر الصلاة الفائتة فارتحل بعد الذكر، ثم توضأ وتوضأ الناس، وهذا لا يتم إلا فى مهلة، ثم أذن واجتمع الناس وصلوا. وفيه: رد لقول عيسى بن دينار أن حديث الوادى هذا، وتأخير الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن المبادرة بالصلاة فى الوادى قبل أن يرتحل منسوخ بقوله: (أقم الصلاة لذكرى) [طه: 14] ، لأنه (صلى الله عليه وسلم) لما خرج عن الوادى وصلى، خطبهم مؤنسًا لهم مما عرض لهم، فقال (صلى الله عليه وسلم) : تمت إن الله قبض أرواحنا، ولو شاء لردها فى حين الصلاة، ولكن من فاتته صلاة، أو نسيها، فليصلها، إذا ذكرها، فإن الله يقول: (أقم الصلاة لذكرى (-، فاحتج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بالآية على فعله، وآنس القوم بذلك، وأشار لهم إلى قوله تعالى المعروف عندهم، فكيف يكون ما نزل الله قبل ناسخًا لما كان بعد؟ إنما ينسخ الآخر الأول، وهذه الآية نزلت بمكة، وهذه القصة عرضت بعد الهجرة. وفيه من الفقه: أن من فاتتهم صلاة بمعنى واحد أن لهم أن يجمعوها إذا ذكروها بعد خروج وقتها، وأن تأخير المبادرة إليها لا يمنع الإنسان أن يكون ذاكرًا لها، وأن يعيدها. وفيه: طلب الماء للشرب والوضوء، والبعثة فيه. وفيه: أن الحاجة إلى الماء إذا اشتدت أن يؤخذ حيث وجد ويعوض صاحبه منه، كما عُوضت المرأة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 وفيه: من دلائل النبوة ومعجزات الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن توضأ أهل الجيش، وشربوا واغتسل من كان جنبًا مما سقط من العزالى، وبقيت المزادتان مملوءتين بركته وعظيم برهانه. وفيه: مراعاة ذمام الكافر والمحافظة به كما حفظ النبى (صلى الله عليه وسلم) هذه المرأة فى قومها وبلادها، فراعى فى قومها ذمامها، وإن كانت من صميمهم فهى من أدناهم، وكان ترك الغارة على قومها سببًا لإسلامها، وإسلامهم وسعادتهم. وفيه: بيان مقدار الانتفاع بالاستئلاف على الإسلام، لأن قعودهم عن الغارة على قومها كان استئلافًا لهم، فعلم القوم قدر ذلك، وبادروا إلى الإسلام رعاية لذلك الحق. وقوله: تمت ونفرنا خلوف - قال الخطابى: يقال: الحى خلوف إذا غابوا وخلفوا أثقالهم، وخرجوا فى رعى، أو سقى، أو نحوه، ويقال: أخلف الرجل إذا استقى الماء واستخلف مثله، وأنشد الفراء: وَبَهْمَاء يستاف التراب دليلها وليس بها إلا اليمانىُّ مخلف يقول: إنهم إذا عطشوا بقروا بالسيوف بطون الإبل، فشربوا ما فى أكراشها، ويقال للقطا: المخلفات، لأنها تستقى لأولادها الماء وتخلف. وقال أبو عبيد: الحى خلوف: غُيَّب وحضور، ومنه قوله تعالى: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) [التوبة: 87، 93] أى النساء. وأنشد فى العيب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 أصبح البيت بيت آل بيان مقشعرا والحى حى خلوف أى لم يبق منهم أحد. والعزالى جمع عزلاء، والعزلاء فم المزادة الأسفل، عن أبى عبيد. قال صاحب العين: العزلاء مصب الماء من الراوية، وكذلك عزلاء القربة، ولذلك سميت عزلاء السحاب. والصرم: النفر ينزلون بأهليهم على الماء. يقال: هم أهل صرم والجمع أصرام. فأما الصرمه، بالهاء، فالقطعة من الإبل نحو الثلاثين، عن الخطابى. 7 - بَاب إِذَا خَافَ الْجُنُبُ عَلَى نَفْسِهِ الْمَرَضَ أَوِ الْمَوْتَ أَوْ خَافَ الْعَطَشَ تَيَمَّمَ وَيُذْكَرُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ أَجْنَبَ فِى لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَتَيَمَّمَ وَتَلا: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء: 29] فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمْ يُعَنِّفْ. / 9 - فيه: أَبُو مُوسَى أَنّه قَالَ لابْن مَسْعُود: إِذَا لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ لا تُصَلِّى، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: لَوْ رَخَّصْتُ لَهُمْ فِى هَذَا كَانَ إِذَا وَجَدَ أَحَدُهُمُ الْبَرْدَ، قَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 هَكَذَا - يَعْنِى تَيَمَّمَ - وَصَلَّى، قَالَ: قُلْتُ: فَأَيْنَ قَوْلُ عَمَّارٍ لِعُمَرَ؟ قَالَ إِنِّى لَمْ أَرَ عُمَرَ قَنِعَ بِقَوْلِ عَمَّارٍ. / 10 - وَقَالَ أَبُو مُوسَى مرةٍ لابن مَسْعُود: أَرَأَيْتَ يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، إِذَا أَجْنَبَ، فَلَمْ يَجِدْ مَاءً، كَيْفَ يَصْنَعُ؟ فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: لا يُصَلِّى، حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِقَوْلِ عَمَّارٍ حِينَ قَالَ لَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت كَانَ يَكْفِيكَ -؟ قَالَ: أَلَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بقولِ عَمَّارٍ، فَقَالَ أبُو مُوسَى: فَدَعْنَا مِنْ قَول عَمَّار، كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الآيَةِ؟ فَمَا دَرَى عَبْدُاللَّهِ مَا يَقُولُ، فَقَالَ: إِنَّا لَوْ رَخَّصْنَا لَهُمْ فِى هَذَا، لأوْشَكَ إِذَا بَرَدَ عَلَى أَحَدِهِمُ الْمَاءُ أَنْ يَدَعَهُ، وَيَتَيَمَّمَ، قَالَ الأعمش: فَقُلْتُ لِشَقِيقٍ: فَإِنَّمَا كَرِهَ عَبْدُاللَّهِ لِهَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قال ابن القصار: كل من خاف التلف من استعمال الماء جاز له تركه وتيمم بلا خلاف بين فقهاء الأمصار فى ذلك، وأما إن خاف الزيادة فى مرضه، ولم يخف التلف، فقال مالك: يجوز له التيمم، وهو قول أبى حنيفة، والثورى. واختلف قول الشافعى، فقال مثل قول مالك، وقال: لا يعدل عن الماء إلا أن يخاف التلف، وقد روى عن مالك مثل هذا. وقال عطاء، والحسن البصرى، فى رواية: لا يستباح التيمم بالمرض أصلاً، وكرهه طاوس، وإنما يجوز للمريض التيمم عند عدم الماء، فأما مع وجوده فلا، وهو قول أبى يوسف، ومحمد. والدليل لجواز التيمم، وإن لم يخف التلف ما احتج به أبو موسى على ابن مسعود من قوله تعالى: (فلم تجدوا ماءً) [النساء: 43، المائدة: 6] ، ولم يفرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 بين مرض التلف، أو مرض يخاف زيادته، فهو عام فى كل مرض إلا أن يقوم دليل. وأما قصة عمرو بن العاص: تمت فإن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولاه غزوة ذات السلاسل، فاحتلم فى ليلة باردة، فقال: إن اغتسلت هلكت، فتيمم وصلى بالناس، فأتى النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فقال له: صليت بالناس وأنت جنب؟ فقال: سمعت الله يقول: (ولا تقلتوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا) [النساء: 29] ، فضحك النبى (صلى الله عليه وسلم) ولم يقل شيئًا -. ففى هذا الخبر فوائد: منها: جواز التيمم للخائف من استعمال الماء. والثانية: جواز التيمم للجنب، بخلاف ما روى عن عمر، وابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 مسعود. والثالثة: جواز التيمم لأهل البرد. والرابعة: أن المتيمم يصلى بالمتطهرين. وأيضًا فإن الرخص كلها تستباح بلحوق المشقة، ولا تقف على خوف التلف، كالفطر، وترك القيام فى الصلاة، فإن المريض يفطر إذا شق عليه الصوم، ولا يقال له: لا تفطر حتى تخاف التلف، وكذلك المضطر إلى أكل الميتة، إذا لحقه الجوع الشديد، وإن لم يخف التلف. وأجمع الفقهاء أن المسافر إذا كان معه ماء وخاف العطش أنه يُبقى ماءه للشرب ويتيمم. وأجمعوا أن الجنب يجوز له التيمم، إلا ما روى عن عمر، وابن مسعود أنهما لا يجيزان التيمم للجنب، لقوله تعالى: (وإن كنتم جنبًا فاطهروا) [المائدة: 6] ، وقوله: (ولا جنبًا إلا عابرى سبيل حتى تغتسلوا) [النساء: 43] ، وقد روى مثل هذا عن ابن عمر، واختلف فيه عن علىّ. وخفيت عليهم السنة فى ذلك من رواية عمار، وعمران، وإنما استراب عمر عمارًا فى ذلك، لأنه كان حاضرًا معه، فلم يذكر القصة وأنسيها، فارتاب، ولم يقنع بقوله، وكان عمر وابن مسعود لما كان من رأيهما أن الملامسة فى الآية هى ما دون الجماع، وكان التيمم فى الآية يعقب الملامسة منعا الجنب التيمم، ورأيا أن التيمم إنما جعل بدلاً من الوضوء، ولم يجعل بدلاً من الغسل، فكان من رأى ابن عباس، وأبى موسى: أن الملامسة فى الآية الجماع، فأجازا للجنب التيمم، ألا ترى أن أبا موسى حاجَّ ابن مسعود بالآية التى فى سورة النساء، فإن الملامسة فيها الجماع، فلم يدفعه ابن مسعود عن ذلك، ولا قدر أن يخالفه فى تأويله للآية فلجأ إلى قوله أنه لو رخص لهم فى هذا كان أحدهم إذا برد عليه الماء تيمم، وقد ذكر ابن أبى شيبة قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبى سنان، عن الضحاك قال: رجع عبد الله عن قوله فى تيمم الجنب ولم يتعلق أحد من فقهاء الأمصار، من قال: إن الملامسة الجماع، ومن قال: إنها دون الجماع، بقول عمر وابن مسعود، وصاروا إلى حديث عمار وعمران بن حصين فى ذلك، إلا إنهم اختلفوا، ثم أجازوا للجنب التيمم، فمن قال: الملامسة الجماع أوجب التيمم بالقرآن، وهو قول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 الكوفيين، ومن قال: الملامسة ما دون الجماع أوجب التيمم للجنب بحديث عمار وعمران، وهو قول مالك. قال المهلب: وفى قول أبى موسى لابن مسعود: تمت فدعنا من قول عمار، كيف تصنع فى هذه الآية؟ - فيه: الانتقال فى الحجاج مما فيه الخلاف إلى ما عليه الاتفاق، وذلك أنه يجوز للمناظرين عند تعجيل القطع والإفحام للخصم، ألا ترى أن إبراهيم إذ قال: ربى الذى يحيى ويميت، قال له النمروذ: أنا أحيى وأميت، لم يحتج أن يوقفه على كيفية إحيائه وإماتته، بل انتقل إلى مسكت من الحجاج فقال: إن الله يأتى بالشمس من المشرق فائت بها من المغرب. 8 - باب التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ / 11 - فيه: أَبِى مُوسَى وعَبْدِ اللَّهِ إلى قَول النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَصْنَعَ هَكَذَا -، وضَرَبَ بِكَفِّهِ ضَرْبَةً عَلَى الأرْضِ، ثُمَّ نَفَضَهَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِا ظَهْرَ كَفِّيهِ شِمَالِهِ، أَوْ ظَهْرَ شِمَالِهِ بِكَفِّهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِا وَجْهَهُ -. اختلف العلماء فى صفة التيمم، فقالت طائفة: هو ضربتان: ضربة للوجه يمسح بها وجهه، وضربة لليدين يمسحهما إلى المرفقين اليمنى باليسرى، واليسرى باليمنى، روى هذا عن ابن عمر، والشعبى، والحسن، وسالم، وهو قول مالك، والثورى، والليث، وأبى حنيفة وأصحابه، والشافعى، وذكره الطحاوى، عن الأوزاعى، وهؤلاء كلهم لا يجزئه عندهم المسح دون المرفقين، إلا مالك فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 الفرض عنده إلى الكوعين، وروى عن على بن أبى طالب مثل هذا، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الكوعين. وقالت طائفة: التيمم ضربتان يمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه إلى مرفقيه، هذا قول ابن أبى ليلى والحسن بن حى. وقالت طائفة: التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين إلى الكوعين. روى هذا عن عطاء، ومكحول، ورواية عن الشعبى، وهو قول الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، واختيار ابن المنذر. وروى ابن القاسم عن مالك: إن مسح وجهه ويديه بضربة واحدة أرجو أن يجزئه، ولا إعادة عليه، والاختيار عنده ضربتان. فأما الذين اختاروا ضربتين ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، فإنهم قاسوا ذلك على الوضوء، واتبعوا فعل ابن عمر فى ذلك، وقالوا: لما كان غسل الوجه بالماء غير غسل اليدين، فكذلك يجب أن تكون الضربة للوجه فى التيمم غير الضربة لليدين. وأما قول ابن أبى ليلى والحسن بن حى فهو شذوذ لا سلف له، وأصح ما فى حديث عمار أنه ضرب ضربة واحدة لكفيه ووجهه، رواه الثورى، وأبو معاوية، وجماعة عن الأعمش، عن أبى وائل، وسائر أحاديث عمار مختلف فيها. واحتج ابن القصار لهذا القول فقال: إذا ضرب بيديه إلى الأرض، فبدأ بمسح وجهه، فإلى أن يبلغ حد الذقن لا يبقى فى يديه شىء من التراب، فإذا جاز فى بعض الوجه ذلك ولم يحتج أن يعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 ضرب يديه على الأرض، لم يحتج أن يضرب بيديه ليديه، لأنه ليس كالماء الذى من شرطه أن يماس كل جزء من الأعضاء. قال غيره: وفيه جواز ترك الترتيب فى التيمم، لأنه (صلى الله عليه وسلم) مسح كفيه قبل وجهه فى إحدى الروايات. تم كتاب الطهارة والحمد لله وصل الله على محمد وآله وصحبه، وبه تم الجزء الأول ويليه بإذن الله الجزء الثانى وأوله - كتاب الصلاة - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 الجزء الثانى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 بسم الله الرحمن الرحيم كِتَاب الصَّلاةِ كَيْفَ فُرِضَتِ الصَّلاةُ فِي الإسْرَاءِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ، فَقَالَ: يَأْمُرُنَا - يَعْنِي النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) - بِالصَّلاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ. / 1 - فيه: أنس قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي، وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فلما جئت إلى السماء الدنيا. .) ، الحديث، وذكر حديث الإسراء. قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (فَفَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلاةً، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ، حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلاةً، قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُ، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، قُلْتُ: وَضَعَ شَطْرَهَا، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ، فَرَاجَعْتُ، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُهُ، فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ، لا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، ثُمَّ انْطَلَقَ بِي، حَتَّى انْتَهَى بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لا أَدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 / 2 - وفيه: عائشة قالت: (فَرَضَ اللَّهُ الصَّلاةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلاةِ الْحَضَرِ) . أجمع العلماء على أن فرض الصلاة كان فى الإسراء، واختلفوا فى تاريخ الإسراء، فقال الذهبى فى تاريخه: أسرى برسول الله بعد مبعثه بثمانية عشر شهرًا. وقال أبو إسحاق الحربى: أُسرى بالنبى ليلة سبع وعشرين من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة، وفرضت الصلاة عليه. وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: إن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة، وروى يونس ابن بكير، عن عثمان بن عبد الرحمن الوقاصى، عن ابن شهاب: أن الصلاة فرضت بمكة بعد ما أوحى إليه بخمس سنين. فعلى قول موسى بن عقبة إذا كان الإسراء قبل الهجرة بسنة، فهو بعد مبثعه بتسع سنين، أو باثنتى عشرة سنة على اختلافهم فى مقامه بمكة بعد مبعثه، وقول الزهرى أولى من قول الذهبى؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 لأن ابن إسحاق قال: أسرى برسول الله وقد فشا الإسلام بمكة، وفى القبائل كلها، ورواية الوقاصى أولى من رواية موسى بن عقبة؛ لأنهم لا يختلفون أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة عليه، وتوفيت قبل الهجرة بأعوام. قال ابن إسحاق: ثم إن جبريل أتى الرسول حين فرضت الصلاة عليه فى الإسراء، فهمز له بعقبه فى ناحية من الوادى فانفجرت عين ماء مزن، فتوضأ جبريل ومحمد ينظر، فرجع رسول الله، وقد أقرّ الله عينه، فأخذ بيد خديجة، ثم أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل، ثم صلى هو وخديجة ركعتين كما صلى جبريل، فهذا يدل أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام؛ لأن خديجة قيل: إنها توفيت قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل: بثلاث. وأما قول ابن إسحاق أن جبريل نزل عليه بالوضوء، فإنما أخذه، والله أعلم، من حديث زيد بن حارثة، رواه عقيل عن ابن شهاب، عن عروة، عن أسامة بن زيد، عن أبيه: (أن النبى فى أول ما أوحى إليه أتاه جبريل فَعَلَّمَهُ الوضوء، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح فرجه) . وقال نافع بن جبير: (أصبح النبى ليلة الإسراء، فنزل عليه جبريل حين زاغت الشمس، فصلى به، ولذلك سميت: الأولى، وقال جماعة من العلماء: لم يكن على الرسول صلاة مفروضة قبل الإسراء إلا ما كان أُمِرَ به من قيام الليل من غير تحديد ركعات معلومات، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 ولا وقت محصور، فكان يقوم أدنى من ثلثيه ونصفه وثلثه، وقامه المسلمون معه نحوًا من حولٍ حتى شق عليهم، فأنزل الله التخفيف عنهم ونسخه. وقال ابن عباس: لما نزلت: (يا أيها المزمل) [المزمل: 1] ، كانوا يقومون نحوًا من قيامهم فى رمضان، حتى نزل آخرها، وكان بَيْن أولها وآخرها حول. وفى حديث الإسراء إعلام فرض الصلاة كيف كان، وتقدم. وإجماع الأمة على عدد فرض الصلاة وأنها خمس صلوات وعددها وركوعها وسجودها غير أبى حنيفة، فإنه شَذَّ وزاد أن الوتر فرض وليس ذلك فى حديث الإسراء، فأدخل البخارى حديث عائشة فى هذا الباب ليبينَ أن فرض الصلاة كان ركعتين ركعتين، وإن كان السلف قد اختلفوا فى ذلك، فروى عن ابن عباس، ونافع بن جبير ابن مطعم، والحسن البصرى، وابن جريج: أن الصلاة فرضت فى الحضر أربعًا وفى السفر ركعتين، وأن جبريل نزل صبيحة ليلة الإسراء، فأقام لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) الظهر أربعًا، والعصر أربعًا، والعشاء أربعًا. وقال ميمون بن مهران، والشعبى، وابن إسحاق، وجمهور العلماء: بظاهر حديث عائشة أن الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فى الحضر والسفر، على أن عائشة قد أفتت بخلاف هذا الحديث، فكانت تُتِمُّ فى السفر، وقد قال بعض من أنكر حديث عائشة: أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 معارض لكتاب الله، عز وجل، وهو قوله تعالى: (وإذا ضربتم فى الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) [النساء: 101] ، وهذا يدل أن صلاة السفر كانت كاملة؛ لأنه لا يجوز أن يؤمروا بالقصر إلا من شىءٍ تامٍّ قبل القصر، قال: ويدل على هذا ما رواه قتادة، عن سليمان اليشكرى أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة فى الخوف أى يوم أنزل، وأين هو؟ قال: انطلقنا نتلقَّى عير قريش من الشام حتى إذا كنا بنخل، جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا محمد، تخافنى؟ قال: (لا) ؟ ، قال: فمن يمنعك منى، قال: (الله) قال: فسل السيف فتهدده القوم وأوعدوه، فنادى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالرحيل، وأخذ السلاح، ونودى بالصلاة، فصلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بطائفة من القوم ركعتين، وطائفة من القوم يحرسونهم، ثم جاء الآخرون، فصلى بهم ركعتين والآخرون يحرسونهم، فكان للنبى (صلى الله عليه وسلم) أربع ركعات وللقوم ركعتان ركعتان، فيومئذ أنزل الله صلاة الخوف) . فالجواب: أنه لا تعارض بين حديث عائشة وبين كتاب الله، تعالى، وذلك أنه يجوز أن يكون فرض الصلاة كان ركعتين ركعتين فى الحضر والسفر كما قالت عائشة، فلما زيد فى صلاة الحضر، قيل لهم: إذا ضربتم فى الأرض، فصلوا ركعتين مثل الفريضة الأولى، ولا جناح عليكم فى ذلك، وقد جاء هذا المعنى بينًا فى حديث عائشة؛ روى داود بن أبى هند عن الشعبى، عن عائشة، قالت: (أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما قدم النبى (صلى الله عليه وسلم) المدينة صلى إلى كل صلاة مثلها غير المغرب؛ فإنها وتر صلاة النهار، وصلاة الصبح؛ لطول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 قراءتها، وكان إذا سافر عاد إلى صلاته الأولى) ، رواه معمر عن الزهرى، عن عروة، عن عائشة قالت: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، ثم هاجر النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ففرضت أربعًا، وتركت صلاة السفر على الأولى) ، [. . .] هذا المعنى للطحاوى بل هو فى كتاب البخارى الذى شرحته بهذا الكتاب فى باب: التأريخ بعد الهجرة. فإن قيل: فقد يكون قوله تعالى: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) [النساء: 101] ، بعد إتمام الصلاة فى الحضر، قلت: فما معنى ذكر الجناح فى ذلك؟ . قيل: المعنى فى ذلك، والله أعلم، أن الله تعالى، ذكر قصة الصلاة فى حال الخوف وسنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) من الرخصة فى هيئتها صفةً مفارقةً لجميع صلوات حال الأمن، فوضع الله الجناح عن عباده فى قصر عددها وتغيير هيئتها، وجعل القصر فى السفر رفقًا بعباده وتخفيفًا عنهم كما قال عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، ليعلى بن أمية حين قال له: ما لنا نقصر وقد أَمنَّا؟ قال: (تلك صدقة تصدق الله عليكم، فاقبلوا صدقته) ، فدل إتمام عائشة فى السفر أن القصر ليس بمعنى الحتم ولا إلزام للمسافر، إذ لو كان كذلك لم يجز أن تتم فى السفر، وإنما أتمت لأنها فهمت المعنى فى ذلك من النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ويشهد لصحة تأويلها فى ذلك قول عمر ابن الخطاب، رضى الله عنه، تلك صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته. وقد أجمعت الأمة أنه لا يلزم المتصدق عليه قبول الصدقة فرضًا وسأزيد فى هذا الباب بيانًا فى أبواب قصر الصلاة فى السفر، إن شاء الله تعالى. قال إسماعيل بن إسحاق: وأما حديث قتادة عن سليمان اليشكرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 فهو ضعيف؛ لأن قتادة لم يسمع منه شيئًا، وسمعت على بن المدينى يقول: مات سليمان اليشكرى قبل جابر ابن عبد الله، وإنما كانت صحيفة، فكان قتادة وغيره يحدثون بما وجدوا فيها. وقد روى عن جابر خلاف حديث سليمان اليشكرى، روى شعبة عن الحكم، عن يزيد الفقير، عن جابر قال: (صلينا مع النبى (صلى الله عليه وسلم) صلاة الخوف فركع بالصف المقدم ركعة وسجد سجدتين، ثم تأخروا وتقدم الآخرون فركع بهم ركعة واحدة) ، فهذا معارض لحديث اليشكرى. قال المهلب: وقوله فى حديث الإسراء: (ففرج صدرى، ثم غسله، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا، فأفرغه فى صدرى) . فيه من الفقه: أن أمور الله تعالى، المعظمة لا بأس بتحليتها واستعمال الذهب والفضة فيها بخلاف سائر أمور الدنيا التى نهى عن استعمال الذهب والفضة فيها من أجل السرف، ألا ترى أنه أبيح تحلية المصحف الذى فيه كلام الله عز وجل كما جاءه جبريل بالحكمة والإيمان من عند الله، عز وجل، من طست من ذهب، وذكر أبو عبيد فى كتاب فضائل القرآن، باب: تزيين المصاحف وحليتها بالذهب والفضة، وقال الأعمش: عن أبى وائل: كان ابن مسعود إذا مُرَّ عليه بمصحف وقد زين بالذهب، قال: (إن أحسن ما زُيِّنَ به المصحف تلاوته) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 وعن ابن عباس أنه كان إذا رأى المصحف قد فُضِّضَ أو أذهب قال: (تُغْرُون به السارق، وزينته فى جوفه) ، وأجاز ابن سيرين تزيين المصحف وتحليته، وكذلك أبيح حلية السيف الذى هو من أمر الله تعالى، وسلطانه على من كفر به، والخاتم الذى يطبع به عهود الله، وعهود رسله النافذة إلى أقطار الأرض بالدين، وما سوى ذلك من متاع الدنيا فممنوع من التحلية غير حُلِىِّ النساء والمباح لهن ليتزين به للرجال. وفيه: أن أرواح المؤمنين يُصعد بها إلى السماء؛ ألا ترى أنه وجد آدم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء فى السماء. وقوله فى آدم: (عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى) ، فيه دليل على أن أعمال بنى آدم الصالحة تَسُرُّ أباهم آدم، عليه السلام، وأن أعمالهم السيئة تسوءه وتحزنه. وفيه: دليل أنه يجب أن يرحبَ بكل أحد من الناس فى حسن لقائه بأكرم المنازل وأقرب القرابة؛ ألا ترى أنه لما كان محمد من ذريته قال: مرحبًا بالابن الصالح، ومن كان من غير ذريته قال له: مرحبًا بالأخ الصالح، فكذلك يحب أن يُلاقى المرءُ بأحسن صفاته وأعمها بجميل الثناء عليه؛ ألا ترى أن كلهم قال له: (الصالح) لشمول الصلاح على سائر الخلال الممدوحة من الصدق، والأمانة، والعفاف، والصلة، والفضل ولم يقل أحد: مرحبًا بالنبى الصادق الأمين وما شاكله؛ لشمول الصلاح وعمومه لسائر خلال الخير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 وفيه: دليل أن أوامر الله تعالى، تكتب بأقلام شتَّى؛ لقوله: (أسمع صريف الأقلام) ، ففى هذا أن العلم ينبغى أن يكتب بأقلام كثيرة، تلك سنة فى سماواته، فكيف فى أرضه. وقوله: (لا يبدل القول لدى) ، يعنى: ما قضاه وأحكمه من آثار معلومة، وآجال مكتوبة، وأرزاق معدودة، وشبه ذلك مما لا يبدل لديه، وأما ما نسخه تعالى رفقًا بعباده، فهو الذى قال فيه تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) [الرعد: 39] . وفيه: جواز النسخ قبل الفعل؛ ألا ترى أنه عز وجل نسخ الخمسين صلاة قبل أن تُصلى بخمس صلوات تخفيفًا عن عباده، ثم تفضل عليهم بأن جعل ثواب الخمس صلوات كثواب الخمسين، أو جعل الحسنة عشرًا. وفيه: جواز الاستشفاع والمراجعة فى الشفاعة مرة بعد أخرى. وفيه: الاستحياء من التكثير فى الحوائج، خشية الضعف عن القيام بشكرها. وفيه: دليل أن الجنة فى السماء. وفيه: (ودخلت الجنة فإذا فيها جبايل اللؤلؤ) ، هو تصحيف، والله أعلم، والصواب: (جنابذ اللؤلؤ) ، كذلك فسره ثابت عن ابن السكيت، وقال: (الجنبذة) ، ما ارتفع من البناء، وبهذا اتضح معنى اللفظة؛ لأنه عليه السلام إنما وصف أرض الجنة وبنيانها، فقال: ترابها مسك، وبنيانها لؤلؤ، وقد ذكر البخارى هذه اللفظة فى كتاب الأنبياء عن عنبسة، عن يونس، عن ابن شهاب، كما فسرها أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 اللغة: (جنابذ اللؤلؤ) ، وإنما جاء الغلط فيها، والله أعلم، من قبل الليث عن يونس، وقد ذكر الطبرى هذا المعنى مبينًا فى بعض طرق حديث الإسراء من طريق ميمون بن سياه، عن أنس قال فيه: (ثم انطلق به إلى باب الجنة فإذا هو بنهر هو أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل، بجنبتيه قباب الدر، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذى أعطاك الله، وهذه مساكنك، وأخذ جبريل بيده من تربته فإذا هو مسك أذفر. . . .) وذكر الحديث. وروى الأصيلى بإسناده، عن محمد بن العلاء الأيلى، عن يونس الأيلى، عن الزهرى، وقال فيه: (دخلت الجنة فرأيت فيها جنابذ من اللؤلؤ، وترابها المسك، فقلت: لمن هذا يا جبريل؟ قال: للمؤذنين والأئمة من أمتك) . وقوله: عن يساره أسودة فهو جمع سواد، والسواد الشخص كما قال الشاعر: يغشون حتى ما تهر كلابهم لا يسألون عن السواد المقبل - باب وُجُوبِ الصَّلاةِ فِي الثِّيَابِ وَقَوْلهِ تَعَالَى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف 31] وَمَنْ صَلَّى مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ، وَيُذْكَرُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (يَزُرُّهُ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ) . فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ وَمَنْ صَلَّى فِي الثَّوْبِ الَّذِي يُجَامِعُ فِيهِ مَا لَمْ يَرَ أَذًى، وَأَمَرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) أَلاَّ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 / 3 - فيه: أم عطية قالت: أُمِرْنَا أَنْ نُخْرِجَ الْحُيَّضَ يَوْمَ الْعِيدَيْنِ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، فَيَشْهَدْنَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَدَعْوَتَهُمْ، وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ عَنْ المُصَّلى، قَالَتِ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِحْدَانَا لَيْسَ لَهَا جِلْبَابٌ؟ قَالَ: لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا) . الواجب من اللباس فى الصلاة ما يستر به العورة، وأما غير ذلك من الثياب فالتجمل بها فى الصلاة حسن، والله أحق من تجمل له، وأجمع أهل التأويل على أن قوله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) [الأعراف: 31] ، نزلت من أجل الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة، ولذلك أمر الرسول ألا يطوف بالبيت عريان. وقوله: (يزره ولو بشوكة) ، و (لتلبسها صاحبتها من جلبابها) ، يدل على وجوب ستر العورة فى الصلاة؛ لأنه إذا زره أمن عند ركوعه وسجوده أن تبدو عورته. قال ابن القصار: وقد اختلف الناس فى ستر العورة فى الصلاة، فبعض أصحاب مالك يقول: إن الستر من سنن الصلاة، وإليه ذهب إسماعيل القاضى، وأبو الفرج المالكى بعد أن ذكر أنه يجىء على مذهب مالك أن يكون فرضًا لقوله فى كفارة المساكين: إن كساهم وكانوا نساء، فدرع درع وخمار، وإن كانوا رجالاً فثوب ثوب، وذلك أدنى ما تجزئ به الصلاة، فدل أن الصلاة لا تجزئ إلا بذلك. وكان أبو بكر الأبهرى يقول: إن ستر العورة فرض فى الجملة، على الإنسان أن يسترها عن أعين المخلوقين فى الصلاة وغيرها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 والصلاة أوكد من غيرها، وقال أبو حنيفة، والشافعى: إنها من فرض الصلاة، فاحتج إسماعيل بأنه يجوز له ستر عورته قبل الدخول فى الصلاة بغير نية، وإنما هى آلةُ يؤتى بها قبل الصلاة، فلو كانت فرضًا لما صح الإتيان بها إلا بنية كالطهارة. قال ابن القصار: فالجواب أن التوجه إلى القبلة مما تختص به الصلاة، ويجوز بغير نية، ولا يدل ذلك على سقوط فرضه مع القدرة عليه، واحتج إسماعيل أيضًا بأنه لو كان فرضًا فى الصلاة لكان العريان لا يجوز له أن يصلى؛ لأن كل شىء من فروض الصلاة يجب الإتيان به مع القدرة عليه أو ببدله مع عدمه كالعاجز عن القيام يصلى قاعدًا، وكالعاجز عن الركوع والسجود يومئ، أو كالتيمم مع عدم وجود الماء، والذى صلى عريانًا لم يفعل فى اللبس فعلاً يقوم مقام اللبس مع عدمه. وقد أجيب عن ذلك بأننا لا نقول: إن ستر العورة يجب لأجل الصلاة، فلا معنى لاعتباره بأفعال الصلاة، وبما يجب لأجلها كالوضوء الواقع إلى بدل، وكالقبلة وغير ذلك مما تختص به الصلاة، وإنما هو فرض فى الجملة، ويتأكد حكم الصلاة فيه، وليس كل شىء من فروض الصلاة يسقط إلى بدل مع الضرورة؛ لأن القراءة واجبة على المنفرد وتسقط عنه خلف الإمام لا إلى بدل، وكذلك الأُمِّى الذى لا يحسن القراءة ولا التسبيح تصح صلاته من غير بدل. فإن قيل: فعلى أى شىء يُحمل قول مالك: إن الحرة إذا صلتْ بغير خمار أنها تعيد فى الوقت، ولو كان فرضًا؛ لوجب أن تعيد فى الوقت وبعده؟ قيل: يحمل على أنه يعفى عن القليل منها لاختلاف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 الناس فى ذلك، فلم يقل مالك: إنها لو صلت مكشوفة السوأة أنها تعيد فى الوقت مع قدرتها على ستر ذلك، ولو قال ذلك، لم يمنع من كون الستر فرضًا؛ ألا ترى أن الصلاة فى الدار المغصوبة وفى الثوب المغصوب والوضوء بالماء المغصوب فرض عليه ألا يصلى بشىء من ذلك، ولو صلى بجميع ذلك كان قد ترك الفرض وعصى وعليه الإعادة فى الوقت ولا يعيد بعد الوقت، وكذلك التسمية على الذبيحة. فبعض الفروض إذا تركها عمدًا أعاد فى الوقت، وبعضها يختلف حكمها فى العمد والنسيان، وبعضها يتفق، وإنما هو على حسب الأدلة فى قوة بعضه وانخفاض بعضه، وحديث سلمة بن الأكوع أصل فى هذه المسألة وهو قوله: (يزره ولو بشوكة) ، ولو كان ستر العورة سنة لم يقل له ذلك، وإنما قال البخارى: وفى إسناده نظر؛ لأن رواية الدراوردى عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، عن سلمة بن الأكوع، قال: قلت: يا رسول الله، إنى أعالج الصيد فأصلى فى القميص الواحد، قال: (نعم، وزره ولو بشوكة) . وموسى بن محمد فى حديثه مناكير، قاله البخارى فى كتاب الضعفاء، ورخص مالك فى الصلاة فى القميص محلول الإزار ليس عليه سراويل ولا رداء، وهو قول الكوفيين والشافعى وأبى ثور، إلا أنه إن رأى من جيبه عورته أعاد الصلاة عندهم. 3 - باب عَقْدِ الإزَارِ عَلَى الْقَفَا فِي الصَّلاةِ وَقَالَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ صَلَّوْا مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) عَاقِدِي أُزْرِهِمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ. / 4 - فيه: جابر: أنه صَلَّى فِي إِزَارٍ قَدْ عَقَدَهُ مِنْ قِبَلِ قَفَاهُ، وَثِيَابُهُ مَوْضُوعَةٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 عَلَى الْمِشْجَبِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: تُصَلِّي فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ لَهُ: إِنَّمَا صَنَعْتُ ذَلِكَ، لِيَرَانِي أَحْمَقُ مِثْلُكَ، وَأَيُّنَا كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ عَلَى عَهْدِ الرَسُول (صلى الله عليه وسلم) . / 5 - وقال جابر مرة: (رَأَيْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ) . عقدُ الإزار على القفا فى الصلاة إذا لم يكن مع الإزار سراويل ولا مئرز، وهو معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (زره ولو بشوكة) ، وهذا كله تأكيد فى ستر العورة فى الصلاة؛ لأنه إذا عقد إزاره فى قفاه وركع لم تبد عورته، فكذلك كان أصحاب الرسول يعقدون أزرهم فى الصلاة إذا لم يكن تحتها ثوب آخر. وفى حديث جابر من الفقه أن العالم قد يأخذ بأيسر الشىء وهو يقدر على أكثر منه توسعة على العامة وليقتدى به؛ ألا ترى أنه صلى فى ثوب واحد وثيابه على المشجب. ففى ذلك جواز الصلاة فى الثوب الواحد لمن يقدر على أكثر منه، وهو قول جماعة من الفقهاء إلا أنه قد روى عن ابن عمر خلاف ذلك، وروى عن ابن مسعود مثل قول ابن عمر، وسأذكره فى الباب بعد هذا، إن شاء الله تعالى، وروى ابن جريج، عن نافع أن ابن عمر كساه فدخل المسجد، فوجده يصلى متوشحًا، فقال له: أليس لك ثوبان؟ قال: بلى، قال: أرأيت لو استعنت بك وراء الدار كنت لابسهما؟ قال: نعم، قال: فالله أحق أن تتزين له، فأخبره عن النبى، أو عن عمر، قال: لا يشتمل أحدكم فى الصلاة اشتمال اليهود، ومن كان له ثوبان فليتزر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 وليرتد، ومن لم يكن له ثوبان فليتزر ثم يصلى، وقد رواه موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن الرسول من غير شك. قال الطحاوى: وقد روى هذا الحديث عن ابن عمر غير نافع، فذكره سالم لا عن الرسول ورواه الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن ابن عمر، عن أبيه. . . فذكره، وسالم أثبت من نافع وأحفظ، ولم يذكر فيه الرسول ورواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر: (أنه كسا نافعًا ثوبين، فقام يصلى فى ثوب واحد فعاب ذلك عليه، وقال: احذر ذلك؛ فإن الله أحق من تجمل له) ، لم يذكر فيه رسول الله ولا عمر. وقد روى عن النبى: (الصلاة فى ثوب واحد) جماعة منهم: جابر، وأبو هريرة، وعمر ابن أبى سلمة، وسلمة بن الأكوع، وهذه أحاديث تضاد ما روى عن ابن عمر فى منع الصلاة فى الثوب الواحد، وبها أخذ الفقهاء ولم يتابع ابن عمر على قوله فى ذلك. و (المشجب) عود ينصب فى البيوت تعلق فيه الثياب. وفى قول جابر للذى أنكر عليه الصلاة فى ثوب واحد: (إنما فعلت ذلك ليرانى أحمق مثلك) ، أنه لا بأس للعالم أن يصف بالحمق من جهل دينه، وأنكر على العلماء ما غاب عنه علمه من السُّنة، وقد قال فى حديث آخر: (أحببت أن يرانى الجهال مثلكم) ، فجعل الحمق كناية عن الجهل، ذكره فى باب الصلاة بغير رداء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 4 - باب الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ مُلْتَحِفًا بِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: الْمُلْتَحِفُ الْمُتَوَشِّحُ، وَهُوَ الْمُخَالِفُ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ، وَهُوَ الاشْتِمَالُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وقَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ: الْتَحَفَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) بِثَوْبٍ وَخَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ. / 6 - فيه: عمر بن أبى سلمة: أن نبى الله صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ قَدْ خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ. / 7 - وقال مرة: (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، مُشْتَمِلا بِهِ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَاضِعًا طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ) . / 8 - وفيه: أم هانئ: (أنها رأت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عام الفتح يصلى مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ) . / 9 - وفيه: أبو هريرة (أَنَّ سَائِلا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الصَّلاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ) ؟ قال المؤلف: التوشح هو نوع من الاشتمال تجوز الصلاة به؛ لأن فيه مخالفة لطرفى الثوب على عاتقه كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (من صلى فى ثوب واحد، فليخالف بين طرفيه) ، واشتمال الصماء المنهى عنه بخلاف ذلك. وقال ابن السكيت: التوشيح هو أن يأخذ طرف الثوب الذى ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى، ويأخذ طرفه الذى ألقاه على عاتقه الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقد طرفهما على صدره، ومعنى مخالفته بين طرفيه لئلا ينظر المصلى من عورة نفسه إذا ركع، وقد تقدم فى الباب قبل هذا أن الفقهاء مجمعون على جواز الصلاة فى ثوب واحد، وقد روى عن ابن مسعود خلاف ذلك، كما روى عن ابن عمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 ذكر عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن الحسن قال: اختلف أبى بن كعب، وابن مسعود فى الصلاة فى الثوب الواحد، فقال أُبى: لا بأس به، وقد صلى فيه النبى، عليه السلام، فالصلاة فيه اليوم جائزة، وقال ابن مسعود: إنما كان ذلك إذ كان الناس لا يجدون ثيابًا، فأما إذا وجدوها، فالصلاة فى ثوبين، فقام عمر على المنبر، فقال: الصواب ما قال أُبى، ولم يَأْلُ ابن مسعود. قال الطحاوى: وقد تواترت الأخبار عن النبى (صلى الله عليه وسلم) بالصلاة فى الثوب الواحد منتوشحًا به فى حال وجود غيره، وذلك أن السائل سأل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أبى هريرة: أيصلى أحدنا فى ثوب واحد؟ فأجابه جوابًا مطلقًا، فقال: (أو كلكم يجد ثوبين) ، أى: لو كانت الصلاة مكروهة فى الثوب الواحد لكرهت لمن لا يجد إلا ثوبًا واحدًا، ودل جوابه ذلك أن حكم الصلاة فى الثوب الواحد لمن يجد الثوبين كهو فى الصلاة فى الثوب الواحد لمن لا يجد غيره. قال غيره: وفهم من قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أو لكلكم ثوبان) ، أن من صلى فى أكثر من ثوب واحد فقد أحسن؛ ألا ترى قول عمر: (الصواب ما قال أُبى، ولم يأل ابن مسعود) ، أى: لم يقصر فى الاجتهاد، وإن كان قد حكم لأبى بالصواب، فهذا من قول عمر، يوافق ما روى عن الرسول من إجازته الصلاة فى ثوب واحد لمن وجد غيره، وهو أولى أن يؤخذ به مما روى عن ابن عمر وغيره مما يخالف ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 5 - باب إِذَا صَلَّى فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَلْيَجْعَلْ عَلَى عَاتِقَيْهِ / 10 - فيه: أبو هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ يُصَلِّى أَحَدَكُم فِى الثَّوْبِ الوَاحِد لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيهِ شَىء) . / 11 - وقال مرة: سمعت الرسول يقول: (مَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَلْيُخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ) . إنما أمر الرسول من صلى فى ثوب واحد أن يجعله على عاتقيه إذا لم يكن متزرًا؛ لأنه إذا لم يكن متزرًا لم يأمن أن ينظر من عورة نفسه فى صلاته، فإذا جعله على عاتقيه وخالف بين طرفيه أمن من ذلك، واستترت عورته، على ما تقدم فى الباب قبل هذا، وإنما هذا فى الثوب إذا كان واسعًا، فحينئذ يجعله على عاتقيه، وأما إذا كان ضيقًا، فإنه يتزر به على ما يأتى فى الباب بعد هذا، إن شاء الله، وهذا كله تأكيد فى ستر العورة فى الصلاة. 6 - باب إِذَا كَانَ الثَّوْبُ ضَيِّقًا / 12 - فيه: جابر أنه سئل عَنِ الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، فَقَالَ: (خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَجِئْتُ لَيْلَةً لِبَعْضِ أَمْرِي، فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، وَعَلَيَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فَاشْتَمَلْتُ بِهِ، وَصَلَّيْتُ إِلَى جَانِبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: مَا السُّرَى يَا جَابِرُ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِحَاجَتِي، فَلَمَّا فَرَغْتُ، قَالَ: مَا هَذَا الاشْتِمَالُ الَّذِي رَأَيْتُ؟ قُلْتُ: كَانَ ثَوْبٌ وَاحِدٌ قَالَ: فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا، فَالْتَحِفْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 / 13 - وفيه: سهل بن سعد قال: (كَانَ رِجَالٌ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) عَاقِدِي أُزْرِهِمْ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، كَهَيْئَةِ الصِّبْيَانِ، وَيُقَالُ لِلنِّسَاءِ: لا تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا) . قال المؤلف: حديث جابر هذا يفسر حديث أبى هريرة الذى فى الباب قبل هذا أن النبى قال: (لا يصلين أحدكم فى الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شىء) ، أنه أراد الثوب الواسع الذى يمكن أن يشتمله، وأما إذا كان ضيقًا ولم يمكنه أن يشتمله فليتزر به كما قال (صلى الله عليه وسلم) . فإن قيل: قوله: (لا يصلين أحدكم فى الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شىء) ، هو نهى عن الصلاة فى الثوب الواحد متزرًا به. فظاهره: يعارض قوله: (فإن كان ضيقًا فليتزر به) ، ويعارض حديث بريدة الأسلمى أن الرسول نهى أن يصلى الرجل فى سراويل وحده، رواه ابن وهب، عن زيد بن الحباب، عن أبى المنيب، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه. قال الطحاوى: ومحمل النهى فى ذلك عندنا للواجد للغيره، وأما من لم يجد غيره فلا بأس بالصلاة فيه كما لا بأس بالصلاة فى الثوب الضيق متزرًا به فعلى هذا تتفق معانى الآثار ولا تتضاد. قال المؤلف: ويشهد لصحة ما قال الطحاوى، أن الذين كانوا يعقدون أزرهم على أعناقهم لم يكن لهم غيرها، والله أعلم؛ إذ لو كان لهم غيرها للبسوها فى الصلاة، وما احتيج أن ينهى النساء عن رفع رءوسهن حتى يستوى الرجال جلوسًا، وتختلف أحكامهم فى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 الصلاة، وذلك مخالف لقول الرسول فى الإمام: (فلا تختلفوا عليه) ، ولقوله: (فإذا رفع فارفعوا) ، ألا ترى أن عمرو بن سلمة حين كان يصلى بقومه، وتنكشف عورته، لم تكن له غير تلك الجبة القصيرة، فلما اشتريت له جبة سابغة تستره فى الصلاة، قال: فما فرحت بشىء فرحى بها. وفى حديث سهل أن الثوب إذا أمكن أن يشتمل به، وإن لم يكن سابغًا أن الاشتمال أولى به من الاتزار؛ لأن الاشتمال أستر للعورة من الاتزار ولذلك لم يؤمر الذين عقدوا أزرهم على عواتقهم بالاتزار بها، والله أعلم. وإنما نهى النساء عن رفع رءوسهن خشية أن يلمحن شيئًا من عورات الرجال عند الرفع من السجود، وهذا كله حماية من النظر إلى عورة المصلى، ولا خلاف بين العلماء أن المصلى إذا تقلص مئزره أو كشفت الريح ثوبه، فظهرت عورته، ثم رجع الثوب فى حينه وفوره أنه لا يضر ذلك المصلى شيئًا، وكذلك المأموم إذا رأى من العورة مثل ذلك لا تنتقض صلاته؛ لأنه إنما يحرم النظر مع العمد ولا يحرم النظر فجأة، وإذا صحت صلاة الإمام فأحرى أن تصح صلاة المأموم، وقال ابن القاسم فى العتبية: إن فرط فى رد إزاره، فصلاته وصلاة من تأمل عورته باطل. قال المهلب: والاشتمال الذى أنكره الرسول هو اشتمال الصماء المنهى عنه، وهو أن يجلل نفسه بثوبه، لا يرفع شيئًا من جوانبه، ولا يمكنه إخراج يديه إلا من أسفله، فيخاف أن تبدو عورته عند ذلك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 فلذلك قال له النبى: (إن كان واسعًا فالتحف به، وإن كان ضيقًا فاتزر به) . وقوله: (ما السُّرَى يا جابر؟) ، إنما سأله عن سُراه إذ علم أنه لا يأتيه أحد ليلاً إلا لحاجة، فسأله عن ذلك، يدل على ذلك قول جابر: فأخبرته بحاجتى، وفيه طلب الحوائج بالليل من السلطان لخلاء موضعه وسره. 7 - باب الصَّلاةِ فِي الْجُبَّةِ الشَّامِيَّةِ وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي الثِّيَابِ يَنْسُجُهَا الْمَجُوس لَمْ يَرَ بِهَا بَأْسًا. وَقَالَ مَعْمَرٌ: رَأَيْتُ الزُّهْرِيَّ يَلْبَسُ مِنْ ثِيَابِ الْيَمَنِ مَا صُبِغَ بِالْبَوْلِ، وَصَلَّى عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي ثَوْبٍ غَيْرِ مَقْصُورٍ. / 14 - فيه: المغيرة بن شعبة قال: (كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فِي سَفَرٍ فَقَالَ: يَا مُغِيرَةُ خُذِ الإدَاوَةَ، فَأَخَذْتُهَا، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى تَوَارَى عَنِّي، وَقَضَى حَاجَتَهُ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَأْمِيَّةٌ، فَذَهَبَ لِيُخْرِجَ يَدَهُ مِنْ كُمِّهَا، فَضَاقَتْ، فَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ أَسْفَلِهَا، فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ، فَتَوَضَّأَ، وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ صَلَّى) . فيه من الفقه: إباحة لبس ثياب المشركين؛ لأن الشام كانت ذلك الوقت دار كفر، وكان ذلك فى غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة، وكانت ثياب المشركين ضيقة الأكمام. واختلف العلماء فى الصلاة فى ثياب الكفار، فذهب مالك وجمهور العلماء إلى أنه لا بأس بالصلاة فيما نسجوه، وكره مالك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 الصلاة فى ما لبسوه، وقال: إن صلى فيه فيعيد فى الوقت، وأجاز ذلك الكوفيون والثورى والشافعى، وقالوا: لا بأس بلباسها، وإن لم تغسل حتى يتبين فيها النجاسة، إلا أن أبا حنيفة، قال: أما السراويل، والأزر فأكره أن يلبسها المسلم إلا بعد الغسيل. وقال إسحاق: تُطهر جميع ثيابهم، وليس فى حديث الجبة الشامية ما يقطع به، وإن كان النبى غسلها قبل لباسه أم لا، فلا حجة فيه لواحد منهم، وأما صلاة الزهرى فى ثوب صبغ بالبول، فمعلوم أنه لم يصل فيه إلا بعد غسله وإنما على المرء أن يغسل ثوبه حتى يتيقن طهارته. وفيه: خدمة العالم فى السفر، وفيه إخراج اليد من أسفل الثوب إذا احتيج إلى ذلك. وفيه: لباس الثياب الضيقة الأكمام فى السفر، والثياب القصار كالأقبية وغيرها. 8 - باب كَرَاهِيَةِ التَّعَرِّي فِي الصَّلاةِ وَغَيْرِهَا / 15 - فيه: جابر: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ الْحِجَارَةَ لِلْكَعْبَةِ، وَعَلَيْهِ إِزَارُهُ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ: يَا ابْنَ أَخِي لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ، فَجَعَلْتَ عَلَى مَنْكِبَيْكَ دُونَ الْحِجَارَةِ، قَالَ: فَحَلَّهُ، فَجَعَلَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَمَا رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْيَانًا (صلى الله عليه وسلم)) . بنيان الكعبة كان والنبى غلام قبل البعثة بمدة، وقيل: كان يومئذ ابن خمسة عشر عامًا، وقد بعثه الله بالرسالة إلى خلقه، وعلَّمه ما لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 يكن يعلم، وأنزل عليه فى القرآن ما حمله أن يأمر: (ألا يطوف بالبيت عريانًا) ، ونسخ بذلك ما كانوا عليه من جاهليتهم من مسامحتهم فى النظر إلى العورات، وكان قد جبله الله على جميل الأخلاق وشريف الطباع، ألا ترى أنه غشى عليه وما رُئى بعد ذلك عريانًا. وفائدة هذا الحديث قوله: (فما رُئى بعد ذلك عريانًا) . ففيه أنه لا ينبغى التعرى للمرء بحيث تبدو عورته لعين الناظر إليها، والمشى عريانًا بحيث لا يأمن أعين الآدميين إلا ما رُخص فيه من رؤية الحلائل لأزواجهن عراةً. قال الطبرى: وقد حدثنا ابن حميد، عن هارون بن المغيرة، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن العباس بن عبد المطلب، وذكر الحديث وقال فيه: أنه لما سقط النبى (صلى الله عليه وسلم) نظر إلى السماء وأخذ إزاره، وقال: (نُهيت عن أن أمشى عريانًا) ، فقلت: (اكتمها الناس مخافة أن يقولوا مجنون) . فدل هذا الحديث أنه لا يجوز التعرى فى الخلوة ولا لأعين الناس. وقيل: إنما مخرج القول منه لذلك الحال التى كان عليها، فحيث كانت قريش نساؤها ورجالها تنقل معه الحجارة، فقال: (نهيت أن أمشى عريانًا) ، فى مثل هذه الحالة ولو كان ذلك نهيًا من الله له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 عن التعرى فى كل مكان لكان قد نهاه عن التعرى للغسل من الجنابة فى الموضع الذى قد أمن أن يراه فيه أحد إلا الله، إذ كان المغتسل لا يجد بدًا من التعرى، ولكنه نُهى عن التعرى بحيث يراه أحد. وفى نهيه عليه السلام، عن المشى عريانًا بيان أنه لا يجوز القعود عريانًا فى موضع يكون معناه معنى الموضع الذى نهى فيه عن المشى عريانًا، وذلك القعود بحيث يراه من لا يحل له أن يرى عورته؛ فكان القعود عريانًا فى معنى المشى عريانًا، ولذلك نهى النبى عن دخول الحمام بغير إزار. فإن قيل: فما أنت قائل فى حديث القاسم، عن أبى أمامة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، أنه قال: (لو استطيع أن أوارى عورتى من شعارى لواريتُها) ، وفى قول على بن أبى طالب، رضى الله عنه: (إذا كشف الرجل عورته أعرض عنه الملك) ، وفى قول أبى مجلز قال: قال أبو موسى الأشعرى: (إنى لأغتسل فى البيت المظلم فما أقيم صُلبى حياءً من ربى) . قال الطبرى: قيل له: حديث أبى أمامة إن صح عن الرسول، فهو منه محمول على وجه الاستحباب، لاستعمال السترة والندب لأمته إلى ذلك؛ وكذلك كان ذلك من على وأبى موسى لا على أنهما رأيا أن ذلك حرام؛ لأن الله لا يغيب عنه شىء من خلقه عراةً كانوا أو عليهم ثياب، فلا وجه لترك إقامة الصلب عند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 الاغتسال ولو كان العبد إذا لم يقم صلبه استتر من جسده عن ربه شىء كان ذلك معنى صحيحًا؛ فأما وهو لو انطبق بعضه على بعض لم يغب شىء من أجزاء جسده عن عين ربه، تعالى ذكره، فلا وجه لترك إقامة الصلب عند الاغتسال فى الخلوة حياءً من الله، تعالى، بل ذلك داعية إلى أن يكون سببًا لتضييع غسل بعض جسده أقرب منه إلى أن يكون حياءً من الله. 9 - باب الصَّلاةِ فِي الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالتُّبَّانِ وَالْقَبَاءِ / 16 - فيه: أبو هريرة: أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، فَقَالَ: أَوَكُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ) . ثُمَّ سَأَلَ رَجُلٌ عُمَرَ فَقَالَ: إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ: فَأَوْسِعُوا، جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، صَلَّى رَجُلٌ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ، فِي إِزَارٍ وَقَمِيصٍ، فِي إِزَارٍ وَقَبَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ، قَالَ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: فِي تُبَّانٍ وَرِدَاءٍ. / 17 - وفيه: ابن عمر: سَأَلَ رَجُلٌ النبى (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟ فَقَالَ: لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلا السَّرَاوِيلَ وَلا الْبُرْنُسَ. . .) الحديث. قال المهلب: اللازم من الثياب فى الصلاة ثوب واحد ساتر للعورة، وقول عمر: (إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا، جمع رجل عليه ثيابه. . .) ، يدل على ذلك، وجمع الثياب فى الصلاة اختيار واستحسان وعليه جماعة الفقهاء، والله أحق من تجمل له. وقول عمر: (فى تبان ورداء) ، يدل أن الرداء يشتمل فى الصلاة؛ لأنه لا يكون الرداء مع التبان والسراويل الكاملة إلا مشتملاً به، وقال الخليل: التبان يشبه سراويل صغير، تذكره العرب. وقد اختلف أصحاب مالك فيمن صلى فى سراويل وهو قادر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 على التبان؛ ففى المدونة: لا يعيد فى وقت ولا غيره، وفى المجموعة عن ابن القاسم مثله، وعن أشهب: عليه الإعادة فى الوقت؛ وعن أشهب أيضًا أن صلاته تامة إن كان صفيقًا. وقول عمر: (جمع رجل عليه ثيابه) ، يعنى ليجمع عليه ثيابه وليصلى فيها، فجاء بلفظ الفعل الماضى وهو يريد المستقبل، وذلك كثير فى التنزيل كقوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس) [المائدة: 116] ، والمعنى: إذ يقول الله دل على ذلك قول عيسى: (ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به أن اعبدوا الله ربى وربكم وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم فلما توفيتنى) [المائدة: 117] ، فدل قوله: (فلما توفيتنى (أن هذا الكلام إنما يكون بعد وفاة عيسى ومبعثه يوم القيامة. - باب مَا يَسْتُرُ مِنَ الْعَوْرَةِ / 18 - فيه: أبو سعيد وأبو هريرة: أَنَّ الرَسُولُ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ) . / 19 - وفيه: أبو هريرة قال: (بَعَثَنِي الرسول (صلى الله عليه وسلم) نُؤَذن يوم النحر بِمِنًى: أَنْ لا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ) . قال أبو عبيد: (اشتمال الصماء عند العرب: أن يشتمل الرجل بثوب فيجلل به جسده كله، ولا يرفع منه جانبًا فيخرج منه يده، قال: وربما اضطجع فيه على هذه الحال، كأنه يذهب إلى أنه لا يدرى لعله يصيبه شىء يريد الاحتراس منه والاتقاء بيديه، فلا يقدر، لإدخالهما فى ثيابه، فهذا كلام العرب، وأما تفسير الفقهاء فهو عندهم مثل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 الاضطباع، وهو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره، ويرفعه من أحد جانبيه، فيضعه على منكبيه، فيبدو منه فرجه) . إلا أن الاضطباع أن يدخل الثوب تحت يده اليمنى، ويبرز منكبه الأيمن، وقد ذكر البخارى فى كتاب اللباس فى حديث أبى هريرة، وأبى سعيد عن النبى تفسير اشتمال الصماء والاحتباء؛ قال: (الصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب) ، وهو نحو ما حكاه أبو عبيد عن الفقهاء؛ واختلف قول مالك فى اشتمال الصماء إذا كان تحتها ثوب فمرة أجازها ومرة كرهها. والاحتباء: هو أن يحتزم بالثوب على حقويه وركبتيه وفرجه بادٍ، كانت العرب تفعله؛ لأنه أرفق لها فى جلوسها، وفى حديث أبى سعيد، وأبى هريرة فى اللباس قال: الاحتباء أن يحتبى فى ثوب وهو جالس ليس على فرجه منه شىء. وقال الخطابى: الاحتباء أن يجمع ظهره ورجليه بثوب، يقال: العمائم تيجان العرب، والحباء حيطانها، يقال: حبْوَة، وحُبُوَة والكسر أعلى. والاحتباء على ثوب جائز؛ لأن رسول الله إنما نهى عنه إذا كان كاشفًا عن فرجه. وكره الصلاة محتبيًا: ابن سيرين، وأجازها الحسن، والنخعى، وعروة، وسعيد بن المسيب، وعبيد بن عمير، وكان سعيد بن جبير يصلى محتبيًا فإذا أراد أن يركع حلّ حبوته ثم قام وركع، وصلى التطوع محتبيًا عطاء، وعمر بن عبد العزيز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 واختلف العلماء فى حدِّ العورة، فقالت طائفة: لا عورة من الرجال إلا القبل والدبر، هذا قول ابن أبى ذئب وأهل الظاهر، وعند مالك حَدُّ العورة: ما بين السرة إلى الركبة وهو قول أبى حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأبى ثور، وليست السُّرة والركبة عندهم بعورة غير أبى حنيفة، فإن الركبة عنده عورة، وهو قول عطاء، وأحمد، وعند بعض أصحاب الشافعى: السُّرة عورة. وجه القول الأول: (نهيه عن اشتمال الصماء، وأن يحتبى فى ثوب واحد ليس على فرجه منه شىء) ، وقوله تعالى: (قد أنزلنا عليكم لباسًا يوارى سوءاتكم) [الأعراف: 26] ، وقال: (فبدت لهما سوءاتهما) [الأعراف: 22] ، وقال: (يوارى سوءة أخيه) [المائدة: 31] ، فدل أنه لا عورة غير السوءة. وحجة من قال: ما بين السُّرة إلى الركبة عورة، قوله (صلى الله عليه وسلم) لجرهد: (الفخذ عورة) ، ومنعهم من كشف الفخذ كمنعهم من الرعى حول الحمى. وحجة من قال: إن السُّرة ليست بعورة أن النبى قبّل سُرة الحسن بن على، وأن أبا هريرة سأل الحسن كشف سُرته فقبلها، وقال: أقبل منك ما رأيت رسول الله يقبله، ولو كانت عورة ما قَبَّلها أبو هريرة ولا مكنه الحسن منها، وقال الآخرون: ليس هذا بحجة؛ لأن عورات الصبيان ليست بمحرمة؛ لأنه لا يلزمهم الأحكام والحدود. - باب الصَّلاةِ بِغَيْرِ رِدَاءٍ / 20 - فيه: جابر (أنه صلى فى ثوب واحد وَرِدَاؤُهُ مَوْضُوعٌ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 قُلْنَا يَا أَبَا عَبْدِاللَّهِ، تُصَلِّي وَرِدَاؤُكَ مَوْضُوعٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَحْبَبْتُ أَنْ يَرَانِي الْجُهَّالُ مِثْلُكُمْ، رَأَيْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي هَكَذَا. كل من صلى بغير رداء إذا كان عليه قميص، فلا يكره له ذلك أحد من العلماء إلا أن مالكًا ذكر عنه ابن عبد الحكم أنه قال: لا يصلى إمام إلا برداء إلا من ضرورة وهذا على الاستحسان فى كمال أحوال الأئمة، ولو كان من جهة الوجوب، لكان الإمام والمأموم فيه سواء. - باب مَا يُذْكَرُ فِي الْفَخِذِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَرْهَدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) الْفَخِذُ عَوْرَةٌ. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: حَسَرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ فَخِذِهِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَسْنَدُ، وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ أَحْوَطُ، حَتَّى يُخْرَجَ مِنِ اخْتِلافِهِمْ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى: غَطَّى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) رُكْبَتَيْهِ حِينَ دَخَلَ عُثْمَانُ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) وَفَخِذُهُ، عَلَى فَخِذِي فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنْ تَرُضَّ فَخِذِي. / 21 - فيه: أنس: أن نبى الله (صلى الله عليه وسلم) غَزَا خَيْبَرَ، فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا صَلاةَ الْغَدَاةِ بِغَلَسٍ، فَرَكِبَ نَبِيُّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَرَكِبَ أَبُو طَلْحَةَ، وَأَنَا رَدِيفُ أَبِي طَلْحَةَ، فَأَجْرَى نَبِيُّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ، وَإِنَّ رُكْبَتِي لَتَمَسُّ فَخِذَ نَبِيِّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ حَسَرَ الإزَارَ عَنْ فَخِذِهِ، حَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ فَخِذِ نَبِيِّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : فَلَمَّا دَخَلَ الْقَرْيَةَ، قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ) ، وذكر الحديث. قال المؤلف: احتج بحديث أنس، وحديث زيد بن ثابت من قال: إن الفخذ ليست بعورة؛ لأنها لو كانت عورة يجب سترها ما كشفها النبى يوم خيبر، ولا تركها مكشوفة بحضرة أبى بكر وعمر، وقد قال الأوزاعى: (الفخذ عورة وليست بعورة فى الحمام) ، فدل أنها لا تقوى عندهم قوة العورة، وإن كانوا يأمرون بسترها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 قال المهلب: وإنما ذلك خوف النظر إلى العورة والذريعة إليها، فيكون معنى قوله: (الفخذ عورة) ، على المقاربة والجوار، وقد أجمعوا أن من صلى منكشف القبل والدبر، أن عليه الإعادة واختلفوا فيمن صلى منكشف الفخذ، فدل أن حكمه مخالف لحكم القبل والدبر لاختلاف المعنى فى ذلك. فإن قال قائل: لم غطى النبى ركبته حين دخل عليه عثمان بن عفان؟ . قيل: قد بَيَّن النبى، معنى ذلك بقوله: (ألا أستحى ممن تستحيى منه ملائكة السماء) ، وإنما كان يخص كل واحد من أصحابه من الفضائل بما يتبين به عن غيره، ويمتاز به عمن سواه، وإن كان قد شركه غيره من أصحابه فى معنى تلك الفضيلة، وله النصيب الوافر منها غير أنه عليه السلام، إنما كان يصف كل واحد من أصحابه بما هو الغالب عليه من أخلاقه وهو مشهور فيه؛: فلما كان الحياء الغالب على عثمان استحيا منه، وغطى ركبته بحضرته، وذكر أن الملائكة تستحيى منه فكانت المجازاة له من جنس فعله. - باب فِي كَمْ تُصَلِّي الْمَرْأَةُ من الثِّيَابِ؟ وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَوْ وَارَتْ جَسَدَهَا فِي ثَوْبٍ جَازَ. / 22 - فيه: عائشة قالت: (لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي الْفَجْرَ، فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ مُتَلَفِّعَاتٍ فِي مُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَرْجِعْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ، مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 اختلف العلماء فى عدد ما تصلى فيه المرأة من اليثاب، فقالت طائفة: تصلى فى درع وخمار، وروى ذلك عن ميمونة، وعائشة، وأم سلمة أزواج الرسول، ورُوى أيضًا ذلك عن ابن عباس، وهو قول مالك، والليث، والأوزاعى، والثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وقالت طائفة: إنما تصلى فى ثلاثة أثواب: درع، وخمار، وحَقْو، وهو الإزار فى لغة الأنصار، روى ذلك عن ابن عمر، وعبيدة، وعطاء، وقالت طائفة: تصلى فى أربعة أثواب وهو: الخمار، والدرع، والإزار، والملحفة، وروى ذلك عن مجاهد، وابن سيرين. وقال ابن المنذر: على المرأة أن تستر فى الصلاة جميع بدنها سوى وجهها وكفيها سواء سترته بثوب واحد أو أكثر، ولا أحسب ما روى عن المتقدمين فى ذلك من الأمر بثلاثة أثواب أو أربعة إلا من طريق الاستحباب، والله أعلم. قال غيره: لأن صلاة النساء المتلفعات مع النبى يحتمل أن تكون بثوب واحد والمرأة كلها عورة، حاشا ما يجوز لها كشفه فى الصلاة والحج، وذلك وجهها وكفاها فإن المرأة لا تلبس القفازين محرمة، ولا تنتقب فى الصلاة ولا تتبرقع فى الحج، وأجمعوا أنها لا تصلى منتقبة ولا متبرقعة، وفى هذا أوضح دليل على أن وجهها وكفيها ليس بعورة، ولهذا يجوز النظر إلى وجهها فى الشهادة عليها، وقال أبو بكر بن عبد الرحمن: كل شىء من المرأة عورة حتى ظفرها، وهذا قول لا نعلم أحدًا قاله إلا أحمد بن حنبل، وقال مالك، والشافعى: قدم المرأة عورة، فإن صلت وقدمها مكشوفة أعادت فى الوقت عند مالك، وكذلك إن صلت وشعرها مكشوف، وعند الشافعى تعيد أبدًا، وقال أبو حنيفة، والثورى: قدم المرأة ليست بعورة، فإن صلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 وقدمها مكشوفة لم تُعد، واختلفوا فى تأويل قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) [النور: 31] ، فروى عن ابن عباس، وابن عمر قالا: الوجه والكفان، وعن ابن مسعود: التبان، والقرط، والدملج، والخلخال، والقلادة، وعلى قول ابن عباس، وابن عمر جماعة الفقهاء. والمروط: أكسية من صوف، واحدها مرط. - باب إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ لَهُ أَعْلامٌ وَنَظَرَ إِلَيهَا / 23 - فيه: عائشة: (أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلامٌ، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلامِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ، وَائَتُونِى بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلاتِي) ، وقال مرة: (كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى عَلَمِهَا وَأَنَا فِي الصَّلاةِ، فَأَخَافُ أَنْ تَفْتِنَنِى) . قال المؤلف: النظر فى الصلاة إلى الشىء إذا لم يقدح فى الركوع والسجود لا يفسد الصلاة، وإن كان مكروهًا كل ما يشغل المصلى عن صلاته ويلهيه عن الخشوع، فلما شغلته عليه السلام، عن بعض خشوعه تشاءم بها وردها، وقال سفيان بن عيينة: إنما رد رسول الله الخميصة إلى أبى جهم؛ لأنها كانت سبب غفلته وشغله عن ذكر الله، كما قال: (اخرجوا عن هذا الوادى الذى أصابكم فيه الغفلة، فإنه وادٍ به شيطان) ، قال: ولم يكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليبعث إلى غيره بشىء يكرهه لنفسه؛ ألا ترى قوله عليه السلام، لعائشة فى الضب: (إنا لا نتصدق بما لا نأكل) ، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أقوى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 خلق الله على دفع الوسوسة، ولكن كرهها لدفع الوسوسة كما قال لعائشة: (أميطى عنا قرامك، فإنه لا تزال تصاويره تعرض لى فى صلاتى) . وفى ردّه (صلى الله عليه وسلم) الخميصة تنبيه منه وإعلام أنه يجب على أبى جهم من اجتنابها فى الصلاة مثلما وجب على النبى؛ لأن أبا جهم أحرى أن يعرض له من الشغل بها أكثر مما خشى الرسول، ولم يُرد النبى برد الخميصة عليه منعه من تملكها ولباسها فى غير الصلاة، وإنما معناها كمعنى الحُلة التى أهداها لعمر بن الخطاب، وحرَّم عليه لباسها وأباح له الانتقاع بها وبيعها. وفيه دليل: أن الواهب والمُهدى إذا ردت عليه هديته من غير أن يكون هو الراجع فيها، فله أن يقبلها؛ إذ لا عار عليه فى قبولها. وفيه: أن النبى آنس أبا جهم ردها إليه بأن سأله ثوبًا مكانها يعلمه أنه لم يرد عليه هديته استخفافًا به، ولا كراهة لكسبه. وفيه: تكنية الإمام والعالم لمن هو دونه. قال أبو عبيد: و (الخميصة) كساء مُرَبَّع أسود له علمان، وقال ثعلب: (أنبجانية) ، بفتح الباء وكسرها، كل ما كثف والتف، قالوا: شاة أنبجانية كثيرة الصوف ملتفة، وقال الأصمعى: يقال: كساء منبجانى منسوب إلى منبج، ولا يقال: أنبجانى، قال أبو حاتم: قلت: لم فتحت الباء وإنما نسبت إلى منبج، قال: خرج مخرج منظرانى ومخيرانى ألا ترى أن الزيادة فيه، والنسب مما يتغير له البناء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 - باب إِنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ مُصَلَّبٍ أَوْ تَصَاوِيرَ هَلْ تَفْسُدُ صَلاتُهُ وَمَا يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ / 24 - فيه: أنس قال: (كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا، فَإِنَّهُ لا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ فِي صَلاتِى) . فهذا الباب يشبه الذى قبله؛ لأنه لما نهى عن القرام الذى فيه التصاوير، علم أن النهى عن لباسه أشد وأوكد، وهذا كله على الكراهية، ومن صلى بذلك أو نظر إليه، فصلاته مجزئة عند العلماء؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يُعد الصلاة. قال المهلب: وإنما أمر باجتناب مثل هذا لإحضار الخشوع فى الصلاة وقطع دواعى الشغل، والقرام: ثوب صوف ملوّن، عن الخليل. - باب مَنْ صَلَّى فِي فَرُّوجِ حَرِيرٍ ثُمَّ نَزَعَهُ / 25 - فيه: عقبة بن عامر قال: (أُهْدِيَ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَرُّوجُ حَرِيرٍ، فَلَبِسَهُ فَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَنَزَعَهُ نَزْعًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ، وَقَالَ: لا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ) . قال أبو عبيد: الفروج: القَبَاء الذى فيه شق من خلفه، وهو من لباس الأعاجم. اختلف العلماء فيمن صلى فى ثوب حرير، فقال الشافعى، وأبو ثور: يجزئه ويكره، وقال ابن القاسم، عن مالك: من صلى بثوب حرير يعيد فى الوقت إن وجد ثوبًا غيره، وعليه جُلُّ أصحابه، وقال أشهب فى كتاب ابن المواز: لا إعادة عليه فى وقت ولا غيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 وهو قول أصبغ، ورواه عبد الملك بن الحسن، عن ابن وهب فى العتبية، واستحب ابن الماجشون لباس الحرير فى الحرب والصلاة به للترهيب على العدو والمباهاة؛ ذكره ابن حبيب، وقال آخرون: إن صلى بثوب حرير، وهو يعلم أن ذلك لا يجوز أعاد الصلاة، ومن أجاز الصلاة فيه احتج بأنه لم يُرو عن الرسول أنه أعاد الصلاة التى صلى فيه، ومن لم يجز الصلاة فيه أخذ بعموم تحريمه عليه السلام، لباس الحرير للرجال. - باب الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الأحْمَرِ / 26 - فيه: أبو جحيفة: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ، وَرَأَيْتُ بِلالا أَخَذَ وَضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَرَأَيْتُ النَّاسَ يَبْتَدِرُونَ ذَلِكَ الْوَضُوءَ، فَمَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئًا تَمَسَّحَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئًا أَخَذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صَاحِبِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ بِلالا أَخَذَ عَنَزَةً، فَرَكَزَهَا، وَخَرَجَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، مُشَمِّرًا صَلَّى إِلَى الْعَنَزَةِ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ، وَرَأَيْتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ، يَمُرُّونَ مِنْ بَيْنِ يَدَيِ الْعَنَزَةِ) . قال المهلب: فيه إباحة لباس الحمرة فى الثياب، والرد على من كره ذلك وأنه يجوز لباس الثياب الملونة للسيد الكبير والزاهد فى الدنيا، والحمرة أشهر الملونات وأجل الزينة فى الدنيا، وقد قيل فى قوله تعالى: (فخرج على قومه فى زينته) [القصص: 79] ، أنه خرج فى ثياب حُمر، ويؤيد هذا قوله تعالى: (قل من حرم زينة الله) [الأعراف: 32] ، فدخل فيه كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 زينة مباحة، وسيأتى قول من كره لباس الثياب الحمر، ومن أجازها فى كتاب اللباس إن شاء الله. - باب الصَّلاةِ فِي السُّطُوحِ وَالْمِنْبَرِ وَالْخَشَبِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بَأْسًا أَنْ يُصَلَّى عَلَى الْجُمْدِ وَالْقَنَاطِرِ، وَإِنْ جَرَى تَحْتَهَا بَوْلٌ أَوْ فَوْقَهَا أَوْ أَمَامَهَا، إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا سُتْرَةٌ. وَصَلَّى أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ بِصَلاةِ الإمَامِ وَصَلَّى ابْنُ عُمَرَ عَلَى الثَّلْجِ. / 27 - فيه: أبو حازم: سَأَلُوا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ الْمِنْبَرُ؟ فَقَالَ: مَا بَقِيَ بِالنَّاسِ أَعْلَمُ مِنِّي، هُوَ مِنْ أَثْلِ الْغَابَةِ، عَمِلَهُ فُلانٌ مَوْلَى فُلانَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ عُمِلَ، وَوُضِعَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ كَبَّرَ، وَقَامَ النَّاسُ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَرَكَعَ النَّاسُ خَلْفَهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى، فَسَجَدَ عَلَى الأرْضِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى، حَتَّى سَجَدَ بِالأرْضِ، فَهَذَا شَأْنُهُ. قال على بن المدينى: سألنى أحمد بن حنبل، عن هذا الحديث قال: فإنما أردت أن النبى كان أعلى من الناس فلا بأس أن يكون الإمام أعلى من الناس لهذا الحديث، قال: فقلت: إن سفيان بن عيينة كان يسأل عن هذا كثيرًا، فلم تسمعه منه؟ قال: لا. / 28 - وفيه أنس: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سَقَطَ عَنْ فَرَسِ، فَجُحِشَتْ سَاقُهُ أَوْ كَتِفُهُ، وَآلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، فَجَلَسَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ دَرَجَتُهَا مِنْ جُذُوعٍ، فَأَتَاهُ أَصْحَابُهُ يَعُودُونَهُ، فَصَلَّى بِهِمْ جَالِسًا، وَهُمْ قِيَامٌ) ، وذكر الحديث. اختلف العلماء فى الإمام يصلى أرفع من المأمومين، فأجاز ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 الليث، والشافعى، واحتجا بهذا الحديث وزاد الشافعى: إذا أراد الإمام تعليمهم ليقتدى به من وراءه ويسجد على الأرض. وفيه: فلما فرغ النبى أقبل على الناس، فقال: (أيها الناس إنما صنعتُ هذا لتأتموا بى ولتعلموا صلاتى) . ذكره البخارى فى صلاة الجمعة وكره ذلك أبو حنيفة، وقال: صلاتهم تامة. وقال الأوزاعى: لا يجزئ ذلك حتى يستوى معهم بالأرض، وقال أبو يوسف: إن كان موضع الإمام أرفع بقدر قامة فهو المكروه، وإن كان أقل فليس بمكروه. وقد قيل: إن المنبر الذى صلى عليه الرسول كان بثلاث درجات، روى عن سهل بن سعد، وقال مالك: لا يعجبنى إن صلى إمام على ظهر المسجد والناس أسفل منه أو يصلى على شىء أرفع مما عليه أصحابه، فإن فعل فعليهم الإعادة أبدًا؛ لأنهم يعبثون إلا أن يكون ارتفاعًا يسيرًا فصلاتهم مجزئة. وقال ابن أبى زيد: قال بعض أصحابنا: إن الشبر وعظم الذراع خفيف فى ذلك، وقال فضل بن سلمة: وقوله: يعبثون يدل أنما ذلك إذا كان الإمام يصلى بموضع واسع ويصلى بصلاته ناس أسفل منه، وهو يقدرون على أن يصلوا معه فى مكانه، فأما إذا كان الموضع قد ضاق بأهله فلا بأس أن يصلى بصلاة الإمام ناس أسفل منه، وروى أشهب عن مالك، فيمن أتى مسجدًا مغلقًا قد امتلأ، فله أن يصلى أسفل فى الفضاء بصلاة الإمام، وروى ابن وهب عن مالك أنه إذا صلى إمام القوم فى السفينة وبعضهم فوقه وتحته ولم يجدوا بُدًا منه فلا بأس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 قال ابن اللباد: إنما كره مالك هذا؛ لأن بنى أمية فعلوه على وجه الكبر والجبرية فرآه من العبث ومما يفسد الصلاة، وقال غيره: لا معنى لقول من قال: (لا يجوز مثل هذا إلا إذا أراد أن يعلم الناس كما روى فى الحديث) ؛ لأن ذلك لو كان مُفسدًا للصلاة لم يجز أن يُفعل مرة فما دونها ولا لتعليم ولا غيره، وإنما الاختيار أن لا يُفعل، فإن فعل لم تفسد صلاته بدليل فعله صلى الله عليه مرةً، وأما تحديد القامة وغيرها فمحتاج إلى توقيف، ولا بأس أن يصلى المأموم على سطح والإمام أسفل المسجد عند الكوفيين، وهو قول مالك فى غير الجمعة. وقال الليث: لا بأس أن يصلى الجمعة ركعتين على ظهر المسجد وفى الدور وعلى الدكاكين، وفى الطرق إذا اتصلت الصفوف، ورأى الناس بعضهم بعضًا حتى يصلون بصلاة الإمام، وعن الشافعى مثله، وصلى أبو هريرة الجمعة فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام. وإنما ذكر حديث المشربة فى هذا الباب وهى الغرفة؛ لأنه عليه السلام صلى بهم على ألواحها وخشبها، وترجم (باب الصلاة على الخشب) ، واختلف فى ذلك؛ فذكر ابن أبى شيبة قال: كان حذيفة مريضًا، فكان يصلى قاعدًا فجعل له وسادة وجعل له لوح عليها يسجد عليه، وكره قوم السجود على العود، روى ذلك عن ابن عمر، وابن مسعود. قال علقمة: دخل عبد الله على أخيه عتبة يعوده فوجده يصلى على عود فطرحه، وقال: إن هذا شىء عرض به الشيطان، ضع وجهك على الأرض، وإن لم تستطع فأومئ إيماءً، وكرهه الحسن وابن سيرين، وأئمة الفتوى على جواز الصلاة عليه وحجتهم صلاته عليه السلام، على المشربة وعلى المنبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 - باب إِذَا أَصَابَ ثَوْبُ الْمُصَلِّي امْرَأَتَهُ إِذَا سَجَدَ / 29 - فيه: ميمونة قالت: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي، وَأَنَا حِذَاءَهُ، وَأَنَا حَائِضٌ، وَرُبَّمَا أَصَابَنِي ثَوْبُهُ إِذَا سَجَدَ، قَالَتْ: وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ) . وقد تقدم فى كتاب الوضوء جواز مباشرة الحائض للمصلى وغيره وأنها محمولة على الطهارة فى جسمها وثيابها حتى يبدو خلاف ذلك. وترجم له باب: الصلاة على الخمرة، قال الطبرى: الخُمرة: مصلى صغير ينسج من سعف النخل ويزمل بالخيوط ويسجد عليه، فإن كان كبيرًا قدر طول الرجل أو أكبر، فإنه يقال له حينئذ: حصير، ولا يقال له: خمرة، وقال ابن دريد: هى السجادة وجمعها خمر. ولا خلاف بين فقهاء الأمصار فى جواز الصلاة على الخمرة إلا شىء روى عن عمر ابن عبد العزيز أنه كان لا يصلى على الخمرة، ويؤتى بتراب فيوضع على الخمرة فى موضع سجوده ويسجد عليه، وقال شعبة، عن حماد: رأيت فى بيت إبراهيم النخعى حصيرًا، فقلت: أتسجد عليه؟ فقال: الأرض أحب إلىّ، وهذا منهما على جهة المبالغة فى الخشوع لا أنهما لم يريا السجود على الخمرة؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد صلى عليها، وقال سعيد بن المسيب: الصلاة على الخمرة سنة، فلا يجوز لهما مخالفة سنته عليه السلام، وإنما فعلا ذلك على الاختيار، إذ قد ثبت عنه عليه السلام، أنه كان يباشر الأرض بوجهه فى سجوده، وقد انصرف من الصلاة وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين؛ فذلك كله مباح بسنته عليه السلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 - باب الصَّلاةِ عَلَى الْحَصِيرِ وَصَلَّى جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ وَأَبُو سَعِيدٍ فِي السَّفِينَةِ قَائِمًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: (تُصَلِّى قَائِمًا، مَا لَمْ تَشُقَّ عَلَى أَصْحَابِكَ، تَدُورُ مَعَهَا، وَإِلا فَقَاعِدًا) . / 30 - فيه: أنس: (أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ لَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: قُومُوا، فَلأصَلِّ لَكُمْ، قَالَ أَنَسٌ: فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : وَصَفَفْتُ، وَالْيَتِيمَ وَرَاءَهُ، وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ) . لا خلاف بين الفقهاء فى جواز الصلاة على الحصير على ما ذكرناه فى الباب قبل هذا. قال المهلب: وفيه أنه ما يوطأ ويبسط فإنه ملبوس، فمن حلف أن لا يلبس ثوبًا وجلس عليه، فهو حانث إذا لم يخص وجهًا من اللباس. ونضح أنس للحصير إنما كان لِيَلينَ، لا لنجاسة كانت فيه، هذا قول إسماعيل بن إسحاق، وقال غيره: النضح طهارة لما شك فيه فنضحه لتطيب النفس عليه، وهذا كقول عمر: اغسل ما رأيت وانضح ما لم تر. قال المهلب: وفيه الإمامة فى النافلة، وفيه إجابة الطعام إلى غير الوليمة، وفيه أن المرأة المتجالة الصالحة إذا دعت إلى طعام أجيبت، وسيأتى بقية الكلام فى هذا الحديث فى موضعه بعد هذا، إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 وأما الصلاة فى السفينة، فأجاز قوم من السلف أن يصلوا فيها جلوسًا وهو قول الثورة وأبى حنيفة، وقال مالك، والشافعى: لا يجوز أن يصلى قاعدًا من يقدر على القيام فى سفينة ولا غيرها. - باب الصَّلاةِ عَلَى الْفِرَاشِ وَصَلَّى أَنَسٌ عَلَى فِرَاشِهِ. وَقَالَ كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَيَسْجُدُ أَحَدُنَا عَلَى ثَوْبِهِ. / 31 - فيه: عائشة أنها قالت: (كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَرِجْلايَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي، فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا، قَالَتْ: وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ) . / 32 - وقالت مرة: (أَنَّ النَّبِّى كَانَ يُصَلِّي - وَهِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ - عَلَى فِرَاشِ أَهْلِهِ اعْتِرَاضَ الْجَنَازَةِ) . / 33 - وقال عروة: (أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يُصَلِّي، وَعَائِشَةُ - مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ - عَلَى الْفِرَاشِ الَّذِي يَنَامَانِ عَلَيْهِ) . قال المؤلف: الصلاة جائزة على كل شىء طاهر فراشًا كان أو غيره. وقد اختلف العلماء فى اختيارهم بعض ما يصلى عليه دون غيره، فروى عن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، أنه صلى على عبقرى وهى الطنفسة، وعن على بن أبى طالب، وابن عباس، وابن مسعود، وأنس أنهم صلوا على المسوح، وصلى ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبو الدرداء، والنخعى، والحسن على طنفسة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 وصلى قيس بن عبادة على لِبْدِ دابة، وقال الثورى: يصلى على البساط والطنفسة واللِّبْد، وهو قول أبى حنيفة، والشافعى، وروى عن ابن مسعود أنه لا يسجد إلا على الأرض، وعن عروة مثله، وكرهت طائفة الصلاة إلا على الأرض أو نباتها، روى ذلك عن جابر بن زيد وقال: أكره الصلاة على كل شىء من الحيوان، وأستحب الصلاة على كل شىء من نبات الأرض، وهو قول مجاهد، وقال قتادة: قال سعيد بن المسيب: الصلاة على الطنفسة محدث، وقاله ابن سيرين أيضًا، وقال مالك فى بساط الصوف والشعر: إذا وضع المصلى جبهته ويديه على الأرض فلا أرى بالقيام عليها بأسًا، وعن عطاء مثله. وقال مغيرة: قلت لإبراهيم حين ذكر كراهية الصلاة على الطنفسة: إن أبا وائل يصلى عليها، قال: أما إنه خير منى. وفيه من الفقه: أن المرأة لا تبطل صلاة من صلى إليها ولا من مرت بين يديه، وهو قول جمهور الفقهاء ومعلوم أن اعتراضها بين يديه أشدّ من مرورها. وقولها: (ورجلاى فى قبلته فإذا سجد غمزنى) ، فيه دليل على أن الملامسة باليد لا تنقض الطهارة؛ لأن الأصل فى الرِّجْل أن تكون بلا حائل، وكذلك اليد حتى يثبت الحائل، وزعم الشافعى أن غمز رسول الله لها كان على ثوب وهو بعيد؛ لأنه يقول: إن الملامسة تنقض الوضوء وإن لم تكن معها لذة إذا أفضى بيده إلى جسم امرأته، وقد تقدم اختلافهم فى الملامسة فأغنى عن إعادته. وقول عائشة: (والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح) ، يدل أنه إذْ حدثت بهذا الحديث كانت المصابيح فى بيوتهم؛ لأن الله فتح عليهم الدنيا بعده (صلى الله عليه وسلم) فوسعوا على أنفسهم حين وسع الله عليهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 - باب السُّجُودِ عَلَى الثَّوْبِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الْقَوْمُ يَسْجُدُونَ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ، وَيَدَاهُ فِي كُمِّهِ. / 34 - فيه: أنس: (كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَيَضَعُ أَحَدُنَا طَرَفَ الثَّوْبِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ فِي مَكَانِ السُّجُودِ) . واختلف العلماء فى السجود على الثوب من شدة الحر والبرد، فرخص فى ذلك عمر ابن الخطاب، وعطاء، وطاوس، والنخعى، والشعبى، والحسن، وهو قول مالك، والأوزاعى، والكوفيين، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بهذا الحديث، وقال الشافعى: لا يجزئه السجود على الجبهة ودونها ثوب إلا أن يكون جريحًا، ورخص فى وضع اليدين على الثوب من شدة الحرِّ والبرد. واختلفوا فى السجود على كور العمامة، فرخص فيه: ابنُ أبى أوفى، والحسن، ومكحول، وسعيد بن المسيب، والزهرى، وهو قول أبى حنيفة، والأوزاعى، وقال مالك: أكرهه ويجوز، وقال ابن حبيب: هذا فيما خف من طاقاتها، فأما ما كثر فهو كمن لم يسجد، وكره على، وابن عمر، وعبادةُ السجود عليها، وعن النخعى، وابن سيرين، وعبيدة مثله. وقال الشافعى: لا يجزئ السجود عليها، وقال أحمد: لا يعجبنى إلا فى الحر والبرد، واحتج أصحاب الشافعى: بأنه لما لم يقم المسح على العمامة مقام مسح الرأس وجب أن يكون السجود كذلك. قال ابن القصار: والجواب أن الفرض فى السجود: التذلل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 والخشوع، فيكون العضو على الأرض وهو يحصل بحائل وبغير حائل، على أن اعتبارهم يفسده الرجلين؛ لأنه يسجد عليهما فى اللفافة والمسح عليهما لا يجوز، وقد أجمعوا أنه يجوز السجود على الركبتين والقدمان مستورة بالثياب، وهى بعض الأعضاء التى أمر المصلى بالسجود عليها، فكذلك سائر أعضاء السجود إلا ما أجمعوا عليه من كشف الوجه. فإن قالوا: لو جوزنا السجود على كور العمامة على حصير لجوزنا الجمع بين بدلين أحدهما الحصير الذى هو بدل الأرض والآخر العمامة التى هى بدل الجبهة ولا يصح الجمع بين بدلين فى موضع، ألا ترى أن التيمم بدل الماء ومسح الخفين بدل الرجلين، ولا يجوز الجمع بينهما، قيل: هذا ساقط لأننا لا نقول: إن الحصير بدل من الأرض، وإن العمامة بدل من الجبهة، بل هو مخير إن شاء باشر بجبهته الأرض، وإن شاء بحائل على جبهته وعلى الأرض، والمسح على الخفين هو مخير فيه أيضًا إن شاء مسح، وإن شاء غسل كالسجود، وليس التيمم كذلك وليس بدلاً، وكل حائل جاز السجود عليه منفصلاً جاز متصلاً، دليله: الركبتان والقدمان. وأجمع الفقهاء أنه يجوز السجود على اليدين فى الثياب، وإنما كره ذلك ابن عمر، وسالم، وبعض التابعين، وسيأتى بعض هذا المعنى فى باب: لا يكف شعرًا ولا ثوبًا فى الصلاة بعد هذا، إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 - باب إِذَا لَمْ يُتِمَّ السُّجُودَ / 35 - فيه: حُذَيْفَةَ: (أنه رَأَى رَجُلاً لا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَلا سُجُودَهُ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: مَا صَلَّيْتَ، قَالَ: وَأَحْسِبُهُ، قَالَ: لَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ سُنَّةِ مُحَمَّدٍ) . قال المهلب: قوله: (ما صليت) ، يعنى صلاة كاملة، ونفى عنه العمل؛ لقلة التجويد فيه، كما تقول للصانع إذا لم يجود: ما صنعت شيئًا، يريدون الكمال، ومثله قول الرسول للذى لم يحسن الصلاة: (ارجع فصل فإنك لم تصل) ، وإنما نقص من صلاته الطمأنينة فى الركوع والسجود وهى من كمال الصلاة. وقوله: (لو متَّ متَّ على غير سنة محمد) ، يدل أن الطمأنينة سنة، وسيأتى تمام هذا المعنى فى أبواب الركوع والسجود. - باب الصَّلاةِ فِي النِّعَالِ / 36 - فيه: أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قال: (كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ) . قال المؤلف: معنى هذا الحديث عند العلماء إذا لم يكن فى النعلين نجاسة فلا بأس بالصلاة فيهما، فإن كان فيهما نجاسة فليمسحهما وليصلى فيهما. وقد روى هذا المعنى عن النبى، روى حماد بن سلمة قال: حدثنا أبو نعامة السعدى، عن أبى نضرة، عن أبى سعيد الخدرى، قال: (بينما رسول الله يصلى إذ خلع نعليه فوضعهما على يساره، فلما رأى الناس ذلك ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلاته، قال: (ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟) ، قالوا: رأيناك ألقيت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 نعليك فألقينا، قال: (إن جبريل أخبرنى أن فيهما أذى، أو قذرًا، فألقيتهما فإذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن كان فيهما أذى أو قذرًا فليمسحه وليصل فيهما) . واختلف العلماء فى تطهير النعال والخفين من النجاسات، فقالت طائفة: إذا وطئ القذر الرطب يجزئه أن يمسحه بالتراب ويصلى فيه هذا قول الأوزاعى، وأبى ثور. وقال أحمد فى السيف يصيبه الدم، فيمسحه وهو حار: يصلى فيه إذا لم يبق فيه أثر، وكان عروة، والنخعى يمسحان الروث من نعالهما ويصليان فيها. وقال الأعمش: رأيت يحيى بن وثاب، وعبد الله بن عياش وغيرهما يخوضون الماء قد خالطه السرقين والبول، فإذا انتهوا إلى باب المسجد لم يزيدوا على أن ينفضوا أقدامهم ثم يدخلون فى الصلاة. وقالت طائفة: لا يجزئه أن يطهر القذر الرطب إلا بالماء، وإن كان يابسًا أجزأه حَكُّهُ، هذا قول مالك وأبى حنيفة، وقال محمد: لا يجزئه فى اليابس أيضًا حتى يغسل موضعه من الخف والنعل وغيره إلا المنى خاصة، وقال الشافعى: لا يطهر النجاسات كلها إلا الماء فى النعل والخف وغيره. واحتج أهل المقالة الأولى أيضًا بحديث سعيد المقبرى، عن القعقاع بن حكيم، عن عائشة قالت: (سألت رسول الله عن الرجل يطأ بنعليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 الأذى قال: (التراب له طهور) ، وحديث سعيد بن أبى سعيد: أن امرأة سألت عائشة عن المرأة تجرُّ ذيلها فى المكان القذر، قالت: (يطهره ما بعده) . وقال ابن أبى زيد: قال أبو بكر بن اللباد: قال بعض أصحابنا: معنى قوله: (يطهره ما بعده) ، أنها تسحب ذيلها على أرض ندية نجسة، وقد رخص لها أن ترخيه بعد ذلك على أرض طاهرة فذلك له طهور، قال مالك: معناه عندنا فى القشب اليابس الذى لا يتعلق منه شىء، وقد سمح فى الرطب من أرواث الدواب وأبوالها لما يلحق الناس من المضرة فى غسله فى كل وقت، إذ لا تخلو الطرق من أرواث الدواب وأبوالها. وقال الداودى: قال بعض أصحاب مالك بظاهر الحديث، ورأى ذلك فى الرطب واليابس، وذكر غير الداودى أنه قول ابن وهب قال: وهذا قول أبى حنيفة وأصحابه؛ لأنه يقول: إن النجاسات يجوز إزالتها بكل ما أذهب عينها، والماء وغيره فى ذلك سواء، واحتج من قال: إنه فى القذر الرطب: بأن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (يطهره ما بعده) ، يدل أنها جرته على رطب، وإلا فنحن عالمون أنها إذا جرته على يابس لم يعلق به شىء من النجس، فكيف يخبر أنه قد طهر ما لم يحل فيه نجاسة. - باب الصَّلاةِ فِي الْخِفَافِ / 37 - فيه: جَرِيرَ: (أنه بَالَ، وتَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ صَلَّى، فَسُئِلَ، فَقَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 رَأَيْتُ الرسولَ (صلى الله عليه وسلم) صَنَعَ مِثْلَ هَذَا، وكَانَ يُعْجِبُهُمْ؛ لأنَّ جَرِيرًا كَانَ مِنْ آخِرِ مَنْ أَسْلَمَ) . / 38 - وفيه: حديث الْمُغِيرَةِ: (أن نَبِيَّ الله مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ثم صَلَّى) . وهذا الباب كالذى قبله إذا كانت الخفاف طاهرة من الأقذار والأذى، فحينئذ يجوز المسح عليها والصلاة فيها، وإن كان فيها قذر فحكمها حكم النعلين المذكورة فى الباب قبل هذا، هذا مذهب العلماء فى ذلك. وأما إعجابهم بأن جريرًا كان من آخر من أسلم؛ فلأن بعض الناس يزعم أن المسح على الخفين منسوخ بالغسل فى آية الوضوء التى فى المائدة، وقد روى فى حديث جرير أنه كان يعجبهم؛ لأنه أسلم بعد نزول المائدة، فاستعمال جرير للمسح على الخفين بعد نزول المائدة يدل على أن المسح غير منسوخ بل هو سنة، وقد ذكرت هذا المعنى فى كتاب الوضوء فى باب: المسح على الخفين. - فَضْلِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ / 39 - فيه: أنس: قال نبى الله: (مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ) . / 40 - وقال: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا، وَصَلَّوْا صَلاتَنَا، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 هذا يدل على تعظيم شأن القبلة وهى من فرائض الصلاة، والصلاة أعظم قربات الدين، ومن ترك القبلة متعمدًا فلا صلاة له، ومن لا صلاة له فلا دين له. قال الطبرى: فإن قال قائل: ما وجه هذا الحديث وقد علمت أن أجناسًا من أهل الكفر أمرنا بقتالهم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله. قيل: قد جاء فى بعض طرق هذا الحديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله) ، وحديث هذا الباب إنما قاله عليه السلام، فى حال قتاله لأهل الأوثان الذين كانوا لا يقرون بتوحيد الله، وكانوا إذا قيل لهم: لا إله إلا الله يستكبرون، فدعاهم النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى الإقرار بالوحدانية وخلع ما دونه من الأوثان، فمن أقر بذلك منهم كان فى الظاهر داخلاً فى صبغة الإسلام، وقاتل آخرين من أهل الكفر كانوا يوحدون الله غير أنهم كانوا ينكرون نبوة محمد فقال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله) ، وذلك أن كفرهم كان جحدًا بالنبوة فمن أقر بما عليه قوتل، فقد حرم دمه وماله إلا بظهور نقض شرائط ما أقرَّ به بعد الإقرار بجملته، وذلك هو الحق الذى قال (صلى الله عليه وسلم) : (إلا بحقها) ، ولو أن أهل الأوثان وَحَّدَ بعضهم وشهد أن لا إله إلا الله، وحكم له بحكم الإسلام فى منع نفسه وماله، ثم عرضت عليه شرائع الإسلام بعد ذلك، فامتنع من الإقرار برسول الله كان لا شك بالله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 كافرًا، وعاد حربيًا، وكذلك الذى أقر بنبوة محمد لو أنكر شيئًا من الفرائض حلّ دمه وعاد حربيًا كافرًا. - باب قِبْلَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الشَّأْمِ وَالْمَشْرِقِ لَيْسَ فِي الْمَشْرِقِ وَلا فِي الْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ ، لِقَوْلِ الرَّسُول: (لا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا) . / 41 - فيه: أبو أيوب الأنصارى أن نبى الله قَالَ: (إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ، فَلا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ، وَلا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا) . قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَقَدِمْنَا الشَّامَ، فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ، فَنَنْحَرِفُ، وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ. قال المؤلف: قوله: باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق، يعنى: وقبلة مشرق الأرض كلها إلا ما قابل مشرق مكة من البلاد التى تكون تحت الخط المار عليها من المشرق إلى المغرب، فحكم مشرق الأرض كلها كحكم مشرق أهل المدينة والشام فى الأمر بالانحراف عند الغائط؛ لأنهم إذا شرقوا أو غربوا لم يستقبلوا القبلة ولم يستدبروها، وهؤلاء أمروا بالتشريق والتغريب واستعمال هذا الحديث. وأما ما قابل مشرق مكة من البلاد التى تكون تحت الخط المارِّ عليها من مشرقها إلى مغربها، فلا يجوز لهم استعمال هذا الحديث، ولا يصح لهم أن يشرقوا ولا أن يغربوا؛ لأنهم إذا شرقوا استدبروا القبلة وإذا غربوا استقبلوا، وكذلك من كان موازيًا لمغرب مكة إن غرب استدبر القبلة وإن شرق استقبلها، وإنما ينحرف إلى الجنوب أو الشمال، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 فهذا هو تغريبه وتشريقه، ولم يذكر البخارى مغرب الأرض كلها؛ إذ العلة فيها مشتركة مع المشرق فاكتفى بذكر المشرق عن المغرب؛ لأن المشرق أكبر الأرض المعمورة وبلاد الإسلام فى جهة مغرب الشمس قليل. وتقدير الترجمة: باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق والمغرب، ليس فى المشرق ولا فى المغرب يعنى أنهم عند الانحراف للتشريق والتغريب ليسوا مواجهين القبلة ولا مستدبرين لها. فإن قال قائل: (كيف يكون قوله: ليس فى المشرق والمغرب) ، بمعنى التشريق والتغريب؟ . قيل: هذا صحيح فى لغة العرب ومعروف عندهم. أنشد ثعلب فى المجالس: أبعد مغربهم نجدًا وساحتها أرجو من الدمع تغييضًا وإقلاعًا قال ثعلب: معناه أبعد تغريبهم. وحمل أبو أيوب الحديث على العموم فى الصحارى وغيرها، وخالفه غيره لحديث ابن عمر، وقد تقدم ما للعلماء فى ذلك فى كتاب الطهارة فأغنى عن إعادته. - باب قَوْلِهِ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة 125] / 42 - فيه: ابن عمر: (أن النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) قَدِمَ إلى الْبَيْتِ فطاف به سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ) . / 43 - وفيه: أن بلالاً قال: (صَلَّى النَّبِيُّ رَكْعَتَيْنِ فِي الْكَعْبَةِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَلَى يَسَارِهِ، إِذَا دَخَلْتَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَصَلَّى فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ رَكْعَتَيْنِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 / 44 - وفيه: ابْنَ عَبَّاسٍ: (لَمَّا دَخَلَ الرسول الْبَيْتَ دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا، وَلَمْ يُصَلِّ، حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ، رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي قُبُلِ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ: هَذِهِ الْقِبْلَةُ) . اختلف أهل التأويل فى قوله: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) [البقرة: 125] ، فقال ابن عباس: الحج كله مقام إبراهيم، وقال مجاهد: الحرم كله مقام إبراهيم، وقال عطاء: مقام إبراهيم: عرفة والمزدلفة، والجدار، والجمار فى أخرى، وقال السُدى: هو الحجر بعينه الذى وقف عليه إبراهيم. واختلفوا فى قوله: (مصلى (، فقال مجاهد: مَدْعَى، كأنه أخذه من صليت بمعنى دعوت، وقال الحسن: قبلة، وقال قتادة والسدى: أمروا أن يصلوا عنده. قال الطحاوى: ولما اختلفوا فى تأويل هذه الآية، واختلفت الآثار فى صلاته عليه السلام، فروى ابن عمر أنه عليه السلام، صلى عند المقام ركعتين، وقال بلال: إنه صلى فى الكعبة ثم خرج فصلى فى وجه الكعبة ركعتين، وقال ابن عباس: إنه صلى ركعتين فى قبل الكعبة، وقال: هذه القبلة، أردنا أن نعلم الصحيح من ذلك، فوجدنا ابن عباس قال: الحج كله مقام إبراهيم، وقال مجاهد: الحرم كله، ووجدنا من صلى إلى الكعبة من الجهات الثلاث التى لا تقابل مقام إبراهيم، فقج أدى فرضه علمنا أن الفرض فى القبلة إنما هو البيت لا مقام إبراهيم، ويشهد لذلك قول ابن عباس أنه صلى حين صلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 خارج البيت قبل الكعبة، وقال: هذه القبلة، لم يستقبل المقام، وكذلك حين صلى فى البيت على ما رواه بلال لم يستقبل المقام، وإنما يكون المقام قبلة إذا جعله المصلِّى بينه وبين القبلة على ما جاء فى حديث ابن عمر، وأجمع العلماء أن الكعبة كلها قبلة من أى ناحية استقبلت. وأما اختلاف الآثار أنه صلى فى البيت وأنه لم يصل، فالآثار أنه صلى أكثر، ولو تساوت فى الكثرة لكان الأخذ بالمثبت أولى من النافى على ما يقوله العلماء فى الشهادات. فقد روى أنه عليه السلام صلى فى البيت غير بلال جماعة منهم: أسامة بن زيد، وعمر ابن الخطاب، وجابر، وشيبة بن عثمان، وعثمان بن طلحة، من طرقٍ حسان ذكرها الطحاوى كلها فى شرح معانى الآثار. وقال المهلب: ويحتمل أن يكون عليه السلام دخل البيت مرتين، فالمرة الواحدة صلى فيه، والمرة الأخرى دعا ولم يصل، فلم تتضاد الأخبار فى ذلك. وقد اختلف العلماء فى الصلاة فى البيت وعلى ظهر الكعبة، فقال أبو حنيفة، والشافعى: يصلى فيه الفريضة والنافلة، وقال مالك: لا يصلى فيه الفريضة ولا ركعتى الطواف الواجب، فإن صلى أعاد فى الوقت، ويجوز أن يصلى فيه النافلة، وقال الطبرى: لا تصلى فيه فريضة ولا نافلة، وحجة مالك قوله تعالى: (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) [البقرة: 144، 150] ، وهى قبالته، ومن صلى فى جوف الكعبة لم يقابل شطرها؛ لأنه يحصل مستقبلاً للبعض مستدبرًا للبعض ولا تحصل كلها قبالته إلا أن يكون خارجًا منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 وحجة أبى حنيفة، والشافعى أنه من صلى خارجًا منها، فإنه يستقبل بعضها، وصلاته جائزة بإجماع؛ لأن ما عن يمين ما استقبل من البيت وما عن يساره ليس هو مستقبله، فلم يتعبد باستقبال كل جهاته، فكان النظر على ذلك أن كل من صلى فيه، فقد استقبل إحدى جهاته وترك غيرها، وما ترك من ذلك فهو فى حكم ما كان عن يمينه وشماله إذا كان خارجًا منه، فثبت قول من أجاز الصلاة فيها، هذا قول أبى جعفر الطحاوى. - باب التَّوَجُّهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ حَيْثُ كَانَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَكَبِّرْ) . / 45 - فيه: البراء: (صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) [البقرة 144] ، فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ - وَهُمُ الْيَهُودُ -: (مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) [البقرة 142] الآية، فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ رَجُلٌ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ مَا صَلَّى، فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الأنْصَارِ فِي صَلاةِ الْعَصْرِ يصلون نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ: هُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ فَتَحَرَّفَ الْقَوْمُ، حَتَّى تَوَجَّهُوا نَحْوَ الْكَعْبَةِ) . / 46 - وفيه: جَابِرِ قَالَ: (كَانَ نبى اللَّهِ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ به، فَإِذَا أَرَادَ الْفَرِيضَةَ، نَزَلَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ) . / 47 - وفيه: ابن مسعود قال: صلى النبى، عليه السلام، قال إبراهيم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 لا أَدْرِي أزَادَ أَوْ نَقَصَ - فَلَمَّا سَلَّمَ، قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَدَثَ فِي الصَّلاةِ شَيْءٌ؟ قَالَ: (وَمَا ذَاكَ؟) قَالُوا: صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا، فَثَنَى رِجْلَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، قَالَ: (إِنَّهُ، لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلاةِ شَيْءٌ لَنَبَّأْتُكُمْ بِهِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي، وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ، فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُسَلِّمْ، ثُمَّ ليَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ) . قال المؤلف: قال ابن جريج: صلى نبى الله أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس، فصلت الأنصار إلى نحو بيت المقدس قبل قدومه المدينة بثلاث حجج، وصلى بعد قدومه ستة عشر شهرًا، ثم وجهه الله إلى الكعبة البيت الحرام. وروى أبو عوانة عن سليمان، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: (صلى رسول الله نحو بيت المقدس وهو بمكة والكعبة بين يديه، وبعدما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهرًا ثم صرف إلى الكعبة) . وقال ابن إسحاق: (كانت قبلة رسول الله بمكة إلى الشام، وكانت صلاته بين الركن اليمانى والركن الأسود، ويجعل الكعبة بينه وبين الشام) . وقال على بن أبى طلحة، عن ابن عباس: (أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله بضعة عشر شهرًا، ثم انصرف إلى الكعبة) . ففى خبر على بن أبى طلحة، عن ابن عباس أنه عليه السلام، لم يصل إلى بيت المقدس إلا بالمدينة خلاف ما فى خبر مجاهد عنه، وخلاف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 ما قال ابن جريج، وخبر مجاهد أولى بالصواب؛ لأن ابن أبى طلحة لم يسمع من ابن عباس. وقال قتادة: كان نبى الله يقلب وجهه إلى السماء، يحب أن يصرفه الله إلى الكعبة، حتى صرفه الله إليها، فأنزل تعالى: (قد نرى تقلب وجهك فى السماء (إلى) المسجد الحرام) [البقرة: 144] ، فارتاب اليهود، وقالوا: (ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها) [البقرة: 142] ، يعنون بيت المقدس، فأنزل الله: (قل لله المشرق والمغرب) [البقرة: 142] ،) وما جعلنا القبلة التى كنت عليها (يعنى: مكة،) إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) [البقرة: 143] . وأجمع العلماء أن المراد بقوله تعالى: (فول وجهك شطر المسجد الحرام) [البقرة: 149] ، أنه استقبال الكعبة، وأن على المسلمين استقبالها فى صلواتهم إذا كانوا يعاينوها، والتوخى لاستقبالها وطلب الدلائل عليها إذا كانوا غائبين عنها، وسيأتى ما فى انحراف القوم فى الصلاة إلى الكعبة من الفقه بعد هذا، إن شاء الله. وأما قوله عليه السلام، فى حديث ابن مسعود: (إذا شك أحدكم فى صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه) ، فإن العلماء اختلفوا فى تأويله، فذهبت طائفة إلى أنه يريد بالتحرى البناء على أكثر ظنه، ومعنى ذلك عندهم أنه إن كان أكثر ظنه أنه صلى أربعًا فى الأغلب يسلم ويسجد، وإن كان لا يدرى أثلاثًا صلى أم أربعًا، ولم يكن أحدهما أغلب فى قلبه من الآخر بنى على الأقل، وأتى بركعة حتى يعلم يقينًا أنه أدى ما عليه، وروى هذا عن ابن مسعود، وابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 عمر، وأبى هريرة، وأنس، وأبى سعيد الخدرى، والنخعى، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، والأوزاعى، إلا أن أبا حنيفة قال: إن كان ذلك أول ما عرض له، فليستأنف صلاته ولا يتحّر، وإن وقع له كثيرًا تحرّى. وذهبت طائفة إلى أن معنى قوله: (فليتحرى الصواب) البناء على اليقين كقوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أبى سعيد الخدرى: (إذا شك أحدكم فلم يدر أصلى ثلاثًا أم أربعًا، فليصل ركعة، ثم يسجد سجدتين وهو جالس، فإن كانت تلك الركعة خامسةً شفعها بالسجدتين، وإن كانت رابعةً كانتا ترغيمًا للشيطان) ، رواه سليمان بن بلال، عن عطاء بن يسار، عن أبى سعيد الخدرى، رُوى هذا القول عن على بن أبى طالب، وابن عمر، وعن سالم، والقاسم، والحسن، ومكحول، وهو قول مالك، والشافعى. قال ابن القصار: والحجة لهذا القول أن التحرى عندنا هو القصد إلى الصواب وطلبه حتى يكون البناء على اليقين، ألا تراه عليه السلام، قال: (لا يتحر أحدكم بصلاته طلوع الشمس ولا غروبها) ، أى: لا يقصد ذلك، والتحرى رجوع إلى اليقين؛ ألا ترى أنه لو شك هل صلى أم لا رجع إلى يقينه وصلى، ولو شك فى صلاة من يوم وليلة لا يدرى أيما صلاة هى لم يجزئه التحرى، ورجع إلى يقينه فصلى خمس صلوات، فكان النظر على هذا أن يكون كذلك فى كل شىء من صلاته وعليه أن يأتى به ليؤدى صلاته بيقين، فكان حديث أبى سعيد تفسيرًا لحديث ابن مسعود. وقال الكوفيون: قوله: (فليتحر الصواب) ، يوجب العمل بالتحرى وإلا انتفى الحديث، والواجب العمل بالأحاديث واستعمالها، ووجه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 استعمال التحرى إذا كان له رأيان، أحدهما أغلب فى قلبه من الآخر عمل به ويجزئ ذلك، وإذا لم يكن له رأيان أحدهما أغلب عنده من الآخر، وجب البناء على الأقل على ما فى حديث أبى سعيد، فصار كل واحد من الحديثين له معنى غير معنى صاحبه، وهكذا تستعمل الأحاديث ولا تتضاد. وقال محمد بن جرير: إن حديث ابن مسعود فى التحرى، وحديث البناء على اليقين لا يخالف واحد منهما صاحبه، وذلك أن أمره عليه السلام بالبناء على اليقين، والأخذ بالاحتياط ليس فيه إعلام أنه من بنى على الأغلب عنده أنه قد صلى أنها لا تجزئه صلاته، فإن احتاط للشك، فبنى على اليقين فهو أفضل وأسلم لدينه، وإن بنى على أكثر رأيه متحريًا فى ذلك الأغلب عنده لم يكن مخطئًا فى فعله؛ لأن كل مصلٍ إنما كلف أن يعمل بما عنده من علمه، لا على إحاطة العلم بيقينه ذلك، فلو كلف اليقين من العلم دون الظاهر لم يكن لأحد صلاة إذ لا سبيل لأحد إلى يقين العلم بذلك. وذلك أن الله أمر عباده بالصلاة فى الثياب الطاهرة والتطهر بالمياه الطاهرة، ولا خلاف بين سلف الأمة وخلفها أنهم لم يكلفوا فى شىء من ذلك إحاطة العلم بيقينه، فكذلك عدد الصلاة إنما كلف فى ذلك العلم الذى هو عنده، فإن بنى على العلم الظاهر الذى هو عنده أجزأه، وإن أخذ بالاحتياط فبنى على اليقين، فهو أفضل له إذا كان له سبيل إلى الوصول إلى يقين ذلك، وإن لم يكن له سبيل إليه عمل على الأغلب من ظاهر علمه، وكذلك القول فى جميع أحكام الدين، ومن أبى شيئًا من ذلك سُئل عن المصلى فى موضع لا يعلمه طاهرًا ولا نجسًا إلا علمًا ظاهرًا، وعن من توضأ بماء لا يعلمه إلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 كذلك، فإن زعم أن عليه الإعادة خرج من قول جميع الأئمة، وإن قال: صلاته ماضية سئل أيفرق بينه وبين الشاك فى صلاته بإتمامها، البانى على الأغلب من علمه؟ فلن يقول فى شىء من ذلك قولاً إلا ألزم فى الآخر مثله، هذا قول الطبرى. وفى أمر الرسول الشاك فى صلاته بإتمامها دليل أن الزيادة فى الصلاة سهوًا أو لإصلاحها لا تفسدها؛ لأن الشاك إذا أمره بالبناء على يقينه وهو يشك هل صلى واحدة أو اثنتين، وممكن أن يكون صلى اثنتين، وقد حكمت السنة أن ذلك لا يضره فهذا يبطل قول من قال: إن من زاد فى صلاته مثل نصفها ساهيًا أن صلاته فاسدة، وهو قول ابن القاسم، وابن كنانة، وابن نافع. وقد أجمع العلماء أن من شك فى مثل ذلك فى صلاة الصبح هل صلى واحدة أو اثنتين أن حكمه فى ذلك حكم من شك فى مثل ذلك من الظهر أو العصر، وقد صلى رسول الله الظهر خمسًا ساهيًا، فسجد لسهوه، وحُكم الركعة والركعتين فى ذلك سواء فى القياس والمعقول. وقال ابن حبيب عن مطرف: أنه من صلى ستًا أو ثمانيًا سجد لسهوه وهو قول ابن عبد الحكم وأصبغ، وحكى أبو زيد، عن ابن الماجشون مثله. وقد روى ابن القاسم عن مالك أن من صلى المغرب خمسًا ساهيًا أنه يجزئه سجود السهو، قال يحيى بن عمر: هذا يرد قول من قال فيمن زاد فى صلاته مثل نصفها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 30 - باب مَا جَاءَ فِي الْقِبْلَةِ، وَمَنْ لَمْ يَرَ الإعَادَةَ عَلَى مَنْ سَهَا، وصَلَّى إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَقَدْ سَلَّمَ نبِيُّ الله فِي رَكْعَتَيِ الظُّهْرِ، وَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ، ثُمَّ أَتَمَّ مَا بَقِيَ. / 48 - فيه: أنس قال: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: (وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلاثٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة 125] الآيَةُ) . / 49 - وفيه: ابن عمر: (بيَنْا النَّاسُ بِقُبَاء فِى صَلاَة الصُّبْحِ إِذ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيلةَ قُرآَنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنَّ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ فَاسْتَقْبَلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهْم إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الكَعْبَةِ) . / 50 - وفيه: ابن مسعود: (أن نَّبِيُّ الله صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا، فَقَالُوا: أَزِيدَ فِي الصَّلاةِ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَثَنَى رِجْلَيْهِ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) . اختلف العلماء فيمن اجتهد فى القبلة فاستدبرها أو شرق أو غرب، فقال أبو حنيفة، وأصحابه، والثورى: لا يعيد، وهو قول عطاء، والشعبى، وسعيد بن المسيب، والنخعى، وقال النخعى: إن كان قد صلى بعض صلاته لغير القبلة، ثم عرف ذلك فى الصلاة فاستقبل القبلة ببقية صلاته، فإنه يحتسب بما كان صلى كما فعل أصحاب النبى بقباء، وهو قول الثورى، وقال مالك: من اجتهد فى القبلة فأخطأ، فإنه يعيد فى الوقت استحبابًا، وهو قول الحسن، والزهرى، وقال الشافعى: إن فرغ من صلاته ثم بان له أنه صلى إلى المغرب استأنف الصلاة، وإن لم يَبِنْ له ذلك إلا باجتهاده، فلا إعادة عليه، والذى ذهب إليه البخارى فى هذا الباب قول من قال: لا يعيد. قال ابن القصار: لأن المجتهد فى القبلة إنما أُمر بالطلب ولم يكلف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 الإصابة، وإنما أمر الله بإصابة عين القبلة من نظر إليها، وأما من غاب عنها فلا سبيل إلى علم حقيقتها؛ لأنه إنما يعلم القبلة بغلبة الظن من مهب الرياح ومسير النجوم، وإذا كان كذلك فإنما يرجع من اجتهاد إلى اجتهاد ولا يرتفع حكم الاجتهاد الأول؛ كالحاكم يحكم باجتهاده، ثم تبين له اجتهاد آخر فلا يجوز له فسخ الأول. وليس للشافعى أن يقول: إن مستدبر القبلة قد رجع من اجتهاده إلى يقين؛ لأنه لا يتيقن باستقباله نفس القبلة فى هذه الجهة، وإنما يغلب ذلك على ظنه ويُبين ذلك الإجماع على جواز صلاة أهل الآفاق ومعلوم أن كل واحدٍ منهم غير محاذ للكعبة، وإنما يحصل ذلك للأقل منهم، وقد جازت صلاتهم لوقوع ذلك بالاجتهاد، والدليل على ذلك من حديث أهل قُباء أنهم صلوا إلى غير القبلة بعد الصلاة، ثم لم يؤمروا بالإعادة؛ لأنهم لم يمكنهم الوصول إلى العلم بالجهة التى كانوا مأمورين بالصلاة إليها، وإنما صلوا إلى قبلة مفترضة عليهم كما المجتهد مُصلٍّ عند نفسه إلى القبلة. وقال المهلب: وجه احتجاج البخارى بحديث ابن عمر فى هذا الباب هو انحرافهم إلى القبلة التى افترضت وهم فى انحرافهم مصلون إلى غير القبلة، ولم يؤمروا بالإعادة بل بنوا على ما كانوا صلوا فى حال الانحراف وقبله، وكذلك المجتهد فى القبلة لا يلزمه الإعادة. وقد أشار البخارى فى ترجمته إلى هذا الاستدلال من حديث ابن مسعود فقال: وقد سلم النبى، عليه السلام، فى ركعتى الظهر وأقبل على الناس بوجهه، وذلك أن انصرافه وإقباله على الناس بوجهه بعد سلامه، كان وهو عند نفسه فى غير صلاة، فلما بنى على صلاته بأنه كان فى وقت استدبار القبلة فى حكم المصلى؛ لأنه لو خرج من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 الصلاة لم يجز له أن يبنى على ما مضى منها عند أهل الحجاز، فوجب بهذا أن من أخطأ القبلة أنه لا يعيد. وقال الطحاوى: فى انحراف أهل قباء إلى الكعبة وهم فى إحرام الصلاة التى دخلوا فيها بالتوجه إلى بيت المقدس دليل أنه من لم يعلم بفرض الله ولم تبلغه الدعوة إليه، ولم يمكنه استعلام ذلك من غيره، فالفرض فى ذلك غير لازم له، وأن الحجة فيه غير قائمة عليه، وإنما يجب عليه الفرض حين يعلمه وتقوم عليه الحجة حين يمكنه استعماله؛ ولهذا دعا رسول الله المشركين قبل أن يقاتلهم إلى الإسلام، وبَيَّنَ لهم ذلك، ثم ترك ذلك فى آخرين سواهم من بنى المصطلق وغيرهم، فقاتلوهم وهم غادون على الماء؛ لأن الدعوة قد كانت بلغتهم. فإن قال قائل: قد كان فرض استقبال الكعبة فى الصلاة وجب على أهل قباء قبل دخولهم فى الصلاة؛ لأن الآية التى أمر بذلك فيها نزلت ليلاً، إنما انحرفوا إلى الكعبة فى الصلاة التى علموا بنزول الآية فيها وقد لحقهم الفرض قبل دخولهم فى الصلاة، وإنما عُذِروا فى صلاتهم إلى غير القبلة بالجهل منهم بها. قيل له: وكيف يكون لله فرض على من لم يعلم بفرضه عليه؟ لو كان كذلك للحقت فرائضه المجانين الذين لا علم معهم، فلما كان المجانين بارتفاع العلم عنهم غير داخلين فى الفرض؛ كذلك كان كل من لم يعلم بالفرض غير واجب عليه الفرض. فإن قال: ما تقولون فى الرجل يسلم فى دار الحرب أو دار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 الإسلام، ويمر عليه شهر رمضان لم يصمه، وتمر عليه صلوات ولم يصلها، ولم يعلم أن الله فرض شيئًا من ذلك على المسلمين، ثم علم بعد ذلك بأن هذا قد كان فرضًا من الله على المسلمين؟ . قيل له: للعلماء فى هذا قولان: أحدهما: أنه إن كان فى دار الحرب حيث لا يجد من يستعلم ذلك منه أنه لا يجب عليه قضاء شىء مما مر عليه من الفرائض، وإن كان فى دار الإسلام أو فى دار الحرب بحضرة من يمكنه استعلام ذلك منه من المسلمين أنه يجب عليه قضاء ما مر عليه من فرض الصلاة والصوم؛ لأنه قد كان يلزمه استعلام ذلك ممن بحضرته من المسلمين، وهذا قول أبى حنيفة. والقول الآخر: أنه يقضى ما مر عليه من الصلوات والصيام ويستوى فى ذلك مروره عليه فى دار الحرب أو دار السلام هذا قول أبى يوسف. قال المؤلف: وهو قول مالك والشافعى. قال الطحاوى: القول الأول أولى وليس على أهل قباء من هذا شىء؛ لأنهم كانوا على حقائق فرض قد كان لله عليهم، ولم يكن عليهم السؤال والاستعلام عن زواله عنهم ولا عن حدوث فرض غيره عليهم، لفما لم يكن ذلك عليهم سقط عنهم الفرض الحادث الذى لم يعلموا به، وليس كذلك من سواهم ممن عليه السؤال والاستعلام عن فرائض الله. وفى حديث ابن عمر: أن أفعال الرسول لازمة كأقواله حتى يأتى دليل الخصوص. وفيه: أنه يجوز أن يفتح من ليس فى الصلاة على من فى الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 إذا عدم المصلى اليقين؛ لأن الذى أخبرهم وهم فى الصلاة بصلاة النبى إلى الكعبة كان حاضرًا واقتدى بقوله. وفيه: قبول خبر الواحد والعمل به؛ لأن الصحابة قد استعملوه وقضوا به وتركوا قبلتهم بخبر الواحد، ولم ينكر ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . 31 - باب حَكِّ الْبُزَاقِ بِالْيَدِ مِنَ الْمَسْجِدِ / 51 - فيه: أنس: (أَنَّ نَّبِيَّ الله رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ، فَقَامَ، فَحَكَّهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي الصَلاة، فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، وإِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَلا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمَهِ، ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ، فَبَزقَ فِيهِ، ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا) . قال المهلب: فيه إكرام القبلة وتنزيهها؛ لأن المصلى يناجى ربه فواجب عليه أن يكرم القبلة مما يكرم منه المخلوقين إذا ناجاهم واستقبلهم بوجهه؛ بل قبلة الله تعالى أولى بالإكرام. وقال طاوس، رحمه الله: أكرموا قبلة الله لا تبزقوا فيها. وأبان (صلى الله عليه وسلم) فى هذا الحديث أن معنى نهيه عن البزاق فى القبلة إنما هو من أجل مناجاته لربه عند استقباله القبلة فى صلاته، ومن أعظم الجفاء وسُوءِ الأدب أن تتوجه إلى رب الأرباب وملك الملوك وتتنخم فى توجهك؛ وقد أعلمنا الله تعالى، بإقباله على من توجه إليه ومراعاته لحركاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 وفيه: طهارة البزاق؛ لأنه لو كان غير طاهر ما بزق عليه السلام، فى ثوبه ولا أمر بذلك. وفيه: فضل الميمنة على الميسرة. 32 - باب حَكِّ الْمُخَاطِ بِالْحَصَى مِنَ الْمَسْجِدِ / 52 - فيه: أبو هريرة، وأبو سعيد: (أَنَّ نبى اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَأَى نُخَامَةً فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَ حَصَاةً، فَحَكَّهَا، فَقَالَ: إِذَا تَنَخَّمَ أَحَدُكُمْ فَلا يَتَنَخَّمَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلا عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى) . والذى يرى البزاق فى المسجد مخير فيه إن شاء حته بحصاة أو بيده أو بما يزيله، وفائدة هذه الأحاديث تنزيه المسجد وإكرام القبلة، وقد ترجم لحديث أبى هريرة: (باب دفن النخامة فى المسجد) ، وزاد فيه: (ولا يبزق عن يمينه، فإن عن يمينه ملكًا) ، فذكر علة نهيه عن يمينه أنه من أجل كون الملك عن يمينه إكرامًا له وتنزيهًا. وقال صاحب العين: حَتَتُّ الشىء عن الثوب، فركته، والحتات: ما تحات منه، أى: تساقط. 33 - باب كَفَّارَةِ الْبُزَاقِ فِي الْمَسْجِدِ / 53 - فيه: أنس قال نبى الله: (الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا) . إنما كان البزاق فى المسجد خطيئة لنهيه عنها، ومن فعل ما نهى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 عنه فقد أتى بخطيئة، ثم إن النبى (صلى الله عليه وسلم) علم أنه لا يكاد يسلم من ذلك؛ فعرف أمته كفارة تلك الخطيئة، وأمر المصلى أن يبزق فى ثوبه، أو تحت قدمه ليعركه ويغيره، ولا تقع عليه عين أحد، غير أن ارتكاب الخطيئة لا يكون إلا بالقصد والعلم بالنهى عنها، وأما من غلبته النخامة فقد ندب إلى دفنها وحتِّها وإزالتها، ومن فعل ما ندب إليه فمأجور. وروى الطبرى قال: حدثنا عمرو بن على، ثنا ابن أبى عدى، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن محمد بن أبى عتيق، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: سمعت النبى يقول: (إذا تنخم أحدكم فى المسجد فليغيب نخامته لا تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه) . قال الطبرى: وفى هذا من الفقه ترخيص الرسول فى التفل فى المسجد والتنخم فيه إذا دفنه، وأبان عن معنى كراهته لذلك إذا لم تدفن، وذلك أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه، وإذا كان ذلك كذلك فبين أن متنخمًا لو تنخم فى المسجد فى غير قبلته بحيث يأمن أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه، فلا حرج عليه فيه واستحب له أن يدفنه، وإن كان بموضع يأمن أن يصيب به أحدًا لقوله: (البزاق فى المسجد خطيئة وكفارتها دفنها) ، يعم بذلك المسجد كله، ولم يخصص منه موضعًا دون موضع، فخبرُ سعد مُفسر لما أُجمل فى حديث أنس، وأبى هريرة، وأَمرهُ بدفنها إنما هو فى الحال التى يخشى فيها أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 34 - باب عِظَةِ الإمَامِ فِي إِتْمَامِ الصَّلاةِ / 54 - فيه: أبو هريرة: قال نبى الله: (هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا؟ ، فَوَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ وَلا خُشُوعُكُمْ، إِنِّي لأرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي) . فيه: أنه ينبغى للإمام إذا رأى أحدًا مقصرًا فى شىء من أمر دينه أو ناقصًا للكمال منه أنه ينهاه عن فعله، ويحضه على ما له فيه جزيل الحظ؛ ألا ترى أن الرسول وبخ من نقص كمال الركوع والسجود ووعظهم فى ذلك بأنه يراهم، وقد أخذ الله على المؤمنين ذلك إذا مكنهم فى الأرض بقوله تعالى: (الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) [الحج: 41] . قال المهلب: وقوله: (إنى أراكم من وراء ظهرى) ، يحتمل أن يراهم بما يوحى إليه من أفعالهم وهيئاتهم فى الصلاة؛ لأن الرؤية قد يعبر بها عن العلم والاعتقاد، ويحتمل أن يكون يراهم بما خص به أن زيدَ فى قوة بصره حتى يرى من ورائه، وقال أحمد بن حنبل فى هذا الحديث: إنه كان يرى من وراءه كما يرى بعينه، فالله أعلم بما أراد من ذلك. 35 - باب هَلْ يُقَالُ مَسْجِدُ بَنِي فُلانٍ / 55 - فيه: ابن عمر: (أَنَّ نبى اللَّهِ سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي أُضْمِرَتْ مِنَ الْحَفْيَاءِ، وَأَمَدُهَا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ، وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ فِيمَنْ سَابَقَ بِهَا) . قال المؤلف: المساجد بيوت الله، وأهلها أهل الله، وفى هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 الحديث جواز إضافتها إلى البانين لها، والمصلى فيها، وفى ذلك جواز إضافة أعمال البر إلى أربابها ونسبتها إليهم، وليس فى ذلك تزكية لهم، وليست إضافة المسجد إلى بنى زريق إضافة ملك، وإنما هى إضافة تمييز. وروى عن النخعى أنه كان يكره أن يقال: مسجد بنى فلان، ولا يرى بأسًا أن يقال: مصلى بنى فلان، وهذا الحديث يرد قوله، ولا فرق بين قوله: مصلى، ومسجد، والله الموفق. 36 - باب الْقِسْمَةِ وَتَعْلِيقِ الْقِنْوِ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: الْقِنْوُ: الْعِذْقُ، وَالاثْنَانِ قِنْوَانِ، وَالْجَمَاعَةُ أَيْضًا قِنْوَانٌ، مِثْلَ صِنْوٍ وَصِنْوَانٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ - يَعْنِي ابْنَ طَهْمَانَ -: عَنْ عَبْدِالْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ (أُتِيَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ: فَقَالَ: انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى الصَّلاةِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاةَ، جَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَمَا كَانَ يَرَى أَحَدًا إِلا أَعْطَاهُ، إِذْ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي، فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي، وَفَادَيْتُ عَقِيلا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : خُذْ فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ، يُقِلُّهُ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اؤْمُرْ بَعْضَهُمْ، يَرْفَعْهُ إِلَيَّ، قَالَ: لا، قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: لا، فَنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ ذَهَبَ، يُقِلُّهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اؤْمُرْ بَعْضَهُمْ، يَرْفَعْهُ عَلَيَّ، قَالَ: لا، قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: لا، فَنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ احْتَمَلَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى كَاهِلِهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ، فَمَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ، حَتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا، عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ، فَمَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَثَمَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 قال المهلب: فيه وضع ما الناس مشتركون فيه من صدقة أو غيرها فى المسجد؛ لأن المسجد لا يُحجب أحد من ذوى الحاجة من دخوله والناس فيه سواء، وكذلك أمور جماعة المسلمين يجب أن تعمل فى المسجد، وليس فى هذا الباب تعليق قنو فى المسجد وأغفله البخارى. وتعليق القنو فى المسجد أمر مشهور، ثم ذكر ابن قتيبة فى غريب الحديث أن نبى الله خرج، فرأى أقناء معلقة فى المسجد، وذكر ثابت فى (غريب الحديث) أن نبى الله أمر من كل حائط بقنو، يعنى للمسجد، معنى ذلك أن ناسًا كانوا يقدمون على رسول الله لا شىء لهم، فقالت الأنصار: (يا رسول الله، لو عجلنا قنوًا من كل حائط لهؤلاء، قال: أجل فافعلوا) ، فجرى ذلك إلى اليوم، فهى الأقناء التى تعلق فى المسجد فيعطاها المساكين، وكان عليها على عهد رسول الله، معاذ بن جبل. قال ابن القاسم: قد سئل مالك عن أقناء تكون فى المسجد وشبه ذلك، فقال: لا بأس بها، وسئل عن الماء الذى يسقى فى المسجد أترى أن يشرب منه قال: نعم إنما يجعل للعطشى، ولم يرد به أهل المسكنة؛ فلا أرى أن يترك شربه، ولم يزل هذا من أمر الناس قال: وقد سقى سعد بن عبادة، فقيل له: فى المسجد؟ قال: لا، ولكن فى منزله الذى كان فيه، وليس ما ذكره ثابت أن الأقناء كانت تجعل فى المسجد للمساكين بخلاف لقول مالك؛ لأن مالكًا إِذْ سئل عن الأقناء لم تكن تجعل حينئذ للمساكين خاصة؛ لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 زمان مالك كان الناس فيه أوسع حالاً منهم فى أول الإسلام، فكان يجعل فى وقت مالك على طريق التوسعة للناس لا يراد بها المساكين، وإنما يراد بها كل من دخل المسجد من غنى أو مسكين، ألا ترى أن مالكًا شبه ذلك بالماء الذى يجعل للعطشان ولا يراد به المساكين. قال المهلب: وفيه من الفقه أن القسمة إلى الإمام على قدر اجتهاده. وفيه: العطاء لأحد الأصناف الذين ذكرهم الله فى كتابه دون غيرهم؛ لأنه أعطى العباس لما شكا إليه من الغرم الذى فدحه، ولم يسوه فى القسمة مع الثمانية الأصناف، ولو قسم ذلك على التساوى لما أعطى العباس بغير مكيال ولا ميزان، وإنما أعطاه بقدر استقلاله عن الأرض، ولم يعط لأحدٍ غيره مثل ذلك. وفيه: أن السلطان إذا علم من الناس حاجة إلى المال أنه لا يحل له أن يدخر منه شيئًا كما فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وفيه: كرم رسول الله وزهده فى الدنيا وأنه لم يمنع شيئًا سُئله إذا كان عنده. وفيه: أن للسلطان أن يرتفع عما يدعى إليه من المهنة والعمل بيده، وله أن يمتنع من تكليف ذلك غيره إذا لم يكن للسلطان فى ذلك حاجة، وإن كان فيه نفع لخاصة من الناس إذا كان فيه ضرر لعامتهم. قال المؤلف: وإنما لم يأمر برفع المال على عنق العباس، والله أعلم، ليزجره ذلك عن الاستكثار فى المال الذى ظهر منه، وألا يأخذ من الدنيا فوق حاجته ويقتصر على ما يبلغ منها المحل، كما كان يفعله عليه السلام، ولهذا لم يرفعه على عنقه لئلا يعينه على ما لا يرضاه وما نهى عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 37 - باب مَنْ دُعي لِطَعَامٍ فِي الْمَسْجِدِ وَمَنْ أَجَابَ فِيهِ / 56 - فيه: أنس: وَجَدْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) فِي الْمَسْجِدِ مَعَهُ نَاسٌ، فَقُمْتُ، قَالَ لى: (آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟ ، قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: لِطَعَامٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ لِمَنْ حوله: قُومُوا، فَانْطَلَقَوا، وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) . فيه: الدعاء إلى الطعام وإن لم يكن طعام وليمة. وفيه: أن الدعاء إلى ذلك من المسجد وغيره سواء؛ لأن ذلك من أعمال البر وليس ثواب الجلوس فى المسجد بأقل ثوابًا من إطعام الناس الطعام، وقد قال رجل: يا رسول الله، أى الإسلام خير؟ قال: (تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) ، وأيضًا فإن النبى كان محتاجًا إلى الأكل، فقد جاء فى هذا الحديث أنه إنما دعاه إليه؛ لأنه سمع صوتًا ضعيفًا فعرف فيه الجوع. وفيه: دعاء السلطان إلى الطعام القليل. وفيه: أن الرجل الكبير إذا دُعِى إلى طعام وعلم أن صاحبه لا يكره أن يجلب معه غيره، وأن الطعام يكفيهم أنه لا بأس أن يحمل معه من حضره، وإنما حملهم الرسول إلى طعام أبى طلحة، وهو قليل، لعلمه أنه يكفى جميعهم، وأنه لا ينقص منه شىء لبركته وما خصه الله به من كرامة النبوة وفضيلتها، وهذا من علامات نبوته عليه السلام، وكذلك إذا علم الرئيس المدعو إلى طعام أن صاحبه يُسَرُّ بمن يأكل طعامه، وأن طعامه لا يعجز عنهم لكثرته وجدة صاحبه أنه لا بأس أن يحمل غيره، وسأزيد فى معنى هذا الحديث فى كتاب الأطعمة، إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 38 - باب الْقَضَاءِ وَاللِّعَانِ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ / 57 - فيه: سهل بن سعد: (أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلا أَيَقْتُلُهُ؟ فَتَلاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ) . قال المؤلف: القضاء جائز فى المسجد عند عامة العلماء، وقال مالك: جلوس القاضى فى المسجد للقضاء من الأمر القديم المعمول به، وكان شريح، وابن أبى ليلى يقضيان فى المسجد، وروى عن سعيد بن المسيب كراهية ذلك قال: لو كان لى من الأمر شىء ما تركت اثنين يختصمان فى المسجد. وقد ترجم باب: (من قضى ولاعنَ فى المسجد) ، فى كتاب الأحكام وفيه زيادة على ما فى هذا الحديث. وفيه: أن اللعان يكون فى المساجد ويحضره الخلفاء أو من استخلفه الحاكم، وأن أيمان اللعان تكون فى الجوامع؛ لأنها مقاطع الحقوق. 39 - باب إِذَا دَخَلَ بَيْتًا، يُصَلِّي حَيْثُ شَاءَ أَوْ حَيْثُ أُمِرَ، وَلا يَتَجَسَّسُ / 58 - فيه: عتبان بن مالك: أَنَّ نَّبِيَّ الله أَتَاهُ فِي مَنْزِلِهِ، فَقَالَ: (أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟) ، قَالَ: فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى مَكَانٍ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ وَصَفّنَا خَلْفَهُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. قال المهلب: قوله: (يصلى حيث شاء أو حيث أُمر ولا يتجسس) ، لا يقتضى لفظ الحديث أن يصلى حيث شاء، وإنما يقتضى أن يصلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 حيث أُمر لقوله: (أين تحب أن أصلى لك؟) ويؤيد هذا قوله: (ولا يتجسس) ، فكأنه قال: باب إذا دخل بيتًا هل يصلى حيث شاء أو حيث أُمر؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) استأذنه فى موضع الصلاة، ولم يصل حيث شاء، فبطل حكم حيث شاء. 40 - باب الْمَسَاجِدِ فِي الْبُيُوتِ وَصَلَّى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ فِي مَسْجِدِهِ فِي دَارِهِ جَمَاعَةً. / 59 - وذكر فيه حديث عتبان بن مالك بطوله. قال المهلب: فيه اتخاذ المساجد فى البيوت والصلاة بالأهل وغيرهم عند الضرورات، ألا ترى أن عتبان قال لنبى الله (صلى الله عليه وسلم) : (إنى قد أنكرت بصرى وأنا أصلى لقومى، فإذا سال الوادى الذى بينى وبينهم لم أستطع أن أتى مسجدهم، وودت يا رسول الله أنك تأتينى، فتصلى فى بيتى فأتخذه مصلى) ، ففعل ذلك نبى الله، فبان بهذا أنه لولا العذر لم يتخلف عن مسجد الجماعة. فيه من الفقه: التخلف عن الصلاة فى الجماعة للعذر. وقال عبد الله بن أبى صفرة: ترك السنن للمشقة رخصة، ومن شاء أن يأخذ بالشدة أخذ، كما خرج نبى الله (صلى الله عليه وسلم) يُهادى بين رجلين إلى الصلاة. قال المهلب: وفيه التبرك بمصلى الصالحين ومساجد الفاضلين. وفيه: أنه من دُعى من الصالحين إلى شىء يتبرك به منه، فله أن يجيب إذا أمن الفتنة من العجب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 وفيه: الوفاء بالعهد. وفيه: صلاة النافلة فى جماعة بالنهار. وفيه: إكرام العالم إذا دعى إلى شىء بالطعام وشبهه. وفيه: التنبيه على أهل الفسق والنفاق عند السلطان. وفيه: أن السلطان يجب أن يستثبت فى أمر من يذكر عنده بفسق ويوجه له أجمل الوجوه. وفيه: أن الجماعة إذا اجتمعت للصلاة وغاب أحدهم أن يسألوا عنه، فإن كان له عذر وإلا ظن به الشَّر، وهو مفسر فى قوله: (لقد هممت أن آمر بحطب) . وقوله: (ثاب رجال) ، قال صاحب العين: ثاب الحوض، امتلأ، والمثابة: مجتمع الناس بعد تفرقهم، ومنه قوله: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس) [البقرة: 125] . 41 - باب التَّيَمُّنُ فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَبْدَأُ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى فَإِذَا خَرَجَ بَدَأَ بِرِجْلِهِ الْيُسْرَى. / 60 - فيه: عائشة قَالَتْ: (كَانَ النَّبِيُّ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ فِي طُهُورِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَتَنَعُّلِهِ) . وقد تقدم هذا فى كتاب الطهارة، ونذكر هنا ما لم ينص هناك. قال عطاء: قال عبد الله بن عمرو: خير المسجد المقام، ثم ميامين المسجد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 وكان ابن المسيب يصلى فى الشق الأيمن من المسجد. وكان إبراهيم يعجبه أن يقوم عن يمين الإمام. وكان أنس بن مالك يصلى فى الشق الأيسر من المسجد، وعن الحسن، وابن سيرين مثله. 42 - باب هَلْ تُنْبَشُ قُبُورُ مُشْرِكِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُتَّخَذُ مَكَانُهَا مَسَاجِدَ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) : لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، وَمَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّلاةِ فِي الْقُبُورِ. وَرَأَى عُمَرُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُصَلِّي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: (الْقَبْرَ، الْقَبْرَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالإعَادَةِ) . / 61 - فيه: عائشة: أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَذَكَرَتَا ذلك لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا، فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . / 62 - وفيه: أنس قَالَ: (قَدِمَ نَّبِيُّ الله الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ أَعْلَى الْمَدِينَةِ فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقَامَ الرسول فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى بَنِي النَّجَّارِ، فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِين السُّيُوفِ، فكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى نَّبِيِّ الله عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفُهُ، وَمَلأ بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ، حَتَّى أَلْقَى بِفِنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ، حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ، وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَإنَّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلأ بَنِي النَّجَّارِ، فَقَالَ: يَا بَنِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 النَّجَّارِ، ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا، قَالُوا: لا، وَاللَّهِ لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ أَنَسٌ: فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَكان فِيهِ خَرِبٌ، ونَخْلٌ، فَأَمَرَ الرسول بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ، وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ، وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ، والرسول مَعَهُمْ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لا خَيْرَ إِلا خَيْرُ الآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلأنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَه قال المؤلف: أما نبش قبور المشركين ليتخذ مكانها مساجد، فلم أجد فيه نصًا لأحدٍ من العلماء، غير أنى وجدت اختلافهم فى نبش قبورهم طلبًا للمال، فأجاز ذلك الكوفيون والشافعى، وقال الأوزاعى: لا يفعل؛ لأن الرسول لما مر بالحجر قال: (لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين مخافة أن يصيبكم مثل ما أصابهم) ، فنهى أن ندخل عليهم بيوتهم فكيف قبورهم. قال الطحاوى: وقد أباح دخولها على وجه البكاء، واحتج من أجاز ذلك بحديث أنس أن نبى الله أمر بقبور المشركين، فنبشت عند بناء المسجد. قال الطحاوى: واحتج من أجاز ذلك أن نبى الله (صلى الله عليه وسلم) لما خرج إلى الطائف قال: (هذا قبر أبى رغال) ، وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج أصابته النقمة بهذا المكان، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب، فابتدره الناس ونبشوه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 واستخرجوا منه الغصن، وإذا جاز نبشها لطلب المال، فنبشها للانتفاع بمواضعها لبناء مسجد أو غيره أولى. فإن قيل: فهل يجوز أن يبنى المسجد على قبور المسلمين؟ وهل يدخل ذلك فى معنى لعنة اليهود لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد؟ . قيل: لا يدخل فى ذلك لافتراق المعنى؛ وذلك أنه عليه السلام، أخبر أن اليهود يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ويقصدونها بعبادتهم، وقد نسخ الله جميع المعبودات بالإسلام والتوحيد، وأمر بعبادته وحده لا شريك له. قال غيره: والقبور التى أمر النبى بنبشها لبناء المسجد كانت قبورًا لا حرمة لأهلها؛ لأن العرب هنالك لم يكونوا أهل كتاب، فلم يكن لعظامهم حرمة، ولو كانوا أهل كتاب لم تنبش؛ لأنهم ماتوا قبل الإسلام فهم على أديان أنبيائهم لهم حرمة الإيمان بأنبيائهم، وهم والمسلمون سواء، وكذلك أهل الذمة اليوم من اليهود والنصارى، لا يجوز نبش قبورهم لاتخاذ مسجد ولا غيره، فإن لم يكونوا أهل ذمة، وكانوا أهل حرب واحتيج إلى موضع قبورهم، فلا بأس بنبشها إن كانت قبرت بعد الإسلام، وإن كانت قديمة قبل الإسلام، فلا يجوز ذلك لما قلنا إن لهم حرمة الإسلام بأنبيائهم، إلا أن يعلم أنهم لم يكونوا أهل كتاب. وأجاز أكثر الفقهاء نبش قبور المشركين طلبًا للمال، وهذا قول أشهب وقال: ليس حرمتهم موتى بأعظم منها أحياء، وهو مأجور فى فعل ذلك بالأحياء منهم. وقال مالك فى المدونة: أكرهه وليس بحرام. وقال ابن القاسم: لو أن مقبرة من مقابر المسلمين عَفَتْ، فبنى قوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 عليها مسجدًا لم أر بذلك بأسًا، وكذلك ما كان لله لا بأس أن يستعان ببعضه على بعض، وينقل بعضه إلى بعض، فمعناه أن المقابر هى وقف من أوقاف المسلمين لدفن موتاهم لا يجوز لأحد تملكها، فإذا عفت ودثرت واستغنى عن الدفن فيها جاز صرفها إلى المسجد؛ لأن المسجد أيضًا وقف من أوقاف المسلمين لا يجوز تملكه لأحد كما لا يجوز تملك المقبرة فنقلها إذا دثرت إلى المسجد معناهما واحد فى الحكم. وقوله: (فأولئك شرار الخلق عند الله) ، فيه نهى عن اتخاذ القبور مساجد، وعن فعل التصاوير. قال المهلب: وإنما نهى عن ذلك، والله أعلم، قطعًا للذريعة ولقرب عبادتهم الأصنام واتخاذ القبور والصورة آلهة، ولذلك نهى عُمر أنسًا عن الصلاة إلى القبر، وكان له مندوحة عن استقباله وكان يمكنه الانحراف عنه يمنة أو يسرة، ولما لم يأمره بإعادة الصلاة علم أن صلاته جائزة. 43 - باب الصَّلاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ / 63 - فيه: أنس قال: (كَانَ نَّبِيُّ الله يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ بَعْدُ يَقُولُ: كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ) . قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم على إباحة الصلاة فى مرابض الغنم إلا الشافعى، فإنه قال: لا أكره الصلاة فى مرابض الغنم إذا كان سليمًا من أبوالها وأبعارها. وممن روينا عنه إجازة الصلاة فى مرابض الغنم: عبد الله بن عمر، وجابر بن سمرة، ودخل أبو ذر زرب غنم، فصلى فيه، وعن الزبير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 أنه صلى فى مراح الغنم وهو يجد مكانًا غيره، وصلى ابن عمر فى رتق، فى أخرى: فى دِمَن الغنم، وروى ذلك عن الحسن، وابن سيرين، وعطاء، وصلى النخعى فى دمنة الغنم، وهذا الحديث مع ما ذكرنا من أقوال السلف حجة على الشافعى، ومن قال بقوله؛ لأن قول أنس كان نبى الله (صلى الله عليه وسلم) يصلى فى مرابض الغنم، ولم يخص مكانًا من مكان، ومعلوم أن مرابضها لا تسلم من أبعارها وأبوالها يدل أن الصلاة مباحة على ذلك، ويدل أن أبوالها وأبعارها طاهرة. قال ابن المنذر: والصلاة أيضًا جائزة فى مراح البقر استدلالاً بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أينما أدركتك الصلاة فصلّ) ، وهو قول عطاء، ومالك، وجماعة. 44 - باب الصَّلاةِ فِي مَوَاضِعِ الإبِلِ / 64 - فيه: ابن عمر: (أنه كان يُصَلِّي إِلَى بَعِيرِهِ، فَقَالَ: رَأَيْتُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يَفْعَلُهُ) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فكره مالك، والشافعى الصلاة فى أعطان الإبل، وقال ابن القاسم: لا بأس بالصلاة فيها إن سلمت من مذاهب الناس، وقال أصبغ: من صلى فيها أعاد فى الوقت. وقال الطحاوى: ذهب قوم إلى أن الصلاة فى أعطان الإبل مكروهة حتى غلا بعضهم فى ذلك فأفسد الصلاة، واحتجوا بما رواه يونس عن الحسن، عن عبد الله بن مغفل أن نبى الله قال: (صلوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 فى مرابض الغنم، ولا تصلوا فى أعطان الإبل) ، وبما روى أبو معاوية، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، مولى بنى هاشم، وكان ثقة، وكان الحكم يأخذ عنه، عن عبد الرحمن بن أبى ليلى، عن البراء بن عازب، عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (لا تصلوا فى مبارك الإبل وصلوا فى مرابض الغنم) ، وخالفهم آخرون فأجازوا الصلاة فى أعطان الإبل، واحتجوا بأن الآثار التى جاءت بالنهى عن الصلاة فى أعطان الإبل قد تكلم الناس فى معناها، والسبب الذى من أجله كان النهى، فقال قوم: إنما ذلك؛ لأن من عادة أصحاب الإبل التغوط بقربها فتنجس أعطانها، ومن عادة أصحاب الغنم ترك التغوط بينها، وروى عن شريك بن عبد الله أنه كان يفسر الحديث بهذا. وقال يحيى بن آدم: ليس العلة عندى هذه، وإنما هى لما يخاف من وثوبها، وعطب من تلاقى حينئذٍ، ألا تراه يقول: (فإنها جن خلقت من جنّ) ، وقال فى حديث رافع بن خديج: (إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش) ، وهذا غير مخوف من الغنم، فأمر باجتناب الصلاة فى معاطن الإبل خوف ذلك لا لنجاسة، وقد ثبت حديث ابن عمر أن نبى الله (صلى الله عليه وسلم) : (كان يصلى إلى بعيره) ، فعلم بذلك أنه لم ينه عن الصلاة فى أعطان الإبل؛ لأنه لا تجوز الصلاة بحذائها، واحتمل أن تكون الكراهية لعلة ما يكون فى معاطنها من أرواثها وأبوالها، فنظرنا فى ذلك، فرأينا مرابض الغنم كل قد أجمع على جواز الصلاة فيها، وكان حكم أبوال الإبل وأرواثها كحكم أبوال الغنم وأرواثها لا فرق بين ذلك فى نجاسة وطهارة؛ لأن من جعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 أبوال الإبل طاهرة جعل أبوال الغنم كذلك، ومن جعل أبوال الإبل نجسة جعل أبوال الغنم كذلك، فلما أبيحت الصلاة فى مرابض الغنم فى الحديث الذى نهى فيه عن الصلاة فى أعطان الإبل ثبت أن النهى عن ذلك ليس العلة نجاسة ما يكون منها، فإن كان لما قاله شريك، فإن الصلاة مكروهة حيث يكون الغائط والبول عطنًا كان أو غيره، وإن كان لما قاله يحيى، فإن الصلاة مكروهة بحيث يخاف على النفوس، عطنًا كان أو غيره، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار، وأما من طريق النظر، فإنا رأيناهم لا يختلفون فى مرابض الغنم أن الصلاة فيها جائزة، وإنما اختلفوا فى الإبل، فرأينا حكم لحمان الإبل كحكم لحمان الغنم فى طهارتها، ورأينا حكم أبوالها كحكم أبوالها فى طهارتها أو نجاستها، فكان يجىء فى حكم النظر أن يكون حكم الصلاة فى مواضع الإبل كهو فى مواضع الغنم قياسًا ونظرًا، وهذا قول أبى حنيفة، وأبى يوسف، ومحمد. 45 - باب مَنْ صَلَّى وَقُدَّامَهُ تَنُّورٌ أَوْ نَارٌ أَوْ شَيْءٌ مِمَّا يُعْبَدُ، فَأَرَادَ بِهِ وجه اللَّهَ وَقَالَ أَنَسُ قَالَ الرَّسُولُ (صلى الله عليه وسلم) : عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ وَأَنَا أُصَلِّي. / 65 - فيه: ابن عباس: (انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى نبى اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ قَالَ: أُرِيتُ النَّارَ، فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ) . الصلاة جائزة إلى كل شىء إذا لم يقصد الصلاة إليه وقصد بها الله، تعالى، والسجود لوجهه خالصًا، ولا يضره استقبال شىء من المعبودات وغيرها كما لم يضر الرسول ما رآه فى قبلته من النار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 وقال أشهب فى المجموعة: وإن صلى إلى قبلة فيها تماثيل لم يُعِدْ، وهو مكروه. 46 - باب كَرَاهِيَةِ الصَّلاةِ فِي الْمَقَابِرِ / 66 - فيه: ابن عمر: قال نَّبِيِّ الله (صلى الله عليه وسلم) : (اجْعَلُوا مِنْ صَلاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا) . اختلف العلماء فى الصلاة فى المقبرة، فروى عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو أنهم كرهوا الصلاة فى المقبرة، وروى عن عطاء، والنخعى، وبه قال أبو حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، واختلف فيه قول مالك فروى عنه أبو المصعب أنه قال: لا أحب ذلك، وروى عنه ابن القاسم أنه قال: لا بأس بالصلاة فيها. وكل من كره الصلاة من هؤلاء لا يرى على من صلى فيها إعادة، وقال أهل الظاهر: لا تجوز الصلاة فى المقبرة، قال ابن المنذر: وحجة الذين كرهوا ذلك قول الرسول: (اجعلوا من صلاتكم فى بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا) ، وفى قوله هذا دليل على أن المقبرة ليست بموضع للصلاة، وسيأتى ما قيل فى هذا المعنى فى آخر كتاب الصلاة فى باب: التطوع فى البيت، إن شاء الله. وحجة من أجاز الصلاة فيها قوله عليه السلام: (جعلت لى الأرض مسجدًا وطهورًا؛ فأينما أدركتنى الصلاة صليت) ، فلم يخص موضعًا من موضع، فهو عام فى المقبرة وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 قال مالك: وقد بلغنى أن بعض أصحاب رسول الله كان يصلى فى المقابر، وحكى ابن المنذر أن واثلة بن الأسقع كان يصلى فى المقبرة غير أنه كان لا يستتر بقبر، وصلى الحسن البصرى فى المقابر. 47 - باب الصَّلاةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ وَيُذْكَرُ أَنَّ عَلِيًّا رَضِي اللَّهُ عَنْهُ كَرِهَ الصَّلاةَ بِخَسْفِ بَابِلَ. / 67 - فيه: ابن عمر: أَنَّ نبى اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَلا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، لا يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ) . قال المهلب: إنما هذا من جهة التشاؤم بالبقعة التى نزل بها سخط الله يدل على ذلك قوله: (وسكنتم فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال) [إبراهيم: 45] ، فوبخهم تعالى على ذلك، وكذلك تشاءم عليه السلام، بالبقعة التى نام فيها عن الصلاة ورحل عنها ثم صلى، فكراهية الصلاة فى موضع الخسف أولى، إلا أن إباحة الدخول فيه على وجه البكاء والاعتبار يدل أن من صلى هناك لا تفسد صلاته؛ لأن الصلاة موضع بكاء وتضرع وخشوع واعتبار، فإن صلى هناك غير باكٍ لم تبطل صلاته، وذكر بعض أهل الظاهر أن من صلى فى الحجر، بلاد ثمود، وهو غير باك، فعليه سجود السهو إن كان ساهيًا، وإن تعمد ذلك بطلت صلاته، وكذلك من صلى فى موضع مسجد الضرار، وهذا خُلْف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 من القول لا خفاء بسقوطه، إن كان لا يجوز عنده فيه صلاة من تعمد ترك البكاء، فكيف أجاز صلاة الساهى بعد سجود السهو، وإسقاط الواجبات لا تجبر بسجود السهو عند العلماء، وهو تخليط منه، فقد بين الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى الحديث معنى نهيه عن دخول مواضع الخسف لغير الباكى وهو قوله: (لا يصيبكم مثل ما أصابهم) ، وليس فى هذا ما يدل على فساد صلاة من لم يبك، وإنما فيه خوف نزول العذاب به، وتسويته بين الصلاة فى موضع مسجد الضرار بالصلاة فى موضع الخسف ليس فى هذا الحديث، وهو قياس فاسد منه، وهو لا يقول بالقياس، فقد تناقض. 48 - باب الصَّلاةِ فِي الْبِيعَةِ وَقَالَ عُمَرُ: إِنَّا لا نَدْخُلُ كَنَائِسَكُمْ مِنْ أَجْلِ التَّمَاثِيلِ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَلِّي فِي الْبِيعَةِ، إِلا بِيعَةً فِيهَا تَمَاثِيلُ. / 68 - فيه: عَائِشَةَ: أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، يُقَالُ لَهَا: مَارِيَةُ، فَذَكَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الْعَبْدُ الصَّالِحُ - أَوِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ - بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ) . / 69 - وفيه: عائشة، وابْنَ عَبَّاسٍ: أن نبى اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قال عند موته: (لَعْنَ اللَّه الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا) . / 70 - وفيه: أبو هريرة بمثل معناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 اختلف العلماء فى الصلاة فى البيع والكنائس فكره عمر، وابن عباس الصلاة فيها من أجل الصور، وروى عن عمر بن الخطاب قال: انضحوها بماء وسدر وصلوا، وهو قول مالك. ذكر إسماعيل بن إسحاق، عن مالك قال: أكره الصلاة فى الكنائس لما يصيب فيها أهلها من لحم الخنازير والخمور، وقلة احتياطهم من النجس، إلا أن يضطر إلى ذلك من شدة طين أو مطر، إلا أن يتيقن أنه لم يصبها نجس، وكره الصلاة فيها الحسن، وأجاز الصلاة فيها النخعى، والشعبى، وعطاء، وابن سيرين؛ ورواية عن الحسن وهو قول الأوزاعى، وصلى أبو موسى الأشعرى فى كنيسة يوحنا بالشام. وقال المهلب: هذا الباب غير معارض للباب الذى قبله باب: (من صلى وقُدَّامَهُ نار أو تنور) ، وقول عمر، وابن عباس: (إنا لا ندخل كنائسكم من أجل الصور) ، فإنما ذلك على الاختيار والاستحسان دون ضرورة تدعوه إليه، والاختيار أن لا يبتدئ فيها الصلاة ولا إلى شىء من معبودات الكفار؛ ألا ترى أن الرسول عينت له النار فى صلاة الخسوف ولم يبتدئ الصلاة إليها وتمت صلاته. 49 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) : جُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا / 71 - فيه: جابر قال نبى الله (صلى الله عليه وسلم) : (جُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي، أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ، فَلْيُصَلِّ) . الحديث يدل أن هذه الأبواب المتقدمة المكروه الصلاة فيها ليس ذلك على التحريم والمنع؛ لأن الأرض كلها مباحة الصلاة فيها بكونها له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 مسجدًا، فدخل فى عمومها الكنائس والمقابر ومرابض الإبل وغيرها إذا كانت طاهرة، وهذا مما خص به نبينا، عليه السلام، أن أباح الله له جملة الأرض للصلاة، والاختيار ألا يبدأ بهذه المواضع المكروهة إلا عن ضرورة، فهو أخلص للصلاة وأنزه لها من الخواطر. 50 - باب نَوْمِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَسْجِدِ / 72 - فيه: عائشة: أن وليدة كَانَتْ سَوْدَاءَ لِحَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَعْتَقُوهَا، فَكَانَتْ مَعَهُمْ، قَالَتْ: فَخَرَجَتْ صَبِيَّةٌ لَهُمْ عَلَيْهَا وِشَاحٌ أَحْمَرُ مِنْ سُيُورٍ، قَالَتْ: فَوَضَعَتْهُ، أَوْ وَقَعَ مِنْهَا، فَمَرَّتْ حُدَيَّاةٌ، وَهُوَ مُلْقًى، فَحَسِبَتْهُ لَحْمًا، فَخَطِفَتْهُ، قَالَتْ: فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، قَالَتْ: فَاتَّهَمُونِي بِهِ، قَالَتْ: فَطَفِقُوا يُفَتِّشُونَ حَتَّى فَتَّشُوا قُبُلَهَا، قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنِّي لَقَائِمَةٌ مَعَهُمْ، إِذْ مَرَّتِ الْحُدَيَّاةُ، فَأَلْقَتْهُ، قَالَتْ: فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ - زَعَمْتُمْ - وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ، وَهُوَ ذَا هُوَ، قَالَتْ: فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَسْلَمَتْ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَكَانَ لَهَا خِبَاءٌ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ حِفْشٌ، قَالَتْ: فَكَانَتْ تَأْتِينِي فَتَحَدَّثُ عِنْدِي، قَالَتْ: فَلا تَجْلِسُ عِنْدِي مَجْلِسًا إِلا قَالَتْ: وَيَوْمَ الْوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا أَلا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي قال المهلب: فيه أنه من لم يكن له مسكن ولا مكان مبيت أنه يباح له المبيت فى المسجد واصطناع الخيمة وشبهها للمسكن، امرأةً كانت أو رجلاً. وفيه: أن السنة الخروج من بلدة جرت فيها فتنة على الإنسان تشاؤمًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 بمكان المحن، ودليل هذا قوله تعالى: (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) [النساء: 97] ، فالواجب على كل من أدركته ذلة أو جرت عليه محنة أن يخرج إلى ما وسع الله عليه من الأرض، فإن له فى ذلك خيرهُ، وربما كان الذى جرى عليه من المحنة سببًا أراد الله به إخراجه من تلك البلدة لخير قدره له فى غيرها كما قدر لهذه السوداء، ألا ترى تمثلها بهذا المعنى فى بيت الشعر الذى أنشدته، فجعلت المحنة والذلة فى يوم الوشاح هما الذى أنجياها من الكفر؛ إذ كانا سببًا لذلك. والوشاح عند العرب خيطان من لؤلؤ مخالف بينهما تتوشح به المرأة، والرجل يتوشح بثوبه تشبيهًا بالوشاح، وشاة موشحة إذا كانت ذات خطتين، والسير: الشراك، والجمع: سيور، من العين. والحِفْشُ: البيت الصغير، من العين أيضًا. 51 - باب نَوْمِ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ وَقَالَ أَنَسِ: قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَكَانُوا فِي الصُّفَّةِ. وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: كَانَ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ الْفُقَرَاءَ. / 73 - فيه: ابن عمر: أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ، وَهُوَ شَابٌّ أَعْزَبُ، لا أَهْلَ لَهُ، فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ، عليه السلام. / 74 - وفيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: (أن عليًا غاضب فَاطِمَةَ، فَخَرَجَ، وَلَمْ يَقِلْ عِنْدِها، فَجَاءَ الْمَسْجِدِ فرَقِد فيه، فطلبه رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فجاءه وَهُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 مُضْطَجِعٌ، وقَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ، وَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ يَمْسَحُهُ عَنْهُ، وَيَقُولُ: قُمْ أَبَا تُرَابٍ) . قال المهلب: فى هذا الباب من الفقه: جواز سكنى الفقراء فى المسجد وجواز النوم فيه لغير الفقراء. وقد اختلف العلماء فى ذلك، فممن رخص النوم فى المسجد ابنُ عمر، وقال: كنا نبيت فيه ونقيل على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وعن سعيد بن المسيب، والحسن البصرى، وعطاء، وابن سيرين مثله، وهو قول الشافعى، واختلف عن ابن عباس، فروى عنه أنه قال: لا تتخذوا المسجد مرقدًا، وروى عنه أنه قال: إن كنت تنام فيه لصلاة فلا بأس. وقال مالك: لا أحب لمن له منزل أن يبيت فى المسجد، وسَهَّل فيه للضعيف ولمن لا منزل له، وهو قول أحمد وإسحاق، وقال مالك: وقد كان أضياف الرسول يبيتون فى المسجد، وكره النوم فى المسجد: ابن مسعودُ، وطاوسُ، ومجاهدُ، وهو قول الأوزاعى. وقول من أجاز النوم فيه للغرباء وغيرهم أولى لأحاديث هذا الباب، وقد سئل سعيد ابن المسيب، وسليمان بن يسار عن النوم فى المسجد، فقالا: كيف تسألون عنها، وقد كان أهل الصفة ينامون فيه وهم قوم كان مسكنهم المسجد. وذكر الطبرى عن الحسن قال: رأيت عثمان بن عفان نائمًا فى المسجد ليس حوله أحد، وهو أمير المؤمنين، قال: وقد نام فى المسجد جماعة من السلف، قال الطبرى: فغير محذور الانتفاع بالمساجد فى ما يحل: كالأكل والشرب والجلوس وشبه النوم من الأعمال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 وقال الحربى: الصفة فى مسجد الرسول موضع مظلل يأوى إليه المساكين. وفى حديث سهل من الفقه: الممازحة للغاضب بالتكنية بغير كنيته إذا كان ذلك لا يغضبه ولا يكرهه؛ بل يؤنسه من حرجه. وفيه: مداراة الصهر وتسلية أمره من عتابه. وفيه: جواز التكنية بغير الولد. وفيه: أن الملابس كلها يحاول بها ستر العورة وأنه لا ملبس لمن بدت عورته. 52 - باب إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ / 75 - فيه: أبو قتادة، أن نبى الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، قَبْلَ أَنْ يَجْلِس) . اتفق جماعة أهل الفتوى على أن تأويل هذا الحديث محمول على الندب والإرشاد مع استحبابهم الركوع لكل من دخل المسجد، وهو طاهر، فى وقت تجوز فيه النافلة. قال مالك: ذلك حسن وليس بواجب. وأوجب ذلك أهل الظاهر فرضًا على كل داخل فى وقت تجوز فيه الصلاة، وقال بعضهم: ذلك واجب فى كل وقت؛ لأن فعل الخير لا يُمنع منه إلا بدليل لا معارض له. قال الطحاوى: وحجة الجماعة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر سُلَيْكًا حين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 جاء يوم الجمعة وهو يخطب أن يركع ركعتين، وأمر مرةً أخرى رجلاً رآه يتخطى رقاب الناس بالجلوس ولم يأمره بالركوع، حدثنا بًحْر بن نصر، حدثنا عبد الله بن وهب، عن معاوية بن صالح، عن أبى الزاهرية، عن عبد الله بن بسر قال: (جاء رجل يتخطى رقاب الناس فى يوم الجمعة فقال له رسول الله: (اجلس فقد آذيت وآنيت) ، فهذا يخالف حديث سليك، واستعمال الأحاديث هو على ما تأولها عليه جماعة الفقهاء. قال الطحاوى: وأما قول من قال من أهل الظاهر أن عليه أن يركع فى كل وقت دخل المسجد فهو خطأ؛ لنهيه عليه السلام عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وغير ذلك من الأوقات المنهى عنها، فمن دخل المسجد فى هذه الأوقات، فليس بداخل فى أمره بالركوع عند دخوله فى المسجد، وإنما يدخل فى أمره بذلك كل من لو كان فى المسجد قبل ذلك فأراد الصلاة، كان له ذلك، فأما من لو كان فى المسجد قبل ذلك لم يكن له أن يصلى، فليس بداخل فى ذلك. وقد روى عن جماعة من السلف أنهم كانوا يمرون فى المسجد ولا يركعون، فروى ابن أبى شيبة عن عبد العزيز الدراوردى، عن زيد بن أسلم قال: كان كبار أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون. قال زيد: وقد رأيت ابن عمر يفعله، وذكر ذلك مالك عن زيد بن ثابت، وسالم بن عبد الله، وكان القاسم بن محمد يدخل المسجد، فيجلس فيه ولا يصلى وفعله الشعبى، وقال جابر بن زيد: إذا دخلت مسجدًا فصلّ فيه، فإن لم تصل فيه فاذكر الله فكأنك قد صليت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 53 - باب الْحَدَثِ فِي الْمَسْجِدِ / 76 - فيه: أبو هريرة أن نبى الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (الْمَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ) . قال المهلب: معنى هذا الباب أن الحدث فى المسجد خطيئة يُحرم بها المحدث استغفار الملائكة ودعاؤهم المرجو بركته، ويدل على ذلك قول الرسول: (النخامة فى المسجد خطيئة وكفارتها دفنها) ، فلما كان للنخامة كفارة قيل للمتنخم: تمادى فى المسجد فى صلاتك وابق فيه مدعوًا لك، ولما لم يكن للحدث فى المسجد كفارة ترفع أذاه كما رفع الدفن أذى النخامة لم يتمادى الاستغفار له ولا الدعاء، وجب زوال الملائكة عنه لما آذاهم به من الرائحة الخبيثة، والله أعلم. قال المؤلف: فمن كان كثير الذنوب وأراد أن يحطها الله عنه بغير تعب فليغتنم ملازمة مكان مصلاه بعد الصلاة ليستكثر من دعاء الملائكة واستغفارهم له، فهو مرجو إجابته لقوله: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) [الأنبياء: 28] ، وقد أخبر عليه السلام أنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه، وتأمين الملائكة إنما هو مرة واحدة عند تأمين الإمام ودعاؤهم لمن قعد فى مصلاه دائمًا أبدًا ما دام قاعدًا فيه، فهو أحرى بالإجابة، وقد شبه (صلى الله عليه وسلم) انتظاهر الصلاة بعد الصلاة بالرباط وأكد ذلك بتكراره مرتين بقوله: (فذلكم الرباط) ، فعلى كل مؤمن عاقل سمع هذه الفضائل الشريفة أن يحرص على الأخذ بأوفر الحظ منها ولا تمر عنه صفحًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 وقد اختلف السلف فى جلوس المُحدث فى المسجد فروى عن أبى الدرداء أنه خرج من المسجد فبال، ثم دخل وتحدث مع أصحابه ولم يمس ماءً، وعن على بن أبى طالب مثله، وروى ذلك عن عطاء، والنخعى، وسعيد بن جبير. وكره أن يتعمد الجلوس فى المسجد على غير وضوءٍ سعيدُ بن المسيب، والحسن البصرى وقالا: يمر مارًا ولا يجلس فيه. 54 - باب بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخدرى: كَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ. وَأَمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: أَكِنَّ النَّاسَ مِنَ الْمَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ، فَتَفْتِنَ النَّاسَ. وَقَالَ أَنَس: ٌ يَتَبَاهَوْنَ بِهَا، ثُمَّ لا يَعْمُرُونَهَا إِلا قَلِيلا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَتُزَخْرِفُنَّهَا، كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. / 77 - فيه: ابن عمر: (أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ، وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا، وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ، وَبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ، وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا، ثُمَّ غَيَّرَهُ عُثْمَانُ فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ، وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ، وَسَقَفَهُ بِالسَّاجِ) . قال المؤلف: جاءت الآثار عن الرسول، وعن السلف الصالح بكراهية تشييد المساجد وتزيينها، وروى حبيب بن الشهيد، عن الحسن قال: (لما بنى المسجد قالوا: يا رسول الله، كيف نبنيه؟ قال: (ليس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 رغبة عن أخى موسى، عريش كعريش موسى) ، وروى سفيان عن أبى فزارة، عن يزيد بن الأصم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (ما أمرت بتشييد المساجد) . وقال أبى: إذا زوقتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم، فالدمار عليكم. وقال ابن عباس: أمرنا أن نبنى المساجد حما والمدائن شرفًا. وقال مجاهد: نهينا أن نصلى فى مسجد مشرف. وهذه الآثار مع ما ذكر البخارى فى هذا الباب تدل أن السنة فى بنيان المساجد: القصد، وترك الغلو فى تشييدها خشية الفتنة والمباهاة ببنائها؛ ألا ترى أن عمر قال للذى أمره ببناء المسجد: (أَكِنَّ الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس) ، ويمكن أن يفهم هذا عمر من رد الرسول الخميصة إلى أبى جهم حين نظر إلى أعلامها فى الصلاة، وقال: (أخاف أن تفتننى) . وكان عمر قد فتح الله الدنيا فى أيامه ومكنه من المال، فلم يغير المسجد عن بنيانه الذى كان عليه فى عهد النبى، ثم جاء الأمر إلى عثمان، والمال فى زمانه أكثر، فلم يزد أن جعل فى مكان اللبن حجارة وقصَّة، وسقفه بالساج مكان الجريد، فلم يُقصر هو وعمر عن البلوغ فى تشييده إلى أبلغ الغايات إلا عن علم منهما عن الرسول بكراهة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 ذلك، وليقتدى بهما فى الأخذ من الدنيا بالقصد والكفاية، والزهد فى معالى أمورها وإيثار البلغة منها. روى برد أبو العلاء، عن القاسم بن عبد الرحمن قال: (جمعت الأنصار مالاً، فقالوا: يا رسول الله، ابن بهذا المسجد فقال: (إذًا يعجب ذلك المنافقين) ، فدل هذا الحديث أن المؤمنين لا ينبغى أن يعجبهم ذلك. 55 - باب التَّعَاوُنِ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ وقول الله: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ) [التوبة: 17] ، الآية . / 78 - فيه: عِكْرِمَةَ: (أن ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ له وَلابْنِهِ: انْطَلِقَا إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ، فَانْطَلَقْنَا، فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ يُصْلِحُهُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَاحْتَبَى به، ثُمَّ أَنْشَأَ فحَدِّثُنَا، حَتَّى أَتَى على ذِكْرُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَرَآهُ نَّبِيُّ الله (صلى الله عليه وسلم) ، فَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ، وَيَقُولُ: وَيْحَ عَمَّارٍ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ، قَالَ: يَقُولُ عَمَّارٌ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ) . التعاون فى بنيان المسجد من أفضل الأعمال؛ لأن ذلك مما يجرى للإنسان أجره بعد مماته، ومثل ذلك حفر الآبار وتحبيس الأموال التى يعم العامة نفعها. قال المهلب: وفى هذا الحديث بيان ما اختلف فيه من قصة عمار وقوله: (يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار) ، إنما يصح ذلك فى الخوارج الذين بعث إليهم على عمارًا ليدعوهم إلى الجماعة، وليس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 يصح فى أحد من الصحابة؛ لأنه لا يجوز لأحد من المسلمين أن يتأول عليهم إلا أفضل التأويل؛ لأنهم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذين أثنى الله عليهم وشهد لهم بالفضل، فقال تعالى: (كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس) [آل عمران: 110] . قال المفسرون: هم أصحاب رسول الله، وقد صح أن عمارًا بعثه على إلى الخوارج يدعوهم إلى الجماعة التى فيها العصمة بشهادة الرسول (لا تجتمع أمتى على ضلال) . وفيه: أن عمارًا فهم عن الرسول أن هذه الفتنة فى الدين يستعاذ بالله منها، وفى الاستعاذة منها دليل أنه لا يدرى أحد فى الفتنة أمأجور هو أم مأزور إلا بغلبة الظن، ولو كان مأجورًا ما استعاذ بالله من الأجر، وهذا يرد الحديث الذى روى: (لا تستعيذوا بالله من الفتنة، فإنها حصاد المنافقين) . وقول عكرمة، عن أبى سعيد: (فأخذ رداءه فاحتبى به، ثم أنشأ فحدثنا) ، فيه أن العالم له أن يتهيأ للحديث ويجلس له جلسته. وفيه: أن الرجل العالم يبعث ابنه إلى عالم آخر ليتعلم منه؛ لأن العلم لا يحوى جميعه أحد ولا يحيط به مخلوق. وفيه: أن أفعال البر للإنسان أن يأخذ منها ما يشق عليه إن شاء كما أخذ عمار لبنتين، فاستحق بذلك كرامةً من الرسول فى نفضه عنه الغبار، وذكر فضيلته التى تأتى فى الزمن الذى بعده. وفيه: علامة النبوة؛ لأنه عليه السلام، أخبر بما يكون فكان كما قال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 56 - باب الاسْتِعَانَةِ بِالنَّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ فِي أَعْوَادِ الْمِنْبَرِ وَالْمَسْجِدِ / 79 - فيه: سهل بن سعد قال: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى امْرَأَةٍ قال: (مُرِي غُلامَكِ النَّجَّارَ، يَعْمَلْ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ) . / 80 - وقال جابر: (قَالَتْ امْرَأَةً: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا، تَقْعُدُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ لِي غُلامًا نَجَّارًا؟ قَالَ: (إِنْ شِئْتِ) ، فَعَمِلَتِ الْمِنْبَرَ) . فيه: الاستعانة بأهل الصناعات والمقدرة فى كل شىء يشمل المسلمين نفعه، وأن المبادر إلى ذلك مشكور له فعله. فإن قيل: فإن حديث سهل يخالف معنى حديث جابر، وذلك أن فى حديث سهل أن الرسول سأل المرأة أن تأمر عبدها بعمل المنبر، وفى حديث جابر أن المرأة سألت النبى (صلى الله عليه وسلم) ذلك. قيل: يحتمل أن تكون المرأة بدأت النبى بالمسألة وتبرعت له بعمل المنبر، فلما أباح لها ذلك وقبل رغبتها، أمكن أن يبطئ الغلام بعمله، فتعلقت نفس الرسول به فاستنجزها إتمامه وإكمال عدتها، إذ علم عليه السلام طيب نفس المرأة بما بذلته من صنعة غلامها، وقد يمكن أن يكون إرساله عليه السلام، إلى المرأة ليعرفها بصفة ما يصنع الغلام فى الأعواد وأن يكون ذلك منبرًا. وفيه: أنه من وعد غيره بِعَدةٍ أنه يجوز استنجازه فيها، وتحريكه فى إتمامها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 57 - باب مَنْ بَنَى مَسْجِدًا / 81 - فيه: عُثْمَانَ أنه قال - عِنْدَ قَوْلِ النَّاسِ فِيهِ حِينَ بَنَى مَسْجِدَ الرَّسُولِ -: إِنَّكُمْ أَكْثَرْتُمْ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا - قَالَ بُكَيْرٌ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ - بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ) . المساجد بيوت الله وقد أضافها الله إلى نفسه بقوله: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) [التوبة: 18] ، حسبك بهذا شرفًا لها، وقال: (فى بيوت أذن الله أن ترفع) [النور: 36] ، الآية فهى أفضل بيوت الدنيا وخير بقاع الأرض، وقد تفضل الله على بانيها بأن بنى له قصرًا فى الجنة، وأجر المسجد جارٍ لمن بناه فى حياته وبعد مماته ما دام يُذكر الله فيه ويُصلَّى فيه، وهذا مما جازت المجازاة فيه من جنس الفعل. 58 - بَاب يَأْخُذُ بِنُصُولِ النَّبْلِ إِذَا مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ / 82 - فيه: جابر قال: مَرَّ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَعَهُ سِهَامٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: (أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا) . / 83 - وفيه: أبو بردة: قال نبى الله (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ مَرَّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا أَوْ أَسْوَاقِنَا بِنَبْلٍ، فَلْيَأْخُذْ عَلَى نِصَالِهَا، لا يَعْقِرْ بِكَفِّهِ مُسْلِمًا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 هذا من تأكيد حرمة المسلم لئلا يروع بها أو يؤذى؛ لأن المساجد مورودة بالخلق، ولا سيما فى أوقات الصلوات، فخشى عليه السلام أن يؤذى بها أحد، وهذا من كريم خلقه، ورأفته بالمؤمنين. والمراد بهذا الحديث: التعظيم لقليل الدم وكثيره. وفيه: أن المسجد يجوز فيه إدخال السلاح، وأما حيث جابر، فإنه لا يظهر فيه الإسناد؛ لأن سفيان قال لعمرو: أسمعت جابرًا يقول: مر رجل فى المسجد ومعه سهام، فقال له رسول الله: (أمسك بنصالها) ، ولم يُنقل أن عمرًا، قال له: نعم، وقد ذكره البخارى فى غير كتاب الصلاة، عن على بن عبد الله، عن سفيان قال: قلت لعمرو: سمعت جابر بن عبد الله يقول: مر رجل بسهام فى المسجد، فقال له رسول الله: (أمسك بنصالها) ، فقال: نعم، فبان بقوله: نعم، إسناد الحديث. 59 - باب إنشاد الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ / 84 - فيه: أبو سلمة: أَنَّهُ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ يَسْتَشْهِدُ أَبَا هُرَيْرَةَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ، هَلْ سَمِعْتَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (يَا حَسَّانُ، أَجِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ؟) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ. قال المؤلف: ليس فى حديث هذا الباب بيان أن حسان أنشد شعرًا فى المسجد بحضرة النبى، وقد ذكر البخارى هذا الحديث فى كتاب بدء الخلق، وبه يتم معنى هذا الباب، قال سعيد بن المسيب: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 (مر عمر فى المسجد وحسان ينشد، فقال: كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبى هريرة فقال: أنشدك بالله أسمعت النبى يقول: أجب عنى اللهم أيده بروح القدس؟ قال: نعم) ، يدل هذا أن قول الرسول لحسان: (أجب عن رسول الله) ، كان فى المسجد، وأنه أنشد فيه ما جاوب به المشركين. واختلف العلماء فى إنشاد الشعر فى المسجد، فأجازته طائفة إذا كان الشعر مما لا بأس بروايته، قال ابن حبيب: رأيت ابن الماجشون، ومحمد بن سلام ينشدان فيه الشعر ويذكران أيام العرب وقد كان اليربوع، والضحاك بن عثمان ينشدان مالكًا ويحدثانه بأخبار العرب، فيصغى إليهما، وخالفهم فى ذلك آخرون، فكرهوا إنشاد الشعر فى المسجد، واحتجوا بما رواه الليث، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: (أن الرسول كره أن ينشد الشعر فى المسجد، وأن تباع فيه السلع، وأن يتحلق فيه قبل الصلاة) . قال الطحاوى: وحجة أهل المقالة الأولى ما ذكره البخارى فى بدء الخلق، أن عمر مر فى المسجد وحسان ينشد فيه، فزجره، فقال: كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك، وكان ذلك بحضرة أصحاب الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فلم ينكره أحد منهم ولا أنكره عمر أيضًا، فكأن الشعر الذى نهى عن إنشاده فى المسجد: الشعر الذى فيه الخنا والزور، ويجوز أن يكون الشعر الذى يغلب على المسجد حتى يكون كل من فى المسجد متشاغلاً به، كما تأول أبو عبيد فى قوله عليه السلام: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يَرِيَهُ، خير له من أن يمتلئ شعرًا) ، أنه الذى يغلب على صاحبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 65 - باب أَصْحَابِ الْحِرَابِ فِي الْمَسْجِدِ / 85 - فيه: عائشة قالت: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمًا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي، وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ، أَنْظُرُ إِلَى لَعِبِهِمْ) . قال المهلب: المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين، فما كان من الأعمال مما يجمع منفعة الدين وأهله، فهو جائز فى المسجد، واللعب بالحراب من تدريب الجوارح على معانى الحروب، وهو من الاشتداد للعدوِّ، والقوة على الحرب فهو جائز فى المسجد وغيره. وفيه: جواز النظر إلى اللهو المباح وقد يمكن أن يكون ترك الرسول عائشة لتنظر إلى اللعب بالحراب؛ لتضبط السنة فى ذلك وتنقل بعض تلك الحركات المحكمة إلى بعض من يأتى من أبناء المسلمين وتعرفهم بذلك. وفيه: من حسن خلق الرسول وكريم معاشرته لأهله ما يلزم المسلم امتثاله والاقتداء به فيه، ألا ترى وقوفه عليه السلام وستره لعائشة وهى تنظر إلى اللعب. 61 - باب ذِكْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْمَسْجِدِ / 86 - فيه: عائشة: أن بَرِيرَةُ أَتَتْهَا تَسْأَلُهَا كِتَابَتِهَا، فقام رَسُولُ اللَّهِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَت فِي كِتَابِ اللَّهِ) . وذكر الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 قال المؤلف: المساجد إنما اتخذت لذكر الله تعالى وتلاوة القرآن، والصلاة، وإنما يجوز فيها من البيع والشراء وسائر أمور الدنيا ما يكون بمعنى تعليم الناس والتنبيه لهم على الاحتراس من مواقعة الحرام ومخالفة السنن، والموعظة فى ذلك، وقد روى عن نبى الله (صلى الله عليه وسلم) أنه نهى عن البيع والشراء فى المسجد، وهو قول مالك وجماعة من العلماء، وروى الدراوردى، عن يزيد بن الخصيفة، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبى هريرة أن الرسول قال: (إذا رأيتم الرجل يبيع ويشترى فى المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم الرجل ينشد فيه الضالة، فقولوا: لا ردَّ الله عليك) ، وذكر مالك، عن عطاء بن يسار أنه كان يقول لمن أراد أن يبيع فى المسجد: عليك بسوق الدنيا، فإنما هذا سوق الآخرة. قال الطحاوى: ومعنى البيع الذى نهى عنه فى المسجد الذى يغلب على المسجد ويعمه، حتى يكون كالسوق، فذلك مكروه، وأما ما سوى ذلك فلا بأس به، وكذلك التحلق الذى نهى عنه قبل الصلاة إذا عم المسجد وغلبه، فهو مكروه، وغير ذلك لا بأس به، وقد أجمع العلماء أن ما عقد من البيع فى المسجد أنه لا يجوز نقضه، إلا أن المسجد ينبغى أن يجنب جميع أمور الدنيا، ولذلك بنى عمر بن الخطاب البطحاء خارج المسجد، وقال: (من أراد أن يلغط، فليخرج إليها) ، فوجب تنزيه المسجد عما لم يكن من أمور الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 62 - باب التَّقَاضِي وَالْمُلازَمَةِ فِي الْمَسْجِدِ / 87 - فيه: كَعْبٍ بن مالك: أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا، حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، فَنَادَى: (يَا كَعْبُ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ، أَيِ الشَّطْرَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: قُمْ فَاقْضِهِ) . قال المؤلف: فيه: المخاصمة فى المسجد فى الحقوق والمطالبة بالديون، وقال مالك: لا بأس أن يقضى الرجل الرجل فيه ذهبًا، فأما بمعنى التجارة والصرف فلا أحبه. قال المهلب: وفيه الحض على الوضع عن المُعْسِرِ. وفيه: القضاء بالصالح إذا رآه السلطان صلاحًا ولم يشاور الموضوع عنه إن كان يقبل الوضيعة أم لا. وفيه: الحكم عليه بالصالح إذا كان فيه رشده وصلاح له لقوله: (قم فاقضه) . وفيه: أن الإشارة باليد تقوم مقام الإفصاح باللسان إذا فهم المراد بها. وفيه: الملازمة فى الاقتضاء. وفيه: إنكار رفع الصوت بالمسجد بغير القراءة، إلا أنه عليه السلام، لم يعنفهما على ذلك لما كان لابد لهما منه. 63 - باب كَنْسِ الْمَسْجِدِ وَالْتِقَاطِ الْخِرَقِ وَالْقَذَى وَالْعِيدَانِ / 88 - فيه: أبو هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلا أَسْوَدَ - أَوِ امْرَأَةً سَوْدَاءَ - كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 فَمَاتَ، فَسَأَلَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) عَنْهُ، فَقَالُوا: مَاتَ، قَالَ: أَفَلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهِ؟ دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ - أَوْ قَالَ: قَبْرِهَا - فَأَتَى قَبْرَهَا، فَصَلَّى عَلَيْهَا) . وترجم له: باب الخدم للمسجد. قال ابن عباس: قوله تعالى: (إنى نذرت لك ما فى بطنى محررًا) [آل عمران: 35] ، يعنى: محررًا للمسجد. قال المؤلف: فيه الحض على كنس المساجد وتنظيفها؛ لأنه عليه السلام، إنما خصه بالصلاة عليه بعد دفنه لأجل ذلك، وقد روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه كنس المسجد، ذكر ابن أبى شيبة، عن وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن يعقوب بن زيد: (أن الرسول كان يتبع غبار المسجد بجريدة) ، وعن وكيع، قال: حدثنا كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب: (أن عمر أتى مسجد قباء على فرس له، فصلى فيه، ثم قال: يا يرفأ ائتنى بجريدة فأتاه بها، فاحتجز عمر بثوبه، ثم كنسه) . وفى حديث أبى هريرة: خدمة الصالحين والتبرك بذلك. وفيه: السؤال عن الخادم والصديق إذا غاب وافتقاده. وفيه: المكافأة بالدعاء والترحم على من أوقف نفسه على نفع المسلمين ومصالحهم. وفيه: الرغبة فى شهود جنائز الصالحين. قال ابن القصار: وفى صلاة الرسول على قبر السوداء بعد دفنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 دليل على جواز الصلاة فى المقبرة، وقال صاحب الأفعال: قَمَّ البيت قمًا: كنسه، والقمامة: الكناسة، وقمت الشاة: رعت، ويقال للمكنسة: المقمة. 64 - باب تَحْرِيمِ تِجَارَةِ الْخَمْرِ فِي الْمَسْجِدِ / 89 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (لَمَّا أُنْزِلَتِ الآيَاتُ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا، خَرَجَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَرَأَهُنَّ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ حَرَّمَ تِجَارَةَ الْخَمْرِ) . قال المؤلف: غرضه فى هذا الباب، والله أعلم، أن المسجد لما كان مسجدًا للصلاة ولذكر الله منزهًا عن ذكر الفواحش، والخمرُ والربا من أكبر الفواحش، فلما ذكر الرسول تحريمها فى المسجد، دل أنه لا بأس بذكر المحرمات والأقذار فى المسجد على وجه النهى عنها والمنع منها. 65 - باب الأسِيرِ أَوِ الْغَرِيمِ يُرْبَطُ فِي الْمَسْجِدِ وكان شريح يأمر الغريم أن يحبس إلى سارية المسجد. / 90 - فيه: أبو هريرة: قال الرسول: (إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاةَ، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى تُصْبِحُوا، وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ: (رَبِّ اغفر لى وهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي) [ص 53] ) قَالَ رَوْحٌ: فَرَدَّهُ خَاسِئًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 وفى هذا الحديث إباحة ربط الأسير فى المسجد، قال المهلب: فيه ربط من خشى هروبه لحق عليه أو دينٍ والتوثق منه فى المسجد وغيره، ورؤيته عليه السلام للعفريت هو ما خُصَّ به كما خُصَّ برؤية الملائكة، فقد أخبر أن جبريل له ستمائة جناح، وأخبرنا الله بذلك بقوله: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) [النجم: 18] ، وبقوله: (ولقد رآه نزلةً أخرى) [النجم: 13] ، وقد رآهم يوم انصرافهم عن الخندق، ورأى الشيطان فى هذه الليلة وأقدر عليه لتجسمه؛ لأن الأجسام ممكن القدرة عليها، ولكنه ألقى فى روعه ما وهب سليمان، فلم ينفذ ما قوى عليه من حبسه رغبة عما أراد سليمان الانفراد به، وحرصًا على إجابة الله دعوته، وأما غير الرسول (صلى الله عليه وسلم) من الناس فلا يمكن من هذا ولا يرى أحد الشيطان على صورته غير الرسول؛ لأن الله يقول: (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) [الأعراف: 27] ، لكنه يراه سائر الناس إذا تشكل فى غير شكله، وتصور فى غير صورته، كما تشكل الذى طعنه الأنصارى حين وجده فى بيته فى صورة حية، فقتلهُ، فمات الرجل به، وبين الرسول ذلك فى قوله: (إن بالمدينة جنًا قد أسلموا) . وقوله: (فرده خاسئًا) ، يقال: خسأ الكلب خسوءًا: تباعدًا، وخسأته قلت له: اخسأ. 66 - باب: الاغْتِسَالِ إِذَا أَسْلَمَ / 91 - فيه: أبو هريرة قال: (بَعَثَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) خَيْلا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الرسول، فَقَالَ: (أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ) ، فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) . اختلف العلماء هل على من أسلم غسل؟ على ثلاثة أقوال، واختلف فى ذلك قول مالك أيضًا، فقال فى (المدونة) : إذا أسلم النصرانى فعليه الغسل؛ لأنهم لا يتطهرون، وممن أوجب عليه الغسل أحمد بن حنبل، وأبو ثور. والقول الثانى: روى ابن وهب، وابن أبى أويس، عن مالك أنه سئل عن رجل أسلم هل يجب عليه غسل أم يكفيه الوضوء؟ قال: لم يبلغنا أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر أحدًا أسلم بالغسل. والقول الثالث: قال ابن المنذر: قال الشافعى: أحب أن يغتسل، فإن لم يكن جنبًا أجزأه أن يتوضأ، ولابن القاسم فى (العتبية) مثله قال: من أسلم فعليه أن يغتسل، فإن توضأ وصلى ولم يغتسل أعاد أبدًا إذا كان قد جامع أو كان جنبًا، وهذا يدل من قوله: إن لم يكن جنبًا أنه يجزئه الوضوء كما قال الشافعى، قال المهلب: وحديث ثمامة حجة لرواية ابن وهب، وابن أبى أويس؛ لأن ثمامة حين انطلق فاغتسل، ثم دخل المسجد، ثم شهد بالإسلام، وليس فى الحديث أن نبى الله أمره بالاغتسال، ولذلك قال مالك: لم يبلغنا أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر أحدًا أسلم بالغسل. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وأما قول مالك الآخر: (عليه الغسل؛ لأنهم لا يتطهرون) ، فإن معناه لا يتطهرون من النجاسة فى أبدانهم، لا يجوز غير هذا؛ لأنه يستحيل عليهم التطهير من الجنابة وإن نووها؛ لعدم الشرع، فسقط قول الشافعى وابن القاسم. قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 أبو عبد الله: فإن قيل: إذا كان عندك غير جنب فلا يكون محدثًا فأبيح له الصلاة بغير وضوء. فالجواب: أنه إذا أسلم وهو غير جنب ولا متوضئ، فوجب أن يتوضأ للصلاة إذا كان غير متوضئ، كما لا يغتسل لأنه غير جنب، وإنما اغتساله سنة لما قال مالك أنهم لا يتطهرون من النجاسة فى أبدانهم. 67 - باب الْخَيْمَةِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْمَرْضَى وَغَيْرِهِمْ / 92 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي الأكْحَلِ، فَضَرَبَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ، لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ، فَلَمْ يَرُعْهُمْ، وَفِي الْمَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ، إِلا الدَّمُ يَسِيلُ إِلَيْهِا، فَقَال: يَا أَهْلَ الْخَيْمَةِ، مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ؟) فَإِذَا سَعْدٌ يَغْذُو جُرْحُهُ دَمًا، فَمَاتَ منهَا. قال المهلب: فيه جواز سكنى المسجد للعذر. وفيه: أن السلطان أو العالم إذا شق عليه النهوض إلى عيادة مريض يزوره ممن يهمه أمره، أن ينقل المريض إلى الموضع يخف عليه فيه زيارته ويقرب منه. وفيه: أن النجاسات ليست إزالتها بفرض، ولو كان فرضًا لحيل بينها وبين الذريعة إليها، ولما أجاز الرسول للجريح أن يسكن فى المسجد، علمنا أن الأمر ليس على الفرض، وكذلك حين ترك الأعرابى يبول فى المسجد، وقال: دعوه، ولو كان حرامًا فرضًا، ما قال: دعوه يستديم البول. وقال صاحب (العين) : غَذَا العِرْقُ يغذو: إذا سال الدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 68 - باب إِدْخَالِ الْبَعِيرِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْعِلَّةِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ طَافَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى بَعِيرٍ. / 93 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: (شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنِّي أَشْتَكِي، قَالَ: (طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ) ، فَطُفْتُ، وَرَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ، يَقْرَأُ بِالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ) . قال المهلب: فيه جواز دخول الدواب التى تؤكل لحومها، ولا ينجس بولها المسجد إذا احتيج إلى ذلك، وأما دخول سائر الدواب فلا يجوز وهو قول مالك، وفيه أن راكب الدابة ينبغى له أن يتجنب ممر الناس ما استطاع، ولا يخالط الرجالة، وكذلك ينبغى أن تخرج النساء إلى حواشى الطرق، وقد استنبط بعض العلماء من هذا الحديث طواف النساء بالبيت من وراء الرجال لعلة التزاحم والتناطح، قال غيره: طواف النساء من وراء الرجال هى السنة؛ لأن الطواف صلاة ومن سنة النساء فى الصلاة أن يكن خلف الرجال، فكذلك الطواف. وقوله: (طوفى وأنت راكبة) فهو ضرورة، وقد اختلف العلماء فى الصحيح يطوف راكبًا على ما يأتى فى كتاب الحج، إن شاء الله. 69 - باب / 94 - فيه: أنس، (أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ الرسول خَرَجَا مِنْ عِنْدِ الرسول فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، وَمَعَهُمَا مِثْلُ الْمِصْبَاحَيْنِ، يُضِيئَانِ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا، فَلَمَّا افْتَرَقَا، صَارَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ، مِنْهُمَا وَاحِدٌ حَتَّى أَتَى أَهْلَهُ) . قال المؤلف: إنما ذكر البخارى هذا الحديث فى باب أحكام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 المساجد، والله أعلم؛ لأن الرجلين كانا مع الرسول وهو موضع جلوسه مع الصحابة، فلما كان معه هذان الرجلان فى علم ينشره أو فى صلاة، أكرمهم الله، تعالى، بالنور فى الدنيا ببركة الرسول وفضل مسجده وملازمته والرجلان هما عباد بن بشر، وأُسيد بن حضير. قال المهلب: وتلك آية للنبى (صلى الله عليه وسلم) وكرامة له، وأنه خص فى الآيات بما لم يخص به من كان قبله، أن أعطى أن يكرم أصحابه بمثل هذا النور عند حاجتهم إليه، وذلك من خرق العادات، وكان يصلح أن يترجم لهذا الحديث باب قوله تعالى: (ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور) [النور: 40] ، يشير إلى أن الآية عامة فيما يحتمل أن يستثبت منها المعنى، لا سيما وقد ذكر الله النور فى المشكاة والزجاجة) فى بيوت أذن الله ترفع) [النور: 36] الآية، فاستدل أن الله تعالى، يجعل لمن يسبح فى تلك المساجد نورًا فى قلوبهم، ونورًا فى جميع أعضائهم ونورًا بين أيديهم ومن خلفهم فى الدنيا والآخرة، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور، فلما خرجا من عند النبى فى الليلة المظلمة أراهم بركة نبيه وكرامته بما جعل الله لهما من النور بين أيديهما يستضيئان به فى ممشاهما مع قوله: (بشر المشائين فى الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) ، فجعل لهم منه فى الدنيا، ليزدادوا إيمانًا بالنبى مع إيمانهم، ويُوقِنَا أن كذلك يكون ما وعدهم الله من النور الذى يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يوم القيامة؛ برهانًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 لمحمد، عليه السلام، على صدق ما وعد به أهل الإيمان الملازمين للبيوت التى أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه. 70 - باب الْخَوْخَةِ وَالْمَمَرِّ فِي الْمَسْجِدِ / 95 - فيه: أبو سعيد الخدرى قَالَ: خَطَبَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ) ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ؟ إِنْ يَكُنِ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) هُوَ الْعَبْدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، قَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ لا تَبْكِى إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلاً، لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإسْلامِ وَمَوَدَّتُهُ، لا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلا سُدَّ إِلا بَابُ أَبِي بَكْرٍ) . / 96 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أن نبى اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قال فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: (لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ. . .) الحديث. قال المهلب: فيه التعريض بالعلم للناس، وإن قل فهماؤه، خشية أن يدخل عليهم مساءة أو حزن. وفيه: أنه لا يستحق أحد العلم حقيقة إلا من فهم، والحافظ لا يبلغ درجة الفهم، وإنما يقال للحافظ عالم بالنص لا بالمعنى والتأويل؛ ألا ترى أن أبا سعيد جعل لأبى بكر مزية بفهمه، أوجب له بها العلم حقيقة وإن كان قد أوجب العلم للجماعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 وفيه: أن أبا بكر أعلم الصحابة؛ لأن أبا سعيد شهد له بذلك بحضرة جماعتهم، ولم ينكر ذلك عليه أحد، ويدل على صحة ذلك مقامه بعد موت النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ووقت ارتداد العرب على بديهة منه دون أن يطيش له جنان، أو يختلج له لسان، وشدة نفسه وثبات قدمه، ولذلك حلف أبو هريرة بالله الذى لا إله إلا هو: لولا أبو بكر الصديق ما عبد الله، وسيأتى تمام هذا المعنى فى كتاب الزكاة. وفيه: الحض على اختيار ما عند الله والزهد فى الدنيا والإعلام بمن اختار ذلك من الصالحين. وفيه: أن على السلطان شكر من أحسن صحبته ومعونته بنفسه وماله، والاعتراف له بالمنة، واختصاصه بالفضيلة التى لم يُشارك فيها، كما اختص هو أبا بكر بما لم يخص به غيره، وذلك أنه جعل بابه فى المسجد؛ ليخلفه فى الإمامة ليخرج من بيته إلى المسجد، كما كان الرسول يخرج، ومنع الناس كلهم من ذلك دليل على خلافة أبى بكر بعد الرسول، ودليل على أن المرشح للخلافة يُخصُّ بكرامة تدل على ترشحه. وفيه: دليل أن الخليل فوق الصديق والأخ. وفيه: استئلاف النفوس بقوله: (ولكن أخوة الإسلام أفضل) ، فاستألفهم بأن حرمة الخُلَّة بمعنى شامل لهم عنده، وإن كان قد فضل أبا بكر بما دل على ترشحه للخلافة بعده، وهكذا وقع فى الحديث: (ولكن خُوَّة الإسلام أفضل) ، ولا أعرف معناه وقد وجدت الحديث فى الباب بعده: (ولكن خلة الإسلام أفضل) ، وهو الصواب؛ لأنه عليه السلام، صرف الكلام على ما تقدمه من ذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 (الخلالة) ، فأتى بلفظ مشتق منها، وهو (الخُلَّة) ، ولم أجد (خُوَّة) ، بمعنى (خُلَّة) فى كلام العرب، وقال أبو سليمان الخطابى: قوله: (أَمَنَّ) ، أسمح بماله وأبذل له، ولم يرد به معنى الامتنان؛ لأن المنة تفسد الصنيعة، ولا منَّةَ لأحد على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، بل له المنة على الأمة قاطبة، و (المَنُّ) فى كلام العرب: الإحسان إلى من لا يستثيبه، قال الله تعالى: (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) [ص: 39] ، وقال: (ولا تمنن تستكثر) [المدثر: 6] ، أى: لا تعط لتأخذ من المكافأة أكثر مما أعطيت. 71 - باب الأبْوَابِ وَالْغَلَقِ لِلْكَعْبَةِ وَالْمَسَاجِدِ قال ابن أبى مليكة لابن جريج: لو رأيت مساجد ابن عباس وأبوابها. / 97 - فيه: ابن عمر: (أَنَّ نَّبِيَّ الله قَدِمَ مَكَّةَ، فَدَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ، فَفَتَحَ الْبَابَ، فَدَخَلَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وَبِلالٌ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، ثُمَّ أَغْلَقَ الْبَابَ، فَلَبِثَ فِيهِ سَاعَةً، ثُمَّ خَرَجُوا) . قال المؤلف: اتخاذ الأبواب للمساجد واجب لتصان عن مكان الريب، وتنزه عما لا يصلح فيها من غير الطاعات. قال المهلب: وإدخال الرسول معه هؤلاء الثلاثة، لمعانٍ تخص كل واحد منهم، فأما دخول عثمان فلخدمته البيت فى الغلق والفتح والكنس، ولو لم يدخله لغلق بابها؛ لتوهم الناس أنه عزله، وأما بلال فمؤذنه وخادم أمر صلاته، وأما أسامة فمتولى خدمة ما يحتاج إليه وهم خاصته؛ فللإمام أن يستخص خاصته ببعض ما يستتر به عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 الناس وأما غلق الباب، والله أعلم، حين صلى فى البيت؛ لئلا يظن الناس أن الصلاة فيه سنة، فيلزمون ذلك. 72 - باب دُخُولِ الْمُشْرِكِ الْمَسْجِدَ / 98 - فيه: أبو هريرة: (بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خَيْلا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ) . اختلف الفقهاء فى دخول المشرك المسجد، فأجازه أبو حنيفة والشافعى، إلا أن الشافعى قال: لا يدخل المسجد الحرام خاصة، ويدخل سائر المساجد، وجوزه أبو حنيفة فى المسجد الحرام وسائر المساجد، وأجاز ابن محيريز، ومجاهد دخول أهل الكتاب فى المسجد، وقال أبو صالح: ليس للمشركين أن يدخلوا المسجد الحرام إلا خائفين، وقال مالك، والمزنى: لا يدخل المشرك كل مسجد أصلاً. وروى مثله عن عمر بن عبد العزيز، والحجة لهم قوله تعالى: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) [الحج: 32] ، ومن تعظيم الشعائر منع الكافر دخول البيت والمساجد كلها، وقد اتفقنا على منع الجنب والحائض من دخول المسجد؛ لمنعهما من القراءة، والكافر أولى بذلك، وحجة من أجاز ذلك حديث ثمامة، وأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حبسه فى المسجد وهو مشرك. قال ابن المنذر: فى حديث ثمامة دخول المشرك المسجد وإباحة دخول الجنب فيه، وهو أولى بذلك؛ لأن النبى أخبر أن المسلم ليس بنجس ومما رواه ابن جريج، عن عثمان بن أبى سليمان أن مشركى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 قريش حين أتوا النبى فى فداء من أُسِرَ منهم ببدر، كانوا يبيتون فى مسجد الرسول، فمنهم: جبير بن مطعم، فكان جبير يسمع قراءة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وجبير مشرك، والحجة على أبى حنيفة فى جواز دخوله فى المسجد الحرام، قوله تعالى: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) [التوبة: 28] الآية، وهذا خطاب للمؤمنين أن يمنعوهم من المسجد الحرام، وقال أبو حنيفة: معناه لا يقربوه للطواف خاصة، وقيل: هو عموم وظاهره أن لا يقربوه أصلاً. فإن قال: هو موضع من الحرم فأشبه سائر الحرم فى جواز دخولهم فيه. قيل: يلزمكم هذا فى دخولهم البيت، فإن امتنعوا من البيت انتقض تعليلهم وإن جوزوه فهو قبيح جدًا، وقد أمر الله تعالى بتعظيم شعائره وذلك يوجب منعهم منه. 73 - باب رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ / 99 - فيه: السائب بم زيد قال: كُنْتُ قَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ، فَحَصَبَنِي رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: اذْهَبْ، ائتِنِي بِهَذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا، فقَالَ: مَنْ أَنْتُمَا - أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ - قَالا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، لأوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . / 100 - وفيه: كَعْبِ: (أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، وَنَادَى: (يا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ) ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ، قَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: قُمْ فَاقْضِهِ) . قال بعض الناس: أما إنكار عمر رفع الصوت فى المسجد، فيدل أنهم رفعوا أصواتهم فيما لا يحتاجون إليه من اللغط الذى لا يجوز فى المسجد، ولذلك بنى عمر البطحاء خارج المسجد؛ لينزهه عن الخنا والرفث، فسألهم إن كانوا من أهل البلد ممن تقدم العلم إليهم بإنكار رفع الصوت فى اللغط فيه، فلما أخبراه أنهما من غير البلد عذرهما بالجهل. وأما ارتفاع صوت كعب وابن أبى حدرد فى المسجد، فلما كان على طلب حقٍ واجبٍ، لم يغير الرسول ذلك عليهم، ولو كان لا يجوز رفع الصوت فيه فى حق ولا غيره لما ترك النبى، عليه السلام، بيان ذلك إذ هو مُعَلِّم، وقد فرض الله، تعالى، عليه ذلك. وأما مذاهب العلماء فى ذلك، فذهب مالك وطائفة أنه لا يرفع الصوت فى المسجد فى العلم ولا غيره، قال مالك: ولقد أدركت الناس قديمًا يعيبون ذلك على بعض من يكون ذلك محله، وما للعلم ترفع فيه الأصوات، إنى لأكره ذلك، ولا أرى فيه خيرًا رواه ابن عبد الحكم عنه، وقال محمد بن مسلمة فى المبسوط: لا بأس برفع الصوت فى المسجد فى الخبر يخبرونه والخصومة تكون بينهم، ولا بأس بالأحداث التى تكون بين الناس فيه من الشىء يعطونه، وما يحتاجون إليه؛ لأن المسجد مجتمع للناس فلابد لهم مما يحتاجون إليه من ذلك، وأجاز أبو حنيفة وأصحابه رفع الصوت فى المسجد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 ذكر ابن أبى خيثمة قال: حدثنا إبراهيم بن بشار، حدثنا سفيان بن عيينة قال: مررت بأبى حنيفة وهو مع أصحابه فى المسجد، وقد ارتفعت أصواتهم، فقلت: يا أبا حنيفة هذا فى المسجد والصوت لا ينبغى أن يرفع فيه، فقال: دعهم، فإنهم لا يفهمون إلا بهذا. 74 - باب الْحِلَقِ وَالْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ / 101 - فيه: ابن عمر قَالَ: (سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، مَا تَرَى فِي صَلاةِ اللَّيْلِ؟ قَالَ: (مَثْنَى مَثْنَى) . / 102 - وقال مرة: أَنَّ رَجُلا نَادَى النَّبِيَّ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ. / 103 - وفيه: أبو وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ: (بَيْنَمَا الرَسُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَذَهَبَ وَاحِدٌ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: أَلا أُخْبِرُكُمْ عَنِ الثَّلاثَةِ؟ ، أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَى فَاسْتَحْيَى اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ) . أجمع العلماء على جواز التحلق والجلوس فى المسجد لذكر الله تعالى وللعلم. قال المهلب: وشبه البخارى فى حديث جلوس الرجال فى المسجد حول الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو يخطب بالتحلق والجلوس فى المسجد للعلم. وفيه: أن الخطيب إذا سئل عن أمر الدين أن له أن يجاوب من سأله ولا يضر ذلك خطبته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 وفيه: فضل حلق الذكر، لقوله: (أوى إلى الله، فآواه الله) . قال غيره: وفيه سد الفرج فى حلق الذكر، وقد جاء فى سدِّها فى صفوف الصلاة وفى الصف فى سبيل الله، ترغيب وآثار، ومعلوم أن حلق الذكر من سبيل الله. وفيه: أن التزاحم بين يدى العالم من أفضل أعمال البر، ألا ترى قول لقمان لابنه: (يا بنى جالس العلماء وزاحمهم بركبتك، فإن الله يحيى القلوب بنور الحكمة، كما يحيى الأرض بوابل السماء) . وفيه: من حسن الأدب أن يجلس المرء حيث انتهى به مجلسه، ولا يُقيمُ أحدًا، وقد روى ذلك عن الرسول. وفيه: ابتداء العالم جلساءه بالعلم قبل أن يسأل عنه. وفيه: مدح الحياء والثناء على صاحبه. وفيه: ذم من زهد فى العلم واستجازة القول فيه؛ لأنه لا يدبر أحد عن حلقة رسول الله وفيه خير. وقوله: (فأوى إلى الله) ، غير ممدود (فآواه الله) ، بالمد يقال: أويت إلى الشىء بقصر الهمزة، دخلت فيه، قال الله تعالى: (إذ أوى الفتية إلى الكهف) [الكهف: 10] ، وآويت غيرك إذا ضممته إلى نفسك، بالمد، قال الله تعالى: (ألم يجدك يتيمًا فآوى) [الضحى: 6] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 75 - باب الاسْتِلْقَاءِ فِي الْمَسْجِدِ [وَمَدِّ الرِّجْلِ] (1) / 104 - فيه: عباد بن تميم، عن عمه: (أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدِ، وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأخْرَى) . قال سعيد بن المسيب: وكان عمر وعثمان يفعلان ذلك. فيه أن الاستلقاء وشبهه خفيف فعله فى المسجد، وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ما يعارض هذا الحديث، روى حماد بن سلمة، وابن جريج، والليث بن سعد، عن أبى الزبير، عن جابر بن عبد الله: (أن الرسول نهى أن يضع الرجل إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلق على ظهره) ، فنرى والله أعلم، أن البخارى أدخل حديث عبد الله بن زيد معارضًا لحديث جابر، ولذلك أردفه بما رواه ابن المسيب أن عمر، وعثمان كانا يفعلان ذلك، قال الزهرى: وجاء الناس بأمر عظيم فى إنكار ذلك، فكأنه ذهب إلى أن حديث جابر منسوخ بهذا الحديث، واستدل على نسخه بعمل الخليفتين بعده؛ إذ لا يجوز أن يخفى عليهما الناسخ من المنسوخ من سنته عليه السلام. 76 - باب الْمَسْجِدِ يَكُونُ فِي الطَّرِيقِ، مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ لِلنَّاسِ فِيهِ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَأَيُّوبُ وَمَالِكٌ. / 105 - فيه: عائشة: (لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَايَّ إِلا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ طَرَفَيِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، ثُمَّ بَدَا لأبِي بَكْرٍ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَقِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، يَعْجَبُونَ مِنْهُ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 رَجُلا بَكَّاءً، لا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ، إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) . قال المؤلف: أما بناء المسجد فى الطريق، فذكر ابن شعبان فى كتاب (الزاهى) قال: وينبغى أن تجتنب الصلاة فى المساجد المبنية حيث لا يجوز بناؤها من الطرقات والفحوص ومراسى السفن؛ لأنها وضعت فى غير حقها، فمن صلى فيها متأولاً أنه يصلى فى الطريق وحيث ما له منه مثل ما لغيره أجزأته صلاته، قال: ولو كان مسجد فى فحص واحدٍ واسع، فأراد الإمام أن يزيد فيه من الفحص ما لا يضر بالسالكين لم يمنع عند مالك، ومنع فى قول ربيعة وهو الأصح عندى، وإنما اخترت قول ربيعة؛ لأنه غير عائد إلى جميعهم، قد ترتفق به الحائض والنفساء، ومن لا يجب عليه الصلاة من الأطفال ومن يسلكه من أهل الذمة. ووجه قول مالك: أن الزيادة فى المسجد هى لهم وإليهم تعود، قال غيره: والحجة لقول مالك ابتناء أبى بكر مسجدًا بفناء داره، ووجه ذلك أن أفنية الدور، وإن كان لا ينبغى لأحد استحقاق شىء منها، ولا الانفراد بمنافعها دون غيره من السالكين، فإن المسجد بقعة لجماعة المسلمين، ولا يجوز لأحد تملكه، هو فى معنى الطريق فى البقعة لجماعة المسلمين، بل هو أكثر نفعًا لإقامة الصلاة فيه التى هى أعظم أمور الإسلام، وأن الاحتياط فى إقامتها أفضل من الاحتياط فى إرفاق الصبى والحائض والذمى فى سعة الطريق، إذا بقى منه ما لا يضر بالمارة والسالكين، وإلى قول مالك ذهب البخارى فى ترجمته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 وفيه: من فضل أبى بكر ما لا يشاركه فيه أحد؛ لأنه قصد تبليغ كتاب الله وإظهاره مع الخوف على نفسه، ولا يبلغ أحد هذه المنزلة بعد الرسول. 77 - باب الصَّلاةِ فِي مَسَاجِدِ السُّوقِ وَصَلَّى ابْنُ عَوْنٍ فِي مَسْجِدٍ فِي دَارٍ يُغْلَقُ عَلَيْهِمُ الْبَابُ. / 106 - فيه: أبو هريرة: (صَلاةُ الْجَمِيعِ تَزِيدُ عَلَى صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَصَلاتِهِ فِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً) الحديث. قال المؤلف: فيه أن الأسواق مواضع للصلوات، وإن كان قد جاء فيها حديث عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أن سائلاً سأله عن شر البقاع، فلم يكن عنده علم ذلك حتى جاء جبريل فقال: شر البقاع الأسواق، وخيرها المساجد) ، رواه الآجرى فى كتبه، وخشى البخارى أن يتوهم من رأى ذلك الحديث أنه لا تجوز الصلاة فى الأسواق استدلالاً به، إذ كانت الأسواق شر البقاع، والمساجد خير البقاع فلا يجوز أن تعمل الصلاة فى شر البقاع، فجاء فى حديث أبى هريرة إجازة الصلاة فى السوق، وأن الصلاة فيه للمنفرد درجة من خمس وعشرين درجة كصلاة المنفرد فى بيته، واستدل البخارى أنه إذا جازت الصلاة فى السوق فُرَادَى كان أولى أن يتخذ فيه مسجد للجماعات، لفضل الجماعة كما تتخذ المساجد فى البيوت عند الأعذار لفضل الجماعة، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 78 - باب تَشْبِيكِ الأصَابِعِ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ / 107 - فيه: أبو موسى: قال عليه السلام: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ) . / 108 - وفيه: أبو هُرَيْرَةَ: (صَلَّى بِنَا الرَسُولُ إِحْدَى صَلاتَيِ الْعَشِاء جميعًا، صَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، فاتكأ عليهما وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) الحديث. اختلف العلماء فى تشبيك الأصابع فى المسجد، وفى الصلاة، فرويت آثار مرسلة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه نهى عن تشبيك الأصابع فى المسجد من مراسيل ابن المسيب، ومنها مسند من طرق غير ثابتة. روى ابن أبى شيبة، عن وكيع، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن عمه، عن مولى لأبى سعيد: (أنه كان مع أبى سعيد وهو مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فدخل الرسول المسجد فرأى رجلاً جالسًا وسط الناس قد شبك بين أصابعه يحدث نفسه، فأومأ إليه الرسول فلم يفطن، فالتفت إلى أبى سعيد فقال: (إذا صلى أحدكم فلا يشبكن بين أصابعه، فإن التشبيك من الشيطان، وإن أحدكم لا يزال فى صلاة ما دام فى المسجد حتى يخرج منه) . وهذه الآثار معارضة لحديثى هذا الباب وهى غير مقاومة لهما فى الصحة ولا مساوية، وكره إبراهيم تشبيك الأصابع فى الصلاة، وهو قول مالك، ورخص فى ذلك ابن عمر، وسالم بن عبد الله، وكانا يشبكان بين أصابعهما فى الصلاة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 ذكرهما ابن أبى شيبة، وكان الحسن البصرى يشبك بين أصابعه فى المسجد، وقال مالك: إنهم لينكرون تشبيك الأصابع فى المسجد، وما به بأس وإنما يكره فى الصلاة. 79 - باب الْمَسَاجِدِ الَّتِي عَلَى طُرُقِ الْمَدِينَةِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) / 109 - وكان سَالِمَ يَتَحَرَّى أَمَاكِنَ مِنَ الطَّرِيقِ يُصَلِّي فِيهَا، وَأَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُصَلِّي فِيهَا، وَأَنَّهُ رَأَى الرسول يُصَلِّي فِي تِلْكَ الأمْكِنَةِ فى حديث طويل. قال المؤلف: إنما كان يصلى ابن عمر فى المواضع التى صلى فيها النبى على وجه التبرك بتلك الأمكنة، والرغبة فى فضلها، ولم يزل الناس يتبركون بمواضع الصالحين وأهل الفضل؛ ألا ترى أن عتبان بن مالك سأل نبى الله أن يصلى فى بيته ليتخذ المكان مصلى، فصلى فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) . وقد جاء عن عمر بن الخطاب خلاف فعل ابنه عبد الله، روى شعبة، عن سليمان التيمى، عن المعرور بن سويد، قال: (كان عمر بن الخطاب فى سفر فصلى الغداة، ثم أتى على مكان، فجعل الناس يأتونه، ويقولون: صلى فيه النبى، عليه السلام، فقال عمر: إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتبعوا آثار أنبيائهم، فاتخذوها كنائس، وبيعًا، فمن عرضت له الصلاة، فليصل وإلا فليمض) . إنما خشى عمر أن يلتزم الناس الصلاة فى تلك المواضع حتى يشكل ذلك على من يأتى بعدهم، ويرى ذلك واجبًا، وكذلك ينبغى للعالم إذا رأى الناس يلتزمون النوافل والرغائب التزامًا شديدًا، أن يترخص فيها فى بعض المرات ويتركها ليعلم بفعله ذلك أنها غير واجبة، كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 فعل ابن عباس وغيره فى ترك الأضحية، وقد روى أشهب عن مالك أنه سئل عن الصلاة فى المواضع التى صلى فيها الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: ما يعجبنى ذلك إلا مسجد قباء. قال المؤلف: وإنما قال ذلك مالك؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يأتى قباء راكبًا وراجلاً ولم يكن يفعل ذلك فى تلك الأمكنة، والله أعلم. وفى هذا الحديث ألفاظ كثيرة من الغريب قوله: (فدحا فيه السيل) ، يقال: دحا، دفع، ودحا المطر الحصى عن وجه الأرض، والدحو: البسط أيضًا، والكثيب: رمل أو تراب مجتمع، والهضبة: الصخرة الرأسية الضخمة، والجمع هضاب، والرضم: حجارة مرصوصة بعضها فوق بعض، والواحدة رضمة، وبِرْذَوْن مرضوم العَصَب: إذا صار فيه كالعُقَد، من كتاب العين، والسلَمة، بفتح اللام، الشجرة، والسلِمة، بكسر اللام، الصخرة. والسرحة: الشجرة، والجمع سرح. وهرشى: موضع. وقال ابن دريد: الغَلْوة: أن ترمى بسهم حيثما ما بلغ، وقد غلا وهو من الغلو: الارتفاع فى الشىء ومجاوزة الحد فيه، وكل مرتفع فقد تغلى والجمع غِلاء، والأكمة: التلّ، والجمع أَكَم، وإِكَام، وآكام، وأُكم، والفُرضْةَ: مشرب الماء من النهر، والفرض: حَز فِى شَبَة القوس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 80 - باب سُتْرَةُ الإمَامِ سُتْرَةُ مَنْ خَلْفَهُ / 110 - فيه: ابن عباس قال: (أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلامَ، وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، فَنَزَلْتُ، وَأَرْسَلْتُ الأتَانَ تَرْتَعُ، وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ) . / 111 - وفيه: ابن عمر: (أَنَّ نبى اللَّهِ كَانَ إِذَا خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ أَمَرَ بِالْحَرْبَةِ، فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيُصَلِّي إِلَيْهَا وَالنَّاسُ وَرَاءَهُ، وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ، فَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذَهَا الأمَرَاءُ) . / 112 - وفيه: أبو جحيفة: (أَنَّ الرسول صَلَّى بِهِمْ بِالْبَطْحَاءِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ، الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، تَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ) . قال بعض العلماء: سترة الإمام سترة لمن خلفه بإجماع، قابله المأموم أم لا، فلا يضر من مشى بين يدى الصفوف خلف الإمام، والسترة عند العلماء سنة مندوب إليها، ملوم تاركها. واختلف أصحاب مالك فيمن صلى إلى غير سترة فى فضاء يأمن من أن يمرَّ أحد بين يديه، فقال ابن القاسم: يجوز له ذلك ولا حرج عليه، وقال ابن الماجشون، ومطرف: سنة الصلاة أن يصلى إلى سترة لابد منها، وحديث ابن عباس يشهد لقول ابن القاسم، وروى عن جماعة من السلف منهم عطاء، وسالم، والقاسم، وعروة، والشعبى، والحسن أنهم كانوا يصلون فى الفضاء إلى غير سترة. وقال ابن القصار فى قول ابن عباس: (فمررت بين يدى بعض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع) ، حجة لمن قال: إن الحمار لا يقطع الصلاة، ألا ترى قوله: (فلم ينكر ذلك علىّ أحد) ، فدل أنه المعروف عندهم، وقد زعم من قال: إن الحمار يقطع الصلاة أنه لا حجة فى هذا الحديث، وقال: إن مرور الأتان كان خلف الإمام بين يدى بعض الصف، والإمام سترة لمن خلفه، وهذا غير صحيح؛ لأنه قد رُوى حديث ابن عباس بلفظ هو حجة لأهل المقالة الأولى، ذكر البزار، قال: حدثنا بشر بن آدم، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال: حدثنى عبد الكريم الجزرى أن مجاهدًا أخبره عن ابن عباس قال: (أتيت أنا والفضل على أتانٍ، فمررنا بين يدى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعرفة، وهو يصلى المكتوبة، ليس بشىء يستره يحول بيننا وبينه) . وروى شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن صهيب، عن ابن عباس قال: (مررت برسول الله وهو يصلى، وأنا على حمار، وغلام من بنى هاشم فلم ينصرف) . فبان أن مرور ابن عباس كان بين يدى الرسول. وفيه: إجازة شهادة من علم الشىء صغيرًا، وأَدَّاهُ كبيرًا، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، وفى حديث ابن عمر جواز الصلاة إلى الحربة. وفى حديث أبى جُحَيفة: أن المرأة والحمار لا يقطعان الصلاة. وفيه: أن سترة الإمام سترة لمن خلفه، وقال صاحب الأفعال: ناهزت الاحتلام: قربت منه، ونهزت الشىء: تناولته، ونهزت إليه: نهضت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 81 - باب كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَالسُّتْرَةِ / 113 - فيه: سهل قال: (كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَبَيْنَ الْجِدَارِ مَمَرُّ الشَّاةِ) . / 114 - وفيه: سَلَمَةَ قَالَ: (كَانَ جِدَارُ الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، مَا كَادَتِ الشَّاةُ أن تَجُوزُهَا) . قال المؤلف: هذا أقل ما يكون بين المصلى وسترته، وأكثر ذلك عند قوم من الفقهاء، وقال آخرون: أقل ذلك ثلاثة أذرع؛ لحديث بلال أن رسول الله حين صلى فى الكعبة بينه وبين القبلة قريبًا من ثلاثة أذرع، هذا قول عطاء، وبه قال الشافعى، وأحمد بن حنبل، ولم يَحُدّ مالك فى ذلك حدًا، وقال أبو إسحاق السبيعى: رأيت عبد الله بن مغفل يصلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع، وفى حديث آخر: فجوة وهى الفرجة، وهذا شذوذ عند الفقهاء؛ لمخالفة الآثار الثابتة عن الرسول له، منها أحاديث هذا الباب ومنها ما رواه ابن عيينة، عن صفوان بن سليم، عن نافع بن جبير، عن سهل بن أبى حثمة قال: قال رسول الله: (إذا صلى أحدكم إلى سترة، فليدن منها لا يقطع الشيطان صلاته) . 82 - باب الصَّلاةِ إِلَى الْحَرْبَةِ / 115 - فيه: ابن عمر: (أَنَّ الرسولَ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ تُرْكَزُ لَهُ الْحَرْبَةُ، فَيُصَلِّي إِلَيْهَا) . 83 - باب الصَّلاةِ إِلَى الْعَنَزَةِ / 116 - فيه: أبو جحيفة: (أن نبى الله صَلَّى وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ. . .) ، الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 / 117 - وفيه: أنس: (أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ، تَبِعْتُهُ أَنَا وَغُلامٌ، مَعَنَا عُكَّازَةٌ أَوْ عَصًا أَوْ عَنَزَةٌ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ، نَاوَلْنَاهُ الإدَاوَةَ) . قال المهلب: الحربة والعنزة، إنما هما علم للناس على موضع صلاته ألا يحرفوه بالمشى بين يديه فى صلاته، ومعنى حمل العنزة والماء أن الرسول كان التزم أن لا يكون إلا على طهارة فى أكثر أحواله، وكان إذا توضأ صلى ما أمكنه بذلك الوضوء مذ أخبره بلال بما أوجب الله له الجنة من أنه لم يتوضأ قط إلا صلى، فلذلك كان يحمل الماء والعنزة إلى موضع الخلاء والتبرز، وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: انظر مناولتهم الإداوة، يدل أنه استنجى بالماء؛ لأن العادة فى الوضوء أن يَصُبُّوا على يديه، وكذلك تأتى الأحاديث. قال المهلب: وفى حديث أنس خدمة السلطان والعالم، قال غيره: وهكذا مذاهب الفقهاء متقاربة فى أقل ما يجزئ المصلى من السترة، فقال مالك: يجزئه غلظ الرمح والعصا وارتفاع ذلك قدر عظم الذراع، ولا تفسد صلاة من صلى إلى غير سترة، وإن كان مكروهًا له، وهو قول الشافعى، وقال الثورى، وأبو حنيفة: أقل السترة قدر مؤخرة الرحل يكون ارتفاعها ذراعًا، وهو قول عطاء، وقال الأوزاعى مثله، إلا أنه لم يَحُدَّ ذراعًا ولا غيره، وكل هؤلاء لا يجيزون الخَطَّ، ولا أن تعرض العصا فى الأرض فيصلى إليها غير الأوزاعى والشافعى فى أحد قوليه، فإنهما قالا: إذا لم يجد شيئًا يقيمه بين يديه عرضه وصلى إليه، وإن لم يجدُ خطَّ خطا، وروى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 مثله عن سعيد بن جبير، وبه قال أحمد، وأبو ثور، واحتجوا بحديث إسماعيل بن أمية، عن أبى عمرو بن محمد بن حريث، عن عمه، عن أبى هريرة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا صلى أحدكم، فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإن لم يجد فلينصب عصاهُ، فإن لم يكن معه عصا فليخطط بين يديه خطًا ولا يضره من مرّ بين يديه) . وقال الطحاوى: أبو عمرو وعمه مجهولان، وقال مالك، والليث: الخَطُّ باطل وليس بشىء، وأصح ما فى سترة المصلى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) حديث ابن عمر، وحديث أبى جحيفة، وحديث أنس بن مالك. والله الموفق. 84 - باب السُّتْرَةِ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا / 118 - فيه: أبو جحيفة: (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالْهَاجِرَةِ، فَصَلَّى بِالْبَطْحَاءِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَنَصَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةً، وَتَوَضَّأَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَتَمَسَّحُونَ بِوَضُوئِهِ) . والسترة للمصلى معناها: درء المارّ بين يديه، فكل من صلى فى مكان واسع، فالمستحب له أن يصلى إلى سترة بمكة كان أو غيرها، إلا من صلى فى مسجد مكة بقرب القبلة حيث لا يمكن أحدًا المرور بينه وبينها، فلا يحتاج إلى سترة إذ قِبْلَةُ مكة سترة له، فإن صلى فى مؤخر المسجد بحيث يمكن المرور بين يديه أو فى سائر بقاع مكة إلى غير جدار أو شجرة أو ما أشبههما، فينبغى أن يجعل أمامه ما يستره من المرور بين يديه كما فعل الرسول حين صلى بالبطحاء إلى عنزة، والبطحاء خارج مكة، وكذلك حكم أهل مكة إذا كان فضاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 85 - باب الصَّلاةِ إِلَى الأسْطُوَانَةِ وَقَالَ عُمَرُ: الْمُصَلُّونَ أَحَقُّ بِالسَّوَارِي مِنَ الْمُتَحَدِّثِينَ إِلَيْهَا، وَرَأَى عُمَرُ رَجُلا يُصَلِّي بَيْنَ أُسْطُوَانَتَيْنِ، فَأَدْنَاهُ إِلَى سَارِيَةٍ، فَقَالَ: صَلِّ إِلَيْهَا. / 119 - فيه: سلمة: أن كان يُصَلِّي عِنْدَ الأسْطُوَانَةِ الَّتِي عِنْدَ الْمُصْحَفِ، وقَالَ: رَأَيْتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يفعله) . / 120 - وفيه: أنس قَالَ: (رَأَيْتُ كِبَارَ أَصْحَابِ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ عِنْدَ الْمَغْرِبِ حَتَّى يَخْرُجَ الرسول) . فلما كان رسول الله يستتر بالعنزة والرمح فى الصحراء، كانت الأسطوانة أولى بذلك، ولما أجمعوا أنه يجزئ من السترة قدر مؤخرة الرحل فى حلة الرمح، علم أن الأسطوانة أشد سترة من ذلك. وفيه: أنه ينبغى أن تكون الأسطوانة أمامه، ولا تكون إلى جنبه، لئلا يتخلل الصفوف شىء فلا تكون له سترة. 86 - باب الصَّلاةِ بَيْنَ السَّوَارِي فِي غَيْرِ جَمَاعَةٍ / 121 - فيه: ابن عمر أن بلالاً قال: (صَلَّى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ فى البيت) . / 122 - وقال مرة: (جَعَلَ عَمُودين عَنْ يَمِينِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، وَثَلاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ، ثُمَّ صَلَّى) . / 123 - وقال ابن عمر: كان بينه وبين الجدار الذى قبل وجهه قريب من ثلاثة أذرع. الصلاة بين السوارى جائزة، وإنما يكره أن يكون الصف يقطعه أسطوانة إذا صلوا جماعة؛ خشية أن يمر أحد بين يديه، وإن كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 الإمام سترة لمن خلفه، ويستحب أن تكون الأسطوانة خلف الصف أو أمامه، ليستتر بها المصلى فى الجماعة. اختلف السلف فى الصلاة بين السوارى، فأجازه جماعة وكرهه جماعة، فممن كرهه: أنس بن مالك، وقال: كنا نتقيه على عهد رسول الله، وقال ابن مسعود: لا تصفوا بين الأساطين، وكرهه حذيفة، وإبراهيم، وقال إبراهيم: لا تصلوا بين الأساطين وأتموا الصفوف، وقال معاوية بن قرة، عن أبيه: رآنى عُمر وأنا أصلى بين أسطوانتين، فأخذ بقفاى فأدنانى إلى سترة وقال: صل إليها، وأجازه الحسن وابن سيرين، وكان سعيد بن جبير، وإبراهيم التيمى، وسويد بن غفلة يؤمون قومهم بين أسطوانتين، وهو قول الكوفيين، وقال مالك فى المدونة: لا بأس بالصلاة بين الأساطين لضيق المسجد، قال ابن حبيب: وليس النهى عن تقطيع الصفوف إذا ضاق المسجد، وإنما نهى عنه إذا كان المسجد واسعًا. وفيه: أن أكثر ما وجد فى المسند من المقدار الذى يكون بين المصلى وبين سترته ثلاثة أذرع إلا أن الذى واظب عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى مقدار ذلك ممر الشاة على ما تقدم من الآثار، وصلاته فى البيت كان مَرَّةً، وقد تقدم أمره عليه السلام، بالدنوّ من السترة لئلا يتخلل الشيطان ذلك. 87 - باب الصَّلاةِ إِلَى الرَّاحِلَةِ وَالْبَعِيرِ وَالشَّجَرِ وَالرَّحْلِ / 124 - فيه: ابن عمر، (أن نَّبِيِّ الله (صلى الله عليه وسلم) : كَانَ يُعَرِّضُ رَاحِلَتَهُ، فَيُصَلِّي إِلَيْهَا، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِذَا هَبَّتِ الرِّكَابُ؟ قَالَ: كَانَ يَأْخُذُ الرَّحْلَ، فَيُعَدِّلُهُ، فَيُصَلِّي إِلَى آخِرَتِهِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 هذه الأشياء كلها جائز الاستتار بها، والصلاة إليها، وكذلك تجوز الصلاة إلى كل شىء طاهر. وقوله: (كان يأخذ الرحل) ، يعنى ينزله عن الناقة من أجل حركتها وزوالها عند هبوب الركاب. وقوله: (هبت الركاب) : زالت عن مواضعها وذهبت، تقول العرب: هبت الناقة فى السير تهب هبّا: تحركت، وهب النائم من نومه يهب هبوبًا: قام، والركاب: الإبل. 88 - باب الصَّلاةِ إِلَى السَّرِيرِ / 125 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (أَعَدَلْتُمُونَا بِالْكَلْبِ وَالْحِمَارِ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي مُضْطَجِعَةً عَلَى السَّرِيرِ، فَيَجِيءُ النَّبِيُّ فَيَتَوَسَّطُ السَّرِيرَ، فَيُصَلِّي، فَأَكْرَهُ أَنْ أُسَنِّحَهُ، فَأَنْسَلُّ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيِ السَّرِيرِ، حَتَّى أَنْسَلَّ مِنْ لِحَافِي) . قال المهلب: هذا قول من قال: إن المرأة لا تقطع الصلاة؛ لأن انسلالها من لحافها كالمرور بين يدى المصلى، وسيأتى ما للعلماء فى ذلك بعد هذا، إن شاء الله. وقال صاحب (العين) : أسنحه: أظهر له، وكل ما عرض لك فقد سنح، والسانح: ما أتاك عن يمينك من طائر أو غيره. 89 - باب يَرُدُّ الْمُصَلِّي مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ ورد ابن عمر فى التشهد وفى الركعة، وقال: إن أبى إلا أن تقاتله فقاتله. / 126 - فيه: أبو سعيد: (أنه كان يُصَلِّي يَوْمِ جُمُعَةٍ إِلَى سْتُرُة، فَأَرَادَ شَابٌّ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَفَعَ أَبُو سَعِيدٍ فِي صَدْرِهِ، فَنَظَرَ الشَّابُّ، فَلَمْ يَجِدْ مَسَاغًا إِلا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَادَ لِيَجْتَازَ، فَدَفَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ أَشَدَّ مِنَ الأولَى، فَنَالَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى مَرْوَانَ، فَشَكَا إِلَيْهِ مَا لَقِيَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَدَخَلَ أَبُو سَعِيدٍ خَلْفَهُ عَلَى مَرْوَانَ، فَقَالَ: مَا لَكَ وَلابْنِ أَخِيكَ يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ) . قال بعض الفقهاء: واتفق العلماء على دفع المارَ بين يدى المصلى إذا صلى إلى سترة، وليس له إذا صلى إلى غير سترة أن يدفع من مَرَّ بين يديه؛ لأن الرسول جعل ما بينه وبين السترة من حقه الذى يجب له منعه ما دام مصليًا، فأما إذا صلى إلى غير سترة، فليس له أن يدرأ أحدًا؛ لأن التصرف والمشى مباح لغيره فى ذلك الموضع الذى يصلى فيه وهو وغيره سواء، فلم يستحق أن يمنع شيئًا منه إلا ما قام الدليل عليه، وهو السترة التى وردت السنة بمنعها، وقال مالك: لا يرده وهو ساجد فإنما استحق المقاتلة؛ لأنه لا عذر له بعد أن جعل له علمًا يمر من ورائه، والمقاتلة هاهنا: المدافعة فى لطف، وأجمعوا أنه لا يقاتله بسيف ولا يخاطفه، فى أخرى: ولا يخاطبه، ولا يبلغ به مبلغًا يفسد صلاته؛ لأنه إن فعل ذلك كان أضر على نفسه من المارِّ بين يديه. قال المؤلف: والفرق بين ما يدرأُ فيه المصلى من مرَّ بين يديه وما لا يدرأ من المسافة، هو المقدار الذى ينال المصلى فيه المار بين يديه إذا مرَّ ليدفه، لإجماعهم أن المشى فى الصلاة لا يجوز ولو أجزنا له المشى إليه باعًا أو باعين من غير أثر لركبنا أكثر من ذلك، وهذا لا يجوز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 بإجماع، واتفق الفقهاء أنه إذا مَرَّ بين يديه وفات ولم يدركه من مقامه أنه لا يمشى وراءه ولا يرده. واختلفوا إذا جاز بين يديه وأدركه هل يرده أم لا؟ فقال ابن مسعود: يرده، وروى ذلك عن سالم بن عبد الله، والحسن البصرى، وقال أشهب: يرده بإشارة ولا يمشى إليه؛ لأن مشيه إليه أشد من مروره بين يديه، فإن مشى إليه ورده لم تفسد صلاته، وقال الشعبى: لا يرده إذا جاز بين يديه؛ لأن رده مرور ثان، ولا وجه له وهو قول مالك، والثورى، وإسحاق. فإن دافعه فمات فاختلف فيه، فقال اين شعبان: عليه الدية فى ماله كاملة، وقيل: الدية على عاقلته، وقيل: هو هَدر على حسب ثَنِيَّةِ العاضّ له؛ لأنه فِعْل تولد من فِعْل أصله مباح؛ فإنما هو شيطان، يريد أنه فَعَل فِعْلَ الشيطان فى أنه شغل قلب المصلى عن مناجاة ربه والإخلاص له، كما يخطر الشيطان بين المرء ونفسه فى الصلاة، فيذكره ما لم يذكر ليشغله عن مناجاة ربه، ويخلط عليه صلاته. وفيه: أنه يجوز أن يقال للرجل إذا فتن فى الدين: شيطان، ولا عقوبة على من قال له ذلك. وفيه: أن الحكم للمعانى لا للأسماء بخلاف ما يذهب إليه أهل الظاهر فى نفيهم القياس؛ لأنه يستحيل أن يصير المار بين يدى المصلى شيطانًا لمروره، فثبت أن الحكم للمعانى لا للأسماء وهو قول جمهور الأمة. وقوله: (فلم يجد مساغًا) يعنى طريقًا يمكنه المرور منها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 يقال: ساغ الشراب فى الحلق سوغًا: سلس، وساغ الشىء: طاب، من كتاب (الأفعال) . 90 - باب إِثْمِ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي / 127 - فيه: أبو جُهَيم: سمع الرَسُولِ (صلى الله عليه وسلم) يقول: (لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ من الإثم، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ) . قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لا أَدْرِي، أَقَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً. قال المؤلف: قد روى مائة عام، ذكر ابن أبى شيبة حدثنا وكيع، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن عمه، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لو يعلم أحدكم ما عليه فى أن يمر بين يدى المصلى معترضًا كان أن يقف مائة عام خير له من الخطوة التى خطاها) . فهذا الحديث يدل أن الأربعين التى فى حديث أبى جهيم هى أربعون عامًا، وقال قتادة: قال عمر بن الخطاب: لو يعلم المار بين يدى المصلى ماذا عليه كان يقوم حولاً خير له من ذلك، وقال كعب الأحبار: كان أن يخسف به خير من أن يمر بين يديه. وقوله: (يعلم المارُّ ماذا عليه) ، يدل أن الإثم إنما يكون على من علم بالنهى وارتكبه مستخفًا به، ومتى لم يعلم بالنهى فلا إثم عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 91 - اسْتِقْبَالِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ وَهُوَ يُصَلِّي وَكَرِهَ عُثْمَانُ أَنْ يُسْتَقْبَلَ الرَّجُلُ، وَهُوَ يُصَلِّي، وَ [إِنَّمَا] هَذَا إِذَا اشْتَغَلَ بِهِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِهِ، فَقَدْ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: مَا بَالَيْتُ، إِنَّ الرَّجُلَ لا يَقْطَعُ صَلاةَ الرَّجُلِ. / 128 - فيه: عائشة: ذُكِرَ عِنْدَهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلاةَ، فَقَالُوا: يَقْطَعُهَا الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ، فقَالَتْ: (لَقَدْ جَعَلْتُمُونَا كِلابًا، لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي، وَإِنِّي لَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ عَلَى السَّرِيرِ، فَتَكُونُ لِيَ الْحَاجَةُ، فَأَكْرَهُ أَنْ أَسْتَقْبِلَهُ، فَأَنْسَلُّ انْسِلالا) . ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الرجل يستر الرجل إذا صلى، إلا أن أكثرهم كره أن يستقبله بوجهه، قال نافع: كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلاً إلى سارية من سوارى المسجد قال لى: ولنى ظهرك، وهو قول مالك، وروى أشهب عنه أنه لا بأس أن يصلى إلى ظهر رجل وأما إلى جنبه فلا، وحققه مالك فى رواية ابن نافع فى المجموعة، وقال النخعى وقتادة: يستر الرجل الرجل فى الصلاة إذا كان جالسًا، وقال الحسن: يستر المصلى ولم يشترط أن يكون جالسًا ولا موليًا ظهره إلى المصلى. وأجاز الكوفيون، والثورى، والأوزاعى الصلاة خلف المتحدثين. وقال ابن سيرين: لا يكون الرجل سترةً للمصلى. ودليلُ هذا الحديث حُجة لمن أجاز ذلك؛ لأن المرأة إذا كانت فى قِبلة الرسول، فالرجل أولى بذلك والذين كرهوا استقباله كرهوا ذلك لما يخشى عليه من استقباله بالنظر إليه عن صلاته، ولهذا كره الصلاة إلى الحِلَقِ لما فيها من الكلام واللفظ المشغلين للمصلين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 وروى عن مالك فى المجموعة قال: لا يصلى إلى المتحلقين؛ لأن بعضهم يستقبله، وأرجو أن يكون واسعًا. وكره الصلاة إلى المتحدثين ابن مسعود. وكان ابن عمر لا يصلى خلف رجل يتكلم إلا يوم الجمعة. وقال سعيد بن جبير: إذا كانوا يتحدثون بذكر الله فلا بأس أن يأتم بهم. 92 - باب الصَّلاةِ خَلْفَ النَّائِمِ / 129 - فيه: عائشة قالت: (كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي، وَأَنَا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ عَلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ، أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ) . الصلاة خلف النائم جائزة إلا أن طائفة من العلماء كرهها خوف ما يحدث من النائم فيشغل المصلى أو يضحكه، فتفسد صلاته، قال مالك: لا يُصلى إلى النائم إلا أن يكون دونه سترة، وهو قول طاوس. وقال مجاهد: أصلى وراء قاعد أحب إلى من أن أصلى وراء نائمٍ، والقول قول من أجاز ذلك للسنة الثابتة بجوازه، والله الموفق. 93 - باب التَّطَوُّعِ خَلْفَ الْمَرْأَةِ / 130 - فيه: (كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَرِجْلايَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي، فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُا. . .) ، الحديث. كره كثير من أهل العلم أن تكون المرأة سترة للمصلى، قال مالك فى المختصر: لا يستتر بالمرأة، وأرجو أن يكون السترة بالصبى واسعًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 وقال فى المجموعة: ولا يصلى وبين يديه امرأة وإن كانت أُمُّه أو أُختُه إلا أن يكون دونها سترة، وقال الشافعى: لا يستتر بامرأة ولا دابة ووجه كراهيتهم لذلك، والله أعلم؛ لأن الصلاة موضوعة للإخلاص والخشوع، والمصلى خلف المرأة الناظر إليها يخشى عليه الفتنة بها والاشتغال عن الصلاة بنظره إليها؛ لأن النفوس مجبولة على ذلك، والناس لا يقدرون من ملك آرابهم على مثل ما كان يقدر عليه الرسول، فلذلك صلى هو خلف المرأة حين آمن شغل باله بها، ولم تشغله عن الصلاة. 94 - باب مَنْ قَالَ: لا يَقْطَعُ الصَّلاةَ شَيْءٌ / 131 - فيه: عائشة: أنه ذُكِرَ عِنْدَهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلاةَ؛ فقالوا: الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ، فَقَالَتْ: (شَبَّهْتُمُونَا بِالْحُمُرِ وَالْكِلابِ، وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي، وَإِنِّي عَلَى السَّرِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ مُضْطَجِعَةً، فَتَبْدُو لِيَ الْحَاجَةُ، فَأَكْرَهُ أَنْ أَجْلِسَ، فَأُوذِيَ الرسول، فَأَنْسَلُّ مِنْ بين رِجْلَيْهِ) . ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الصلاة لا يقطعها شىء روى ذلك عن عثمان، وعلى، وحذيفة، وابن عمر، ومن التابعين: الشعبى، وعروة، وهو قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وأبى ثور، وجماعة، وقال الطحاوى: زعم قوم أن مرور الحائض والكلب الأسود والحمار يقطع الصلاة، وروى هذا أنس، والحسن البصرى، وروى عن ابن عباس، وعطاء أن الكلب الأسود والحائض يقطعان الصلاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 وقالت طائفة: لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود، وبه قال أحمد واحتج هؤلاء بما رواه منصور عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، عن أبى ذر قال: قال رسول الله: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود) قلت: يا أبا ذر وما بال الكلب الأسود من الأحمر والأبيض؟ قال: سألت رسول الله عما سألتنى عنه فقال: (الكلب الأسود شيطان) . وروى ابن أبى عروبة عن قتادة، عن الحسن، عن عبد الله بن مغفل، أن نبى الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة) . روى هشام، عن يحيى، عن عكرمة، عن ابن عباس أحسبه أسنده إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: (يقطع الصلاة الحائض والحمارة والكلب الأسود واليهودى والنصرانى) . واحتج أهل المقالة الأولى بحديث عائشة أن الرسول كان يصلى وهى بينه وبين القبلة معترضة، وبما رواه شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن صهيب، عن ابن عباس قال: (مررت برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يصلى وأنا على حمار ومعى رجل من بنى هاشم فلم ينصرف) . فبان فى هذا الحديث أنهما مرَّا بين يدى الرسول ودل ذلك أن مرور الحمار بين يدى الإمام لا يقطع الصلاة. وروى سفيان عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس (أنه ذكر عنده ما يقطع الصلاة؟ فقال: الكلب والحمار، قال ابن عباس: إليه يصعد الكلم الطيب وما يقطع هذا، ولكنه يكره) . فهذا ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 عباس قد قال بعد رسول الله: إن الحمار والكلب لا يقطعان الصلاة، فدل أن ما رواه عنه صهيب كان متأخرًا عما رواه عنه عكرمة، وأنه ناسخ له؛ لأنه لا يجوز أن يفتى بخلاف ما رواه عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلا بعد ثبوت نسخه عنده، وبقى فى حديث أبى ذر أنه فصل بين الكلب الأسود وغيره، فجعل الأسود خاصة يقطع الصلاة، وأن الرسول بين معنى ذلك بأنه شيطان. قال الطحاوى: فأردنا أن ننظر هل عارض ذلك شىء؟ فإذا أبو سعيد قد روى عن الرسول أنه قال فى المار بين يدى المصلى: (فليدرأهُ ما استطاع، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان) ، وروى ابن عمر مثله، ففى هذا الحديث أن كل مارٍّ بين يدى المصلى شيطان، وقد سوى فى هذا بين بنى آدم والكلب الأسود فى المرور، وقد أجمعوا على أن مرور بنى آدم بعضهم ببعض لا يقطع الصلاة، روى ذلك عن الرسول من غير وجه من حديث عائشة وأم سلمة، وميمونة أنه عليه السلام كان يصلى وكل واحدة منهن معترضة بينه وبين القبلة، وكلها ثابتة من إخراج البخارى. وقد جعل عليه السلام فى حديث أبى سعيد، وحديث ابن عمر كُلَّ مارٍّ بين يدى المصلى شيطانًا، وأخبرنا أبو ذر أن الكلب الأسود أيضًا يقطع الصلاة؛ لأنه شيطان، وكانت العلة التى جعل لها قطع الصلاة قد جعلت فى بنى آدم، وقد ثبت عنه عليه السلام أنهم لا يقطعون الصلاة، فدل ذلك أن كل مارٍّ بين يدى المصلى مما سوى بنى آدم كذلك أيضًا لا يقطع الصلاة، ومما يدل على ذلك أيضًا فُتيا ابن عمر أن الصلاة لا يقطعها شىء، وقد روى عن الرسول درء المصلى من مرَّ بين يديه، فدل ذلك على ثبوت نسخ ما رواه عنه، عليه السلام، وأنه على وجه الكراهة، والله أعلم، قاله الطحاوى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 95 - باب إِذَا حَمَلَ جَارِيَةً صَغِيرَةً عَلَى عُنُقِهِ فِي الصَّلاةِ / 132 - فيه: أبو قَتَادَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يُصَلِّي، وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلأبِي الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا) . اختلف قول مالك فى تأوبل هذا الحديث، فروى عنه أشهب أن حمله أُمامة كان فى النافلة، وروى عنه أيضًا أشهب، وابن نافع أنه سئل هل للناس الأخذ بهذا؟ فقال: نعم عند الضرورة إذا لم يجد من يكفيه، فأما لحُبِّ الولد فلا أرى ذلك. وقد روى عن أبى قتادة أن حمل الرسول لأمامة كان فى الفريضة، روى الليث، وابن عجلان، وابن إسحاق كلهم عن سعيد المقبرى، عن عمرو بن سليم الزرقى، عن أبى قتادة، قال: (بينما نحن فى المسجد جلوس ننتظر الرسول (صلى الله عليه وسلم) خرج علينا يحمل أُمامة على عُنُقه، فصلى، فإذا ركع وضعها، وإذا قام رفعها) ، وزاد ابن إسحاق: (ننتظر الرسول فى الظهر أو العصر) ، وذكره البخارى فى حديث الليث فى كتاب الأدب فى باب (رحمة الولد وتقبيله) . وسئل أحمد بن حنبل عن الرجل أيأخذ ولده وهو يصلى؟ قال: نعم، واحتج بحديث أبى قتادة فى قصة أُمامة، وإنما أدخل البخارى هذا الحديث فى هذا الموضع، والله أعلم، ليدل على أن حمل المصلى الجارية على عُنُقه فى الصلاة لا يضر صلاته، وحملها أشد من مرورها بين يديه، فلما لم يضره حملها، كذلك لا يضره مرورها بين يديه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 وفيه: جواز العمل الخفيف فى الصلاة والعلماء مجمعون على جوازه. 96 - باب إِذَا صَلَّى إِلَى فِرَاشٍ فِيهِ حَائِضٌ / 133 - فيه: مَيْمُونَةُ قَالَتْ: (كَانَ فِرَاشِي حِيَالَ مُصَلَّى رسول الله، فَرُبَّمَا وَقَعَ عَلَيَّ ثَوْبُهُ، وَأَنَا عَلَى فِرَاشِي) . / 134 - وقالت مرةً: (كَانَ الرسول يُصَلِّي، وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ نَائِمَةٌ، فَإِذَا سَجَدَ أَصَابَتنِي ثَيابُهُ، وَأَنَا حَائِضٌ) . وهذا الحديث حجة فى أن الحائض لا تقطع الصلاة، وهذا الحديث وشبهه من الأحاديث التى فيها اعتراض المرأة بين المصلى وقبلته فيها دليل أن النهى إنما هو عن المرور خاصة لا عن القعود بين يدى المصلى، واستدل العلماء على أن المرور لا يضر بدليل جواز القعود، وحيال وحذاء وتجاه ووجاه كله بمعنى المقابلة والموازاة عند العرب. 97 - باب الْمَرْأَةِ تَطْرَحُ عَنِ الْمُصَلِّي شَيْئًا مِنَ الأذَى / 135 - فيه: ابن مسعود قال: (بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَجَمْعُ قُرَيْشٍ فِي مَجَالِسِهِمْ، إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَلا تَنْظُرُوا إِلَى هَذَا الْمُرَائِي؟ : أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ آلِ فُلانٍ فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا وَدَمِهَا وَسَلاهَا فَيَجِيءُ بِهِ، ثُمَّ يُمْهِلُهُ حَتَّى إِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ، فَلَمَّا سَجَدَ الرَسُولُ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَثَبَتَ الرسول سَاجِدًا، فَضَحِكُوا، حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الضَّحِكِ، فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ، وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى، وَثَبَتَ الرسول سَاجِدًا، حَتَّى أَلْقَتْهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ الصَّلاةَ، قَالَ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 بِقُرَيْشٍ، ثلاثًا، ثُمَّ سَمَّى: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ) . قَالَ عَبْدُاللَّهِ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَأُتْبِعَ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ لَعْنَةً) . قال المؤلف: هذه الترجمة قريبة من معنى الأبواب المتقدمة قبلها، وذلك أن المرأة إذا تناولت طرح ما على المصلى من الأذى، فإنها لا تقصد إلى أخذ ذلك من ورائه إلا كما تقصد إلى أخذه من أمامه، بل تتناول ذلك من أى جهات المصلى أمكنها تناوله وسهل عليها طرحه، فإن لم يكن هذا المعنى أشد من مرورها من بين يديه فليس بدونه، ومن هذا الحديث استنبط العلماء حكم المصلى إذا صلى بثوب نجس وأمكنه طرحه فى الصلاة فطرحه، فذهب الكوفيون إلى أنه يتمادى فى صلاته ولا يقطعها، وروى ابن وهب عن مالك مثله، وذكره فى المبسوط، وروى مثله عن ابن عمر، والقاسم، والنخعى، والحسن البصرى، والحكم، وحماد. ولمالك فى المدونة قول آخر قال: يقطع وينزع الثوب النجس ويبتدئ صلاته، قال إسماعيل: وعلى مذهب عبد الملك يتم صلاته ولا يقطعها، ثم يعيد، وهو قول الكوفيين، ورواية ابن وهبٍ عن مالك أشبه، بدليل هذا الحديث، وقوله فى المدونة: يقطع وينزع الثوب النجس ويبتدئ صلاته، هو استحسان منه واحتياط للصلاة، والأصل فى ذلك ما فعل الرسول من أنه لم يقطع صلاته للسَّلا الذى وضع على ظهره، بل تمادى فيها حتى أكملها والحجة فى السُّنَّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 لا فيما خالفها، وأما قول عبد الملك: يتم الصلاة ثم يعيد؛ فلا وجه له؛ لأنه لا يخلو أن يجوز له التمادى فيها أو لا يجوز، فإن جاز له التمادى فلا معنى لإعادته، وإن كان لا تجزئه صلاته فلا معنى لأمره بالتمادى فى ما لا يجزئه. وهؤلاء الذين دعا عليهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كانوا ممن لم تُرجَ إجابتهم ورجوعهم إلى الإسلام، فلذلك دعا عليهم بالهلاك، فأجاب الله دعاءه فيهم، وهم الذين أخبره الله أنه كفاه إياهم بقوله تعالى: (إنا كفيناك المستهزئين) [الحجر: 95] ، وأما كل من رجا منه الرسول الرجوع والتوبة عما هو عليه فلم يعجل بالدعاء عليه، بل دعا له بالهدى والتوبة فأجاب الله دعاءه فيهم. وفيه: الدعاء على أهل الكفر إذا جَنَوْا جنايات وآذوا المؤمنين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 بسم الله الرحمن الرحيم 9 - كِتَاب مَوَاقِيتِ الصَّلاةِ وفضلها قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) [النساء 103] مُوَقَّتًا وَقَّتَهُ عَلَيْهِمْ / 1 - فيه: ابن شهاب: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِالْعَزِيزِ أَخَّرَ الصَّلاةَ يَوْمًا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ ابْنَ شُعْبَةَ أَخَّرَ الصَّلاةَ يَوْمًا، وَهُوَ بِالْعِرَاقِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مَسْعُودٍ الأنْصَارِيُّ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ؟ أَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ فَصَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ نزل فَصَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خمس مرات، ثُمَّ قَالَ: (بِهَذَا أُمِرْتُ) ، فَقَالَ عُمَرُ لِعُرْوَةَ: اعْلَمْ مَا تُحَدِّثُ، أَوَ إِنَّ جِبْرِيلَ هُوَ الذى أَقَامَ لِرَسُولِ اللَّهِ وَقْتَ الصَّلاةِ، قَالَ عُرْوَةُ: كَذَلِكَ كَانَ بَشِيرُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ عُرْوَةُ: وَلَقَدْ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا، قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ) . قال المهلب: تأخير عمر بن عبد العزيز الصلاة كان عن الوقت المستحب المرغب فيه، ولم يؤخرها حتى يخرج وقتها كله وغربت الشمس أو قريب من ذلك، وقد جاء فى بعض طرق هذا الحديث ما يدل على ذلك وهو قوله: (إن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة شيئًا) ، ولا يجوز على عمر بن عبد العزيز على مكانته من العلم والفضل أن يؤخرها عن جميع وقتها ويصليها فى وقت غيره، وإنما أنكر عليه عروة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 ترك الوقت الفاضل الذى صلى فيه جبريل بالنبى (صلى الله عليه وسلم) وهو الوقت الذى عليه الناس، هذا مفهوم الحديث. ففى هذا من الفقه: المباكرة بالصلاة فى وقتها الفاضل. وقوله: (أخر الصلاة يومًا) يدل على أنه كان نادرً من فعله، وهذه الصلاة التى أخرها عمر كانت صلاة العصر روى ذلك شعيب، عن الزهرى فى المغازى من هذا الكتاب، ويدل على ذلك قوله: (ولقد أخبرتنى عائشة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يصلى العصر والشمس فى حجرتها قبل أن تظهر) يريد تعجيل العصر بخلاف ما صلاها عمر بن عبد العزيز ذلك اليوم. وفيه: من الفقه: دخول العلماء على الأمراء إذا كانوا أئمة عدل. وفيه: إنكار العلماء على الأمراء ما يخالف السنة. وفيه: جواز مراجعة العالم لطلب البيان. وفيه: الرجوع عند التنازع إلى السنة وأنها الحجة والمقنع. وفيه: أن الحجة فى الحديث المسند دون المقطوع لقوله: (كذلك كان بشير بن أبى مسعود يحدث عن أبيه) ؛ لأن عروة قد كان أخبر أن جبريل أقام لرسول الله وقت الصلاة فلم يقنع بذلك من قوله إذ لم يسند له ذلك، فلما قاله له: (اعلم ما تحدث به) ، لجأ إلى الحجة القاطعة فقال: كذلك كان بشير بن أبى مسعود يحدث عن أبيه. وهذا الحديث يعارض ما روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) من إمامة جبريل له لكل صلاة فى وقتين فى يومين؛ لأن محالاً أن يحتج عروة على عمر بصلاة جبريل بالنبى فى وقت واحد، وهو يعلم أن جبريل قد صلى به تلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 الصلاة فى آخر وقتها مرة ثانية، وهو الوقت الذى أخرها إليه عمر بن عبد العزيز لو صح حديث الوقتين إذ كان من حق عمر أن يقول لعروة: لا معنى لإنكارك على تأخير الصلاة إلى وقت إقامة جبريل للنبى عليه السلام، وأمَّ به فيه، فاحتجاج عروة على عمر بن عبد العزيز، واحتجاج أبى مسعود على المغيرة يدل أن صلاة جبريل بالرسول كانت فى وقت واحد فى يوم واحد، ولو صلى به فى يومين لما صح الاحتجاج لعروة ولا لأبى مسعود بهذا الحديث. فإن قيل: فقد قال عليه السلام، للذى سأله عن وقت الصبح: (ما بين هذين وقت) فأحاله على وقت تجوز فيه الصلاة، فصح حديث الوقتين. فالجواب: أن أبا محمد الأصيلى قال: لا يجوز لنا أن نقول: قال رسول الله إلا فيما صح طريقه، وثبتت عدالة ناقليه، فنقول: إن جبريل صلى بالرسول فى أول الوقت بحديث بشير بن أبى مسعود لصحته ولا نقول: إن جبريل صلى به فى آخر الوقت إلا بسند صحيح لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من تَقَوَّل على ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار) . قال غيره: وإنما قال الرسول للذى سأله عن صلاة الصبح: (ما بين هذين وقت) على طريق التعليم للأعرابى أن الصلاة تجوز فى آخر الوقت لمن نسى أو كان له عذر، إذ خشى منه عليه السلام، أن يظن أن الصلاة فى آخر الوقت لا تجزئ، ولو كان جبريل قد صلى به فى أول الوقت وآخره وأعلمه أنهما فى الفضل سواء، لما التزم عليه السلام الصلاة فى أول الوقت، ولَصَلَّى مرةً فى أول الوقت، ومرة فى آخره، وأعلم به الناس أنهم مخيرون بين ذلك، فدل لزومه الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 فى أول الوقت دَهْرَهُ كُلَّهُ، أنه الوقت الذى أقامه له جبريل وأن قوله: (ما بين هذين وقت) ، على طريق التعليم لأهل العذر وأشباههم، ودل أن الوقت الفاضل أول الوقت، وقد قال يحيى: إن الرجل ليصلى الصلاة وما فاتته، ولما فاته من وقتها أعظم من أهله وماله، فصح ما قلناه والحمد لله. وقوله: (والشمس فى حجرتها قبل أن تظهر) ، إن قال قائل: ما معنى قولها: (قبل أن تظهر) والشمس ظاهرة على كل شىء من أول طلوعها إلى غروبها. فالجواب: أنها أرادت الفىء فى حجرتها قبل أن تعلو على البيوت، فَكَنَّتْ بالشمس عن الفىء؛ لأن الفىء عن الشمس يكون، كما يسمى العرب النبت ندى؛ لأنه بالمطر يكون، وتسمى المطر سماء؛ لأنه من السماء ينزل، وقد جاء هذا المعنى بينًا فى بعض طرق الحديث، روى الليث، وابن عيينة، عن الزهرى، عن عروة، عن عائشة: (أن رسول الله كان يصلى العصر والشمس فى حجرتها لم تظهر الفىء) ، اللفظ لابن عيينة، ومعلوم أن الفىء أبدًا ملازم لأثر الشمس، فإذا لم يظهر الفىء من الحجرة فلا شك أن الشمس فى قاعة الحجرة، وقد روى هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة: (والشمس لم تخرج من حجرتها) ، وروى أبو أسامة، عن هشام: (من قعر حجرتها) ، والشمس لا تكون إلا فى قاعة الحجرة الصغيرة، يعنى قبل أن تعلو على الجُدُرِ ويرتفع ظلها عن قاعة الحجرة، وكل شىء علا فقد ظهر، قال الله تعالى: (فما اسطاعوا أن يظهروه) [الكهف: 97] ، يريد يعلونه، والحجرة يومئذ كانت ضيقة والشمس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 لا تكون فى قاعة الحجرة الصغيرة إلا وهى مرتفعة قائمة فى وسط السماء، من قبل أن الجُدُرَ كانت قصيرة وأن الظل فى الحجاز هو أقصر منه فى غيره؛ لأنه وسط الأرض، وهذا يدل على قصر بنيانهم واقتصادهم، وقد قال الحسن: كنت أدخل بيوت النبى وأنا محتلم وأنال سقفها بيدى، وذلك فى خلافة عثمان. - باب قَوْلُهُ تَعَالَى: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الروم 31] . / 2 - فيه: ابن عباس قَالَ: (قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِالْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالُوا: إِنَّا هَذَا الْحَيِّ مِنْ رَبِيعَةَ، وَلَسْنَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَمُرْنَا بِشَيْءٍ، نَأْخُذْهُ عَنْكَ، وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا، فَقَالَ: آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: الإيمَانِ بِاللَّهِ، ثُمَّ فَسَّرَهَا لَهُمْ، شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُؤَدُّوا إِلَيَّ خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ، وَأَنْهَى عَنِ: الدُّبَّاءِ، وَالْحَنْتَمِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُقَيَّرِ) . قال المؤلف: قرن الله التُّقى ونفى الإشراك به تعالى بإقامة الصلاة، فهى أعظم دعائم الإسلام بعد التوحيد، وأقرب الوسائل إلى الله تعالى، ومفهوم هذه الآية يدل أنه من لم يقم الصلاة فهو مشرك، ولذلك قال عمر: (ولا حظ فى الإسلام لمن ترك الصلاة) ، وسيأتى حكم ترك الصلاة، واختلاف العلماء فى ذلك فى كتاب المرتدين. وقد تقدم فى كتاب الإيمان معنى أمره عليه السلام، وفد عبد القيس بما أمرهم به ونهيه لهم عن الأشربة والظروف، وذلك أنه كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 يُعلم كل قوم ما بهم الحاجة إليه، وما الخوف عليهم من قبله أشد، وكان وفد عبد القيس يخاف منهم الغلول فى الفىء، وكانوا يكثرون الانتباذ فى هذه الأوعية، فعرفهم ما بهم الحاجة إليه، وما يخشى منهم مواقعته، وترك غير ذلك مما قد كثر وفشا عندهم. 3 - باب الْبَيْعَةِ عَلَى إِقَامهَ الصَّلاةِ / 3 - فيه: جرير بن عبد الله قال: (بَايَعْتُ الرَسُولَ عَلَى إِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ) . قال المهلب: مبايعة الرسول جريرًا على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة فَهُمَا دعامة الإسلام، وهما أول الفرائض بعد توحيد الله، والإقرار برسوله وذكر النصح لكل مسلم بعدهما، يدل أن قوم جرير كانوا أهل غدر، فعلمهم ما بهم إليه أشد حاجة، كما أمر وفد عبد القيس بالنهى عن الظروف، ولم يذكر لهم النصح لكل مسلم، إذ علم أنهم فى الأغلب لا يُخاف منهم من ترك النصح ما يخاف على قوم جرير، وكان جرير وفد من اليمن من عند قومه وفيه، قال الرسول: (إذا أتاكم كريم قومٍ فأكرموه) ، فبايعه بهذا ورجع إلى قومه معلمًا. 4 - باب الصَّلاةُ كَفَّارَةٌ / 4 - فيه: حذيفة قال: (كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عُمَرَ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِي الْفِتْنَةِ؟ قُلْتُ: أَنَا، كَمَا قَالَهُ، قَالَ: إِنَّكَ عَلَيْهِ - أَوْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 عَلَيْهَا - لَجَرِيءٌ قُلْتُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ، وَالصَّوْمُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالأمْرُ، وَالنَّهْيُ) ، الحديث. / 5 - وفيه: ابْنِ مَسْعُودٍ: (أَنَّ رَجُلا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَخْبَرَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود 114] ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَلِي هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ) . قوله: (فتنة الرجل فى أهله وماله) يصدقه، قوله تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) [التغابن: 15] ، والمعنى فى ذلك أن يأتى من أجلهم ما لا يحل له من القول والعمل ما لم يبلغ كبيرة، كالقُبْلة التى أصابها الرجل من المرأة وشبهها، فذلك الذى يكفرها الصلاة والصوم، ومثله قوله عليه السلام: (الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر) . قال المهلب: قوله: (فتنة الرجل فى أهله وماله وولده وجاره) ، يريد ما يعرض له معهم من شرٍّ أو حزنٍ وشبه ذلك، وسأستقصى تفسير هذا الحديث وأزيد فى البيان عن معنى الفتنة فيه فى كتاب الصيام فى باب الصوم كفارة، إن شاء الله، تعالى. وإنما علم عمر أنه الباب؛ لأن الرسول كان على حراء هو وأبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم، فقال النبى: (اثبت حراء، فإنما عليك نبى وصديق وشهيدان) ، وفهم ذلك، رضى الله عنه، من قول حذيفة حين قال: بل يكسر الباب، قال غيره: ويدل على ذلك قوله: (إذًا لا يغلق) ؛ لأن الغلق إنما يكون فى الصحيح، وأما المنكسر فهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 هتك لا يجبر وفتق لا يُرقع، وكذلك انخرق عليهم بقتل عثمان بعده من الفتن ما لا يغلق إلى يوم القيامة، وهى الدعوة التى لم يجب فيها عليه السلام فى أمته، ولذلك قال: (فلن يزال الهرج إلى يوم القيامة) . وأما حديث ابن مسعود، فإن أهل التأويل ذهبوا إلى قوله: (وأقم الصلاة طرفى النهار) [هود: 114] ، الفجر وصلاة العشاء، هذا قول مجاهد، والضحاك، وقال الحسن، وقتادة: طرفا النهار: الفجر، والعصر، وزلفًا من الليل: المغرب والعشاء،) إن الحسنات يذهبن السيئات) [هود: 114] ، قالوا: الحسنات التى ذكرهن الله هاهنا الصلوات الخمس، هذا قول ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وقتادة، وسعيد بن المسيب وغيرهم، فدلت هذه الآية أن الصلاة كفارة لصغائر الذنوب، ودل هذا الحديث أن القُبلة وشبهها مما أصابه الرجل من المرأة غير الجماع كل ذلك من الصغائر التى يغفرها الله باجتناب الكبائر، والصغائر هى من اللمم التى وعد الله مغفرتها لمجتنب الكبائر بقوله تعالى: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة) [النجم: 32] ، وهذه الآية تفسير قوله: (إن الحسنات يذهبن السيئات) [هود: 114] . وأما الكبائر: فأهل السنة مجمعون على أنه لابد فيها من التوبة والندم والإقلاع واعتقاد أن لا عودة فيها، روى سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (الصلوات الخمس كفارة لما بينهن لمن اجتنب الكبائر) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 وفى الآية تأويل آخر، قال مجاهد: الحسنات يذهبن السيئات هى سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. قال الطبرى: والصواب قول من قال هى الصلوات الخمس؛ لثبوت الخبر عن الرسول أنه قال: (مثل الصلوات الخمس كمثل نهر عذب ينغمس كل يوم فيه خمس مرات، فماذا يبقين من درنه؟) ، وأن ذلك فى سياق أمر الله بإقام الصلوات، فالوعدُ على إقامتها جزيل الثواب عقبها أولى من الوعد على ما لم يجر لهُ ذكر من سائر صالحات الأعمال، إذ خُصَّ بالقصد بذلك بعض دون بعضٍ، وسأذكر مذاهب العلماء فى الصغائر والكبائر فى كتاب الأدب، إن شاء الله. 5 - باب فَضْلِ الصَّلاةِ لِوَقْتِهَا / 6 - فيه: عَبْدِاللَّهِ قَالَ: (سَأَلْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) أَيُّ الأعَمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ ، قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي. / 7 - وفيه: أبو هريرة، قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا، مَا تَقُولُ ذَلِك، يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ؟ قَالُوا: لا يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا، قَالَ: فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهَا الْخَطَايَا) . / 8 - وفيه: أنس: أنه بكى فقال ابن شهاب: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئًا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 قال المؤلف: فى حديث عبد الله أن الصلاة لوقتها أحب إلى الله من كل عمل، وذلك يدل أن تركها أبغض الأعمال إلى الله بعد الشرك. وفيه: أن أعمال البر يفضلُ بعضها بعضًا عند الله. وفيه: فضل بر الوالدين، ألا ترى أنه عليه السلام، قرن ذلك بالصلاة، كما قرن الله شكرهما بشكره، فقال: (أن اشكر لى ولوالديك) [لقمان: 14] . وفيه: أن البدار إلى الصلاة فى أول أوقاتها، أفضل من التراخى فيها؛ لأنه إنما شرط فيها أن تكون أحب الأعمال إلى الله إذا أقيمت لوقتها المستحب الفاضل، وفى حديث أبى هريرة بيان أن صغائر الذنوب يغفرها بمحافظته على الصلوات؛ لأنه شبه الصغائر بالدرن، والدرن ما لم يبلغ مبلغ الجراح. قال المهلب: وقول أنس فى الصلاة: (أليس قد ضُيعتْ) ، وفى حديث آخر: (أليس قد ضيعتم فيها) ، يعنى تأخيرها عن الوقت المستحب لا أنهم أخرجوها عن وقتها كله. وقد قيل فى قوله تعالى: (أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) [مريم: 59] ، قال: والله ما ضيعوها بأن تركوها ولو تركوها كانوا كفارًا، ولكنهم أخروها عن أوقاتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 6 - باب الْمُصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ عَزَّ / 9 - فيه: أَنَّ الرَّسُول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلا يَتْفِلَنَّ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى) . فيه: فضل الصلاة على سائر الأعمال؛ لأن مناجاة الله لا تحصل للعبد إلا فى الصلاة خاصة، فينبغى له إحضار النية فيها وترك خواطر الاشتغال عنها، ولزوم الخشوع ولا يقدر على ذلك إلا بعون الله له. وقال بعض الصالحين: إذا قمت إلى الصلاة فاعلم أن الله يُقبلُ عليك، فأَقبلْ على من هو مُقبل عليك، واعلم أنه قريب منك، ناظر إليك، فإذا ركعت فلا تأمل أنك ترفع، وإذا رفعت فلا تأمل أنك تضع، ومَثِّل الجنة عن يمينك والنار عن شمالك والصراط تحت قدمك، فإذا فعلت كنت مُصليًا. 7 - باب الإبْرَادُ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ / 10 - فيه: أبو هريرة، عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: (إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) . / 11 - وزاد، أبو هريرة:: (وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ) . / 12 - وفيه: أبو ذر قال: أَذَّنَ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ عليه السلام، الظُّهْرَ فَقَالَ: (أَبْرِدْ، أَبْرِدْ - أَوْ قَالَ: انْتَظِرِ انْتَظِرْ - وَقَالَ: شِدَّةُ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاةِ، حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 وترجم لحديث أبى ذر باب الإبراد بالظهر فى السفر، وقال أبو ذر: (كنا مع النبى، عليه السلام، فى سفر. . .) ، وذكر الحديث. اختلف العلماء فى تأخير الظهر عند شدة الحر فذكر ابن أبى شيبة، وعبد الرزاق رواية عن عمر بن الخطاب، أنه كان يبرد بها، وعن أبى هريرة، وقيس بن أبى حازم مثله. وقال أبو الفرج: عن مالك، أول الوقت أفضل فى كل صلاة إلا الظهر فى شدة الحر، ولمالك فى المدونة خلاف ما حكاه عنه أبو الفرج، وهو أنه استحب أن يصلى الظهر، والعصر، والعشاء، بعد تمكن الوقت وذهاب بعضه، وبتأخير الظهر فى شدة الحر، قال أبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وقال الشافعى: يبرد بالظهر فى شدة الحر إذا كان المسجد يُنْتَابُ من البُعْدِ، فأما من صلاها فى بيته أو فى جماعة بفناء بيته فيصليها فى أول وقتها. وذهبت طائفة إلى تعجيل الظهر فى الحر وغيره فى أول وقتها، ولم يقولوا بالإبراد، وسأبين قول عمر فى الباب بعد هذا، إن شاء الله تعالى، ومعنى قوله: فَىء التلول يريد ظل كل شىء بارز على وجه الأرض من حجر أو نبات أو غيره فهو تلّ. فإن قيل: إن أول النهار للتلول فىء أيضًا. قيل: إذا طلعت الشمس يكون ظل كل شىء ممدودًا إلى جهة المغرب، فلا يزال الظل يقصر حتى تقف الشمس فى وسط السماء، فإذا وقفت قصر ظل كل شىء حذاء وخاصة فى الحجاز فى زمن القيظ، فليس لشىء فى ذلك الوقت ظل، فلا تجوز الصلاة حينئذ، فإذا زالت الشمس، وفاء الفىء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 امتد كل شىء إلى جهة المشرق، وبدا للتلول فئ ولا يبدو لها فى الحجاز إلا بعد تمكن الوقت. والفيح: سطوع الحر، فى كتاب العين. 8 - باب وَقَتْ الظُّهْرِ عِنْدَ الزَّوَالِ وقال جابر: كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يصلى الظهر بالهاجرة. / 13 - وفيه: أَنَسُ: (أَنَّ الرَسُولَ خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى الظُّهْر، ثم قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَذَكَرَ السَّاعَةَ، فَذَكَرَ أَنَّ فِيهَا أُمُورًا عِظَامًا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ، وَلا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلا أَخْبَرْتُكُمْ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي، فَأَكْثَرَ النَّاسُ فِي الْبُكَاءِ، وَأَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: سَلُونِي، فَقَامَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ، فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ، ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: سَلُونِي، فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإسْلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا. . .) ، الحديث. / 14 - وفيه: أَبو بَرْزَةَ (كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي الصُّبْحَ، وَأَحَدُنَا يَعْرِفُ جَلِيسَهُ، وَالظُّهْرَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ. . .) الحديث. / 15 - وفيه: عَنْ أَنَسِ: (كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالظَّهَائِرِ، سَجَدْنَا عَلَى ثِيَابِنَا اتِّقَاءَ الْحَرِّ) . وأجمع العلماء على أن أول وقت الظهر زوال الشمس وممن كان يصليها عند الزوال أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وروى إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: ما رأيت أحدًا كان أشد تعجيلاً للظهر من الرسول، وأبى بكر وعمر، وكتب عمر إلى أبى موسى: أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 صَلِّ الظهر حين تزيغ الشمس، وقال إبراهيم: كنا نصلى الظهر مع علقمة أحيانًا نجد ظلاً، نجلس فيه، وأحيانًا لا نجد ظلاً نجلس فيه، وذكر ذلك كله ابن أبى شيبة. وقال الطحاوى: ذهب قوم إلى تعجيل الظهر فى الزمان كله فى أول وقتها، واحتجوا بهذه الآثار وخالفهم آخرون، فقالوا: أما فى الشتاء فيعجل بها، وأما فى الصيف، فتؤخر حتى يتبرد بها، وهو قول الكوفيين، وأحمد، وإسحاق، ورواية أبى الفرج عن مالك. واحتجوا بالآثار المروية عن الرسول بالإبراد، وقالوا: معلوم أن الإبراد لا يكون إلا فى الصيف، وخالف ذلك الآثار التى جاءت بتعجيل الظهر فى الحر، فما دل على أن أحد الأمرين أولى من الآخر؟ قيل: لأنه روى أن تعجيل الظهر قد كان يفعل، ثم نسخ، حدثنا إبراهيم بن أبى داود، حدثنا يحيى بن معين، حدثنا إسحاق بن يوسف، حدثنا شريك، عن بيان، عن قيس بن أبى حازم، عن المغيرة بن شعبة، قال: صلى بنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلاة الظهر بالهجير، ثم قال: (إن شدة الحر من فيح جهنم، فأبردوا عن الصلاة) ، فأخبر المغيرة فى هذا الحديث أن أمر النبى بالإبراد بالظهر بعد أن كان يصليها فى الوقت، نسخ تعجيل الظهر فى شدة الحر، ووجب استعمال الإبراد فى شدة الحر. وقد روى عن أنس بن مالك، وابن مسعود، عن النبى: أنه كان يعجلها فى الشتاء، ويؤخرها فى الصيف، من طرق ثابتة، ذكرها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 الطحاوى، فدل ذلك على أن حديث جابر، وأنس، وأبى برزة، مفسر بحديث المغيرة. واحتج أهل المقالة الأولى، فقالوا: ليس الأمر بالإبراد ناسخًا لتعجيل الظهر فى شدة الحر، وحكم الظهر أن يعجل فى سائر الزمان لمن أراد الأخذ بالأفضل؛ لأن الرسول كان يعجلها فى أكثر أمره، وإنما أمرهم بالإبراد رخصة لهم لشدة الحر عندهم رفقًا بهم، وقد روى عن سعيد بن أبى المليح، عن ميمون بن مهران، قال: لا بأس بالصلاة نصف النهار، وإنما كانوا يكرهون الصلاة نصف النهار؛ لأنهم كانوا يصلون بمكة، وكانت شديدة الحر، ولم يكن لهم ظلال، فقال: أبردوا بها. وروى الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، قال: صليت خلف عبد الله بن مسعود الظهر حين زالت الشمس، فقال: هذا والذى لا إله إلا هو وقت هذه الصلاة، قالوا: وهذا محمول على الزمان كله، وبَيَّنَ هذا ما رواه الليث، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أسامة بن زيد، عن الزهرى، عن عروة، عن بشير بن أبى مسعود، عن أبيه: (أنه رأى رسول الله يصلى الظهر حين تزيغ الشمس، وربما أخرها فى شدة الحر) ، فهذا يدل أنه لم يكن يبرد بالصلاة فى الحر كله؛ لأن (ربما) تقع للتقليل، وإنما كان يفعل ذلك فى النادر، وليدل أمته على أن ما أمرهم به من الإبراد، قد يفعله هو أيضًا، وإن كان أكثر دهره يعجل الصلاة ولا يبرد بها، وأنهم مخيرون بالأخذ بأى ذلك شاءوا. فمن أراد الأفضل، كان له التعجيل، ومن أراد الأخذ بالرخصة كان له الإبراد، وهذا المعنى فهم عمر بن الخطاب، فكتب إلى أبى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 موسى الأشعرى: أن صلِّ الظهر إذا زاغت الشمس، فدله على الأفضل فى خاصة نفسه لعلمه بفهم أبى موسى، ومعرفته بأول الوقت، وأنه لا يشكل عليه، ولعلمه بحرصه على الأخذ فى نفسه بالأفضل، وإن كان أشق عليه، وكتب إلى عماله: أن صلوا الظهر إذا فاء الفىء ذراعًا، ولم يخص بذلك صيفًا من شتاء، فحملهم على سعة الوقت، وما يستوى عامة الناس فى معرفته، إذ لو حملهم على أول الوقت المحدود، لأدخل عليهم الحرج؛ إذ لا يعرف أول الوقت على الحقيقة كلُّ الناس، ورأى أن الوقت الذى يشمل عامتهم ويجتمعون فيه للصلاة يدركون فيه من فضل الجماعة، أكثر مما فاتهم من التعجيل بها لو صلوا منفردين بغير جماعة، فهذا تأويل يجمع ما اختلف من الآثار فى تعجيل الظهر والإبراد، والله الموفق. واختلف العلماء فى الوقت المختار من الظهر، ففى المدونة عن مالك أنه استحب أن يصلى الظهر والعصر، والعشاء بعد تمكن الوقت عنده، إذا فاء الفىء ذراعًا على ما كتب به عمر إلى عماله، وهذه خلاف رواية أبى الفرج عن مالك، واختلف أيضًا عن أبى حنيفة فى ذلك، فحكى ابن القصار عن الكرخى عنه أن وجوب صلاة الظهر معلق بآخر الوقت عنده، وأن الصلاة فى أوله نفل، فإن صلى إنسان عند الزوال، ثم بقى إلى آخر الوقت على حال سليمة يصح معها أن يكون مخاطبًا بها، ناب ذلك الفعل عن الواجب، وإن مات أو جُنَّ أو أُغْمِى عليه أو حاضت امرأة قبل بلوغ الوقت الآخر، كانت الصلاة التى صلى عند الزوال نفلاً لا أداء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 عن فرض لزمه، وحكى عنه أنه فى أول الوقت نفل على كل حال، وحكى عنه أنه واجب موقوف، فإن بقى على حال تلزمه الصلاة آخر الوقت كان واجبًا، وإن كان على حال لا تلزمه الصلاة كان نفلاً. والفقهاء بأسرهم على خلاف قوله، واحتج له الكرخى، قال: لو وجبت الصلاة بزوال الشمس، فأخرها مُؤخر، كان عاصيًا، قال: وقد أجمعوا أنه يؤخرها إلى آخر الوقت، فلا يكون عاصيًا. قال ابن القصار: وهذا لا يلزم؛ لأنا نقول وجوب الصلاة وجوبًا موسعًا، حتى أنه مخير فى إيقاعها أى وقت شاء بعد الزوال كالكفارات، هو مخير فى أيها شاء. قال غيره: ومما يدل على فساد قول أبى حنيفة ما ثبت من صلاة الرسول للظهر فى أحاديث هذا الباب حين زاغت الشمس، وإذا زالت الشمس، وبالهاجرة، وبالظهائر، وإنما امتثل عليه السلام، فى ذلك ما وقت له جبريل حين صلى به، وقال له: بهذا أمرت، فمحال أن يتعلق فرض الظهر بآخر الوقت، ويخالف فى ذلك الرسول عليه السلام، ويصلى الظهر عند الزوال، ويوقع فرضه فى غير وقته، وهو المبين عن الله لعباده ما فرض عليهم، وهذا ما لا يجوز لأحد أن يظنه بالنبى، وهذا من قول أبى حنيفة تحديد لمخالفة السنة الثابتة، والحجة فى السنة لا فى ما خالفها. قال ابن القصار: والقول أنه واجب موقوف فاسد؛ لأن وجوب الفعل لا يقف على ما يحصل عنه حالة ثابتة، وإنما يتعلق بشروط تحصل قبل وجوبه أو معه، فأما أن يتعلق بما يتأخر عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 فهو محال، فبطل أنه واجب موقوف، فلم يبق إلا أنه واجب مخير فيه؛ لأنه إن قيل: إنه مضيق خرج عن اتفاقهم على أنه لا يأثم من أخرهُ إلى ’ آخر الوقت. واختلفوا فى آخر وقت الظهر، فقال مالك فى رواية ابن عبد الحكم عنه: آخر وقت الظهر أن يصير ظل كل شىء مثله، بعد القدر الذى زالت عنه الشمس، وهو أول وقت العصر بلا فصل، وهو قول الثورى، وأبى يوسف، ومحمد، وأحمد، وإسحاق. وقال الشافعى، وأبو ثور: بين آخر وقت الظهر وأول وقت العصر فاصلة، لا تصلح للظهر ولا للعصر فى الاختيار، وهو أن يزيد الظل أدنى زيادة على المثل، واحتجا بحديث عبد الله بن عمرو أن الرسول قال: (وقت الظهر ما لم تحضر العصر) ، وهذا لا حجة فيه لما سنبينه، إن شاء الله. قال أبو حنيفة: آخر وقت الظهر أن يصير ظل كل شىء مثليه، فخالف الآثار والناس فى قوله فى المثلين فى آخر وقت الظهر، وخالفه أصحابه، وذكر الطحاوى عنه رواية موافقة لقول الجماعة أن آخر وقت الظهر حين يصير ظل كل شىء مثله، إلا أنه قال: ولا يدخل وقتل العصر، حتى يصير ظل كل شىء مثليه، فترك بين الظهر والعصر وقتًا مفردًا لا يصلح لأحدهما، وهذا لم يتابع عليه، كما لم يتابع الشافعى على قوله أن بين آخر القامة وأول القامتين وقت لا يصلح للظهر ولا للعصر فى الاختيار. وهذا كله لا يتحصل ولا يفهم؛ لأن ما بعد الحد فى جميع المحدودات إنما هو أول آخر الشىء الذى يليه، وليس هو من غيره، وهذا يلزم أصحاب الشافعى باحتجاجهم بقوله عليه السلام: (آخر وقت الظهر ما لم تحضر العصر) ، وأيضًا فإنه قد صح اشتراك وقت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 الظهر والعصر بعرفة فى وقت واحد، فلولا أن الوقت مشترك بينهما لم يجز جمعه عليه السلام، بينهما، كما لم يجز الجمع بين الصبح وغيرها من الصلوات. قال المهلب: وإنما خطب الرسول فى حديث أنس بعد الصلاة، وذكر الساعة، وقال: (سلونى) ؛ لأنه بلغه أن قومًا من المنافقين ينالون منه، ويعجزونه عن بعض ما يسألونه عنه، فتغيظ عليهم، وقال: (لا تسألونى عن شىء إلا أخبرتكم به) ، وأما بكاء الناس، فإنهم خافوا نزول العذاب المعهود فى الأمم الخالية عند تكذيب الرسل؛ لأنهم كانوا إذا جاءتهم آية، فلم يؤمنوا لم يمطلهم العذاب، قال تعالى: (ولو أنزلنا ملكًا لقضى الأمر) [الأنعام: 8] ، و) لقضى إليهم أجلهم) [يونس: 11] ، فبكوا إشفاقًا من ذلك ألا ترى فهم عمر حين برك على ركبتيه، وقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، حين قال عليه السلام للسائل له عن أبيه: (أبوك حذافة) ، وكان هذا الرجل لا يعرف أبوه حتى أخبر به الرسول (صلى الله عليه وسلم) . وسأزيد فى الكلام فى معنى هذا الحديث فى كتاب الفتن، وفى كتاب الاعتصام فى باب (ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنى) ، إن شاء الله، وقال أنس: (كنا إذا صلينا خلف الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالظهائر، سجدنا على أثوابنا إتقاء الحر) ، فذلك، والله أعلم؛ لأن الحجاز كثير الحرِّ، وليس هذا فى حين شدة الحرِّ جدًا الذى أمر فيه الرسول بالإبراد؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان جُلُّ أمره المبادرة. قال غيره: ويجوز أن يبادر فى الحر بالظهر، وقد أمر بالإبراد وأخذ بالشدة على نفسه، ولئلا يظن أحد أن الصلاة لا تجوز فى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 الوقت الذى أمر فيه بالإبراد، فأراد تعليم أمته، والتوسعة عليهم، والله أعلم. وفيه: جواز السجود على الثياب، وعُرض الشىء: جانبه، يقال: نظرت إليه عن عُرض، وعرض النهر والبحر: وسطهما، عن الخليل. والظهائر: جمع ظهيرة، والظهيرة: شدة الحر. وقوله فى حديث أبى برزة: (رجع والشمس حية) ، يريد ثم يرجع والشمس حية. 9 - باب تَأْخِيرِ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ / 16 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: (أَنَّ الرسول صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا وَثَمَانِيًا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ) ، قَالَ أَيُّوبُ: لَعَلَّهُ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ؟ ، قَالَ: عَسَى. قوله: (سبعًا) يريد المغرب والعشاء، و (ثمانيًا) الظهر والعصر، وقد تأول مالك فى هذا الحديث أنه كان فى مطر، كما تأوله أيوب، وهو قول الشافعى، وهذا الحديث حجة فى اشتراك أوقات الصلوات وهو يرد قول الشافعى أن بين آخر وقت الظهر، وأول وقت العصر فاصلة لا تصلح للظهر ولا للعصر، وعلى من قال: لا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شىء مثليه، وهو أبو حنيفة؛ لأن النبى لم يفصل بين الظهر والعصر، ولو كان بينهما وقت لا يصلح لإحدى الصلاتين لبينه النبى، عليه السلام. واختلف العلماء فى جمع الصلاتين لعذر المطر، فقال مالك: يجوز أن يجمع بين المغرب والعشاء ليلة المطر، ولايجمع بين الظهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 والعصر فى المطر، وهو قول ابن عمر، وعروة، وسعيد بن المسيب، والقاسم بن بن محمد، وأبى بكر بن عبد الرحمن، وأبى سلمة، وعمر بن عبد العزيز، وبه قال أحمد وإسحاق، وقال الشافعى: يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، إذا كان المطر دائمًا ولا يجمع فى غير حال المطر، وبه قال أبو ثور، وقال مالك: يجمع بين المغرب والعشاء فى الطين والظلمة، وإن لم يكن مطر، وكان عمر بن عبد العزيز يرى الجمع فى الريح والظلمة. والجمع عند مالك أن يؤخر المغرب، ثم يؤذن لها ويقيم ويصلى، ثم يؤذن فى المسجد للعشاء ويقيمون ويصلون وينصرفون قبل مغيب الشفق، لينصرفوا وعليهم إسفار. وقال محمد بن عبد الحكم: الجمع فى ليلة المطر فى وقت المغرب، ولا يؤخر المغرب، وذكر أنه قول ابن وهب، وأنه اختلف فيه قول مالك. وروى البرقى عن أشهب مثل قول ابن وهب، قال محمد: لأنه إن أخر المغرب لم يصل واحدة منهما فى وقتها؛ ولأن يصلى فى وقت إحداهما أولى. وخالف أبو حنيفة وأصحابه هذا الحديث، وقالوا: لا يجمع أحد بين الصلاتين فى مطر ولا غيره، وقالوا فى حديث ابن عباس: هذا ليس فيه صفة الجمع، وممكن أن يكون أخر الظهر إلى آخر وقتها، وصلاها، ثم صلى العصر فى أول وقتها، وصنع بالمغرب والعشاء كذلك، قالوا: وهذا سمى جمعًا ولا يجوز أن تُحال أوقات الحضر إلا بيقين، وروى عن الليث مثله، وقد تأول عمرو بن دينار، وأبو الشعثاء فى هذا الحديث مثل تأويل أبى حنيفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 وروى عمرو بن دينار، عن أبى الشعثاء جابر بن زيد، عن ابن عباس، قال: صلى الرسول بالمدينة ثمانيًا جميعًا وسبعًا جميعًا، قال عمرو: قلت لجابر: أظنه أخرَّ الظهر وعجَّل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء، قال: وأنا أظنه، وهذا تأويل من لم ير الجمع، وإلى هذا المعنى أشار البخارى فى ترجمته. وقد ذكر ابن المواز، عن ابن الماجشون مثله قال: لا بأس بتأخير الظهر إلى آخر وقتها، وتقديم العصر فى أول وقتها، والجمع بينهما، وهذا التأويل ليس بشىء؛ لأنه عليه السلام، لمَّا لم يجمع بين العصر والمغرب، ولا بين العشاء والصبح، علمنا أنه جمع بين صلاتين فى وقت إحداهما وهو وقت الأخرى، فصح أن الظهر يشترك مع العصر، والمغرب مع العشاء فى باب الإجزاء لا فى باب الاختيار على رواية ابن وهب، وعلى قول أشهب، وهو قول ربيعة، وابن سيرين. ولو كان هذا الجمع كما زعم أبو حنيفة، وأبو الشعثاء فى آخر وقت الأولى وأول وقت الثانية، لجاز الجمع بين العصر والمغرب، وبين العشاء والصبح، ولمَّا أجمعوا أن السنة إنما وردت فى الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، عُلم أن ذلك لاشتراك وقتيهما، وأن ما تأولوه ليس بجمع؛ إذ لو كان جمعًا لجاز مثله فى العصر والمغرب، والعشاء، والفجر، فسقط قولهم. وقدر روى حديث ابن عباس هذا على خلاف ما تأوله أيوب ومالك، روى أبو داود عن أبى معاوية، عن الأعمش، عن حبيب بن أبى ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: (جمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء فى المدينة فى غير خوف ولا مطر، قيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: أراد أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 لا يحرج أمته) ، هكذا يقول حبيب بن أبى ثابت: من غير خوف ولا مطر بالمدينة، وإذا كان بالمدينة فلا معنى لذكر السفر فيه. وقد روى صالح مولى التوأمة عن ابن عباس مثله: (من غير خوف ولا مطر) ، وليست رواية من روى فى هذا الحديث: (من غير خوف ولا سفر) معارضة لرواية من روى (من غير خوف ولا مطر) ؛ لأنه قد صح عن الرسول أن هذا الجمع كان بالمدينة فى حضر، فمن نفى المطر روى أنه كان بالمدينة، وزاد على من نفى السفر؛ لأنه وافقه أنه لم يكن فى سفر، فهى زيادة يجب قبولها. ففيه من الفقه: جواز الجمع بين الصلاتين فى الحضر، وإن لم يكن مطر، وقد أجاز ذلك طائفة من العلماء إذا كان ذلك لعذر يحرج به صاحبه ويشق عليه، على ما روى حبيب بن أبى ثابت، قال ابن سيرين: لا بأس بالجمع بين الصلاتين فى الحضر إذا كانت حاجة أو شىء ما لم يتخذه عادة، وأجاز ذلك ربيعة بن عبد الرحمن، وقال أشهب فى المجموعة: لا بأس بالجمع بين الصلاتين فى الحضر بغير مطر ولا مرض، وإن كانت الصلاة أول الوقت أفضل، وروى ابن وهب، عن مالك: من صلى العصر أول وقت الظهر، أنه يعيد ما دام فى الوقت استحبابًا، قال بعض أصحابه: ومعنى ذلك أنه صلى بعد الزوال بقدر أربع ركعات للظهر. وذكر ابن المواز، عن ابن الماجشون أنه لا بأس بتأخير الظهر إلى آخر وقتها، وتقديم العصر إلى أول وقتها، والجمع بينهما، وقد سئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال: أليس قد قال ابن عباس: (لئلا يحرج أمته؟) وهذا الحديث رخصة للمريض للجمع بين الصلاتين. وقال مالك: إذا خاف المريض أن يغلب على عقله جمع بين الظهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 والعصر عند الزوال، وجمع بين المغرب والعشاء عند الغروب، فأما إن كان الجمع أرفق به، ولم يخش أن يغلب على عقله، فليجمع بينهما فى وسط وقت الظهر، وعند غيبوبة الشفق، قال مالك: والمريض أولى بالجمع من المسافر وغيره لشدة ذلك عليه، وقال الليث: يجمع المريض، وقال أبو حنيفة: يجمع المريض كجمع المسافر عنده فى آخر وقت الأولى، وأول وقت الثانية، فأما فى المطر فلا يجمع عنده بحال، وقال الشافعى: لا يجمع المريض بين الصلاتين. - باب وَقْتُ الْعَصْرِ / 17 - فيه: عَائِشَةَ: (أَنَ الرَسُولُ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ حُجْرَتِهَا) . / 18 - وقال مرة: (لَمْ يَظْهَرِ الْفَيْءُ مِنْ حُجْرَتِهَا) . / 19 - وفيه: أبو هريرة: (أنَ النَّبِيُّ كان يُصَلِّي صَلاةَ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَرْفِعُ أَحَدُنَا إِلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَالشَّمْسُ مرتفعة حَيَّةٌ) . / 20 - وفيه: أَنَسِ: (كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَخْرُجُ الإنْسَانُ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَنَجِدُهُمْ يُصَلُّونَ الْعَصْرَ) . / 21 - وفيه: أبو أمامة قال: (صَلَّيْنَا مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِالْعَزِيزِ الظُّهْرَ، ثُمَّ خَرَجْنَا، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَوَجَدْنَاهُ يُصَلِّي الْعَصْرَ، فَقُلْتُ: يَا عَمِّ مَا هَذِهِ الصَّلاةُ الَّتِي صَلَّيْتَ؟ قَالَ: الْعَصْرُ، وَهَذِهِ صَلاةُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الَّتِي كُنَّا نُصَلِّي مَعَهُ) . / 22 - وفيه: أنس قال: (كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ، فيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى قُبَاءٍ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 فَيَأْتِيهِمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ) . / 23 - وقال مرة:: (كَنا نُصَلِّي الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْعَوَالِي، فَيَأْتِيهِمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ، وَبَعْضُ الْعَوَالِي مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ، أَوْ نَحْوِهِ) . هذا الباب كله يدل على تعجيل العصر وأنه السنة، واختلفوا فى أول وقت العصر، فقال مالك، والثورى، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: أول وقت العصر إذا صار ظل كل شىء مثله، وقال الشافعى: أوله إذا جاوز ظل كل شىء مثله بشىء ما، حتى ينفصل من آخر وقت الظهر على ما تقدم فى الباب قبل هذا. وقال أبو حنيفة: أول وقت العصر أن يصير ظل قامتين بعد الزوال، ومن صلى العصر قبل ذلك لم يجز، فخالف الآثار، وخالفه أصحابه، ووقت القامتين آخر وقت العصر المختار عند مالك فى رواية ابن عبد الحكم عنه، وفى المدونة: لم يكن مالك يذكر القامتين فى وقت العصر ولكنه كان يقول: والشمس بيضاء نقية. واختلفوا فى التعجيل بصلاة العصر وتأخيرها، فذهب أهل العراق إلى أن تأخيرها أفضل، واحتجوا بما روى عن ابن مسعود، وأبى هريرة أنهم كانوا يؤخرونها حتى تصفر الشمس، وكان على يؤخرها حتى ترتفع الشمس على الحيطان، وقال أبو قلابة، وابن شبرمة: إنما سميت العصر لتعتصر، وهو قول النخعى، وممن كان يعجل العصر عمر بن الخطاب، وكتب إلى عماله: أن صلوا العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، قدر ما يسير الراكب فرسخين أو ثلاثة، وكان ابنه عبد الله يصليها والشمس بيضاء نقية ويعجلها مرة، ويؤخرها أخرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 وروى هشام بن عروة قال: قدم رجل على المغيرة بن شعبة، وهو على الكوفة، فرآه يؤخر العصر، فقال: لم تؤخر العصر، وقد كنت أصليها مع النبى (صلى الله عليه وسلم) ثم أرجع إلى أهلى إلى بنى عمرو بن عوف والشمس مرتفعة حيّة؟ وأحاديث هذا الباب تدل على تعجيل صلاة العصر، ألا ترى قول عائشة أن النبى كان يصلى العصر والشمس لم تخرج من حجرتها، ولا تكون الشمس فى قصر الحجرة على قصر حيطانها، إلا فى أول وقت العصر، وقول أنس، وأبى برزة: كنا نصلى العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله والشمس مرتفعة حيّة، يدل على تعجيلها أيضًا؛ لأن حياة الشمس أن تجد حرها، وقول أنس: فيذهب الذاهب إلى العوالى والشمس مرتفعة، ولا يكون ذلك إلا فى أول وقتها. قال أبو سليمان الخطابى: حياتها: صفاء لونها قبل أن تصفر أو تتغير. وقول أنس: (كنا نصلى العصر فيذهب الذاهب إلى قباء، فيأتيهم والشمس مرتفعة) ، فالصحيح فيه: العوالى، وكذلك رواه أصحاب ابن شهاب كلهم غير مالك فى الموطأ، فإنه تفرد بذكر قباء، قال البزار: والصواب ما اجتمعت عليه الجماعة، وهو ممَّا يعد على مالك أنه وهم فيه. قال المؤلف: وقد روى خالد بن مخلد، عن مالك: (إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 العوالى) كما رواه أصحاب ابن شهاب، ذكره الدارقطنى، فلم يهم فيه مالك. والعوالى من المدينة على أربعة أميال، ولا يأتونها بعد صلاتهم العصر مع النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ويجدون الشمس مرتفعة حية، إلا وقد صلاها الرسول بهم فى أول الوقت، وهذا لا يكون إلا فى الصيف فى طول النهار، وهذا مستغنى عن الاحتجاج لوضوحه. وقول أبى أمامة: (صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر، ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك، فوجدناه يصلى العصر) ، قال: هذا يدل على أن تأخير عمر الظهر عن وقتها المستحب، كما أخر صلاة العصر حين أنكر ذلك عليه عروة بن الزبير، وروى أن بنى أمية كانوا يؤخرون الصلاة عن أوائل الوقت وكان ذلك عادتهم. وقول أنس: (هذه صلاة رسول الله التى كنا نصليها معه) ، يدل على أن سنته تعجيل العصر فى أول وقتها كما ثبت فى سائر أحاديث هذا الباب. وقوله: (حين تدحض الشمس) ، يعنى حين تزول الشمس، وأصل الدحض: الزلق، يقال: دحض يدحض دحضًا: إذا زلق، والدحض: ما يكون عند الزلق، من كتاب العين، والتهجير، والهاجرة: وقت شدة الحر. قال أبو حنيفة: سميت الهاجرة هاجرة، لهرب كل شىء منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 - باب إِثْمُ مَنْ فَاتَتْهُ صَلاة الْعَصْرُ / 24 - فيه: ابْنِ عُمَرَ قال: قال رَسُولَ اللَّهِ: (الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاةُ الْعَصْرِ، كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ) . قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: إنما وجب التعظيم لصلاة العصر وقصدها بالخطاب دون غيرها، وإن كانت داخلة فى قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات) [البقرة: 238] ، لاجتماع المتعاقبين من الملائكة فيها، وإنما أراد عليه السلام فواتها فى الجماعة، لا فواتها باصفرار الشمس أو مغيبها؛ لما يفوته من صلاتها فى الجماعة من حضور الملائكة فيها، فصار ما يفوته من هذا المشهد العظيم الذى يجتمع فيه ملائكة الليل، وملائكة النهار أعظم من ذهاب أهله وماله، فكأنه قال: الذى يفوته هذا المشهد الذى أوجب البركة للعصر كأنما وتر أهله وماله، ولو كان فوات وقتها كله باصفرار أو غيبوبة لبطل الاختصاص؛ لأن ذهاب الوقت كله موجود فى كل صلاة بهذا المعنى، فسره ابن وهب، وابن نافع، وذكره ابن حبيب عن مالك، وابن سحنون عن أبيه، قال ابن حبيب: وهو مثل حديث يحيى بن سعيد: (إن الرجل ليصلى الصلاة وما فاتته، ولما فاته من وقتها أكثر من أهله وماله) ، يريد أن الرجل ليصلى الصلاة فى الوقت المفضول ولما فاته من وقتها الفاضل، الذى مضى عليه اختيار النبى، وأبى بكر وكتب به عمر إلى عماله، أفضل من أهله وماله، وليس فى الإسلام حديث يقوم مقام هذا الحديث؛ لأن الله تعالى، قال: (حافظوا على الصلوات) [البقرة: 238] ، ولا يوجد حديث فيه تكييف المحافظة غيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 وقوله: (وتر أهله وماله) أى سلب ذلك، قال صاحب (العين) : الوتر والترة: الظلم فى الدم، يقال منه: وُتِرَ الرجلُ وترًا وترة. فمعنى وتر أهله وماله: أى سُلب ذلك وحُرِمَهُ، فهو أشد لغمه وحُزنه؛ لأنه لو مات أهله وذهب مالُه بغير سلبٍ لم تكن مصيبةُ ذلك عنده بمنزلة السَّلب؛ لأنه يجتمع عليه فى ذلك غَمَّان: غم ذهابهم، وغم الطلب بوترهم. وإنما مثله عليه السلام فى ما يفوته من عظيم الثواب بالذى حرم أهله وماله، فبقى لا أهل له ولا مال، وأصله من الوتر وهو الذَّحْل، يقال منه: وَتَرَهُ يَتِرُهُ وَتْرًا وتِرَةً، و (الوِتْر) بكسر الواو اسم لا مصدر، وقد يحتمل أن يكون عنى بقوله: (فكأنما وتر أهله وماله) ، أى نقص ذلك وأفرد منه، من قوله تعالى: (ولن يتركم أعمالكم) [محمد: 35] ، أى لن ينقصكم، والقول الأول أشبه بمعنى الحديث، والله أعلم. - باب مَنْ تَرَكَ الْعَصْرَ (1) / 25 - فيه: بُرَيْدَةَ: أنه قَالَ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ: (بَكِّرُوا بِصَلاةِ الْعَصْرِ، فَإِنَّ نَّبِيَّ الله قَالَ: مَنْ تَرَكَ صَلاةَ الْعَصْرِ، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) . قال المهلب ': معناه من تركها مضيعًا لها، متهاونًا بفضل وقتها مع قدرته على أدائها، فحبط عمله فى الصلاة خاصة، أى لا يحصل على أجر المصلى فى وقتها ولا يكون له عمل ترفعه الملائكة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 قال الطبرى: فإن قيل: ما معنى قوله: (بكروا بصلاة العصر) فى يوم الغيم، ولا سبيل إلى كعرفة أوقات النهار لارتفاع الأدلة على ذلك بالغيم الساتر عين الشمس؟ قال: ذلك أمر منه عليه السلام بالبكور بها على التحرى والأغلب عند المتحرى لا على إحاطة نفس العلم بإصابة أول وقتها؛ لأن أوقات الصلوات لا تدرك فى يوم الغيم إلا بالتحرى والعلم الظاهر. - باب فَضْلُ صَلاةِ الْعَصْرِ / 26 - فيه: جَرِيرِ: (كُنَّا عِنْدَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةً الْبَدْرَ فَقَالَ: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، فَافْعَلُوا) ، ثُمَّ قَرَأَ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها) [طه: 130] ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ: افْعَلُوا لا تَفُوتَنَّكُمْ) . / 27 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ: (يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ، وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ) . قال المؤلف: ذكر ابن أبى خيثمة قال: حدثنا الهيثم بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 خارجة، حدثنا الوليد بن مسلم، قال: سألت الأوزاعى، ومالك، وسفيان الثورى، والليث بن سعد عن الأحاديث التى فيها ذكر الرؤية فقالوا: أمرها كيف جاءت بلا كيفية. قال المهلب: وقوله: (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة) ، يعنى: على شهودها فى الجماعة، فخص هذين الوقتين لاجتماع الملائكة فيهما ولرفعهم أعمالهم فيها، لئلا يفوتهم هذا الفضل العظيم، قال أبو عبد الله: وقد قال عليه السلام يوم الخندق: (شغلونا عن الصلاة الوسطى، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا) ، فسمى العصر وسطى. وممن ذهب إلى أن العصر هى الصلاة الوسطى على بن أبى طالب، وعائشة، وأبو هريرة، وابن عمر، وأبو أيوب الأنصارى، والحسن، والزهرى، وهو قول أبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وأكثر أهل الحديث، واحتجوا بقوله يوم الخندق. وقيل: إنها الصبح رُوى ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وأبى موسى، وأبى أمامة، وجابر بن عبد الله، ومن التابعين: عطاء، وعكرمة، وطاوس، ومجاهد، وهو قول مالك، وحكى مالك أنه بلغه عن على بن أبى طالب مثله. وقيل: إنها الظهر رُوى ذلك عن: زيد بن ثابت، وابن عمر، وأبى سعيد الخدرى، وعائشة، وعروة بن الزبير، وقال قبيصة بن ذؤيب: هى المغرب، واحتج الذين قالوا: إنها الظهر بما روى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 الزهرى، عن سعيد بن المسيب، قال: كنت فى قوم فاختلفوا فى الصلاة الوسطى، وأنا أصغر القوم، فبعثونى إلى زيد بن ثابت لأسأله عن ذلك، فسألته قال: كان رسول الله يصلى بالهاجرة والناس فى قائلتهم وأسواقهم ولم يكن يصلى وراء رسول الله إلا الصف والصفان، فنزلت: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين) [البقرة: 238] ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لينتهين قوم أو لأحرقن بيوتهم) . وأما الذين قالوا: إنها المغرب فقالوا: ليست بأقلها ولا أكثرها، ولا تقصر فى السفر، وأن رسول الله لم يؤخرها عن وقتها ولا تعجلها. وأما حجة الذين قالوا: إنها الصبح، فإن ابن عباس قد استدل على ذلك بأنها تصلى فى سواد من الليل وبياض من النهار، وقالوا: وهى أكثر الصلوات تفوت الناس. قال إسماعيل بن إسحاق: ومن الحجة على ذلك قوله: (وقرآن الفجر) [الإسراء: 78] الآية، فخصت بهذا النص وأنها مفردة لا يشاركها فيه غيرها. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وإنما سمى الرسول العصر وسطى، والله أعلم، شبهها بالصبح لفضلها واجتماع الملائكة فيها فى قوله: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون فى صلاة الصبح وصلاة العصر) .) وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودًا) [الإسراء: 78] ، فالصبح وسطى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 بالكتاب والعصر وسطى بالسنة؛ لأن الصبح مذكورة بالكتاب بشهود الملائكة لها، والعصر مذكورة بذلك فى السنة، ألا ترى أن عائشة وحفصة أمرتا أن يكتب لهما فى المصحف: (حافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى وصلاة العصر) ، فخصتا العصر بالمحافظة مع الوسطى لاشتراكهما فى تعاقب الملائكة، ولاشتباههما فى أن الصبح يغلب الناس النومُ عليها، وأن العصر يُغلبون عليها بالكسل والسآمة لما كانوا عليه من اشتغالهم ونظرهم فى معاشهم، فتزاحم الشغل والكسل فى وقتها، والله أعلم. قال المهلب: فى حديث أبى هريرة أن أهم ما يسأل عنه العبد عند ملاقاة ربه: الصلاة، وأن أهم الصلوات صلاة الصبح وصلاة العصر؛ لاجتماع الملائكة فيهما، وأن الله تعالى، يسأل عما أكد المحافظة عليه منهما، فلذلك عرفهم أنهم ملاقوه وأنهم يرونه، ويسألهم عن ذلك. وقوله: (لا تضامون) كأنه من الضيم، من رواه مخفف الميم معناه: لا يضيم بعضكم بعضًا بأن يدفعه عنه أو يستأثر به دونه. وقال بعض أهل اللغة: إنما هو تضامون، بإدغام الميم، على تقدير تفاعلون، وهو من الانضمام يريد أنكم لا تختلفون فيه حتى تجتمعوا للنظر وينضم بعضكم إلى بعض، فيقول واحد: هو ذاك، ويقول آخر: ليس، كذلك فِعلُ الناس عند النظر إلى الهلال أول ليلة من الشهر، قاله ابن قتيبة. قال: وكذلك فى رواية من روى: (تضارون) ، وهو من الضير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 أى لا يضير بعضكم بعضًا بأن يدفعه عنه ويستأثر به دونه، وقال بعض أهل اللغة: إنما هو تضارون من الضرار وهو أن يتضارر الرجلان عند الاختلاف، يقال: ضار الرجلُ الرجلَ مضارة وضرارًا، وقد وقع الضرار بينهما والاختلاف. - باب مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ الْغُرُوبِ / 28 - فيه: أَبِو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَلْيُتِمَّ صَلاتَهُ، وَإِذَا أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ، قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَلْيُتِمَّ صَلاتَهُ) . / 29 - وفيه: ابن عمر قال: قال النبى: (إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ، فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِيَ أَهْلُ الإنْجِيلِ الإنْجِيلَ، فَعَمِلُوا إِلَى صَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِينَا الْقُرْآنَ، فَعَمِلْنَا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَأُعْطِينَا قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ: أَيْ رَبَّ، أَعْطَيْتَ هَؤُلاءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، وَأَعْطَيْتَنَا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، وَنَحْنُ كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلا، قَالَ: قَالَ اللَّهُ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالُوا: لا، قَال: فَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ) . / 30 - وفيه: أَبو مُوسَى قَالَ الرَّسُول (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا، يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلا إِلَى اللَّيْلِ، فَعَمِلُوا إِلَى نِصْفِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 النَّهَارِ، فَقَالُوا: لا حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ، فَاسْتَأْجَرَ آخَرِينَ، فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ، وَلَكُمِ الَّذِي شَرَطْتُ، فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا كَانَ وقت الْعَصْرِ، قَالُوا: لَكَ مَا عَمِلْنَا، فَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا، فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ، حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، وَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ) . قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من أدرك سجدة) يريد ركعة، فكنى بذكر السجدة عنها؛ إذ لا يكون مدركًا سجدة إلا بعد إدراك ركعة، وقد جاء حديث أبى هريرة هذا بلفظ آخر عنه أنه قال: (من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر) . ومعلوم أن الرسول لم يرد الركوع خاصة حتى يكون معه سجود، فمرة عبر بالسجود عن الركوع، ومرة اقتصر على ذكر الركوع. وأئمة الفتوى متفقون على أن من لم يدرك الركعة لم يدرك السجدة، وهذا الحديث عند الفقهاء خرج مخرج العموم، ومعناه الخصوص؛ لنهيه عليه السلام، أن يتحرى بالصلاة طلوع الشمس وغروبها، فالمراد به أصحاب الضرورات؛ لأنهم لا يلزمهم صلاة إلا أن يدركوا منها ركعة، أو يدركوا من الصلاتين المشتركتين الأولى منهما، وركعة من الثانية، وهم: المغمى عليه والمجنون يفيقان، والحائض تطهر، والكافر يسلم، والصبى يبلغ، كل هؤلاء عند مالك يصلون الصلاة التى يدركون منها ركعة بسجدتيها فى آخر وقتها، فإن لم يدركوا منها ركعة بسجدتيها بعد الفراغ مما يلزمهم من الطهارة لم يجب عليهم أن يصلوا، وقال الشافعى مثله فى أحد قوليه، واختلف قوله فيهم إذا أدركوا ركعة من العصر، فقال: يعيدون الظهر والعصر، وكذلك لو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 أدركوا مقدار تكبيرة الإحرام من العصر، فوافقه أبو حنيفة فى أنهم إن أدركوا من وقت صلاة مقدار تكبيرة الإحرام فقد أدركوها. واحتج أصحاب الشافعى فقالوا: إنما أراد الرسول بذكر الركعة البعض من الصلاة، فكأنه قال: من أدرك عمل بعض الصلاة فى الوقت، والدليل على ذلك قوله: من أدرك ركعة، وقال مرة أخرى: من أدرك سجدة، فدل أنه أراد البعض، والتكبير بعض الصلاة. وقال ابن القصار: فالجواب أن هذا ينقض عليه أصله فى الجمعة؛ لأنه يقول: من لم يدرك ركعة بسجدتيها من الجمعة؛ فلم يدركها. والحجة لقول مالك قوله عليه السلام: (من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) ، فدل هذا الكلام أنه لا يكون مدركًا بإدراك أقل من ركعة؛ إذ لو كان أقل من ركعة بمنزلتها لم يكن لتخصيصها بركعة معنى، وتكبيرة الإحرام لا تسمى ركعة، ويُبين صحة هذا قوله: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) ، وهذا يلزم من قال: إنه إن أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس وجب عليه أن يصلى الظهر والعصر؛ لأنه عليه السلام إنما جعل من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس مدركًا لصلاة واحدة وهى العصر، فلا يجوز أن يكون مدركًا لغيرها، ولا يجوز أن يجب عليه غير ما أوجبه الرسول، وقد اتفقنا أنه لو بلغ الصبى وأسلم الكافر، وطهرت الحائض فى وقت المغرب لم تلزمهم صلاة الصبح، فكذلك صلاة الظهر؛ لأنه لم يدرك من وقتها شيئًا، وأيضًا فإن الشافعى يقول: إن صلاة الظهر تفوت قبل دخول وقت العصر، فإن فاتت فلا قضاء لما فات وقته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 ويقول أبو حنيفة، فيمن عدا المغمى عليه، أنهم إن أدركوا العصر فى وقتها لم يقضوا صلاة الظهر؛ لأن بينها وبين العصر وقتًا تفوت فيه. وفى حديث أبى هريرة من الفقه حجة لما ذهب إليه عامة الفقهاء أنه من نام عن صلاة الصبح أو نسيها، فأدرك منها ركعة قبل طلوع الشمس وركعة بعدها أنه يتمها، وكذلك العصر، هذا قول مالك، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وعامة العلماء. وخالف بعض هذا الحديث أبو حنيفة فقال: إن أدرك ركعة من العصر قبل مغيب الشمس أنه يتمها بعد مغيب الشمس، ولا يصلى غير عصر يومه فى ذلك الوقت، ولا يجوز أن يقضى فيه صلاة فائتة غيرها، وإذا أدرك ركعة من الصبح قبل طلوع الشمس بطلت صلاته، واسقبلها بعد ارتفاع الشمس. وأصحاب الضرورات عنده إذا لم يدركوا إلا ذلك الوقت لم يلزمهم شىء، واحتج بأن العصر يقع آخرها فى وقت يصلح للإنسان أن يبتدئ الصلاة فيه، وليس هكذا طلوع الشمس؛ لأنه ليس وقتًا للصلاة، وقالوا: ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد أخر الصلاة حين نومه عن الصبح من أجل انتباهه عند طلوع الشمس، ولم يصلها حتى ارتفعت، وهذا رد لحديث أبى هريرة؛ لأنه عليه السلام قال: (من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل غروب الشمس فليتم صلاته، ومن أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته) ، فسوى بين العصر والصبح فى أن حكمهما واحد فى الإتمام بعد غروب الشمس وبعد طلوعها، وقد يجوز أن يبتدئ قضاء الفرض فى وقت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 لا يجوز أن تؤخر الصلاة إليه، فكذلك يجوز أن يقع آخر صلاته فى وقت لا يجوز أن يبتدئ الصلاة فيه، وعلتهم تقلب عليهم؛ فيقال: إن العصر قد ابتدأها فى وقت لا يجوز أن يفعلها فيه، وصلاة الصبح ابتدأها فى وقتها، فإذا جاز ذلك فى العصر فالصبح أولى. قال المهلب: وإنما أدخل حديث ابن عمر وأبى موسى فى هذا الباب بقوله: (ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين) ، ليدل على أنه قد يستحق بعمل البعض أجر الكل، مثل الذى أعطى من العصر إلى الليل أجر النهار كله لمستأجريه أولى، فمثل هذا الذى أعطى على كل ركعة أدرك وقتها أجر الصلاة كلها فى آخر الوقت. وأما احتجاجهم بأن الرسول أخر الصلاة فى الوادى حين انتبه حتى ارتفعت الشمس، فلا حجة لهم فيه؛ لأنه قد ثبت أنهم لم يستيقظوا يومئذ حتى أيقظهم حر الشمس، ولا يكون لها حرارة إلا والصلاة جائزة ذلك الوقت. - باب وَقْتُ الْمَغْرِبِ وَقَالَ عَطَاءٌ: يَجْمَعُ الْمَرِيضُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. / 31 - فيه: رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: (كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَيَنْصَرِفُ أَحَدُنَا وَإِنَّهُ لَيُبْصِرُ مَوَاقِعَ نَبْلِهِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 / 32 - وفيه: جَابِرَ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بيضاء نَقِيَّةٌ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ، وَالْعِشَاءَ أَحْيَانًا، وَأَحْيَانًا إِذَا رَآهُمُ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَئوْا أَخَّرَ، وَالصُّبْحَ كَانُوا أَوْ كَانَ الرسول يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ) . / 33 - وفيه: سَلَمَةَ قَالَ: (كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) الْمَغْرِبَ إِذَا تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) . / 34 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (صَلَّى النَّبِيُّ سَبْعًا جَمِيعًا، وَثَمَانِيًا جَمِيعًا) . أجمع العلماء على أن وقت المغرب غروب الشمس، وذهب مالك والأوزاعى، وأحد قولى الشافعى أن وقت المغرب غروب الشمس، لا يؤخر عنه فى الاختيار، وذهب أبو حنيفة، والثورى، وأحمد، وإسحاق إلى أن لها وقتين. وقد قال مالك فى الموطأ ما يدل على هذا، قال: إذا غاب الشفق خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء، وقال محمد بن مسلمة، من أصحاب مالك: أول وقت المغرب غروب الشمس، ولمن شاء تأخيرها إلى مغيب الشفق فذلك له، وهو منها فى وقت غيرُهُ أحسنُ منه، واحتج الذين قالوا: إن لها وقتين بقوله عليه السلام: (إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدوا بالعشاء) ، وكل ذلك يدل على سعة الوقتية قالوا: وقد قرأ فيها الرسول بالطور، والصافات، والأعراف، والحجة لمالك ومن وافقه أن الروايات لم تختلف فى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 صلاة جبريل بالنبى؛ فإنه صلى به العشاء فى وقت واحد، وكذلك أحاديث هذا الباب كلها تدل على ذلك، ألا ترى أن قول رافع بن خديج: (كنا ننصرف من المغرب مع رسول الله، وأحدنا يبصر مواقع نبله) ، وقال جابر: (كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يصلى المغرب إذا وجبت الشمس) ، وقال سلمة: (إذا توارت بالحجاب) ، وهذا كله يدل على المبادرة بها عند غروب الشمس. وقال ابن خواز بنداذ: إن الأمصار كلها بأسرها لم يزل المسلمون على تعجيل المغرب فيها، ولا نعلم أحدًا أَخَّرَ إقامتها فى مسجد جماعة عن غروب الشمس، وفى هذا ما يكفى مع العمل بالمدينة على تعجيلها، ولو كان وقتها واسعًا لعمل المسلمون فيها كسائر الصلوات، من أذان المؤذنين واحدًا بعد واحد، والركوع بين الأذان والإقامة لها، فتركهم ذلك دليل على المبادرة بها، وكان عمر بن الخطاب يكتب إلى عماله: ولا تنتظروا بصلاتكم اشتباك النجوم، وصلوها والفجاج مسفرة. وصلاها ابن مسعود حين غربت الشمس، وقال: هذا والذى لا إله إلا هو وقت هذه الصلاة، ولم يرو عن أحد من الصحابة أنه أخر عن هذا الوقت. وقوله: (والصبح كانوا، أو كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يصليها بغلس) ، فالمعنى كانوا مع النبى مجتمعين أو لم يكونوا مجتمعين، فإنه (صلى الله عليه وسلم) كان يصليها بغلسٍ، ولا يصنع فيها كما كان يصنع فى العشاء من تعجيلها إذا اجتمعوا أو تأخيرها إذا أبطئوا، وإنما كان شأنه التعجيل بها أبدًا، وهذا من أفصح الكلام. وفيه حذفان: حذف الخبر (كانوا) وهو جائز كحذف خبر المبتدأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 كقوله تعالى: (واللائى لم يحضن) [الطلاق: 4] ، فالمعنى: واللائى لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر، فحذف الجملة التى هى الخبر لدلالة ما تقدم عليه، ويحذف خبر (لكن) أيضًا كقول الشاعر: فلو كنت ضبيًا عرفت قرابتى ولكن زنجيًا عظيم المشافر المعنى: ولكن زنجيًا عظيم المشافر لا يعرف قرابتى. وقوله: (أو) يعنى: لم يكونوا مجتمعين، حذف الجملة التى بعد (أو) مع كونها مقتضية لها كقول ذى الرمة: فلما لبسن الليل أو حين نصبت له من خدى آذانها وهو جانح أراد: أو حين أقبل الليل فحذف (أقبل) مع كون (حين) مقتضية له من حيث هى مضافة إليه، فإذا جاز حذف المضاف إليه مع كونه كالجزء من المضاف، كان حذف ما بعد (أو) أقرب؛ لأنه ليس كالجزء منها. - باب مَنْ كَرِهَ أَنْ يُقَالَ لِلْمَغْرِبِ الْعِشَاءُ / 35 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا تَغْلِبَنَّكُمُ الأعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلاتِكُمُ الْمَغْرِبِ، قَالَ: وَتَقُولُ الأعْرَابُ: هِيَ الْعِشَاءُ) . قال المهلب: إنما كره أن يقال للمغرب العشاء، والله أعلم؛ لأن التسمية من الله ورسوله لا تترك لرأى أحد لقوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم) [البقرة: 31] . قال غيره: وهذا يدل أنه لا يجب أن يقال: للمغرب العشاء الأولى كما تقول العامة، وينبغى أن تفرد كل صلاة باسمها، ليكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 أبعد لها من الإشكال إلا العتمة؛ فإنها قد صحت فى الآثار الثابتة لها اسمان: العتمة والعشاء. - باب ذِكْرِ الْعِشَاءِ وَالْعَتَمَةِ وَمَنْ رَآهُ وَاسِعًا فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَثْقَلُ الصَّلاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ: الْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ، وَقَالَ: لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالْفَجْرِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَالاخْتِيَارُ أَنْ يُقَالَ الْعِشَاءُ، لِقَوْلِهِ: (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ) [النور 58] . وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كُنَّا نَتَنَاوَبُ الرَّسُولَّ (صلى الله عليه وسلم) عِنْدَ صَلاةِ الْعِشَاءِ، فَأَعْتَمَ بِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ: أَعْتَمَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْعِشَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ عَائِشَةَ: أَعْتَمَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْعَتَمَةِ. وَقَالَ جَابِرٌ: كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي الْعِشَاءَ، وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ، كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ. وَقَالَ أَنَسٌ: أَخَّرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) الْعِشَاءَ الآخِرَةَ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو أَيُّوبَ وَابْنُ عَبَّاسٍ: النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ. / 36 - فيه: ابن عمر قَالَ: (صَلَّى لَنَا النبى (صلى الله عليه وسلم) لَيْلَةً صَلاةَ الْعِشَاءِ، وَهِيَ الَّتِي يَدْعُو النَّاسُ: الْعَتَمَةَ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: أَرَأَيْتُكمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ؟ ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ أَحَدٌ) . هذا يدل على أن العشاء لها اسمان فى القرآن والسنة، فأما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 القرآن، فقوله تعالى: (ومن بعد صلاة العشاء) [النور: 58] ، وأما السنة، فقوله عليه السلام: (لو تعلمون ما فى العتمة والفجر) ، وإن كان السلف قد اختلفوا فى ذلك، فروى عن ابن عمر أنه كره أن يقال لها: (العتمة) ، وعن سالم، وابن سيرين مثله، وأجازه أبو بكر الصديق، وابن عباس، وذكر ذلك ابن أبى شيبة. قال الطبرى: وأصل ذلك من استعتام النَّعَم، يقال: حلبها عتمة، والعتمة بقية اللبن تُغْبقُ بها الناقة بعد هوى من الليل، فقيل لها: العتمة؛ لأنها كانت تُصلى حين تُغْبَقُ النعم، وقيل لكل مبطئ بأمر: عتم بكذا: إذا أبطأ به، وقد عتم هذا الأمر وعتم فهو عاتم ومعتم: إذا أبطأ. قال المهلب: وقد احتج بهذا الحديث من زعم أن الخضر ليس بحى، ولو كان حيا حين قال الرسول هذا القول، لم يجاوز المائة السنة، وقال تعالى: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) [الأنبياء: 34] . - باب وَقْتِ الْعِشَاءِ إِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ أَوْ تَأَخَّرُوا / 37 - فيه: جَابِرَ قال: (كان النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ، وَالْعِشَاءَ إِذَا كَثُرَ النَّاسُ عَجَّلَ، وَإِذَا قَلُّوا أَخَّرَ، وَالصُّبْحَ بِغَلَسٍ) . وأما قوله: (والعشاء إذا كثر الناس عجل) ، فتعجله بها كان بعد مغيب الشفق، وقد أجمع العلماء أن وقت العشاء الآخرة مغيب الشفق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 واختلفوا فى مغيب الشفق، فروى عن ابن عباس، وابن عمر، وعبادة بن الصامت، أنها الحمرة التى تكون فى المغرب بعد غروب الشمس، وهو قول مكحول، وابن أبى ليلى، ومالك، والثورى، والأوزاعى، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وقال أبو حنيفة، والمزنى: الشفق: البياض الذى بعد الحمرة، فإذا غاب ذلك البياض وجبت العشاء الآخرة، وقد روى عن ابن عباس أيضًا أنه البياض، وعن أبى هريرة، وأنس مثله، وهو قول عمر بن عبد العزيز. وذكر ابن شعبان، عن مالك، قال: إذا ذهبت الحمرة وبقى البياض، فأرجو أن تجزئ المصلى صلاته، وما ذلك عنده باليقين، وذهاب البياض هو الذى لا شك فيه، وفيه قول ثالث: أن الشفق اسم لمعنيين عند العرب، وهما الحمرة والبياض، وكان على يصليها إذا غاب الشفق، وقال عمر: عجلوا العشاء قبل أن يكسل العامل وينام المريض. وأما تأخيرها فسيأتى فى بابه ذكر الاختلاف فيه، إن شاء الله، وكان رسول الله يستحب تأخير العشاء، ويكره ما يشق على أمته من طول انتظارها؛ لأنه كان رءوفًا بالمؤمنين، فلذلك كان يعجلها إذا اجتمعوا. ومن هذا الحديث استدل مالك، والله أعلم، على أن صلاة الجماعة فى وسط الوقت أفضل من الصلاة فى أوله فرادى، واستحب مالك لمساجد الجماعات أن يؤخروا الصلاة حتى يجتمع الناس طلبًا للفضل؛ لأن المنتظر للصلاة فى صلاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 - باب فَضْلِ الْعِشَاءِ / 38 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ لَيْلَةً بِالْعِشَاءِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْشُوَ الإسْلامُ، فَلَمْ يجىء حَتَّى قَالَ عُمَرُ: نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ، فَقَالَ لأهْلِ الْمَسْجِدِ: مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأرْضِ غَيْرَكُمْ) . / 39 - وفيه: أَبِي مُوسَى قَالَ: اشُّتغْلِ الرسول فِي بَعْضِ أَمْرِهِ، فَأَعْتَمَ بِالصَّلاةِ، حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى بِهِمْ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ، قَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ: (عَلَى رِسْلِكُمْ أَبْشِرُوا إِنَّه مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرُكُمْ) . فيه: إباحة العشاء إذا علم أن بالقوم قوة على انتظارها؛ ليحصلوا على فضل الانتظار ثم الصلاة؛ لأن المنتظر للصلاة فى صلاة، وهذا لا يصلح اليوم لأئمتنا؛ لأن الرسول لما أمر الأئمة بتخفيف الصلاة، وقال: (إن فيهم الضعيف والسقيم وذا الحاجة) ، كان ترك التطويل عليهم فى انتظارها أولى. وقد روى مجالد، عن عامر، عن جابر، قال: (أبطأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذات ليلة عن صلاة العشاء حتى ذهب هوى من الليل، حتى نام بعض من كان فى المسجد، ثم خرج فقال: (لولا ضعف الضعيف، وبكاء الصغير، لأخرت العشاء إلى عتمة من الليل) ، ذكره الطبرى. وتأخيره عليه السلام، الصلاة إلى هذا الوقت من الليل، إنما كان من أجل الشغل الذى منعه منها، ولم يكن ذلك من فعله عادة، وقد جاء فى بعض طرق هذا الحديث معنى شغله: ما كان روى الأعمش، عن أبى سفيان، عن جابر قال: (جهز رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذات ليلة جيشًا حتى قرب نصف الليل، أو ثلثه، خرج إلينا رسول الله فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 (قد صلى الناس ورقدوا، وأنتم تنتظرون الصلاة، أما إنكم لم تزالوا فى صلاة ما انتظرتموها) . وروى زر بن حبيش، عن ابن مسعود، قال: خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ونحن ننتظر العشاء، فقال لنا: (ما على الأرض أحد من أهل الأديان ينتظر هذه الصلاة فى هذا الوقت غيركم) ، فنزلت: (ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله أناء الليل وهم يسجدون) [آل عمران: 113] ، وليسوا كالمشركين الذين يجحدون ذلك كله، ذكره الطبرى. وقوله: (ابهارّ الليل) : انتصف، عن ابن السكيت، والبهرة: الوسط من الإنسان والدابة وغيرهما، يقال: ابهارّ النهار حين ترتفع الشمس، ويقال: ابهارّ الليل: ذهب عامته، وبقى نحو من ثلثه، وقد ابهار عليه الليل: أى طال. وقال سيبويه: لا نتكلم بابهار إلا مزيدًا وهو فى القمر. وقال أبو سعيد الضرير: قد يبهار الليل قبل أن ينتصف، وابهراره طلوع نجومه إذا تتامت؛ لأن الليل إذا أقبل أقبلت فحمته، فإذا تطالعت نجومه واشتبكت، ذهبت تلك الفحمة، والباهر الممتلئ نورًا، قال الأعشى: حكمتموه فقضى بينكم أبلج مثل القمر الباهر وقال صاحب (العين) : أعتم القوم وعتموا: إذا صاروا فى العتمة أو وردوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ / 40 - فيه: أَبو بَرْزَةَ (أَنَّ نبى اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا) . قال المهلب: إنما كره النوم قبل العشاء لئلا يستغرق فى النوم، فيفوته وقتها المستحب، وربما فاته وقتها كله، فمنع من ذلك قطعًا للذريعة. واختلف السلف فى النوم قبلها، فكان ابن عمر يكاد يَسُبُّ الذى ينام قبل العشاء. وقال أنس: كنا نجتنب الفرش قبل صلاة العشاء، وكتب عمر ألا ينام قبل أن يصليها، فمن نام فلا نامت عينه. وكره ذلك: أبو هريرة، وابن عباس، وعن عطاء، وطاوس، وإبراهيم، ومجاهد مثله، وهو قول مالك، والكوفيين. ورخصت فيه طائفة روى عن على بن أبى طالب أنه كان ربما غفا قبل العشاء، وكان ابن عمر ينام ويوكل من يوقظه، وعن أبى موسى، وعبيدة مثله، وعن عروة، وابن سيرين والحكم أنهم كانوا ينامون نومة قبل الصلاة، وكان أصحاب عبد الله يفعلون ذلك، وقال به بعض الكوفيين واحتج لهم الطحاوى، وقال: إنما كره النوم قبلها لمن خشى عليه فوت وقتها، أو فوت الجماعة فيها، وأما من وكل لنفسه من يوقظه لوقتها، فمباح له النوم، واحتجوا بفعل ابن عمر، وأبى موسى، وعبيدة، فدل أن النهى عن النوم قبلها ليس هو نهى تحريم لفعل الصحابة له، لكن الأخذ بظاهر الحديث أنجى وأحوط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 وقال الطحاوى: قال الليث: قول عمر بن الخطاب: فمن رقد بعد المغرب فلا أرقد الله عينه، أن ذلك بعد ثلث الليل الأول، وقال الطحاوى: تحمل الكراهة على أنها بعد دخول وقت العشاء، والإباحة قبل دخول وقتها، وسيأتى بيان السمر المنهى عنه بعد العشاء، والسمر المباح بعد هذا فى موضعه، إن شاء الله. - باب النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ لِمَنْ غُلِبَ / 41 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالْعِشَاءِ، حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ: الصَّلاةَ، نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ، فَقَالَ: مَا يَنْتَظِرُهَا مِنْ أَهْلِ الأرْضِ أَحَدٌ غَيْرُكُمْ، قَالَ: وَلا يُصَلَّى يَوْمَئِذٍ إِلا بِالْمَدِينَةِ، وَكَانُوا يُصَلُّونَ فِيمَا بَيْنَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ) . / 42 - وفيه: ابْنُ عُمَرَ (أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) شُغِلَ عَنْهَا لَيْلَةً، فَأَخَّرَهَا حَتَّى رَقَدْنَا فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا، ثُمَّ رَقَدْنَا، ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا عليه السلام، ثُمَّ قَالَ: (لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأرْضِ يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ غَيْرُكُمْ) ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يُبَالِي قَدَّمَهَا أَمْ أَخَّرَهَا، إِذَا كَانَ لا يَخْشَى أَنْ يَغْلِبَهُ النَّوْمُ عَنْ وَقْتِهَا، وَقد كَانَ يَرْقُدُ قَبْلَهَا) . / 43 - وفيه: ابْنَ عَبَّاسٍ قال: أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَيْلَةً بِالْعِشَاءِ حَتَّى رَقَدَ النَّاسُ، وَاسْتَيْقَظُوا، وَرَقَدُوا، وَاسْتَيْقَظُوا، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: الصَّلاةَ، فَخَرَجَ الرسول، وقَالَ: (لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأمَرْتُهُمْ أَنْ يُصَلُّوهَا هَكَذَا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 النوم المذكور فى هذا الحديث إنما هو نوم القاعد الذى يخفق برأسه لا نوم المضطحع، والدليل على ذلك أنه لم يكن يذكر أحد من الرواة أنهم توضئوا من ذلك النوم، ولا يدل قوله: (ثم استيقظوا) على النوم المستغرق الذى يزيل العقل وينقض الوضوء؛ لأن العرب تقول: استيقظ من سنَتِه وغفلَتِه، وإلى هذا ذهب الشافعى فى أن نوم الجالس لا ينقض الوضوء، ويشبه أيضًا مذهب مالك فى مراعاته النوم الخفيف فى كل الأحوال؛ لأنه ليس بحدث وهو رد على المزنى فى قوله: إن قليل النوم وكثيره حدث ينقض الوضوء؛ لأنه محال أن يذهب على أصحاب الرسول أن النوم حدث ينقض الوضوء، فيصلون بالنوم، ولا يسألون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك، وقد رُوى عن ابن عمر، وابن عباس، وأبى أمامة، وأبى هريرة أنهم كانوا ينامون قعودًا، ولا يتوضئون، فدل هذا أنه كان نومًا خفيفًا. فإن قال قائل: فقد جاء عن أنس أنهم حين كانوا ينتظرون الصلاة مع النبى، عليه السلام، ناموا مضطجعين، ثم صلوا ولم يتوضئوا، ذكره الطبرى، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس، قال: (كان أصحاب رسول الله ينتظرون الصلاة مع الرسول فيضعون جنوبهم، ثم يقمون فيصلون ولا يتوضئون) . ففى هذا حجة لمن لم ير من النوم وضوءًا أصلاً، وهو قول أبى موسى الأشعرى، وأبى مجلز، وعمرو بن دينار، فهذا خلاف ما تأولت فى هذه الأحاديث، أنهم كانوا ينامون نومًا خفيفًا. قيل: قد جاء حديث قتادة، عن أنس بلفظ آخر، وفيه ما يدل على ما قلناه وهو قوله: (ثم يقومون) ، فمنهم من يتوضأ ومنهم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 لا يتوضأ، ذكره الطبرى، فبان بهذا الحديث أن من استغرق فى نومه مضطجعًا أو جالسًا، فهم الذين كانوا يتوضئون، ومن كان نومه خفيفًا فهم الذين كانوا لا يتوضئون كما قلنا، وإجماع العلماء على أن النوم مزيل للعقل ينقض الوضوء، يرد قول من لم ير من النوم وضوءًا أصلا. وأما نوم ابن عمر قبل العشاء، فيدل، والله أعلم، أنه كان منه نادرًا إذا غلبه النوم، فكان يوكل من يوقظه على ما ذهب إليه بعض الكوفيين، وروى معمر، عن أيوب، عن نافع: أن ابن عمر كان ربما رقد من العشاء الآخرة، ويأمر أن يوقظوه. وقوله: (ربما) ، يدل أنه كان منه فى النادر، فيحتمل أن يفعله إذا أراد أن يجمع بأهله، أو لعذر يمنعه من حضور الجماعة، ثم يجمع بأهله، والله أعلم. - باب وَقْتِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ قَالَ أَبُو بَرْزَةَ: كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتَحِبُّ تَأْخِيرَهَا. / 44 - فيه: أَنَسِ: أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلاةَ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ صَلَّى، ثُمَّ قَالَ: (قَدْ صَلَّى النَّاسُ وَنَامُوا، أَمَا إِنَّكُمْ فِي صَلاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُوهَا) . اختلف العلماء فى وقت عشاء الآخرة، فروى عن عمر بن الخطاب، وأبى هريرة أن آخر وقتها إلى ثلث الليل، وهو قول عمر بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 عبد العزيز، ومكحول، وإليه ذهب مالك لغير أصحاب الضرورات، واستحب لمساجد الجماعات ألا يعجلوها فى أول وقتها إذا كان ذلك غير مضر بالناس، وتأخيرها قليل أفضل عنده، وعند الشافعى وقتها إلى ثلث الليل أيضًا، وقال النخعى: آخر وقتها ربع الليل. وذهب أبو حنيفة، والثورى: إلى أن آخر وقتها نصف الليل، وروى عن ابن عباس أن آخر وقتها طلوع الفجر، وقد روى ابن وهب، عن مالك مثله، وهذا لمن له الاشتراك من أهل الضرورات. وحجة من قال: آخر وقتها ثلث الليل، قول عائشة فى الباب الذى قبل هذا: (فكانوا يصلونها فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل) . وحجة من قال: وقتها نصف الليل، حديث أنس الذى فى هذا الباب، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أخر العشاء إلى نصف الليل. وقال بعض العلماء: وهذا عندى على معنى التعليم لأمته بآخر الوقت المختار، كما فعل عليه السلام، حين صلى الصبح حين طلع الفجر ثم صلاها فى اليوم الثانى حين أسفر إعلامًا منه بسعة الوقت، ولذلك قال: (ما بين هذين وقت) . - باب فَضْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ / 45 - فيه: جَرِيرُ: أن نَّبِيِّ الله إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ: (أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا، لا تُضَامُّونَ، أَوْ قال: لا تُضَاهُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَلا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 غُرُوبِهَا، فَافْعَلُوا، ثُمَّ قَالَ: (وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) [طه: 130] . / 46 - وفيه: أَبو مُوسَى، قال عليه السلام: (مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ) . فى حديث جرير فضل المبادرة والمحافظة على صلاة الصبح والعصر، وأن بذلك تناول رؤية الله تعالى، يوم القيامة، وإنما خصتا بالذكر والتأكيد لفضلهما باجتماع ملائكة الليل، وملائكة النهار فيها، وهو معنى قوله تعالى: (إن قرآن الفجر كان مشهودًا) [الإسراء: 78] . وأما قوله عليه السلام: (من صلى البردين دخل الجنة) ، فإن أبا عبيدة قال: المراد بذلك الصبح والعصر، والعرب تقول للغداة والعشى: بردا النهار وأبرداه، قال الخطابى: وإنما قيل لهما: بردان، وأبردان لطيب الهواء، وبرده فى هذين الوقتين، وأنشد ثعلب: فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفىء من برد العشى تذوق قال: وأما قوله: (إذا اشتد الحر، فأبردوا عن الصلاة) ، فليس هذا من بردى النهار؛ لأنه لا يجوز تأخير الظهر إلى ذلك الوقت، وإنما الإبراد: انكسار وهج الشمس بعد الزوال، وسمى ذلك إبرادًا؛ لأنه بالإضافة إلى حَرِّ الهاجرة برد، وقد روى مثل هذا التفسير عن محمد بن كعب القرظى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 - باب وَقْتِ الْفَجْرِ / 47 - فيه: زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ حَدَّثَهُم: (أَنَّهُمْ تَسَحَّرُوا مَعَ النَّبِيِّ عليه السلام، ثُمَّ قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ أَوْ سِتِّينَ آيَةً) . / 48 - وفيه: سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: (كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي، ثُمَّ يَكُونُ سُرْعَةٌ بِي أَنْ أُدْرِكَ صَلاةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)) . / 49 - وفيه: عَائِشَةَ: (كُنَّ نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) صَلاةَ الْفَجْرِ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ، حِينَ يَقْضِينَ الصَّلاةَ، لا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْغَلَسِ) . أجمع العلماء على أن وقت صلاة الصبح طلوع الفجر، وهو البياض المعترض فى الأفق الشرقى، واختلفوا فى التغليس بها هل هو أفضل أم الإسفار، فممن كان يغلس بالفجر: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وأبو موسى، وابن الزبير، وهو قول مالك، والليث، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وممن كان يسفر بالصبح: ابن مسعود، وأبو الدرداء، وعمر بن عبد العزيز، وأصحاب عبد الله. وقال ابن سيرين: كانوا يستحبون أن ينصرفوا من الصبح، وأحدهم يرى مواقع نبله، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، والثورى، واحتجوا لفضل الإسفار بما رواه شعبة، عن أبى داود، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 عن زيد بن أسلم، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر) . واحتج أهل المقالة الأولى بمداومته عليه السلام، ومداومة أصحابه على التغليس بها، ألا ترى قولها: (كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلاة الفجر، فينصرفن متلفعات لا يعرفهن أحد من الغلس) ، وهذا إخبار عن أنه كان يداوم على ذلك، أو أنه أكثر فعله، ولا تحصل المداومة إلا على الأفضل. وزعم الطحاوى بأن آثار هذا الباب إنما تتفق بأن يكون دخوله عليه السلام، فى صلاة الصبح مغلسًا، ثم يطيل القراءة حتى ينصرف منها مسفرًا، وهذا فاسد من قوله لمخالفته قول عائشة؛ لأنها حكت أن انصرافهن من الصلاة كان ولا يُعْرَفْنَ من الغلس. وروى حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن عمر، عن عمرة، عن عائشة قالت: (كنا نصلى مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلاة الفجر فى مروطنا فننصرف، وما يعرف بعضنا وجوه بعض) . فبان بهذا الحديث أن النساء كن لا يُعرفن أرجال هن أم نساء؛ فإنهن كن يسرعن الانصراف عند الفراغ من الصلاة، ويدل أن الإمام لا يطيل القراءة جدًا، ولو أطالها لما انصرفن إلا فى الإسفار البيِّن. والذى يجمع بين حديث عائشة وبين قوله عليه السلام: (أسفروا بالفجر) من التأويل ما قاله أحمد بن حنبل، فإنه قال: الإسفار الذى أراد عليه السلام، هو أن يتضح الفجر، فلا يشك أنه قد طلع، قال غيره: والإسفار فى اللغة: الكشف، يقال: أسفرت المرأة عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 وجهها إذا كشفته، فكأنه قال عليه السلام: (أسفروا بالفجر) ، أى تبينوه، ولا تغلسوا بالصلاة وأنتم تشكون فى طلوعه حرصًا على طلب الفضل بالتغليس، فإن صلاتكم بعد تيقن طلوعه أعظم للأجر، وعلى هذا التأويل لا تتضاد الآثار، ومما يشهد لصحة هذا التأويل حديث ابن مسعود أنه سأل الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (أى الأعمال أفضل، قال: الصلاة لأول وقتها) ، ومن جعل الإسفار تأخير الصلاة عن أول وقتها، فهو محجوج بهذا الحديث، وحمل الآثار على ما ينفى التضاد عنها أولى، والحمد لله. وفى حديث زيد بن ثابت، وسهل بن سعد تأخير السحور، وإنما كانوا يؤخرونه إلى الفجر الأول، وسيأتى معنى ذلك فى كتاب الصيام، إن شاء الله تعالى. والمروط: أكسية من صوف رقاقٍ، واحدها: مِرْط. ومتلفعات يعنى: مشتملات، يقال: تَلَّفَعَ بثوبه، إذا اضطبع به، وتلَفَّعَ الرجلَ الشيبُ، إذا شمله، عن صاحب العين، وقال صاحب الأفعال: لفاع المرأة كالقناع. - باب مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْفَجْرِ رَكْعَةً / 50 - فيه: أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ عليه السلام: (مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ) . قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 تقدم الكلام فى معنى هذا الحديث قبل هذا بما أغنى عن إعادته، ونذكر هنا ما لم يمض هناك، وفى هذا الحديث دليل أن من لم يدرك من الوقت ركعة فلم يدرك منه شيئًا، ومن لم يدرك منه شيئًا ممن تلزمه الصلاة قبل الوقت فلا صلاة عليه، وهذا يرد قول أبى حنيفة فى المغمى عليه أنه إذ أفاق لأقل من ركعة قبل غروب الشمس أنه يلزمه قضاء خمس صلوات فدون، ولا يلزمه أكثر من ذلك؛ لأن من لم يدرك من الوقت إلا أقل من ركعة لم تلزمه صلاة الوقت فكيف تلزمه غير صلاة الوقت. وذهب مالك، والشافعى إلى أن المغمى عليه لا يقضى إلا ما أدرك وقته بإدراك ركعة من الصلاة. - باب مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاةِ / 51 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاةَ) . اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة: معناه: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك فضل الجماعة، واستدلوا على ذلك بأن الساعى إلى الصلاة ومنتظرها فى صلاة، وبما رُوى عن أبى هريرة أنه قال: إذا انتهى إلى القوم وهم قعود فى آخر صلاتهم، فقد دخل فى التضعيف، وإذا انتهى إليهم وقد سلم الإمام ولم يتفرقوا فقد دخل فى التضعيف، يعنى الدرجات السبع وعشرين. وقال عطاء: كان يقال: إذا خرج من بيته وهو ينويهم، فقد دخل فى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 التضعيف، وعن أبى وائل، وشريك: من أدرك التشهد فقد أدرك فضلها، والفضائل لا تدرك بقياس. وقال آخرون: معنى هذا الحديث أن مدرك ركعة من الصلاة مدرك لحكمها كله، وهو كمن أدرك جميعها فيما يفوته من سهو الإمام وسجوده لسهوه وإن لم يدركه معه، وأنه لو أدرك وهو مسافر ركعة من صلاة مقيم لزمه حكم المقيم فى الإتمام، وهذا قول مالك وجماعة. والدليل على أنه أرد حكم الصلاة لا فضلها، قوله: (من فاته التأمين، فقد فاته خير كثير) ، وهذا الحديث يدل أنه من لم يدرك ركعة من الصلاة فلا مدخل له فى حكمها، إلا أن العلماء اختلفوا فى دليل هذا الحديث، فذهب مالك، والثورى، والأوزاعى، والليث، وزفر، ومحمد، والشافعى، وأحمد إلى أن من أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها أخرى، وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: إذا أحرم فى الجمعة قبل سلام الإمام صلى ركعتين، وهو قول النخعى، والحكم، وحماد، واحتجوا بقوله عليه السلام: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا) . والذى فاته ركعتان لا أربع، والقول الأول أولى؛ لأنه إذا لم يدرك ركعة من الجمعة لم يدرك شيئًا منها، ومن لم يدرك منها شيئًا صلى أربعًا بإجماع، وقد سئل ابن شهاب عن من أدرك التشهد يوم الجمعة، قال: يصلى أربعًا، واستهد بهذا الحديث، وقال: هى السنة، وفى دليل هذا الحديث رد على عطاء، ومكحول، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 وطاوس، ومجاهد فى قولهم: أن من فاتته الخطبة يوم الجمعة أنه يصلى أربعًا، وقالوا: إن الجمعة إنما قصرت من أجل الخطبة، وذهب مالك وجماعة من الفقهاء إلى أنه يصلى ركعتين مع الإمام؛ لأنه أدركها كلها، واحتج الطحاوى لهذا القول، فقال: لا يختلفون أنه لو شهد الخطبة، ثم أحدث فذهب يتوضأ، ثم جاء وأدرك مع الإمام ركعة، أنه يصلى ركعتين، فلما كان فوات الركعة لا يمنعه فعل الجمعة، كانت الخطبة أحرى بذلك، فدل على بطلان قول عطاء. وفيه أيضًا رد على أبى حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد فى قولهم: أنه من أدرك التشهد من المسافرين خلف إمام مقيم لزمه الإتمام، ومالك إنما راعى إدراك ركعة معه، بدليل هذا الحديث، وهو قول النخعى، والحسن، وكذلك راعى مالك إدراك الركعة فى وجوب سهو الإمام على المأموم، ومذهبه فى ذلك أن سجدتى السهو إن كانتا قبل السلام سجدهما معه، وإن كانتا بعد السلام لم يسجدهما معه وسجدهما إذا أتم صلاته، وهو قول الأوزاعى، والليث، وقال أبو حنيفة، والشافعى: إذا أدرك التشهد وأحرم قبل سلام إمامه لزمه أن يسجد معه للسهو، ومالك أسعد الناس باستعمال نصِّ هذا الحديث ودليله. ومن قول مالك أيضًا: أنه من لم يدرك ركعة من صلاة الجماعة ممن صلاها وحده فى بيته لم يعدها، وقال أيضًا: من أدرك ركعة من صلاة الجماعة لم يصل تلك الصلاة فى جماعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 - باب الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ / 52 - فيه: عُمَرُ (أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، نَهَى عَنِ الصَّلاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَشْرُقَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ) . / 53 - وفيه: ابْنُ عُمَرَ أن نبى اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا تَحَرَّوْا بِصَلاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلا غُرُوبَهَا، وإِذَا طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَأَخِّرُوا الصَّلاةَ حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَأَخِّرُوا الصَّلاةَ حَتَّى تَغِيبَ) . / 54 - وفيه: أبو هريرة: (أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنِ الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ. . .) الحديث. وترجم لحديث ابن عمر وأبى هريرة. 28 - باب لا تُتَحَرَّى الصَّلاةُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ / 55 - وزاد فيه: قال معاوية: إنكم لتصلون صلاة لقد صحبنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فما رأيناه يصليهما، ولقد نهى عنهما، يعنى الركعتين بعد العصر. اختلف العلماء فى تأويل نهيه عليه السلام، عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر، فقال مالك: المراد بذلك النافلة دون الفرض، والفرائض الفائتة تصلى أى وقت ذكرت؛ لقوله عليه السلام: (من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، وأدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك الصلاة) ، ومعلوم أنه إذا أدرك ركعة، فلا يقع إتمام الصلاة إلا فى الوقت المنهى عنه، فدل ذلك على ما قلناه، وهو قول أحمد، وإسحاق. وقال الشافعى: المراد به النافلة المبتدأة، وأما الصلوات المفروضات والمسنونات، أو ما كان يواظب عليه من النوافل فلا، واحتج بالإجماع على صلاة الجنازة، وبحديث عائشة أن الرسول قضى الركعتين بعد العصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 وقال الكوفيون: المراد بذلك النوافل، ويقضى الفرائض فى هذين الوقتين، وأما إذا برزت الشمس قبل أن ترتفع، وإذا تدلت للغروب قبل أن تغرب، فلا يجوز أن يصلى فيه فريضة، ولا نافلة، ولا على جنازة إلا عصر يومه خاصة؛ لقوله عليه السلام: (من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس. . .) ، وقد تقدم الرد عليه فى أول هذا الباب مع قول مالك، وفى باب من أدرك ركعة من العصر قبل المغرب، بما فيه كفاية. وقد روى عن جماعة من السلف قول آخر، قالوا: نهى الرسول عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، فأما ما لم يبدُ حاجب الشمس للطلوع ولم يتدل للغروب فالصلاة جائزة، وحجتهم حديث ابن عمر أن الرسول قال: (لا يتحرى أحدكم فيصلى عند طلوع الشمس ولا عند غروبها) ، وقوله: (إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى ترتفع، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب) . وروى هذا القول عن على بن أبى طالب، وابن مسعود، وبلال، وأبى أيوب، وأبى الدرداء، وابن عمر، وابن عباس، وعن أصحاب عبد الله مثله، وتأولوا أن المراد بالنهى عن الصلاة: هذان الوقتان خاصة، ألا ترى قول ابن عمر: (أُصلى كما رأيت أصحابى يصلون، لا أنهى أحدًا يصلى بليل أو نهار ما شاء، غير ألا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها) . واحتج من أجاز صلاة الفرض فى هذين الوقتين، بقوله عليه السلام: (لا تحروا بصلاتكم) ، وهذا يقتضى من يبتدئ صلاته ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 الوقت ويقصده، وأما من انتبه من نومه أو ذكر من نسيانه، فلا يدخل فى النهى؛ لأنه ليس بقاصد ولا متحر لذلك، وقوله: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) ، يعارض النهى، ويبين أنه ليس بمتحرٍ لها من فاتته، وإنما المتحرى القاصد إليها بتطوعه أو فرضه. قال المهلب: ومعنى كراهية الصلاة فى هذين الوقتين أن قومًا كانوا يتحرون طلوع الشمس وغروبها، فيسجدون لها عبادة من دون الله، فنهى النبى، عليه السلام، عن مماثلتهم، وعن أوقاتهم المعهودة. - باب مَنْ لَمْ يَكْرَهِ الصَّلاةَ إِلا بَعْدَ الْعَصْرِ وَالْفَجْرِ / 56 - فيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (أُصَلِّي كَمَا رَأَيْتُ أَصْحَابِي يُصَلُّونَ، لا أَنْهَى أَحَدًا يُصَلِّي بِلَيْلٍ أو نَهَارٍ مَا شَاءَ، غَيْرَ أَلا تَحَرَّوْا طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلا غُرُوبَهَا) . وقد تقدم الكلام فى هذا الحديث فى الباب الذى قبل هذا، ونذكر هاهنا ما لم يمض هناك، وغرض البخارى فى هذا الباب رد قول من منع الصلاة نصف النهار عند استواء الشمس؛ لأن قوله: (لا أمنع أحدًا يصلى بليل أو نهار ما شاء، غير ألا تحروا طلوع الشمس ولا غروبها) ، يدل أنه لا بأس بالصلاة عند استواء الشمس، وهذا قول مالك، والليث، والأوزاعى. قال مالك: ما أدركت أهل الفضل والعبادة إلا وهم يهجرون، ويصلون نصف النهار، وعن الحسن وطاوس مثله، والذين منعوا الصلاة نصف النهار: عمر بن الخطاب، وابن مسعود، والحكم. وقال الكوفيون: لا يصلى نصف النهار لا فرض ولا نفل، وقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 أبو يوسف، والشافعى: لا بأس بالتطوع نصف النهار يوم الجمعة خاصة، ورووا فى ذلك حديثًا: أن جهنم لا تسجر يوم الجمعة. قال الطحاوى: وقد روى فى حديث الصنابحى وغيره النهى عن الصلاة عند استواء الشمس بقوله عليه السلام: (فإذا استوت قارنها. . .) ، فإنها أحاديث لا تصح؛ لأن الصحابة كانوا يتنفلون يوم الجمعة فى المسجد حتى يخرج عمر بن الخطاب، وكان لا يخرج حتى تزول الشمس بدليل طنفسة عقيل، فكانت صلاتهم قبل خروج عمر فى حين استواء الشمس؛ إذ كان خروجه عند الزوال، ولا يجوز على جماعة الصحابة جهل السنة، لو صحت تلك الأحاديث. وذكر ابن أبى شيبة، قال: كان مسروق يصلى نصف النهار، فقيل له: إن الصلاة هذه الساعة تكره، فقال: ولم؟ قيل له: إن أبواب جهنم تفتح نصف النهار، قال: إن الصلاة أحق ما استعيذ به من جهنم حين تفتح أبوابها، وأجاز مكحول الصلاة نصف النهار للمسافر. 30 - باب مَا يُصَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ مِنَ الْفَوَائِتِ وَنَحْوِهَا وقال كريب: عن أم سلمة قالت: (صلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعد العصر ركعتين، وقال: (شغلنى ناس من عبد القيس عن الركعتين بعد الظهر) . / 57 - وفيه: عائشة قَلَتْ: (وَالَّذِي ذَهَبَ بِهِ، مَا تَرَكَهُمَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ، وَمَا لَقِيَ اللَّهَ حَتَّى ثَقُلَ عَنِ الصَّلاةِ، وَكَانَ يُصَلِّي كَثِيرًا مِنْ صَلاتِهِ قَاعِدًا - يَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ - وَكَانَ عليه السلام، يُصَلِّيهِمَا، وَلا يُصَلِّيهِمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 فِي الْمَسْجِدِ، مَخَافَةَ أَنْ يُثَقِّلَ عَلَى أُمَّتِهِ، وَكَانَ يُحِبُّ مَا يُخَفِّفُ عَنْهُمْ) . / 58 - وقالت مرة: (مَا تَرَكَ النَّبِيُّ عليه السلام، السَّجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدِي قَطُّ) . / 59 - وقالت مرة: (رَكْعَتَانِ لَمْ يَكُنْ الرَسُولُ (صلى الله عليه وسلم) يَدَعُهُمَا سِرًّا وَلا عَلانِيَةً: رَكْعَتَانِ قَبْلَ الصُّبْحِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعَصْرِ) . فى قصة عبد القيس، حجة للشافعى فى أنه يقضى المرء بعد الصبح والعصر ما فاته من النوافل المعتادة كالفرائض المنسية، ولا يقول بذلك مالك، وأبو حنيفة، إلا أن مالكًا استحسن لمن لم يصل ركعتى الفجر أن يصليها بعد طلوع الشمس، واحتجوا على الشافعى فى ذلك بتواتر الآثار عن النبى أنه نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب، وأن عمر كان يضرب الناس على الصلاة بعد العصر بمحضر من الصحابة من غير نكير عليه، فدل أن صلاته عليه السلام، الركعتين بعد العصر خصوص له دون أمته. قال الطحاوى: ومما يدل على ذلك ما أخبرنا به على بن شيبة، أخبرنا يزيد بن هارون، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن ذكوان، عن أم سلمة قالت: صلى الرسول العصر، ثم دخل بيتى، فصلى ركعتين، فقلت: يا رسول الله، صليت صلاة لم تكن تصليها قال: (قدم علىَّ مال، فشغلنى عن ركعتين كنت أركعهما بعد الظهر، فصليتهما الآن) ، قلت: يا رسول الله، أفنقضيهما إذا فاتتانا؟ قال: (لا) ، فنهى عليه السلام فى هذا الحديث أن يصليهما أحد بعد العصر قضاء عما كان يصليه بعد الظهر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 فدل ذلك على أن حكم غيره فيهما إذا فاتتا خلاف حكمه عليه السلام، فليس لأحد أن يصليهما بعد العصر، ولا أن يتطوع حينئذ أصلاً؛ لأن من فعل ذلك، فهو متطوع فى غير وقت تطوع. وقال أصحاب الشافعى: الأزرق بن قيس من الشيوخ، ولو صح حديثه لاحتمل التأويل، وذلك أن نهيه عليه السلام، عن قضائهما مما يدل أنه لا تجوز صلاتهما بعد العصر، وإنما نهى عن قضائهما على وجه الحتم والوجوب، وأما من شاء أن يتطوع بالصلاة ذلك الوقت رغبة فى الفضل، فله فى صلاته عليه السلام، بعد العصر أفضل الأسوة. فإن قال قائل: إن أحاديث هذا الباب معارضة لنهيه عليه السلام، عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، فكيف السبيل إلى الجمع بينهما؟ . قال الطبرى: لا تعارض بينهما بحمد الله، ولها معانى صحيحة، وذلك أن للنهى وجوهًا: منها الكراهة، ومنها العزم والتحريم، ولا سبيل لأمته إلى علم مراده منها إلا ببيانه عليه السلام، ولما لم يذكر فى ظاهر نهيه عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح دلالة لسامعه على معنى مراده منه، كان غير جائز ترك بيانه، فكانت صلاته التى صلاها بعد العصر تبيينًا منه لأمته أن نهيه على وجه الكراهة، لا على وجه التحريم، كتحريمه عند بروز حاجب الشمس للطلوع، وعند مغيب حاجبها للغروب، وإعلام منه لهم أن من صلى بعد العصر وبعد الصبح غير حرج ما لم يوافق وقت الطلوع والغروب. وذلك نظير نهيه إياهم عن المزعفر بالزعفران واستعماله، وعن لبس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 المعصفر والأرجوان، ولبسه إياها إعلام منه لهم أنه نهيه عن ذلك على وجه الكراهية لا على وجه التحريم؛ لأنه لو كان على وجه التحريم كان أبعدهم من فعله؛ لأنه أتقاهم لله، وأشدهم له خشية. فإن ظن ظان أن ذلك كان خاصًا له دون أمته، فقد ظن خطأ، وذلك أن ما خص الله به رسوله فغير جائز أن يكون غير مبين لأمته إما بنص التنزيل، أو بخبر يقطع العذر أنه خاص له؛ لأن الله قد ندب عباده إلى التأسى به، ولو جاز أن يكون فى أفعاله التى خص بها دون أمته ما لم يوقفهم عليه أنه خاص له، لم يجز لأحد التأسى به فى شىء من أفعاله حتى يأمرهم بها، وإذا كان ذلك كذلك بان صحة القول لمن نسى ركعتى الفجر، ثم ذكرهما بعد صلاة الصبح، أو نسى ركعتى الظهر، ثم ذكرهما بعدما صلى العصر، أن له أن يصليهما ما لم يبدُ حاجبُ الشمس للطلوع أو يتدلى للغروب، وأن لمن طاف بالبيت بعد الصبح أن يركع ركعتى الطواف ما لم يوافق الطلوع والغروب، وكذلك صلاة الجنازة، وصلاة الكسوف، وأن يجتنب فيما لم يخف فوته من ذلك تأخيره إلى غروبها أو طلوعها، وبذلك جاء الخبر عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه فعل ذلك فى ركعتى الفجر، إذ نام عنهما، فقضاهما بعد ما طلعت الشمس، ولم ينكر على من فعلهما بعد طلوعها. 31 - باب التَّبكيرِ بِالصَّلاةِ فِي يَوْمِ غَيْمٍ / 60 - فيه: بُرَيْدَةَ أنه قال فِي يَوْمٍ غَيْمٍ، فَقَالَ: بَكِّرُوا بِالصَّلاةِ فَإِنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ تَرَكَ صَلاةَ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 قال ابن المنذر: روى عن عمر بن الخطاب، أنه قال: إذا كان يومُ غيم، فأخروا الظهر، وعجلوا العصر، وهو قول مالك. وقال الحسن البصرى: أخروا الظهر والمغرب، وعجلوا العصر والعشاء الآخر، وهو قول الأوزاعى، وقال الكوفيون: يؤخر الظهر ويعجل العصر، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء، وروى مطرف عن مالك أنه استحب تعجيل العشاء فى الغيم، وقال أشهب: لا بأس بتأخيرها إلى ثلث الليل، وفيها قول آخر قاله ابن مسعود: عجلوا الظهر والعصر وأخروا المغرب. وقال المهلب: لا يصح التبكير فى الغيم إلا بصلاة العصر والعشاء؛ لأنهما وقتان مشتركان مع ما قبلهما، ألا ترى أنهم يجمعونها فى المطر فى وقت الأولى منهما وهى سنة من الرسول، وقد مضى شىء من معنى هذا الباب فى باب (من ترك العصر) . 32 - باب الأذَانِ بَعْدَ ذَهَابِ الْوَقْتِ / 61 - فيه: أَبو قَتَادَةَ قَالَ: (سِرْنَا مَعَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لَيْلَةً، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: لَوْ عَرَّسْتَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَخَافُ أَنْ تَنَامُوا عَنِ الصَّلاةِ، قَالَ بِلالٌ: أَنَا أُوقِظُكُمْ، فَاضْطَجَعُوا، وَأَسْنَدَ بِلالٌ ظَهْرَهُ إِلَى رَاحِلَتِهِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ عليه السلام، وَقَدْ طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَالَ: يَا بِلالُ، أَيْنَ مَا قُلْتَ؟ قَالَ: مَا أُلْقِيَتْ عَلَيَّ نَوْمَةٌ مِثْلُهَا قَطُّ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ، وَرَدَّهَا عَلَيْكُمْ حِينَ شَاءَ يَا بِلالُ، قُمْ فَأَذِّنْ بِالنَّاسِ بِالصَّلاةِ، فَتَوَضَّأَ النَّاسُ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ وَابْيَاضَّتْ، قَامَ فَصَلَّى) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 اختلف أهل العلم فى الأذان بعد ذهاب الوقت، فذهب أحمد بن حنبل، وأبو ثور إلى جواز ذلك، واحتجا بهذا الحديث، وقال الكوفيون: إذا نسى صلاة واحدة، وأراد أن يقضيها من الغد، يؤذن لها ويقيم، فإن لم يفعل فصلاته تامة، وقال الثورى: ليس عليه فى الفوائت أذان ولا إقامة، وقال محمد بن الحسن: إن أذن فى الفوائت فحسن، وإن صلاهن بإقامة إقامة كما فعل الرسول يوم الخندق فحسن. وقال مالك، والأوزاعى، والشافعى: يقيم للصلوات الفوائت، ولم يذكروا أذانًا، واحتج هؤلاء بأن صلاته عليه السلام، يوم الخندق الفوائت كلها كان بغير أذان، وإنما أذن للعشاء الآخرة فقط؛ لأنها صليت فى وقتها، ولم تكن فائتة. وفيه من الفقه: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان ينام أحيانًا كنوم الآدميين، وذلك فى النادر من حاله، وسأبين حكم نومه عليه السلام، عند قوله: (إن عينى تنام، ولا ينام قلبى) ، فى باب قيام الرسول بالليل فى رمضان وغيره. قال المهلب: هذا الحديث يدل أن الصلاة الوسطى صلاة الصبح، وإنما أكدت المحافظة عليها لأجل هذه العارضة التى عرضت للنبى باستيلاء النوم عليه، وعلى أهل عسكره حتى فاته وقتها، ويدل على أنها الوسطى: توكيله بلالا فى السفر والحضر بمراقبة وقتها، ولم يأمره بمراقبة غيرها، ألا ترى أن النبى لم تفته صلاة غيرها بغير عُذرٍ شغله عنها. قال غيره: وقوله: فاستيقظ وقد طلع حاجب الشمس، وتركه للصلاة حتى ابيضّت الشمس، فإن الكوفيون قالوا: إنما أخَّر عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 السلام، الصلاة ذلك الوقت لما تقدم من نهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس، وقال أصحاب مالك، والشافعى وغيرهم: إنما أخر صلاته بمقدار ما توضأ الناس، وتأهبوا للصلاة، وفى ذلك المقدار ارتفعت الشمس. وقد جاء هذا المعنى فى بعض طرق الحديث، ذكره فى كتاب الاعتصام فى باب: المشيئة والإرادة، وقال فيه: (فقضوا حوائجهم، وتوضئوا إلى أن طلعت الشمس، وابيضّت، فقام فصلى) ، وقد روى عطاء أن نبى الله إنما أمرهم بالخروج من ذلك الوادى على طريق التشاؤم به، وقال لهم: (اخرجوا من الوادى الذى أصابكم فيه الغفلة) ، كما نهى عليه السلام، عن الصلاة فى أرض بابل، وحجر ثمود، وعن الوضوء بمائها، وهو مثل قوله فى حديث مالك، عن زيد بن سلم: (إن هذا واد به شيطان) ، فكره الصلاة فى البقعة التى فيها الشيطان؛ إذ كان السبب لتأخير الصلاة عن وقتها، وقد روى جبير بن مطعم فى حديث نومه عن الصلاة، أنهم لم يستيقظوا حتى ضربهم حَرُّ الشمس. قال المهلب: وقد قال ابن وهب، وعيسى بن دينار: إن خروجهم من الوادى منسوخ بقوله: (وأقم الصلاة لذكرى) [طه: 14] ، وهذا خطأ؛ لأن (طه) مكية، وقصة نومه عن الصلاة كان بالمدينة، ومما يدل على ذلك قول ابن مسعود: بنو إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، هن من العتق الأول، وهن من تلادى، يعنى أنهن من أول ما حفظه من القرآن واستفاده، و (التلاد) قديم ما يفيده الإنسان من المال وغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 وفى هذا الحديث حجة لقول مالك أنه قال: من فاتته صلاة الصبح، أنه يصليها، ولا يركع ركعتى الفجر قبلها، قال أشهب: وسئل مالك: هل ركع الرسول (صلى الله عليه وسلم) ركعتى الفجر حين نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس؟ قال: ما بلغنى، وقال أشهب: بلغنى أنه (صلى الله عليه وسلم) ركع، وقال على بن زياد: وقاله غير مالك، وهو أحب إلىّ أن يركع، وهو قول الكوفيين، والثورى، والشافعى قالوا: يصلى ركعتى الفجر، ثم يصلى الفجر، وقد قال مالك: إن أحب أن يركعهما من فاتته بعد طلوع الشمس فعل. والتعريس: النزول بالليل. 33 - باب مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ جَمَاعَةً بَعْدَ ذَهَابِ الْوَقْتِ / 62 - فيه: جَابِرِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كِدْتُ أن أُصَلِّي الْعَصْرَ، حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، قَالَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا) ، فَقُمْنَا إِلَى بُطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ لِلصَّلاةِ، وَتَوَضَّأْنَا لَهَا، فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ. قال بعض أهل العلم: لا أعلم خلافًا فى جواز جمع الصلاة بعد ذهاب الوقت، لمن فاتته بِعُذْرٍ بين كالنوم وشبهه إلا الليث بن سعد، فإنه قال فى القوم يفوتهم الصلاة أنهم يصلون فرادى، وهذا الحديث خلاف قوله، وحجة الجماعة. واختلف أصحاب مالك فيمن فاتته الجمعة لعذر أو لغير عذر، فقال ابن القاسم: كنت مع ابن وهب بالإسكندرية، فلم نأت الجمعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 لأمر خفناه، ومعنا قوم، فكرهت أن أجمع بهم، وجمع بهم ابن وهب، فسألنا مالكًا عن ذلك فقال: لا يجمع إلا المسافرون والمحبوسون والمرضى. وقال الكوفيون: لا يصلى الظهر جماعة فى المصر، وسواء كانوا مرضى أو محبوسين، وهو قول الثورى، وفى المجموعة عن ابن القاسم: لا يجوز للمرضى والمسجونين الجمع، وروى عنه يحيى بن يحيى فى العتبية، فيمن خلفهم المطر عن الجمعة، فليجمعوا ظهرًا إن كان أمرًا غالبًا يُعذرون به كالمرض، وإن كان مطر ليس بمانع فجمعوا فليعيدوا، وقال أصبغ: إن جمع المتخلفون بغير عذر أساءوا ولا يعيدون. ولابن القاسم فى المجموعة مثله، وفيها لأشهب، وابن نافع أن المتخلفين يصلون الجمعة جماعة، وهو قول الليث والشافعى، وقال الليث: فى مسجد أو غيره، ذكره الطحاوى، ولا فرق بين الجمعة وغيرها فى قياس ولا نظر إذا فاتت فى جواز جمعها بدليل هذا الحديث. 34 - باب مَنْ نَسِيَ صَلاةً فَلْيُصَلِّها إِذَا ذَكَرَ وَلا يُعِيدُ إِلا تِلْكَ الصَّلاةَ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: مَنْ نَسَى صَلاةً وَاحِدَةً عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ يُعِدْ إِلا تِلْكَ الصَّلاةَ الْوَاحِدَةَ. / 63 - وفيه: أنس قَالَ: (مَنْ نَسِيَ صَلاةً فَلْيُصَلِّ، إِذَا ذَكَرَهَا لا كَفَّارَةَ لَهَا إِلا ذَلِكَ: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [طه 14] ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 اختلف العلماء: إذا صلى صلاة، ثم ذكر بعد ذلك صلاة من يوم آخر، هل يعيد الصلاة التى صلى إذا بقى من وقتها شىء بعد قضاء الفائتة أم لا؟ فذكر ابن المنذر، عن طاوس، والحسن البصرى، والشافعى، وأبى ثور، أن من ذكر صلاة وهو فى صلاة أخرى، أنه يتم التى هو فيها، ثم يصلى الفائتة، ليس عليه غير ذلك، فقياس قوله: (إن ذكرها بعد أن فرغ منها) ، أنه ليس عليه شىء أيضًا إلا إعادة المنسية فقط. وقال مالك: يصلى التى نسى، ثم يعيد ما كان فى وقته مما كان قد صَلاهُ، واستدل أهل المقالة الأولى، بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من نسى صلاة فليصل إذا ذكر) ، ولم يقل: فَلْيُعِدْ ما كان فى وقته، واحتج أصحاب الشافعى لقولهم بأن الترتيب إنما يجب فى صلاة يوم بعينه وجوب فرض وهذا إجماع، وأما فى الفوائت فلا يجب ذلك، استدلالاً بإجماع الأمة على أن رتبة رمضان فرض، فإذا أفطره أحد بمرض أو نسيان سقط عنه الترتيب، ولهذا نظائر كثيرة من القياس. والحجة لقول مالك قوله: (وأقم الصلاة لذكرى) [طه: 14] ، فدل هذا أن وقت الذكر وقت للصلاة المنسية، وإذا اجتمعت صلاتان فى وقت واحد فالواجب تقديم الأُولى، فاستدل مالك بآخر الحديث، واستدل الشافعى بأوله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 35 - باب قَضَاءِ الصَّلاةِ الأولَى فَالأولَى / 64 - فيه: جَابِرِ: جَعَلَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ يَسُبُّ كُفَّارَهُمْ، فَقَالَ: مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى غَرَبَتْ، قَالَ: فَنَزَلْنَا بُطْحَانَ، فَصَلَّى بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ. أجمع العلماء على الاستدلال بهذا الحديث، فقالوا: من فاتته صلوات كثيرة، وأيقن أنه يقضيها، ويصلى التى حضر وقتها قبل فواتها، أنه يبدأ بالأُولى فالأُولى، واختلفوا: إذا خشى فوت وقت الحاضرة إن بدأ بالمنسية، فقالت طائفة: يبدأ بالتى ذكر فيصليها، وإن فاتته هذه، هذا قول عطاء، والزهرى، ومالك، والليث، واتفق مالك وأصحابه على أن حكم أربع صلوات فما دونه حكم صلاة واحدة يبدأ بهن، وإن خرج وقت الحاضرة، واختلفوا فى خمس صلوات، فحكى ابن حبيب، عن مالك أن خمسًا قليل يبدأ بهن وإن خرج وقت الحاضرة، وهو قول أبى حنيفة. وذكر ابن سحنون، عن أبيه أن خمس صلوات كثيرة، يبدأ بالتى حضر وقتُها، وقالت طائفة: يبدأ بالتى نسى إلا أن يخاف فوت التى حضر وقتها، فإن خاف ذلك صلاها، ثم صلى التى نسى، هذا قول ابن المسيب، والحسن البصرى، والأوزاعى، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وعلة أهل هذا المقالة أنه إن بدأ بالمنسية، وفاته وقت الحاضرة، فقد اجتمع عليه فوتان، فوتُ الحاضرة مع فوت المنسية، ففوتٌ واحدٌ أحسنُ حالا من فوتينِ. ووجه القول: أنه يبدأ بالمنسية إن كانت خمسًا فدون، وإن فات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 وقت الحاضرة؛ لأن المنسية عندهم واجبة قبل صلاة الوقت، فإذا ذكرها اشتركت مع صلاة الوقت فى الوجوب، ولها حق التقدمة، فكأنها ظهر وعصر اجتمعا فى يوم واحد، فوجب أن يقدم الظهر وإن قدمت العصر وجب إعادتها؛ لأن الترتيب عندهم فى خمس صلواتٍ فدون من الفوائت وجوبُ سُنَّة، وإنما لم يجب الترتيب عندهم فى أكثر من خمس صلوات؛ لأنها مشتبهة بصلاة اليوم بعينه، ولو وجب فى أكثر من ذلك لوجب فى سنين كثيرة، وذلك ما لا يطاق عليه؛ لأنه لا سبيل إلى أن يقضى صلاة سنة أو أكثر فى يومين ولا ثلاثة، ولو تكلف ذلك أحد لترك أيام القضاء بغير صلوات، وهذا جهل من قائله، فلم يكن بُد من حد بين القليل والكثير فى ذلك. وفى هذا الحديث رد على جاهل، انتسب إلى العلم وهو منه برىء، زعم أنه من ترك الصلاة عامدًا أنه لا يلزمه إعادتها. واحتج بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) ، ولم يذكر العامد، فلم يلزمه القضاء، وإنما يقضيها الناسى والنائم فقط، وهذا ساقط من القول يئول إلى إسقاط فرض الصلاة عن العباد، وقد ترك الرسول يوم الخندق صلاة الظهر والعصر قاصدًا لتركها لشغله بقتاله العدو، ثم أعادها بعد المغرب. ويقال له: لمَّا أوجب النبى (صلى الله عليه وسلم) على الناسى النائم الإعادة، كان العامد أولى بذلك؛ لأن أقل أحوال الناسى سقوط الإثم عنه، وهو مأمور بإعادتها، والعامد لا يسقط عنه الإثم، فكان أولى أن تلزمه إعادتها، ولا يوجد فى شىء من مسائل الشريعة مسألة: العامد فيها معذور، بل الأمر بضد ذلك لقوله عليه السلام: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 (إن الله تجاوز لأمتى عن الخطأ والنسيان) ، فإذا تجاوز الله عن الناسى إثم تضييعه، وأمر بأداء الفرض، فكان العامد المنتهك لحدود الله غير ساقط عنه الإثم، بل الوعيد الشديد متوجه عليه، كان الفرض أولى ألا يسقط عنه ويلزمه قضاؤه، وقد أجمعت الأمة على أن من ترك يومًا من شهر رمضان عامدًا من غير عذر أنه يلزمه قضاؤه، فكذلك الصلاة، ولا فرق بين ذلك، والله الموفق. 36 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ السَّمَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ / 65 - فيه: أبو برزة: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ العشاء، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ، حِينَ يَعْرِفُ أَحَدُنَا جَلِيسَهُ) ، فى حديث طويل. قال المهلب: إنما كره عليه السلام، السمر بعد العشاء، لئلا يزاحم بقية الليل بالنوم، فتفوته صلاة الصبح فى جماعة، وقال خَرَشَةُ بن الحُرِّ: رأيت عمر بن الخطاب يضرب الناس على الحديث بعد العشاء، ويقول: أسمرًا أول الليل ونومًا آخره؟ . وقال سلمان الفارسى: إياكم وسمر أول الليل، فإنه مهدمة لآخره، فمن فعل ذلك فليصل ركعتين قبل أن يأوى إلى فراشه. وكان إبراهيم، وابن سيرين، يكرهان الكلام بعد العشاء. وأما السمر بالعلم والفقه، وأفعال الخير فجائز، قد فعله النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وأصحابه، وسيأتى فى الباب بعد هذا إن شاء الله، وقد تقدم اختلافهم فى النوم قبل هذا فأغنى عن إعادته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 فإن قال قائل: إن قول أبى برزة: (وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف أحدُنا جليسه) ، معارض لقول عائشة: (إن النساء كن ينصرفن من صلاة الفجر مع رسول الله وكن متلفعات بمروطهن لا يُعرفن من الغَلَسِ) . قيل: لا تعارض بينهما، وذلك أن تلفعهن وتسترهن بمروطهن مانع من معرفتهن، وكان الرجال يصلون ووجوههم بادية بخلاف زى النساء وهيئاتهن، وذلك غير مانع للرجل من معرفة جليسه، فلا تعارض بين شىء من ذلك بحمد الله. 37 - باب السَّمَرِ فِي الْفِقْهِ وَالْخَيْرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ / 66 - فيه: قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: انْتَظَرْنَا الْحَسَنَ، وَرَاثَ عَلَيْنَا حَتَّى قَرُبْنَا مِنْ وَقْتِ قِيَامِهِ، فَجَاءَ فَقَالَ: دَعَانَا جِيرَانُنَا هَؤُلاءِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ أَنَسُ: انْتَظَرْنَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى كَانَ شَطْرُ اللَّيْلِ يَبْلُغُهُ، فَجَاءَ فَصَلَّى لَنَا، ثُمَّ خَطَبَنَا، فَقَالَ: (أَلا إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا، ثُمَّ رَقَدُوا، وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلاةَ) . قَالَ الْحَسَنُ: وَإِنَّ الْقَوْمَ لا يَزَالُونَ فى خَيْرٍ مَا انْتَظَرُوا الْخَيْرَ. / 67 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ عليه السلام، صَلاةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ، قَامَ النَّبِيُّ فَقَالَ: (أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةٍ سنة لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 أَحَدٌ) ، فَوَهِلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ النبى إِلَى مَا يَتَحَدَّثُونَ فِى هَذِهِ الأحَادِيثِ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ الرسول: (لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَخْرِمُ ذَلِكَ الْقَرْنَ) . وهذه الآثار تدل على أن السمر المنهى عنه بعد العشاء، إنما هو فيما لا ينبغى من الباطل واللغو، ألا ترى استدلال الحسن البصرى حين سمر عند جيرانه لمدارسة العلم، بسمر النبى إلى قرب من شطر الليل فى شغله بتجهيز الجيش، ثم خرج فصلى بالناس، ثم خطبهم مؤنسًا لهم من طول انتظارهم، ومعرفًا لهم ما يستحقون عليه من جزيل الأجر، فقال: (إنكم لن تزالوا فى صلاة ما انتظرتم الصلاة) ، ومثل ذلك قوله: (إن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد) ، فأبان بفعله عليه السلام، أن السمر فى العلم والخير مرغب فيه. وروى ابن أبى شيبة، عن أبى معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عمر، قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يسمر عند أبى بكر فى الأمر من أمور المسلمين، وأنا معه) ، وروى ابن بكير، عن ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن عبد الله بن رزين: أن عليًا صلى بهم ذات ليلة العتمة، فقعدوا، واستفتوه حتى أذن بصلاة الصبح، فقال: قوموا فأوتروا فإنا لم نوتر. وكان ابن سيرين، والقاسم، وأصحابه يتحدثون بعد العشاء. وقال مجاهد: يكره السمر بعد العشاء إلا لمصلٍ أو مسافرٍ أو دارسٍ علم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 وقوله عليه السلام: (إنكم لن تزالوا فى صلاة ما انتظرتموها) : تعليم منه لهم للعلم، وكذلك إعلامه لهم أن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد، إعلام منه لهم أن أعمار أمته ليست بطول أعمار من تقدم من الأمم السالفة، ليجتهدوا فى العمل، وقد بيَّن ذلك فى حديث آخر، فقال: (أعمار أمتى من الستين إلى السبعين وأقلهم من يجاوز ذلك) . وأما قول أنس بن مالك: (انتظرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى كان شطر الليل يبلغه) ، فهكذا وقع هذا الكلام فى جميع النسخ، وقد روى جابر بن عبد الله هذا الحديث بنحو هذا المساق، وكشف فيه صواب اللفظ، وذكر فيه الشغل الذى منعه من الخروج إلى الصلاة، وهو أنه اشتغل بتجهيز جيش، رواه الأعمش، عن أبى سفيان، عن جابر، قال: (جهز رسول الله ذات ليلة جيشًا، حتى قرب نصف الليل أو بلغه. . .) ، وذكر هذا الحديث، وقد ذكرته بتمامه فى باب فضل العشاء، فأبان هذا اللفظ معنى حديث أنس، وتقدير الكلام فيه: حتى كان شطر الليل، أو كاد فى أخرى يبلغه، والعرب قد تحذف (كاد) كثيرًا من كلامها لدلالة الكلام عليه، كقولهم فى: أظلمت الشمس، كادت تظلم. قال الشاعر: يتعارضون إذا التقوا فى موطن نظرًا يزيل مواطئ الأقدام فلم يقل يكاد يزيل، ولكنه نواها فى نفسه، ومنه قوله تعالى: (وبلغت القلوب الحناجر) [الأحزاب: 10] ، أى كادت من شدة الخوف تبلغ الحلوق، ذكره ابن قتيبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 وقوله: (فوهل الناس) ، قال صاحب (الأفعال) : وهل إلى الشىء وَهْلا: ذهب وهمه إليه، ويقال: كلمت فلانًا وما ذهب وَهَلى إلا إلى فلان، وما وَهَلت إلا إليه، من العين. 38 - باب السَّمَرِ مَعَ الأهْلِ والضَّيْفِ / 68 - فيه: عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ، كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ، وَأَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ، فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ، وَإِنْ أَرْبَعٌ فَخَامِسٌ أَوْ سَادِسٌ) ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلاثَةٍ، فَانْطَلَقَ النَّبِيُّ عليه السلام، بِعَشَرَةٍ، قَالَ: فَهُوَ أَنَا، وَأَبِي، وَأُمِّي، وَلا أَدْرِي هل قَالَ: وَامْرَأَتِي، وَخَادِمٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ، ثم إن أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ الرسول، ثُمَّ لَبِثَ حَيْثُ صُلِّيَتِ الْعِشَاءُ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى تَعَشَّى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَجَاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: مَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِكَ - أَوْ قَالَتْ: ضَيْفِكَ - قَالَ: أَوَمَا عَشَّيْتِهِمْ، قَالَتْ: أَبَوْا، حَتَّى تَجِيءَ، قَدْ عُرِضُوا فَأَبَوْا، قَالَ: فَذَهَبْتُ أَنَا، فَاخْتَبَأْتُ، فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ، فَجَدَّعَ وَسَبَّ، وَقَالَ: كُلُوا لا هَنِيئًا، فَقَالَ: وَاللَّهِ لا أَطْعَمُهُ أَبَدًا، وَأيْمُ اللَّهِ، مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إِلا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، قَالَ: فشَبِعُوا، وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هِيَ كَمَا هِيَ أَوْ أَكْثَرُ، فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا؟ قَالَتْ: لا، وَقُرَّةِ عَيْنِي، لَهِيَ الآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلاثِ مَرَّاتٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ - يَعْنِي يَمِينَهُ - ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً، ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبِيِّ عليه السلام، فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَقْدٌ، فَمَضَى الأجَلُ، فَفَرَّقَنَا اثْنَى عَشَرَ رَجُلا مَعَ كُلِّ رَجُلٍ، مِنْهُمْ أُنَاسٌ، اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ، فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ، أَوْ كَمَا قَالَ. فيه: السمر مع الأضياف، كما ترجم وهذا كما قدمنا من السمر فى المباح وطلب الفضيلة؛ لأن تلك كانت أخلاقهم وأحوالهم، فلا يجوز السمر إلا فى مثل ذلك من طلب الأجر، والمباح. قال المهلب: وفيه أن للسلطان إذا رأى بقوم مسغبةً أن يفرقهم على أهل الوجود بقدر ما لا يجحف بهم، ألا ترى أن من كان عنده طعام اثنين ذهب بثالث. قال غيره: وهذا على سنته فى قوله، عليه السلام: (طعام الاثنين كافى الثلاثة) ، والكفاية غير الاتساع فى الشبع. قال المهلب: ومن هذا أخذ عمر بن الخطاب فعله فى عام الرمادة، إذ كان يلقى على أهل كل بيت مثلهم من الفقراء، ويقول: لن يهلك امرؤ على نصف قوته. قال غيره: وإنما فعله عمر لأن الضرورة كانت عام الرمادة أشد، وقد تأول سفيان بن عيينة فى المواساة فى المساغب قوله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) [التوبة: 111] ، ومعناه: أن المؤمنين تلزمهم القربة فى أموالهم لله تعالى، عند توجه الحاجة إليهم، ولهذا قال كثير من العلماء: إن فى المال حقوقًا سوى الزكاة، وإنما جعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على الاثنين واحدًا، وعلى الأربعة واحدًا، وعلى الخمسة واحدًا، ولم يجعل على الأربعة والخمسة بإزاء ما يجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 للاثنين مع الثالث، والله أعلم؛ لأن صاحب العيال أولى أن يرفق به، وضيق معيشة الواحد والاثنين أرفق بهم من ضيق معيشة الجماعات. وفيه: أكل الصديق عند صديقه، وإن كان عنده ضيف، إذا كان فى داره من يقوم بخدمتهم ومؤنتهم. قال المهلب: وفيه أن الولد والأهل يلزمهم من التحفل بأمور الضيف، مثل ما يلزم صاحب المنزل. وفيه: أن للرجل أن يسب أهله وولده على تقصيرهم ببر أضيافه وأن يغضب لذلك. وفيه: أن الأضياف، ينبغى لهم أن يتأدبوا، وينتظروا صاحب الدار، ولا يتهافتوا على الطعام دونه. قال غيره: وفيه جواز أكل الأضياف دون صاحب الدار إذا حان الطعام؛ لأن تأنيب أبى بكر لأهله يدل أن الضيف أولى بذلك من رب الدار. قال المهلب: وفيه أن من حلف على شىء ورأى غيره خيرًا منه أنه يحنث نفسه، ويأتى الذى هو خير منه، ويكفر يمينه، ومن الخير: الأكل من طعام ظهرت فيه البركة، وقد نهى الرسول عن الأيمان فى ترك البر والتقوى وفعل الخير، فمن هاهنا حنث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والصالحون أنفسهم، وهو قوله تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس) [البقرة: 224] ، فحنث رسول الله نفسه فى الشراب الذى شربه فى بيت زوجته، وحنث أبو بكر أيضًا نفسه فى قصة مسطح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 وفيه: رفع ما يُرجى بركته، وإهداؤه لأهل الفضل، كرفع أبى بكر بقية الطعام المبارك إلى رسول الله وإلى من بحضرته. وفيه: أن آثار الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد تظهر على يدى غير النبى لبركة النبى عليه السلام، فتصح المعجزة منها فى زمانه، وتجوز فى غير زمانه من ذلك ما ليس بخرق عادة. وقول أبى بكر: (كُلوا لا هنيئًا) إنما خاطب بذلك أهله لا أضيافه. وفيه: أن الصديق الملاطف يجمل منه أن يهدى إلى الجليل من إخوانه يسير الهدية. وقولها: (قد عُرضوا) يريد أن خادم أبى بكر وابنه ومن رتب لخدمة الأضياف عرضوا الطعام على أضيافهم، فأبوا من أكله إلا بحضرة أبى بكر، وقد جاء هذا المعنى منصوصًا فى بدء الخلق فى باب: علامات النبوة فى الإسلام فى هذا الكتاب. وقوله: (يا غُنْثَرُ) هو من قول العرب: رجل أَغْثَر: أحمق، من ابن دريد، والغَثْرَاء: سفلة الناس وغوغاؤهم، فبنى فنعلا من أغثر على المبالغة فى السَّبِّ من هذا المعنى، وفنعل موجود فى اللغة، كقولهم: جندب وقنفذ، عن الأخفش. وقال الخطابى: غنثر مأخوذ من الغثارة، وهى الجهل، يقال: رجل غثر وأغثر إذا كان جاهلاً، وامرأة غثراء، وفى فلان غثارة، والنون فى الغنثر زائدة، وإنما سميت الضبع غثرًا لحمقها، وحكى بعض أهل اللغة الغنثرة: شرب الماء من غير عطش، رواه الخطابى من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 طريق محمد بن المثنى، عن سالم بن نوح العطار، عن الجريرى، عن أبى عثمان، عن عبد الرحمن ابن أبى بكر: يا عنتر، والعنتر: الذباب، شبهه به تصغيرًا له وتحقيرًا لقدره، وحكى العنتر: الذباب، ثعلب، عن ابن الأعرابى، وقال: إنما سمى عنترًا لصوته، وقال غيره: العنتر: الأزرق من الذباب. قال المؤلف: والمحفوظ عن الرواة: يا غنثر، بالغين المعجمة بنقطة من فوقها، وقوله: (فجدَّع) ، يعنى تنقص وعاب أصل الجدع فى اللغة: القطع، يقال: جدعت الأنف وغيره قطعته. - باب بَدْءُ الأذَانِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا) [المائدة 58] . وَقَوْلُهُ: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) [الجمعة 9] . / 1 - فيه: أنس: قَالَ: ذَكَرُوا النَّارَ وَالنَّاقُوسَ، فَذَكَرُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، فَأُمِرَ بِلالٌ أَنْ يَشْفَعَ الأذَانَ، وَأَنْ يُوتِرَ الإقَامَةَ. / 2 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ قال: كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ، فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلاةَ، لَيْسَ يُنَادَى لَهَا، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمِ: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ بُوقًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَفَلاَ تَبْعَثُونَ رَجُلا يُنَادِي بِالصَّلاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا بِلالُ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلاةِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 اختلف العلماء فى وجوب الأذان، فعند مالك، وأبى حنيفة، والشافعى: الأذان سنة، وقال عطاء، ومجاهد: الأذان فرض، وهو قول الأوزاعى، واحتجوا بأن النبى، عليه السلام، أمر بلالاً أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، وأمره على الوجوب، وحجةُ أهل المقالة الأولى أن أصل الأذان إنما يكون عن رؤيا رآها عبد الله بن زيد، فأصبح إلى النبى فأخبره برؤياه، فبينا هو يقصها إذ جاء عمر فقال: والله لقد رأيته مثل الذى رأى، فقال عليه السلام لعبد الله ابن زيد: (قم فألق على بلال فإنه أندى منك صوتًا) ، من رواية أهل المدينة والكوفة. فأما رواية أهل المدينة فرواية ابن إسحاق، عن الزهرى، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن زيد، عن أبيه مثله، وأما رواية أهل الكوفى فرواية شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد: أن عبد الله بن زيد أُرى الأذان فى المنام، فأتى النبى عليه السلام، فأخبره، فقال: (عَلِّمه بلالاً) . قال ابن القصار: فكان أصل الأذان عن رؤيا ومشورة، ولو كان واجبًا لابتدأه الرسول ولم يأخذه عن منام أحد، فإن قيل: فإن الأمر وإن جرى كذلك فقد يحصل واجبًا بعد ذلك، ألا ترى أن نبى الله حكم سعدًا فى سبى بنى قُريظة فكان حكمه واجبًا بعد ذلك، ألا ترى أن نبى الله حكم سعدًا فى سبى بنى قريظة فكان حكمه واجبًا، ومعاذًا تبع الرسول فى صلاةٍ ثم مضى، فقال عليه السلام: (سن لكم معاذ سنة فاتبعوها) . قيل: إن معاذًا وسعدًا لا يجوز أن يفعلا شيئًا بين يدى النبى إلا عن أمر ظهر لهما من دينه عليه السلام، بدلالة نصبها لهما، وليس كذلك الأذان إنما كان عن رؤيا، وأما قوله: (أُمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة) ، فليس فى ظاهره إيجاب ولا ندب، وإنما هو للشفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 والوتر، وهل الأصل واجب أم لا؟ ، يحتاج إلى دلالة، والرسول قد يأمر بصفات فى السنة، ولا يدل أنها واجبة، بل إذا فعلت ودخل فيها وجب أن تفعل بصفاتها. - باب الأذَانُ مَثْنَى مَثْنَى / 3 - فيه: أَنَسٍ قَالَ: (أُمِرَ بِلالٌ أَنْ يَشْفَعَ الأذَانَ، وَأَنْ يُوتِرَ الإقَامَةَ، إِلا الإقَامَةَ) . / 4 - ورواه خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي قِلابَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ولم يقل فيه إلا الإقامة. اختلف العلماء فى صفة الأذان، فقال مالك، والليث، وأبو يوسف: الأذان مثنى مثنى، وأوله: (الله أكبر، الله أكبر) ، مرتين، وقال أبو حنيفة، والثورى، والشافعى: الأذان مثنى مثنى، وأوله: (الله أكبر، الله أكبر) ، أربع مرات، واحتج هؤلاء بروايات رويت فى حديث أبى محذورة، وعبد الله بن زيد فيها: (الله أكبر، الله أكبر) ، أربع مرات، قالوا: وهى زيادة يجب قبولها. واحتج أهل المقالة الأولى بأنه قد روى من طرق صحاح فى أذان أبى محذورة وعبد الله ابن زيد: (الله أكبر) مرتين، وكذلك فى أذان سعد القرظ، قالوا: فلما وردت الآثار على هذا الاختلاف، ورأينا أهل المدينة يعملون: خلفهم عن سلفهم على المرتين لا يزيدون عليها، وينقلونه نقلاً متواترًا يقطع العذر، سقط معه حكم الزائد، وقول أنس: (أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة) ، حجة فى ذلك أيضًا؛ لأن شفع الأذان تثنية، وإذا قال: الله أكبر أربع مرات، فقد خالف الخبر بذلك، ولم يشفع الأذان كله، ولم يكن هناك خبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 يعضد عملهم، فكان عملهم أقوى من كل شىء يرد من طريق خبر الواحد؛ لأن الأذان مما يتكرر كل يوم خمس كرات، ولا يؤخذ قياسًا، علمنا أنهم علموا ذلك من جهة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ؛ فوجب الرجوع إلى ما هم عليه كما رجع من خالفهم إلى صاعهم ومُدِّهم. وقالت طائفة: الاختلاف فى هذه الآثار كلها يدل على الإباحة، فمن شاء أن يؤذن بكل ما روى منها؛ لأنه قد ثبت عن الرسول جميع ذلك، كما المتوضئ بالخيار، إن شاء توضأ مرة مرة، وإن شاء مرتين مرتين، هذا قول أحمد، وإسحاق، والطبرى. 3 - باب الإقَامَةُ وَاحِدَةٌ إِلا قَوْلَهُ (قَدْ قَامَتِ الصَّلاةُ / 5 - فيه: أَنَسِ قَالَ: أُمِرَ بِلالٌ أَنْ يَشْفَعَ الأذَانَ، وَأَنْ يُوتِرَ الإقَامَةَ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ: فَذَكَرْتُ لأيُّوبَ، فَقَالَ: إِلا الإقَامَةَ. اختلف العلماء فى الإقامة فقال مالك، وأهل الحجاز، والأوزاعى: الإقامة فرادى، وبه قال أحمد، وإسحاق، وقال الشافعى: الإقامة فرادى إلا قوله: (قد قامت الصلاة) ، فإنه يقولها مرتين، وفى مختصر ابن شعبان مثله. قال الثورى، وسائر الكوفيين: الإقامة مثنى مثنى كلها مثل الأذان، واحتجوا بما رواه هشام، عن عامر الأحول، عن مكحول، عن ابن محيريز، عن أبى محذورة أن الإقامة مثنى مثنى، قالوا: وهو قول على بن أبى طالب وأصحاب ابن مسعود. وحجةُ الشافعى ما رواه أيوب من قوله: إلا الإقامة فهى شفع، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 قال: ويبين ذلك ما رواه شعبة عن أبى جعفر الفراء، عن مسلم، مؤذن كان لأهل الكوفة، عن ابن عمر قال: (كانت الإقامة على عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) مرة مرة، غير أنه إذا قال: قد قامت الصلاة، قالها مرتين) . واحتج أهل المقالة الأولى بما رواه خالد الحذاء عن أبى قلابة، عن أنس قال: (أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة) . قال أبو محمد الأصيلى: وقوله: (إلا الإقامة) ، هو من قول أيوب وليس من الحديث، قال ابن القصار: وكذلك رواه ابن جريج، عن عطاء، عن أبى محذورة: (أن الرسول علمه الأذان شفعًا والإقامة وترًا) ، ومثله فى رواية عبد الله بن زيد، وسعد القرظ، فإن قال الشافعى: قول أيوب: إلا الإقامة زيادة فى الحديث والزيادة يجب قبولها، قيل: الزائد أولى ما لم يعارض ما هو أقوى منه، وذلك عمل أهل المدينة وإجماعهم خلف عن سلف على إفراد الإقامة، ومحال أن يذهب عليهم شىء من جهة الرسول (صلى الله عليه وسلم) مما يجرى فى اليوم والليلة خمس مرات ويعلمه غيرهم، ولو صحت زيادة أيوب وما رواه الكوفيون من تثنية الإقامة؛ لجاز أن يكون ذلك فى وقتٍ ما، ثم ترك لعمل أهل المدينة على الآخر الذى استقر الأمر عليه، ولا يجوز أن يظن بهم أنه خالفوا ولا قصدوا العناد، وبمثل هذا احتج ابن القصار على من خالف مالكًا فى كثير من المسائل، فاحتج بنقلهم وفعلهم فى ترك الزكاة فى الخضر والأجناس بالمد والصاع على من خالفهم. 4 - باب فَضْلِ التَّأْذِينِ / 6 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 ضُرَاطٌ، حَتَّى لا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ، أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلاةِ، أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لا يَدْرِي كَمْ صَلَّى) . فى هذا الحديث عظم فضل الأذان، وأن الشيطان ينافره ما لا ينافر سائر الذكر، ألا ترى أنه يقبل عند قراءة القرآن ويدبر عند الأذان، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: إذا تغولت لكم الغيلان فأذنوا. وحكى مالك أن زيد بن أسلم استعمل على معذرٍ من معاذر بنى سليم كان انقطع عمله لما يتخيل فيه من الجن، فأمرهم زيد أن يؤذنوا فيه، ففعلوا ذلك فما تخيل لهم بعد ذلك جن، قال مالك: وأعجبنى ذلك من رأى زيد بن أسلم. فاختلف العلماء فى معنى هروبه عند الأذان ولا يهرب من الصلاة وفيها قراءة القرآن، فقال المهلب: إنما يهرب، والله أعلم، من اتفاق الكل على الإعلان بشهادة التوحيد وإقامة الشريعة كما يفعل يوم عرفة لما يرى من اتفاق الكل على شهادة التوحيد لله تعالى، وتنزل الرحمة عليهم، وييئس أن يردهم عما أعلنوا به من ذلك، وأيقن بالخيبة بما تفضل الله عليهم من ثواب ذلك، ويذكر معصية الله ومضادته أمره فلم يملك الحديث لما استولى عليه من الخوف. وقال غيره: إنما ينفر عن التأذين لئلا يشهد لابن آدم بشهادة التوحيد لقوله عليه السلام: (لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شىء إلا شهد له يوم القيامة) ، وليس قول من قال: إنما ينفر من الأذان لأنه دعا إلى الصلاة التى فيها السجود الذى أباهُ بشىء؛ لأنه قد أخبر عليه السلام، أنه إذا قضى التثويب أقبل يُذَكِّرُه ما لم يَذْكُرْ، يخلط عليه صلاته، وكان فراره من الصلاة التى فيها السجود أولى لو كان كما زعموا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 وروى ابن أبى شيبة، عن أبى معاوية، عن الأعمش، عن أبى سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا نادى المنادى بالأذان هرب الشيطان حتى يكون بالروحاء، وهى ثلاثون ميلاً من المدينة) ، وذكر ابن سفيان، عن سعيد بن المسيب، قال: بلغنا أنه إن خرج من المسجد بين الأذان والإقامة أنه سيصاب بمصيبة. وذكر عن أبى هريرة أنه كان فى المسجد فأذن المؤذن فخرج رجل، فقال أبو هريرة: (أما هذا فقد عصى الله ورسوله، أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا سمعنا الأذان ألا نخرج حتى نصلى) ، ويحتمل أن يكون معنى هذا النهى، والله أعلم، لئلا يشبه فعل الشيطان فى هروبه لئلا يسمع النداء. وقال الطبرى: قوله: (إذا ثُوبّ بالصلاة) ، يعنى صرخ بالإقامة مرة بعد مرة أخرى، ورجع، وكل مردد صوتًا فهو مثوب، ولذلك قيل للمرجع صوته فى الأذان بقوله: (الصلاة خير من النوم) ، مُثوِّبَ وأصله من ثاب يثوب، إذا رجع إليه، ومنه قوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس) [البقرة: 125] ، يعنى أنهم إذا انصرفوا منه رجعوا إليه. وجمهور العلماء على أن الإقامة للصلاة سنة، ولا خلاف بينهم أن قول المؤذن فى نداء الصبح (الصلاة خير من النوم) ، يقال له: تثويب، وروى هشيم، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن أنس قال: ما كان التثويب إلا فى صلاة الغداة إذا قال المؤذن: حى على الفلاح، قال: الصلاة خير من النوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 وقال ابن الأنبارى: إنما سمى (الصلاة خير من النوم) تثويبًا؛ لأنه دعاء ثانٍ إلى الصلاة وذلك أنه لما قال: حى على الصلاة، حى على الفلاح، وكان هذا دعاء ثم عاد فقال: الصلاة خير من النوم، دعا إليها مرة أخرى. وقال الطحاوى: الأصل فى التثويب أن الرجل إذا جاء فزعًا أو مستصرخًا لوح بثوبه، فكان ذلك كالدعاء والإيذان، ثم كثر ذلك حتى سمى الدعاء تثويبًا، قال ذو الرمة: وإن ثوب الداعى بها يال خندف والعامة لا تعرف التثويب فى الأذان إلا قول المؤذن فى الفجر (الصلاة خير من النوم) ، وإنما سمى بذلك؛ لأن المؤذن يرجع إليه مرة بعد أخرى، يقال: ثابت إلى المريض نفسه: رجعت إليه قوته، وثاب إلى المرء عقله، ومنه اشتق الثواب وتأويله: ما يئول إليك من فضل الله وجزاء الأعمال الصالحة، ومنه سميت المرأة ثيبًا، أنها تثوب إلى أهلها من بيت زوجها. قال الطحاوى: وقد كره قوم أن يقال فى نداء الصبح: (الصلاة خير من النوم) ، واحتجوا بحديث عبد الله بن زيد فى صفة الأذان وليس فيه ذلك، وخالفهم جمهور الفقهاء واستحبوا ذلك، واحتجوا بما رواه ابن جريج قال: أخبرنى عثمان بن السائب، عن أم عبد الملك بن أبى محذورة، عن أبى محذورة: (أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) علمه فى نداء الصبح: الصلاة خير من النوم مرتين) ، ورواه أبو بكر بن عياش، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبى محذورة مثله، وقد قال أنس، وابن عمر: إنه كان التثويب فى نداء الصبح: الصلاة خير من النوم مرتين بعد قوله: حى على الفلاح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 قال المهلب: وقوله: (اذكر كذا لِمَا لم يكن يذكر) ليسهيه عن صلاته. فيه من الفقه: أن من نسى شيئًا وأراد أن يتذكره فليصل ويجهد نفسه فيها من تخليص الوسوسة وأمور الدنيا، فإن الشيطان لابد أن يحاول تسهيته وإذكاره أمور الدنيا؛ ليصده عن إخلاص نيته فى الصلاة. وقد روى عن أبى حنيفة: أن رجلاً دفن مالاً، ثم غاب عنه سنين كثيرة، ثم قدم فطلبه فلم يهتد لمكانه، فقصد أبا حنيفة فأعلمه بما دار له فقال له: صل فى جوف الليل وأخلص نيتك لله تعالى، ولا تجد على قلبك شيئًا من أمور الدنيا، ثم عرفنى بأمرك، ففعل فذكر فى الصلاة مكان المال، فلما أصبح أتى أبا حنيفة فأعلمه بذلك، فقال بعض جلسائه: من أين دللته على هذا، يرحمك الله؟ فقال: استدللت من هذا الحديث وعلمت أن الشيطان سيرضى أن يذكره موضع ماله ويمنعه الإخلاص فى صلاته، فعجب الناس من حسن انتزاعه واستدلاله. 5 - باب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالنِّدَاءِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ: أَذِّنْ أَذَانًا سَمْحًا، وَإِلا فَاعْتَزِلْنَا. / 7 - فيه: أَبو سَعِيدٍ أَنَّ الرَسُول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ لَه: (إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ، فَأَذَّنْتَ بِالصَّلاةِ، فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلا إِنْسٌ وَلا شَيْءٌ إِلا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . وفيه: أن الشغل بالبادية واتخاذ الغنم من فعل السلف الصالح الذى ينبغى لنا الاقتداء بهم، وإن كان فى ذلك ترك للجماعات ففيه عزلة عن الناس، وبُعد عن فتن الدنيا وزخرفها، وقد جاء أن الاعتزال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 للناس عند تغير الزمان وفساد الأحوال مرغب فيه، وروى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواضع القطر، يفر بدينه من الفتن) . قال المهلب: وفيه فضل الإعلان بالسنن وإظهار أمور الدين، وإنما أمره برفع صوته بالنداء ليسمعه من بعد منه فيكثر الشهداء له يوم القيامة، وقد اختلف فى قوله عليه السلام: (ولا شىء إلا شهد له يوم القيامة) ، فقالت طائفة: الحديث على العموم فى كل شىء، وجعلوا الجمادات وغيرها سامعة وداخلة فى معنى هذا الحديث. وقالت طائفة: لا يراد بالحديث إلا من يجوز سماعه من الجن والإنس والملائكة وسائر الحيوان، قالوا: والدليل على ذلك أنه لم يذكر إلا الجن والإنس ثم قال: (ولا شىء) ، يريد من صنف الحيوان السامع والملائكة والحشرات والدواب. ولا يمتنع أن الله، تعالى، يقدر يسمع الجمادات، لكنا لا نقول ذلك مع جوازه إلا بخبر لا يحتمل التأويل، وليس فى هذا الحديث ما يقطع به على هذا المعنى، وقول عمر لمؤذنه: (أذن أذانًا سمحًا وإلا فاعتزلنا) ، إنما نهاه عن التطريب فى أذانه والخروج عن الخشوع، وروى ابن أبى شيبة قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عمرو، عن سعيد: (أن مؤذنًا أذن فطرب فى أذانه فقال له عمر: أذن أذانًا سمحًا وإلا فاعتزلنا) . وفيه: أن الأذان للمنفرد مرغب فيه مندوب إليه، وقد روى عن الرسول أنه قال: (من أذن فى أرض فلاة، وأقام وحده، صلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 6 - باب مَا يُحْقَنُ بِالأذَانِ مِنَ الدِّمَاءِ / 8 - فيه: أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: (أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا لَمْ يَغْزُ بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَنْظُرَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ، فَخَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ لَيْلا، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَلَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا، رَكِبَ راحلته. . .) وذكر الحديث. قال المهلب: إنما يحقن الدم بالأذان؛ لأن فيه الشهادة بالتوحيد لله والإقرار بالرسول، وقوله: (لم يغز حتى يصبح فإن سمع أذانًا كف) ، فهذا عند العلماء لمن قد بلغته الدعوة، وعلم ما الذى يدعو إليه داعى الإسلام، فكان يمسك عن هؤلاء حتى يسمع الأذان؛ ليعلم إن كانوا مجيبين للدعوة أم لا؛ لأن الله قد وعده إظهار دينه على الدين كله، فكان يطمع بإسلامهم، وليس يلزم اليوم الأئمة أن يكفوا عمن بلغته الدعوة لكى يسمعوا أذانًا؛ لأنه قد علم عناد أهل الحرب وغائلتهم للمسلمين، وينبغى أن تنتهز الفرصة فيهم. 7 - باب مَا يَقُولُ إِذَا سَمِعَ الْمُنَادِي / 9 - فيه: أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ الرَسُولَ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ) . / 10 - وفيه: مُعَاوِيَةَ مِثْلَهُ إِلَى قَوْلِهِ: (وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وإذا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، قَالَ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ) . اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة: ينبغى لمن يسمع الأذان أن يقول مثلما يقول المؤذن حتى يفرغ من أذانه كله على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 عموم حديث أبى سعيد، وإليه ذهب الشافعى، وقالت طائفة: إنما يقول مثلما يقول المؤذن فى التكبير الشهادتين، ويقول فى موضع قوله: حى على الصلاة، حى على الفلاح: لا حول ولا قوة إلا بالله، على ما جاء فى حديث معاوية، قالوا: وهو مفسر لحديث أبى سعيد، هذا قول مالك، والكوفيين، ومن الحجة لهم أيضًا ما رواه بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهرى، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة، عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا تشهد المؤذن فقولوا مثلما يقول) . وقال المهلب: ما بعد الشهادتين إنما هو إعلام للناس ودعاء لهم إلى الصلاة، فإذا كان سرًا لم يكن له معنى؛ لأنه لا يسمع به أحد فيكون له فضل الدعوة إلى الصلاة، والسامع إنما يقول ذلك على وجه الذكر لا على وجه دعاء الناس إلى الصلاة، فينبغى أن يجعل مكان ذلك: لا حول ولا قوة إلا بالله، كما روى معاوية فهى مفتاح من مفاتيح الجنة. واختلفوا فى المصلى يسمع الأذان، فقال مالك: يقول مثل قوله من التكبير والتشهد فى النافلة ولا يقوله فى الفريضة، قال: وهذا الذى يقع بنفسى أنه أريد بهذا الحديث، وهو قول الليث، وقال ابن شعبان: روى أبو المصعب عن مالك أنه يقول فى الفريضة والنافلة، وهو قول ابن وهب واختاره ابن حبيب؛ لأنه تهليل وتكبير، جائزٌ أن يقوله وإن لم يسمع أذانًا، وفى المجموعة لابن عبدوس، عن سحنون: لا يقوله أحد فى فريضة ولا نافلة، وروى أنه أريد بالحديث من ليس فى صلاة، وهو قول الشافعى، وحجته أن المؤذنين يؤذنون يوم عرفة والإمام يخطب فلا يقول مثل ما يقولون ويترك ما هو فيه، فالمصلى أولى بذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 قال الطحاوى: لم أجد لأصحابنا فى هذا نصًا، غير أن أبا يوسف قال: من أذن فى صلاته إلى آخر الشهادتين لم تفسد صلاته إن أراد الأذان، وفى قول أبى حنيفة: لم تفسد صلاته، فهذا يدل من قولهم أن من سمع الأذان فى الصلاة أنه لا يقوله. وقل بعض العلماء: القياس أنه لا فرق بين المكتوبة والنافلة فى هذا الباب؛ لأن الكلام محرم فيهما، وقوله: حى على الصلاة، حتى على الفلاح: كلام، فلا يصلح فى شىء من الصلاة، وقد قال ابن المواز: إنه من قاله فى صلاته عامدًا أو قال: الصلاة خير من النوم أنها تفسد صلاته، قال ابن خويز منداد، عن مالك: هو مسىء ولا تبطل صلاته، وأما سائر الأذان فمن الكلام الذى يصلح فى الصلاة. وقال الطحاوى: وقد قال قوم: إن قول الرسول: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول) على الوجوب، وخالفهم آخرون وقالوا: هو على الاستحباب والندب، واحتجوا بما رواه قتادة عن أبى الأحوص، عن علقمة، عن عبد الله قال: (كنا مع الرسول فى بعض أسفاره، فسمع مناديًا وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، فقال رسول الله: (على الفطرة) ، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (خرج من النار) ، فابتدرناه، فإذا هو صاحب ماشية أدركته الصلاة فصلى) ، قال الطحاوى: فهذا رسول الله سمع المنادى، فقال غير ما قال؛ فدل أن قوله عليه السلام: (فقولوا مثلما يقول المؤذن) على غير الإيجاب، وأنه على الندب وإصابة الفضل، كما علمهم من الدعاء الذى أمرهم أن يقولوه عند إدبار الصلوات وشبه ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 8 - باب الدُّعَاءِ عِنْدَ النِّدَاءِ / 11 - فيه: جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . قال الطحاوى: وقد روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يقول عند الأذان غير ما جاء فى الحديث ويأمر به، وذلك ما روى الليث عن حكيم بن عبد الله بن قيس، عن عامر بن سعد ابن أبى وقاص، عن أبيه، أن رسول الله قال: (من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، رضيت بالله، عز وجل، ربا، وبالإسلام دينًا؛ غفر له) . وما رواه محمد بن فضيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن حفصة بنت أبى كثير، عن أمها، عن أم سلمة قالت: (علمنى الرسول فقال: إذا كان عند أذان المغرب فقولى: اللهم هذا استقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك وحضور صلواتك، اغفر لى) . قال الطحاوى: فهذه الآثار تدل على أنه أريد بها ما يقال عند الأذان من الذكر، فكل الأذان ذِكْر غير: حى على الصلاة، حى على الفلاح، فإنهما دعاء إلى الصلاة، والذكر أولى أن يقال. وقال المهلب: فيه الحض على الدعاء فى أوقات الصلوات حين تفتح أبواب السماء للرحمة، وقد جاء فى الحديث: (ساعتان لا يرد فيهما الدعاء حضرة النداء بالصلاة، وحضرة الصف فى سبيل الله) ، فدلهم عليه السلام على أوقات الإجابة وأن يدعى بمعنى ما فتح له أبواب السماء وهو قوله: (رب هذه الدعوة التامة) ، يعنى الأذان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 المشتمل على شهادة الإخلاص لله تعالى، والإيمان بنبيه، عليه السلام، وبذلك تم استحقاق الدخول فى الإسلام، و (الصلاة القائمة) التى هى أول الفرائض بعد الإيمان بالله، فإذا دعا للنبى عليه السلام، بالوسيلة والمقام المحمود فقد دعا لنفسه ولجميع المسلمين، وقوله: (حلت له شفاعتى) معناه غشيته وحلَّت عليه، لا أنها كانت حرامًا عليه قبل ذلك، و (اللام) ، هاهنا بمعنى (على) ، وذلك موجود فى القرآن، قال تعالى: (ويخرون للأذقان سجدًا) [الإسراء: 109] ، يعنى على الأذقان سجدًا، وقوله: (رب هذه الدعوة) لا حجة فيه للمعتزلة الذين يقولون بخلق الصفات، تعالى الله عن قولهم؛ لأن الرب فى اللغة يقال لغير الخالق للشىء، وهو على ضروب: فربُّ الشىء بمعنى مالكه ومستحقه كما قال يوسف: (إنه ربى أحسن مثواى) [يوسف: 23] ، أى أنه مالكى، والله تعالى، وإن كان لا يجوز أن يوصف بأنه مالك لصفاته فهو مستحق أن يوصف بها؛ لأن الملك والاستحقاق معناهما واحد. 9 - باب الاسْتِهَامِ فِي الأذَانِ وَيُذْكَرُ أَنَّ أَقْوَامًا اخْتَلَفُوا فِي الأذَانِ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ سَعْدٌ. / 12 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: قال رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ، لأتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 قال أبو جعفر الداودى: قوله عليه السلام: (لو يعلمون ما فى النداء والصف الأول) ، يريد لو يعلمون ما فيه من عظم الثواب لبادروا إليه جميعًا، فلا يبقى من يقيم لهم الجمعة؛ لأن إمام الجمعة لا يكون مؤذنًا، وإنما يؤذنون بين يديه إذا جلس على المنبر، ولذلك قال عمر: لولا الخلاف لأَذَّنُتُ. أما إقراع سعد بين الذين اختلفوا فى الأذان فإن الطبرى ذكر أنه افتتحت القادسية صدر النهار واتبع الناس العدو، فرجعوا وقد حانت صلاة الظهر وأصيب المؤذن؛ فتشاج الناس فى الأذان حتى كادوا يجتلدون بالسيوف، فأقرع بينهم سعد فخرج سهل رجل فأذن. فالقرعة أصل من أصول الشريعة فى تبدية من استوت دعواهم فى الشىء، وفضل الصف الأول على غيره لاستماع القرآن إذا جهر الإمام والتكبير عند تكبيره والتأمين عند فراغه من فاتحة الكتاب، وقد قيل: إن المراد بذكر الصف الأول المسابقة إلى المسجد؛ لأن مَنْ بَكَّر إلى الصلاة وانتظرها وإن لم يصل فى الصف الأول أفضل ممن تأخر وصلى فى الصف الأول؛ لأن المنتظر للصلاة فى صلاة، والتهجير: السبق إلى المسجد فى الهواجر، فمن ترك قائلته وقصد إلى المسجد ينتظر الصلاة، فهو من صلاة وهو فى رباط. وقوله: (ولو يعلمون ما فى العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوًا) ، وإنما خاطب بذكر العتمة من لا يعرف العشاء إلا بهذا الاسم فخاطبهم بما يعقلون، ومن علم أن اسمها العشاء لم يخاطب إلا بما فى القرآن قاله الداودى. قال الطبرى: وإنما خص العتمة والصبح دون سائر الصلوات للزومها فى أثقل الأوقات، العشاء وقت الدعة والسكون من كل تعب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 وقد جعل الله الليل سكنًا، وفيها تكلف الحركة فى ظلمة الليل مع خوف الهوام الضارة فى الطريق، وأما الفجر فوقت اشتداد النوم لمحبة الناس استدامة الراحة، فكان خروجًا من الدعة إلى تعب الوضوء والمشى إلى المساجد وليس كسائر الصلوات، وبين ذلك قوله: (أثقل الصلاة على المنافقين العشاء والفجر) ، وقال ابن عمر: كنا إذا فقدنا الرجل فى صلاة العشاء والصبح أَسأْنا به الظن، وقال عمر: إنى لأشهد الفجر فى جماعة أحب إلى من أن أقوم ليلة، وقال عثمان: من شهد العشاء فكأنما قام نصف ليلة، ومن شهد الصبح كأنما قام ليلة، وقوله: (ولو حَبْوًا) ، يعنى لأتاهما من لا يقدر على المشى كالمقعد وشبهه. - باب الْكَلامِ فِي الأذَانِ وَتَكَلَّمَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ فِي أَذَانِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لا بَأْسَ أَنْ يَضْحَكَ وَهُوَ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ. / 13 - وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ (أنه خطبهم فِي يَوْمٍ رَدْغٍ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمُؤَذِّنُ حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، أَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ الصَّلاةُ فِي الرِّحَالِ، فَنَظَرَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: فَعَلَ هَذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَإِنَّهَا عَزْمَةٌ) . قال المؤلف: رخص فى الكلام فى الأذان عروة بن الزبير، وعطاء وقتادة، وبه قال عبد العزيز بن أبى سلمة وأحمد بن حنبل، وكرهه النخعى، وابن سيرين، ومالك، والثورى، والأوزاعى، وأبو حنيفة، وأصحابه، والشافعى، إلا أنه روى عن الكوفيين أنه إن تكلم فى أذانه يجزئه ويبنى، وقال ابن القاسم فى المجموعة: إذا خاف على صبى أو أعمى أو دابة تقع فى بئر وشبهه تكلم وبنى، وقال الزهرى: إن تكلم فى الإقامة أعادها، وهذا الحديث يدل أنه من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 تكلم يبنى ولا يبتدئ؛ لأنه قد قال: الصلاة فى الرحال، وتمادى فى أذانه وهو حجة على من خالفه. قال المهلب: وقوله: (الصلاة فى الرحال) ، وأباح التخلف عن الجمعة بعد أن قال: (إنها عزمة) يدل أنه صلى الجمعة وحدها ولم يصل بعدها العصر، فهو حجة لمالك أنه لا يجوز الجمع بين الظهر والعصر لعذر المطر. وقال ابن دريد: الرزغة: الطين الذى يبل القدم، وقد أرزغ المطر الأرض، وقال صاحب (العين) : الرزغة أشد من الردغة، والرازغ المرتطم فيها. - باب أَذَانِ الأعْمَى إِذَا كَانَ لَهُ مَنْ يُخْبِرُهُ / 14 - فيه: ابن عمر أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ بِلالا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا، وَاشْرَبُوا، حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) ، قَالَ: (وَكَانَ رَجُلا أَعْمَى لا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ) . قال المؤلف: اختلفوا فى أذان الأعمى، فكرهه ابن مسعود، وابن الزبير، وكره ابن عباس إقامته وأجازه طائفة، وروى أن مؤذن النخعى كان أعمى، وأجازه مالك، والكوفيون، والشافعى، وأحمد إذا كان له من يعرفه الوقت؛ لأن أذان ابن أم مكتوم إنما كان يؤذن بعد أن يقال له: أصبحت أصبحت. قال المهلب: وفيه جواز شهادة الأعمى على الصوت؛ لأنه ميز صوت من علمه الوقت ممن يثق به، فقام أذانه على قوله مقام شهادة المخبر له، وفيه: أيضًا أنه يجوز أن يذكر الرجل بما فيه من العاهات؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 ليستدل بذلك على ما يحتاج إليه، وفيه: أن ينسب الرجل إلى أمه إذا كان معروفًا بذلك، وفيه: تكنية المرأة، وفيه: تكرير اللفظ للتأكيد. - باب الأذَانِ بَعْدَ الْفَجْرِ / 15 - فيه: حَفْصَةُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ الْمُؤَذِّنُ لِلصُّبْحِ، وَبَدَا الصُّبْحُ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، قَبْلَ أَنْ تُقَامَ الصَّلاةُ) . / 16 - وفيه: عَائِشَةَ أيضًا قالت: (كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالإقَامَةِ مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ) . / 17 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ الرسول: (إِنَّ بِلالا يُنَادِي بِلَيْلٍ، فَكُلُوا، وَاشْرَبُوا، حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) . الأذان بعد الفجر لا خلاف فيه بين الأئمة، وإنما اختلفوا فى جوازه قبل الفجر على ما يأتى ذكره فى الباب بعد هذا، إن شاء الله، وفيه مواظبة رسول الله على ركعتى الفجر وتخفيفه لهما. قال المؤلف: وحديث حفصة قد اختلفت ألفاظه، فرواه عبد الله بن يوسف التنيسى عن مالك: (أن رسول الله. . .) ، وخالفه سائر الرواة عن مالك: (أن رسول الله كان إذا سكت المؤذن عن الأذان بصلاة الصبح) ، مكان (اعتكف المؤذن) ، وروى عن عائشة مثل هذا اللفظ: (إذا سكت المؤذن. . .) ، وهو يوافق رواية الجماعة عن مالك، ذكره البخارى فى باب (من انتظر الإقامة) ، بعد هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 فإن كانت رواية التنيسى عن مالك محفوظة ولم تكن غلطًا، فوجه موافقتها للترجمة أن المؤذن كان يعتكف للصبح، أى ينتظر الصبح لكى يؤذن، والعكوف فى اللغة: الإقامة، فكان يرقب طلوع الفجر ليؤذن فى أوله، فإذا طلع الفجر أذن، فحينئذ كان يركع الرسول ركعتى الفجر قبل أن تقام الصلاة، ويشهد لصحة هذا المعنى رواية الجماعة عن مالك: (كان إذا سكت المؤذن صلى ركعتين خفيفتين) ، فدل أن ركوعه كان متصلاَ بأذانه، ولا يجوز أن يكون ركوعه إلا بعد الفجر، فكذلك كان الأذان بعد الفجر، وعلى هذا المعنى حمله البخارى، ولذلك ترجم له باب (الأذان بعد الفجر) ، وأردف عليه حديث عائشة: (أن النبى كان يصلى ركعتين خفيفتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح) ، ليدل أن هذا النداء كان بعد الفجر. فمن أنكر هذا لزمه أن يقول أن صلاة الصبح لم يكن يؤذن لها بعد الفجر، وهذا غير سائغ من القول. وأما أذان ابن أم مكتوم فقد اختلف العلماء فى تأويله، فقال ابن حبيب: ليس معنى قوله: (أصبحت أصبحت) إفصاحًا بالصبح على معنى أن الصبح قد انفجر وظهر، ولكنه على معنى التحذير من إطلاعه والتحضير له على النداء بالأذان خيفة انفجاره، ومثل هذا قال أبو محمد الأصيلى، وأبو جعفر الداودى، وسائر المالكيين، وقالوا: معنى قوله: (أصبحت أصبحت) ، قارب الصباح كما قال تعالى: (فإذا بلغن أجلهن) [البقرة: 234] ، يريد إذا قارب ذلك؛ لأنه إذا انقضى أجلها وتمت عدتها فلا سبيل لزوجها إلى مراجعتها وقد انقضت عدتها، قالوا: ولو كان أذان ابن أم مكتوم بعد الفجر لم يجز أن يؤمر بالأكل إلى وقت أذانه؛ للإجماع أن الصيام واجب من أول الفجر. وأما مذهب البخارى فى هذا الحديث على ما ترجم به فى هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 الباب فأن أذانه كان بعد طلوع الفجر، والحجة له على ذلك نص ودليل، فأما الدليل فقوله عليه السلام: (إن بلالاً ينادى بليل فكلوا واشربوا حتى ينادى ابن أم مكتوم) ، فلو كان أذان ابن أم مكتوم قبل الفجر لم يكن لقوله: (إن بلالاً ينادى بليل) معنى؛ لأن أذان ابن أم مكتوم أيضًا كذلك هو فى الليل، وإنما يصح الكلام أن يكون نداء ابن أم مكتوم فى غير الليل فى وقتٍ يحرم فيه الطعام والشراب اللذان كانا مباحين فى وقت أذان بلال. وقد روى هذا المعنى نصًا فى بعض طرق هذا الحديث، ذكره البخارى فى كتاب الصيام فى باب قول النبى، عليه السلام: (لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال) من رواية عائشة قالت: (إن بلالاً يؤذن بليل، فقال عليه السلام: كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر) ، وهذا نص قاطع للخلاف. وأما على من اعتل أن أذانه لو كان بعد الفجر لم يجز أن يؤمر بالأكل إلى وقت أذانه للإجماع أن الصيام واجب أول الفجر، فإنها علة لا توجب فساد معنى الصيام، وإنما كان أذان ابن أم مكتوم علامة لتحريم الأكل لا للتمادى فيه، ولابد أنه كان له من يراعى له الوقت ممن يقبل قوله ويثق بصحته من وكل بذلك منه. وقد قال ابن القاسم: إنه من طلع عليه الفجر وهو يأكل أو يجامع فليلق ما فى فيه ولينزل عن امرأته، ولا خلاف فى الأكل والشرب، وإنما اختلفوا فى الوطء على ما يأتى ذكره فى كتاب الصيام، ولم يكن الصحابة ليخفى عليهم إيقاع الأكل فى غير وقته فيزاحمون به أذان ابن أم مكتوم، بل كانوا أحوط لدينهم وأشد تحرزًا من ذلك، وقد بين هذا ما رواه شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن عمته أنيسة، وكانت قد خرجت مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 الرسول (أنه كان إذا نزل بلال وأراد ابن أم مكتوم أن يصعد تعلقوا به، وقالوا: كما أنت حتى نتسحر) . - باب الأذَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ / 18 - فيه: ابْنِ مَسْعُودٍ قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ أَذَانُ بِلالٍ مِنْ سَحُورِهِ، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ، لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ، وَلِيُنَبِّهَ نَائِمَكُمْ، وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ الْفَجْرُ، أَوِ الصُّبْحُ، وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ، وَرَفَعَهَا إِلَى فَوْقُ، وَطَأْطَأَ إِلَى أَسْفَلُ، حَتَّى يَقُولَ: هَكَذَا) . ومَدَّ زُهَيْرٌ بِسَبَّابَتَيْهِ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ. / 19 - وفيه: عَائِشَةَ قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ بِلالا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا، وَاشْرَبُوا، حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) . واختلف العلماء فى جواز الأذان للصبح قبل طلوع الفجر، فأجاز ذلك طائفة، وهو قول مالك، والأوزاعى، وأبى يوسف، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقال ابن حبيب: يؤذن للصبح وحدها قبل الفجر، وذلك واسع من نصف الليل، وذلك آخر أوقات العشاء إلى ما بعد ذلك. وقال ابن وهب: لا يؤذن لها قبل السدس الآخر من الليل، وقاله سحنون، وقالت طائفة: لا يجوز الأذان لها إلا بعد الفجر، وهو قول الثورى، وأبى حنيفة، ومحمد، واحتجوا بحديث ابن مسعود أنه قال عليه السلام: (لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال فإنه يؤذن بليل ليرجع قائمكم، ولينبّه نائمكم) . قال الطحاوى: فأخبر أن ذلك النداء من بلال لينبه النائم ويرجع القائم لا للصلاة، وبما رواه حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر (أن بلالاً أذن قبل طلوع الفجر، فأمره النبى أن يرجع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 فينادى: (ألا إن العبد قد نام) ، فهذا ابن عمر يروى هذا وهو قد روى أن بلالاً ينادى بليل؛ فثبت أن ما كان من ندائه قبل طلوع الفجر إنما كان لغير الصلاة، وأن ما أنكره عليه إذ فعله كان للصلاة، واحتج أهل المقالة الأولى بقوله عليه السلام: (إن بلالاً ينادى بليل فكلوا واشربوا حتى ينادى ابن أم مكتوم) ، قال ابن القصار: فأخبر عليه السلام أن نداء بلال للصبح يقع فى الوقت الذى يجوز لمن أراد الصوم أن يأكل ويشرب، وهو قبل الفجر. وأما قولهم: إن نداء بلال كان لِيُسَحِّرَ الناس بأذانه ويستيقظ النائم وينام القائم كما جاء فى الخبر، فالجواب: أنه لو أراد به السحور فقط لقال حى على السحور، ولم يقل حى على الصلاة فيدعوهم، وهو يريد أن يدعوهم إلى السحور، فشأنه يدعوهم إلى الصلاة، وقد يكون لهما جميعًا فيكون أذانه حضًا على الصلاة، وإن احتاج أحد إلى غسل اغتسل، أو يكون فيهم من عادته صلاة الليل ذلك الوقت، أو يكون إنسانًا قائمًا فيعرف أنه قد بقى عليه وقت يستريح فيه بنومه كما كان يفعل الرسول، عليه السلام، فهذا معنى قوله: (ليرجع قائمكم ولينبه نائمكم) ، وهذا يحتاج إليه فى شهر رمضان وغيره ممن يصوم درهه أو عليه نذر، وقوله: (إن بلالاً ينادى بليل) ، أى إن من شأنه أن يؤذن بليل الدهر كله، فإذا جاء رمضان فلا يمنعنكم أذانه المعهود من سحوركم، وفى إجماع المسلمين على أن النافلة بالليل والنهار لا أذان لها دليل بين أن أذانه كان لصلاة الصبح. قال المهلب: وفيه أن الإشارة تكون أقوى من الكلام، وقوله: (ليس الفجر هكذا) يريد أن الفجر ليس هو هذا الفجر الأول المعترض فى الأفق، وذلك لا حكم له، وإنما هو علامة للفجر الثانى الذى يُحِلّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 ويحرم، الطالع فى مشرق الشمس المستطير إلى المغرب، ولذلك مَدَّ زهير سبابتيه عن يمينه وشماله دلالة على طلوع الفجر وانتشاره. - باب كَمْ بَيْنَ الأذَانِ وَالإقَامَةِ / 20 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاةٌ، ثَلاثًا، لِمَنْ شَاءَ) . / 21 - وفيه: أَنَسِ قَالَ: كَانَ الْمُؤَذِّنُ إِذَا أَذَّنَ قَامَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلاَم يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ، حَتَّى يَخْرُجَ الرَّسُولُ، وَهُمْ كَذَلِكَ، يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الأذَانِ وَالإقَامَةِ شَيْءٌ، قَالَ شُعْبَةَ: لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلا قَلِيلٌ. وترجم له: بين كل أذانين صلاة لمن شاء. قال بعض الفقهاء: أما كم بين الأذان والإقامة فى الصلوات كلها فلا حَدَّ فى ذلك أكثر من اجتماع الناس، وتمكن دخول الوقت. وأما قوله: (بين كل أذانين صلاة) ، فإنه يريد بين الأذان والإقامة موضع صلاة لمن شاء، لا خلاف فى ذلك بين العلماء إلا المغرب وحدها، فإنهم اختلفوا فى الركوع قبلها، فأجازه أحمد وإسحاق، واحتجا بهذا الحديث، وأباه سائر الفقهاء، وسيأتى الكلام فى ذلك مستوعبًا، إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 - باب مَنِ انْتَظَرَ الإقَامة / 22 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ بِالأولَى مِنْ صَلاةِ الْفَجْرِ، قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الْفَجْرِ، بَعْدَ أَنْ يَسْتَبِينَ الْفَجْرُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأيْمَنِ، حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلإقَامَةِ) . قال المؤلف: فى هذا الحديث دليل على أن ما جاء فى الحض على التهجير والترغيب فى الاستباق إلى المساجد، إنما كان لمن هو على مسافة من المسجد لا يسمع فيها الإقامة من بيته، ويخشى إن لم يبكر أن يفوته فضل انتظار الصلاة، وأما من كان مجاور المسجد حيث يسمع الإقامة ولا تخفى عليه، فانتظارها فى داره كانتظاره لها فى المسجد، له أجر منتظر الصلاة؛ لأنه لا يجوز أن يترك الرسول الأفضل من الأعمال فى خاصته ويحض عليها أمته، بل كان يلتزم التشديد فى نفسه، ويحب التخفيف على أمته، ولو لم يكن له فى بيته فضل الانتظار لخرج إلى المسجد قبل الإقامة، ليأخذ بحظ من الفضل، والله أعلم. وقد قال أبو سليمان الخطابى: (سكب) المؤذن، بالباء، رواه عن عبد العزيز بن محمد، عن الجنيد، قال سويد: عن ابن المبارك، عن الأوزاعى، عن الزهرى، عن عروة، عن عائشة، قال سويد: سكب: يريد أَذَّنَ، والسَّكْبُ: الصَّبُّ، وأصله فى الماء يُصَبُّ، وقد يستعار فيستعمل فى القول والكلام كقول القائل: أفرغ فى أذنى كلامًا لم أسمع مثله، وأنشد ابن دريد: (لا يفرغن فى أذنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 مثلها) ، وفى الحديث: (ويل لأقماع القول) ، وهم الذين يسمعون ولا يعملون به، شبه آذانهم بالأقماع يصب فيها الكلام صب الماء فى الإناء، وهذا الذى رواه سويد، عن ابن المبارك له وجه فى الصواب، ولا يدفع ذلك رواية من روى (سكت) ، بالتاء؛ لأنها بينة المعنى فى الصواب، وقد تأتى (الباء) بمعنى (من) ، و (عن) فى كلام العرب كقوله تعالى: (الرحمن فاسأل به خبيرًا) [الفرقان: 59] ، أى عنه، وقوله: (عينًا يشرب بها عباد الله) [الإنسان: 6] ، أى يشرب منها، وممكن أن يكون، والله أعلم، حمل الراوى لهذا الحديث على أن يرويه سكب بالباء، دون التاء؛ لأن المشهور فى سكت أن تكون معلقة (بعن) ، أو (من) ، كقولهم: سكت عن كذا، أو سكت من كذا، فلما وجد فى الحديث مكان (من) و (عن) الباء ظن أنه (سكب) من أجل مجىء الباء بعدها، وقد ذكرنا أن الباء تأتى بمعنى (عن) و (من) ، وكل الروايتين خارج المعنى، والله أعلم. - باب مَنْ قَالَ يُؤَذِّنْ فِي السَّفَرِ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ / 23 - فيه: مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ (أَتَيْتُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ رَحِيمًا شَفِيقًا، فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى أَهَالِينَا، قَالَ: ارْجِعُوا، فَكُونُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ، وَصَلُّوا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ) . قال المؤلف: هكذا روى هذا الحديث وهيب، عن أيوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 (وصلوا) ، ورواه عبد الوهاب، عن أيوب فى كتاب خبر الواحد (وصلوا كما رأيتمونى أصلى) ، وقصر وهيب فى هذه الزيادة، وبها يتم الحديث. والمؤذن الواحد يجزئ فى السفر والحضر، وقد اختلفت الآثار، كم كان يؤذن للنبى؟ . فروى عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان لرسول الله مؤذنان: ابن أم مكتوم، وبلال، وقال السائب ابن أخت نَمر: ما كان للنبى عليه السلام، إلا مؤذن واحد يؤذن إذا قعد على المنبر ويقيم إذا نزل، ثم أبو بكر، ثم عمر كذلك، حتى كان عثمان وفشا الناس وكثروا، زاد النداء الثالث عند الزوراء. قال المهلب: وإنما اشترط السن فى الإمامة لعلمه، عليه السلام، باستوائهم فى القراءة والفقه، فطلب الكمال بالسن وسيأتى الكلام فى هذا المعنى فى بابه، إن شاء الله. - باب الأذَانِ لِلْمُسَافِرِ إِذَا كَانُوا جَمَاعَةً وَالإقَامَةِ وَكَذَلِكَ بِعَرَفَةَ وَجَمْعٍ وَقَوْلِ الْمُؤَذِّنِ الصَّلاةُ فِي الرِّحَالِ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ أَوِ الْمَطِيرَةِ. / 24 - فيه: أَبو ذَرٍّ قَالَ: (كُنَّا مَعَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فِي سَفَرٍ، فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَقَالَ لَهُ: أَبْرِدْ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَقَالَ لَهُ: أَبْرِدْ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَقَالَ لَهُ: أَبْرِدْ، حَتَّى سَاوَى الظِّلُّ التُّلُولَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَم: (إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) . / 25 - وفيه: مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ: (أَتَى رَجُلانِ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) يُرِيدَانِ السَّفَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : إِذَا أَنْتُمَا خَرَجْتُمَا، فَأَذِّنَا، ثُمَّ أَقِيمَا، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 / 26 - وفيه: نَافِعٌ عن ابْنُ عُمَرَ: أَذَّنَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ بِضَجْنَانَ، ثُمَّ قَالَ: صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ، فَأَخْبَرَنَا (أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَأْمُرُ مُؤَذِّنًا أَنْ يُؤَذِّنُ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِهِ: أَلا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ أَوِ الْمَطِيرَةِ فِي السَّفَرِ) . / 27 - وفيه: أَبو جُحَيْفَةَ قَالَ: (رَأَيْتُ النبى (صلى الله عليه وسلم) بِالأبْطَحِ، فَجَاءَهُ بِلالٌ، فَآذَنَهُ بِالصَّلاةِ، وَأَخْرَجَ الْعَنْزَةِ، فَرَكَزَهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالأبْطَحِ، وَأَقَامَ الصَّلاةَ) . اختلف العلماء فى الأذان والإقامة فى السفر، فاستحب طائفة أن يؤذن المسافر ويقيم لكل صلاة، روى ذلك عن سلمان، وعبد الله بن عمرو، وعن سعيد بن المسيب مثله، وهذا قول الكوفيين، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وقالت طائقة: هو بالخيار إن شاء أذن، وإن شاء أقام، روى ذلك عن على بن أبى طالب، وهو قول عروة، والثورى، والنخعى، وقالت طائفة: يجزئه إقامة، روى ذلك عن مكحول، والحسن البصرى، والقاسم، وكان ابن عمر يقيم فى السفر لكل صلاة إلا الصبح، فإنه كان يؤذن لها ويقيم. وفى المختصر عن مالك: ولا أذان على مسافر، وإنما الأذان على من يجتمع إليه لأذانه، وقال عطاء: إذا كنت فى سفر فلم تؤذن ولم تقم فأَعِدِ الصلاة، وقال مجاهد: إذا نسى الإقامة فى سفر أعاد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 والحجة لهما قوله عليه السلام، للرجلين: (أذنا وأقيما) ، قالا: وأمره على الوجوب، والعلماء على خلاف قول عطاء، ومجاهد؛ لأن الإيجاب يحتاج إلى دليل لا منازع فيه، وجمهور العلماء على أنه غير واجب فى الحضر، والسفرُ الذى قصرت فيه الصلاة عن هيئتها أولى بذلك. قال ابن القصار: والجواب عن قوله للرجلين: (أذنا وأقيما) ، فإنه أراد الفضل بدلالة قوله: (أذِّنَا) ، والواحد يجزئ عندهم. وأحاديث هذا الباب محمولة عند العلماء على استحباب الأذان والإقامة فى السفر، وقد جاءت آثار فى ترغيب الأذان والإقامة فى أرض فلاة، وأنه من فعل ذلك يصلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال. - باب هَلْ يَتَتَبَّعُ الْمُؤَذِّنُ فَاهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، وَهَلْ يَلْتَفِتُ فِي الأذَانِ وَيُذْكَرُ عَنْ بِلالٍ أَنَّهُ جَعَلَ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يَجْعَلُ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْوُضُوءُ حَقٌّ وَسُنَّةٌ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ. / 28 - وفيه: أَبو جُحَيْفَةَ أَنَّهُ رَأَى بِلالا يُؤَذِّنُ، فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا بِالأذَانِ. قال المؤلف: إنما يتبع المؤذن فاه هاهنا وهاهنا، ليعم الناس باستماعه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 وأما إدخاله أصبعيه فى أذنيه، فذلك ليتقوى على تأدية صوته، وإسماعه الناس، وهذا كله مباح عند العلماء، فما كان أندى لصوته، كان له فعله. وقال ابن سيرين والحسن: لا بأس أن يدخل أصبعيه فى أذنيه وهو قول الكوفيين، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وقال مالك: ذلك واسع. وقال إبراهيم: يستقبل المؤذن بالأذان والشهادة والإقامة القبلة، فإذا قال: حى على الصلاة، قال: بوجهه عن يمينه وشماله، وهو قول الحسن البصرى، وكره ابن سيرين أن يستدير فى أذانه. وفى (المدونة) : أنكر مالك الاستدارة إنكارًا شديدًا، قال ابن القاسم: وبلغنى عنه أنه قال: إن كان يريد أن يسمع فلا بأس به. وحديث أبى جحيفة حجة على من أنكر الاستدارة؛ لأن قوله: (جعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا) يدل على استدارته، وقد روى ابن أبى شيبة هذا المعنى قال: حدثنا عباد ابن العوام، عن حجاج، عن عون بن أبى جحيفة، عن أبيه: (أن بلالاً ركز العنزة، وأذن، فرأيته يدور فى أذانه) ، ولا يخلو فعل بلال أن يكون عن إعلام النبى له بذلك، أو رآه يفعله، فلم ينكره، فصار حجة وسنة. وقال مالك فى (المختصر) : لا بأس أن يستدير عن يمينه وشماله وخلفه، وليس عليه استقبال القبلة فى أذانه، وفى (المدونة) لابن نافع: أرى أن يدور ويلتفت حتى يبلغ حى على الصلاة، وكذلك ابن الماجشون، ورآه من حَدِّ الأذان، وقال الكوفيون، والشافعى: إن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 زال ببدنه كله فى الأذان فهو مكروه، ولا شىء عليه، وهذا خلاف ما رواه ابن أبى شيبة فى أذان بلال أنه كان يدور فيه. واختلفوا فى الأذان على غير وضوء، فممن أجازه سوى إبراهيم: قتادة، والحسن، وحماد، ورواية عن عطاء، وهو قول مالك، والثورى، وأبو حنيفة، وممن كرهه إلا على وضوء: أبو هريرة، قال: لا يؤذن إلا متوضئًا، وهو قول مجاهد، ورواية عن عطاء، وبه قال الأوزاعى، وإسحاق، وكان الشافعى، وأبو ثور يكرهان ذلك، ويجزئه إن فعل، وقول عائشة: (كان الرسول يذكر الله على كل أحيانه) ، حجة لمن لم يوجبه، وقال أبو الفرج: لا بأس بأذان الجنب، وأجازه سحنون فى غير المسجد. وقال ابن القاسم: لا يؤذن الجنب، وكرهه ابن وهب. - باب قَوْلِ الرَّجُلِ فَاتَتْنَا الصَّلاةُ وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ أَنْ يَقُولَ: فَاتَتْنَا الصَّلاةُ، لِيَقُلْ: لَمْ نُدْرِكْ وَقَوْلُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَصَحُّ / 29 - فيه: ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَال: َ (بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى، قَالَ: (مَا شَأْنُكُمْ) ؟ قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلاةِ، قَالَ: (فَلا تَفْعَلُوا إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلاةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا) . قال المؤلف: قوله: (وما فاتكم، فأتموا) ، يقتضى جواز قول الرجل: فاتتنا الصلاة، ولا وجه لقول ابن سيرين. وفيه: الأمر بالسكينة فى الإقبال إلى الصلاة، وترك الإسراع إليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 وقد اختلف السلف فى ذلك، فروى عن أبى ذر أنه قال: إذا أقيمت الصلاة، فامش إليها كما كنت تمشى، فصلّ ما أدركت، واقض ما سُبقت، وعن أبى هريرة، وزيد بن ثابت مثله، وروى أبو هريرة، وأنس عن الرسول مثله. روى حماد بن سلمة، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبى هريرة، عن النبى عليه السلام، قال: (إذا أقيمت الصلاة، فليمش أحدكم نحو ما كان يمشى، فليصلّ ما أدرك، وليقض ما فاته) ، وحديث أنس رواه حماد، عن ثابت، وقتادة، وحميد، عن أنس، عن الرسول نحوه، وقال ابن مسعود: امشوا إلى الصلاة، وقاربوا بين الخُطا، واذكروا الله. وروى ابن أبى شيبة، عن ابن عمر: أنه كان يمشى إلى الصلاة، فلو مشت معه نملة، لرأيت ألا يسبقها، وعن مجاهد مثله، وهو قول أحمد بن حنبل على ظاهر الحديث، وقد رخصت طائفة فى الإسراع إلى الصلاة، روى عن ابن مسعود خلاف ما تقدم عنه، أنه قال: أحق ما سعينا إليه الصلاة، وكان ابن مسعود، وسعيد بن جبير يهرولان إلى الصلاة، وروى مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه سمع الإقامة فأسرع المشى، وهذا يدل مع ما روى عنه أنه لا يسرع المشى إلى الصلاة، أنه حمل قوله، عليه السلام: (عليكم بالسكينة) ، أن المراد به من لم يخش فوات الصلاة، وكان فى سعة من وقتها، وقد روى عن مالك مثل قول ابن عمر، وروى عنه ابن القاسم أنه قال: لا بأس بالإسراع إذا أقيمت الصلاة، ما لم يَخُبَّ، إذا خاف فوت الركعة، وقال: لا بأس أن يحرك فرسه من سمع مؤذن الحرم ليدرك الصلاة، وقال إسحاق بن راهويه: إذا خاف فوت التكبيرة الأولى، فلا بأس أن يسعى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 - باب: مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا قَالَهُ أَبُو قَتَادَةَ عَنِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) / 30 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ الرَّسُول: (إِذَا سَمِعْتُمُ الإقَامَةَ، فَامْشُوا إِلَى الصَّلاةِ، وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، وَلا تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا) . قال المهلب: معنى أمره بالسكينة فى السعى إلى الصلاة، والله أعلم، لئلا يُبهر الإنسان نفسه، فلا يتمكن من ترتيل القرآن، ولا من الوقار اللازم له فى الخشوع. وقوله عليه السلام: (إذا سمعتم الإقامة، فامشوا إلى الصلاة) ، يرد ما فعله ابن عمر من إسراعه إلى الصلاة حين سمع الإقامة، ويُبين أن الحديث على العموم، وأن السكينة تلزم من سمع الإقامة، كما تلزم من كان فى سعة من الوقت. وقوله: (ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) ، فيه حجة لمن قال: إن ما أدرك المأموم من صلاة الإمام، فهو أول صلاته، وقد اختلف العلماء فى ذلك، ففى المدونة، عن مالك، أن ما أدرك فهو أول صلاته، إلا أنه يقضى مثل الذى فاته من القراءة بأم القرآن وسورة، ورواه ابن نافع، عن مالك، وقال سحنون فى (العتبية) : هذا الذى لم نعرف خلافه، وهو قول مالك، أخبرنى به غير واحد، وهو قول سعيد بن المسيب، والحسن البصرى، ومكحول، وعطاء، والزهرى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وقالت طائفة: ما أدرك مع الإمام، فهو آخر صلاته والذى يقضيه أول صلاته، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، والنخعى، والشعبى، وابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 سيرين، وأبى قلابة، ورواه عيسى عن ابن القاسم، عن مالك فى العتبية، ورواه أشهب عنه، وهو قول أشهب، وابن الماجشون، واختاره ابن حبيب، وقال: الذى يقضى هو أولها؛ لأنه لا يستطيع أن يخالف إمامه، فتكون له أولى وللإمام ثانية أو ثالثة. وحكى الطحاوى، عن أبى حنيفة: أن الذى يدرك مع الإمام هو آخر صلاته وهو عنده قول الثورى، وحجة هذا القول رواية من روى هذا الحديث: وما فاتكم فاقضوا، والقضاء لا يكون إلا لفائت، ومعلوم أن الفائت من صلاة المأموم ما سبقه به إمامه، وفى إجماعهم أنه يقضى بقية صلاته كما وردت السنة دليل على أن الذى يقضيه فائت، وأن الذى صلى مع الإمام ليس هو الفائت. فإن قيل: فلم تأمره إذا قضى الفائت بالتشهد، وقد فعله قبل ذلك عندك فى موضعه. قيل: لأنه لم يفعل التسليم، ومن سنة التسليم أن يكون عقيب التشهد، وحجة القول الأول قوله عليه السلام: (وما فاتكم فأتموا) ، والتمام لا يكون إلا للآخر، ومستحيل أن يكون ما أدرك: آخر صلاته، فعمله أولاً؛ لأنه لا يكون آخرًا إلا وقد تقدمه أول. فإن قال قائل: كيف يصح فى قول مالك أن يكون ما أدرك أول صلاته، ولا خلاف عنده أنه من أدرك من مع الإمام ركعتين أنه يقرأ فيهما كما يقرأ الإمام بأم القرآن فى كل ركعة، فإذا سلم، قام فقرأ فيما يقضى: بالحمد وسورة فى كل ركعة؟ . قيل: جواب هذا السؤال اتفاق الجميع على أن الإحرام لا يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 إلا فى أول الصلاة، والتشهد والسلام لا يكون إلا فى آخرها، فكان ما أدرك: أول صلاته، وجواب آخر: وهو قوله عليه السلام: (وما فاتكم فاقضوا) ، وذلك أن الذى فاته هو الذى فعله إمامه، وهى قراءة أم القرآن، وسورة فى كل ركعة، فوجب عليه قضاء مثله، وهذا المعنى بعينه يقتضى قوله عليه السلام: (وما فاتكم فأتموا) ؛ لأن التمام فى اللغة إتمام شىء ناقص تقدمه، ولا يكون تمامًا لشىء حتى يؤتى بكل ما نقص منه، وقد فسر أهل اللغة القضاء على غير ما احتج به الفقهاء، وقالوا: القضاء يكون لغير فائت، قال صاحب (الأفعال) : قضى الشىء: صنعه، قال تعالى: (فقضاهن سبع سماوات فى يومين) [فصلت: 12] ، أى صنعهن، وقال: (فاقض ما أنت قاض) [طه: 72] ، أى اصنع ما أنت صانع، قال أبو ذؤيب: وعليهما مسبرودتان قضاهما داود أو صنع السَّوابِغَ تُبَّعُ أى صنعهما داود، قال: ويقال: قضيت الحق: خرجت منه، وقضيت العمل والأمر: فرغت منهما، قال تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض) [الجمعة: 10] ، وهذا كله يدل على صحة قول من قال: إن ما أدرك فهو أول صلاته. وفى المسألة قول ثالث قاله المزنى، وإسحاق، وأهل الظاهر قالوا: ما أدرك فهو أول صلاته إلا أنه يقرأ فيهما بالحمد وسورة مع الإمام، وإذا قام للقضاء، قضى بالحمد وحدها، فيما يقضى لنفسه، كأنه آخر صلاته، فهؤلاء طردوا قولهم على أصولهم إلا أنه لا سلف لهم فيه، فلا معنى له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 - باب مَتَى يَقُومُ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الإمَامَ عِنْدَ الإقَامَةِ / 31 - فيه: قال أَبو قَتَادَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَلا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي) . وترجم له: باب لا يسعى إلى الصلاة، ولا يقم إليها مستعجلاً، وليقم إليها بالسكينة والوقار. / 32 - وزاد فى الحديث: (لا تقوموا حتى ترونى، وعليكم بالسكينة والوقار) . فائدة هذا الحديث أن تكون الإقامة متصلة بالصلاة، وألا يقام لها إلا بحضرة الإمام، وأمرهم، عليه السلام، ألا يطيعوا المؤذن فى ذلك خشية التراخى والمهلة بين الإقامة والدخول فى الصلاة، فينتظرونه قيامًا؛ لأن شأن الدخول فى الصلاة، اتصاله بإقامة من غير فصل، فلذلك نهاهن عن القيام قبل خروجه، والله أعلم. وقد اختلف السلف فى ذلك، فقالت طائفة: إذا أقيمت الصلاة، فلا يقوم الناس حتى يأتى الإمام، على ظاهر حديث أبى قتادة، وروى ذلك عن على بن أبى طالب، وهو قول إبراهيم، وقالوا: ينتظره الناس قعودًا، وهو قول أبى حنيفة والشافعى، وروى عن الحسن، وعمر بن عبد العزيز أنهم ينتظرونه قيامًا. واختلف فى قيام المأمومين إلى الصلاة إذا كان الإمام فى المسجد، فروى عن سالم، وأبى قلابة، والزهرى، وعطاء أنهم كانوا يقومون فى أول الإقامة، وبه قال أحمد، وإسحاق، وقال أبو حنيفة، ومحمد: يقومون فى الصف إذا قال المؤذن: حى على الفلاح، وإذا قال: قد قامت الصلاة كبر الإمام، وهو فعل أصحاب عبد الله، والنخعى، وقال أبو يوسف، ومالك، والشافعى: لا يكبر الإمام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 حتى يفرغ المؤذن من الإقامة، وهو قول الحسن البصرى، وأحمد، وإسحاق. قال ابن المنذر: وعلى هذا جلّ الأئمة: مالك، والشافعى، والعمل فى أمصار المسلمين، يعنى فى تكبير الإمام بعد تمام الإقامة. قال المهلب: وقوله: (لا تسع إلى الصلاة، ولا تقم إليها مستعجلاً) ، فذلك لأن السكينة تلزم عند الوقوف بين يدى الله، وفى القيام إلى الصلاة استشعار بحال الوقوف بين يدى الله، تعالى. - باب هَلْ يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ لِعِلَّةٍ / 33 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ (أَنَّ نبى اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خَرَجَ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، وَعُدِّلَتِ الصُّفُوفُ، حَتَّى إِذَا قَامَ فِي مُصَلاهُ، انْتَظَرْنَا أَنْ يُكَبِّرَ، انْصَرَفَ، قَالَ: عَلَى مَكَانِكُمْ، فَمَكَثْنَا عَلَى هَيْئَتِنَا، حَتَّى خَرَجَ إِلَيْنَا، يَنْطِفُ رَأْسُهُ مَاءً، وَقَدِ اغْتَسَلَ) . وترجم له: باب إِذَا قَالَ الإمَامُ: مَكَانَكُمْ حَتَّى رَجَعَ انْتَظَرُوهُ. / 34 - وقال فيه: (أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَسَوَّى النَّاسُ صُفُوفَهُمْ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَقَدَّمَ، وَهُوَ جُنُبٌ، ثُمَّ قَالَ: عَلَى مَكَانِكُمْ.) . وذكر الحديث. معنى هذا الباب: هل يخرج من المسجد إذا ذكر أنه جنب دون أن يتيمم أم لا؟ وقد تقدم هذا الباب فى كتاب الطهارة، وذكرت هناك اختلاف العلماء فى ذلك فأغنى عن إعادته. وقال المهلب: فيه أن يكون بين الأذان والإقامة مهلة عند الضرورة بقدر اغتساله عليه السلام، وانصرافه إليهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 فإن قال قائل: فإن هذا الحديث يعارض حديث أبى قتادة، أنه عليه السلام، قال: (إذا أقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتى ترونى) . قيل: يحتمل أن يكون حديث أبى قتادة على غير الإيجاب والحتم، بل على وجه الرفق بهم لئلا ينتظروه قيامًا. وفيه: جواز انتظار الجماعة لإمامها الفاضل ما دام فى سعة من الوقت. وفيه: جواز انتظارهم له قيامًا، وهذا مما يكون فيما قرب. وفى هذا الحديث حجة لمالك وأبى حنيفة أن تكبير المأموم يقع بعد تكبير الإمام، وهو قول عامة الفقهاء، ويرد قول الشافعى فى إجازته تكبير المأموم قبل إمامه؛ لأنه روى حديث أبى هريرة على ما رواه مالك، عن إسماعيل بن أبى حكيم، عن عطاء بن يسار، أن رسول الله كبر فى صلاة من الصلوات، ثم أشار إليهم أن امكثوا فذهب، ثم رجع، وعلى جلده أثر الماء، فاحتج به الشافعى فى ذلك، ونقض أصله؛ لأنه حديث مرسل، وهو لا يقول بالمراسيل. ومالك الذى ذكره فى موطئه تركه، وأراد أن يعرفنا أنه رواه، ولم يقل به؛ لأنه قد صح عنده أنه عليه السلام، لم يكن كبر حينئذ على ما رواه أبو هريرة، وهذا الحديث رواه يونس، ومعمر، والأوزاعى، وصالح بن كيسان، عن الزهرى، عن أبى سلمة، عن هريرة، وأنه عليه السلام لم يكن كبر، وذهب فاغتسل، ثم رجع، فكبر، ولو لم يكن يستأنف التكبير عند رجوعه لما صحت صلاة من خلفه؛ لأنه كان يقع تكبيره بعد تكبيرهم، ولا يستحق الإمام اسم الإمامة إلا بتقديم فعله فعل من يأتم به واتباعهم له، ومن كبر قبل إمامه فلم يأتم به، ولا حصل متبعًا له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ مَا صَلَّيْنَا / 35 - فيه: جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ (أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) جَاءَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، فَقَالَ عَلَيهِ السَّلاَم: وَاللَّهِ مَا صَلَّيْت، فَنَزَلَ عَلَيهِ السَّلاَم إِلَى بُطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ، وَصَلَّى العَصْر بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ) . فى هذا الحديث رد على قول من يقول، إذا سئل: هل صليت؛ وهو منتظر للصلاة، فيكره أن يقول: لم أصل، وهو قول إبراهيم النخعى، رواه ابن أبى شيبة، عن ابن مهدى، عن سفيان، عن أبى هاشم، عن إبراهيم أنه كره أن يقول الرجل: لم نصل، ويقول: نصلى، وقول الرسول: والله ما صلينا، خلاف قول إبراهيم، ورد له، فلا معنى له. - باب الإمَامِ تَعْرِضُ لَهُ الْحَاجَةُ بَعْدَ الإقَامَةِ / 36 - فيه: أَنَسِ قَالَ: (أُقِيمَتِ الصَّلاةُ وَالنَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يُنَاجِي رَجُلا فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ، فَمَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ حَتَّى نَامَ الْقَوْمُ) . وترجم له: باب الْكَلامِ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ. فى هذا الحديث ردّ لقول الكوفيين أن المؤذن إذا أخذ فى الإقامة، وقال: قد قامت الصلاة، وجب على الإمام تكبيرة الإحرام، ولو كان ما قالوه سنة الصلاة، ما كان عليه السلام يُدخل بين الإقامة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 وبين الدخول فى الصلاة عملاً من غيرها، ويدل على صحة هذا القول عملُ الخلفاء الراشدين به من بعد الرسول، وأمرهم بتسوية الصفوف بعد الإقامة، فإذا أخبروا بذلك كبروا، وبهذا قال مالك، وأهل الحجاز، ومحمد بن الحسن. وما تعلق به الكوفيون من قول أبى هريرة: لا تفتنى بآمين، فإنما كان نادرًا منه؛ لأن شأنه فى صلاته كما كان عمل الخلفاء بعده. قال المهلب: وفى هذا الحديث دليل أن اتصال الإقامة بالصلاة ليس من وكيد السنن، وإنما هو من مستحبها، وقد قال مالك: إذا بعدت الإقامة من الإحرام رأيت أن تعاد الإقامة استحبابًا؛ لأن فعل الرسول فى هذا الحديث يدل أنه ليس بلازم، وإنما كان عند الحاجة التى يخاف فوتها من أمر المسلمين. واختلف العلماء فى الكلام بعد الإقامة، فأجازه الحسن البصرى، وقال أبو مجلز: أقيمت الصلاة، وصفت الصفوف، فابتدر رجل لعمر، فكلمه فأطالا القيام، حتى ألقيا إلى الأرض والقوم صفوف. وكره الكلام بعد الإقامة: النخعى، والزهرى، وهذا الحديث حجة عليهما. بسم الله الرحمن الرحيم أَبْوَاب صَلاةِ الْجَمَاعَةِ وَالإمَامَةِ - باب وُجُوبِ صَلاةِ الْجَمَاعَةِ وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ مَنَعَتْهُ أُمُّهُ عَنِ الْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ شَفَقَةً لَمْ يُطِعْهَا. / 37 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ ليحْطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلا فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 بِيَدِهِ، لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ، لَشَهِدَ الْعِشَاءَ) . وقوله: (لقد هممت أن آمر بحطب ليحطب. . .) ، دليل على تأكيد الجماعة، وعظيم أمرها، وقد أمر الله تعالى بالمحافظة على الصلوات بقوله: (حافظوا على الصلوات) [البقرة: 238] ، ومن تمام محافظتها صلاتها فى جماعة. وأجمع الفقهاء أن الجماعة فى الصلوات سنة إلا أهل الظاهر، فإنها عندهم فريضة، واحتجوا بهذا الحديث، وقالوا: هى كل صلاة. واختلفوا فى الصلاة التى هم النبى عليه السلام، بأن يأمر فيحطب فيحرق رجلٌ من تخلف عنها، فقالت طائفة: هى صلاة العشاء، واحتجوا بما رواه ابن وهب، عن ابن أبى ذئب، عن عجلان مولى المشمعل، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (لينتهين رجال ممن حول المسجد لا يشهدون العشاء، أو لأحرقن حول بيوتهم) ، ويشهد لهذا القول قوله: (لو يعلم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا، لشهد العشاء) ، هذا قول سعيد بن المسيب، وقال آخرون: هى الجمعة، رواه أبو إسحاق، عن أبى الأحوص، عن عبد الله، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (هى الجمعة) ، وهو قول الحسن البصرى، وقاله يحيى بن معين: أن الحديث فى الإحراق على من تخلف عن الرسول: يوم الجمعة لا فى غيرها. ومما يدل أن صلاة الجماعة سنة ما روى عن ابن مسعود أنه قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 (عليكم بالصلوات الخمس حيث ينادى بهن، فإنهن من سنن نبيكم، ولو تركتم سنته لضللتم، ولقد عهدتنا، وإن الرجل ليهادى بين رجلين حتى يقام فى الصف) ، ومما يدل على أنها سنة أن نبى الله لم يقل لهم حين توعدهم بالإحراق عليهم، أنه من تخلف عن الجماعة، فلا تجزئه صلاته، ولو كانت فرضًا ما سكت عن ذلك؛ لأن البيان منه لأمته فرض عليه. قال المهلب: وقد قيل إن هذا الحديث أريد به المنافقون، وإليهم توجه الوعيد فيه، واحتج قائل ذلك بأن الرسول أقسم أنه لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء، وليس هذا من صفات المؤمنين، وقيل: إن الحديث فى المؤمنين والوعيد إليهم متوجه، والدليل على ذلك قصة كعب بن مالك وصاحبيه، وأن الله سبحانه وبخهم بذلك ولم يوبخ المنافقين، ولا ذكرهم، ولا عُنى بإخراجهم إلى الصلاة، ولا التفت إلى شىء من أمرهم، بل كان معرضًا عنهم عالمًا بسوء طويتهم، فكيف كان يعنى بتأديبهم على ترك الصلاة فى الجماعة، وهو يعلم أنه لا صلاة لهم، ولا يلزمه التهمم بأمرهم، لما كان أطلعه الله عليه من فساد نياتهم. والعِرْقُ: العظم إذا كان عليه لحم، وقد تَعَرَّقْتُ العظم واعترقْتُه، وعَرَقْتُه، وأعرقه عرقًا: أكلت ما عليه، ورجل معروق، ومعترق: خفيف اللحم، فإذا كان العظم لا لحم عليه فهو عِرَاق، من كتاب (العين) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 وفيه: العقوبة فى الأموال على ترك السنن؛ لأن نبى الله لم يهم من الإحراق إلا بما يجوز له فعله، وسيأتى هذا الحديث فى أبواب الإشخاص والملازمة، وفى كتاب الأحكام، وترجم له فيها: باب إخراج الخصوم وأهل الريب من البيوت، وفيه شىء من الكلام على حسب ما يقتضيه التبويب. وأما ضربه عليه السلام المثل بالعظم السمين والمرماتين، فإنه أراد الشىء الحقير، وقال أبو عبيد: (المرماتين: ما بين ظلفى الشاة، وهذا حرف لا أدرى ما وجهه) . وقال الحربى: وهو قول الخليل، ولا أحسب هذا معنى الحديث، ولكنه كما أخبرنى أبو نصر، عن الأصمعى قال: المرماة: سهم الهدف، ويصدق هذا ما حدثنى به عبيد الله بن عمر، عن معاذ، عن أبيه، عن قتادة، عن الحسن، عن أبى رافع، عن أبى هريرة أن الرسول قال: (لو أن أحدكم إذا شهد الصلاة معى كان له عظم من شاة سمينة أو سهمان، لفعل) ، وقال أبو عمرو: مرماة ومرام، وهى الدقاق من السهام المستوية. - باب فَضْلِ صَلاةِ الْجَمَاعَةِ وَكَانَ الأسْوَدُ إِذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ ذَهَبَ إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ. وَجَاءَ أَنَسُ إِلَى مَسْجِدٍ قَدْ صُلِّيَ فِيهِ فَأَذَّنَ، وَأَقَامَ وَصَلَّى جَمَاعَةً. / 38 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ الرَسُولَ قَالَ: (صَلاةُ الْجَمَاعَةِ، تَفْضُلُ صَلاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 / 39 - وفيه: أبو سعيد مثله. / 40 - وفيه: أَبَو هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (صَلاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَفِي سُوقِهِ: خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ، لا يُخْرِجُهُ إِلا الصَّلاةُ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى، لَمْ تَزَلِ الْمَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاةَ) . قوله: بسبع وعشرين درجة، وخمس وعشرين ضعفًا، وخمس وعشرين جزءًا، يدل على تضعيف ثواب المصلى فى جماعة على ثواب المصلى وحده بهذه الأجزاء وهذه الأوصاف المذكورة، وقد استدل قوم بهذا الحديث على أن الأفضل لكثير الجماعة على قليلها، وبما عليه أكثر العلماء فيمن صلى جماعة اثنين فما فوقهما، أن لا يعيد فى جماعة أخرى أكثر منها، وقد روينا آثار مرفوعة عن أبى بن كعب وغيره أن كلما كثرت الجماعة كان ثواب المصلى أكثر، وليست بالقوية، ولا مدخل للقياس فى الفضائل، وإنما يقال لما صح التوقيف فيه. قال ابن القصار: وهذه الأحاديث تدل على أن الصلاة فى جماعة سنة، كما قال الفقهاء، وخالف ذلك أهل الظاهر، وقالوا: صلاة الجماعة فريضة، والدلالة عليهم منها فى وجهين اثنين: أحدهما: أنه أثبت صلاة الفذ وسماها صلاة، وهم يقولون: ليست بصلاة، والثانى: أنه عليه السلام فاضل بينهما، فأثبت للجماعة فضلاً، فدل أن المنفردة فاضلة إلا أن مرتبتها أنقص. وهذه الدرجات والأجزاء التى تفضل بها صلاة الجماعة، منها فى حديث أبى هريرة: أربع؛ لقوله: (وذلك أنه إذا توضأ، ثم خرج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 إلى المسجد) ؛ لأن قوله: (وذلك) إشارة إلى تفسير الجمل المذكورة فى أول الكلام، فقوله: (ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة) ، هذه درجة وهى نية الصلاة فى جماعة، وقوله: (لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحطت عنه بها خطيئة) ، فهذه درجة ثانية، وقوله: (فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلى عليه مادام فى مصلاه) ، وهذه درجة ثالثة، والدرجة الرابعة قوله: (إن أحدكم فى صلاة ما انتظر الصلاة) . وفى حديث آخر لأبى هريرة قال عليه السلام: (لو يعلم الناس ما فى النداء، والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا) ، فهاتان درجتان، و (لو يعلمون ما فى التهجير، لاستبقوا إليه) ، فهذه درجة، وقوله: (لو يعلمون ما فى العتمة والصبح) يريد فضل اجتماع ملائكة الليل وملائكة النهار فى الصبح، لقوله تعالى: (إن قرآن الفجر كان مشهودًا) [الإسراء: 78] ، وقال عليه السلام: (تجتمع فيكم ملائكة الليل وملائكة النهار فى العصر والفجر) ، فهاتان درجتان، وتمام الدرجات الباقية من جنس هذه المذكورة لا محالة، فطلبنا فى الآثار والقرآن، ما جانس هذه الدرجات، مما تختص به صلاة الجماعة، وليست للفذ، فوجدنا منها: إجابة النداء إلى الصلاة، لقوله تعالى: (أجيبوا داعى الله) [الأحقاف: 31] ، ولقوله: (إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) [الجمعة: 9] . ومنها: لزوم الخشوع فى السير إلى المسجد، لقوله عليه السلام: (ائتوا الصلاة وعليكم السكينة) . ومنها: لزوم الذكر فى سيره، وقد روى وكيع، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبى سعيد الخدرى، قال: (من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 قال إذا خرج إلى الصلاة: اللهم إنى أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاى هذا، لم أخرجه أشرا، ولا بطرًا، ولا رياءً، ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك، واتباع مرضاتك، أسألك أن تنقذنى من النار، وأن تدخلنى الجنة، وأن تغفر لى ذنوبى، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت؛ خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له، وأقبل الله عليه بوجهه حتى يقضى صلاته) . ومثل هذا لا يدرك بالرأى، ولا يكون إلا عن الرسول. ومنها: السلام على الرسول، والدعاء عند دخوله فى المسجد، وعند خروجه، فهاتان درجتان، روى النسائى من حديث المقبرى، عن أبى هريرة، عن النبى، عليه السلام، قال: (إذا دخل أحدكم المسجد، فليسلم على النبى، عليه السلام، وليقل: اللهم افتح لى أبواب رحمتك، وإذا خرج فليسلم على النبى، وليقل: اللهم اعصمنى من الشيطان) . ومنها: السلام عند دخوله فى المسجد، إن كان خاليًا، فقد روى عن ابن عباس فى قوله تعالى: (فسلموا على أنفسكم) [النور: 61] ، قال: هو المسجد إذا دخلته فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. ومنها: الركوع فى المسجد عند دخوله، فقد أمر الرسول بذلك وهو تحية المسجد. ومنها: ترك الخوض فى أمر الدنيا؛ لحرمة المسجد والصلاة، وذكر الله تعالى، فيه لقوله تعالى: (فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه) [النور: 36] ، وكان عمر يضرب الناس على ذكر الدنيا فى المسجد، واتخذ البطحاء لمن أراد اللغط فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 ومنها: إجابة الدعاء بحضرة النداء للصلاة، فقد قال عليه السلام: (ساعتان لا يرد فيهما الدعاء: حضرة النداء، والصف فى سبيل الله) . ومنها: اعتدال الصفوف، وإقامتها، والتراصص فيها، وإلزاق المنكب بالمنكب، والقدم بالقدم، فقد جاء فى الحديث أن ذلك من تمام الصلاة. ومنها: استماع قراءة الإمام والتدبر لها، وقد جاء فى قوله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) [الأعراف: 204] ، أن ذلك فى الصلاة. ومنها: قوله: ربنا ولك الحمد إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، كما جاء فى الحديث. ومنها: شهادة الملائكة لمن حضر الجماعة؛ لقوله عليه السلام: (أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون) . ومنها: تحرى موافقة الإمام فى الجماعة، فلا يختلف على الإمام فى القرآن والعمل؛ لقوله عليه السلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه) . ومنها: فضل تسليمه على الإمام وعلى من بجنبه. ومنها: فضل دعاء الجماعة. ومنها: الاعتصام بالجماعة من سهو الشيطان؛ لقوله عليه السلام: (أَصَدَقَ ذُو اليدين) ، ولا يجوز على الجماعة كلها السهو، فتمت سبعةً وعشرين درجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 فإن قال قائل: فما معنى اختلاف الدرجات والأجزاء فى الآثار، فمرة قال: (بسبع وعشرين درجة) ، ومرة قال: (بخمسة وعشرين جزءًا؟) . فالجواب: أن الفضائل لا تدرك بالرأى، وإنما تدرك بالتوقيف، وهذا الاختلاف له معنى صحيح يؤيد بعضه بعضًا، وذلك أنه يحتمل أن يكون عليه السلام أعلمه الله عز وجل، أن فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بخمسة وعشرين جزءًا، ثم زاد تعالى فى فضل الجماعة على صلاة الفذ، فكمله سبعًا وعشرين، ومثل هذا المعنى كثير فى شريعته عليه السلام. فقد أخبر عليه السلام أنه من (صلى عليه مائة من المؤمنين، شفعوا فيه) ، وفى حديث آخر: (من صلى عليه أربعون) . وفى حديث آخر: (ما من مسلم يشهد له أربعة بخير إلا أدخله الله الجنة، فقيل: وثلاثة؟ قال: وثلاثة، قيل: واثنان؟ قال: واثنان) . وهذا كله إنما كان ينزل على النبى فيه الوحى، ويعلم بما لم يعلم قبل ذلك، كما قال له تعالى: (قل ما أدرى ما يفعل بى ولا بكم) [الأحقاف: 46] ، ثم أعلمه بعد ذلك أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكان يخبر أمته على حسب ما يوحى إليه، ولم ينطق عن الهوى، فكذلك تضعيف ثواب صلاة الجماعة، والله أعلم. وفيه وجه آخر يحتمل أن يكون السبع والعشرون الدرجة للعشاء والصبح، ويكون لسائر الصلوات خمس وعشرون درجة، وسأذكر وجه ذلك فى الباب بعد هذا إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 وأما ما روى عن الأسود أنه كان يتبع المساجد إذا فاتته الجماعة، فقد روى ذلك عن حذيفة، وسعيد بن جبير، وذكر الطحاوى، عن الكوفيين ومالك: إن شاء صلى فى مسجده وحده، وإن شاء أتى مسجدًا آخر فطلب فيه الجماعة، إلا أن مالكًا قال: إلا أن يكون فى المسجد الحرام، أو مسجد الرسول فلا يخرجوا منه، ويصلوا فيه وحدانًا؛ لأن هذين المسجدين للفذ أعظم أجرًا ممن صلى فى جماعة. وقال الحسن البصرى: ما رأينا المهاجرين يتبعون المساجد، قال الطحاوى: والحجة لمالك أن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة، والصلاة فى المسجد الحرام، ومسجد الرسول أفضل من الصلاة فى غيرهما؛ فلذلك لا يتركهما ابتغاء الصلاة فى غيرهما، وفى مختصر ابن شعبان عن مالك: أنه من صلى فى جماعة فلا يعيد فى جماعة إلا فى مسجد مكة والمدينة. وأما صلاة اثنين جماعة فى مسجد قد جمع فيه، فإن العلماء اختلفوا فى ذلك، فروى عن ابن مسعود أنه صلى بعلقمة والأسود فى مسجد قد جمع فيه، وهو قول عطاء، والحسن البصرى فى رواية، وإليه ذهب أحمد، وإسحاق، وأشهب صاحب مالك. وروى ابن مزين عن أصبغ قال: دخلت المسجد مع أشهب وقد صلى الإمام، فقال: يا أصبغ ائتم بى وتنحى إلى زاوية، فائتممت به، واحتج أحمد فى ذلك بقوله عليه السلام: (صلاة الجمع تزيد على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) . وقالت طائفة: لا تجمع فى مسجد مرتين، روى ذلك عن سالم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 والقاسم، وأبى قلابة، وهو قول مالك، والليث، والثورى، والأوزاعى، وأبى حنيفة، والشافعى. وقال بعضهم: إنما كره ذلك خشية افتراق الكلمة، وأن أهل البدع يتطرقون إلى مخالفة الجماعة، وقال مالك، والشافعى: إذا كان مسجد على طريق ولا إمام له، أنه لا بأس أن يجمع فيه قوم بعد قوم. - باب فَضْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ فِي جَمَاعَةٍ / 41 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ أن نبى الله قَالَ: (تَفْضُلُ صَلاةُ الْجَمْعِ صَلاةَ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا، وَتَجْتَمِعُ مَلائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ) ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء 78] . / 42 - وفيه: أَبُو الدَّرْدَاء قال: مَا أَعْرِفُ مِنْ مُحَمَّدٍ عليه السلام، شَيْئًا إِلا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا. / 43 - وفيه: أَبِي مُوسَى، قَالَ رسول الله: (أَعْظَمُ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلاةِ أَبْعَدُهُمْ مَمْشًى) . قال المؤلف: قد بيَّن فى هذا الباب المعنى الذى أوجب التفضيل لشهود الفجر فى جماعة، وهو اجتماع ملائكة الليل، والنهار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 فيها، ولقد قال عمر بن الخطاب: لأن أشهد الفجر فى جماعة أحب إلى من أن أقوم ليلة، وقد روى أبو هريرة عن الرسول أن ملائكة الليل والنهار يجتمعون فى صلاة العصر أيضًا. قال المهلب: فلما خص الفجر بشهود الملائكة لها، وكان مثل ذلك فى صلاة العصر، وأشبهت الفجر فى هذه الفضيلة، أمر الرسول بالمحافظة على العصر ليكون من حضرهما ترفع الملائكة عمله، وتشفع له. قال المؤلف: ويمكن أن يكون اجتماع الملائكة فى الفجر والعصر هُما الدرجتان الزائدتان على الخمسة والعشرين جزءًا فى سائر الصلوات التى لا تجتمع الملائكة فيها، والله أعلم، وإنما قلت هذا من قول أبى هريرة: سمعت الرسول يقول: (تفضل صلاة الجماعة صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءًا، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار فى صلاة الفجر) ، فذكر اجتماع الملائكة فى الفجر بواو فاصلة، واستأنف الكلام، وقطعه من الجملة المتقدمة، فدل ذلك على أن اجتماع الملائكة يوجب فضلاً ودرجة زائدة على الخمسة وعشرين، فصارتا درجتين للفجر والعصر، ليستا لغيرهما من الصلوات. وقال المهلب: وفى حديث أبى الدرداء جواز الغضب عند تغير الدين وتغير أحوال الناس فى معاشرتهم، وإنكار المنكر بالغضب إذا لم يستطع على أكثر من ذلك، وهو أضعف الإيمان. وقوله: (ما أعرف من محمد شيئًا) ، يريد من: شريعة محمد شيئًا لم يتغير عما كان عليه إلا الصلاة فى جماعة، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 وقوله: (أعظم الناس فى الصلاة أجرًا أبعدهم ممشى) ، فذلك لكثرة الخطا، وقد روى هذا عن الرسول. - باب فَضْلِ التَّهْجِيرِ إِلَى الظُّهْرِ / 44 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال عليه السلام: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ) ، ثُمَّ قَالَ: (الشُّهَدَاءُ خَمْسَ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، وَقَالَ: (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ، وَالصَّفِّ الأوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلا أَنْ يَسْتَهِمُوا لاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا) . والتهجير: السير فى الهاجرة، وهى شدة الحر، ويدخل فى معنى التهجير المسارعة إلى الصلوات كلها قبل دخول أوقاتها؛ ليحصل له فضل الانتظار قبل الصلاة. قال المؤلف: قوله: (ولو يعلمون ما فى التهجير لا ستبقوا إليه) ، يدل أن صلاة الظهر عند الزوال أفضل، يدل على ذلك قوله عليه السلام، حين سئل: أى العمل أفضل؟ قال: (الصلاة لأول وقتها) وقد تقدم أن الآثار التى وردت بالإبراد، ليست بمعارضة لهذا الحديث، بل هى رخصة لفضل الجماعة، وليتسع الناس فى الاجتماع، وهذا الحديث فيه ثلاثة أحاديث جمعها أبو هريرة فى مساق واحد، وقد يمكن أن يكون سمعها من الرسول فى وقت واحد، والله أعلم، فأتى بها كما سمعها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 وفيه من الفقه: أن نزع الأذى من الطريق من الأعمال الصالحة التى يرجى بها الغفران من الله تعالى، وقد قال عليه السلام: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى من الطريق) . - باب احْتِسَابِ الآثَارِ وقال مجاهد: خطاكم آثار المشى فى الأرض بأرجلكم. / 45 - وفيه: أَنَس قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام: (يَا بَنِي سَلِمَةَ، أَلا تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ) . قال المؤلف: قوله: (ألا تحتسبون آثاركم) ، إنما قال لهم ذلك؛ لأنهم كانوا على بُعدٍ من مسجده عليه السلام، فأرادوا أن يتحولوا بقرب المسجد فكره النبى، عليه السلام، أن يعرى المدينة. قال المهلب: فحضهم على البقاء واحتساب الآثار، واستشعارهم النية والإخلاص لله تعالى، فى مشيهم، ودخل فى معنى ذلك كل ما يصنع لله تعالى من قليل أو كثير، أن يراد به وجهه، تعالى، ويخلص له فيه، وهو الذى يزكوا ثوابه وأجره، وقال ابن عباس: فى الأنصار نزلت حين أرادوا أن ينتقلوا: (ونكتب ما قدموا (أعمالهم،) وآثارهم) [يس: 12] ، فيما مشوا أبعدهم مكانًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 قال الطبرى: وفيه من الفقه صحة قول القائل: تفضل المقاربة بين الخطا فى المشى إلى الصلاة على الإسراع إليها، وذلك أن ابن عباس ذكر أن قول الله: (ونكتب ما قدموا وآثارهم) [يس: 12] ، نزلت إعلامًا من الله تعالى نبيه أنه يكتب خطا المشائين إلى الصلاة، ويوجب لهم ثوابًا؛ حضًا منه تعالى للذين أرادوا النقلة إلى قرب مسجده على الثبات فى مواضعهم، وإن نأتْ، وترغيبًا لهم فى احتساب خطاهم، ومشيهم إلى الصلاة، وقد روى عن الرسول أن من بعد من المسجد أفضل. وروى ابن أبى شيبة، عن وكيع، عن ابن أبى ذئب، عن عبد الرحمن بن مهران، عن عبد الرحمن بن سعيد، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (الأبعد فالأبعد من المساجد أعظم أجرًا) . وروى عن أنس أنه كان يتجاوز المساجد المحدثة إلى المساجد القديمة، وفعله مجاهد وأبو وائل، وقد روى عن بعضهم خلاف هذا، سئل الحسن: أيدع الرجل مسجد قومه ويأتى غيره؟ قال: كانوا يحبون أن يكثر الرجل قومه بنفسه. وسئل أبو عبد الله بن لبابة عن الذى يدع مسجده ويصلى فى الجامع للفضل فى كثرة الناس فقال: لا يدع مسجده، وإنما فضل الجامع فى صلاة الجمعة فقط. 30 - باب فَضْلِ الْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ / 46 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رسول الله: (لَيْسَ صَلاةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا، لأتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، ولَقَدْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ الْمُؤَذِّنَ فَيُقِيمَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً يَؤُمُّ النَّاسَ، ثُمَّ آخُذَ شُعَلا مِنْ نَارٍ فَأُحَرِّقَ عَلَى مَنْ لا يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاةِ بَعْدُ) . قد تقدم الكلام فى معنى هذا الحديث فى باب (الاستهام للأذان) ، فلا معنى لإعادته، وبهذا الحديث احتج من قال: إن الوعيد بالإحراق لمن تخلف عن صلاة الجماعة أريد به المنافقون؛ لذكرهم فى أول الحديث، وهذا ليس ببيِّن؛ لأنه يحتمل أن يكون عليه السلام، أخبر المؤمنين أن من شأن المنافقين ثقل الفجر والعشاء عليهم فى الجماعة، فحذر المؤمنين من التشبه بهم فى ذلك، وامتثال طريقتهم، والله أعلم، وإنما ثقلت صلاة العشاء على المنافقين للزومها فى وقت ثقيل متصل بالنوم، فأشبهت صلاة الفجر فى ذلك، وقد قال عثمان بن عفان: من شهد العشاء، فكأنما قام نصف ليلة، ومن شهد الصبح، فكأنما قام ليلة، وهو بيِّن فى ذلك. 31 - باب اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ / 47 - فيه: مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، قال النَّبِيِّ عليه السلام: (إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا) . اختلف العلماء فى أقل اسم الجمع، فذهب قوم إلى أن الاثنين جمع، واستدلوا بهذا الحديث، وقالوا: كل جماعة قليلة كانت أو كثيرة، فالمصلى فيها له سبع وعشرون درجة، قال إبراهيم النخعى: إذا صلى الرجل مع الرجل لهما أجر التضعيف خمس وعشرون درجة، وهما جماعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 وقالت طائفة: الثلاثة جماعة، روى ذلك عن الحسن البصرى، وقال إسماعيل بن إسحاق: فى حديث أبى بن كعب، أن النبى، عليه السلام، قال: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاة الرجل وحده) دليل أن صلاة الرجل مع الرجل فى معنى الجماعة. 32 - باب مَنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ وَفَضْلِ الْمَسَاجِدِ / 48 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ قال: قال رَسُولَ اللَّهِ: (الْمَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاهُ، مَا لَمْ يُحْدِثِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، لا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاةٍ، مَا دَامَتِ الصَّلاةُ تَحْبِسُهُ، لا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلا الصَّلاةُ) . / 49 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قال عليه السلام: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ) ، وذكر منهم: (رَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بالْمَسَاجِدِ) . قوله عليه السلام: (الملائكة تصلى على أحدكم ما دام فى مصلاه) ، تفسير لقوله: (ويستغفرون للذين آمنوا) [غافر: 7] ، يريد المصلين، والمنتظرين للصلاة، ويدخل فى ذلك من أشبههم فى المعنى، ممن حبس نفسه على أفعال البرِّ كلها، والله أعلم. قال المهلب: فالصلاة من الملائكة استغفار ودعاء، وهى من الله رحمة، وقد فسر أبو هريرة الحدث فقال: فساء أو ضراط، وقد روى عنه: (ما لم يحدث) : ما لم يؤذ أحدًا، فتأول العلماء فى ذلك الأذى أنه الغيبة وشبهها، وإنما هو، والله أعلم، أذى الحدث، يفسر ذلك حديث النوم، لكن النظر يدل أنه إذا آذى أحدًا بلسانه أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 ينقطع عنه استغفار الملائكة؛ لأن أذى السب والغيبة فوق أذى رائحة الحدث، فإذا انقطع عنه استغفار الملائكة بأذى الحدث، فأولى أن ينقطع بأذى السب وشبهه. 33 - باب فَضْلِ مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ / 50 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قال نَّبِيِّ الله: (مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أوَ رَاحَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنَ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ) . فيه: الحض على شهود الجماعات، ومواظبة المساجد للصلوات؛ لأنه إذا أعد الله له نزله فى الجنة بالغدو والرواح، فما ظنك بما يُعِدُّ له ويتفضل عليه بالصلاة فى الجماعة واحتساب أجرها والإخلاص فيها لله تعالى. 34 - باب إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَلا صَلاةَ إِلا الْمَكْتُوبَةَ / 51 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَأَى رَجُلاً من الأزد، وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ لاثَ بِهِ النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (الصُّبْحَ أَرْبَعًا، الصُّبْحَ أَرْبَعًا) . اختلف الناس فى تأويل هذا الحديث، فكرهت طائفة للرجل أن يركع ركعتى الفجر فى المسجد والإمام فى صلاة الفجر، واحتجوا بهذا الحديث، روى هذا عن سعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، وابن سيرين، وهو قول الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 وقالت طائفة: لا بأس أن يصليها خارج المسجد ما تيقن أنه يدرك الركعة الأخيرة مع الإمام، هذا قول أبى حنيفة وأصحابه والأوزاعى، إلا أن الأوزاعى أجاز أن يركعهما فى المسجد. وقال الثورى: إن خشى فوت ركعة دخل معه ولم يصلهما، وإلا صلاهما فى المسجد. وقال مالك: إن خشى أن تفوته الركعة الأولى فلا يصليهما، وليدخل مع الإمام، كقول الثورى، إلا أنه قال: وإن لم يخف فوت ركعة، فليركعهما خارج المسجد فى غير أفنيته اللاصقة به. وحجة من أجاز أن يصليهما فى المسجد، ما روى عن ابن مسعود أنه دخل المسجد، وقد أقيمت الصلاة، فصلى إلى أسطوانة فى المسجد ركعتى الفجر، وذلك بمحضر حذيفة وأبى موسى، وروى مثله عن عمر بن الخطاب، وأبى الدرداء، وابن عباس، ذكره الطحاوى. وحجة من قال: يُصلى خارج المسجد، ما روى عن ابن عمر أنه صلاهما قبل أن يدخل فى المسجد فى الطريق، ثم دخل المسجد فصلى الصبح مع الناس. وأما حجة أهل المقالة الأولى من طريق النظر، فقالوا: تشاغله بالفريضة أولى من تشاغله بالتطوع. واحتج الآخرون فقالوا: قد أجمعوا أنه لو كان فى منزله، فعلم دخول الإمام فى صلاة الفجر، أنه ينبغى له أن يركع ركعتى الفجر ما لم يخف فوت صلاة الإمام، ولم يجعلوا تشاغله بالسعى إلى الفريضة أفضل من تشاغله بهما فى منزله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 قال الطحاوى: وقد روى أن النبى، عليه السلام، مرَّ بابن بحينة وهو يصلى بين يدى نداء الصبح، فقال: لا تجعلوا هذه الصلاة كصلاة الظهر وبعدها، واجعلوا بينهما فصلاً، فأبان فى هذا الحديث أن الذى كرهه رسول الله لابن بحينة هو وصله إياها بالفريضة فى مكان واحدٍ دون أن يفصل بينهما بشىء يسير؛ لأنه كره له أن يصليهما فى المسجد، فإذا فرغ منهما تقدم إلى الصفوف فصلى الفريضة مع الناس، وقد روى مثل هذا المعنى فى غير هذا الحديث. روى ابن جريج، عن عمر بن عطاء، أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب بن يزيد يسأله: ماذا سمع من معاوية فى الصلاة بعد الجمعة؟ فقال: صليت معه فى المقصورة الجمعة، فلما فرغت قمت لأتطوع فأخذ بثوبى فقال: لا تفعل حتى تتقدم أو تكلم؛ فإن رسول الله كان يأمر بذلك. ولم يختلفوا أنه من لم يُصل العشاء فدخل المسجد فوجدهم فى الإشفاع أنه جائز أن يصلى العشاء ناحيةً من المسجد بحيث يأمن تخليط الإمام عليه. وقال الطحاوى: يحتمل أن يكون النهى فى قوله: (الصبح أربعًا) ؛ لأنه جمع بين الصلاتين من الفرض والنفل فى مكان واحد، كما نهى من صلى الجمعة أن يصلى بعدها تطوعًا فى مكان واحدٍ حتى يتكلم أو يتقدم. وأما قوله فى الترجمة: (إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة) ، فقد روى هذا اللفظ عن النبى، عليه السلام، رواه أبو عاصم، عن زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن سليمان بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 يسار، عن أبى هريرة، عن الرسول، إلا أن ابن عيينة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، أوقفوه على أبى هريرة، فلذلك تركه البخارى. وأجمعوا أن من عليه صلاة الظهر، فدخل فى المسجد ليصليها فأقيمت عليه العصر، أنه لا يقطع صلاته، ويكملها. قال مالك: ومن أحرم بفريضة فى المسجد فأقيمت عليه تلك الفريضة، فإن لم يركع قطع بسلام، ودخل مع الإمام، وإن ركع صلى ثانيةً وسلم ودخل معه، وإن صلى ثالثةً صلى رابعةً، ولا يجعلها نافلةً ويسلم ويدخل معه، وإن كانت المغرب قطع، ودخل مع الإمام، عقد ركعةً أم لا، وإن صلى اثنتين أتمهما ثلاثًا وخرج، فهذا يدل أن حديث مالك المرسل عن أبى سلمة أن الرسول قال: (أصلاتان معًا؟) ، إنما هو عندى فيمن اشتغل بنافلةٍ عن فريضةٍ، ولو كان فيمن اشتغل بفريضة لأمرهُ بقطع الصلاة، ولو كان فى الرابعة، أو الثالثة من المغرب. قال الخطابى: قوله: (لاث به الناس) ، معناه: أحاطوا به، واجتمعوا عليه، وكل شىء اجتمع والتبس بعضه ببعض فهو لائث، فقلب كما قال الله تعالى: (على شفا جُرفٍ هارٍ) [التوبة: 109] ، أى هائر. وقال صاحب (الأفعال) : لاث الشجر والنبات، التف بعضه ببعضٍ، ولاق بغيره كذلك، ومنه: لاث الإزار والعمامة: إذا رد بعضها على بعض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 35 - باب حَدِّ الْمَرِيضِ أَنْ يَشْهَدَ الْجَمَاعَةَ / 52 - فيه: عَائِشَةَ، أَنه ذَكَر عندها الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الصَّلاةِ وَالتَّعْظِيمَ لَهَا، فقَالَتْ: (لَمَّا مَرِضَ النبى، عليه السلام، مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَأُذِّنَ، فَقَالَ: (مُرُوا أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) ، فَقلَت لَهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ، إِذَا قَامَ مَقَامِكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، وَأَعَادَ، فَأَعَادُوا لَهُ، فَأَعَادَ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: (إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ، فَصَلَّى، فَوَجَدَ الرسول مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ رِجْلَيْهِ تَخُطَّانِ مِنَ الْوَجَعِ، فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ أَنْ مَكَانَكَ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِهِ) . فقِيلَ لِلأعْمَشِ: وَكَانَ النَّبِيُّ يُصَلِّي، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلاتِهِ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاةِ أَبِي بَكْرٍ؟ ، فَقَالَ بِرَأْسِهِ: (نَعَمْ) . قال المؤلف: قوله : باب حدّ المريض أن يشهد الجماعة، معناه: باب حدة المريض وحرصُه على شهود الجماعة، كما قال عمر بن الخطاب فى أبى بكر الصديق: وكنت أدارى منه بعض الحد، يعنى بعض الحدة، والمراد بهذا الحديث الحض على شهود الجماعة والمحافظة عليها. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وفيه من الفقه: جواز الأخذ بالشدة لمن جازت له الرخصة؛ لأن الرسول كان له أن يتخلف عن الجماعة لعذر المرض، فلما تحامل على نفسه وخرج بين رجلين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 تخط رجلاه الأرض، دلَّ على فضل الشدة على الرخصة، ورغب أمته فى شهود الجماعات؛ لما لهم فيها من عظيم الأجر، ولئلا يعذر أحد منهم نفسه فى التخلف عنها ما أمكنه وقدر عليها، إذ لم يعذر نفسه عليه السلام، ولم يرخص لها فى حال عجزه عن الاستقلال على قدميه مع علمه أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبذلك عمل السلف الصالحون، فكان الربيع بن خثيم يخرج إلى الصلاة يهادى بين رجلين، وكان أصابه الفالج، فيقال له: إنك لفى عذر، فيقول: أجل، ولكنى أسمع المؤذن يقول: حى على الصلاة، حى على الفلاح، فمن سمعها فليأتها ولو حبوًا. وكان أبو عبد الرحمن السلمى يُحمل وهو مريض إلى المسجد. وقال سفيان: كان سويد بن غفلة ابن ست وعشرين ومائة سنة يخرج إلى الصلاة. وكان أبو إسحاق الهمدانى يهادى إلى المسجد، فإذا فرغ من صلاته لم يقدر أن ينهض حتى يقام. وقال سعيد بن المسيب: ما أَذَّن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا فى المسجد. وقول عائشة: (إن أبا بكر رجل أسيف) ، يعنى: سريع الحزن والبكاء، والأسف عند العرب: شدة الحزن والتندم، يقال منه: أسف فلان على كذا يأسف، إذا اشتد حزنه، وهو رجل أسيف وأسُوف، ومنه قول يعقوب: (يا أسفى على يوسف) [يوسف: 84] ، يعنى: يا حزنا ويا جزعا؛ توجعًا لفقده وقيل: قال الخزاعى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 الأسيف، الضعيف من الرجال فى بطشه، وأما الأسفُ، فهو الغضبان المتلهف، كما قال الله تعالى: (ولما رجع موسى إلى قومه غضبانٍ أسفًا) [الأعراف: 150] . 36 - باب الرُّخْصَةِ فِي الْمَطَرِ وَالْعِلَّةِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي رَحْلِهِ / 53 - فيه: ابْنَ عُمَرَ: أنه أَذَّنَ بِالصَّلاةِ، فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ، ثُمَّ قَالَ: أَلا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ، إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ ذَاتُ بَرْدٍ وَمَطَرٍ، يَقُولُ: (أَلا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ) . / 54 - وفيه: عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ: (أنه كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ وَهُوَ أَعْمَى، وَأَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا تَكُونُ الظُّلْمَةُ والمطر وَالسَّيْلُ، وَأَنَا رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ، فَصَلِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي بَيْتِي، مَكَانًا أَتَّخِذُهُ مُصَلَّى. . .) الحديث. أجمع العلماء على أن التخلف عن الجماعات فى شدة المطر والظلمة والريح، وما أشبه ذلك مباح بهذه الأحاديث، ألا ترى أن عتبان بن مالك سأل النبى، عليه السلام، أن يصلى فى بيته مكانًا يتخذه مصلى إذا كان المطر والسيْل، ففعل ذلك؛ فدل أن شهود الجماعات سُّنَّة؛ لأنه لما سقط عنه الإتيان إلى الجماعة، وجاز له أن يصليها فى بيته منفردُا، وبقوله: (ألا صلوا فى الرِّحَال) علم أنها سُّنة، ولو كانت الصلاة لا تجوز فى البيوت إلا جماعة، لما ترك الرسول بيانه لأمته؛ لأن الله أخذ عليهم ميثاق البيان لهم، ولقال لعتبان: لا تصح لك فى مصلاك هذا صلاة منفردة حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 يجتمع معك فيه غيرك، فصح قول الجماعة أن الجمع سُنَّة، وإذا وسع التخلف عن الجماعة للظلمة والمطر، فالتخلف لعذر المرض مثله، وقد قال إبراهيم النخعى: ما كانوا يرخصون فى ترك الجماعة إلا لخائف أو مريض. 37 - باب هَلْ يُصَلِّي الإمَامُ بِمَنْ حَضَرَ، وَهَلْ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَطَرِ / 55 - فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: أنه خَطَبَ فِي يَوْمٍ ذِي رَدْغٍ، فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ لَمَّا بَلَغَ (حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ) ، قَالَ: قُلِ: الصَّلاةُ فِي الرِّحَالِ، فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، كَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا، فَقَالَ: كَأَنَّكُمْ أَنْكَرْتُمْ هَذَا، إِنَّ هَذَا فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، يَعْنِي رسول الله، إِنَّهَا عَزْمَةٌ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ. / 56 - وفيه: أَبَو سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: (جَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ، حَتَّى سَالَ السَّقْفُ - وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ - فَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ) . / 57 - وفيه: أَنَسَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: إِنِّي لا أَسْتَطِيعُ الصَّلاةَ مَعَكَ، وَكَانَ رَجُلا ضَخْمًا، فَصَنَعَ لِلنَّبِيِّ طَعَامًا، فَدَعَاهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَبَسَطَ لَهُ حَصِيرًا، وَنَضَحَ طَرَفَ الْحَصِيرِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَكْعَتَيْنِ. . . . الحديث. فيه من الفقه: أن الجماعات تقام بمن حضرها فى المساجد وفى البيوت. وفيه: أن المساجد لا تعطل فى المطر والطين ولا غيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 وفيه: أن الجمعة ليس لها عدد من الناس لا تجوز الصلاة دونهم. وأجمعوا أنه لا يخطب يوم الجمعة على واحدٍ، ولا يصلى معه جمعة. واختلفوا فى الاثنين: فقال الليث: يخطب الإمام باثنين، وقاله أبو حنيفة. وقال بعض أصحابه: لا يخطب إلا مع ثلاثة سوى الإمام. وفيه: أن الجمعة يُتخلف عنها فى المطر، كما يتخلف عن سائر الصلوات، وسيأتى ذلك فى كتاب الجمعة، إن شاء الله. والدَّوْسُ: الدرس، داست الخيل القتلى: إذا وطئتهم، ودياس البقر مثله، من كتاب (العين) ، وقد تقدم تفسير الردغ فى باب الكلام فى الأذان. 38 - باب إِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ وكان ابن عمر يبدأ بالعشاء. وقال أبو الدرداء: من فقه المرء إقباله على حاجته حتى يُقبل على صلاته وقلبه فارغ. / 58 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ عليه السلام: (إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ، وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 / 59 - وفيه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (إِذَا قُدِّمَ الْعَشَاءُ، فَابْدَءُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا صَلاةَ الْمَغْرِبِ، وَلا تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ) . / 60 - ورواه ابْنِ عُمَرَ، عن النبى أيضًا، قَالَ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ، وَتُقَامُ الصَّلاةُ، فَلا يَأْتِيهَا حَتَّى يَفْرُغَ منه، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإمَامِ. وقال ابْنِ عُمَرَ مرةً: قَالَ رسول الله: (إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ فَلا يَعْجَلْ، حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ، وَإِنْ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ) . اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث: فذكر ابن المنذر أنه قال بظاهره: عمر بن الخطاب، وابن عمر، وهو قول الثورى، وأحمد، وإسحاق. وقال الشافعى: يبدأ بالطعام إذا كانت نفسه شديدة التوقان إليه، فإن لم يكن كذلك ترك العشاء، وإتيان الصلاة أحبُّ إلى. وذكر ابن حبيب مثل معناه. وقال ابن المنذر: عن مالك، يبدأ بالصلاة، إلا أن يكون طعامًا خفيفًا. وقال أهل الظاهر: لا يجوز لأحدٍ حضر طعامه بين يديه، وسمع الإقامة، أن يبدأ بالصلاة قبل العشاء، فإن فعل فصلاته باطلة. وحجة الذين قالوا يبدأ بالصلاة، أنهم حملوا قوله عليه السلام: (فابدءوا بالعشاء) على الندب لما يخشى من شغل باله بالأكل فيفارقه الخشوع، وربما نقص من حدود الصلاة، أو سها فيها، وقد بين هذا المعنى أبو الدرداء فى قوله: (من فقه المرء إقباله على طعامه حتى يقبل على صلاته وقبله فارغ) ، ولو كان إقباله على طعامه هو الفرض عليه لم يقل فيه: من فقه المرء أن يبدأ به، بل كان يقول: من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 الواجب عليه اللازم له أن يبدأ به، فبين العلة فى قوله عليه السلام: (ابدءوا بالعشاء) أنها لما يخاف من شغل البال، وقد رأينا شغل البال فى الصلاة لا يفسدها؛ ألا ترى أن النبى صلى فى جُبة لها علم، فقال: (خذوها وائتونى بأنبجانية) ، فأخبر أن قلبه اشتغل بالعلم ولم تبطل صلاته. وقال عمر بن الخطاب: إنى لأجهز جيشى وأنا فى الصلاة. وقال عليه السلام: (لا يزال الشيطان يأتى أحدكم فيقول له: اذكر كذا، حتى يضل الرجل، لا يدرى كم صلى) ، ولم يأمرنا بإعادتها لذلك، وإنما استحب أن يكون المصلى فارغ البال من خواطر الدنيا؛ ليتفرغ لمناجاة ربه. وقد اشترط بعض الأنبياء على من يغزو معه أن لا يتبعه من ملك بُضع امرأة ولم يبن بها، ولا من بنى دارًا ولم يكملها؛ ليتفرغ قلبه من شواغل الدنيا، فهذا فى الغزو، فكيف فى الصلاة التى هى أفضل الأعمال، والمصلى واقف بين يدى الله. وقد احتج بهذا الحديث الكوفيون، وأحمد، وإسحاق، فى أن وقت المغرب واسع، وقالوا: لو كان لها وقت واحد، ما كان لأحدٍ أن يشتغل فيه بالأكل حتى يفوت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 39 - باب إِذَا دُعِيَ الإمَامُ إِلَى الصَّلاةِ وَبِيَدِهِ مَا يَأْكُلُ / 61 - فيه: عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: (رَأَيْتُ النبى يَأْكُلُ ذِرَاعًا يَحْتَزُّ مِنْهَا، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلاةِ، فَقَامَ، فَطَرَحَ السِّكِّينَ، فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) . هذا الحديث يفسر أمر الرسول أن يبدأ بالعشاء قبل الصلاة، ويدل على أنه على الندب لا على الوجوب؛ لأنه قام إلى الصلاة وترك الأكل. وقد تأول أحمد بن حنبل من هذا الحديث: أن من شرع فى الأكل، ثم أقيمت الصلاة أنه يقوم إلى الصلاة، ولا يتمادى فى الأكل؛ لأنه قد أخذ منه ما يمنعه من شغل البال، وإنما الذى أمر بالأكل قبل الصلاة من لم يكن بدأ به لئلا يشغل به باله. ويردُّ هذا التأويل أن ابن عمر قد روى فى الباب قبل هذا أن الرسول قال: (إذا كان أحدكم على الطعام فلا يعجل حتى يقضى حاجته منه) ، ومن كان على الطعام يقتضى تقدم أكله منه قبل إقامة الصلاة، وقد أمره الرسول ألا يعجل حتى يقضى حاجته منه، وهو خلاف ما تأوله أحمد بن حنبل. 40 - باب فِيمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَهْلِهِ فَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَخَرَجَ / 62 - فيه: الأسْوَدِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: مَا كَانَ الرسول يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ ، قَالَتْ: (كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ - يَعْنِى فى خِدْمَةَ أَهْلِهِ - فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ خَرَجَ إِلَيها) . لما لم يكن يذكر فى هذا الحديث أنه أزاح عن نفسه هيئة مهنته، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 دل أن المرء له أن يصلى مُشَمَّرًا، وكيف كان من حالاته؛ لأنه إنما يكره له التشمير وكفت الشعر والثياب إذا كان يقصد بذلك الصلاة، وكذلك قال مالك: أنه لا بأس أن يقوم إلى الصلاة على هيئة جلوسه وبذلته. وفيه: أن الأئمة والعلماء يتولون خدمة أمورهم بأنفسهم، وأن ذلك من فعل الصالحين. 41 - باب مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ، وَهُوَ لا يُرِيدُ إِلا أَنْ يُعَلِّمَهُمْ صَلاةَ النَّبِيِّ وَسُنَّتَهُ / 63 - فيه: مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ: أنه قال فِي مَسْجِدِ أبى قلابةَ: إِنِّي لأصَلِّي بِكُمْ، وَمَا أُرِيدُ الصَّلاةَ، أُصَلِّي كَيْفَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ يُصَلِّي، فَقُلْتُ لأبِي قِلابَةَ: كَيْفَ كَانَ يُصَلِّي؟ قَالَ: مِثْلَ شَيْخِنَا هَذَا، وَكَانَ الشَيْخ يَجْلِسُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَ فِي الرَّكْعَةِ الأولَى. قال المهلب: يجوز للإنسان من هذا الحديث أن يعلم غيره الصلاة والوضوء عيانًا وعملاً، كما فعل جبريل فى إمامته بالرسول حين أراهُ كيفية الصلاة عيانًا، وبهذا الحديث أخذ الشافعى فى أن كل من سجد السجدة الآخرة من الركعة الأولى أو الثانية، أنه لا يقوم حتى يستوى جالسًا، وهى صفة من صفات الصلاة، وقد ثبتت صفة أخرى عن النبى قال بها مالك وغيره: وستأتى فى موضعها، إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 42 - باب أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ أَحَقُّ بِالإمَامَةِ / 64 - فيه: أَبو مُوسَى، قَالَ: مَرِضَ النَّبِيُّ فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ، فَقَالَ: (مُرُوا أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) ، قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقٌ، إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، قَالَ: (مُرى أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) ، فَعَادَتْ، فَقَالَ: (مُرِي أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) ، فَعَادَتْ، فَقَالَ: (مُرِي أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ) ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ فِي حَيَاةِ الرسول. / 65 - روته عائشة. / 66 - وأنس. (1) / 67 - وحمزة الأسلمى، عن النبى عليه السلام. اختلف العلماء فى من أولى بالإمامة، فقالت طائفة: يؤم القوم أعلمهم وأفضلهم، قال عطاء: يؤم القوم أفقههم، فإن كانوا فى الفقه سواء فأقرؤهم، فإن كانوا فى الفقه والقراءة سواء فَأَسَنُّهم. قال مالك، والأزواعى، والشافعى: يؤم القوم أفقههم، وهو قول أبى ثور. وقال الليث: يؤمهم أفضلهم وخيرهم. وقالت طائفة: القارئ أولى من الفقيه، هذا قول الثورى، وأبى حنيفة، وأحمد، وإسحاق. واحتجوا بما رواه الأعمش، وشعبة، عن إسماعيل بن رجاء، عن أوس بن ضمعج، عن أبى مسعود البدرى، قال: قال رسول الله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا فى القراءة سواء فأعلمهم بالسُّنَّة، فإن كانوا فى السُّنَّةِ سواء فأقدمهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 هجرة، فإن كانوا فى الهجرة سواء، فأقدمهم إسلامًا) ، وزاد فيه شعبة: (ولا يؤم الرجل فى أهله، ولا فى سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه) ، والتكرمة: فراشه، قاله إسماعيل بن رجاء، وبما رواه ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان سالم مولى أبى حذيفة يؤم المهاجرين والأنصار فى مسجد قباء حين أقبلوا من مكة؛ لأنه كان أكثرهم قرآنًا، فيهم أبو سلمة بن عبد الأسود، وعمر بن الخطاب. قالوا: وحديث أبى مسعود معارض لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (مروا أبا بكر يُصلى بالناس) ؛ لأنه كان فيهم من كان أقرأ منه للقرآن. قيل: لا تعارض بينهما بحمد الله، ويحتمل أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (يؤم القوم أقرؤهم) فى أول الإسلام حين كان حفاظ القرآن قليلاً وقت قدم عمرو بن سلمة، وهو صبى، للصلاة فى مسجد عشيرته وفيه الشيوخ، وكان تنكشف عورته عند السجود، فدل أن إمامته بهم فى مثل هذه الحال كانت لعدم من يقرأ من قومه، ولهذا المعنى كان يؤم سالم المهاجرين والأنصار فى مسجد قباء، حين أقبلوا من مكة مهاجرين، لعدم الحُفَّاظ حينئذ. فأما وقت قوله (صلى الله عليه وسلم) : (مروا أبا بكر يصلى بالناس) فقد كان تقرر الإسلام وكثر حفاظ القرآن وتفقهوا فيه، فلم يكن الصديق، رضى الله عنه، على جلالته وثاقب فهمه، وتقدمه فى كل خير، يتأخر عن مساواة القُرَّاء، بل فضلهم بعلمه، وتقدمهم فى أمره، ألا ترى قول أبى سعيد: وكان أبو بكر أعلمنا. وقال الطبرى: لما استخلف النبى (صلى الله عليه وسلم) الصديق، رضى الله عنه، على الصلاة بعد إعلامه لأمته أن أحقهم بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله صح أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 يَوْمَ قَدَّمَهُ للصلاة كان اقرأ أمته لكتاب الله وأعلمهم وأفضلهم؛ لأنهم كانوا لا يتعلمون شيئًا من القرآن حتى يتعلموا معانيه وما يراد به، كما قال ابن مسعود: كان الرجل منَّا إذا تعلم عشر آياتٍ لم يجاوزهن حتى يتعلم معانيهن والعمل بهن. ولما كان النبى (صلى الله عليه وسلم) لا يستحق أن يتقدمه أحد فى الصلاة وجعل ما كان إليه منها بمحضر جميع الصحابة لأبى بكر، رضى الله عنه، كان جميع أمور الإسلام تبعًا للصلاة، ولهذا قدمه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للصلاة، والصلاة لا يقوم بها إلا الدعاة ومن إليه السياسة وعقد الخلافة؛ كصلاة الجمع والأعياد التى لا يصلح القيام بها إلا لمن إليه القيام بأمر الأمة وسياسة الرعيّة. وصح أنه أفضل الأُمة بعدهُ لقيام الحجة بأن أولى البرية بعقد الخلافة أفضلهم وأقومهم بالحق وأعدلهم وأوفرهم أمانة وأحسنهم على محجة الحق استقامة، وكذلك كان الصديق، رضى الله عنه. قال المهلب: إن قال قائل: إن عمر أعلم من أبى بكر، واستدل بحديث الذَّنُوب والذَّنُوبيْن، و (فى نزعه ضعف) ، قيل: إنه ليس كما ظننت، إنما الضعف فى المدة التى وليها أبو بكر، لا فيه ولا فى علمه، إنما كان الضعف فى نشر السنن لقرب مدته وضعفها عن أن يتمكن بتثبيت؛ لأنه ابتلى بارتداد الناس ومقاتلة العرب. وأما مراجعة عائشة، وحرصها أن يستخلف غير أبى بكر، فإنما خَشِيَتْ أن يتشاءم الناس بإمامة أبى بكر فيقولون: مُذْ أمنَّا هذا فقدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وقد روى هذا عنها، رضى الله عنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 43 - باب مَنْ قَامَ إِلَى جَنْبِ الإمَامِ لِعِلَّةٍ / 68 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَبَا بَكْرٍ الصديق أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فِي مَرَضِهِ، فَوَجَدَ من نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ، فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ يَؤُمُّ النَّاسَ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ اسْتَأْخَرَ، فَأَومَأ إِلَيْهِ أَنْ كَمَا أَنْتَ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حِذَاءَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى جَنْبِهِ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاةِ أَبِي بَكْرٍ) . سنة الإمامة تقديم الإمام، وتأخير الناس عنه، ولا يجوز أن يكون أحد مع الإمام فى صف إلا فى موضعين: أحدهما: العلة التى فى هذا الحديث وما كان فى معناها، مثل أن يضيق الموضع، فلا يقدر على التقدم، فيكون معهم فى صف، ومثل العراة أيضًا إذا أمن أن يرى بعضهم بعضًا. والموضع الثانى: أن يكون رجل واحد مع الإمام، فإنه يصلى على يمينه فى الصف معه، كما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) بابن عباس إذ أدارهُ من خلفه إلى يمينه، فإن صلى الإمام فى صف المأمومين بغير عذر، فقد أساء وخالف سنة الإمامة وصلاته تامة. وقال الطبرى: إنما أقام النبى (صلى الله عليه وسلم) أبا بكر إلى جنبه؛ ليعلم الناس تكبير ركوعه وسجوده، إذ كان (صلى الله عليه وسلم) قاعدًا، وفى القوم ممن يصلى بصلاته من لا يراه ولا يعلم ركوعه ولا سجوده، فبان أن الأئمة إذا كانوا بحيث لا يراهم من يأتم بهم، أن يجعلوا بينهم وبين من يأتم بهم علمًا يعلمون بتكبيره وركوعه، تكبيرهم وركوعهم، وأن لمن لا يرى الإمام أن يركع بركوع المؤتم به، ويسجد بسجوده، وأن ذلك لا يضره ويجزئه أن لا يرى الإمام فى كل ذلك إذا رأى من يصلى بصلاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 وقوله: (فلما رآه أبو بكر استأخر) ، دليل واضح أنه لم يكن عنده مستنكرًا أن يتقدم الرجل عن مقامه الذى قام فيه فى صلاته ويتأخر، وذلك عمل فى الصلاة من غيرها، فكلُّ ما كان نظير ذلك، فعلهُ فَاعِل فى صلاته لأمر دعاه إليه، فذلك جائز. 44 - باب مَنْ دَخَلَ لِيَؤُمَّ النَّاسَ فَجَاءَ الإمَامُ الأوَّلُ فَتَأَخَّرَ الأوَّلُ، أَوْ لَمْ يَتَأَخَّرْ، جَازَتْ صَلاتُهُ / 69 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو ابْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ، فَحَانَتِ الصَّلاةُ، فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: أَتُصَلِّي لِلنَّاسِ فَأُقِيمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالنَّاسُ فِي الصَّلاةِ، فَتَخَلَّصَ حَتَّى وَقَفَ فِي الصَّفِّ، فَصَفَّقَ النَّاسُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لا يَلْتَفِتُ فِي صَلاتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ، الْتَفَتَ فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنِ امْكُثْ مَكَانَكَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ، وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟) ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ لابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا لِي أرَاكُمْ أَكْثَرْتُمُ التَّصْفِيقَ؟ ، مَنْ رَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاتِهِ، فَلْيُسَبِّحْ، فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ) . فى هذا الحديث من الفقه الرد على الشافعى، وأهل الظاهر فى إنكارهم استخلاف الإمام فى الصلاة، إذا نابه فيها ما يخرجه منها، من يُتم بهم صلاتهم، وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، جاء وقد صلى أبو بكر بالناس بعض الصلاة، فتقدم النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وصار الإمام، وصار أبو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 بكر مأمومًا بعد أن كان إمامًا، وائتم القوم بالنبى (صلى الله عليه وسلم) بعد أن كانوا يأتمون بأبى بكر، وبنوا على صلاتهم، فكذلك حكم الإمام إذا سبقه حدث أو رعاف فقدم رجلاً، أن لهم أن يأتموا به بقية صلاتهم، ولا يضرهم خروج الإمام من موضعه، كما لم يضر الناس الذين كانوا يأتمون بأبى بكر، خروجهم من الائتمام به حين صار النبى (صلى الله عليه وسلم) إمامهم دون أبى بكر، قاله الطبرى. وممن قال: يجوز الاستخلاف فى الصلاة: عمر، وعلى، ومن التابعين: علقمة، وعطاء، والحسن، والنخعى، وهو قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، وقال الشافعى: الاختيار أن يصلى القوم فُرادى، فإن قدموا رجلاً يصلى بهم أجزأهم، وهذا الحديث حجة عليه، وهو الأصل فى جواز الاستخلاف. قال الطبرى: وفيه من الفقه خطأ قول من زعم أنه لا يجوز لمن أحرم بصلاة المكتوبة وصلى بعضها ثم أقيمت الصلاة أنه لا يجوز له أن يدخل مع الجماعة فى بقية صلاته حتى يخرج منها بتسليم، ثم يدخل معهم، فإن دخل معهم دون الإسلام فسدت عليه، ولزمه قضاؤها. ودليل هذا الحديث خلاف لقوله؛ وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ابتدأ صلاته التى كان صلى أبو بكر بعضها، وائتم به أصحابه فى بقيتها، فكان النبى مبتدئًا والقوم متممين، فكذلك حكم الذى صلى بعض صلاته، ثم أقيمت الصلاة، فدخل فيها مع الإمام يكون للإمام والذين أحرموا معه ابتداء، وتكون للرجل الذى دخل معه فيها بعد ما صلى بعضها تمامًا، إذا أتم بقيتها، وخرج من الائتمام فيما ليس عمله منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 قال المهلب: وفيه أن الإمام المعهود إذا أتى والناس فى الصلاة أنه ليس له أن يخرج من قدم إلا أن يأبى المستخلفُ أن يقيم فى الإمامة، وقد علم بلحوق الأفضل، كما فعل أبو بكر، ليستكمل فضل الرسول فى الإمامة. وقد قال كثير من العلماء: هذا موضع خصوص للرسول؛ لأنه لا يجوز التقدم بين يديه إلا أن يُقر ذلك عليه السلام، فلا يعزل المستخلف حتى يتم صلاته، إذ ليس من تباين الناس اليوم فى الفضل من يجب أن يتأخر له. قال غيره: ولسنا نقول: إن أبا بكر لو تمادى لم يجزه ذلك، بل نقول: إنه كان جائزًا له؛ لإشارة النبى: أن امكث مكانك. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وقد روى عيسى، عن ابن القاسم فى الإمام يحدث فيستخلف، ثم ينصرف، فيأتى، ثم يخرج المستخلف، ويتم الأول بالناس أن الصلاة تامة، قال: فإذا تمت الصلاة، فينبغى أن يشير إليهم حتى يتم لنفسه، ثم يسلم ويسلموا، فيجوز التقدم والتأخر فى الصلاة، وهذا القول مطابق للحديث وبه ترجم البخارى، وأكثر الفقهاء لا يقولون بإمامين لغير عذر. قال المهلب: وقول مالك ذلك؛ لأنه لا يجوز عندهم الاستخلاف فى الصلاة إلا لعذر، ولا الصلاة بإمامين لغير عذر. قال المهلب: وقول مالك: إنه من أحرم قبل إمامه أنه لا تجوز صلاته، وعليهم الإعادة، فإنه إنما أراد من ابتداء الصلاة بإمام واحد، فأحرموا قبله، ثم مضوا حتى أتموا الصلاة، وأما هذه الصلاة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 فإن الرسول حين دخل فيها صاروا كلهم محرمين قبله، وتمت صلاته وصلاتهم. وقال ابن المنذر: فى هذا الحديث دلالة على أن الرجل قد يكون فى بعض صلاته إمامًا، ومأمومًا فى بعضها، ويدل على إجازة الائتمام بصلاة من تقدم افتتاح المأموم الصلاة قبله. قال الطبرى: وفى هذا الحديث الدلالة الواضحة على أن من سبق إمامه بتكبيرة الإحرام، ثم ائتم به فى صلاته، أن صلاته تامة، وبيان فساد قول من زعم أن صلاته لا تجزئه، وذلك أن أبا بكر كان قد صلى بهم بعض الصلاة، وقد كانوا كبروا للإحرام معه، فلما أحرم رسول الله لنفسه للصلاة بتكبيرة الإحرام، ولم يستقبل القوم صلاتهم، بل بنوا عليها مؤتمين به، وقد كان تقدم تكبيرهم للإحرام تكبيرهُ. قال المؤلف: لا أعلم من يقول: إن من كبر قبل إمامه فصلاته تامة إلا الشافعى، بناءً على أصل مذهبه أن صلاة المأموم غير مرتبطة بصلاة الإمام، وسائر الفقهاء لا يجيزون صلاة من كبر قبل إمامه، وسيأتى الحجة للجماعة فى ذلك فى باب: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، إن شاء الله، وأذكر هنا طرفًا منها، وذلك أن النبى، عليه السلام، وإن كان كبر بعد تكبير أبى بكر، وبعد تكبير الناس، فإنه صار بمنزلة من استخلف، وصار تكبير القوم بعد تكبير الإمام الأول، وهو أبو بكر، والرسول الإمام الثانى يقوم مقام الأول، ألا ترى أنه بنى على صلاة أبى بكر، ولم يبتدئها، وإذا صح القول بالاستخلاف صحت هذه المسألة، ولم يلزم فيها أن يكون تكبير المأموم قبل إمامه، ولا يجوز أن يقضى بها على قوله عليه السلام: (فإذا كبر الإمام فكبروا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 قال غيره: وفيه من الفقه فضل أبى بكر على سائر الصحابة وأنهم كانوا يؤهلونه فى حياة رسول الله لما صار إليه بعد وفاته من الخلافة، ولا يرون لذلك الموضع غيره. قال المهلب: وقول المؤذن لأبى بكر: تصلى للناس، دليل على أن المؤذن هو الذى يقدم للصلاة؛ لأنه يخدم أمر الإمامة، وجماعة أهل المسجد، وهى ولاية ليس لأحد أن يتقدم إلى إمامة الجماعة إلا بأمره أو بأمر من ولى ذلك من المؤمنين. وفيه: أن الإمام ينتظر ما لم يُخش فوات الوقت الفاضل. قال المهلب: وفيه: جواز إعلام المصلى بما يسره. قال غيره: وفيه: أن الالتفات فى الصلاة للحاجة ومهم الأمر جائز. وفيه: شكر الله على الوجاهة فى الدين، وأن ذلك من أعظم النعم قال تعالى فى عيسى: (وجيها فى الدنيا والآخرة ومن المقربين) [آل عمران: 45] . وقال مالك: أنه من أخبر فى صلاته بما يسرهُ، يحمد الله عليه، وله أن يتركه تواضعًا وشكرًا لله وللمنعم به. 45 - باب إِذَا اسْتَوَوْا فِي الْقِرَاءَةِ فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ / 70 - فيه: مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ، فَلَبِثْنَا عِنْدَهُ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ النَّبِيُّ رَحِيمًا، فَقَالَ: (لَوْ رَجَعْتُمْ إِلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 بِلادِكُمْ، فَعَلَّمْتُمُوهُمْ، مُرُوهُمْ فَلْيُصَلُّوا صَلاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَصَلاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ) . قال المؤلف: لا خلاف بين العلماء أنهم إذا استووا فى القراءة والفقه والفضل، فالأسنُّ أولى بالتقديم، وموضع الدلالة من هذا الحديث على التساوى فى القراءة، وهو أن مالك بن الحويرث قال: قدمنا على الرسول ونحن شببة، فلبثنا عنده نحوًا من عشرين ليلة، فاستدل بتقاربهم فى السن وتساويهم فى مدة التعليم، وإن كان بعضهم أقبل لها وأسرع حفظًا من غيره، أنهم قد تساووا فى تعليم ما تجزئهم الصلاة به، ولذلك رقَّ عليهم النبى وصرفهم إلى أهليهم، ولو لم يتعلموا ما يجزئهم فى الصلاة ما صرفهم حتى يتعلموه. وقوله: (فليؤمكم أكبركم) ، فيه دليل أن الإمامة تستحق بالسن إذا كان معه علم وفضل، وأما إن تعرى السن من العلم والقراءة والفضل، فلا حظَّ للكبير فى الإمامة، بدليل تقديم النبى عمرو بن سلمة وهو صبى فى مسجد عشيرته، وفيهم الشيوخ والكهول. 46 - باب إِذَا زَارَ الإمَامُ قَوْمًا فَأَمَّهُمْ / 71 - فيه: عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: (اسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ عليه السلام، فَأَذِنْتُ لَهُ، فَقَالَ: (أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟) ، فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أُحِبُّ، فَقَامَ، وَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ فَسَلَّمْنَا) . هذا الباب رد لما روى عن النبى أنه قال: (من زار قومًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 فلا يؤمهم) ، رواه وكيع عن أبان العطار، عن بديل بن ميسرة، عن أبى عطية، عن رجل منهم قال: كان مالك بن الحويرث يأتينا فى مصلانا هذا، فحضرت الصلاة، فقلنا له: تقدم، فقال: لا، ليتقدم بعضكم، حتى أحدثكم لم لا أتقدم، سمعت رسول الله يقول: (من زار قومًا فلا يؤمهم، وليؤمهم رجل منهم) ، وهذا إسناد ليس بقائم؛ لأن أبا عطية مجهول يرويه عن مجهول، وصلاته عليه السلام فى بيت عتبان مخالف له، ويمكن الجمع بين الحديثين، وذلك أنه يحمل قوله عليه السلام: (من زار قومًا فلا يؤمهم) ، لو صح، أن يكون إعلامًا منه أن صاحب الدار أولى بالإمامة فيه من الداخلين عليه، إلا أن يشاء صاحب الدار أن يقدم غيره ممن هو أفضل منه، فإنه يستحب له ذلك، بدليل تقديم عتبان بن مالك فى بيته للنبى عليه السلام، وحمل الحديثين على فائدتين أولى من تضادهما. وقد روى ابن القاسم، عن مالك أنه: يستحب لصاحب المنزل إذا حضر فيه من هو أفضل منه أن يقدمه للصلاة، ولا خلاف بين العلماء فى أن صاحب الدار أولى بالإمامة منه، وقد روى عن أبى موسى الأشعرى، أنه أم ابن مسعود وحذيفة فى داره، وفعله ابن عمر بمولى، فصلى خلف الموالى. وقال عطاء: صاحب الدار يؤم من جاءه، وهو قول مالك، والشافعى، ولم أجد فيه خلافًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 47 - باب إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ وَصَلَّى الرسول فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ بِالنَّاسِ، وَهُوَ جَالِسٌ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا رَفَعَ قَبْلَ الإمَامِ يَعُودُ، فَيَمْكُثُ بِقَدْرِ مَا رَفَعَ، ثُمَّ يَتْبَعُ الإمَامَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فِيمَنْ يَرْكَعُ مَعَ الإمَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَلا يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ، يَسْجُدُ لِلرَّكْعَةِ الآخِرَةِ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَقْضِي الرَّكْعَةَ الأولَى بِسُجُودِهَا، وَفِيمَنْ نَسِيَ سَجْدَةً حَتَّى قَامَ: يَسْجُدُ. / 72 - فيه: عَائِشَةَ قَالْت: لما مَرَضِ النبى عليه السلام، قَالَ: (ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ) ، قَالَتْ: فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ، فَذَهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: (أَصَلَّى النَّاسُ؟) ، قُلْنَا: لا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ) ، قَالَتْ: فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ ثلاث مرات، وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ، يَنْتَظِرُونَ النَّبِيَّ، عَلَيْهِ السَّلام، لِصَلاةِ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ، فَأَرْسَلَ رسول الله إِلَى أَبِي بَكْرٍ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الأيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ الرسول وَجَدَ فى نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ، لِصَلاةِ الظُّهْرِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ الرسول بِأَنْ لا يَتَأَخَّرَ، قَالَ: أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ، فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي، وَهُوَ يَأْتَمُّ بِصَلاةِ رسول الله، وَالنَّاسُ يِصَلون بصلاةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ قَاعِدٌ. / 73 - وفيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: صَلَّى النبى، عليه السلام، وَهُوَ شَاكٍ فِي بَيْتِهِ، فَصَلَّى جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ: أَنِ اجْلِسُوا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: (إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا) . / 74 - وفيه: أَنَسِ قال: رَكِبَ رَسُولَ اللَّهِ فَرَسًا، فَصُرِعَ عَنْهُ، فَجُحِشَ شِقُّهُ الأيْمَنُ، فَصَلَّى صَلاةً مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَهُوَ قَاعِدٌ، فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: (إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا، فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ) . قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: قَوْلُهُ: (وإِذَا صَلَّى جَالِسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا) ، هُوَ فِي مَرَضِهِ الْقَدِيمِ، ثُمَّ صَلَّى عليه السلام بَعْدَ ذَلِكَ جَالِسًا، وَالنَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامًا، ولَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْقُعُودِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالآخِرِ فَالآخِرِ، مِنْ فِعْلِه عليه السلام. قال المؤلف: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا) ، فإن العلماء اختلفوا هل يكون عمل المأموم والإمام معًا أو بعده، فقال ابن حبيب: قال مالك: ويفعل المأموم مع الإمام إلا فى الإحرام والقيام من اثنتين والسلام، فلا يفعله إلا بعده، وقال أبو حنيفة، وزفر، ومحمد، والثورى: يكبر فى الإحرام مع الإمام. وروى سحنون، عن ابن القاسم فى العتبية: إن أحرم معه أجزأه، وبعده أصوب، وهو قول عبد العزيز بن أبى سلمة. وفى المجموعة عن مالك: إن أحرم معه أو سلم يعيد الصلاة، وقاله أصبغ، وحققه ابن عبد الحكم، وقال أبو يوسف، والشافعى: لا يكبر المأموم حتى يفرغ الإمام من التكبير، وقال ابن أبى زيد فى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 كتاب آخر: والعمل بعده فى كل شىء أحسن؛ لقوله عليه السلام: (إذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا) ، وقاله أحمد بن حنبل وهو معنى قول الشافعى. وحجة هذا القول، قوله عليه السلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا) ، فجعل فعلهم عقيب فعله، فالفاء للتعقيب، وإذا لم يتقدمه الإمام بالتكبير، والسلام، فلا يصح الائتمام به؛ لأنه محال أن يدخل المأموم فى صلاة لم يدخل فيها إمامه، ولا يدخل فيها الإمام إلا بالتكبير، والإمام اشتق من التقدم، والمأموم من الاتباع، فوجب أن يتبع فعل المأموم بعد إمامه. ووجه قول ابن أبى سلمة، وابن القاسم، وابن عبد الحكم أنه يجزئه إحرامه معه؛ لأن الائتمام معناه الامتثال لفعل الإمام، فهو إذا فعل مثل فعله، فسواء أوقعه معه أو بعده، فقد حصل ممتثلاً لفعله. واختلفوا فيمن ركع أو سجد قبل إمامه، فروى عن ابن عمر أنه قال: لا صلاة له، وهو قول أهل الظاهر. وروى عن عمر بن الخطاب أنه من رفع رأسه قبل الإمام فى ركوع أو سجود، فليضع رأسه بعد رفعه إياه، كقول ابن مسعود، قال الحسن والنخعى: إذا رفع من السجود قبله يعود فى سجدته قبل أن يرفع الإمام رأسه، وهو قول مالك، وأحمد، وإسحاق. وقال الشافعى، وأبو ثور: إذا ركع أو سجد قبله فأدركه الإمام وهو راكع أو ساجد فقد أساء، ويجزئه، وقد شذَّ الشافعى فقال: إن كبر للإحرام قبل إمامه، فصلاته تامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 وقال مالك والكوفيون: إن كبر قبل إمامه كبر بعده، وأجزأه وإن لم يستأنف التكبير بطلت صلاته. والحجة على قول الشافعى قوله فى حديث أنس، وأبى هريرة: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا) ، ذكر ذلك البخارى فى باب (إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة) ، بعد هذا، وقد تقدم قبل هذا أن الفاء للتعقيب، ومن مذهب الشافعى الاقتداء بالإمام فى الفعل والمقام، وأن المأموم لو صلى قدام إمامه لم تصح صلاته، فيلزمهم فى تكبيرة الإحرام مثله. فإن قالوا: لو وقع منه سبق فى ركوعه لركوع الإمام لم تبطل صلاته، فكذلك فى تكبيرة الإحرام. قيل: الفرق بينهما صحيح، وذلك أنه لا يجوز أن يتحلل بالسلام من الصلاة قبل إمامه، فكذلك لا يجوز أن يدخل فيها قبله، وإذا أحرم بعده فلا يضره أن يقع سبق فى بعضها؛ لأن عقدها قد صح معه. وأما قول الحسن فيمن ركع ولا يقدر على السجود، فإن العلماء اختلفوا فى ذلك، فقال الكوفيون: يستحب له أن يتأخر حتى يرفع الرجل رأسه فيسجد بالأرض، فإن لم يفعل وسجد على ظهر رجل فقد أساء، وتجزئه وهو قول الثورى، والشافعى. وقال مالك: لا تجزئه ويعيد. واحتج الكوفيون بما روى عن عمر قال: (من أذاهُ الحَرُّ، فليسجد على ثوبه أو على ظهر أخيه) ، ولا مخالف له فى الصحابة، ذكره الطحاوى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 وأما قوله عليه السلام: (وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد) ، ففيه حجة لقول مالك، والليث، وأبى حنيفة أن المأموم يقتصر على أن يقول: ربنا ولك الحمد، دون أن يقول: سمع الله لمن حمده، سيأتى قول من خالف هذا فى بابه إن شاء الله، وكذلك اختلفوا فيمن صلى أمام إمامه، فقال الكوفيون، والثورى، والشافعى فى رواية البويطى: لا تجزئه. وقال مالك، والليث: تجزئه، ذكره الطحاوى، وقال ابن المنذر: إن قول إسحاق، وأبى ثور، كقول مالك، والليث، واحتج ابن القصار لمالك بأن دار آل عمر بن الخطاب كانت أمام المسجد، وكانوا يصلون بصلاة الإمام فى المسجد، ولا مخالف فيه، وحجة من خالف ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، فإذا كان قدامه فقد خرج عن الموضوع. قيل له: إنما قيل الإمام؛ لأن أفعاله متقدمة لأفعالهم، ولم يرد بذلك الموضع؛ ألا ترى أن المأموم قد يقف عن يمين الإمام، فليس الإمام أمامه، ولو وقف الإمام عن ذراعين من الكعبة، ووقف المؤتمون به عن ذراع منها، لأجزأتهم صلاتهم، فثبت أن المراد اتباع أفعاله فى الصلاة، حتى توقع أفعاله بعد أفعاله، والله الموفق. وأما قوله عليه السلام: (وإذا صلى جالسًا، فصلوا جلوسًا أجمعون) ، فاختلف العلماء فى إمامة الجالس، فقالت طائفة: يجوز أن يؤم الجالس الجلوس إذا كان الإمام مريضًا، وإن كان من خلفه قادرين على القيام، روى هذا عن عطاء، وهو قول الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق. وقالت طائفة: يجوز أن يصلى القيام خلف الإمام القاعد، ولا يسقط عنهم فرض القيام، لسقوطه عن إمامهم، هذا قول أبى حنيفة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 وأبى يوسف، والأوزاعى، وزفر، والشافعى، وأبى ثور، روى مثله الوليد بن مسلم، عن مالك، فقال: أوجب إلى أن يقوم إلى جنبه من يُعلم الناس بصلاته، كما فعل أبو بكر. وقالت طائفة: لا يجوز أن يؤم أحد قاعدًا، هذا قول مالك، والثورى، ومحمد بن الحسن، قال محمد: وصلاته عليه السلام، قاعدًا فى مرضه خاص له، لا يجوز لأحد بعده، واحتج ابن القاسم: بأن مالك حدثه عن ربيعة بأن أبا بكر كان الإمام بالنبى، ولا يجوز لأحد أن يؤم قاعدًا فى فريضة ولا نافلة، وإن عرض له ما يمنعه استخلف. وحجة أهل المقالة الأولى: قوله عليه السلام: (وإذا صلى جالسًا، فصلوا جلوسًا) . وقال أحمد بن حنبل: وهذه سنة ثابتة ينبغى أن يصلى القعود، وإن كانوا لا علة بهم، وراء المريض الجالس، وقد فعل ذلك أربعة من أصحاب النبى: جابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وأسيد بن حضير، وقيس بن قَهْد، فدل ذلك من فعلهم أنه ليس بخاص بالنبى، عليه السلام، ولا منسوخ بفعله؛ إذ لو كان هذا، لعابه سائر الصحابة على هؤلاء الأربعة الذين فعلوه، وقد روى عبد الرزاق، عن أنس بن مالك أنه فعل مثله. وأيضًا فإن صلاته عليه السلام، فى مرضه لا تشبه الصلاة التى أمر فيها بالقعود، حين جُحِشَ شقه؛ لأنها صلاة ابتدأ الإمام فيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 قاعدًا، فعليهم القعود، لسنته عليه السلام، وصلاته فى مرضه هى صلاة أبى بكر ابتدأ فيها القيام، فقاموا خلفه ثم جاء النبى، عليه السلام، بعد ذلك فقعد إلى جنبه، وهو مريض فالصلاة على ما ابتدئت، فلا تشبه هذه هذه، ولا تنسخ هذه هذه، والأولى سُنة على معناها، والثانية سُنة على معناها. وحجة أهل المقالة الثانية: صلاته عليه السلام، فى مرضه الأخير بالناس قاعدًا وهم قيام، قالوا: وهو ناسخ لصلاته بالناس جالسًا وهم جلوس. قال ابن شهاب: كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله كما قال الحميدى. قال الطحاوى: واحتج أهل المقالة الثالثة وقالوا: لا حجة لكم فى هذا الحديث؛ لأن رسول الله كان فى تلك الصلاة مأمومًا، وقد روى شعبة، عن نعيم بن أبى هند، عن أبى وائل، عن مسروق، عن عائشة، قالت: صلى النبى فى مرضه الذى مات فيه خلف أبى بكر قاعدًا. وروى ابن أبى مريم، عن يحيى بن أيوب، حدثنا حميد، عن ثابت البنانى، عن أنس ابن مالك: (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلى خلف أبى بكر قاعدًا فى ثوب واحد مخالف بين طرفيه، فكانت آخر صلاة صلاها) . واحتج عليهم أهل المقالة الثانية بأنه إن كان روى هذا، فإن أفعال النبى فى صلاته تلك تدل على أنه كان إمامًا، وذلك أن عائشة قالت فى حديث الأسود عنها: (فقعد رسول الله عن يسار أبى بكر) ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 وذلك قعود الإمام لا قعود المأموم؛ لأنه لو كان أبو بكر إمامًا له، لكان عليه السلام يقعد عن يمينه، فلما قعد عن يساره دل ذلك على ما قلناه، ذكره البخارى فى باب الرجل يأتم بالإمام، ويأتم الناس بالمأموم بعد هذا. قال الطحاوى: وحجة أخرى وهى أن ابن عباس روى أن نبى الله كان إمامًا، وقال فى حديثه، فأخذ رسول الله فى القراءة من حيث انتهى أبو بكر، ولولا أنه كان عليه السلام الإمام ما قرأ؛ لأن تلك الصلاة كانت صلاة يجهر فيها بالقراءة، ولولا ذلك ما علم رسول الله بالموضع الذى انتهى إليه أبو بكر، ولا خلاف بين الناس أن المأموم لا يقرأ خلف الإمام، كما يقرأ الإمام، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار. وأما وجهه من طريق النظر، فإنا رأينا الأصل المجتمع عليه أن دخول المأموم فى صلاة الإمام قد يوجب فرضًا على المأموم لم يكن عليه قبل دخوله، ولم نره يسقط فرضًا عليه قبل دخوله، فمن ذلك أنا رأينا المسافر يدخل فى صلاة المقيم، فيجب عليه أن يصلى أربعًا ولم يكن ذلك واجبًا عليه قبل دخوله معه، وإنما أوجبه عليه دخوله معه، ورأينا مقيمًا لو دخل خلف مسافر فصلى بصلاته حتى فرغ أتى بتمام صلاة المقيم، فالنظر على ذلك أن يكون الصحيح الذى عليه فرض القيام إذا دخل مع المريض الذى سقط عنه فرض القيام ألا يسقط عنه فرض كان عليه قبل دخوله فى الصلاة. قال غيره: وما روى عن عائشة أن أبا بكر كان الإمام، فالروايات الثابتة عنها من رواية الأسود، وعروة، وعبيد الله بن عبد الله، كلهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 عن عائشة أن الرسول كان الإمام أكثر وأصح، وهو الذى صححه البخارى، ولو جعلنا ما روى عن عائشة متعارضًا، لكانت رواية ابن عباس حجة كافية فى ذلك، فلم يختلف عنه أن النبى، عليه السلام، كان الإمام. وأما حديث ربيعة فلا يحتج بمثله لانقطاعه، وقد يحتمل أن يكون أبو بكر المتقدم فى صلاة من صلوات مرضه؛ لأن مرضه كان أيامًا، وخرج فيها مرارًا، ولا خلاف فى جواز صلاة المريض الجالس خلف القائم. وقوله: (فذهب لينوء) ، أى: تمايل ليتحامل على القيام، قال صاحب العين: ينوء بالدابة، أى: يميل بها، وكل ناهض بثقل كذلك، وفى القرآن: (إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة) [القصص: 76] ، وناء النجم ينوء: مال إلى السقوط. 48 - باب مَتَى يَسْجُدُ مَنْ خَلْفَ الإمَامِ قَالَ أَنَسٌ: فَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا. / 75 - فيه: الْبَرَاءُ قَالَ: (كَانَ النبى، عليه السلام، إِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ، حَتَّى يَقَعَ النَّبِيُّ سَاجِدًا، ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ) . وهذا الحديث حجة لمن قال من العلماء أن فعل المأموم يقع بعد فعل الإمام فى أفعال الصلاة كلها، وقد تقدم اختلافهم فى ذلك فى الباب قبل هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 وقال يحيى بن معين: وقول أبى إسحاق: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا البراء، وهو غير كذوب، يريد أن عبد الله بن يزيد كان غير كذوب، ولا يقال للبراء: أنه غير كذوب، قال يحيى بن معين: وعبد الله بن يزيد هذا هو الخطمى، وهو جد الأنصارى الذى كان على الغارمين، وكان عبد الله بن يزيد واليًا لابن الزبير على الكوفة. 49 - باب إِثْمِ مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإمَامِ / 76 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ قال: قَالَ النَّبِيِّ: (أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ، إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإمَامِ، أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ، أَوْ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ) . معنى هذا الحديث الوعيد لمن خالف إمامه فى أفعال الصلاة، ومن خالف الإمام، فقد خالف سنة المأموم، وأجزأته صلاته عند جمهور العلماء؛ لأن النبى، عليه السلام، لم يقل إن من فعل ذلك فصلاته فاسدة. وفى المجموعة لابن القاسم، عن مالك: أن من رفع قبل إمامه يظن أنه رفع، فليرجع ساجدًا أو راكعًا، ولا يقف ينتظره، فإن عجل الإمام فليتمادى ويجزئه، وهو قول أكثر العلماء، وقد تقدم فى (باب إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، من خالف هذا وزيادة فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 50 - باب إِمَامَةِ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى وكانت عائشة يؤمها عبدها ذكوان من المصحف، وولد البغى، والأعرابى والغلام الذى لم يحتلم، لقول النبى، عليه السلام: (يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله) ، ولا يمنع العبد من الجماعة لغير علة. / 77 - فيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الأوَّلُونَ الْعُصْبَةَ، مَوْضِعٌ بِقُبَاءٍ، قَبْلَ مَقْدَمِ الرَسُولِ، كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا. / 78 - وفيه: أَنَسِ، قَالَ عليه السلام: (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ) . قال المؤلف: أما العبد والمولى وولد البغى والأعرابى والصبى الذى لم يحتلم فإمامتهم جائزة؛ لأنهم كلهم دخلوا فى قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) ، وهذا الحديث وإن كان أشار إليه البخارى، واعتمد عليه، فلم يخرجه فى مصنفه هذا، وقد ذكرته فى باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة وهو حديث حسن أخرجه المصنفون، وهو أصل فى معناه. وممن أجاز إمامة العبد غير عائشة: أبو ذر، وحذيفة، وابن مسعود، ومن التابعين: الحسن، وابن سيرين، والنخعى، والشعبى، والحكم، ومن الفقهاء: الثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وكره إمامته أبو مجلز، وقال مالك: لا يؤم العبد الأحرار إلا أن يقرأ وهم لا يقرءون، ولا يؤمهم فى عيد ولا جمعة، والحجة له أن إمامة سالم للمهاجرين إنما كانت لأنه كان فى أول الإسلام، وكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 أكثرهم قرآنًا، ولم تجز إمامته فى الجمعة؛ لأنها لما سقطت عنه شبهه بمن لا تجب عليه أصلاً، ومن أجاز إمامته فيها قال: إذا حضر الجمعة صار من أهلها وأجزأت عنه الركعتان إذا كان مأمومًا، فكذلك إذا كان إمامًا. وأما قوله عليه السلام: (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم حبشى كأن رأسه زبيبة) ، فقد رواه أنس عن النبى وقال فيه: عبد حبشى، ذكره البخارى فى كتاب الأحكام. ففيه حجة لمن أجاز إمامة العبد راتبًا وفى الجمعة وغيرها؛ لأنه عليه السلام إذا أمر بطاعة العبد الحبشى، فقد أمر بالصلاة خلفه، وقد قال النخعى: رب عبد خير من مولاه. وممن أجاز إمامة ولد الزنا إذا كان مرضيًا: النخعى، والشعبى، وعطاء، والحسن، وقالت عائشة: ليس عليه من وزر أبويه شىء) ولا تزر وازرة وزر أخرى) [الأنعام: 64] ، وهو قول الثورى، وأبو حنيفة، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق. وكره إمامته: عمر بن عبد العزيز، ومجاهد، وقال مالك: أكره أن يكون إمامًا راتبًا، وإنما ذلك لما يناله من الألسنة وتأثم الناس. وأما الأعرابى، فإن كان عالمًا فهو والحضرى سواء، ولكن الكلام خرج فيمن كره إمامته على الأغلب من جهلهم بحدود الصلاة، وممن كره إمامته: أبو مجلز، ومالك بن أنس، وقال: لا يؤم الأعرابى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 وإن كان أقرأهم، لما ذكرنا من جهلهم بسنة الصلاة، وأجاز إمامته: الثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وإسحاق. وأما إمامة الصبى الذى لم يحتلم فأجازها: الحسن البصرى، وهو قول الشافعى، وإسحاق، وأبى ثور، وكرهها: عطاء، والشعبى، وهو قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة. وأجاز الإمامة من المصحف: ابن سيرين، والحكم بن عتيبة، وعطاء، والحسن، وكان أنس يصلى وغلامه خلفه يمسك له المصحف، فإذا تعايا فى آية فتح عليه، وأجازه مالك فى قيام رمضان، وكرهه النخعى، وسعيد بن المسيب، والشعبى، ورواية عن الحسن، وقال: هكذا يفعل النصارى. 51 - باب إِذَا لَمْ يُتِمَّ الإمَامُ وَأَتَمَّ مَنْ خَلْفَهُ / 79 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أَنَّ نبى اللَّهِ قَالَ: (يُصَلُّونَ لَكُمْ، فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ، وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ) . قال المهلب: فيه جواز الصلاة خلف البر والفاجر إذا خيف منه. وفيه: أن الإمام إذا نقص ركوعه وسجوده أنه لا تفسد صلاة من خلفه، إلا أن ينقص فرض الصلاة، فلا يجوز اتباعه، فإن خيف منه صلى معه بعد أن يصلى فى بيته وتكون الصلاة نافلة، وقال غيره: قوله: (فإن أصابوا فلكم) ، أى: أصابوا الوقت، وكذلك قوله: (وإن أخطئوا) ، يعنى: الوقت، وكذلك كان بنو أمية يؤخرون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 الصلاة تأخيرًا شديدًا، ويد على صحة هذا ما رواه أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: قال رسول الله: (لعلكم تدركون أقوامًا يصلون الصلاة لغير وقتها، فإذا أدركتموهم فصلوا فى بيوتكم فى الوقت الذى تعرفون، ثم صلوا معهم، واجعلوها سبحة) ، ورواه ثوبان، وأبو ذر، عن نبى الله. فهذا الحديث يفسر حديث أبى هريرة، ويدل أن قوله عليه السلام: (فإن أخطئوا فلكم) ، يعنى: صلاتكم فى بيوتكم فى الوقت، وكذلك كان جماعة من السلف يفعلون، روى عن ابن عمر أن الحجاج لما أخر الصلاة بعرفة، صلى ابن عمر فى رحله، وثم الناس، ووقف، قال: فأمر به الحجاج فحبس، وكان الحجاج يؤخر الصلاة يوم الجمعة، وكان أبو وائل يأمرنا أن نصلى فى بيوتنا، ثم نأتى المسجد، وكان إبراهيم يصلى فى بيته، ثم يأتى الحجاج فيصلى معه، وفعله مسروق مع زياد. وكان عطاء وسعيد بن جبير فى زمن الوليد إذا أخر الصلاة أومأ فى مجالسهما، ثم صليا معه، وفعله مكحول مع الوليد أيضًا، وهو مذهب مالك فى أئمة الجور إذا أخروا الصلاة عن وقتها، وقد روى عن بعض السلف أنهم كانوا لا يعيدون الصلاة معهم. وروى ابن أبى شيبة، عن وكيع قال: حدثنا بسام قال: سألت أبا جعفر محمد بن على عن الصلاة خلف الأمراء، فقال: صل معهم، قد كان الحسن والحسين يعتدان الصلاة خلف مروان، قلت: إن الناس كانوا يزعمون أن ذلك تقية، قال: وكيف إن كان الحسن بن على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 ليسبُّ مروان فى وجهه وهو على المنبر حتى يولى، وقيل لجعفر بن محمد: كان أبوك يصلى إذا رجع إلى البيت؟ فقال: لا والله، ما كان يزيد على صلاة الأئمة، وقال إبراهيم: كان عبد الله يصلى معهم إذا أخروا عن الوقت قليلاً، ويرى أن مأثم ذلك عليهم. 52 - باب إِمَامَةِ الْمَفْتُونِ وَالْمُبْتَدِعِ وَقَالَ الْحَسَنُ: صَلِّ وَعَلَيْهِ بِدْعَتُهُ. / 80 - فيه: عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الخِيَارٍ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ، وَهُوَ مَحْصُورٌ، فَقَالَ: إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍ، وَنَزَلَ بِكَ مَا نَرَى، وَيُصَلِّي لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ، وَنَتَحَرَّجُ، فَقَالَ: الصَّلاةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ للنَّاسُ، فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِن أَسَاءُوا، فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ. وقَالَ الزُّهْرِيُّ: لا نَرَى أَنْ يُصَلَّى خَلْفَ الْمُخَنَّثِ إِلا مِنْ ضَرُورَةٍ لابُدَّ مِنْهَا. / 81 - وفيه: أَنَسَ قَالَ: قال النَّبِيُّ عليه السلام، لأبِي ذَرٍّ: (اسْمَعْ وَأَطِعْ، وَلَوْ لِحَبَشِيٍّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ) . اختلف العلماء فى تأويل قوله: (ويصلى لنا إمام فتنة) ، فقال ابن وضاح: إمام الفتنى عبد الرحمن بن عديس البلوى، هو الذى أجلب على عثمان بأهل مصر، وروى ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو المعافرى أنه سمع أبا ثور الفهمى أنه رأى ابن عديس صلى لأهل المدينة الجمعة وطلع منبر الرسول فخطب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 والقول الثانى: قال أبو جعفر الداودى: معنى قوله: (يصلى لنا إمام فتنة) ، أن غير إمامهم يصلى لهم فى حين فتنة، ليس أن ذلك الإمام يدعو إلى فتنة ويسعى فيها ويدل على ذلك قول عثمان: (الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم) ، ولم يذكر الذى أمهم بمكروه، وذكر أن فعله من أحسن الأعمال، وحذره من الدخول فى الفتنة. وقال غيره: والدليل على صحة هذا التأويل أنه قد صلى بالناس فى حصار عثمان جماعة من الفضلاء منهم: أبو أيوب، وسهل بن حنيف، وابنه أبو أمامة، ذكره عمر بن شبة بإسناد عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: صلى بالناس يوم الجمعة سهل بن حنيف. قال عمر بن شبة: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا يوسف بن الماجشون، قال: أخبرنا عقبة بن مسلم المزنى أن آخر خرجة عثمان يوم الجمعة، وعليه حلة حمراء مصفرًا رأسه ولحيته بورس، فما خلص إلى المنبر حتى ظن أن لن يخلص، فلما استوى عليه حصبه الناس، فقام رجل من بنى غفار، فقال: والله لنغربنك إلى جبل الدخان، فلما نزل حيل بينه وبين الصلاة، وصلى بالناس أبو أمامة بن سهل بن حنيف. فقال عمر بن شبة: وحدثنا محمد بن جعفر، حدثنا معمر، عن الزهرى، عن عروة، عن عبيد الله بن عدى بن خيار، قال: دخلت على عثمان وهو محصور، وعلىّ يصلى بالناس فقلت: يا أمير المؤمنين، إنى أتحرج الصلاة مع هؤلاء وأنت الإمام، فقال: إن الصلاة أحسن ما عمل به. . . . الحديث. وقال جويرية: عن نافع، لما كان يوم النحر جاء علىّ، فصلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 بالناس وعثمان محصور، وقال الزهرى: صلى سهل بن حنيف، وعثمان محصور، وصلى يوم العيد على بن أبى طالب، وقال الحلوانى: حدثنا المسيب بن واضح، قال: سمعت ابن المبارك يقول: ما صلى علىّ بالناس حين حوصر عثمان إلا صلاة العيد وحدها. قال يحيى بن آدم: ولعلهم قد صلى بهم رجل بعد رجل، قال الداودى: لم يكن فى القائمين على عثمان أحد من الصحابة إنما كانت فرقتان: فرقة مصرية، وفرقة كوفية، فلم يعتبوا عليه شيئًا إلا خرج منه بريئًا، فطالبوه بعزل من استعمل من بنى أمية فلم يستطع ذلك وهو على تلك الحالة، ولم يخل بينهم وبينهم لئلا يتجاوزوا فيهم القصد، وصبر واحتسب. وروى عنه أنه رأى النبى، عليه السلام، تلك الليلة فى المنام، فقال له: (قد قمصك الله قميصًا، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه) ، يعنى الخلافة، وكان قد أخبر عليه السلام أنه يموت شهيدًا على بلوى تصيبه، فلذلك لم ينخلع من الخلافة، وأخذ بالشدة على نفسه طلبًا لعظيم الأجر، ولينال الشهادة التى بشره الرسول بها. قال الداودى: فلما طال الأمر صلى أبو أيوب الأنصارى بالناس مُدَّة؛ لأن الأنصار لم يكن منهم أحد يدعى الخلافة، ثم كفَّ أبو أيوب وصلى أبو أمامة بن سهل بن حنيف، وصلى بهم صلاة العيد على بن أبى طالب؛ لأنه لا يقيم الجمع والأعياد إلا الأئمة ومن يستحق الإمامة، وفعل ذلك علىّ لئلا تضاع سنة ببلد الرسول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 ففى هذا من الفقه: المحافظة على إقامة الصلوات، والحض على شهود الجمعات فى زمن الفتنة؛ خشية انخراق الأمر وافتراق الكلمة وتأكيد الشتات والبغضة، وهذا خلاف قول بعض الكوفيين أن الجمعة بغير والٍ لا تجزئ. وقال محمد بن الحسن: لو أن أهل مصر مات واليهم جاز لهم أن يقدموا رجلاً منهم فيصلى بهم حتى يقدم عليهم والٍ. وقال مالك، والأوزاعى، والشافعى: تجوز الجمعة بغير سلطان كسائر الصلوات، قال مالك: إن لله فرائض لا ينقصها أن وليها والٍ أو لم يلها، منها الجمعة. قال الطحاوى: فى صلاة علىّ العيد بالناس وعثمان محصور: هذا أصل فى كل سبب يُخلف الإمام عن الحضور أن على المسلمين إقامة رجل يقوم به، وهذا كما فعل المسلمون يوم مؤتة، لما قتل الأمراء اجتمعوا على خالد بن الوليد، وأيضًا فإن المتغلب والخارج على الإمام تجوز الجمعة خلفه، فمن كان فى طاعة الإمام أحرى بجوازها خلفه. قال المهلب: فيه أن الصلاة وراء من تكره الصلاة خلفه أولى من تفرق الجماعة؛ لقول عثمان: فإذا أحسنوا فأحسن معهم، فغلب الإحسان فى جماعتهم على الإحسان فى التورع عن الصلاة فى زمن الفتنة منفردًا، وأما الإساءة التى أمرنا باجتنابها، فهى المعاصى التى لا يلزم أحدًا فيها طاعة مخلوق، فإذا غلب عليها كان له أن يأخذ بالرخصة أو يأخذ بالشدة، فلا يجيب إليها، وإن كان فى ذلك إتلافه. واختلف العلماء فى الصلاة خلف الخوارج وأهل البدع، فأجازت طائفة الصلاة خلفهم، روى عن ابن عمر أنه صلى خلف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 الحجاج وصلى خلفه ابن أبى ليلى، وسعيد ابن جبير، وخرج عليه، وقال الحسن: لا يضر المؤمن صلاته خلف المنافق، ولا تنفع المنافق صلاة المؤمن خلفه. وقال النخعى: كانوا يصلون وراء الأمراء ما كانوا وكان أبو وائل يجمع مع المختار. وقال جعفر بن برقان: سألت ميمون بن مهران عن الصلاة خلف رجل يذكر أنه من الخوارج فقال: أنت لا تصلى له إنما تصلى لله، قد كنا نصلى خلف الحجاج، وكان حروريًا أزرقيًا، وأجاز الشافعى الصلاة خلف من أقام الصلاة، وإن كان غير محمود فى دينه. وكرهت طائفة الصلاة خلفهم، وروى أشهب عن مالك قال: لا أحب الصلاة خلف الإباضية، والواصلية، ولا السكنى معهم فى بلد. وقال عنه ابن نافع: وإن كان المسجد إمامه قدريًا، فلا بأس أن يتقدمه إلى غيره. قال ابن القاسم: رأيت مالكًا إذا قيل له فى إعادة الصلاة خلف أهل البدع توقف ولا يجيب. قال ابن القاسم: وأرى عليه الإعادة فى الوقت. وقال أصبغ: يعيد أبدًا، قال ابن وضاح: قلت لسحنون: ابن القاسم يرى الإعادة فى الوقت، وأصبغ يقول: يعيد أبدًا، فما تقول أنت؟ قال: لقد جاء الذى رأى عليه الإعادة أبدًا ببدعة أشد من صاحب البدعة، قال سحنون: وإنما لم تجب عليه الإعادة؛ لأن صلاته لنفسه جائزة، وليس بمنزلة النصرانى؛ لأن صلاة النصرانى لنفسه لا تجوز. وقال الثورى فى القدرى: لا تقدموه، وقال أحمد: لا تصل خلف أحد من أهل الأهواء إذا كان داعيًا إلى هواه، ومن صلى خلف الجهمى والرافضى يعيد، وكذلك القدرى إذا ردَّ الأحاديث، قال غيره: وقوله عليه السلام: (اسمع وأطع) يدل على أن طاعة المتغلب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 واجبة؛ لأنه لما قال: (حبشى) ، وقد قال: (الخلافة فى قريش) ، دل أن الحبشى إنما يكون متغلبًا، والفقهاء مجمعون على أن طاعة المتغلب واجبة ما أقام على الجمعات والأعياد والجهاد وأنصف المظلوم فى الأغلب، فإن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما فى ذلك من تسكين الدهماء وحقن الدماء، فضرب عليه السلام، المثل بالحبشى إذ هو غاية فى الذم، وإذْ أمر بطاعته لم يمنع من الصلاة خلفه، فكذلك المذموم ببدعة أو فسق. قال المهلب: قوله: اسمع وأطع لحبشى، يريد فى المعروف لا فى المعاصى، فتسمع له وتطيع فى الحق، وتعفو عما يرتكب فى نفسه من المعاصى ما لم يأمر بنقض شريعة، ولا بهتك حرمة لله تعالى، فإذا فعل ذلك فعلى الناس الإنكار عليه بقدر الاستطاعة، فإن لم يستطيعوا لزموا بيوتهم أو خرجوا من البلدة إلى موضع الحق إن كان موجودًا. وأما قول الزهرى: لا نصلى خلف المخنث إلا من ضرورة، فوجه ذلك أن الإمامة عند جميع العلماء موضع للكمال واختيار أهل الفضل، والمخنث مشبه بالنساء، فهو ناقص عن رتبة من يستحق الإمامة. وإنما ذكر البخارى هذه المسألة فى هذا الباب، والله أعلم؛ لأن المخنث مفتتن فى تشبهه بالنساء، كما أن إمام الفتنة والمبتدع كل واحد منهم مفتون فى طريقته فلما شملهم معنى الفتنة شملهم الحكم، فكرهنا إمامتهم إلا من ضرورة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 53 - باب مَنْ يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الإمَامِ بِحِذَائِهِ سَوَاءً إِذَا كَانَا اثْنَيْنِ / 82 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: (بِتُّ عند خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، فَجِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ، أَوْ قَالَ: خَطِيطَهُ، ثُمَّ قام إِلَى الصَّلاةِ) . وترجم له: باب (إذا قام عن يسار الإمام فحوله إلى يمينه لم تفسد صلاته) . اختلف العلماء فى الإمام إذا أم واحدًا، أين يقيمه؟ فقالت طائفة: يقيمه عن يمينه، روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن عمر، وعروة بن الزبير، وهو قول مالك، والثورى، والأوزاعى، وأبى حنيفة، والشافعى، وإسحاق، على ما جاء فى هذا الحديث. وفيها: قول ثان روى عن سعيد بن المسيب أنه قال: يقيمه عن يساره وهذا خلاف الحديث فلا معنى له. وفيها قول ثالث، روى عن النخعى قال: إن كان خلفه رجل واحد فليقم خلفه ما بينه وبين أن يركع، فإن جاء أحد وإلا قام عن يمينه، ذكره ابن المنذر، وهذا يدل أنه لا تجوز صلاة المنفرد خلف الصف وحده، وسيأتى الكلام فى ذلك مستوعبًا فى باب إذا ركع دون الصف بعد هذا، إن شاء الله، ونذكر هاهنا منه طرفًا. قال ابن القصار: وقولهم ناقض؛ لأنه إذا صح عقده للصلاة وحده خلف الصف، فينبغى أن يجوز له فيه عمل الصلاة؛ لأنه لا يخرجه منها إلا حدث ينقض وضوءه، وقد قام ابن عباس عن يسار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 النبى، فأداره عن يمينه، ولم يأمره بابتداء الصلاة ولا بإعادتها، ولو لم يجزه لأمره بالإعادة. وفيه: أن العمل اليسير فى الصلاة جائز. ويقال: غط النائم غطيطًا، صوت فى نومه، والخطيط، بالخاء، لا يعرف. 54 - باب إِذَا لَمْ يَنْوِ الإمَامُ أَنْ يَؤُمَّ ثُمَّ جَاءَ قَوْمٌ فَأَمَّهُمْ / 83 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ أنه قَالَ: (بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي ميمونة، فَقَامَ النَّبِيُّ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَقُمْتُ أُصَلِّي مَعَهُ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِي، فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فقال الثورى، وإسحاق، ورواية عن أحمد: على المأموم الإعادة إذا لم ينو الإمام أن يؤتم به فى صلاته. وقال أبو حنيفة: إذا نوى الإمام جاز أن يصلى خلفه الرجال وإن لم ينوهم، ولا يجوز للنساء أن يصلين خلفه إلا أن ينويهن. ولابن القاسم فى العتبية نحو قول أبى حنيفة، فيمن أمَّ النساء، سئل ابن القاسم عن إمام صلى برجال ونساء، فقام الرجل عن يمينه والنساء خلفهما فأحدث الإمام، فقدم صاحبه هل يصلى بالنساء اللاتى خلفه؟ قال: يصلى المستخلف بالنساء، وإن لم يستخلفه الإمام إذا نوى أن يكون إمامهن، وقال مالك فى المدونة: ولا بأس أن تأتم بمن لم ينو أن يؤمك فى الصلاة، وهو قول الشافعى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 وذكر الطحاوى أن قول زفر كقول مالك والشافعى: أنه يجوز للمرأة الائتمام بمن لم ينو إمامتها. وقال ابن القصار: ولا إشكال فى أنه لا يحتاج إلى نية الإمامة، والمراعاة فى هذا نية المأموم أن يكون مأمومًا؛ لأنه إذا كان مأمومًا سقطت عنه القراءة والسهو؛ لأن الذى قد دخل فى الصلاة وحده قد دخل على أنه تلزمه القراءة والسهو، وأن أحدًا لا يتحملها عنه، والمأموم يدخل مقتديًا بغيره، فالقراءة والسهو عنه ساقطان، فهو يحتاج إلى نية الائتمام، ولو جاز أن يحتاج الإمام إلى نية الإمامة لجاز أن يقال: يحتاج إلى أن يُعين فى صلاته من يصلى خلفه من الرجال والنساء حتى لو جاء أحد ممن لم ينوه لم يجز أن يصلى خلفه. وحديث ابن عباس حجة لمالك ومن وافقه؛ لأن ابن عباس جاء والنبى يصلى بالليل، فجعله على يمينه، فمن ادعى أن النبى نوى أن يؤم ابن عباس فى تلك الصلاة فعليه الدليل، وأما قول أبى حنيفة، فلو قلبه عليه قالب، فقال: إن نوى أن يكون إمامًا جاز للنساء أن يصلين خلفه ولم يجز للرجال، لم يكن له فرق ولم تكن الحجة لهم إلا كالحجة عليهم، وأيضًا فإن النساء كن يصلين خلف النبى، عليه السلام، ولم ينقل عنه أحد أنه عينهن بالنية، ولا حصل منه تعليم ذلك. 55 - باب إِذَا طَوَّلَ الإمَامُ، وَكَانَ لِلرَّجُلِ حَاجَةٌ، فَخَرَجَ، فَصَلَّى (1) / 84 - فيه: جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ: (أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ ثُمَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ، فَقَرَأَ بِالْبَقَرَةِ، فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ، فَكَأَنَّ مُعَاذ يَنَالَ مِنْهُ، فَبَلَغَ الرسول، فَقَالَ: (فَتَّانٌ، فَتَّانٌ، فَتَّانٌ) ، ثَلاثَ مرَات، وَأَمَرَهُ بِسُورَتَيْنِ مِنْ أَوْسَطِ الْمُفَصَّلِ) . قَالَ عَمْرٌو: لا أَحْفَظُهُمَا. وترجم له: (باب من شكا إمامه إذا طول) . لما أمر الرسول بالتخفيف كان من طول بالناس عاصيًا، ومخالفة العاصى جائزة؛ لأنه لا طاعة إلا فى المعروف. وقد احتج أصحاب الشافعى بأن النبى لم ينكر على الرجل الذى خرج من صلاة معاذ ولا أمره بالإعادة، قال ابن القصار: واختلفوا فيمن دخل مع إمام فى صلاة فصلى بعضها هل يجوز له أن يخرج منها فيتم منفردًا؟ قال الشافعى: يجوز له أن يخرج منها بعذر أو بغير عذر، وقال أبو حنيفة: لا يجوز له. والأمر عندى محتمل لأن مالكًا قال فى الإمام: إذا أحدث وقد مضى بعض صلاته أنه يستخلف من يتم بهم، فإن لم يفعل قدموا من يتم بهم، فإن لم يفعلوا وصلوا وحدانًا، فإنه يجزئهم إلا فى الجمعة؛ لأنها لا تكون إلا بجماعة، وهؤلاء، فإن كان إمامهم بدأ بالخروج، فقد اختاروا ترك تمامها بجماعة، ويجوز أن لا يجزئه إذا خرج نفسه من غير عذر. ويكون الفرق بينهما أنه إذا كان الإمام باقيًا فى الصلاة، فإن الصلاة متعلقة به، فما دام باقيًا فقد تعلقت صلاتهم بصلاته فلم تجز مخالفته باختيار المأمومين الخروج منها لغير عذر؛ لأنه يؤدى إلى الشتات وإلى ترك ما ألزمه نفسه من الجماعة التى هو مندوب إليها، وإذا دخل الإنسان فى طاعة وجب عليه المضى فيها إلا أن يطرأ عليه عذر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 ويجوز أن يستدل بهذا الحديث من رأى الخروج من إمامة الإمام إذا فعل فى صلاته ما لا يجوز له كالمصلى خامسةً أو رابعةً فى المغرب أو ثالثة فى الصبح، فيسبح به قيامًا. قال ابن المواز: إن قعدوا ينتظرونه حتى يتم الركعة بطلت صلاتهم، وكذلك المسافر إن قام من اثنتين فسبحوا به فتمادى سلموا وتركوه، وهذه رواية ابن وهب، وابن كنانة، عن مالك؛ لأنهم إن انتظروه وهو جاهل أو عامد فسدت عليه وعليهم، وإن كان ساهيًا لزمهم سجود السهو معه، وهذه خير من رواية ابن القاسم عن مالك فى المدونة أنهم ينتظرونه ويسلمون معه ويعيد هو فى الوقت، قال ابن المواز: إنما أمرهم بذلك مالك فى هذه الرواية لاختلاف الناس فى صلاة المسافر، وأما الحضرى فلو انتظروه لبطلت صلاتهم. 56 - باب تَخْفِيفِ الإمَامِ فِي الْقِيَامِ وَإِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ / 85 - فيه: أَبُو مَسْعُودٍ: أَنَّ رَجُلا قَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لأتَأَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلانٍ، مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ، فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ) . وترجم له: (باب إذا صلى لنفسه، فليطول ما شاء) . وروى ذلك أبو هريرة عن الرسول. فيه: دليل أن أئمة الجماعة يلزمهم التخفيف لأمر رسول الله لهم بذلك، وقد بين فى هذا الحديث العلة الموجبة للتخفيف، وهى غير مأمونة على أحد من أئمة الجماعة؛ فإنه وإن علم قوة من خلفه، فإنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 لا يدرى ما يحدث بهم من الآفات، ولذلك قال: وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء؛ لأنه يعلم من نفسه ما لا يعلم من غيره، وقد ذكر الله الأعذار التى من أجلها أسقط فرض قيام الليل عن عباده، فقال: (علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون فى الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون فى سبيل الله) [المزمل: 20] ، فينبغى للأئمة التخفيف مع إكمال الركوع والسجود؛ ألا ترى أنه عليه السلام، قال للذى لم يتم ركوعه ولا سجوده: (ارجع فصل، فإنك لم تصل) ، وقال: (لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره فى الركوع والسجود) . وممن كان يخفف الصلاة من السلف: أنس بن مالك، قال ثابت: صليت معه العتمة، فتجوز ما شاء الله، وكان سعد إذا صلى فى المسجد خفف الركوع والسجود وتجوز، وإذا صلى فى بيته أطال الركوع والسجود والصلاة، فقلت له، فقال: إنا أئمة يقتدى بنا، وصلى الزبير بن العوام صلاة خفيفة، فقيل له: أنتم أصحاب رسول الله أخف الناس صلاة، فقال: إنا نبادر هذا الوسواس، وقال عمار: احذفوا هذه الصلاة قبل وسوسة الشيطان، وكان أبو هريرة يتم الركوع والسجود ويتجوز، فقيل له: هكذا كانت صلاة رسول الله؟ فقال: نعم وأجوز، وقال عمرو بن ميمون: لما طعن عمر تقدم عبد الرحمن ابن عوف، فقرأ بأقصر سورتين فى القرآن: إنا أعطيناك الكوثر، وإذا جاء نصر الله، وكان إبراهيم يخفف الصلاة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 ويتم الركوع والسجود، وقال أبو مجلز: كانوا يتمون ويوجزون، ويبادرون الوسوسة، ذكر الآثار كلها ابن أبى شيبة فى مصنفه. 57 - باب الإيجَازِ فِي الصَّلاةِ وَإِكْمَالِهَا / 86 - فيه: أَنَسِ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام، يُوجِزُ الصَّلاةَ وَيُكْمِلُهَا) . وقد دخل الكلام فى معنى هذا الباب فى الباب الذى قبله، فأغنى عن إعادته. وروى الثورى، عن أبى إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودى قال: لو أن رجلاً أخذ شاة عزوزًا لم يفرغ من لبنها حتى أصلى الصلوات الخمس أتم ركوعها وسجودها. قال أبو عبد الله: وإنما أراد التجوز فى الصلاة، قال أبو عبيد: والعزوز: الضيقة الإحليل، يقال: عزت الشاة وتعززت: إذا صارت كذلك، وأما الواسعة الإحليل، فإنها الثَّرُور. 58 - باب مَنْ أَخَفَّ الصَّلاةَ عِنْدَ بُكَاءِ الصَّبِيِّ / 87 - فيه: أَبو قَتَادَةَ: أن نَّبِيِّ الله قَالَ: (إِنِّي لأقُومُ فِي الصَّلاةِ، فأُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاتِي، كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 / 88 - وفيه: أَنَسَ قال: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ، أَخَفَّ صَلاةً وَلا أَتَمَّ مِنَ الرسول، وَإِنْ كَانَ لَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَيُخَفِّفُ مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ. فيه: أنه كان يتجوز السجود فى الصلاة لأمور الدنيا خشية إدخال المشقة على النفوس. وقد يجوز أن يحتج بهذا الحديث من قال: أنه جائز للإمام إذا سمع خفق النعال، وهو راكع أن يزيد فى ركوعه شيئًا ليدركه الداخلون فيها؛ لأنه فى معنى تجوّز النبى، عليه السلام، من أجل بكاء الصبى، وممن أجاز ذلك: الشعبى، والحسن، وعبد الرحمن ابن أبى ليلى، وقال آخرون: ينتظرهم ما لم يشق على أصحابه، هذا قول أحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وقال مالك: لا ينتظرهم؛ لأنه يضر بمن خلفه؛ لأنه لو فعل ذلك، ولعله يسمع آخر بعد ذلك فينتظره فيضر بمن معه، وهذا قول الأوزاعى، وأبى حنيفة، والشافعى، وقالوا: يركع كما كان يركع. واستدل أهل المقالة الأولى أنه لما كان تجوّزه فى صلاته لا يخرجه منها، دل أن الزيادة فيها شيئًا لا تخرجه من الصلاة، ولما أجمعوا أنه جائز للإمام أن ينتظر الجماعة ما لم يخف فوت الوقت جاز للراكع أيضًا ذلك ما لم يخف فوت الوقت. 59 - باب إِذَا صَلَّى ثُمَّ أَمَّ قَوْمًا / 89 - فيه: جَابِرِ قَالَ: (كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ الرسول، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمْ) . اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فذهبت طائفة [إلى] أنه يجوز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 أن يصلى الرجل نافلة، ويأتم به فيها من يصلى الفريضة، هذا قول عطاء، وطاوس، وبه قال الأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور، واحتجوا بظاهر هذا الحديث. وقالت طائفة: لا يجوز لأحد أن يصلى فريضة خلف من يصلى نافلة، ومن خالفت نيته نية الإمام فى شىء من الصلاة لم يعتد بها، هذا قول الزهرى، وربيعة، ومالك، والثورى، وأبى حنيفة، وأصحابه، واحتجوا بقوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه) ، ولا اختلاف أكثر من اختلاف النيات التى عليها مدار الأعمال. قالوا: وأما حديث معاذ فيحتمل أن يكون فى أول الإسلام وقت عدم القُراء، ووقت لا عوض للقوم من معاذ، فكانت حال ضرورة لا تجعل أصلاً يقاس عليه، قاله المهلب. وقال الطحاوى: يحتمل أن يكون ذلك وقت كانت الفريضة تصلى مرتين، فإن ذلك قد كان يفعل فى أول الإسلام حتى نهىعنه عليه السلام، حدثنا حسين بن نصر، حدثنا يزيد ابن هارون، حدثنا حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن سليم مولى ميمونة قالت: (أتيت المسجد فرأيت ابن عمر جالسًا والناس يصلون، فقلت: ألا تصلى مع الناس؟ فقال: صليت فى رحلى، إن رسول الله نهى أن تصلى فريضة فى يوم مرتين) ، والنهى لا يكون إلا بعد الإباحة، فقد كان المسلمون فى بدء الإسلام يصلون فى منازلهم، ثم يأتون المسجد، فيصلون تلك الصلاة على أنها فريضة، فنهاهم عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 ذلك، وأمر بعد ذلك من جاء إلى المسجد وأدرك تلك الصلاة أن يجعلها نافلة، وترك ابن عمر الصلاة يحتمل أن يكون تلك الصلاة لا تطوع بعدها، فلم يجز أن يصليها؛ إذ لا تطوع ذلك الوقت؛ لأنه قد روى عنه أنه سئل عمن صلى فى بيته، ثم أدرك تلك الصلاة فى المسجد أيتهما صلاته؟ قال: الأولى. حدثنا أبو بكر، حدثنا حبان، عن همام، عن قتادة، عن عامر الأحول، عن عمرو بن شعيب، عن خالد بن أيمن المعافرى قال: كان أهل العوالى يصلون مع الرسول، فنهاهم النبى أن يعيدوا الصلاة فى يوم مرتين، قال عمرو: فذكرته لسعيد بن المسيب، فقال: صدق. واحتج أهل المقالة الأولى فقالوا: ما اعتللتم به من قوله عليه السلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، لا حجة لكم فيه؛ لأنه إنما أمر بالائتمام فيما يظهر من أفعال الإمام، وأما النية فمغيبة عنه، ومحال أن نؤمر باتباعه فيما يخفى علينا من أفعاله، وفى الحديث نفسه دليل يدل على ما قلناه، وذلك قوله: فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا. وروى قتيبة عن الليث، عن ابن شهاب فى هذا الحديث: (فإذا كبر فكبروا، وإذا سجد فاسجدوا) ، فعرفهم عليه السلام بما يقتدى فيه بالإمام، وهو ما ظهر من أفعاله، وأما معاذ فإنه كان يصلى مع الرسول فرضه، لا يجوز غير ذلك لقوله عليه السلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) ، فكيف يجوز أن ينويها نافلة فيخالف أمره، عليه السلام، ويرغب عن أداء فرضه معه، مع علمه بفضل صلاته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 معه، وقد روى ابن جريج، عن عمرو بن دينار قال: أخبرنى جابر أن معاذًا كان يصلى مع رسول الله العشاء، ثم يرجع إلى قومه فيصلى بهم، هى له تطوع ولهم فريضة. قال الطحاوى: واحتج عليهم أهل المقالة الثانية بأن هذا الحديث قد رواه ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، ولم يذكر فيه: هى له تطوع ولهم فريضة، فيجوز أن يكون ذلك من قول ابن جريج، أو من قول عمرو، أو من قول جابر وأى هذه الثلاثة كان فليس فى الحديث ما يدل على حقيقة فعل معاذ أنه كان بأمر رسول الله، ولا أن رسول الله لو أُخبر به لأقره أو غيره، وهذا عمر بن الخطاب لما أخبره رفاعة بن رافع أنهم كانوا يجامعون على عهد رسول الله ولا يغتسلون حتى ينزلوا، قال عمر: فأخبرتم الرسول بذلك، فرضيه لكم؟ قال: لا، فلم يجعل عمر ذلك حجة، وكذلك هذا الفعل لم يكن فيه دليل أن معاذًا فعله بأمر نبى الله. وقد روينا عن الرسول ما يدل على خلاف قولهم، حدثنا يحيى بن صالح الوحاظى، حدثنا سليمان بن بلال، عن عمرو بن يحيى المازنى، عن معاذ بن رفاعة الزرقى: (أن رجلاً من بنى سلمة يقال له: سليم، لقى النبى، عليه السلام، فقال: إنا نظل فى أعمالنا فنأتى حين نمسى، فنصلى مع معاذ، فيطول علينا، فقال عليه السلام: (يا معاذ لا تكن فتانًا، إما أن تصلى معى، وإما أن تخفف على قومك) ، فقوله لمعاذ هذا يدل على أنه كان عند رسول الله يفعل أحد الأمرين: إما الصلاة معه، وإما الصلاة مع قومه، ولم يكن يجمعهما؛ لأنه قال: إما أن تصلى معى، ولا تصلى بقومك، وإما أن تخفف بقومك، أى ولا تصلى معى، فثبت بهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 الأثر أنه لم يكن من الرسول لمعاذ فى ذلك شىء متقدم، ولو كان منه عليه السلام فى ذلك أمر كما قال أهل المقالة الأولى، لاحتمل أن يكون فى وقت كانت الفريضة تصلى مرتين. فهذا وجه من طريق الآثار، وأما من طريق النظر، فإنا رأينا صلاة المأموم مضمنة بصلاة الإمام فى صحتها وفسادها؛ وذلك أن الإمام إذا سها وجب على من خلفه لسهوه ما يجب عليه، ولو سهوا هم ولم يسه هو لم يجب عليهم ما يجب عليه إذا سها، فلما ثبت أن المأمومين يجب عليهم حكم السهو بسهو الإمام، وينتفى عنهم حكم السهو بانتفائه عن الإمام، ثبت أن حكمهم فى صلاتهم حكم الإمام فى صلاته، وأن صلاتهم مضمنة بصلاته، وإذا كان كذلك لم يجز أن تكون صلاتهم خلاف صلاته. 60 - باب مَنْ أَسْمَعَ النَّاسَ تَكْبِيرَ الإمَامِ / 90 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (لَمَّا مَرِضَ الرسول مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وأمر أَبَا بَكْرٍ بالصلاة، خَرَجَ النَّبِيُّ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ، أراد أن يَتَأَخَّرُ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ صَلِّ، فَتَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ، وَقَعَدَ الرسول إِلَى جَنْبِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ التَّكْبِيرَ) . إنما قام الرسول أبا بكر ليسمع الناس تكبيره، ويظهر إليهم أفعاله؛ لأنه كان ضَعُف عن إسماعهم، فأقامه لهم، ليقتدوا به فى حركاته؛ إذ كان جالسًا وهم قيام، ولم يمكنهم كلهم رؤيته. وفيه من الفقه: جواز رفع المُذكر صوته بالتكبير والتحميد فى الركوع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 والسجود ليسمع الناس إذا كثروا وبعدوا من الإمام فى الجمعات وغيرها، وإذا جاز للإمام أن يجهر بالتكبير، جاز للمأموم مثل ذلك، بدليل قوله عليه السلام: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شىء من كلام الناس إنما هو التكبير والقراءة) ، وإذا لم يجز الكلام فى الصلاة سرًا لم يجز أن يجهر به، ولما جاز فيها التكبير سرًا جاز أن يجهر به فيها. وذكر محمد بن حارث، عن لقمان بن يوسف قال: ذاكرنا حماس بن مروان فى رفع المذكر صوته بالتكبير فى الجمعات، فقال: صلاتهم باطل، فقلت له: بل هى جائزة بدليل الحديث فى ذلك أن رجلاً صلى خلف النبى فقال: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فسمعه الرسول فلم يأمره بالإعادة. قال المؤلف: وأظن أبا حنيفة لا يجيز ذلك، وستأتى مذاهب العلماء فى الكلام فى الصلاة، والتكبير ذكر الله وليس بكلام يفسد الصلاة، ومن أفسد الصلاة بذلك، فلا شك فى خطئه، وفى الواضحة: وما جاز للرجل أن يتكلم به فى الصلاة من معنى الذكر والقراءة، فرفع بذلك صوته ليُنبه به رجلاً أو يستوقفه فذلك جائز، وقد استأذن رجل على ابن مسعود، وهو يصلى فقال له: (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) [يوسف: 99] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 61 - باب الرَّجُلُ يَأْتَمُّ بِالإمَامِ وَيَأْتَمُّ النَّاسُ بِالْمَأْمُومِ وَيُذْكَرُ عَن الرسول: ائْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ. / 91 - فيه: عَائِشَةَ: فى حديث مرض النبى، عليه السلام، قَالَتْ: (. . . فَجَاءَ الرَسُولُ فَجَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِمًا، وَكَانَ عليه السلام، يُصَلِّي جالسًا، يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَالنَّاسُ يَقْتَدُونَ بِصَلاةِ أَبِي بَكْرٍ) . هذا الباب موافق لقول الشعبى، ومسروق، وذلك أنهما قالا: إن الإمام يؤم الصفوف، والصفوف يؤم بعضها بعضًا، قال الشعبى: فإذا كثرت الجماعات فى المسجد، فدخل رجل وهم يصلون، فأحرم قبل أن يرفع الصف الذى يليه رءوسهم من الركعة، فإنه قد أدركها؛ لأن بعضهم أئمة لبعض، ويجوز له الاستدلال من هذا الحديث، وأما سائر الفقهاء فإنهم يراعون رفع الإمام وحده، وهو أحوط. 62 - باب هَلْ يَأْخُذُ الإمَامُ إِذَا شَكَّ بِقَوْلِ النَّاسِ / 92 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ النبى، عليه السلام، انْصَرَفَ مِنِ اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟) ، فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ، فَقَامَ فَصَلَّى اثْنَتَيْنِ. . . .، الحديث. اختلف العلماء فى الإمام إذا شك فى صلاته، فأخبره من خلفه من المأمومين أنه ترك ركعة هل يرجع إلى قولهم، ويدع يقينه أم لا؟ فقال ابن القصار: اختلفت الرواية عن مالك فى ذلك، فقال مرة: يرجع إلى قولهم، وهو قول أبى حنيفة؛ لأنهم يقولون: إنه يبنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 على غالب ظنه، وقال مرة أخرى: يعمل على يقينه، ولا يرحع إلى قولهم، وهو قول الشافعى، قال ابن القصار: فوجه قوله لا يرجع إلى قولهم، فإنما هو عندى إذا كان على يقين من صلاته، فلا يجوز أن يترك يقينه، وقال الشافعى: رجوع الرسول يوم ذى اليدين إلى قول من أخبره إنما كان؛ لأنه ذُكِّر بذلك فَذَكر وبنى على يقينه، ووجه القول الآخر أن يأخذ بقولهم فالذى يؤدى إلى اليقين أن يأتى بركعة ويقبل قولهم؛ لأن يقين الاثنين أكثر من يقين الواحد، والذى يهمهم من أمر الصلاة مثل الذى يهمه، فينبغى أن يقبل منهم؛ لأنه يشك كما يشكون، غير أن الاثنين إذا اتفقا كانوا أقوى من الواحد، فكيف الجماعة، ولا معنى لقول الشافعى: أن النبى، عليه السلام، ذُكِّرَ فَذَكر؛ لأنه لو ذكر لقال قد ذكرت، حتى لا يظن أحد أنه عمل على قولهم، فمن ادعى أنه ذكر بغير دلالة، فهو بمنزلة من قال: إن الحاكم إذا حكم بشهادة الشهود، فإنه لم يحكم لأجل ما ثبت عنده من الشهادة، وإنما حكم لأنه علم ذلك. 63 - باب بكاء الإمَامُ فِي الصَّلاةِ وَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: سَمِعْتُ نَشِيجَ عُمَرَ، وَأَنَا فِي آخِرِ الصُّفُوفِ يَقْرَأُ: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) [يوسف 86] . / 93 - فيه: عَائِشَةَ فى حديث مرض النبى قَالَتْ: (. . . إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ الْبُكَاءِ. . .) ، الحديث. أجاز العلماء البكاء فى الصلاة من خوف الله واحتجوا بحديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 عائشة وبفعل عمر، وقال أشهب: قال مالك: قرأ عمر بن عبد العزيز فى الصلاة فلما بلغ: (فأنذرتكم نارًا تلظى) [الليل: 14] ، خنقته العبرة فسكت، ثم قرأ فنابه ذلك، ثم قرأ فنابه ذلك، وتركها وقرأ: (والسماء والطارق) ، واختلفوا فى الأنين والتأوّه، فقال ابن المبارك: إذا كان غالبًا فلا بأس به، وقال الشافعى، وأبو ثور: لا بأس به إلا أن يكون كلامًا مفهومًا، وقالت طائفة: يعيد صلاته وهذا قول الشعبى، والنخعى، والكوفيين. 64 - باب تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ عِنْدَ الإقَامَةِ وَبَعْدَهَا / 94 - فيه: النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ: قَالَ عليه السلام: (لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ) . / 95 - وفيه: أَنَسِ، قَالَ الرسول: (أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ من وراء ظَهْرِي) . تسوية الصفوف من سنة الصلاة عند العلماء، وإنه ينبغى للإمام تعاهد ذلك من الناس، وينبغى للناس تعاهد ذلك من أنفسهم، وقد كان لعمر وعثمان رجال يوكلونهم بتسوية الصفوف، فإذا استوت كبرا إلا أنه إن لم يقيموا صفوفهم لم تبطل بذلك صلاتهم. وفيه: الوعيد على ترك التسوية، وقال المهلب: توعد من لم يقم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 الصفوف بعذاب من [] الذنب وهو المخالفة بين وجوههم، لاختلافهم فى مقامهم كما أن من قتل نفسه بحديدة عذب بها، والمرأة التى قتلت الهرة جوعًا عذبت بها. وقوله: (إنى لأراكم من وراء ظهرى) ، خصوص له، أعطاه الله من القوة أن يرى من خلفه كما يرى من أمامه لا أنه يخبر عنهم بخبر، ولو كان من طريق الخبر لقال عليه السلام، إنى لأعلم بحالكم من وراء ظهرى، وقد تقدم هذا وزيادة فيه فى باب (عظة الإمام فى إتمام الصلاة) . 65 - باب إِقْبَالِ الإمَامِ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ / 96 - فيه: أَنَسُ قَالَ: (أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، وَتَرَاصُّوا، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي) . وفيه: جواز الكلام بين الإقامة والإحرام، ولا بأس عند فقهاء الحجاز، وهو رد على الكوفيين، وقد تقدم ذلك فى باب الإمام تعرض له حاجة بعد الإقامة فى أبواب الأذان. وقوله: تراصوا فى الصلاة، أى: انضموا، قال صاحب (العين) : رصصت البنيان رصا، أى: ضممته، وتراصوا فى الصفوف منه، وقد ذكر الله الذين يقاتلون فى سبيله صفًا، كأنهم بنيان مرصوص، ومدحهم بذلك، وقضى بالمحبة للمصطفين فى طاعته، فدل أن الصف فى الصلاة كالصف فى سبيل الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 وروى ابن أبى شيبة قال: حدثنا ابن فضيل، عن الوليد بن جميع، عمن حدثه، عن ابن عباس أن نبى الله قال: (راصوا صفوفكم، فإن الشياطين تتخللكم كأنها أولاد الحذف) ، فذكر هذا الحديث معنى أمره عليه السلام، بالتراص فى الصلاة، وقال صاحب (العين) : الحذف: غنم سود صغار، ويقال: هم أولاد الغنم. 66 - باب الصَّفِّ الأوَّلِ / 97 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ رسول الله: (الشُّهَدَاءُ خمسة) إلى قوله: (وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ لاسْتَهَمُوا) . وقد تقدم الكلام فى هذا الحديث فى باب الاستهام فى الأذان، فأغنى عن إعادته، ونذكر منه هاهنا طرفًا، إنما فضل الصف الأول على غيره، والله أعلم، للقرب من سماع القرآن إذا جهر الإمام والتكبير عند تكبيره والتأمين عند فراغه من فاتحة الكتاب، وقد روى نوح بن أبى مريم قال: حدثنا زيد العمى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (من ترك الصف الأول مخافة أن يؤذى مسلمًا أضعف الله له أجر الصف) . 67 - باب إِقَامَةُ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاةِ / 98 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ عليه السلام: (إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ. . . .) ، الحديث، (وَأَقِيمُوا الصَّفَّ فِي الصَّلاةِ، فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلاةِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 / 99 - وفيه: أَنَسِ، قَالَ النَّبِيِّ، عليه السلام: (سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاةِ) . هذا الحديث يدل أن إقامة الصفوف سنة مندوب إليها، وليس بفرض؛ لأنه لو كان فرضًا لم يقل، عليه السلام، فإن إقامة الصفوف من حسن الصلاة؛ لأن حسن الشىء زيادة على تمامه، وذلك زيادة على الوجوب، ودل هذا على أن قوله فى حديث أنس: (فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة) ، أن إقامة الصلاة قد تقع على السنة كما تقع على الفريضة. 68 - باب إِثْمِ مَنْ لَمْ يُتِمَّ الصُّفُوفَ / 100 - فيه: أَنَسِ: أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَقِيلَ لَهُ: مَا أَنْكَرْتَ مُنْذُ يَوْمِ عَهِدْتَ رَسُولَ اللَّهِ؟ فقَالَ: (مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلا أَنَّكُمْ لا تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ) . لما كان تسوية الصف من السنة المندوب إليها التى يستحق فاعلها المدح عليها، دل ذلك أن تاركها يستحق الذم والعتب كما قال أنس، رحمة الله عليه، غير أن من لم يقم الصفوف لا إعادة عليه؛ ألا ترى أن أنسًا لم يأمرهم بإعادة الصلاة. 69 - باب إِلْزَاقِ الْمَنْكِبِ بِالْمَنْكِبِ، وَالْقَدَمِ بِالْقَدَمِ فِي الصَّفِّ قَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ: ورَأَيْتُ الرَّجُلَ مِنَّا يُلْزِقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ. / 101 - فيه: أَنَسِ قَال النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي، وَكَانَ أَحَدُنَا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 هذه الأحاديث تفسر قوله عليه السلام: (تراصُّوا فى الصف) ، وهذه هيئة التراص، وفيه: أن الكعب هو العظم الناتئ فى أثر الساق ومؤخر القدم، كما قال أهل المدينة؛ لأنه لو كان الكعب فى مقدم القدم كما قال أهل الكوفة لما تمكن أن يلزق أحدهم كعبه بكعب صاحبه، وهذا يدل على أن الكعبين اللذين جعلهما الله غاية فى غسل القدمين هما المذكوران فى حديث النعمان بن بشير، وقد تقدم هذا فى كتاب الطهارة بزيادة. 70 - باب الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا تَكُونُ صَفًّا / 102 - فيه: أَنَسِ قَالَ: (صَلَّيْتُ أَنَا وَيَتِيمٌ فِي بَيْتِنَا خَلْفَ النَّبِيِّ عليه السلام، وَأُمِّي خَلْفَنَا أُمُّ سُلَيْمٍ) . فى هذا الحديث من الفقه: أن سنة النساء القيام خلف الرجال، ولا يقمن معهم فى صف؛ لأن الفتنة تخشى منهن. قال المهلب: وكذلك إن كُنَّ عجائز أو ذوات محارم للرجال، فلا يصطففن مع الرجال، وأن صفوفهن وراء صفوف الرجال، إلا أنه إن صلت المرأة إلى جنب رجل تمت صلاتهما عند مالك، والشافعى، والأوزاعى. وعند الكوفيين تمت صلاة المرأة وفسدت صلاة الرجل، واحتجوا بأنها وقفت فى غير محلها، كما أن من صلى قدام الإمام صلى فى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 غير محله، ففسدت صلاته، فجاوبهم أهل المقالة الأولى، وقالوا: صلاته عندنا صحيحة إذا صلى قدام الإمام، كما لو وقف على يساره، وعلى هذا الحساب كان ينبغى أن تبطل صلاة المرأة دون الرجل؛ لأنها وقفت فى غير محلها فلما قلتم أن صلاة المرأة صحيحة، كانت صلاة الرجل أولى أن تصح؛ لأنه وقف فى محله، ووقفت هى فى غير محلها، وهذا يرد قول أحمد، وإسحاق أن من صلى خلف الصف وحده بطلت صلاته، وإن كانت امرأة صحت صلاتها، وذلك لأنه لما صحت صلاة أم أنس وحدها خلف الصف، وكانت صفا كان الرجل أولى بذلك، وإلى هذا المعنى أشار البخارى فى ترجمته، وفى هذا الحديث حجة على الكوفيين. وقولهم: أنه إذا كان مع الإمام رجلان قام وسطهما، وإن كانوا ثلاثة قاموا خلفه، واحتجوا بأن ابن مسعود صلى بعلقمة والأسود وقام بينهما، وهذا الحديث بخلاف ذلك؛ لأن أنسًا ذكر أنه واليتيم صليَا خلف النبى، عليه السلام، وصلت أمه خلفهما، والحجة فى السنة لا فيما خالفها، وبهذا الحديث قال سائر الفقهاء. قال المهلب: وفيه أن الصبى إذا عقل الصلاة يكون فى الصف. وفيه: أن الصف من الرجال يكون من اثنين فصاعدًا، وأن الصف من النساء إذا صلين مع الرجال يكون من امرأة واحدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 71 - باب إِذَا كَانَ بَيْنَ الإمَامِ وَبَيْنَ الْقَوْمِ حَائِطٌ أَوْ سُتْرَةٌ قَالَ الْحَسَنُ: لا بَأْسَ أَنْ تُصَلِّيَ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ نَهْرٌ. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: يَأْتَمُّ بِالإمَامِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا جِدَارٌ أَوْ طَرِيقٌ، إِذَا سَمِعَ تَكْبِيرَ الإمَامِ. / 103 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فِي حُجْرَتِهِ، وَجِدَارُ الْحُجْرَةِ قَصِيرٌ، فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ النَّبِيِّ عليه السلام، فَقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاتِهِ، فَأَصْبَحُوا، فَتَحَدَّثُوا بِذَلِكَ، فَقَامَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ، فَقَامَ مَعَهُ نَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاتِهِ، صَنَعُوا ذَلِكَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ، فَلَمْ يَخْرُجْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ، فَقَالَ: (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ صَلاةُ اللَّيْلِ) . / 104 - وفيه: زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ اتَّخَذَ حُجْرَةً - حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ حَصِيرٍ - فِي رَمَضَانَ، فَصَلَّى فِيهَا لَيَالِيَ، فَصَلَّى بِصَلاتِهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِهِمْ، جَعَلَ يَقْعُدُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، وقَالَ: (قَدْ عَرَفْتُ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ، فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلاةِ صَلاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلا الْمَكْتُوبَةَ) . قال المؤلف: اختلف العلماء فى الإمام بينه وبين القوم طريق أو حائط، فأجازته طائفة، روى ذلك عن أنس بن مالك، وأبى هريرة، وسالم، وابن سيرين، وكان عروة يصلى بصلاة الإمام وهو فى دار بينها وبين المسجد طريق، وقال مالك: لا بأس أن يصلى وبينه وبينه طريق أو نهر صغير، وكذلك السفن المتقاربة يكون الإمام فى إحداها تجزئهم الصلاة معه. وقال عطاء: لا بأس أن يصلى بصلاة الإمام من علمها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 وكرهت ذلك طائفة روى عن عمر بن الخطاب إذا كان بينه وبين الإمام طريق أو نهر أو حائط فليس معه، وكره الشعبى وإبراهيم أن يكون بينهما طريق، وزاد إبراهيم: أو نساء. وقال الكوفيون: لا تجزئه إلا أن تكون الصفوف متصلة على الطريق، وهو قول الليث، والأوزاعى، وأشهب صاحب مالك، وكذلك اختلفوا فيمن صلى فى دار محجور عليها بصلاة الإمام، فأجازه عطاء، وأبو حنيفة فى الجمعة وغيرها، وبه قال ابن نافع صاحب مالك، وجوزه مالك إذا كان يسمع التكبير إلا فى الجمعة خاصة، فلا تصح صلاتها عنده فى موضع يمنع منه فى سائر الأوقات، ولا تجوز إلا فى الجامع ورحابه. وقال الشافعى: لا يجوز أن يصلى فى موضع محجور عليه فى الجمعة وغيرها إلا أن تتصل الصفوف. وحجة من أجاز ذلك حديث عائشة، وزيد بن ثابت أنه عليه السلام، صلى فى حجرته وصلى الناس بصلاته، فلو لم تجزئهم لأخبرهم بذلك لأنه بُعث معلمًا. قال ابن القصار: وقد كان أزواج الرسول يصلين فى حجرهن بصلاته، وبعده بصلاة أصحابه إذا لم يمنع الحائل بين الإمام والمأموم من تكبيرة الإحرام ولا استماع التكبير لم يقدح فى الصلاة، دليله: الأعمى، ومن بينه وبين الإمام صفوف أو سارية، فلا معنى للمنع من ذلك. قال المهلب: وفى هذا الحديث جواز الائتمام بمن لم ينو أن يكون إمامًا فى تلك الصلاة؛ لأن الناس ائتموا برسول الله من وراء الحائط ولم يعتقد نية معهم على الإمامة، وهو قول مالك، والشافعى وقد تقدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 72 - باب إِيجَابِ التَّكْبِيرِ وَافْتِتَاحِ الصَّلاةِ / 105 - فيه: أَنَسُ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَكِبَ فَرَسًا، فصرع عنه، فَجُحِشَ شِقُّهُ. . .) ، إلى قوله: (إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كبر فكبروا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا) . / 106 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أن رسول الله قَالَ: (إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا. . .) الحديث. اختلف العلماء فى وجوب تكبيرة الإحرام، فذهب جمهور العلماء إلى وجوبه، وذهبت طائفة إلى أنه سنة وممن روى ذلك عنه: سعيد بن المسيب، والحسن البصرى، والحكم، والزهرى، والأوزاعى، وقالوا: إن تكبيرة الركوع تجزئه من تكبيرة الإحرام، وروى عن مالك فى المأموم ما يدل على أنه سنة، قال فى (الموطأ) فى رجل دخل مع الإمام فنسى تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع حتى صلى ركعة، فذكر أنه لم يكن كبر للافتتاح ولا للركوع، وكبر فى الركعة الثانية، فقال: يبتدئ صلاته أحب إلى. وروى عنه ابن القاسم فى (المدونة) ، أن المأموم إن نسى تكبيرة الافتتاح وكبر للركوع ينوى بها للإحرام، أجزأه، وإن لم ينو إحرامًا تمادى وأعاد احتياطًا للاختلاف، وذلك أنها لا تجزئه عند ربيعة، وتجزئه عند ابن المسيب، فوجه قوله فى الموطأ: يبتدئ أحب إلىّ، يدل على ما قال فى المدونة: إذا تمادى أجزأه، غير أنه قال: يعيد احتياطًا للصلاة، ولم يختلف قوله فى المنفرد والإمام أن تكبيرة الإحرام واجبة على كل واحد منهما، وأن من نسيها منهم يستأنف صلاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 وحجة الذين أوجبوا تكبيرة الإحرام: قوله عليه السلام: (فإذا كبر فكبروا) ، فذكر تكبير الإحرام دون غيره من سائر التكبير، وقد أجمعوا أن من ترك سائر التكبير غير تكبير الإحرام أن صلاته جائزة، فدل ذلك على أن سائر التكبير غير تكبيرة الإحرام ليس بلازم، واحتجوا أيضًا على ذلك بما رواه الثورى، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن الحنفية، عن على أن رسول الله قال: (تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم) ، وكان أحمد وإسحاق يحتجان بهذا الحديث. وحجة الذين رأو تكبيرة الإحرام سنة: إجماعهم أن من ترك التكبير كله ما عدا الإحرام أن صلاته تامة قالوا: وكذلك تكبير الإحرام مثل تكبير سائر الصلوات فى القياس؛ لأن التكبير معناه كله واحد فى أنه إذن بحركات الإمام وشعار الصلاة. واختلفوا: هل يجزئ افتتاح الصلاة بالتسبيح والتهليل مكان التكبير؟ فقال مالك، وأبو يوسف، والشافعى، وأحمد، وإسحاق: لا يجزئ إلا (الله أكبر) ، وأجاز الشافعى (الله أكبر) . وقال الكوفيون: يجزئ من التكبير ما قام مقامه من تعظيم الله وذكره. وحجة مالك ومن وافقه: قوله عليه السلام: (وإذا كبر فكبروا) ، يدل أنه لابد من لفظة التكبير، ومن زعم غير ذلك فعليه الدليل. 73 - باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي التَّكْبِيرَةِ الأولَى فِى الافْتِتَاحِ سَوَاءً / 107 - فيه: ابْنِ عمر: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاةَ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 أَيْضًا، وَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَكَانَ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ) . وترجم له: رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع. وترجم له: إلى أين يرفع يديه. وقال أبو حميد: رفع النبى يديه حذو منكبيه. اختلف العلماء فى رفع اليدين فى الصلاة، فذهبت طائفة إلى رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح خاصة، روى ذلك عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وابن عباس، وهو قول الثورى، وأبى حنيفة، ورواه ابن القاسم عن مالك. وذهبت طائفة إلى رفع اليدين عند كل رفع وخفض، قال عطاء: رأيت أبا سعيد الخدرى، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، يرفعون أيديهم عند الافتتاح، وعند الركوع، وعند رفع الرأس منه، وكان أنس يفعله، وفعله أبو حميد الساعدى فى عشرة من الصحابة، وهو قول الأوزاعى، رواه ابن وهب، وأبو مصعب عن مالك، وإليه ذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واحتجوا بحديث ابن عمر. واحتج أهل المقالة الأولى بما رواه سفيان، عن يزيد بن أبى زياد، عن ابن أبى ليلى، عن البراء بن عازب قال: (كان النبى، عليه السلام، إذا كبر لافتتاح الصلاة رفع يديه، ثم لا يعود) ، وبما رواه سفيان، عن عاصم بن كليب، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، (أن النبى، عليه السلام، كان يرفع يديه فى أول تكبيرة ثم لا يعود) ، قالوا: وقد خالف ابن عمر روايته فى ذلك عن الرسول. قال الطحاوى: وذلك ما حدثنا ابن أبى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 داود، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أبو بكر ابن عياش، عن حصين، عن مجاهد قال: (صليت خلف ابن عمر، فلم يكن يرفع يديه إلا فى التكبيرة الأولى من الصلاة خاصة) ، فلم يترك ابن عمر الرفع فى خفض ورفع، وقد رأى الرسول يفعله، إلا وقد فهم أن ذلك من فعله على الإباحة والتخيير، يدل على ذلك ما روى مالك، عن أبى جعفر القارئ، ونعيم المجمر أنهما أخبراه أن أبا هريرة كان يصلى بهم، ويكبر كلما خفض ورفع، وكان يرفع يديه حين يفتتح الصلاة، ويقول: والله إنى لأشبهكم صلاة برسول الله، فلما روى ذلك كله عن الرسول لم يكن فى ذلك شىء أولى من حمل الآثار على الإباحة إن لم يثبت فيها النسخ. والدليل على ذلك أن من رفع لم ينكر عليه من لم يرفع، غير أنه يرجح القول بفعل الخليفتين بعد النبى، عليه السلام، عمر، وعلى بن أبى طالب، وإن كان قد اختلف فيه عن على، فلم يختلف فيه عن عمر، قال الطحاوى: بل قد ثبت ذلك عنه، أفترى عمر خفى عليه أن نبى الله كان يرفع يديه فى الركوع، وعلم ذلك من هو دونه أو من هو معه يراه يفعل غير ما كان رسول الله يفعله ولا ينكر ذلك عليه؟ هذا محال، فهذا وجهه من طريق الآثار. قال الطحاوى: وأما وجهه من طريق النظر، فإنهم أجمعوا أن تكبيرة الافتتاح معها رفع، وأن التكبير بين السجدتين لا رفع معه، واختلفوا فى تكبيرة النهوض وتكبيرة الرفع، فقال قوم: حكمها حكم تكبيرة الافتتاح فى الرفع، وقال آخرون: حكمها حكم التكبير بين السجدتين فى أنه لا رفع فيهما كما لا رفع فيها، ورأينا تكبيرة الافتتاح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 من صلب الصلاة، ولا تجزئ الصلاة إلا بإصابتها، فرأينا التكبير بين السجدتين ليس كذلك؛ لأنها لو تركها تارك لم تفسد صلاته، فأشبه تكبير الركوع فى ذلك لإجماعهم أن من ترك تكبير الركوع والسجود فصلاته تامة، فكانتا كهى فى أنه لا رفع فيهما كما لا رفع فيها. قال المهلب فى معنى رفع اليدين فى افتتاح الصلاة: إنما هو علم للتكبير؛ ليرى حركة اليدين من لم يسمع التكبير، فيعرف أن الإمام كبر، فيوقع إحرامه بعد إمامه، وأما غير ذلك من التكبير فهو بحركات فيستوى الناس كلهم فيها. واختلفوا إلى أين يرفع المكبر يديه، فقال مالك: يرفعهما حذو منكبيه، وهو قول الشافعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بحديث ابن عمر، وقال أبو حنيفة: يرفع يديه حذو أذنيه، واحتجوا بما رواه سفيان، عن يزيد بن أبى زياد، عن ابن أبى ليلى، عن البراء بن عازب قال: (كان نبى الله إذا كبر للافتتاح رفع يديه حتى تكون إبهاماه قريبًا من شحمتى أذنيه) ، ورواه مالك بن الحويرث، ووائل بن حجر عن الرسول. قال ابن القصار: فيحمل حديث ابن عمر على الاختيار وحديث البراء على الجواز. وقال الطحاوى: إنما كان الرفع إلى المنكبين فى حديث ابن عمر وقت كانت يداه فى ثيابه بدليل ما رواه شريك، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر قال: (أتيت النبى، عليه السلام، فرأيته يرفع يديه حذاء أذنيه إذا كبر، ثم أتيته من العام المقبل وعليهم الأكسية والبرانس، فكانوا يرفعون أيديهم فيها، وأشار شريك إلى صدره) ، فأخبر وائل أن رفعهم إلى مناكبهم إنما كان لأن أيديهم كانت فى ثيابهم، وأن رفعهم أيديهم إلى آذانهم كان حين كانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 أيديهم بادية، ولم يجز أن يجعل حديث ابن عمر وما أشبهه، الذى فيه الرفع إلى المنكبين، كان واليدان باديتان، لئلا تتضاد الآثار، وحملها على الاتفاق أولى، ويكون حديث وائل من رفعه إلى أذنيه فى غير حال البرد. 74 - باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ / 108 - فيه: ابْنَ عُمَرَ: أنه كَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلاةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَرَفَعَه إِلَى النَبِيِّ عليه السلام. ورَوَاهُ عبيد الله وأَيُّوبَ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عن نافع. والرفع عند القيام زيادة فى هذا الحديث على ما رواه ابن شهاب، عن سالم فيه، يجب قبولها لمن يقول بالرفع، وليس فى حديث ابن شهاب، ما يدفعها بل فيه ما يثبتها، وهو قوله: وكان لا يفعل ذلك بين السجدتين، فدليله أنه كان يفعلها فى كل خفض ورفع ما عدا السجود، وكان أحمد بن حنبل لا يرفع بين السجدتين، ولا عند القيام من الركعتين، وهو ممن يقول بالرفع فى كل خفض ورفع، فيمكن أن يرد عليه البخارى بهذا الحديث. 75 - باب وَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلاةِ / 109 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلاةِ. قَالَ أَبُو حَازِمٍ: لا أَعْلَمُهُ إِلا يَنْمِي ذَلِكَ إِلَى رسول الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 اختلف العلماء فى هذا الباب، فممن روى عنه وضع اليمنى على اليسرى فى الصلاة: أبو بكر الصديق، وعلى بن أبى طالب، وهو قول الثورى والكوفيين، وقال ابن حبيب: سألت مطرفًا، وابن الماجشون عن ذلك فقالا: لا بأس به فى المكتوبة والنافلة، وروياه عن مالك، ورواه أشهب، وابن نافع، وابن وهب، عن مالك أيضًا، وهو قول الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وهو من باب الخشوع. وقال عطاء: من شاء فعل ذلك، ومن شاء تركه، وهو قول الأوزاعى. ورأت طائفة إرسال اليدين فى الصلاة، روى ذلك عن ابن الزبير، والحسن البصرى، وسعيد بن المسيب، ورأى سعيد بن جبير رجلاً يصلى واضعًا يمينه على شماله، فذهب ففرق بينهما. وروى ابن القاسم عن مالك قال: لا أحبه فى المكتوبة ولا بأس به فى النوافل من طول القيام. وحجة أهل المقالة الأولى حديث سهل بن سعد، وقد روى ابن مسعود، ووائل بن حجر، ووالد قبيصة، عن النبى، عليه السلام، مثل حديث سهل بن سعد، وقال على بن أبى طالب: ذلك من السنة، وقال فى قوله تعالى: (فصل لربك وانحر) [الكوثر: 2] ، قال: وضع اليمين على الشمال فى الصلاة تحت الصدور، وروى أن ابن عمر كان يفعله. قال ابن القصار: ووجه قول من كره ذلك أنه عمل فى الصلاة، وربما شغل صاحبه، وربما دخله ضرب من الرياء، وقد علم النبى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 عليه السلام، الأعرابى الصلاة ولم يأمره بوضع اليد على اليد، فإن قيل: إن وضعها من الخشوع، قيل: الخشوع لله، تعالى، الإقبال عليه والإخلاص فى الصلاة. وقوله: ينمى يعنى يرفع. 76 - باب الْخُشُوعِ فِي الصَّلاةِ / 110 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا؟ ، وَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ، وَلا خُشُوعُكُمْ، وَإِنِّي لأرَاكُمْ مِنْ وَرَاءَ ظَهْرِي) . / 111 - وفيه: أَنَسِ، قَالَ النَّبِيِّ: (أَقِيمُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأرَاكُمْ مِنْ بَعْدِي - وَرُبَّمَا قَالَ مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي - إِذَا رَكَعْتُمْ وَسَجَدْتُمْ) . قال المؤلف: مدح الله تعالى، من كان خاشعًا فى صلاته مقبلاً عليها بقلبه، قال تعالى: (قد أفلح المؤمنون الذين هم فى صلاتهم خاشعون) [المؤمنون: 1، 2] ، وقال على بن أبى طالب: الخشوع فى القلب وأن لا تلتفت فى صلاتك، وقال ابن عباس: (الذين هم فى صلاتهم خاشعون (، يعنى: خائفين ساكنين. فإن قال قائل: الخشوع فرض فى الصلاة. قيل له: بحسب الإنسان أن يقبل على صلاته بقلبه ونيته ويريد بذلك وجه الله ولا طاقة له فيما اعترض من الخاطر، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: إنى لأجهز جيشى فى الصلاة، رواه حفص بن غياث، عن عاصم، عن أبى عثمان النهدى، عن عمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 وروى حفص عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب: إنى لأحسب جزية البحرين وأنا فى صلاتى. قال المهلب: وفى حديث هذا الباب النهى عن نقصان الركوع والسجود لتوعد الرسول لهم على ذلك. وفيه: دليل أن الطمأنينة والاعتدال فى الركوع والسجود من سنن الصلاة وليس من فروضها؛ لأن الرسول لم يأمر هؤلاء الذين قال لهم: (لم يخف على ركوعكم ولا سجودكم) ، بالإعادة، ولو كان من فروض الصلاة ما سكت عن إعلامهم بذلك؛ لأن فرضا عليه البيان لأمته، وسأذكر اختلاف العلماء فى ذلك فى باب أمر النبى الذى لا يتم ركوعه بالإعادة فى أبواب الركوع بعد هذا، إن شاء الله. 77 - باب مَا يَقُولُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ / 112 - فيه: أَنَسِ: (أَنَّ نَّبِيَّ الله، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلاةَ بِ) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الفاتحة 2] ) . / 113 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَ الرَسُولُ كان يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ والْقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً - قَالَ: أَحْسِبُهُ، قَالَ: هُنَيَّةً - فَقُلْتُ: بِأَبِي أنت وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ، مَا تَقُولُ؟ قَالَ: (أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ) . قال المؤلف: حديث أنس حجة لمن قال: لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فى صلاة فى أول فاتحة الكتاب، وهو قول مالك والأوزاعى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 وقال ابن أبى ليلى، وأبو حنيفة، وأصحابه، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: هى آية من فاتحة الكتاب. ومن حجة أهل المقالة الأولى: أن الطريق إلى إثبات آية من السورة كالطريق إلى إثبات السورة بعينها، وقد حصل لنا العلم الضرورى بنقل الكافة أن الحمد سورة من القرآن ولم يقع لنا العلم الضرورى أن بسم الله الرحمن الرحيم آية منها، فلا يجوز إثبات قرآن إلا بنقل الكافة، ووجدنا أهل المدينة بأسرهم ينفون كونها من فاتحة الكتاب مع اتصال القارئ بقراءتها فى كل صلاة، وسائر الأئمة على إقامة الصلوات من لدن رسول الله إلى وقتنا هذا وليس هذا مما يُنسى أو يقع فيه قلة ضبط؛ لأن هذا أشهر من الأجناس وزكاة الخضر والمُدّ والصاع الذى يحتج به مخالفنا فى هذه المسألة على مخالفته؛ ألا ترى قول أنس أن الرسول وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين، وقوله: كانوا يفتتحون إخبار عن فعل دائم، وقد قال عروة بن الزبير، وعبد الرحمن الأعرج: أدركنا الأئمة وما يفتتحون الصلاة إلا بالحمد لله رب العالمين. قال الطحاوى: وقد رأيناها مكتوبة فى فواتح السور فى فاتحة الكتاب وفى غيرها وكانت فى غير فاتحة الكتاب ليست بآية، فثبت أنها أيضًا فى فاتحة الكتاب ليست بآية. وأما حديث السكتة فى حديث أبى هريرة، فإن الأوزاعى، والشافعى، وأحمد بن حنبل يقولون بها، وقال الشافعى: أحب للإمام أن يكون له سكتة بين التكبير والقراءة، ليقرأ فيها المأموم بالحمد لله رب العالمين. وقال مالك والكوفيون: لا شىء بعد التكبير إلا قراءة فاتحة الكتاب، وحديث أبى هريرة يرد العلة التى علل بها الشافعى هذه السكتة؛ لأن أبا هريرة سأل الرسول عنها فقال: أقول: (اللهم باعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 بينى وبين خطاياى. . .) ، الحديث، ولو كانت ليقرأ من وراء الإمام فيها لقال عليه السلام، إنى أسكت لكى يقرأ من ورائى: (الحمد لله رب العالمين) ، فبين عليه السلام أن السكتة لغير ما قال الشافعى، واستحب أبو حنيفة، ومحمد أن يسبح بعد التكبير، وقال أبو يوسف: يسبح ويقول: (وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض) [الأنعام: 79] الآية، وقال الشافعى: يقول: وجهت وجهى ولا يسبح. وقال مالك: إنما يجب التكبير، ثم القراءة ولو كانت هذه الإسكاتة مما واظب عليها النبى، عليه السلام، لم يخف ذلك، ولنقلها أهل المدينة عيانًا وعملاً، فيحتمل أن يكون عليه السلام، فعلها فى وقت ثم تركها تخفيفًا عن أمته، فتركها واسع. والهُنَيَّة: كل شىء صغير ندر من شىء، قال الفسوى: يقال: هن يهن من الدهر وهننى هنة. وقوله: هنيةً من الدهر مصروف إلى هننى. قال ثعلب: هنية، قال: وهو الأكثر فى كلامهم؛ لأنهم يؤقتون هذا الحد، فيقولون: مضت برهة من الدهر وحقبة، قال الفسوى: وقد يجوز أن يكون هنيهة، والأجود هنيّةً، فأما هنيئة فبالهمز. 78 - باب رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى الإمَامِ فِي الصَّلاةِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رسول الله فِي صَلاةِ الْكُسُوفِ: (فَرَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 / 114 - فيه: خَبَّابٍ: (كَنَا نعرف قراءة رَسُولُ اللَّهِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ) . / 115 - وفيه: الْبَرَاءُ: (أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا صَلَّوْا مَعَ الرسول، فَرَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَامُوا قِيَامًا، حَتَّى يَرَوْنَهُ قَدْ سَجَدَ) . / 116 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ فَصَلَّى، فقَلُنا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ، قَالَ: (رَأَيتُ الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لأكَلْتُ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا) . اختلف العلماء أى موضع ينظر المصلى فى صلاته، فقال الكوفيون، والشافعى، وإسحاق، وأبو ثور: ينظر إلى موضع سجوده. وروى ذلك عن إبراهيم، وابن سيرين، وقال الشافعى: هو أقرب إلى الخشوع، وقال مالك: ينظر إلى إمامه وليس عليه أن ينظر إلى موضع سجوده وهو قائم، ولا يحد فى موضع نظره حدًا، وأحاديث هذا الباب حجة لمالك. قال المهلب: لأنهم لو لم ينظروا إليه عليه السلام، ما رأوا تأخره حين عرضت عليه جهنم، ولا رأوا اضطراب لحيته، ولا استدلوا بذلك على قراءته، ولا نقلوا ذلك، ولا رأوا تناوله ما تناول فى قبلته حين مثلت له الجنة، ومثل هذا الحديث قوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ؛ لأن الائتمام به لا يكون إلا بمراعاة حركاته فى خفضه ورفعه. قال غيره: وإنما لم يأخذ العنقود، والله أعلم، لأنه كان من طعام الجنة، وطعام الجنة لا يفنى، ولا يجوز أن يؤكل فى الدنيا إلا ما يفنى؛ لأن الله خلقها للفناء، فلا يكون فيها شىء من أمور البقاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 79 - بَاب رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلاةِ / 117 - فيه: أَنَسَ: قَالَ رسول الله: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاتِهِمْ، فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ: لَيَنْتَهِيَنَّ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ) . العلماء مجمعون على القول بهذا الحديث وعلى كراهية النظر إلى السماء فى الصلاة، وقال ابن سيرين: كان رسول الله مما ينظر إلى السماء فى الصلاة، فيرفع بصره حتى نزلت آية إن لم تكن هذه فما أدرى ما هى: (الذين هم فى صلاتهم خاشعون) [المؤمنون: 2] ، قال: فوضع النبى رأسه. وقال شريح لرجل رآه رفع بصره ويده إلى السماء: اكفف يدك واخفض بصرك، فإنك لن تراه، ولن تناله. وذكر الطبرى عن إبراهيم التيمى أنه قال: كان يكره أن يرفع الرجل بصره إلى السماء فى الدعاء، يعنى: فى غير الصلاة. 80 - بَاب الالْتِفَاتِ فِي الصَّلاةِ / 118 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَنِ الالْتِفَاتِ فِي الصَّلاةِ، فَقَالَ: (هُوَ اخْتِلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاةِ الْعَبْدِ) . / 119 - وفيه: عَائِشَةَ أَنَّ نَّبِيَّ الله صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلامٌ، فَقَالَ: (شَغَلَتْنِي أَعْلامُ هَذِهِ، اذْهَبُوا بِهَا إِلَى أَبِي جَهْمٍ، وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةٍ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 الالتفات فى الصلاة مكروه عند العلماء، وذلك أنه إذا أوما ببصره وثنى عنقه يمينًا وشمالاً ترك الإقبال على صلاته، ومن فعل ذلك فقد فارق الخشوع المأمور به فى الصلاة، ولذلك جعله النبى اختلاسًا للشيطان من الصلاة، وأما إذا التفت لأمرٍ يَعِنُّ له من أمر الصلاة أو غيرها فمباح له ذلك وليس من الشيطان، والله أعلم. وقال المهلب: قوله: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد) ، هو حض على إحضار المصلى ذهنه ونيته لمناجاة ربه، ولا يشتغل بأمر دنياه، وذلك أن العبد لا يستطيع أن يخلص صلاته من الفكر فى أمور دنياه؛ لأن الرسول قد أخبر أن الشيطان يأتى إليه فى صلاته، فيقول له: اذكر كذا اذكر كذا؛ لأن موكل به فى ذلك، وقد قال عليه السلام: (من صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له) ، وهذا لمغالبته الإنسان، فمن جاهد شيطانه ونفسه وجبت له الجنة، وقد نظر عليه السلام، إلى أعلام الخميصة وقال: (إنها شغلتنى) ، فهذا مما لا يستطاع على دفعه فى الأعم، وقد اختلف السلف فى ذلك فممن كان لا يلتفت فى الصلاة أبو بكر وعمر، وقال ابن مسعود: إن الله لا يزال مقبلاً على العبد ما دام فى صلاته ما لم يحدث أو يلتفت. ونهى عنه أبو الدرداء، وأبو هريرة، وقال عمرو بن دينار: رأيت ابن الزبير يصلى فى الحجر، فجاءه حجر قدامه فذهب بطرف ثوبه، فما التفت. وقال ابن أبى مليكة: إن ابن الزبير كان يصلى بالناس، فدخل سيل فى المسجد فما أنكر الناس من صلاته شيئًا حتى فرغ منها. وقال الحكم: من تأمل من يمينه أو شماله فى الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 حتى يعرفه فليست له صلاة، وقال أبو ثور: إن التفت ببدنه كله أفسد صلاته. وقال الحسن البصرى: إذا استدبر الرجل القبلة استقبل صلاته، وإن التفت عن يمينه أو شماله مضى فى الصلاة. ورخصت فيه طائفة، فقال ابن سيرين: رأيت أنس بن مالك يشرف إلى الشىء فى صلاته ينظر إليه. وقال معاوية بن قرة: قيل لابن عمر: إن ابن الزبير إذا قام فى الصلاة لم يتحرك ولم يلتفت فقال: لكنا نتحرك ونلتفت، وكان إبراهيم يلحظ يمينًا وشمالاً، وكان ابن معقل يفعله. وقال عطاء: الالتفات لا يقطع الصلاة، وهو قول مالك، والكوفيين، والأوزاعى. وقال ابن القاسم: وإن التفت بجميع جسده لا يقطع الصلاة. والحجة لنا أن نبى الله لم يأمر منه بالإعادة حين أخبر أنه اختلاس من الشيطان، ولو وجبت فيه الإعادة لأمرنا بها؛ لأنه بعث معلمًا، كما أمر الأعرابى بالإعادة مرة بعد أخرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 81 - باب هَلْ يَلْتَفِتُ لأمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ أَوْ يَرَى شَيْئًا أَوْ بُزَاقًا فِي الْقِبْلَةِ وَقَالَ سَهْلٌ: الْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ، فَرَأَى النَّبِيَّ عليه السلام. / 120 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: رَأَى رسول الله نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ يُصَلِّي بَيْنَ يَدَيِ النَّاسِ، فَحَتَّهَا، ثُمَّ قَالَ حِينَ انْصَرَفَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ، إِذَا كَانَ فِي الصَّلاةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، فَلا يَتَنَخَّمَنَّ أَحَدكم قِبَلَ وَجْهِهِ فِي الصَّلاةِ) . / 121 - وفيه: أَنَسُ: (بَيْنَمَا الْمُسْلِمُونَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ لَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلا رَسُولُ اللَّهِ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ، وَهُمْ صُفُوفٌ، فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ، وَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ، لِيَصِلَ لَهُ الصَّفَّ، فَظَنَّ أَنَّهُ يُرِيدُ الْخُرُوجَ، وَهَمَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فِي الصَلاة، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ، أَتِمُّوا صَلاتَكُمْ، وَأَرْخَى السِّتْرَ، وَتُوُفِّيَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ (صلى الله عليه وسلم)) . الالتفات فيما ينوب المصلى ويحتاج إليه إذا كان خفيفًا لا يضر الصلاة عند العلماء، وقد قال النخعى: إذا دخل على الإمام السهو، فليلمح من خلفه ولينظر ما يصنع. وموضع الترجمة من حديث أنس هو أنهم التفتوا إليه عليه السلام، حين كشف الستر ونظر إليهم فى الصلاة، والدليل على التفاتهم إليه قول أنس: فأشار إليهم أن أتموا صلاتكم، ولولا التفاتهم إليه ما رأوا إشارته. قال المهلب: وفى حديث ابن عمر أن النبى، عليه السلام، حَتَّ النخامة فى الصلاة، وتكلم بعد الصلاة، وقد يأتى فى بعض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 الطرق ما يدل على أنه حَتَّها بعد انقضاء الصلاة، وكيف كان فإنه عمل يسير يجوز فى الصلاة وهو كبزاقه فى ثوبه فى الصلاة، ورد بعضه على بعض، وكإباحته البصاق تحت قدمه وحكه، وهو كله متقارب، قال المهلب: وقد أخبر عليه السلام، بمعنى كراهية التنخم قِبَلَ الوجه وهو أن الله قبل وجهه، فوجب أن يكون التنخم قبل الوجه سُوء أدبٍ. 82 - باب وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ لِلإمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا، فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَمَا يُجْهَرُ فِيهَا بِالِقرَاءَةِ وَمَا يُخَافَتُ / 122 - فيه: جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ فَعَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا، فَشَكَوْا، حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، إِنَّ هَؤُلاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لا تُحْسِنُ تُصَلِّي، فقَالَ: أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ، فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاةَ رَسُولِ اللَّهِ مَا أَخْرِمُ عَنْهَا، أُصَلِّي صَلاةَ الْعِشَاءِ، فَأَرْكُدُ فِي الأولَيَيْنِ، وَأُخِفف فِي الأخْرَيَيْنِ، قَالَ: ذَلكَ الظَّنُّ بِكَ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلا أَوْ رِجَالا إِلَى الْكُوفَةِ، يَسَأَلَ عَنْهُ، فَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلا سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ، يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ، فقَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا، فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لا يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ، فقَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللَّهِ لأدْعُوَنَّ بِثَلاثٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ مقام رِيَاءً وَسُمْعَةً، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ. قَالَ عَبْدُالْمَلِكِ بن عمير: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَت حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ فيَغْمِزُهُنَّ. / 123 - وفيه: عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قال: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ: (لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) . / 124 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى، فَسَلَّمَ عَلَى الرسول فَرَدَّه، وَقَالَ: (ارْجِعْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ) ، قالها: ثلاثًا، ثم قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، فَقَالَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ، فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ. . .، الحديث. اختلف العلماء فى وجوب القراءة فى الصلاة فقال مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وجمهور الفقهاء: قراءة فاتحة الكتاب للإمام والمنفرد واجبة لا تجزئ الصلاة إلا بها. وقال أبو حنيفة: الواجب فى القراءة فى الصلاة ما تناوله اسم القرآن، وذلك ثلاث آيات قصار أو آية طويلة كآية الدَّيْن، من أى سورة شاء، واحتج بقوله عليه السلام للذى رده ثلاثًا: (اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، قال: ولم يخص سورة من غيرها، فإذا قرأ ما تيسر عليه فقد فعل الواجب، وقال أصحابه: قوله: (لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب) ، معناه: لا صلاة كاملة، كقوله: (لا صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد) ؛ لإجماعهم أن صلاته جائزة فى داره أو حيث صلاها، فنفى عنه الكمال، فكذلك هاهنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 قالوا: وحديث عبادة ليس على العموم؛ لأن المأموم لا تجب عليه قراءة فيما جهر فيه الإمام عند مخالفنا، ويحملها الإمام عنه فيما أسرّ فيه إذا نسيها المأموم. وحجة من أوجبها قوله: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، فنفى أن تكون صلاة لمن لم يقرأ بها فهو على ظاهره إلا ما خصته الدلالة. وأما قوله عليه السلام للذى رده ثلاثًا: (اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، فهو مجمل، وحديث عبادة مفسر، والمفسر قاض على المجمل، فكأنه قال: اقرأ ما تيسر معك من القرآن، أى: اقرأ فاتحة الكتاب التى قد أعلمت أنه لا صلاة إلا بها فهى ما تيسر من القرآن. واختلفوا فى قوله عليه السلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، إن كان على العموم أو الخصوص، فقالت طائفة: هو على العموم، ويجب على المرء فى كل ركعة قراءة فاتحة الكتاب صلاها منفردًا أو مأمومًا، أو إمامًا فيما يجهر فيه الإمام أو يسر، هذا مذهب الأوزاعى، والشافعى، وأبو ثور، وإلى هذا أشار البخارى فى قوله: وجوب القراءة للإمام والمأموم. وقالت طائفة: قوله: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، على العموم إلا أن يصلى خلف الإمام فيما يجهر فيه الإمام ويسمع قراءته، فإنه لا يقرأ لقوله: (وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) [الأعراف: 204] ، ولا يختلف أهل التأويل أن المراد بهذه الآية سماع القرآن فى الصلاة، ومعلوم أن هذا لا يكون إلا فى صلاة الجهر؛ لأن السر لا يستمع إليه ولقوله عليه السلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا) ، وقد صححه أحمد بن حنبل، هذا قول مالك، وأحمد، وإسحاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 وقالت طائفة: قوله: (لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب) ، على الخصوص، وإنما خوطب بذلك من صلى وحده، فأما من صلى مع الإمام فليس عليه أن يقرأ لا فيما جهر ولا فيما أسرّ، هذا قول الثورى، والكوفيين. واختلفوا أيضًا هل القراءة واجبة فى الصلاة كلها أو فى بعضها، فقال مالك: من ترك القراءة فى ركعة من الصبح أو فى ركعتين أو أكثر من سائر الصلوات أعاد الصلاة وتجزئه فى ترك القراءة فى ركعة من غير الصبح سجدتا السهو قبل السلام. وقال ابن الماجشون: من ترك القراءة من ركعة من الصبح أو أى صلاة كانت تجزئه سجدتا السهو. وقال ابن أبى زيد: روى عن المغيرة فيمن لم يقرأ فى الظهر إلا فى ركعة منها تجزئه سجدتا السهو قبل السلام. وقال الشافعى، وجماعة، وأحمد: القراءة واجبة على الإمام والمنفرد فى كل ركعة، والشافعى يقول ذلك فى المأموم أيضًا. وقال أبو حنيفة، والثورى: القراءة واجبة فى ركعتين من الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، وليس واجبة فى باقيها، واحتجوا بأن القراءة لو كانت واجبة فى الأخريين لكان عليه أن يجمع بين فاتحة الكتاب وسورة معها كالأوليين. والحجة عليهم قوله: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، فهو على عمومه إلا ما قامت عليه الدلالة، ولما كانت الركعة الواحدة صلاة بإجماع أن الوتر ركعة وهى صلاة، دل أن القراءة واجبة فى كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 ركعة بفاتحة الكتاب، وأيضًا قول جابر: كل ركعة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فلم تصل إلا وراء إمام. وأما ذكر حديث سعد فى هذا الباب فوجهه أنه لما قال: أركد فى الأوليين وأخفف فى الأخريين علم أنه أراد: أطيل القراءة فى الأوليين وأقصرها فى الأخريين؛ لأنه لا خلاف بين الأمة فى وجوب القراءة فى الركعتين الأوليين. وقوله: (أركد) ، أى: أديم القيام وأثبت فيها، والركود: الثبوت والدوام عند أهل اللغة، ومنه نهيه عن البول فى الماء الراكد، أى: الدائم. وقوله: (أحذف فى الأخريين) ، أى: أقصرهما، وأصل الحذف من الشىء النقص منه. وقوله: (لا أخرم عنها) ، أى: لا أنقص صلاتى من صلاة رسول الله، وأصل الخرم: قطع بعض وترة الأنف، يقال إذا قطع ذلك من الرجل: أخرم، والمرأة: خرماء، ثم يستعمل ذلك فى كل منتقص منه. وفى حديث سعد من الفقه: أنه من شُكى به من الولاة أنه يسأل عنه الإمام فى موضع عمله أهل الفضل منهم، ألا ترى أن عمر إنما كان يسأل عنه فى المساجد عمارها وأهل ملازمة الصلاة فيها. وفيه: أن الوالى إذا شكى به أنه يعزل إذا رأى ذلك الإمام صلاحًا له، ولمن شكا به وإن كذب عليه فى الشكاية؛ لأن سعدًا أثنى عليه أهل الكوفة خيرًا غير شيخ منهم، فعزله عمر ورأى ذلك صلاحًا للرعية والسياسة لها، لئلا يبقى عليهم أمير وفيهم من يكرهه، فيتعذب الكاره والمكروه، وربما يؤدى ذلك إلى ما تسوء عاقبته، وقول عمر لسعد: (ذلك الظن بك) ، يدل أنه لم يقبل قول الشاكى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 عليه، وقد صرح بذلك عمر حين طعنه العلج فقيل له: أوص يا أمير المؤمنين، فقال لهم: ما أحد أحق بهذا الأمر من النفر الذين توفى رسول الله وهو عنهم راض، فسماهم ثم قال: إن أدركت الإمارة سعدًا فهو ذاك وإلا فليستعن به أيكم ما أُمِّر، فإنى لم أعزله عن عجز ولا خيانة، ذكره البخارى فى باب مناقب عثمان، رضى الله عنه. روى الطبرى عن سعد أن الرسول دخل عليه يعوده فى مرضه بمكة، فرقاه وقال: (اللهم أصح جسمه وقلبه واكشف سقمه، وأجب دعوته) . 83 - باب الْقِرَاءَةِ فِي الظُّهْرِ / 125 - فيه: جابر بن سمرة: قال سعد: (كنت أصلى بهم صلاة رسول الله صلاتى العشى لا أخرم عنها، بحيث أركد فى الأوليين وأحذف فى الأخريين، قال عمر: ذلك الظن بك) . / 126 - وفيه: أَبو قَتَادَةَ قَالَ: (كَانَ عليه السلام، يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأولَيَيْنِ مِنْ صَلاةِ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، يُطَوِّلُ فِي الأولَى وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ، يُسْمِعُ الآيَةَ أَحْيَانًا، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الأولَى مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ) . / 127 - وفيه: خَبَّاب قيل له: أَكَانَ رسول الله يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْنَا: بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ ذلك؟ قَالَ: بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ. قال المؤلف: إنما ساق البخارى هذه الآثار؛ لأنه قد روى عن ابن عباس ما يعارضها، وذلك ما روى أبو ذر، عن شعبة مولى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 ابن عباس، عن ابن عباس أنه سأله رجل أفى الظهر والعصر قراءة؟ فقال: لا. وروى عنه عكرمة قال: قرأ رسول الله فى صلوات وسكت، فنقرأ فيما قرأ ونسكت فيما سكت، فقيل له: فلعله كان يقرأ فى نفسه، فغضب، وقال: تتهم رسول الله. قال الطحاوى: فذهب قوم إلى ما روى عن ابن عباس، فقالوا: لا نرى لأحد أن يقرأ فى الظهر والعصر البتة، وهو قول سويد بن غفلة. وقال الطبرى، قال الآخرون: فى كل صلاة قراءة، غير أنه يجزئ فيما أُمر المصلى أن يخافت فيه بالقراءة قراءته فى ركعتين منها، وله أن يسبح فى باقيها، وروى ذلك عن ابن مسعود، والنخعى، فجعل أهل هذه المقالة سكوت رسول الله على الخصوص، وقالوا: إنما سكت عن القراءة فى الأخريين، وأما الأوليين فإنه كان يقرأ فيهما؛ لأنه لا خلاف بين الجميع أنه كان يقرأ فيما يجهر فيه من الصلوات فى الأوليين قالوا: فحكم ما خافت فيه الإمام بالقراءة حكم ما جهر فيه، فى أن فى الأوليين قراءة وترك القراءة فى الأخريين، هذا قول الكوفيين. وقال آخرون: لم يكن النبى، عليه السلام، ترك القراءة فى شىء من صلاته، ولكنه كان يجهر فى بعض ويخافت فى بعض، هذا قول أهل الحجاز، وأحمد، وإسحاق، وأنكروا قول ابن عباس، وقالوا: قد روى عنه خلاف ذلك بإسناد أصح من إسناد الخبر عنه بإنكار القراءة فى الظهر والعصر. وقال الطبرى: وذلك ما حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشام، عن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: (قد علمت السنة كلها، غير أنى لا أدرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 أكان رسول الله يقرأ فى الظهر والعصر أم لا) ، ولا يندفع العلم اليقين بغير علم. قال الطحاوى: وقد روى عن ابن عباس من رأيه خلاف ما تقدم عنه، روى إسماعيل ابن أبى خالد، عن العيزار بن حريث، عن ابن عباس قال: (اقرأ خلف الإمام بفاتحة الكتاب فى الظهر والعصر) ، فهذا ابن عباس قد قال من رأيه: أن المأموم يقرأ خلف الإمام فى الظهر والعصر، وقد رأينا الإمام يحمل عن المأموم ولم نر المأموم يحمل عن الإمام شيئًا، فإذا كان المأموم يقرأ فالإمام أحرى بذلك. وإذ قد صح عنه أنه قال: لا أدرى أقرأ رسول الله أم لا؟ فقد انتفى ما قال من ذلك؛ لأن غيره قد حقق قراءة رسول الله فيهما، وهو نص حديث أبى قتادة ودليل حديث خباب، وسعد وقد روى عن يحيى فى حديث أبى قتادة: أن النبى كان يقرأ فى الظهر فى الأوليين بأم القرآن وسورتين، وفى الأخريين بأم الكتاب، وهو قاطع للخلاف، ذكره البخارى فى باب يقرأ فى الأخريين بفاتحة الكتاب بعد هذا. وروى سفيان عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبى هريرة قال: (فى كل الصلاة قراءة فما أسمعنا رسول الله أسمعناكم، وما أخفاه عنا أخفيناه عنكم) . وروى شعبة، عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: (كان رسول الله يقرأ فى الظهر بسبح اسم ربك الأعلى) . وحماد بن سلمة، عن سماك، عن جابر بن سمرة: (أن نبى الله كان يقرأ فى الظهر والعصر بالسماء والطارق، والسماء ذات البروج) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 وقال الطبرى: وليس فى خبر ابن عباس إنكاره القراءة فى الظهر والعصر خلاف فيما ثبته عن النبى، عليه السلام، أنه قرأ فيها؛ لأن ابن عباس لم يذكر أن النبى، عليه السلام، قال له: لا قراءة فى الظهر والعصر، وإنما أخبر أنه سكت فيهما، وغير نكير أن يقول إذا لم يسمعه يقرأ أنه سكت، فيخبر بما كان من حاله عنده، والذى أخبر ابن عباس أن النبى لم يقرأ كان الحق عنده، والذى أخبر أنه قرأ فإنه سمع قراءته. فمن سامع منه الآية ومن سامع منه سورة، ومن سامع منه أمره بالقراءة فى الصلاة، فوجه ذلك إلى أنه أمر بالقراءة فى جميع الصلاة، ووجهه غيره إلى أنه أمر بذلك فى بعض الصلاة، ومن رآه يحرك شفتيه فى الظهر والعصر، فوجهه إلى أنه لم يحركهما إلا بقراءة القرآن، فكل أخبر بما عنده، وكل كان صادقًا عند نفسه. والمصيب عين الحق أخبر أنه كان يقرأ فى الظهر والعصر وذلك أن فى خبر أبى قتادة أنه كان يسمعهم الآية أحيانًا، فالشاهد إنما يستحق أن يسمى شاهدًا فيما أخبر عن سماع أو رؤية. فأما من أخبر أنه لم يسمع ولم ير فغير جائز أن يجعل خبره خلافًا لخبر من قال: رأيت أو سمعت؛ لأن من قال: رأيت أو سمعت فهو الشاهد، ومن قال: لم أسمع، فقد أخبر عن نفسه أنه لا شهادة عنده فى ذلك، والنفى لا يكون شهادة فى قول أحد من أهل العلم. وقال الطحاوى: وأما النظر فى ذلك، فإنا رأينا القيام والركوع والسجود فرائض لا تجزئ الصلاة إذا ترك شيئًا منها، وكان ذلك فى سائر الصلوات سواء، فرأينا القعود الأول سنة فى الصلوات كلها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 سواء، ورأينا القعود الآخر فيه اختلاف بين الناس، منهم من يقول: هو سنة، ومنهم من يقول: هو فرض، وكل فريق منهم قد جعل ذلك فى كل الصلوات سواء، فكانت هذه الأشياء ما كان منها فرضًا فى صلاة كان كذلك فى كل الصلوات، فلما رأينا القراءة فى الصبح والمغرب والعشاء واجبة فى قول المخالف لابد منها، كان كذلك فى الظهر والعصر، وهذه حجج قاطعة على من نفى القراءة فى الظهر والعصر ويراها فرضًا فى غيرها. وفى قول أبى قتادة: وكان يسمعنا الآية أحيانًا: دليل أنه كان ذلك من فعله على القصد إليه والمداومة عليه. وفيه حجة لقول ابن القاسم أنه من جهر فيما يسر فيه أنه لا سجود عليه إذا كان يسيرًا، وروى عن مالك: إذا جهر الفذ فيما يسر فيه جهرًا خفيفًا فلا بأس به، وقد اختلف فيمن أسر فيما يجهر فيه عامدًا، وروى أشهب عن مالك أن صلاته تامة، وقال أصبغ فيمن أسر فيما يجهر فيه أو جهر فى الإسرار عامدًا: فليستغفر الله ولا إعادة عليه. وقال ابن القاسم: يعيد لأنه عابث، وقال الليث: إذا أسر فيما يجهر فيه فعليه سجود السهو، وقال الكوفيون: إذا أسر فى موضع الجهر أو جهر فى موضع السر وكان إمامًا سجد لسهوه، وإن كان وحده فلا شىء عليه، وإن فعله عامدًا فقد أساء وصلاته تامة، وقال ابن أبى ليلى: يعيد بهم الصلاة إذا كان إمامًا، وقال الشافعى: ليس فى ترك الجهر والإسرار سجود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 قال المؤلف: ومن لم يوجب السجود فى ذلك أشبه بدليل هذا الحديث؛ لأنه لما كان السر والجهر من سنن الصلاة وكان عليه السلام، قد جهر فى بعض صلاة السِّرِّ ولم يسجد لذلك كان كذلك حكم الصلاة إذا جهر فيها؛ لأنه لو اختلف الحكم فى ذلك لبينه عليه السلام، ووجب بالدليل الصحيح أن يكون إذا أسرَّ فيما يجهر فيه أيضًا لا يلزمه سجود، إذ السرُّ والجهر فى المعنى سواء، ولا وجه لتفريق الكوفيين بين حكم الإمام والمنفرد فى ذلك؛ إذ لا حجة لهم فى كتاب ولا سنة ولا نظر. وفيه: أن الحكم فى السر أن يسمع الإنسان نفسه، وفى حديث خباب الحكم بالدليل؛ لأنهم حكموا باضطراب لحيته عليه السلام، أنه كان يقرأ. 84 - باب الْقِرَاءَةِ فِي الْعَصْرِ / 128 - فيه: حديث خباب، وأبى قتادة المتقدمين فى الباب قبل هذا. وقد تقدم الكلام فى معنى هذا الباب فأغنى عن إعادته، غير أنا نذكر فى هذا الباب من قرأ فى الظهر والعصر من السلف. روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلى، وابن مسعود، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله، وأبى الدرداء، وخباب، وعبد الله بن مغفل، وعبد الله بن عمر، وأبى هريرة، وعائشة، رضى الله عنهم أجمعين. وقال أبو العالية: العصر على النصف من الظهر، وقال إبراهيم: تضاعف الظهر على العصر أربع مرات، وقال الحسن البصرى: القراءة فى الظهر والعصر سواء، وقال حماد: القراءة فى الظهر والصبح سواء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 85 - باب الْقِرَاءَةِ فِي الْمَغْرِبِ / 129 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: (إِنَّ أُمَّ الْفَضْلِ سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرَأُ: (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا (، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، وَاللَّهِ لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ، إِنَّهَا لآخِرُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ) . / 130 - وفيه: مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ: أَن زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ له: مَا لَكَ تَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارٍ المفصل، وَقَدْ سَمِعْتُ الرسول يَقْرَأُ بِطُولَ الطُّولَيَيْنِ. وترجم له: (باب الجهر فى المغرب) . / 131 - فيه: جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يقَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ) . قال الطحاوى: ذهب قوم إلى الأخذ بحديث أم الفضل وجبير بن مطعم، وزيد بن ثابت وقلدوها، وخالفهم فى ذلك آخرون وقالوا: لا ينبغى أن يقرأ فى المغرب إلا بقصار المفصل، وقالوا: قد يجوز أن يكون يريد بقوله: قرأ بالطور، قرأ ببعضها وذلك جائز فى اللغة، يقال: فلان يقرأ: إذا قرأ بشىء منه. والدليل على صحة ذلك ما روى هشيم عن الزهرى، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: قدمت على النبى لأكلمه فى أسارى بدر فانتهيت إليه، وهو يصلى بأصحابه صلاة المغرب فسمعته يقول: (إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع) [الطور: 7، 8] ، فكأنما صدع قلبى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 فبين هشيم القصة على وجهها، وأخبر أن الذى سمعه) إن عذاب ربك لواقع (لا أنه سمع الطور كلها، وكذلك قول زيد بن ثابت لمروان: لقد سمعت رسول الله يقرأ بطول الطوليين، يجوز أن يكون قرأ ببعضها، والدليل على ذلك ما رواه حماد عن أبى الزبير، عن جابر أنهم كانوا يصلون المغرب ثم ينتضلون. وروى حماد، عن ثابت، عن أنس قال: (كنا نصلى المغرب مع النبى، عليه السلام، ثم يرمى أحدنا فيرى مواقع نبله) ، فلما كان هذا وقت انصراف رسول الله من صلاة المغرب استحال أن يكون ذلك، وقد قرأ فيها الأعراف أو نصفها. قال المؤلف: وقد جاء هذا بينًا فى حديث عائشة أن الرسول قرأ فى صلاة المغرب بسورة الأعراف فَرَّقَهَا فى ركعتين، خرجه النسائى من حديث شعيب بن أبى حمزة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. قال الطحاوى: وقد أنكر الرسول على معاذ بن جبل حين صلى العشاء بالبقرة وقال له: (أفتان أنت، اقرأ بسورة والليل إذا يغشى، والسماء ذات البروج، والسماء والطارق، والشمس وضحاها) ، وكره له أن يقرأ فى العشاء مع سعة وقتها، فصلاة المغرب مع ضيق وقتها أحرى بذلك. فإن قال قائل: فهل روى عنه عليه السلام أنه قرأ فى المغرب بقصار المفصل؟ . قيل: نعم، روى ابن أبى شيبة عن زيد بن الحباب قال: حدثنا الضحاك بن عثمان قال: حدثنا بكير بن الأشج، عن سليمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 بن يسار، عن أبى هريرة، قال: كان رسول الله يقرأ فى المغرب بقصار المفصل. وروى الشعبى عن ابن عمر: أن رسول الله قرأ فى المغرب بالتين والزيتون، فهذا أبو هريرة يخبر عن النبى أنه كان يقرأ فى المغرب بقصار المفصل، فلو حملنا حديث ابن جبير، وزيد بن ثابت على ما حمله المخالف لتضادت تلك الآثار وحديث أبى هريرة هذا، وإن حملناه على ما ذكرنا ائتلفت، وأولى أن نحمل الآثار على الاتفاق لا على التضاد، فينبغى على هذا أن يقرأ فى المغرب بقصار المفصل وهو قول مالك، والكوفيين، والشافعى، وجمهور العلماء. وأما طول الطوليين، فإن العلماء قالوا: هى سورة الأعراف، ذكر ذلك النسائى فى حديث زيد بن ثابت من رواية ابن وهب، ومن رواية ابن جريج. وقال أبو سليمان الخطابى: طولى تأنيث أطول، والطوليين تثنية الطولى يريد أنه كان يقرأ فيها بأطول السورتين يعنى الأنعام والأعراف. قال غيره: فإن قيل: هى البقرة لأنها أطول السبع الطوال. قيل: لو أراد البقرة لقال: بطول الطول، فلما لم يقل ذلك دل أنه أراد الأعراف، وهى أطول السور بعد البقرة، ويحتمل أن يكون قرأها فى الركعتين من المغرب؛ لأنه لم يذكر أنه قرأ معها غيرها. وفى حديث جبير من الفقه: أن شهادة المشرك بعد إسلامه مقبولة فيما علمه قبل إسلامه؛ لأن جبيرًا كان يوم سمع رسول الله مشركًا، قدم فى أسارى بدر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 86 - بَاب الْجَهْرِ فِي الْعِشَاءِ / 132 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أنه قَرَأ فِى الْعَتَمَةَ: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، فَسَجَدَ، فَقيل لَهُ: فَقَالَ: سَجَدْتُ خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ، فَلا أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ. / 133 - وفيه: الْبَرَاءَ: (أَنَّ الرسول كَانَ فِي سَفَرٍ، فَقَرَأَ فِي الْعِشَاءِ فِي إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) . وترجم لحديث البراء: باب (القراءة فى العشاء بالسجدة) ، وباب (القراءة فى العشاء) . سنة العشاء الجهر بها كالمغرب سواء، وقراءته عليه السلام، فيها بإذا السماء انشقت، وبالتين والزيتون، يدل أنه لا توقيت فى القراءة فى الصلوات لا يجزئ غيره، إلا أنه حين قرأ فى العشاء بالتين والزيتون كان فى سفر، وأما فى الحضر فإنه كان يقرأ: (إذا السماء انشقت) ، ونحوها، وأطول منها، وقد قرأ عمر بن الخطاب فى إحدى الركعتين بالتين والزيتون، وترجم لحديث البراء: باب القراءة فى العشاء بالسجدة، وكتب إلى أبى موسى الأشعرى: اقرأ بالناس فى العشاء الآخرة بوسط المفصل، روى سليمان بن يسار، عن أبى هريرة، عن الرسول مثله، وهو قول عمر بن عبد العزيز، واختاره أشهب، وقرأ فيها عثمان بن عفان بالنجم، وقرأ ابن عمر بالذين كفروا والفتح، وهى أطول المفصل، وروى على بن زياد، عن مالك قال: يقرأ فيها بالحاقة ونحوها. وأجاز العلماء للمسافر إذا أعجله أصحابه أو استغيث به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 لميت يموت أن يقرأ سورة قصيرة، كما قرأ الرسول بالتين والزيتون فى السفر، وهو قول مالك، وقد قرأ أبو هريرة فى العشاء بالعاديات، ويحتمل أن يكون فى سفر أو يكون أعجلته حاجة لذلك، والله أعلم. وأما القراءة بالسجدة فى العشاء وسائر المكتوبات فأجازه من العلماء من قال بالسجود فى المفصل، وقد اختلفت الرواية عن مالك فى ذلك، ففى المدونة: كره مالك للإمام ان يتعمد قراءة سورة فيها سجدة، لئلا يخلط على الناس، فإن قرأها فليسجد، وأكره أن يتعمدها الفذ، وروى عنه أشهب أنه إذا كان مع الإمام قليل من الناس لا يخاف أن يخلط عليهم فلا بأس بذلك، وروى عنه ابن وهب أنه قال: لا بأس أن يقرأ الإمام بالسجدة فى الفريضة. 87 - باب يُطَوِّلُ فِي الأولَيَيْنِ، وَيَحْذِفُ فِي الأخْرَيَيْنِ / 134 - فيه: جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِسَعْدٍ: لَقَدْ شَكَوْكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الصَّلاةِ، قَالَ: أَمَّا أَنَا، فَأَمُدُّ فِي الأولَيَيْنِ، وَأَحْذِفُ فِي الأخْرَيَيْنِ، وَلا آلُو مَا اقْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ صَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: صَدَقْتَ ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ، أَوْ ظَنِّي بِكَ. قال الطبرى: فيه البيان أن السنة من الرسول مضت فى صلاة الفريضة أن تكون الركعتان الأوليان أطول من الأخريين أو ركعته الآخرة إن كانت المغرب، وذلك أن سعدًا أخبر عمر أنه يركد فى الأوليين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 ويخفف فى الأخريين وأنه مُقْتد برسول الله فى ذلك، فإذا كان كذلك فالذى ينبغى لكل مصل مكتوبة أن يفعل كذلك. فإن قيل: أفرأيت إن خالف ذلك فأطال فى ركعتيه الأخريين وخفف فى الأوليين. قيل: نقول: إنه خالف فى ذلك سنة الصلاة غير أن صلاته ماضية لا خلاف بين الجميع فى جوازها، ولو لم يقرأ فى جميعها إلا فاتحة الكتاب، وذلك تسوية بين جميعها فى التخفيف، فإذا كان ذلك غير مفسدها فالواجب أن تكون المخالفة بينهما بإطالة الأخريين وتخفيف الأوليين غير مفسدها. وفى (المختصر) ، عن مالك قال: لا بأس أن يقرأ فى الثانية بأطول من قراءته فى الأولى، وقال الطحاوى: ذهب الثورى ومحمد إلى أنه يطيل فى الركعة الأولى من الصلوات كلها. وفى (الواضحة) قال: والصبح والظهر نظيرتان فى طول القراءة ويستحب أن تكون الركعة الأولى أطول. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: يطول الركعة الأولى من صلاة الفجر على الثانية، وركعتا الظهر سواء، قال الطحاوى: ولم نجد فى ذلك عن مالك نصًا، وتقدير القراءة يدل أنه كان يرى التسوية دون التفضيل، وحديث سعد يدل على تسوية الأوليين من الظهر والعصر، وقد ذكر البخارى فى باب (القراءة فى الظهر) ، حديث أبى قتادة أن نبى الله كان يقرأ فى الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب، وسورتين يطول فى الأولى ويقصر فى الثانية وهو فى العصر كذلك، وهو الحجة للثورى ومحمد أن الركعة الأولى فى كل الصلوات أطول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 من الثانية، وهو رد لقول أبى حنيفة، وأبى يوسف أن ركعتا الظهر سواء. وقوله: لا آلو: لا أقصر، تقول العرب: ما آليت فى حاجتك وما آلوتك نصحًا: ما قصرت بك عن جهدى، فى كتاب الأفعال. 88 - باب الْقِرَاءَةِ فِي الْفَجْرِ وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: قَرَأَ رسول الله بِالطُّورِ. / 135 - وفيه: أبو بَرْزَةَ الأسْلَمِيِّ، قَالَ: (كَانَ رسول الله يُصَلِّي الظُّهْرَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ، وَالْعَصْرَ، وَيَرْجِعُ الرَّجُلُ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ، وَلا يُبَالِي بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَلا يُحِبُّ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَلا الْحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَيُصَلِّي الصُّبْحَ، فَيَنْصَرِفُ الرَّجُلُ، فَيَبصر جَلِيسَهُ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، أَوْ إِحْدَاهُمَا، مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ) . / 136 - وفيه: أَبَو هُرَيْرَةَ قال: فِي كُلِّ صَلاةٍ يُقْرَأُ، فَمَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ أَسْمَعْنَاكُمْ، وَمَا أَخْفَى عَنَّا أَخْفَيْنَاه عَنْكُمْ، وَإِنْ لَمْ تَزِدْ عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ أَجْزَأَتْ، وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ. اتفق العلماء على أن أطول الصلوات قراءة الفجر، وبعدها الظهر إلا أن البخارى لم يدخل غير حديث أبى برزة: أن نبى الله كان يقرأ فى الصبح ما بين الستين إلى المائة، وذكر عن أم سلمة: (أن الرسول قرأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 بالطور) ، وذكره فى الباب بعد هذا، وذكر فيه ابن عباس: (أنه عليه السلام قرأ: قل أوحى) ، وذكر ابن أبى شيبة: سماك، عن جابر بن سمرة: (أن قراءة الرسول فى الفجر كانت ب (قاف) ، ونحوها) . واختلفت الآثار عن الصحابة فى ذلك، فروى عن أبى بكر الصديق أنه قرأ بسورة البقرة فى الركعتين. وعن عمر بن الخطاب: أنه قرأ بيونس وبهود، وقرأ عثمان بيوسف وبالكهف، وقرأ على بالأنبياء، وقرأ عبد الله بسورتين الآخرة منها بنو إسرائيل، وقرأ معاذ بالنساء، وقرأ عبيدة بالرحمن ونحوها، وقرأ إبراهيم بياسين وأشباهها، وقرأ عمر بن عبد العزيز بسورتين من طوال المفصل. فدل هذا الاختلاف عن السلف أنهم فهموا عن الرسول إباحة التطويل والتقصير فى قراءة الفجر وأنه لا حدَّ فى ذلك لا يجوز تعديه، ويمكن والله أعلم، أن يكون من طول القراءة فيها من الصحابة علم حرص من خلفهم على التطويل وأما اليوم فينبغى التزام التخفيف؛ لأن فى الناس السقيم والكبير وذا الحاجة كما قال عليه السلام، لمعاذ، ألا ترى قول أبو هريرة: (إن لم تزد على أم القرآن أجزأت، فإن زدت فهو خير) ، فدل ذلك أنه لا حد فى ذلك، وقد قال مالك فى الرجل يبادر التجارة أو يستغاث به أو يدعى لميت وهو فى الصبح والظهر: أن يقرأ بالسورة القصيرة وكذلك المسافر يعجله أصحابه. 89 - باب الْجَهْرِ بالقِرَاءَةِ في صَلاةِ الْفَجْرِ وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: طُفْتُ وَرَاءَ النَّاسِ وَالنَّبِيُّ يُصَلِّي، وَيَقْرَأُ بِالطُّورِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 / 137 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (انْطَلَقَ رسول الله فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ، قَالُوا: مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلا شَيْءٌ حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى النَّبِيِّ عليه السلام، وَهُوَ بِنَخْلَةَ، عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ، فَقَالُوا: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَهُنَالِكَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا يَا قَوْمَنَا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) [الجن 1، 2] ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ) [الجن 1] ، وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ) . / 138 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (قَرَأَ الرسول فِيمَا أُمِرَ، وَسَكَتَ فِيمَا أُمِرَ: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [مريم 64] : و) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب 21] ) . الجهر فى الفجر هى السنة وقد تقدم فى الباب قبل هذا مذاهب العلماء فى القراءة فى الفجر. فإن قال قائل: إن حديث ابن عباس يدل أن الشهب إنما رميت فى أول الإسلام من أجل استراق الشياطين السمع. قيل: رمى الشهب لم يزل قبل الإسلام وعلى مرِّ الدهور، وروى معمر وغيره عن الزهرى، عن على بن حسين، عن ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 عباس فى قوله تعالى: (يجد له شهابًا رصدًا) [الجن: 9] ، قال: (بينا الرسول جالس فى نفر من أصحابه إذ رمى بنجم فاستنار فقال: (ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا فى الجاهلية؟) قالوا: كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم، قال: (فإنها لا يُرمى بها لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تعالى، إذا قضى أمرًا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح هذه السماء، ثم يستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ثم يستخبر أهل كل سماء حتى ينتهى الخبر إلى السماء الدنيا ويخطف الجن السمع، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يزيدون فيه) ، قلت للزهرى: أو كان يرمى بها فى الجاهلية؟ قال: نعم. قلت: أرأيت قوله تعالى: (وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابًا رصدًا) [الجن: 9] ، قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث الله النبى، عليه السلام) . وأما قول ابن عباس: (سكت رسول الله فيما أمر) يريد أسرَّ بما أُمِرَ، بدليل قول خباب: أنهم كانوا يعرفون قراءة رسول الله فيما أسر فيه باضطراب لحيته، فسمى السرَّ: سكوتًا، ولا يظن بالرسول أنه سكت فى صلاة صلاها؛ لأنه قد قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 90 - باب الْجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي الرَّكْعَةِ، وَالْقِرَاءَةِ بِالْخَوَاتِيمِ، وَبِسُورَةٍ قَبْلَ سُورَةٍ، وَبِأَوَّلِ سُورَةٍ وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ السَّائِبِ: (قَرَأَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمُؤْمِنُينَ فِي الصُّبْحِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ أَوْ ذِكْرُ عِيسَى أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ، فَرَكَعَ) . وَقَرَأَ عُمَرُ فِي الرَّكْعَةِ الأولَى بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ آيَةً مِنَ الْبَقَرَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةٍ مِنَ الْمَثَانِي. وَقَرَأَ الأحْنَفُ بِالْكَهْفِ فِي الأولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ بِيُوسُفَ أَوْ يُونُسَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ عُمَرَ الصُّبْحَ بِهِمَا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِأَرْبَعِينَ آيَةً مِنَ الأنْفَالِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِيمَنْ يَقْرَأُ سُورَةً وَاحِدَةً فِي رَكْعَتَيْنِ، أَوْ يُرَدِّدُ سُورَةً وَاحِدَةً فِي رَكْعَتَيْنِ: كُلٌّ كِتَابُ اللَّهِ. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلاةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ، افْتَتَحَ بِ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا، ثُمَّ يَقْرَأُ بسُورَةً أُخْرَى مَعَهَا، وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ لا نَرَى أَنَّهَا تُجْزِئُكَ حَتَّى تَقْرَأَ بِأُخْرَى، فَإِمَّا تَقْرَأُ بِهَا، وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا، وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى، فَقَالَ: مَا أَنَا بِتَارِكِهَا، فإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ، وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ، فَلَمَّا أَتَاهُمُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: (يَا فُلانُ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ أَصْحَابُكَ؟ ، وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؟) فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا، فَقَالَ: (حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ) . / 139 - فيه: أَبَو وَائِلٍ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ اللَّيْلَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 فِي رَكْعَةٍ، فَقَالَ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ رسول الله يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ، فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنَ الْمُفَصَّلِ، سُورَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. اختلف العلماء فى جمع السورتين فى كل ركعة، فأجاز ذلك ابن عمر، وكان يقرأ بثلاث سور فى ركعة، وقرأ عثمان بن عفان، وتميم الدارى القرآن كله فى ركعة. وكان عطاء يقرأ سورتين فى ركعة أو سورة فى ركعتين فى المكتوبة، وقال مالك فى المختصر: لا بأس بأن يقرأ السورتين وثلاث فى ركعة، وسورة أحب إلينا ولا يقرأ بسورة فى ركعتين، فإن فعل أجزأه، وقال مالك فى المجموعة: لا بأس به وما هو من الشأن، وأجاز ذلك كله الكوفيون. وممن كره الجمع بين سورتين فى ركعة زيد بن خالد الجهنى، وأبو العالية، وأبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث، وأبو عبد الرحمن السلمى وقال: احظ كل سورة حظها من الركوع والسجود. وروى عن ابن عمر أنه قال: إن الله فَصَّل القرآن لتعطى كل سورة حظها من الركوع والسجود، ولو شاء لأنزله جملة واحدة، والقول الأول أولى بالصواب لحديث ابن مسعود: أن النبى، عليه السلام، كان يقرن بين سور المفصل سورتين فى ركعة. قال الطحاوى: وقد قال عليه السلام: (أفضل الصلاة طول القيام) ، فذلك حجة على من خالف ذلك، ودليل واضح أن الأفضل من الصلوات ما أطلت فيه القراءة، ولا يكون ذلك إلا بالجمع بين السور الكثيرة فى ركعة وقد فعل ذلك الصحابة والتابعون، وثبت عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 ابن عمر أنه فعله بخلاف ما روى عنه، وأما من جهة النظر فإنا رأينا فاتحة الكتاب تقرأ هى وسورة غيرها فى ركعة، ولا بأس بذلك، فالنظر على ذلك أن تكون كذلك سائر السور. وأما القراءة بالخواتيم وبأول سورة، فروى ابن القاسم وعلى عن مالك: إذا بدأ بسورة وختم بأخرى فلا شىء عليه، وقد كان بلال يقرأ من غير سورة، وقد قرأ، عليه السلام، المؤمنين فى الصبح فأخذته سعلة فى ذكر عيسى فركع، وقرأ ابن مسعود بأربعين آية من الأنفال. وأما قراءة سورة قبل سورة ففى (المختصر) عن مالك: أنه لا بأس أن يقرأ فى الثانية بسورة قبل التى قرأ فى الأولى وقراءة التى بعدها أحب إلينا، وروى عنه ابن القاسم ذلك كله سواء ولم يزل ذلك من عمل الناس. وأما تردد سورة واحدة فى الركعتين، ففى (الواضحة) ، عن مالك: لا بأس به، وروى ابن القاسم عن مالك فى (العتبية) ، أنه سئل عن تكرير (قل هو الله أحد) فى النافلة، فكرهه وقال: هذا مما أحدثوا، ومعنى كراهته لتكريرها يريد فى ركعة واحدة يكررها مرارًا. وفى حديث أنس حجة لمن أجاز تكريرها فى الفريضة فى كل ركعة؛ لقوله عليه السلام للذى كان يكررها: (حبك إياها أدخلك الجنة) ، فدل ذلك على جواز فعله ولو لم يجز لبين له ذلك؛ لأنه بعث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 معلمًا، وقد روى البخارى مثل حديث أنس عن عائشة: (أن الرسول بعث رجلاً على سرية، وكان يقرأ لأصحابه فى صلاتهم فيختم: ب (قل هو الله أحد) ، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبى، عليه السلام، فقال: سلوه لأى شىء يصنع ذلك، فقال: لأنها صفة الرحمن، فقال عليه السلام: (فأخبروه أن الله يحبه) ، ذكره فى باب الاعتصام فى باب دعاء النبى، عليه السلام، أمته إلى توحيد الله، تعالى. وقد روى فى الذى كان يقرأ: قل هو الله أحد، أنه كان يرددها فى صلاة النافلة ولا يقرأ غيرها رواه الدارقطنى من حديث مالك، عن عبد الله بن أبى صعصعة، عن أبيه، عن أبى سعيد الخدرى، قال: (وحدثنى أخى قتادة بن النعمان أن رجلاً قام من الليل يقرأ: قل هو الله أحد، يرددها لا يزيد عليها، فجاء رجل إلى الرسول فأخبره، وكان يتقالها، فقال: (إنها لتعدل ثلث القرآن) . ففيه حجة لمن أجاز تكرارها فى ركعة واحدة فى النافلة. وروى وكيع، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن محمد بن كعب القرظى، قال: من قرأ فى سبحة الضحى: قل هو الله أحد، عشر مرات بنى له بيت فى الجنة. قال المهلب: وأما إنكار ابن مسعود على الرجل قراءة المفصل فى ركعة، فإنما فعل ذلك ليحضه على تدبر القرآن؛ لقوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) [محمد: 24] ، لا أنه لا تجوز قراءة المفصل فى ركعة، فقد تجوز قراءة القرآن بغير تدبر، وقد جاء فى الحديث: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 أن الله جعل فى كل حرف منه عشر حسنات، فإن تدبره أعظم لأجره إلى ما لا نهاية له من تفضل الله تعالى. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: قول ابن مسعود: (لقد عرفت النظائر التى كان رسول الله يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من المفصل سورتين فى كل ركعة) ، فدل أن صلاته بالليل عليه السلام، كانت عشر ركعات، وكان يوتر بواحدة. وقوله: قرأ عمر بسورة من المثانى، فقال شيبان النحوى: المثانى: ما لم تبلغ مائة آية، وقال طلحة بن مصرف: المثانى: عشرون سورة، والمئون إحدى عشرة سورة، وروى عن ابن مسعود مثله، قال أهل اللغة: إنما سميت مثانى؛ لأنها ثنت المئين، أى: أتت بعدها، والمفصل سمى مفصلاً لكثرة السور فيه، والفصول، يعنى: بسم الله الرحمن الرحيم، عن ابن عباس. 91 - باب يَقْرَأُ فِي الأخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ / 140 - فيه: أَبو قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ، عن النَّبِيَّ عليه السلام: (كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الأولَيَيْنِ بِأُمِّ القرآن وَسُورَتَيْنِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الأخْرَيَيْنِ بِأُمِّ القرآن، وَيُسْمِعُنَا الآيَةَ، وَيُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الأولَى، مَا لا يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَكَذَا فِي الْعَصْرِ، وَهَكَذَا فِي الصُّبْحِ) . وقد تقدم معنى هذا الباب فى باب القراءة فى الظهر، ونزيده هاهنا بيانًا وذلك أن حديث أبى قتادة هذا من رواية همام بيّن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 فى ردِّ قول الكوفيين ومن وافقهم أن الركعتين الأخريين إن شاء قرأ فيهما وإن شاء سبح؛ لأن همامًا بيَّن فى روايته لهذا الحديث أن النبى، عليه السلام، قرأ فى الركعتين الأخريين من الظهر بفاتحة الكتاب، وقال: إنه كان يسمعهم الآية أحيانًا، فثبت قول من أوجب القراءة فى كل ركعة وسقط قول من قال بالتسبيح فى الأخريين من الظهر والعصر؛ لأنه مخصوص بالسُّنَّةِ الثابتة، وأيضًا فإنه عليه السلام قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، ولما كانت الركعة الواحدةُ صلاةً، بإجماع أن الوتر ركعة وهى صلاة، دل أن القراءة واجبة فى كل ركعة بفاتحة الكتاب. وفيه: أن الركعتين الأوليين أطول من الأخريين فى كل صلاة؛ لأنه إذا قرأ فى الأوليين بأم القرآن وسورة، وقرأ فى الأخريين بأم القرآن وحدها، دل أن الأوليين أطول من الأخريين. وترجم له: (باب إذا أسمع الإمام الآية) ، وقد تقدم القول فيه. وترجم له: (باب يطول فى الركعة الأولى) ، وذلك بَيِّن فى الحديث. 92 - باب جَهْرِ الإمَامِ بِالتَّأْمِينِ وَقَالَ عَطَاءٌ: آمِينَ، دُعَاءٌ أَمَّنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَمَنْ وَرَاءَهُ حَتَّى إِنَّ لِلْمَسْجِدِ لَلَجَّةٌ. وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُنَادِي الإمَامَ: لا تَفُتْنِي بِآمِينَ. وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يَدَعُهُ، وَيَحُضُّهُمْ عليه، وَسَمِعْتُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ خَيْرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 / 141 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، قَالَ: (إِذَا أَمَّنَ الإمَامُ، فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) . وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَقُولُ: (آمِينَ) . اختلف العلماء فى الإمام يقول: آمين، فروى مطرف، وابن الماجشون، عن مالك أن الإمام يقول: آمين كالمأموم على حديث أبى هريرة، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والليث، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وقالت طائفة: لا يقول الإمام: آمين، وإنما يقول ذلك من خلفه، وإن كان وحده قالها، هذا قول مالك فى المدونة، وقاله المصريون من أصحابه. وحجة هذا القول قوله، عليه السلام: (إذا قال الإمام: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) [الفاتحة: 7] ، فقولوا: آمين) ، قالوا: فلو كان الإمام يقول آمين، لقال عليه السلام: إذا قال الإمام: آمين، فقولوا: آمين، ووجدنا فاتحة الكتاب دعاء، فالإمام داع والمأموم مؤمن، وكذلك جرت العادة أن يدعو واحد ويؤمن المستمع، وقد قال تعالى فى قصة موسى وهارون: (قد أجيبت دعوتكما) [يونس: 89] ، فسماهما داعيين، وإنما كان موسى يدعو وهارون يؤمن، فدل ذلك أن الإمام داع بما فى فاتحة الكتاب والمأموم مستجيب؛ لأن معنى آمين فى اللغة: استجب لنا. واحتج أهل المقالة الأولى بقوله عليه السلام: (إذا أمن الإمام فأمنوا) ، قالوا: وذلك يدل أن الإمام يقول: آمين، ومعلوم أن قول المأموم هو: آمين فكذلك ينبغى أن يكون قول الإمام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 قالوا: وكذلك قول أبى هريرة للإمام: لا تسبقنى بآمين يدل أن الإمام يقول: آمين؛ ألا ترى قول ابن شهاب: كان رسول الله يقول: (آمين) . واختلفوا فى الجهر بها، فذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور إلى الجهر بها، وروى ابن وهب، وأبو مصعب عن مالك أن الإمام يُسر بها وهو قول الكوفيين، وروى ذلك عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وعن النخعى، والشعبى، وابن أبى ليلى. وحجة من جهر بها قوله عليه السلام: (إذا أمن الإمام فأمنوا) ، وها يدل أنه ينبغى أن يكون قولهم بعد قوله كتكبيرهم بعد تكبيره، فلو أن الإمام يُسرُّ بها لم يمكن من وراءه أن يؤمنوا بتأمينه. وقد قال عطاء: كنت أسمع الأئمة يقولون على إثر أم القرآن: آمين، هم ومن وراءهم حتى إن للمسجد لَلَجَّة. ووجه الإخفاء بها قوله تعالى: (ادعوا ربكم تضرعًا وخفية) [الأعراف: 55] ، وقد مدح الله زكريا بقوله: (إذ نادى ربه نداء خفيا) [مريم: 3] ، وقال ابن وهب: عن مالك لم أسمع فى الجهر بها للإمام إلا حديث ابن شهاب، ولم أره فى حديث غيره. واللّجة: اختلاط الأصوات، وأَلَجَّ القوم: إذا سمعت لهم لجة، أى: صوتًا، والتجت الأصوات: اختلطت، من كتاب العين. قال المؤلف: معنى قول أبى هريرة للإمام: لا تسبقنى بآمين، أى: لا تحرم فى الصلاة حتى أفرغ من الإقامة لئلا تسبقنى بقراءة أم القرآن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 فيفوتنى التأمين معك، وهو حجة لمذهب الكوفيين لأنهم يقولون: إذا بلغ المؤذن فى الإقامة إلى قوله: قد قامت الصلاة وجب على الإمام الإحرام، والفقهاء على خلافهم، لا يرون إحرام الإمام إلا بعد تمام الإقامة وتسوية الصفوف، وقد تقدم بيان هذا فى باب الإمام تعرض له الحاجة بعد الإقامة فى أبواب الأذان. 93 - باب فَضْلِ التَّأْمِينِ / 142 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ: آمِينَ، وَقَالَتِ الْمَلائِكَةُ فِي السَّمَاءِ: آمِينَ، فَوَافَقَتْ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) . وقال المهلب: كان أبو محمد الأصيلى يقول فى معنى الموافقة فى هذا الحديث أن تقول الملائكة: آمين، كما يقول المصلون، ولا يراعى موافقة المؤمن؛ لأنه قد يقول القائل: وافقت فلانًا على قول كذا إذا قال مثله وسواء قاله قبله أو بعده، وإنما يأجر الله تعالى، على الاتفاق فى القول والنية لا على وقوع الكلام فى زمن واحد. قال المهلب: والذى يشتق من ظاهر هذا الحديث أن يكون قول الملائكة وقول المصلين فى زمن واحد. قال غيره: وتأمين الملائكة هو استغفارهم للمصلين ودعاؤهم أن يستجيب الله منهم كما قال تعالى: (ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شىء رحمة وعلمًا فاغفر للذين تابوا) [غافر: 7] الآية، فإذا كان تأمين العبد مع تأمين الملائكة يرتفعا إلى الله فى زمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 واحد، وتأمين الملائكة مجاب وشفاعتهم يوم القيامة مقبولة فيمن استشفعوا له، فلا يجوز فى تفضل الله أن يجاب الشفيع إلا وقد عم المشفوع له الغفران، والله أعلم، وهذا أولى بتأويل الحديث. 94 - باب جَهْرِ الْمَأْمُومِ بِالتَّأْمِينِ / 143 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (إِذَا قَالَ الإمَامُ: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) [الفاتحة 7] فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) . اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة: قوله: (إذا قال الإمام: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين (، فقولوا: آمين) ، خطاب للمأمومين أن يقولوا: آمين، دون الإمام قالوا: وهذا ظاهر الحديث ولم يرو للإمام قول آمين، وهى رواية ابن القاسم عن مالك. وقالت طائفة أخرى: معناه: إذا بلغ الإمام موضع التأمين وهو قوله: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين (، وقال: آمين، فقولوا: آمين. واحتجوا بما رواه معمر، عن الزهرى، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (إذا قال الإمام: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين (، فقولوا: آمين، فإن الملائكة تقول: آمين، وإن الإمام يقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) . وبما رواه الليث، عن خالد بن يزيد، عن أبى هلال، عن نعيم المجمر قال: صليت وراء أبى هريرة فقرأ بأم القرآن، فلما بلغ: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين (، قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 آمين، وقال الناس: آمين، فلما سلم قال: والله إنى لأشبهكم صلاة برسول الله، فهذا فعل أبى هريرة وهو راوى الحديث عن الرسول، وأقسم أنه أشبههم صلاة برسول الله، فعلى هذا ينتفى التعارض من هذا الحديث، وبين قوله: إذا أمن الإمام فأمنوا. وقد جمع الطبرى بين الحديثين فقال: ليس فى أحدهما دفع لصاحبه؛ لأن الحديثين كلاهما عن أبى هريرة، وذلك أن التأمين فى الصلاة ليس من الأمور التى لا يجوز تركها، وإنما المصلى مندوب إليه إمامًا كان أو مأمومًا، فأخبر عليه السلام، أن المأموم إذا أمن بعد فراغ الإمام من فاتحة الكتاب فله من الأجر ما ذكر، وكذلك إذا أمن بعد تأمين الإمام فله من الأجر مثل ذلك، وليس فى أحد الحديثين معنى يدفع ما فى الآخر، بل فى كل واحد منهما ما فى الآخر من وجه، وفيه ما ليس فى الآخر من وجه، فالذى فيه ما ليس فى الآخر أمر من خلف الإمام بالتأمين إذا أمن القارئ، والذى فى الآخر أمرٌ لهم بالتأمين إذا قال الإمام: (ولا الضالين (، وإن لم يؤمن الإمام، فذلك زيادة معنى على ما فى الحديث الآخر، وأما ما هما متفقان فيه ما لقائل ذلك من الثواب، وهذا المراد من الحديث سواء أمن الإمام أم لا. وأما جهر المأموم بالتأمين فليس بينا فى الحديث؛ لأن قوله عليه السلام: (فقولوا آمين) ، لا يقتضى الجهر دون السر، لكن لما كان الإمام يجهر بالتأمين، ولولا ذلك ما سمعه المأموم، وكانوا مأمورين باتباع الإمام فى فعله وجب على المأموم الجهر بها كما جهر بها الإمام، هذا وجه الترجمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 وقد اختلف العلماء فى ذلك فقال عطاء، وعكرمة: لقد أتى علينا زمان إذا قال الإمام: (ولا الضالين (سمعت لأهل المسجد رجة من قولهم: آمين. وقالت طائفة: يُسرُّ بها المأموم، وقال الطبرى: والخبر بالجهر بآمين والمخافتة بها صحيحان، وقد عمل بكل واحد منهما جماعة من علماء الأمة، وذلك يدل أنه مما خيرهم رسول الله فى العمل بأى ذلك شاءوا، ولذلك لم ينكر بعضهم على بعض ما كان منهم فى ذلك، وإن كنت مختارًا خفض الصوت بها؛ إذ كان أكثر الصحابة والتابعين على ذلك. 95 - باب إِذَا رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ / 144 - فيه: أَبو بَكْرَةَ: (أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ عليه السلام، وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ عليه السلام، فَقَالَ: زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا، وَلا تَعُدْ) . اختلف العلماء فيمن ركع دون الصف، فروى عن زيد بن ثابت، وابن مسعود، أنهما ركعا دون الصف ومشيا إلى الصف ركوعًا، وفعله سعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة، وعطاء، وقال مالك، والليث: لا بأس أن يركع الرجل وحده دون الصف ويمشى إلى الصف إذا كان قريبًا قدر ما يلحق به. وقال أبو حنيفة، والثورى: يكره للواحد أن يركع دون الصف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 ثم يتقدم، ولا يكره ذلك للجماعة، ذكره الطحاوى، قال: وأجاز مالك، والكوفيون، والليث، والشافعى صلاة المنفرد دون الصف وحده، قال مالك: ولا يجذب إليه رجلاً، وقال الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وأهل الظاهر: إن ركع وحده دون الصف بطلت صلاته، واحتجوا بقوله عليه السلام لأبى بكرة: (زادك الله حرصًا ولا تعد) ، فدل أن صلاته غير صحيحة. قالوا: وقد قال أبو هريرة: لا تكبر حتى تأخذ مقامك من الصف. قال الطحاوى: وحجة أهل المقالة الأولى أن أبا بكرة ركع دون الصف، فلم يأمره النبى بإعادة الصلاة، ولو كان من صلى خلف الصف وحده لا تجزئه صلاته لكان من دخل فى الصلاة خلف الصف لا يكون داخلاً فيها، فلما كان دخول أبى بكرة فى الصلاة دون الصف دخولاً كانت صلاة المصلى كلها دون الصف صحيحة. فإن قيل: فما معنى قوله: (ولا تعد؟) . قيل: له عندنا معنيان: أحدهما: لا تعد أن تركع دون الصف حتى تقوم فى الصف كما روى ابن عجلان، عن الأعرج، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله: (إذا أتى أحدكم إلى الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه منه) . والثانى: لا تعد أن تسعى إلى الصلاة سعيًا يحفزك فيه النفس، كما روى حماد بن سلمة، عن زياد الأعلم، عن الحسن، عن أبى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 بكرة قال: (جئت ورسول الله راكع، وقد حفزنى النفس، فركعت دون الصف. . .) ، وذكر الحديث. قال ابن القصار: فجاء يلهث وكان عليه السلام، أمرهم أن يأتوا الصلاة وعليهم السكينة. قال الطحاوى: ولا يختلفون فيمن صلى وراء إمام فى صف، فخلا موضع رجل أمامه أنه ينبغى له أن يمشى إليه، وفى تقدمه من صف إلى صف هو فيما بين الصفين فى غير صف، فلم يضره ذلك ولم يخرجه من الصلاة. فلو كانت الصلاة لا تجزئ إلا لقائم فى صف لفسدت على هذا صلاته لما صار فى غير صف، وإن كان ذلك أقل القليل، كما لو أن من وقف على موضع نجس أقل القليل وهو يصلى أفسد ذلك عليه صلاته، فلما أجمعوا أنهم يأمرون هذا بالتقدم إلى ما قد خلا أمامه من الصف، ولا يفسد ذلك عليه كونه فيما بين الصفين فى غير صف، دل ذلك أن من صلى دون الصف أن صلاته تجزئه. 96 - باب إِتْمَامِ التَّكْبِيرِ فِي الرُّكُوعِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الرسول، فِيهِ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ. / 145 - فيه: عِمْرَانَ بْنِ الحُصَيْنٍ: أنه صَلَّى مَعَ عَلِيٍّ بِالْبَصْرَةِ، فَقَالَ: ذَكَّرَنَا هَذَا الرَّجُلُ صَلاةً كُنَّا نُصَلِّيهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَفَعَ، وَكُلَّمَا وَضَعَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 / 146 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ فَكَبِّرُ، كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ، فَإِذَا انْصَرَفَ قَالَ: إِنِّي لأشْبَهُكُمْ صَلاةً بِرَسُولِ اللَّهِ. وترجم لحديث عمران: (باب إتمام التكبير فى السجود) . / 147 - وزاد فيه: (فَكَانَ إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ كَبَّرَ) . وترجم لحديث أبى هريرة: (باب التكبير إذا قام من السجود) . / 148 - وزاد فيه: عن أَبَى هُرَيْرَةَ: (أَنَ النبى، عليه السلام، كان يكبر إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الصَّلاةِ كُلِّهَا، ثم يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنَ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوسِ) . / 149 - وذكر فيه حديث عِكْرِمَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ شَيْخٍ بِمَكَّةَ، فَكَبَّرَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً، فَقُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ أَحْمَقُ، فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ. قال المؤلف: هذه الآثار تدل على أن التكبير فى كل خفض ورفع لم يكن مستعملاً عندهم، ولولا ذلك ما قال عمران: ذكرنا على صلاة رسول الله، ولا قال أبو هريرة: إنى لأشبهكم صلاة برسول الله، ولا أنكر عكرمة على الذى كبر اثنتين وعشرين تكبيرة، ولا نسبه إلى الحمق، وهذا يدل أن التكبير فى غير الإحرام لم يتلقه السلف على أنه ركن من أركان الصلاة، وقد فعله جماعة من السلف وتركه جماعة، ولم يقل أحد ممن فعله للذى لم يفعله إن صلاتك لا تتم إلا به. فممَّن كان يُتم التكبير ولا ينقصه فى الصلاة فى كل خفض ورفع: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وابن مسعود، وابن عمر، وجابر، وأبو هريرة، وابن الزبير، ومن التابعين: مكحول، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 والنخعى، وهو قول مالك، والأوزاعى، والكوفيين، والشافعى، وأبى ثور، وعوام العلماء. وممن كان ينقص التكبير: ذكر الطبرى قال: سئل أبو هريرة: من أول من ترك التكبير إذا رفع رأسه وإذا وضعه؟ قال: معاوية. وعن عمر بن عبد العزيز، والقاسم، وسالم، وابن سيرين، وسعيد بن جبير مثله، واحتجوا بما رواه شعبة عن الحسن بن عمران، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه قال: صليت خلف النبى فكان لا يتم التكبير، وكان ابن عمر ينقص التكبير، قال مسعر: إذا انحط بعد الركوع للسجود لم يكبر، وإذا أراد أن يسجد الثانية من كل ركعة لم يكبر، وقال سعيد بن جبير: إنما هو شىء يزين به الرجل صلاته. وقال قوم من العلماء: التكبير إنما هو إذن بحركة الإمام وليس بسنة إلا فى الجماعة، فأما من صلى وحده فلا بأس عليه أن لا يكبر. وقال أحمد بن حنبل: كان ابن عمر لا يكبر إذا صلى وحده، واختلف أصحاب مالك فيمن ترك التكبير فى الصلاة، فقال ابن القاسم: من أسقط ثلاث تكبيرات من الصلاة فما فوقها سجد للسهو قبل السلام، فإن لم يسجد بطلت صلاته، وإن نسى تكبيرة واحدة أو اثنتين سجد السهو قبل السلام، فإن لم يفعل فلا شىء عليه. وروى عنه أن التكبيرة الواحدة لا سهو على من نسيها. وقال عبد الله بن عبد الحكم وأصبغ بن الفرج: ليس على من سها عن التكبير فى الصلاة كلها شىء إذا كبر للإحرام إلا سجود السهو، فإن لم يفعل حتى تباعد فلا شىء عليه، واختاره ابن المواز، وابن حبيب، وآثار هذا الباب تدل على صحة هذا القول، ولا سجود فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 عند الشافعى، قال ابن القصار: وعلى أصل أبى حنيفة فيه السجود، وحكى الطحاوى خلاف هذا القول قال: أجمعوا أن من ترك تكبير الركوع والسجود فصلاته تامة. وقال الطبرى: الحسن بن عمران مجهول، ولا يجوز الاحتجاج به، غير أنه وإن كان كذلك فإنا لا نرى صلاة من ترك شيئًا من التكبيرات سوى تكبيرة الإحرام فاسدة، وإن كان مخطئًا سنته عليه السلام، لإجماع سلف الأمة وخلفها أن صلاة من فعل ذلك غير فاسدة. وفى تكبير أبى هريرة كلما خفض ورفع من الفقه أن التكبير ينبغى أن يكون من الخفض والرفع من الفعل سواء، لا يتقدمه ولا يتأخر عنه، فهذا قول أكثر العلماء، ذكره الطحاوى عن الكوفيين، والثورى، والشافعى، قالوا: ينحط للركوع والسجود وهو مكبر، وكذلك يفعل فى حال الرفع، وفى حال القيام من الجلسة الأولى، يكبر فى حال القيام وكذلك قال مالك، إلا فى حال القيام من الجلسة الأولى فإنه يقول: لا يكبر حتى يعتدل قائمًا، هذا قوله فى المدونة، وفى (المبسوط) : روى ابن وهب عن مالك: إن كبر بعد استوائه فهو أحب إلىَّ، وإن كبر فى نهوضه بعد ما يفارق الأرض فأرجو أن يكون فى سعة. قال الطحاوى: فأخبر فى هذا الحديث أن التكبير كان فى حال الخفض والرفع، ولما اتفقوا فى الخفض والرفع أن الذكر مفعول فيه وجب أن يكون كذلك حال القيام من الجلسة الأولى. وسأذكر وجه قول مالك أنه لا يكبر حتى يعتدل قائمًا، فى أبواب السجود فى باب يكبر وهو ينهض بين السجدتين، إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 97 - باب وَضْعِ الأكُفِّ عَلَى الرُّكَبِ فِي الرُّكُوعِ وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ فِي أَصْحَابِهِ: أَمْكَنَ الرسول يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ. / 150 - فيه: مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ قال: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي، فَطَبَّقْتُ بَيْنَ كَفَّيَّ، ثُمَّ وَضَعْتُهُمَا بَيْنَ فَخِذَيَّ، فَنَهَانِي أَبِي، وَقَالَ: كُنَّا نَفْعَلُهُ، فَنُهِينَا عَنْهُ، وَأُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْدِينَا عَلَى الرُّكَبِ. اتفق فقهاء الأمصار على القول بهذا الحديث، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وسعد بن أبى وقاص، وابن عمر، وجماعة من التابعين، وكان عبد الله بن مسعود، والأسود بن يزيد، وأبو عبيدة يضعون أيديهم بين ركبهم إذا ركعوا، وقال ابن مسعود: هكذا فعل النبى، عليه السلام. قال الطحاوى: وما روى عن ابن مسعود فى ذلك منسوخ بحديث سعد؛ ألا ترى قوله: كنا نفعله فنهينا عنه، وروى شعبة عن أبى حصين، عن أبى عبد الرحمن قال: قال عمر:. . .، فقد سُنَّتْ لكم الركب، قال الطحاوى: ثم التمست ذلك من طريق النظر، فرأيت التطبيق فيه التقاء اليدين، ورأيت وضع اليدين على الركبتين فيه تفرقهما، فأردنا أن ننظر فى حكم ذلك كيف هو؟ فرأينا السنة جاءت عن الرسول بالتجافى فى الركوع والسجود، وأجمع المسلمون على ذلك، وكان ذلك تفريق الأعضاء، وكان من قام إلى الصلاة أمر أن يراوح بين قدميه، وقد روى ذلك عن ابن مسعود، وهو الذى روى التطبيق، فلما رأينا تفريق الأعضاء أولى من إلزاق بعضها إلى بعض، واختلفوا فى إلصاقها وتفريقها فى الركوع كان النظر على ذلك أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 يكون ما اختلفوا فيه من ذلك معطوفًا على ما أجمعوا عليه، ولما كانت السنة تفريق الأعضاء كان فيما ذكرنا أيضًا، فثبت نسخ التطبيق ووجوب وضع اليدين على الركبتين. 98 - باب إِذَا لَمْ يُتِمَّ الرُّكُوعَ / 151 - فيه: حُذَيْفَةُ: أنه رَأَى رَجُلا لا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَلا السُّجُودَ، قَالَ: مَا صَلَّيْتَ، وَلَوْ مُتَّ، مُتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) عَلَيْهَا. قد تقدم الكلام فى هذا الباب فى (باب الخشوع فى الصلاة) ، فأغنى عن إعادته، قال المهلب: نفى عنه الفعل بما انتفى عنه من التجويد، وهذا معروف فى لسان العرب، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا يزنى الزانى وهو مؤمن) ، نفى عنه بِقِلَّةِ التجويد للإيمان اسمهُ، وكذلك قول حذيفة للرجل: ما صليت، أى: صلاة كاملة، ولو متَّ متَّ على غير فطرة محمد، وسمى الصلاة فطرة؛ لأنها أكبر عُرى الإيمان. وسأذكر اختلاف أهل العلم فيمن لم يتم الركوع فى باب أمر الرسول الذى لا يتم ركوعه بالإعادة، إن شاء الله تعالى. 99 - باب اسْتِوَاءِ الظَّهْرِ فِي الرُّكُوعِ وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ فِي أَصْحَابِهِ: رَكَعَ النَّبِيُّ عليه السلام، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 0 - باب حَدِّ إِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالاعْتِدَالِ فِيهِ وَالطُّمَأْنِينَةِ / 152 - فيه: الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رُكُوعُ النَّبِيِّ عليه السلام، وَسُجُودُهُ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، مَا خَلا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ، قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ. قال المهلب: هذه الصفة أكمل صفات صلاة الجماعة، وأما صلاة الرجل وحده، فله أن يطول فى الركوع والسجود أضعاف ما يطول فى القيام بين السجدتين وبين الركعة والسجدة، وأما أقل ما يجزئ من ذلك فما قال ابن مسعود، قال: إذا أمكن الرجل يديه من ركبتيه، فقد أجزأه، وكانت ابنة سعد تفرط فى الركوع تطأطئًا منكرًا، قال لها سعد: إنما يكفيك إذا وضعت يديك على ركبتيك، وقاله ابن سيرين، وعطاء، ومجاهد، وهو قول عامة الفقهاء. وروى أبو الجوزاء عن عائشة قالت: كان النبى، عليه السلام، إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه، كان بين ذلك. وقال عبد الرحمن بن أبى ليلى: كان عليه السلام، لو صُبَّ بين كتفيه ماء لاستقر، وقال أبو هريرة: اتق الحنوة فى الركوع والحدبة، وهذا هو هصر الظهر. وقال صاحب (العين) : هصرت الشىء: إذا جذبته وكسرته إليك من غير بينونة، وقال صاحب (الأفعال) : هصر الشىء هصرًا: أخذ بأعلاه ليميله إلى نفسه، وهصر الأسد فريسته: كسرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 1 - باب أَمْرِ الرَّسُولِ الَّذِي لا يُتِمُّ رُكُوعَهُ بِالإعَادَةِ / 153 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ، فَرَدَّ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَيْهِ السَّلامَ، فَقَالَ: (ارْجِعْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ، فَقَالَ: ارْجِعْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، ثَلاثًا، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ فَمَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، قَالَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا) . قال المؤلف: استدل بهذا الحديث جماعة من الفقهاء، فقالوا: الطمأنينة فى الركوع والسجود فرض، لا تجزئ صلاة من لم يرفع رأسه، ويعتدل فى ركوعه وسجوده ثم يقيم صلبه، وقالوا: ألا ترى أن الرسول قال له: (ارجع فصل فإنك لم تصل) ، ثم علمه الصلاة وأمره بالطمأنينة فى الركوع والسجود، هذا قول الثورى، وأبى يوسف، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وابن وهب صاحب مالك قال: من لم يعتدل قائمًا من ركوعه حتى يسجد فلا يعتد بتلك الركعة. وفيها قول آخر، روى ابن القاسم عن مالك فى (العتبية) قال: من رفع رأسه من الركوع فلم يعتدل قائمًا حتى يسجد يجزئه ولا يعود، وقاله ابن القاسم فى كتاب سحنون، وروى ابن وهب عن مالك مثل ذلك فى (العتبية) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 وروى عيسى عن ابن القاسم فيمن رفع رأسه من السجود، فلم يعتدل جالسًا حتى سجد: يستغفر الله ولا يعود. وذكر ابن المواز عن ابن القاسم مثله، وهو قول أبى حنيفة، ومحمد. وكذلك اختلفوا فيمن خرَّ من ركوعه ساجدًا، ولم يرفع رأسه، فروى عيسى عن ابن القاسم أنه لا يعتد بتلك الركعة، واستحب مالك أن يتمادى ويعيد الصلاة، وفى (المجموعة) روى على بن زياد، عن مالك أن من فعل ذلك ساهيًا، فليسجد قبل السلام وتجزئه تلك الركعة، وفى (الواضحة) عن ابن كنانة: تجزئه تلك الركعة، واحتج أبو عبد الله بن أبى صفرة لهذا القول أن النبى، عليه السلام، أمر هذا الرجل حين لم يكمل الركوع والسجود بالإعادة، ولم يأمر الذين نقصوا الركوع والسجود بالإعادة حين قال لهم: (إنى أراكم من وراء ظهرى) ، فدل ذلك من فعله أن الطمأنينة لو كانت فريضة، لما ترك الذين قال لهم: لا يخفى علىّ خشوعكم حتى يبين لهم ذلك؛ لأنه بُعث معلمًا. قال المهلب: والدليل على صحة هذا القول أنه لما أمر الذى لم يحسن صلاته بالإعادة مرة بعد أخرى، ولم يحسن قال له: والله ما أحسن غير هذا فعلِّمنى، فوصف له عليه السلام هيئة الصلاة، ولم يأمره أن يعيد الصلاة التى نقصها مرة أخرى على الصفة التى علمه، ولم يقل له: لا يجزئك حتى تصلى هذه الصلاة على هذه الصفة، وإنما علمه كيف يصلى فيما يستقبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 واحتج الرازى لأبى حنيفة بحديث رفاعة بن رافع فى تعليم الأعرابى أن النبى، عليه السلام، قال له: (ثم ارفع فاعتدل قائمًا. . .) ، وذكر الحديث قال: إذا صليت على هذا فقد أتممتها، وما أنقصت من ذلك فإنما تنقص من صلاتك، فجعلها ناقصة يدل على الجواز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 2 - باب الدُّعَاءِ فِي الرُّكُوعِ / 154 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ عليه السلام، يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي) . وترجم له: (باب التسبيح والدعاء فى السجود) ، وزاد فيه بعد قوله: (اللهم اغفر لى) ، (يتأول القرآن به) . قال الطحاوى: اختلف العلماء فيما يدعو به الرجل فى ركوعه وسجوده، فقالت طائفة: لا بأس أن يدعو الرجل بما أحب، وليس عندهم فى ذلك شىء موقَّت، قالوا: وقد رويت آثار كثيرة عن الرسول أنه كان يدعو بها. منها: حديث موسى بن عقبة، عن عبد الله بن الفضل، عن الأعرج، عن عبيد الله بن أبى رافع، عن على بن أبى طالب قال: كان رسول الله يقول فى ركوعه: (اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، وأنت ربى، خشع سمعى وبصرى، ومخى وعظمى، وعصبى لله رب العالمين) ، ويقول فى سجوده: (اللهم لك سجدت، ولك أسلمت، وأنت ربى، سجد وجهى للذى خلقه وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين) . ومنها: حديث يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة قالت: فقدت النبى، عليه السلام، ذات ليلة، فظننت أنه أتى جاريته، فالتمسته فوقعت يدى على صدور قدميه وهو ساجد، وهو يقول: (اللهم إنى أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) . إلا أن مالكًا كره الدعاء فى الركوع، ولم يكره فى السجود، واقتصر فى الركوع على تعظيم الله تعالى، والثناء عليه، أظنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 ذهب إلى حديث على عن النبى، عليه السلام، قال: (أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا فيه فى الدعاء) ، فجعل فى هذا الحديث الركوع لتعظيم الله، تعالى، وإن كانت قراءة القرآن أفضل من ذكر التعظيم، فلذلك ينبغى أن يكون فى كل موضع ما جعل فيه، وإن كان غيره أشرف منه. ويؤيد هذا المعنى ما روى الأعمش عن النخعى قال: كان يقال إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استوجب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء. وروى ابن عيينة عن منصور بن المعتمر، عن مالك بن الحويرث، قال: (يقول الله: إذا شغل عبدى ثناؤه علىّ عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين) ، فلهذه الآثار كره مالك الدعاء فى الركوع، واستحبه فى السجود، والله أعلم. وقال أهل المقالة الأولى: تعظيم الرب والثناء عليه عند العرب دعاء، قاله ابن شهاب وهو حجة فى اللغة، وقد ثبت فى حديث عائشة المذكور فى هذا الباب الدعاء فى الركوع والسجود فلا معنى لمخالفة ذلك. وقالت طائفة: ينبغى له أن يقول فى ركوعه: سبحانك ربى العظيم ثلاثًا، وفى سجوده: سبحان ربى الأعلى ثلاثًا، واحتجوا بما رواه موسى بن أيوب عن عمه إياس بن عامر، عن عقبة بن عامر الجهنى، قال: لما نزلت: (فسبح باسم ربك العظيم) [الواقعة: 74] ، قال عليه السلام: (اجعلوها فى ركوعكم) ، ولما نزلت: (سبح اسم ربك الأعلى) [الواقعة: 96] ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 قال: (اجعلوها فى سجودكم) . وروى مرة إياس بن عامر، عن على بن أبى طالب، وذكر مثله، هذا قول الكوفيين، والأوزاعى، والشافعى، وأبى ثور، إلا أنهم لم يوجبوا ذلك، وقالوا: من ترك التسبيح فى الركوع والسجود فصلاته تامة، وقال إسحاق، وأهل الظاهر: إن ترك ذلك عليه الإعادة، وقال: حديث عقبة ورد مورد البيان فوجب امتثاله. فيل لهم: البيان إنما ورد فى المجمل، والركوع والسجود مفسر فلا يفتقر إلى بيان، فحمل حديث عقبة على الاستحباب بدليل تعليمه الأعرابى الصلاة وليس التسبيح منها، فلو وجب فى الركوع والسجود ذكر معين لا تجزئ الصلاة دونه لبيَّن ذلك النبى لأمته؛ لأنه قد بيَّن لهم فروض الصلاة وسننها، ولأخبرهم أن ما كان روى عنه من ضروب الدعاء والذكر فى الركوع منسوخ بحديث عقبة، فلما لم يثبت ذلك سقط قول أهل الظاهر وقول من شرط فى ذلك ذكرًا معينًا أيضًا. قال ابن القصار: لو قال: سبحان ربى الجليل، أو الكبير، أو القدير لكان معظمًا له، وإذا ثبت أن نفس التسبيح ليس بواجب، فتعيينه والعدول عنه إلى ما فى معناه جائز. وقوله: يتأول القرآن، يعنى: يتأول قوله تعالى: (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابًا) [النصر: 3] ، حين أعلمه الله بانقضاء أجله. وقال الخطابى: أخبرنى الحسن بن خلاد قال: سألت الزجاج عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 قوله: سبحانك اللهم وبحمدك، والعلة فى ظهور الواو؟ قال: سألت عنه المبرد فقال: سألت عنه المازنى، فقال: المعنى: سبحانك اللهم بجميع آلائك، وبحمدك سبحتك، وقال: ومعنى سبحانك: سبحتك، وسبحان الله معناه: سبحت الله ونزهته عن كل عيب، ونصبه على المصدر. 3 - باب القراءة فى الركوع والسجود وما يقول الإمام ومن خلفه إذا رفع رأسه من الركوع / 155 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ إِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَكَانَ إِذَا رَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ يُكَبِّرُ، وَإِذَا قَامَ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ، قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ) . ترجم له البخارى: (باب القراءة فى الركوع والسجود) ، ولم يُدخل فيه حديثًا بجواز ذلك ولا بمنعه. وقد روى عن النبى، عليه السلام، أنه نهى عن قراءة القرآن فى الركوع والسجود، ذكره الطبرى قال: أخبرنا عبد الله بن أبى زياد، قال: حدثنا عثمان بن عمر، قال: حدثنا داود بن قيس، عن إبراهيم بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس، عن على قال: (نهانى حبيبى (صلى الله عليه وسلم) أن أقرأ راكعًا وساجدًا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 واتفق فقهاء الأمصار على القول بهذا الحديث، وخالفه قوم من السلف وأجازوه، روى أبو إسحاق، عن عمرو بن ميمون قال: سمعت أخى سليمان بن ربيعة وهو ساجد، وهو يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ما لو شاء رجل يذهب إلى أهله فيتوضأ، ثم يجىء، وهو ساجد لفعل، وقال عطاء: رأيت عبيد بن عمير يقرأ وهو راكع فى المكتوبة، وأجازه الربيع بن خثيم، وقال إبراهيم النخعى فى الرجل ينسى الآية فيذكرها وهو راكع، قال: يقرؤها وهو راكع. قال الطبرى: وهؤلاء لم يبلغهم الحديث بالنهى عن ذلك عن الرسول، أو بلغهم فلم يَرَوْهُ صحيحًا، ورأوا قراءة القرآن حسنة فى كل حال، قال الطبرى: والخبر عندنا بذلك صحيح، فلا ينبغى لمصل أن يقرأ فى ركوعه وسجوده من أجله، وعلى هذا جماعة أئمة الأمصار. واختلف العلماء فيما يقول الإمام ومن خلفه إذا رفع رأسه من الركوع، فذهبت طائفة إلى الأخذ بحديث سعيد المقبرى، عن أبى هريرة، وقال: ينبغى للإمام أن يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، يجمعهما جميعًا، ثم يقول المأموم: ربنا ولك الحمد خاصة، هذا قول أبى يوسف، ومحمد بن الحسن، والشافعى، وابن نافع صاحب مالك، إلا أن الشافعى خالفهم فى المأموم، فقال: يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، كالإمام سواء. وقالت طائفة: يقول الإمام: سمع الله لمن حمده دون المأموم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 ويقول المأموم: ربنا ولك الحمد، هذا قول مالك والليث وأبى حنيفة، واحتجوا لهذا القول بحديث مالك عن سُمى، عن أبى صالح، عن أبى هريرة: (أن نبى الله قال: إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد) . قال ابن القصار: فأفرد الإمام بغير ما أفرد به المأمومين، ولو كان الإمام يجمع الأمرين لقال عليه السلام: إذا قال الإمام: ربنا ولك الحمد، فقولوا: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، حتى يكون ابتداء قولهم بعد انتهاء قوله، كما قال: وإذا كبر فكبروا، ولم يكن للفرق بينهما معنى، وحديث أبى صالح قاضٍ على حديث المقبرى ومبيِّن له، ويحتمل أن يكون عليه السلام، يقول: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد إذا كان منفردًا فى صلاته، وإنما سقط سمع الله لمن حمده للمأموم لاختلاف حاله وحال الإمام فى الصلاة، وأن الإمام مجيب للدعاء، كما قسم عليه السلام الذكر بين العاطس والمشمت، فكذلك قسم هذا الذكر بين الإمام والمأموم، وقول الإمام: سمع الله لمن حمده استجابة لدعاء داع، وقول المأموم: ربنا ولك الحمد على وجه المقابلة؛ لأنه لا حامد له غير المؤتم به فى هذه الحال، فلا يشرك أحدهما صاحبه. وقال أهل المقالة الأولى: ليس فى قوله عليه السلام: (وإذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد) ، دليل على أن ذلك يقوله الإمام دون غيره، ولو كان كذلك لاستحال أن يقولها من ليس بمأموم، فقد رأيناكم تُجمعون على أن المصلى وحده يقولها مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 قوله: سمع الله لمن حمده، فلما قالها المنفرد ولم ينتف ما ذكرنا من قوله عليه السلام، كان الإمام كذلك يقولها أيضًا، ولا ينفى ما قال رسول الله، واحتجوا أيضًا بما رواه ابن وهب، عن يونس، عن الزهرى، عن سعيد وأبى سلمة، عن أبى هريرة قال: (كان رسول الله يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة يكبر ويرفع رأسه يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، اللهم أنج الوليد بن الوليد. . .) الحديث. وبه قال ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت: (خسفت الشمس فى حياة رسول الله فصلى بالناس، فلما رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد) . قال الطحاوى: هذا من طريق الآثار، وأما من طريق النظر، فإنا قد رأيناهم أجمعوا أن المنفرد يقول ذلك، فأردنا أن ننظر فى الإمام هل حكمه حكم من يصلى وحده أم لا، فوجدنا الإمام يفعل فى صلاته كلها من التكبير والقراءة مثل ما يفعله المنفرد، ووجدنا أحكامه فيما يطرأ عليه كأحكامه، وكان المأموم فى ذلك بخلاف الإمام والمنفرد، وثبت باتفاقهم أن المصلى وحده يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ثبت أن الإمام يقولها أيضًا كذلك. 4 - باب فَضْلِ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ / 156 - فيه: أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ: (إِذَا قَالَ الإمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا ولَكَ الْحَمْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) . / 157 - وقال أبو هُرَيْرَةَ: لأقَرِّبَنَّ صَلاةَ رسول الله، فَكَانَ يَقْنُتُ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنْ صَلاةِ الظُّهْرِ، وَصَلاةِ الْعِشَاءِ، وَصَلاةِ الصُّبْحِ، بَعْدَ مَا يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ. / 158 - وفيه: رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: (كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ الرسول، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ، قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: مَنِ الْمُتَكَلِّمُ؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ: رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ) . وقد تقدم كلام العلماء فى حديث أبى هريرة فى الباب قبله، فأغنى عن إعادته. وفيه: أن القنوت كان فى صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح، ثم ترك فى الظهر والعشاء. وفى حديث رفاعة: ثواب التحميد لله، تعالى، والذكر له وما عند الله أكثر وأوسع، قال الله تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين) [السجدة: 17] . وفيه: دليل على جواز رفع المذكر صوته بالتكبير والتحميد فى المساجد الكثيرة الجمع ليسمع الناس، وليس ذلك بكلام تفسد به الصلاة، وكيف يفسدها، رفع الصوت أم لم يرفع، وهو مندوب إليه فيها، وكما لا يجوز لأحد أن يتكلم فى الصلاة بكلام الناس، وإن لم يرفع صوته، فكذلك لا يضره رفع الصوت بالذكر؛ يدل على ذلك حديث معاوية بن الحكم عن الرسول أنه قال: (إن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 صلاتنا هذه لا يصلح فيها شىء من كلام الناس، وإنما هو التهليل والتكبير، وقراءة القرآن) ، فأطلق أنواع الذكر فى الصلاة، فلهذا قلنا: إن المذكر إذا رفع صوته ب (ربنا ولك الحمد) ، وسائر التكبير لا يضره، وقد خالف ذلك بعض المتأخرين بلا دليل ولا برهان، وقد تقدم ذكر ذلك فى باب من أسمع الناس تكبير الإمام قبل هذا. 5 - باب الطُّمَأْنِينَةِ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: رَفَعَ النَّبِيُّ عليه السلام، رأسه حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ. / 159 - فيه: أَنَسٌ: نعَتُ صَلاةَ رسول الله، فَكَانَ يُصَلِّي: فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَامَ، حَتَّى نَقُولَ: قَدْ نَسِيَ. / 160 - وفيه: الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رُكُوعُ الرسول وَسُجُودُهُ، وَإِذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ، وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ. / 161 - وفيه: مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ: أنه أراهم صَلاةُ رسول الله - وَذَلكَ فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلاةٍ - فَقَامَ، فَأَمْكَنَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَمْكَنَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَأَنْصَبَ هُنَيَّئةً، فَصَلَّى بِنَا صَلاةَ شَيْخِنَا أَبِي يزيد. . .، الحديث. قال المؤلف: هذه الصفة فى الصلاة حسنة لمن التزمها فى خاصة نفسه، غير أن فعل أنس ومالك بن الحويرث، ونعتهما صلاة رسول الله بهذه الصفة يدل أنهم كانوا لا يبالغون فى الطمأنينة فى الرفع من الركوع ولا بين السجدتين مثل ما ذكر فى الحديث عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 الرسول، فأراهم أنس ومالك بن الحويرث ذلك، ولم يقولا لهم: إن صلاتكم هذه التى تقصرون فيها عن بلوغ هذا الحد من الطمأنينة لا تجوز، وإن كانت هذه الصفة أفضل لمن قدر عليها. وقد قال أبو أيوب فى باب المكث بين السجدتين بعد ذلك: وقد كان أبو يزيد يفعل شيئًا لم أرهم يفعلونه، وكذلك قال ثابت: عن أنس فى ذلك الباب أنه كان يصنع شيئًا لم أراكم تصنعونه: كان إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل: قد نسى، وبين السجدتين كذلك، فدل أن الذى كانوا يصنعونه فى ذلك من خلاف هذه الآثار جائز أيضًا؛ إذ لا يجوز أن يتفق الصحابة على صفة من الصلاة إلا وهى جائزة. هذا المفهوم من هذه الآثار، وقد ترجم لحديث مالك بن الحويرث، ولحديث البراء، ولحديث أنس: (باب المكث بين السجدتين) . 6 - باب يَهْوِي بِالتَّكْبِيرِ حِينَ يَسْجُدُ وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَضَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ. / 162 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ: أنه كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ صَلاةٍ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ وَغَيْرِهَا فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ، فَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا. . .، الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 / 163 - وفيه: حديث أَنَسَ: أن النبى، عليه السلام، ركب فَرَسًا - فَجُحِشَ شِقُّهُ، فَصَلَّى قَاعِدًا. . .، إلى قوله: (وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا) . وقد تقدم معنى هذا الباب: أن التكبير فى الصلاة كلها مع الخفض والرفع، فى (باب إتمام التكبير فى الركوع) ، فلا معنى لإعادة القول فيه، ولا خلاف فيه بين الفقهاء إلا فى تكبير القيام من ثنتين، وسيأتى ذلك فى (باب يكبر وهو ينهض بين السجدتين) ، إن شاء الله. واختلفوا فى وضع اليدين قبل الركبتين فى السجود، فذهب مالك، والأوزاعى إلى ما روى فى ذلك عن ابن عمر، رواه أبو مصعب عن مالك فى (المبسوط) ، قال: وهو أحسن فى سكينة الصلاة ووقارها، والحجة لذلك ما رواه أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبى هريرة أن النبى قال: (إذا سجد أحدكم فليضع يديه على الأرض قبل ركبتيه ولا يبرك بروك البعير) ، ذكره إسماعيل بن إسحاق، وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه يضع أيهما شاء قبل صاحبه، وذلك واسع، ذكره ابن حبيب. وقالت طائفة: يضع ركبتيه قبل يديه روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وهو قول الثورى والكوفيين، وذكر ابن شعبان عن مالك مثله، وبه قال ابن وهب، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وحجتهم حديث وائل بن حجر: (أن النبى، عليه السلام، بدأ فوضع ركبتيه قبل يديه) . قال الطحاوى: اتفقوا أنه يضع رأسه بعد يديه وركبتيه، ثم يرفعه قبلهما، ثم كانت اليدان متقدمتين فى الرفع، فوجب أن تكون مؤخرتين فى الوضع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 7 - باب فَضْلِ السُّجُودِ / 164 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: (هَلْ تُمَارُونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟) ، قَالُوا: لا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟) ، قَالُوا: لا، قَالَ: (فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا، فَلْيَتَّبِعْه، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الْقَمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا، حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَدْعُوهُمْ، وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، وَلا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلا الرُّسُلُ، وَكَلامُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ، سَلِّمْ، وَفِي جَهَنَّمَ كَلالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟) ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ لا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلا اللَّهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بقدر بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ، ثُمَّ يَنْجُو، حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَمَرَ الْمَلائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ، فَيُخْرِجُونَهُمْ، وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ. . .) ، وذكر باقى الحديث. قال المؤلف: قوله عليه السلام: (وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود) ، يدل أن الصلاة أفضل الأعمال لما فيها من الركوع والسجود، وقد قال عليه السلام: (أقرب ما يكون العبد إلى الله إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 سجد) ، وقرأ: (واسجد واقترب) [العلق: 19] ، ولعن الله إبليس، لإبائه عن السجود، لعنةً، أبلسهُ بها وأيأسهُ من رحمته إلى يوم القيامة. وقال ثوبان لرسول الله: دُلَّنى على عمل أكون به معك فى الجنة قال: (أكثر من السجود) . وقيل فى قوله تعالى: (سيماهم فى وجوههم من أثر السجود) [الفتح: 29] ، هو أثر السهر والصفرة، وقيل: الصلاة والخشوع والوقار، وقيل: هو ما يتعلق من التراب بموضع السجود، وقيل فيها غير هذا وسأذكر ذلك فى الباب بعد هذا، وأذكر فيه من كره آثار السجود فى الوجه ومن رخص فيها. قال المهلب: وفيه إثبات الرؤية لله، تعالى، نصًا من كلام رسول الله، وهو تفسير لقوله: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) [القيامة: 22، 23] ، يعنى: مبصرة لله تعالى، ولو لم يكن هذا القول للنبى بالرؤيا نصًا لكان لنا فى قوله تعالى ما فيه كفاية لمن أنصف، وذلك أن النظر إذا قرن بذكر الوجه لم يكن إلا نظر البصر، وإذا قرن بذكر القلب كان بمعنى اليقين، فلا يجوز أن ينقل حكم الوجوه إلى حكم القلوب. فإن اعترض معترض علينا بقوله تعالى: (ولا تدركه الأبصار) [الأنعام: 103] ، وأن ذلك على العموم. قيل: يحتمل أن يكون على العموم لولا ما خصه من قوله عليه السلام: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر والشمس وليس دونهما سحاب) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 وقوله: (فيها منافقوها) ، يدل أن المنافقين يتبعون محمدًا لما انكشف لهم من الحقيقة رجاء منهم أن ينتفعوا بذلك، ويلتزموا الرياء فى الآخرة كما التزموه فى الدنيا حتى تُبينهم الغُرَرُ والتحجيل من أثر الوضوء عند الحوض، فيتبين حينئذ المنافق؛ إذ لا غرة له ولا تحجيل، ويؤخذ بهم ذات الشمال فى جملة من ارتد بعده عليه السلام فيقال: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك، فيقول: سحقًا سحقًا. وقوله: (فيأتيهم الله) ، الإتيان هاهنا إنما هو كشف الحجب التى بين أبصارنا وبين رؤية الله؛ لأن الحركة والانتقال لا تجوز على الله؛ لأنها صفات الأجسام المتناهية، والله تعالى، لا يوصف بشىء من ذلك، فلم يبق من معنى الإتيان إلا ظهوره تعالى إلى أبصار لم تكن تراه ولا تدركه. والضحك: هو صفة من صفات الله، ومعناه عند العلماء: الاستبشار والرضا، لا ضحك بلهوات وتعجب كما هو منا، وسأستقصى القول فى رؤية الله تعالى، وسائر معانى هذا الحديث وتفسير اللغة والعربية فى (كتاب الاعتصام) ، فى (باب قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) [القيامة: 22، 23] ، إن شاء الله. تفسير الغريب: قوله: (منهم الموبق بعمله) ، قال صاحب (الأفعال) : وبق الرجل: إذا هلك بذنوبه. وقوله: (ومنهم من يخردل) ، قال صاحب (العين) : خردلت اللحم: فصلته، وخردلت الطعام: أكلت خياره. وقال غيره: خردلته: صرعته، والجردلة بالجيم، الإشراف على السقوط والهلكة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 وقوله: (قد امتحشوا) ، المحش: إحراق الجلد، من كتاب (العين) . وقوله: (قشبنى ريحها) ، قال صاحب (الأفعال) : تقول العرب: قشبت الشىء: قذرته، وقشب الشىء، بكسر الشين، قشبًا: قذر، وقال ابن قتيبة: قشبنى ريحها، هو من القشيب، والقشيب: السم، كأنه قال: سمنى ريحها، ويقال لكل مسموم: قشيب. وقال الخطابى: يقال: قشبه الدخان إذا ملأ خياشيمه وأخذ بكظمه وكانت ريحه طيبة، وأصل القشب خلط السم بالطعام، يقال: قشبه: إذا سمه، وقشبتنا الدنيا: أى فتنتنا، فصار حبها كالسم الضار، ثم قيل على هذا: قشبه الدخان، وقشبته الريح الزكية: إذا بلغت منه الكظم. ومنه حديث عمر أنه كان بمكة فوجد ريح طيب فقال: من قشبنا؟ فقال معاوية: يا أمير المؤمنين، دخلت على أم حبيبة فطيبتنى. 8 - باب يُبْدِي ضَبْعَيْهِ وَيُجَافِي فِي السُّجُودِ / 165 - فيه: ابْنِ بُحَيْنَةَ (أَنَّ رسول الله كَانَ إِذَا صَلَّى فَرَجَ بَيْنَ يَدَيْهِ، حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ) . وهذه صفة مستحسنة عند العلماء، ومن تركها لم تبطل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 صلاته، وقد اختلف السلف فى ذلك، فممن روى عنه أنه كان يجافى فى سجوده: على بن أبى طالب، والبراء، وأبو مسعود، وأبو سعيد الخدرى، وابن عمر، ذكره الطبرى، وقال الحسن: حدثنى أحمر صاحب النبى، قال: (إن كنا لنأوى لرسول الله مما يجافى بمرفقيه عن جنبيه) ، وفعله الحسن، وقال النخعى: إذا سجد فليفرج بين فخذيه. وممن رخص أن يعتمد بمرفقيه، قال ابن مسعود: هيئت عظام ابن آدم للسجود فاسجدوا حتى المرافق. وأجاز ابن سيرين أن يعتمد بمرفقيه على ركبتيه فى سجوده، وقال نافع: كان ابن عمر يضم يديه إلى جنبيه إذا سجد، وسأله رجل: هل يضع مرفقيه على فخذيه إذا سجد؟ قال: اسجد كيف تيسر عليك. وقال أشعث بن أبى الشعثاء، عن قيس بن سكن: كل ذلك كانوا يفعلون ينضمون ويجافون، كان بعضهم ينضم، وبعضهم يجافى. وروى ابن عيينة، عن سُمى، عن النعمان بن أبى عياش، قال: (شكى إلى رسول الله الإدغام والاعتماد فى الصلاة، فرخص لهم أن يستعين الرجل بمرفقيه على ركبتيه أو فخذيه) ، ذكر هذا كله ابن أبى شيبة فى (مصنفه) . وإنما كان يجافى عليه السلام، فى سجوده ويفرج بين يديه حتى يبدى بياض إبطيه، والله أعلم، ليخف على الأرض ولا يثقل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 عليها، كما ذكر أبو عبيد، عن عطاء بن أبى رباح، أنه قال: خفوا على الأرض. قال أبو عبيد: وجهه أنه يريد ذلك فى السجود، يقول: لا ترسل نفسك على الأرض إرسالاً ثقيلاً، فيؤثر فى جبهتك، ويبين ذلك حديث مجاهد أن حبيب بن أبى ثابت سأله قال: إنى أخشى أن يؤثر السجود فى جبهتى؟ قال: إذا سجدت فتخاف، يعنى: خفف نفسك وجبهتك على الأرض، وبعض الناس يقولون: فتجاف، والمحفوظ عندى بالخاء. وقد ذكر ابن أبى شيبة من كره ذلك ومن رخص فيه، ذكر عن ابن عمر: أنه رأى رجلاً قد أثر السجود فى جبهته، فقال: لا يشينن أحدكم وجهه، وكرهه سعد بن أبى وقاص، وأبو الدرداء، والشعبى، وعطاء. وممن رخص فى ذلك: قال أبو إسحاق السبيعى: ما رأيت سجدة أعظم من سجدة ابن الزبير، ورأيت أصحاب على، وأصحاب عبد الله وآثار السجود فى جباههم وأنوفهم، وقال الحسن: رأيت ما يلى الأرض من عامر بن عبد قيس مثل ثفن البعير. وقد روى عن سعيد بن جبير، وعكرمة فى تأويل قوله تعالى: (سيماهم فى وجوههم من أثر السجود) [الفتح: 29] ، قالا: هو التراب وكذا الطهور. وروى ابن وهب، عن مطرف، عن مالك أنه ما تعلق بالجبهة من أثر الأرض وهذا يشبه الرخصة فى هذا الباب. وفى الآية أقوال أخر قيل: صلاتهم تبدو فى وجوههم يوم القيامة، عن ابن عباس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 وقال عطية: مواضع السجود أشد بياضًا يوم القيامة، وهو قول الحسن ومقاتل. وعن ابن عباس: هو السمت الحسن فى الدنيا، وقال مجاهد: هو سيما الإسلام وسمته وتواضعه. وقال الحسن: هو الصفرة التى تعلو الوجه من السهر والتعب. والضبعان: العضدان، واحدهما: ضبع، ومنه الاضطباع فى اللباس، ويقال: ضبعت: إذا مددت يدى ومنه قول الشاعر: ولا صلح حتى تضبعون ونضبعا أى: حتى تمدون أضباعكم إلينا بالسيوف ونمد أضباعنا، عن ابن قتيبة، وفى كتاب العين: المضبعة: اللحمة التى تحت الإبط. وقوله: إن كنا لنأوى لرسول الله، قال صاحب العين: أويت له: رفقت له. 9 - باب يَسْتَقْبِلُ بِأَطْرَافِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ قَالَهُ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام. لا يختلف العلماء فى استحباب هذه الصفة فى السجود، وكذلك يستحبون أن يستقبل الساجد بأنامل يديه القبلة فى سجوده، وإن فعل غير ذلك فصلاته جائزة عندهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 0 - باب إِذَا لَمْ يُتِمَّ سُجُودَه قد تقدم فى الجزء الأول من الصلاة، فأغنى عن إعادته. 1 - باب السُّجُودِ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ / 166 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ (أُمِرَ الرسول أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ، وَلا يَكُفَّ شَعَرًا، وَلا ثَوْبًا: الْجَبْهَةِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ) . / 167 - ورواه عبد الله بن طَاوُسٍ، عن أبيه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: قَالَ رسول الله: (أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الْجَبْهَةِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ، عَلَى أَنْفِهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ، وَلا يكْف الشَّعَرَ وَالثِّيَابَ) . / 168 - وفيه: الْبَرَاءُ قَالَ: (كُنَّا نُصَلِّي خَلْفَ الرسول، فَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ، حَتَّى يَضَعَ النَّبِيُّ جَبْهَتَهُ عَلَى الأرْضِ) . اختلف العلماء فيما يجزئ السجود عليه من الآراب السبعة بعد إجماعهم أن السجود على الوجه فريضة، فقالت طائفة: إذا سجد على جبهته دون أنفه أجزأه، روى ذلك عن ابن عمر، وعطاء، وطاوس، والحسن، وابن سيرين، والقاسم، وسالم، والشعبى، والزهرى، وهو قول مالك، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى فى أحد قوليه، وأبى ثور، والمستحب عندهم أن يسجد على أنفه مع جبهته، وقالت طائفة: يجزئه أن يسجد على أنفه دون جبهته، هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 قول أبى حنيفة، وروى مثله عن طاوس، وابن سيرين، وذكر أبو الفرج، عن ابن القاسم مثله. وأوجب قوم من أهل الحديث السجود على الأنف والجبهة جميعًا، روى ذلك عن النخعى، وعكرمة، وابن أبى ليلى، وسعيد بن جبير، وهو قول أحمد، وطائفة، وهو مذهب ابن حبيب، وقال ابن عباس: من لم يضع أنفه فى الأرض لم يصل. وقالت طائفة: لا يجزئه إن ترك السجود على شىء من الأعضاء السبعة، وهو أحد قولى الشافعى، وبه قال أحمد وإسحاق، وهو مذهب ابن حبيب، وأظن البخارى مال إلى هذا القول، وحجته حديث ابن عباس أن النبى، عليه السلام، أمر أن يسجد على سبعة أعضاء، فلا يجزئ السجود على بعضها إلا بدلالة. وحجة من أوجب السجود على الجبهة والأنف جميعًا أنه قد روى فى بعض طرق هذا الحديث، أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء، منها الوجه، فلا يخص بالجبهة دون الأنف. وبهذا الحديث احتج أبو حنيفة فى أنه يجزئ السجود على الأنف خاصة، وقال: ذكره للوجه يدل على أنه أى شىء وضع منه أجزأه، وإذا جاز عند من خالفنا الاقتصار على الجبهة دون الأنف جاز الاقتصار على الأنف دون الجبهة؛ لأنه إذا سجد على أنفه، قيل: قد سجد على وجهه، كما إذا اقتصر على جبهته. وحجة أهل المقالة الأولى أن الأحاديث إنما ذكر فيها الجبهة ولم يذكر الأنف، فدل على أن الجبهة تجزئ، وأن الأنف تبع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 فإن قيل: فقد روى ابن طاوس، عن أبيه فى هذا الحديث أنه عليه السلام قال: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة، وأشار بيده على أنفه) . قال المهلب: فالجواب أن الأنف غير مشترط فى ذلك؛ لأنه إنما أشار بيده على أنفه إلى جبهته، فجعل الأنف تبعًا للجبهة، ولم يقل إلى أنفه. قال ابن القصار: وإجماع الأعصار حجة، ووجدنا عصر التابعين على قولين: فمنهم من أوجب السجود على الجبهة والأنف، ومنهم من جوز الاقتصار على الجبهة، فمن جوز الاقتصار على الأنف دون الجبهة خرج عن إجماعهم، قال: ويقال لمن أوجب السجود على الآراب السبعة: إن الله ذكر السجود فى كتابه فى مواضع، فلم يذكر فيها غير الوجه، فقال: (يخرّون للأذقان يبكون) [الإسراء: 109] ، وقال: (سيماهم فى وجوههم من أثر السجود) [الفتح: 29] . وقال عليه السلام: (سجد وجهى للذى خلقه وشق سمعه وبصره) ، فلم يذكر غير الوجه، وقال للأعرابى الذى علمه: (مكن جبهتك من الأرض) ، ولم يذكر ركبتيه ولا رجليه، ولو كان حكم السجود متعلقًا بذلك لكان مع العجز عنه ينتقل إلى الإيماء كالرأس، فلما كان مع العجز يقع الإيماء بالرأس حسب، ولا يؤمى بالركبتين والقدمين واليدين، علمنا أن الحكم تعلق بالوجه حسب. فإن قيل: قد قال عليه السلام: (أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 قيل: لا يمتنع أن يؤمر بفعل الشىء ويكون بعضه مفروضًا وبعضه مسنونًا، ولا يكون وجوب بعضه دليلاً على وجوب باقيه، إلا بدلالة الجمع بين ذلك، وقد خصصناه بدلالة الكتاب والسنة. 2 - باب السُّجُودِ عَلَى الأنْفِ فِى الْطِينِ / 169 - فيه: أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: (اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ العَشْرَ الأوَلِ مِنْ رَمَضَانَ. . .) ، وذكر الحديث إلى قوله: (وَإِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ، فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ عليه السلام، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ وَأَرْنَبَتِهِ، تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ) . قال المؤلف: فى هذا الحديث حجة لمن أوجب السجود على الأنف والجبهة، وقالوا: هذا الحديث مفسِّر لقوله: (أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء) ، فذكر منها الوجه، وأبان فى هذا الحديث أن سجوده كان على أنفه وجبهته. واحتج من قال: يجزئه السجود على جبهته، بأن قال: إنما أمر الساجد أن يمس من وجهه الأرض ما أمكنه إمساسه محاذيًا به القبلة، ولا شىء من وجه ابن آدم يمكنه إمساسه منه غير جبهته وأنفه، فإذا سجد على جبهته وأنفه، فقد فعل أكثر ما يقدر عليه، فإن قصَّر عن ذلك وسجد على جبهته دون أنفه، فقد أدى فرضه، وهذا إجماع من جمهور الأمة. وفى الحديث: أن المصلى فى الطين يسجد عليه، وهذا عند العلماء إذا كان يسيرًا لا يمرث وجهه ولا ثيابه؛ ألا ترى أن وجهه كان سالمًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 من الطين، وإنما كان منه شىء على جبهته وأرنبته، فإذا كان الطين كثيرًا، فالسنة فيه ما روى يعلى بن أمية عن الرسول أنه صلى بإيماء على راحلته فى الماء والطين، وبه قال أكثر الفقهاء. واختلف قول مالك فى ذلك، فروى أشهب عنه فى العتبية أنه لا يجزئه إلا أن ينزل بالأرض ويسجد عليها على حسب ما يمكنه؛ استدلالاً بحديث أبى سعيد، وقال ابن حبيب: مذهب مالك أنه يُؤمى، إلا عبد الله بن عبد الحكم، فإنه كان يقول: يسجد عليه ويجلس فيه إذا كان لا يعم وجهه ولا يمنعه من ذلك إلا إحراز ثيابه. قال ابن حبيب: وبالأول أقول؛ لأنه أشبه بِيُسْر الله فى الدين، وأنه لا طاعة فى تلوث الثياب فى الطين، وإنما يؤمى فى الطين إذا كان لا يجد المصلى موضعًا نقيًا من الأرض يصلى عليه، فإن طمع أن يدرك موضعًا نقيًا قبل خروج الوقت لم يجزه الإيماء فى الطين. 3 - باب عَقْدِ الثِّيَابِ وَشَدِّهَا قد تقدم فى أول (كتاب الصلاة) ، فأغنى عن الإعادة. 4 - باب لا يَكُفُّ شَعَرًا ولا ثوبًا فِي الصَّلاةِ / 170 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: أن النَّبِيِّ عليه السلام، قَالَ: (أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، ولا نَكُفُّ شَعَرًا وَلا ثَوْبًا) . قال الطبرى: فيه البيان أنه غير جائز للمرء أن يصلى عاقصًا شعره أو كافًا ثوبه، يرفع أسافله من الأرض أو يشمر أكمامه، فإن صلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 وهو عاقص شعره أو كاف ثوبه، فقد أساء ولا إعادة عليه لإجماع الأمة على ذلك، ورواية عن الرسول على أنه لا إعادة عليه، وممن روى عنه ذلك من السلف: على، وابن مسعود، وحذيفة، وابن عمر، وأبو هريرة، وكان ابن عباس إذا سجد يقع شعره على الأرض، وقال ابن عمر لرجل رآه يسجد معقوصًا شعره: أرسله يسجد معك. وقال ابن المنذر: على هذا قول أكثر أهل العلم غير الحسن البصرى، فإنه قال: من صلى عاقصًا شعره أو كافًا ثوبه، فعليه إعادة الصلاة. وأجمع الفقهاء أنه يجوز السجود على اليدين فى الثياب، وإنما كره ذلك ابن عمر، وسالم، وبعض التابعين، وحجة الجماعة ما رواه يحيى بن أبى كثير، عن أبى عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه: (أن نبى الله نهى أن يكشف الثوب عن يده إذا سجد) . وقال الحسن: كان أصحاب الرسول يسجدون وأيديهم فى ثيابهم، ذكره ابن أبى شيبة، وإجماع الأمة على جواز السجود على الركبتين مستورتين. وحجة من كره ذلك أن اليدين حكمهما حكم الوجه لا حكم الركبتين، وقياسًا على أن اليدين من المرأة تبع للوجه فى كشفهما فى الإحرام، فكذلك اليدان تبع للوجه فى كشفهما فى السجود، واحتج الطحاوى بهذا الحديث فى جواز السجود على كور العمامة فقال: قال عليه السلام: (أُمرت أن أسجد على سبعة آراب) ، ولو سجد على ركبتيه ويديه ورجليه وهى مستورة جاز، وكذلك السجود على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 الجبهة وهى مستورة، وقد تقدم اختلاف العلماء فى السجود على كور العمامة فى باب السجود على الثوب فى شدة الحر فى أبواب اللباس فى الصلاة قبل هذا. وقوله: ولا أكف شعرًا، ولا ثوبًا، يعنى: ولا أضمهما، ويروى ولا أكفت ثوبًا، والمعنى واحد، وفى الحديث: (اكفتوا صبيانكم عند فحمة العشاء، فإن للشيطان انتشارًا وخطفة بالليل) ، ومنه قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض كفاتًا أحياء وأمواتًا) [المرسلات: 25، 26] . 5 - باب لا يَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهِ فِي السُّجُودِ وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: سَجَدَ النَّبِيُّ عليه السلام، وَوَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلا قَابِضِهِمَا. / 171 - فيه: أَنَسِ، قَالَ عَلَيهِ السَّلاَم: (اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ) . قال الطبرى: فيه أن الحق على المصلى أن يجافى عن جنبيه ويعلى صدره عن الأرض، ولا يفترش ذراعيه، وذلك أنه إذا افترشهما لم يبد وضح إبطيه كما كان يبدو من رسول الله على نحو ما تقدم قبل هذا. فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما حدثكم به ابن سنان، عن أبى عاصم، عن ابن جريج، عن نافع، قال: كان ابن عمر يصلى فيضم يديه إلى جنبيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 قيل له: جائز لم يفعل ذلك ابن عمر إلا عند ازدحام الناس وتضايق المكان حتى لا يقدر على التجافى فيه؛ لأن المعروف عنه ما حدثنا أبو كريب: حدثنا عمر بن عبيد الطنافسى، عن آدم بن على قال: صليت إلى جنب ابن عمر، فافترشت ذراعى، فقال لى: (لا تفترش افتراش السبع، وادعم على راحتيك، وأبد ضبعيك، فإذا فعلت ذلك سجد كل عضو منك) ، فإذا كان ابن عمر قد روى عنه الوجهان، فالحق أن يوجه كل واحد منهما إلى أولى الأمور بها، وأشبهها بالسنة، وقد تقدم فى (باب يبدى ضبعيه ويجافى فى السجود) ، إلا أنه لا إعادة عند جميع العلماء على من ترك ذلك لاختلاف السلف فيه. 6 - باب مَنِ اسْتَوَى قَاعِدًا فِي وِتْرٍ مِنْ صَلاتِهِ ثُمَّ نَهَضَ / 172 - فيه: مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ (أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ عليه السلام، يُصَلِّي، فَإِذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلاتِهِ لَمْ يَنْهَضْ، حَتَّى يَسْتَوِيَ جَالسًا) . ذهب جمهور العلماء إلى ترك الأخذ بهذا الحديث، وقالوا: إذا رفع رأسه من السجدة الآخرة من الركعة الأولى والركعة الثالثة ينهض على صدور قدميه ولا يجلس، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وقال النعمان بن أبى عياش: أدركت غير واحد من أصحاب الرسول إذا رفع رأسه من السجدة فى الركعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 الأولى والثالثة قام كما هو ولم يجلس، وكان النخعى يسرع فى القيام فى ذلك، وقال الزهرى: كان أشياخنا يقولون ذلك. وقال أبو الزناد: تلك السنة، وبه قال مالك، والثورى، والكوفيون، وأحمد، وإسحاق، وقال ابن حنبل: أكثر الأحاديث على هذا، وذكر عن عمر، وعلى، وعبد الله. وذهب الشافعى إلى الأخذ بهذا الحديث فقال: يقعد فى وتر من صلاته ثم ينهض. قال الطحاوى: وحجة الجماعة على الشافعى ما حدثنا على بن سعيد بن بشر قال: حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع، حدثنا أبو خيثمة، حدثنا حسن بن الحُرِّ، حدثنى عيسى بن عبد الله بن مالك، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن عباس بن سهل الساعدى: كان فى مجلس فيه أبوه، وكان من أصحاب الرسول وفى المجلس أبو هريرة، وأبو أسيد، وأبو حميد الساعدى من الأنصار، وأنهم تذاكروا الصلاة، فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله قالوا: فأرنا، فقام يصلى، فقام فكبر ورفع يديه فى أول التكبير، ثم ذكر حديثًا طويلاً فيه أنه لما رفع رأسه من السجدة الثانية فى الركعة الأولى قام ولم يتورك. فلما جاء هذا الحديث كما ذكرنا وخالف حديث مالك بن الحويرث احتمل أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 يكون ما فعله رسول الله فيه لعلة كانت به فقعد من أجلها، لا لأن ذلك من سنة الصلاة، كما كان ابن عمر يتربع فى الصلاة، فلما سئل عن ذلك قال: إن رجلاى لا تحملانى، فكذلك احتمل أن يكون ما فعله رسول الله من القعود كان لعلةٍ أصابته حتى لا يضاد حديث مالك ابن الحويرث، وهذا أولى بنا من حمل ما روى عنه على التنافى والتضاد. وحديث أبى حميد أيضًا حكاه بحضرة جماعة من أصحاب الرسول فلم ينكر عليه ذلك أحد منهم، فدل أن ما عندهم فى ذلك غير مخالف لما حكاه لهم فى حديث مالك ابن الحويرث من قول أيوب أن ما كان عمرو بن سلمة يفعله من ذلك لم ير الناس يفعلونه، وهو قد رأى جماعة من جلة التابعين، فذلك حجة فى دفع حديث مالك بن الحويرث أن تكون سنة. ثم النظر يوافق ما رواه أبو حميد، وذلك أنا رأينا الرجل إذا خرج فى صلاته من حال إلى حال استأنف ذكرًا، من ذلك أنا رأيناه إذا أراد الركوع كبر وخر راكعًا، وإذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، وإذا خر من القيام إلى السجود قال: الله أكبر، وإذا رفع رأسه من السجود قال: الله أكبر، وإذا عاد إلى السجود فعل ذلك أيضًا، وإذا رفع رأسه لم يكبر من بعد رفعه رأسه إلى أن يستوى قائمًا غير تكبيرة واحدة، فدل ذلك أنه ليس بين سجوده وقيامه جلوس، ولو كان بينهما جلوس لاحتاج إلى أن يكون يكبر بعد رفعه رأسه من السجود للدخول فى ذلك الجلوس، ولاحتاج إلى تكبيرة أخرى إذا نهض للقيام، فلما لم يؤمر بذلك، ثبت أن لا قعود بين الرفع من السجدة الآخرة والقيام إلى الركعة التى بعدها؛ ليكون ذلك وحكم سائر الصلاة مؤتلفًا غير مختلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 7 - باب كَيْفَ يَعْتَمِدُ عَلَى الأرْضِ إِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَةِ / 173 - فيه: أَبو قِلابَةَ: جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ، فَصَلَّى بِنَا، وَقَالَ: إِنِّي لأصَلِّي بِكُمْ، وَمَا أُرِيدُ الصَّلاةَ، لَكِنى أُرِيدُ أَنْ أُرِيَكُمْ كَيْفَ كَانَ رسول الله يُصَلِّي، قَالَ أَيُّوبُ: قُلْتُ لأبِي قِلابَةَ: كَيْفَ كَانَتْ صَلاتُهُ؟ قَالَ: مِثْلَ صَلاةِ شَيْخِنَا هَذَا عَمْرَو بْنَ سَلِمَةَ، فقَالَ أَيُّوبُ: وَكَانَ ذَلِكَ الشَّيْخُ يُتِمُّ التَّكْبِيرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ من السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ، جَلَسَ وَاعْتَمَدَ عَلَى الأرْضِ، ثُمَّ قَامَ. اختلف العلماء فى اعتماد الرجل على يديه عند القيام، فروى عن ابن عمر أنه كان يعتمد على يديه إذا أراد القيام، ويروى مثله عن مكحول، وعطاء، ومسروق، والحسن، وهو قول الشافعى، وأحمد، والحجة لهم هذا الحديث، وأجازه مالك فى العتبية، ثم كرهه. ورأت طائفة أن لا يعتمد على يديه إلا أن يكون شيخًا كبيرًا أو مريضًا، وروى ذلك عن على بن أبى طالب، وبه قال النخعى، والثورى، وكره الاعتماد ابن سيرين، وقال الشافعى: كان عمر، وعلى وأصحاب رسول الله ينهضون فى الصلاة على صدور أقدامهم، وعن ابن مسعود مثله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 8 - باب يُكَبِّرُ، وَهُوَ يَنْهَضُ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُكَبِّرُ فِي نَهْضَتِهِ. / 174 - فيه: أَبُو سَعِيد: أَنَّهُ صَلَّى فَجَهَرَ بِالتَّكْبِيرِ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ، وَحِينَ سَجَدَ، وَحِينَ رَفَعَ، وَحِينَ قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ فعل. / 175 - وفيه: مُطَرِّفٍ قَالَ: صَلَّيْتُ أَنَا وَعِمْرَانُ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَكَانَ إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ كَبَّرَ، وَإِذَا نَهَضَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قال عِمْرَانُ: لَقَدْ صَلَّى بِنَا هَذَا صَلاةَ رسول الله. وقد تقدم فى (باب إتمام التكبير فى الركوع) ، أن مذهب أكثر العلماء أن التكبير فى القيام من الركعتين مع قيامه كسائر تكبير الصلاة، التكبير فى حال الخفض والرفع على ما جاء فى حديث هذا الباب. واختلف فيه قول مالك، فروى ابن وهب عنه أنه قال: إن كبر بعد استوائه فهو أحب إلىّ، وإن كبر فى نهوضه بعد ما يفارق الأرض فهو فى سعة، وذكر فى (الموطأ) عن أبى هريرة، وجابر، وابن عمر: أنهم كانوا يكبرون فى حال قيامهم. وقال فى (المدونة) : لا يكبر حتى يستوى قائمًا، ويحتمل أن يكون وجه هذه الرواية إجماعهم على أن تكبير افتتاح الصلاة هو بعد القيام، فشبه القيام إلى الثنتين الباقيتين بالقيام فى أول الصلاة، والله أعلم، إذ كان فرض الصلاة ركعتين ركعتين، ثم زيد فيها ركعتان، فجعل افتتاح الركعتين المزيدتين كافتتاح المزيدة عليهما، وقوله الذى وافق فيه الجماعة أولى وهو الذى تشهد له الآثار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 9 - باب سُنَّةِ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ وَكَانَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ تَجْلِسُ فِي صَلاتِهَا جِلْسَةَ الرَّجُلِ، وَكَانَتْ فَقِيهَةً. / 176 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ: أنه تَرَبَّعُ فِي الصَّلاةِ فى جَلَوسَه، فَفَعَلْهُ ابنه عبد الله، وَهو يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ، فَنَهَاه ابْنُ عُمَرَ، وَقَالَ: إِنَّمَا سُنَّةُ الصَّلاةِ أَنْ تَنْصِبَ رِجْلَكَ الْيُمْنَى وَتَثْنِيَ الْيُسْرَى، فَقُلْتُ: إِنَّكَ تَفْعَلُ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ رِجْلايَّ لا تَحْمِلانِي. / 177 - وفيه: أَبُو حُمَيْدٍ: أنه حكى صَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ فى نفر من أصحابه، وقال: أَنَا أَحْفَظَكُمْ لذلك، رَأَيْتُهُ عليه السلام، إِذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حِذَو مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ مَكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى، حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ إِلَى مَكَانَهُ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلا قَابِضِهِمَا، وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ، وَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى أصابع رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى، وَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الأخْرَى، وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ. اختلف العلماء فى صفة الجلوس فى الصلاة، فذهب قوم إلى حديث ابن عمر وقالوا: سنة الجلوس فى الصلاة كلها وبين السجدتين أن ينصب رجله اليمنى ويثنى اليسرى، ويقعد على وركه الأيسر حتى يستوى قاعدًا، هذا قول مالك وروى عن النخعى، وابن سيرين. وذهب آخرون إلى حديث أبى حميد وقالوا: أما القعود فى آخر الصلاة، فكما قال أهل المقالة الأولى؛ لأن الجلسة الآخرة فيه مقاربة لما قال ابن عمر، وأما القعود فى الجلسة الأولى فعلى الرجل اليسرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 على ما فى حديث أبى حميد، هذا قول الشافعى، وأحمد، وإسحاق. وذهب الثورى، والكوفيون فى الجلوس كله إلى الجلسة الأولى من حديث أبى حميد، وهو أن يجلس على رجله اليسرى مبسوطة تحته، وينصب قدمه اليمنى، وحجة أهل المقالة الأولى، قول ابن عمر: إن ذلك سنة الصلاة والصاحب إذا ذكر السنة، فلا تكون إلا سنة الرسول إما بقول منه أو بفعل شاهده. وحجة أهل المقالة الثانية: أن أبا حميد أراهم صلاة النبى، عليه السلام، فى نفر من الصحابة ولم ينكروا عليه، فدل أن فعله سنة. واحتج الكوفيون بحديث وائل بن حجر، أن النبى كان إذا جلس فى الصلاة فرش رجله اليسرى ثم قعد عليها، وقد قال بعض العلماء: إن هذه الصفات كلها يجوز العمل بأيها شاء المصلى؛ لأنها مروية عن النبى، عليه السلام، وقد روى عن جماعة من السلف أنهم كانوا يقعدون متربعين فى الصلاة كما كان يفعل ابن عمر، منهم ابن عباس، وأنس، وفعله سالم، وعطاء، وابن سيرين، ومجاهد، وأجازه الحسن فى النافلة، وكرهه ابن مسعود، وقال: لأن أصلى على رضفتين أحب إلى من أن أتربع فى الصلاة، وكرهه الحسن، والحكم. واختلفوا فى جلوس المرأة فى الصلاة فرأت طائفة أن تقعد قعود الرجل كفعل أم الدرداء، وهو قول النخعى، ومالك بن أنس. ورأت طائفة أن تقعد كيف شاءت إذا اجتمعت، هذا قول عطاء والشعبى، وهو قول الكوفيين والشافعى، وكانت صفية تصلى متربعة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 وكان نساء ابن عمر يفعلن ذلك، وقال بعض السلف: كن النساء يؤمرون أن يتربعن إذا جلسن فى الصلاة، ولا يجلسن جلوس الرجال على أوراكهن فيتقى أن يكون منهن الشىء. 0 - باب مَنْ لَمْ يَرَ التَّشَهُّدَ الأوَّلَ وَاجِبًا لأنَّ نَبِيَّ الله قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يَرْجِعْ. / 178 - فيه: ابْنَ بُحَيْنَةَ: أَنَّ رسول الله صَلَّى بِهِمُ الظَّهْرَ، فَقَامَ من الرَّكْعَتَيْنِ الأولَيَيْنِ ولَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلاةَ، انْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ، وَهُوَ جَالِسٌ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ سَلَّمَ. وترجم له: (باب التشهد فى الأولى) . قال ابن القصار: أجمع فقهاء الأمصار: مالك، وأبو حنيفة، والثورى، والليث، والشافعى، وأبو ثور، وإسحاق على أن التشهد الأول ليس بواجب إلا أحمد بن حنبل، فإنه قال: إنه واجب وحجته أن النبى، عليه السلام، تشهد وعلمهم التشهد، وروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: من لم يتشهد فلا صلاة له. والدليل على أنه غير واجب حديث ابن بحينة: (أن النبى، عليه السلام، صلى ركعتين فقام إلى الثالثة، ولم يجلس، فلما تم أربعًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 سجد للسهو قبل السلام) ، فلو كان التشهد واجبًا لرجع إليه حين سبح به، ولم ينب منابه سجود السهو؛ لأنه لا ينوب عن الفرض؛ ألا ترى أنه لو نسى تكبيرة الإحرام أو سجدة لم ينب عنها سجود السهو، فثبت أنه غير واجب. وفيه من الفقه: أن الجلسة الأولى سنة؛ لأن سجوده عليه السلام، للسهو ناب عن التشهد وعن الجلوس، فدل أن الجلوس فيهما كالتشهد، وسيأتى تمام القول فى هذه المسألة فى أبواب السهو فى آخر كتاب الصلاة، إن شاء الله تعالى. 1 - باب التَّشَهُّدِ فِي الآخِرَةِ / 179 - فيه: ابن مسعود قَالَ: كُنَّا إِذَا جَلَّسنَا خَلْفَ النَّبِيِّ عليه السلام، قُلْنَا: السَّلامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، السَّلامُ عَلَى فُلانٍ وَفُلانٍ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلامُ، فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَقُلِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. قال المؤلف: ذهب مالك، والأوزاعى، والكوفيون إلى أن التشهد الآخر ليس بفرض، وقال الشافعى، وأحمد بن حنبل: هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 فرض، واحتج الشافعى بقوله عليه السلام: (فإذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله) ، قالوا: وأمره على الوجوب، فجاوبهم أهل المقالة الأولى فقالوا: ليس كل أمره على الوجوب؛ لأن الدلالة قد قامت على أن التكبير فى غير الإحرام والتسبيح فى الركوع والسجود ليس بواجب، وقد أمر به عليه السلام وفعله، وقال حين نزلت: (فسبح باسم ربك العظيم) [الواقعة: 74 - 96] ، (اجعلوها فى ركوعكم) ، ولما نزلت: (سبح اسم ربك الأعلى) [الأعلى: 1] ، قال: (اجعلوها فى سجودكم) ، وتلقى العلماء والشافعى معهم هذا الأمر على الندب، ولم يقم عنده فرضه بفعله عليه السلام، وأمره به، فكذلك فعله التشهد، وأمره به ليس بفرض؛ لأن كليهما عنده ذكر ليس من عمل بدن، وقد يأمر عليه السلام، بالسنن كما يأمر بالفرائض، وأيضًا فإنه لما ناب سجود السهو عن التشهد فى الأولى وعن الجلوس فيها، فأحرى أن ينوب عن التشهد فى الآخرة إذا جلس فيها وسها عن التشهد. فإن قيل: الجلسة الآخرة فريضة، فكذلك ذكرها، كما الجلسة الأولى سنة وذكرها مثلها. قيل: لا تكون الجلسة الآخرة مقدرة بذكرها وإنما هى للسلام، وقد روى جماعة من السلف أنه من رفع رأسه من آخر سجدة، فقد تمت صلاته، روى ذلك عن على بن أبى طالب، وعن سعيد بن المسيب، والحسن، وإبراهيم، وقال عطاء: من نسى التشهد فصلاته جائزة، وعن الحكم وحماد مثله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 وقال الطبرى، والطحاوى: أجمع جميع المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة على أن الصلاة على النبى، عليه السلام، فى التشهد غير واجبة، وشذ الشافعى فى ذلك فقال: من لم يصل على النبى فى التشهد الأخير وقبل السلام فصلاته فاسدة، وإن صلى عليه قبل ذلك لم تجزه، ولا سلف له فى هذا القول ولا سنة يتبعها، وتشهد ابن مسعود الذى علمه النبى، عليه السلام، فى هذا الباب ليس فيه الصلاة على النبى، عليه السلام، وقد روى التشهد عن الرسول جماعة كرواية ابن مسعود منهم أبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وقال ابن عباس، وجابر: كان النبى يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن. وذكر جابر مثل حديث ابن مسعود بزيادة كلمات، وكذلك ذكر ابن عمر مثل حديث ابن مسعود، وقال أبو سعيد الخدرى: كنا نتعلم التشهد كما نتعلم السورة، وذكر مثل حديث ابن مسعود بخلاف كلمات، رواه أبو موسى الأشعرى وعبد الله بن الزبير بزيادة ألفاظ ونقصان أيضًا، وقال ابن عمر: كان أبو بكر يعلمنا التشهد على المنبر كما تعلمون الصبيان فى الكُتاب، ثم ذكر مثل تشهد ابن مسعود. وقد علم عمر بن الخطاب الناس على المنبر التشهد بحضرة المهاجرين والأنصار وليس فى شىء من ذلك صلاة على النبى، فلم ينكر ذلك عليه منكر، فمن أوجب ذلك فقد رد الآثار وما مضى عليه السلف، وأجمع عليه الخلف، وروته عن نبيها عليه السلام، فلا معنى لقوله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 وبتشهد ابن مسعود قال الكوفيون وأكثر أهل الحديث، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وذهب مالك إلى تشهد عمر بن الخطاب، وهو: (التحيات لله الزاكيات لله الطيبات الصلوات لله السلام عليك أيها النبى. . .) ، إلى آخر تشهد ابن مسعود، وذهب الشافعى إلى تشهد ابن عباس، وفيه: (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله) ، وكلها قريبة بعضها من بعض، ومعنى التحية: الملك لله، والصلوات: هى الخمس، والطيبات: الأعمال الزاكية. 2 - باب الدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلامِ / 180 - فيه: عَائِشَةَ: أَنَّ نَّبِيِّ الله كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاةِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا، والْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ) ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ فَقَالَ: (إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ، حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ) . / 181 - وفيه: أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاتِي، قَالَ: (قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 3 - باب مَا يُتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ / 182 - فيه: تشهد ابن مسعود، قَالَ فى آخره: (ثُمَّ ليَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ، فَيَدْعُو) . اختلف العلماء فى هذا الباب فقال مالك، والشافعى، وجماعة: لا بأس أن يدعو الرجل فى صلاته بما شاء من حوائج الدنيا، وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يدعو فى الصلاة إلا بما يوجد فى القرآن، وهو قول النخعى، وطاوس، واحتجوا بحديث معاوية بن الحكم لما شمت الرجل فى الصلاة، فقال له الرسول: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شىء من كلام الآدميين إنما هى تسبيح وقراءة) . قالوا: ولا يجوز أن يريد جنس الكلام؛ لأن جميع ما يوجد فى الصلاة من الأذكار من جنس الكلام، فوجب أن يكون المراد ما يتخاطبون به فى العادة، وقوله: (يرحمك الله) دعاء، وقد نهى النبى عنه، وهذا يمنع من فعل الدعاء بهذا الجنس. قال ابن القصار: فالجواب لأهل المقالة الأولى أن هذا وشبهه لا يجوز عندنا، وهو أن يوجه دعاءه إلى إنسان يخاطبه به فى الصلاة، وكأنه جواب عندنا على شىء كان منه، فأما أن يدعو لنفسه ولغيره ابتداء من غير أن يخاطب فيه إنسانًا فلا قضاء، وقوله عليه السلام: لا يصلح فيها شىء من خطاب الناس متوجه إلى هذا، أى: لا يتخاطب الناس فى الصلاة. ومن الحجة لهم قوله عليه السلام، فى حديث ابن مسعود بعد فراغه من التشهد: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه ويدعو) ، ولم يخص دعاء فى القرآن من غيره ولو كان لا يجوز الدعاء إلا بما فى القرآن ما ترك عليه السلام، بيان ذلك ولقال: ثم ليدعو بما شاء مما فى القرآن، فلما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 عم جميع الدعاء، لم يُخصَّ بعضه إلا بدليل، واستعاذته فى حديث عائشة من عذاب القبر، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ومن المأثم والمغرم ليس شىء منه فى القرآن، وقد روى عن جماعة من السلف مثل ذلك، روى عن ابن عمر أنه قال: إنى لأدعو فى صلاتى حتى لشعير حمارى وملح بيتى، وعن عروة بن الزبير مثله. وكان رسول الله يدعو فى الصلاة فيقول: (اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين، واشدد وطأتك على مضر) . فإن قيل: يحتمل أن يكون هذا وقت إباحة الكلام فى الصلاة، ثم نسخ بعد ذلك. قيل: قد روى عن السلف استعمال الحديث، ولا يجوز أن يخفى عليهم نسخه لو نسخ، فكان على بن أبى طالب يقنت فى صلاة على قوم يسميهم، وكان أبو الدرداء يدعو لسبعين رجلاً فى صلاته، وعن ابن الزبير أنه كان يدعو للزبير فى صلاته، فإذا انضاف قول هؤلاء إلى قول عروة، وابن عمر جرى مجرى الإجماع؛ إذ لا مخالف لهم، وقد كان عليه السلام يدعو فى سجوده: (أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) ، وهذا مما ليس فى القرآن، فسقط قول المخالف، وروى عن ابن سيرين أنه قال: يجوز الدعاء فى المكتوبة بأمر الآخرة، فأما الدنيا فلا، فقال ابن عون: أليس فى القرآن: (واسألوا الله من فضله) [النساء: 32] ؟ ، فسكت. وترجم فى كتاب الدعاء: (باب الدعاء فى الصلاة) ، وسيأتى فيه شىء من الكلام فى حديث أبى بكر، إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 4 - باب مَنْ لَمْ يَمْسَحْ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ حَتَّى صَلَّى قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: رَأَيْتُ الْحُمَيْدِيَّ يَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَلا يَمْسَحَ الْجَبْهَةَ فِي الصَّلاةِ. / 183 - فيه: أَبَو سَعِيدٍ: (رَأَيْتُ النبى، عليه السلام، يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ، حَتَّى رَأَيْتُ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ) . استحب العلماء ترك مسح الوجه حتى يفرغ من الصلاة؛ لأنه من التواضع لله، وخفف مالك مسحه فى الصلاة. 5 - باب التَّسْلِيمِ / 184 - فيه: أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا سَلَّمَ، قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ، وَمَكَثَ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأُرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ مُكْثَهُ لِكَيْ يَنْفُذَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ مَنِ انْصَرَفَ مِنَ الْقَوْمِ. اختلف العلماء فى وجوب التسليم، فذهب جماعة من العلماء إلى أن التسليم فرض لا يصح الخروج من الصلاة إلا به، وممن أوجب ذلك ابن مسعود، قال: مفتاح الصلاة التكبير، وانقضاؤها التسليم، ذكره الطبرى، وبه قال عطاء، والزهرى، ومالك، والشافعى، وغيرهم. وذهب أبو حنيفة، والثورى، والأوزاعى، إلى أن السلام سنة، وأن الصلاة يصح الخروج منها بغير سلام، واحتجوا بأن الرسول قال لابن مسعود حين علمه التشهد: (فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 قالوا: ولم يذكر له السلام، قالوا: وروى عن على بن أبى طالب أنه قال: إذا رفع رأسه من آخر سجدة، ثم أحدث فقد تمت صلاته، وعن سعيد بن المسيب، والنخعى مثله. واحتج عليهم أهل المقالة الأولى بأن قوله عليه السلام، لابن مسعود: (فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك) ، يحتمل أن يكون معناه: إذا سَلَّمْت، بدليل سلامه عليه السلام فى كل صلواته، وتعليمه ذلك لأمته عملاً ومعاينة. ويحتمل أن يكون معناه: قد قاربت التمام، كما قال تعالى فى المطلقات: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف) [الطلاق: 2] ، وهذا معناه: قاربن بلوغ أجلهن؛ لأنهن لو بلغن الأجل بانقضاء العدة لم يكن لأزواجهن إمساكهن بالمراجعة لهن، وقد انقضت عدتهن. وقال الطبرى: السلام من الأعمال التى علم الرسول أمته العمل به كما علمهم التحريم فيها والقراءة، فمن ضيع ذلك أو تركه عامدًا فهو مفسد؛ لأنه ضيع ما قامت له الحجة بجواز الصلاة معه، وقد روى الثورى، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد ابن الحنفية، عن على، رضى الله عنه، قال: قال النبى عليه السلام: (تحريم الصلاة التكبير، وتحليلها التسليم) ، فكما لا يجوز الدخول فى الصلاة إلا بالإحرام، فكذلك لا يجوز الخروج منها إلا بالسلام. واختلفوا فى صفة السلام، فقالت طائفة: يسلم تسليمتين عن يمينه، وعن يساره، روى ذلك عن أبى بكر الصديق، وعمر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 وعلى، وابن مسعود، وعمار، وروى ذلك عن الشعبى، وعطاء، وعلقمة، والأسود، وهو قول الثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، واحتجوا بآثار كثيرة رويت عن النبى، عليه السلام، بذلك منها: حديث ابن مسعود، وعمار، وأبى موسى، ووائل بن حجر، وأبى حميد الساعدى، وابن عمر، وجابر ابن عبد الله، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وقبيصة بن ذؤيب، وعدى بن عميرة الحضرمى، ويعقوب بن الحصين، كلهم عن الرسول، أسندها الطبرى كلها. وقالت طائفة: يسلم تسليمة واحدة فقط، روى ذلك عن ابن عمر، وأنس بن مالك، وعائشة، وسلمة بن الأكوع، ومن التابعين: سليمان بن يسار، وأبى وائل، وسعيد بن جبير، وابن سيرين، والحسن، وهو قول مالك، والليث، والأوزاعى، ودفعوا أحاديث التسليمتين. والحجة لهم ما ذكره محمد بن عبد الحكم، عن عبد الرحمن بن مهدى قال: أحاديث التسليمتين لا أصل لها. وقال الأصيلى: حديث أم سلمة المذكور فى هذا الباب يقتضى تسليمة واحدة، وكذلك حديث ابن بحينة، وحديث ذى اليدين؛ لأن قول أم سلمة: (كان الرسول إذا سلم) ، يقتضى ظاهره أن كل ما وقع عليه اسم السلام يتحلل به من الصلاة. قال المهلب: لما كان السلام تحليلاً من الصلاة، وعلمًا على فراغها دلت التسليمة الواحدة على ذلك، وإن كان فى التسليمتين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 كمالاً، فقد مضى العمل بالمدينة فى مسجد رسول الله على تسليمة واحدة، فلا يجب مخالفة ذلك. وذكر الطبرى قال: حدثنا محمد بن مرزوق، قال: حدثنا الحجاج بن نصير، أخبرنا أبو عبيدة، حدثنا الحسن ومحمد بن سيرين، قالا: حدثنا أنس ين مالك قال: (صليت خلف رسول الله، وأبى بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يسلمون تسليمة واحدة) ، وحدثنا محمد بن عبد الله الحجرى، حدثنا يونس، عن جرير بن حازم، عن أيوب، عن أنس مثله. وقال عبد الرحمن بن أبى ليلى: صليت خلف على بن أبى طالب فسلم واحدة، ذكره ابن أبى شيبة. وقال الطبرى: القول فى ذلك عندنا أن يقال كلا الخبرين الواردين عن الرسول أنه كان يسلم واحدة، وأنه كان يسلم تسليمتين صحيح، وأنه من الأمر الذى كان يفعل هذا مرة وهذا مرة، مُعلم ذلك أمته أنهم مخيرون فى العمل بأى ذلك شاءوا، كرفعه عليه السلام يديه فى الركوع وإذا رفع رأسه منه، وتركه ذلك مرة أخرى، وكجلوسه فى الصلاة على قدمه اليسرى ونصبه اليمنى فيها مرة، وإفضائه بأليته إلى الأرض، وإدخاله قدمه اليسرى تحت فخذه اليمنى مرة فى أشباه لهذا كثيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 6 - باب يُسَلِّمُ حِينَ يُسَلِّمُ الإمَامُ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَحِبُّ إِذَا سَلَّمَ الإمَامُ أَنْ يُسَلِّمَ مَنْ خَلْفَهُ. / 185 - فيه: عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ عليه السلام، فَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ. قال المؤلف: الكلام فى سلام الإمام والمأموم كالكلام فى إحرامهما، وقد تقدم فى باب إنما جعل الإمام ليؤتم به فى أبواب الإمامة اختلاف العلماء فى ذلك، فأغنى عن إعادته، ونذكر هاهنا منه طرفًا، وذلك أنه لا يكون المصلى داخلاً فى الصلاة محرمًا بها إلا بتمام التكبير، لا ينبغى للمأموم أن يدخل فى صلاة لم يصح فيها دخول إمامه بعد، والسلام كذلك، ولا ينبغى أن يفعله المأموم إلا بعد فعل إمامه؛ لأنه تحليل، أو بعد تقدمه ببعض لفظ السلام، هذا حق الائتمام فى اللغة أن يكون فعل المأموم تاليًا لفعل الإمام؛ ألا ترى قول عتبان: (صلينا مع الرسول فسلمنا حين سلم) ، وهذا يقتضى أن سلامهم كان بعد تمام سلامه عليه السلام، وهو الذى كان يستحبه ابن عمر. 7 - باب مَنْ لَمْ يَرَ رَدَّ السَّلامِ عَلَى الإمَامِ، وَاكْتَفَى بِتَسْلِيمِ الصَّلاةِ / 186 - فيه: عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ أنه قَالَ: صَلِّينا مع النَّبِيُّ عليه السلام، ثُمَّ سَلَّمَ، وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ. هذا الحديث حجة لمن قال: يسلم المأموم واحدة؛ لأن قول عتبان: (وسلمنا حين سلم) ، يقتضى أقل ما يقع عليه اسم سلام، وذلك تسليمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 واحدة، وممن كان لا يرد على الإمام، روى جرير بن حازم، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان إذا سلم الإمام قال: السلام عليكم، لم يزد عليها إلا أن يسلم أحد عن يمينه وشماله يرد عليه، فى مصنف حماد بن سلمة. وقال ابن المنذر: قال عمار بن أبى عمار: كان مسجد المهاجرين يسلمون تسليمة واحدة، وكان مسجد الأنصار يسلمون تسليمتين، فالمهاجرين لم يكونوا يردون على الإمام. وفيها قول ثانٍ روى النخعى قال: لا أعلم عليه بأسًا أن يرد وإن لم يرد، وممن كان يرى أن يرد على الإمام: ذكر ابن أبى شيبة عن ابن عمر أنه كان يرد السلام على الإمام وهو قول الشعبى، وسالم، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وقال مالك فى (المدونة) : يسلم المأموم عن يمينه، ثم يرد على الإمام فإن كان عن يساره أحد ردَّ عليه، وقد كان من قول مالك فى المأموم: يسلم عن يمينه ثم عن يساره، ثم يرد على الإمام، ومن قال بالرد على الإمام تأوّل فى ذلك أن الإمام يسلم عليهم، فلزمهم الرد عليه كسائر السلام. ومن قال بالتسليمتين من أهل الكوفة يجعلون التسليمة الثانية ردًا على الإمام، وهو عندهم سنة، والأولى هى الفريضة التى بها يخرج من الصلاة. وأظن البخارى، رحمه الله، أراد بهذا الباب ردَّ قول من أوجب التسليمة الثانية، ولا أعلم قال ذلك إلا الحسن بن صالح، وحكى الأصيلى فى الدلائل أنه قول أحمد بن حنبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم على أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة، وقال مالك فى المجموعة: كما يدخل فى الصلاة بتكبيرة واحدة كذلك يخرج منها بتسليمة واحدة، وعلى ذلك كان الأمر فى القديم، وإنما حدث تسليمتان مذ كان بنو هاشم. 8 - باب الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلاةِ / 187 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قال: كان رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ، عَلَى عَهْدِ رسول الله، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ. / 188 - وقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ مرة: كُنْتُ أَعْلم انْقِضَاءَ صَلاةِ الرسول بِالتَّكْبِيرِ. / 189 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ الْفُقَرَاءُ إِلَى رسول الله فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الأمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا، وَيُجَاهِدُونَ، وَيَعْتَمِرُونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، قَالَ: (أَلا أُحَدِّثُكُمْ إِنْ أَخَذْتُمْ أَدْرَكْتُمْ، وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ إلا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ، تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ) . / 190 - وفيه: الْمُغِيرَةِ: أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 قال الطبرى: فى حديث ابن عباس الدلالة على صحة فعل من كان من الأمراء والولاة يكبر بعد فراغه من صلاة المكتوبة فى جماعة ويكبر من وراءه من المصلين بصلاته. قال المؤلف: ولم أجد من الفقهاء من يقول بشىء من هذا الحديث إلا ما ذكره ابن حبيب فى الواضحة قال: يستحب التكبير فى العساكر والثغور بأثر صلاة الصبح، والعشاء تكبيرًا عاليًا ثلاث مرات، وهو قديم من شأن الناس. وروى ابن القاسم عن مالك فى العتبية قال: التكبير خلف الصلوات الخمس بأرض العدو محدث أحدثه المسودة، وكذلك فى دبر الصبح، والمغرب فى بعض البلدان. وقول ابن عباس: إن رفع الصوت بالذكر كان حين ينصرف الناس من المكتوبة على عهد الرسول، يدل أنه لم يكن يفعل ذلك الصحابة حين حدث ابن عباس بهذا الحديث؛ إذ لو كان يفعل ذلك الوقت لم يكن لقوله كان يفعل على عهد رسول الله معنى، وهذا كما كان أبو هريرة يكبر عند كل خفض ورفع يقول: أنا أشبهكم صلاة برسول الله، فكان التكبير بأثر الصلوات مثل هذا مما لم يواظب الرسول عليه طول حياته، وفهم أصحابه أن ذلك ليس بلازم فتركوه خشية أن يظن من قصر علمه أنه مما لا تتم الصلاة إلا به، فلذلك كرهه من الفقهاء من كرهه، والله أعلم، وقد روى عن عبيدة أن ذلك بدعة. وفى حديث أبى هريرة، وحديث المغيرة فضل الذكر بعد الصلاة، وأن ذلك من رغائب الخير وسبيل الصالحين، وسأزيد هذا المعنى بيانًا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 وأبين اهل الذكر بعد الصلاة أفضل أم قراءة القرآن فى كتاب الدعاء فى باب الدعاء بعد الصلاة، إن شاء الله. قال المهلب: فى حديث أبى هريرة فضل الغنى نصًا لا تأويلاً إذا استوت أعمالهم بما افترض الله عليهم، فللغنى حينئذ فضل أعمال البر من الصدقة وإحياء الأرماق، وإعانة ابن السبيل، وفك الأسير والجهاد وشبه ذلك، مما لا سبيل للفقراء إليها ولا قدرة لهم عليها، فبهذا يفضل الغنى الفقير، وإنما يفضل الفقير الغنى إذا فضل صاحبه بالعمل، وسيأتى تمام القول فى ذلك فى كتاب الرقائق، إن شاء الله. وفيه: أن العالم إذا سُئل عن مسألة يقع فيها الخلاف بين الأمة أن يجيب بما يلحق به المفضول درجة الفاضل، ولا يجيبه بنفس التفاضل خوف وقوع الخلاف. وفى (الموطأ) : عن عطاء بن يزيد، عن أبى هريرة زيادة فى حديثه المذكور فى هذا الباب وهو أنه قال: (من سبح دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وكبر ثلاثًا وثلاثين، وحمد ثلاثًا وثلاثين، وختم المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير، غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر) . وقوله: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) ، قال ابن السكيت: الجد، بفتح الجيم، الحظ والبخت، أى: من كان له جد فى الدنيا لم ينفع ذلك عند الله فى الآخرة، وكذلك فسره أبو عبيد وجميع أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 اللغة، وسأذكر قول الطبرى فى هذه الكلمة فى باب القدر فى باب لا مانع لما أعطى الله، إن شاء الله. 9 - باب يَسْتَقْبِلُ الإمَامُ النَّاسَ إِذَا سَلَّمَ / 191 - فيه: سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ: (كَانَ عليه السلام، إِذَا صَلَّى صَلاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ) . / 192 - وفيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ. . .، الحديث. / 193 - وفيه: أَنَسِ: (أَخَّرَ الرَسُولُ الصَّلاةَ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ، ثُمَّ خَرَجَ، فصَلَّى، فأَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ. . .) ، الحديث. قال المهلب: استقبال الرسول الناس بوجهه هو عوض من قيامه من مصلاه؛ لأن قيامه إنما هو ليعرف الناس بفراغ الصلاة، ولذلك ترجح مالك، يرحمه الله، فقال فى إمام مسجد القبائل والجماعات: لابد أن يقوم من موضعه، ولا يقوم فى داره وسفره إلا أن يشاء. وفى بقاء الإمام فى موضعه تخليط على الداخلين، وأن موضع الإمام موضع خطة وولاية، فإذا قضى صلاته زال منه، وكان على بن أبى طالب إذا صلى استقبل القوم بوجهه، وكان إبراهيم النخعى إذا سلم انحرف واستقبل القوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 0 - باب مُكْثِ الإمَامِ فِي مُصَلاهُ بَعْدَ التَسْلِيمِ وكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي فِي مَكَانِهِ الَّذِي يُصَلِّى فِيهِ الْفَرِيضَةَ، وَفَعَلَهُ ابن الْقَاسِمُ، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: لا يَتَطَوَّعُ الإمَامُ فِي مَكَانِهِ، وَلَمْ يَصِحَّ. / 194 - فيه: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ (أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا سَلَّمَ يَمْكُثُ فِي مَكَانِهِ يَسِيرًا) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَنُرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِكَيْ يَنْفُذَ مَنْ يَنْصَرِفُ مِنَ النِّسَاءِ. وقالت مرة: فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ، فَيَدْخُلْنَ بُيُوتَهُنَّ قَبْلِ أَنْ يَنْصَرِفَ رَسُولُ اللَّهِ. ذهب جمهور العلماء أن الإمام لا يتطوع فى مكانه الذى صلى فيه الفريضة، وذكر ابن أبى شيبة، عن على قال: لا يتطوع الإمام حتى يتحول من مكانه أو يفصل بينهما بكلام، وكرهه ابن عمر للإمام، ولم ير به بأسًا لغيره، وعن عبد الله بن عمرو مثله، وروى موسى عن القاسم أن الإمام إذا سلم فواسع أن ينتفل فى مكانه، وهذا لم أجده لغيره من العلماء. وأما مكث الإمام فى مصلاه بعد السلام، فقد كرهه أكثر العلماء إذا كان إمامًا راتبًا إلا أن يكون مكثه لعلة، كما فعل عليه السلام من أجل انصراف النساء قبل أن يدركهن الرجال، هذا قول الشافعى، وأحمد بن حنبل، وقال مالك: يقوم ولا يقعد فى الصلاة كلها إذا كان إمام مسجد جماعة، وإن كان إمامًا فى سفر، فإن شاء قام وإن شاء قعد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 وقال أبو حنيفة: كل صلاة بعدها نافلة فإنه يقوم لها، وما لا نافلة بعدها كالعصر والفجر، فإن شاء قام وإن شاء قعد، وهو قول أبى مجلز. وقال محمد: ينتقل فى الصلوات كلها؛ ليتحقق المأموم أنه لم يبق عليه شىء من الصلاة من سجود سهو ولا غيره. وذكر ابن أبى شيبة، عن ابن مسعود، وعائشة قالا: (كان عليه السلام إذا سلم لم يقعد إلا بمقدار ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) . وقال ابن مسعود أيضًا: كان الرسول إذا قضى الصلاة انفتل سريعًا، فإما أن يقوم وإما أن ينحرف. وقال ابن جبير: شرق أو غرب، ولا تستقبل القبلة. وقال قتادة: كان أبو بكر إذا سلم كأنه على الرضف حتى ينهض. وقال ابن عمر: الإمام إذا سلم قام. وقال مجاهد: قال عمر: جلوس الإمام بعد السلام بدعة، وذهب جماعة من الفقهاء إلى أن الإمام إذا سلم، فإن من صلى خلفه من المأمومين يجوز لهم القيام قبل قيامه إلا رواية عن الحسن، والزهرى، ذكرها عبد الرزاق قال: لا ينصرفوا حتى يقوم الإمام، قال الزهرى: إنما جعل الإمام ليؤتم به، وجماعة الناس على خلافهما. وروى معمر، عن أبى إسحاق، عن أبى الأحوص، عن ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 مسعود قال: إذا فرغ الإمام ولم يقم ولم ينحرف، وكانت لك حاجة، فاذهب ودعه فقد تمت صلاتك. وفى حديث أم سلمة من الفقه: أن خروج النساء ينبغى أن يكون قبل خروج الرجال. 1 - باب مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَذَكَرَ حَاجَةً فَتَخَطَّاهُمْ / 195 - فيه: عُقْبَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ الرسول بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ، فَسَلَّمَ، فقَامَ مُسْرِعًا، فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَرَأَى أَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ، فَقَالَ: (ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي، فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ) . قال المؤلف: مباح للإمام إذا سلم أن ينصرف إن شاء قبل انصراف الناس. وفيه: أن التخطى بما لا غنى بالإنسان عنه مباح فعله. وقال المهلب: التخطى لا يكون مكروهًا إلا فى موضع يشتغل الناس فيه عن الصلاة أو عن الخطبة فحينئذ يكره التخطى من أجل شغل الناس بمن تخطاهم عما هم فيه من الذكر والاستماع، وقد تحضر الإنسان ضرورة حقن أو ذكر حاجة يخشى فوتها، فيستجاز التخطى فى ذلك كالراعف والمحدث يخرج من بين الصفوف. وفيه: أن من حبس صدقة للمسلمين من وصية أو زكاة أو غيرها أنه يخاف عليه أن يحبس بها يوم القيامة فى الموقف، لقوله عليه السلام: (كرهت أن يحبسنى) ، يعنى: فى الآخرة، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 وفيه: أن من وجب عليه فرض، فإن الأفضل له مبادرته. 2 - باب الانْفِتَالِ وَالانْصِرَافِ عَنِ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ وَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَنْفَتِلُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، وَيَعِيبُ عَلَى مَنْ يَتَوَخَّى أَوْ مَنْ يَتعْمِدُ الانْفِتَالَ عَنْ يَمِينِهِ. / 196 - فيه: عَبْدُاللَّهِ قَالَ: لا يَجْعَلْ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ شَيْئًا مِنْ صَلاتِهِ، يَرَى أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ لا يَنْصَرِفَ إِلا عَنْ يَمِينِهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كَثِيرًا يَنْصَرِفُ عَنْ يَسَارِهِ. فالانفتال والانصراف عن اليمين والشمال جائز عند العلماء لا يكرهونه لما ثبت عن الرسول فى هذا الباب، وإن كان انصرافه عليه السلام، عن يمينه أكثر؛ لأنه كان يحب التيامن فى أمره كله، وإنما نهى ابن مسعود عن التزام الانصراف من جهة اليمين؛ خشية أن يجعل ذلك من اللازم الذى لا يجوز غيره، وقد روى قبيصة بن ذؤيب، عن أبيه (أنه صلى مع الرسول فرآه ينصرف من شقيه) . وقال على: إذا قضيت الصلاة وأنت تريد حاجتك، فإن كانت حاجتك عن يمينك أو عن يسارك فخذ نحو حاجتك، وكان على لا يبالى انصرف عن يمينه أو عن يساره، وعن ابن عمر مثله، وهو قول النخعى، واستحب الانصراف عن اليمين: الحسن البصرى، ورأى أبو عبيدة رجلاً انصرف عن يساره فقال: أما هذا فقد أصاب السنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 3 - باب مَا جَاءَ فِي الثُّومِ النِّئِّ وَالْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ وَقَوْلِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَكَلَ الثُّومَ أَوِ الْبَصَلَ مِنَ الْجُوعِ أَوْ غَيْرِهِ فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا) . / 197 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، قَالَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ: (مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ - يَعْنِي الثُّومَ - فَلا يَغْشَانَا فِي مَسَجِدِنَا) ، قُلْتُ: مَا يَعْنِي بِهِ؟ قَالَ: مَا أُرَاهُ يَعْنِي إِلا نِيئَهُ. / 198 - وفيه: جَابِرَ، عن الرسول: (أَلاَّ يَغْشَانَا فِي مَسَاجِدِنَا) . / 199 - وفيه: جَابِرَ، أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: (مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا - أَوْ قَالَ: فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا - وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ، وَأَنَّه عليه السلام، أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ، فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ، فَقَالَ: قَرِّبُوهَا، إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قَالَ: كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لا تُنَاجِي) . وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: عن يونس، عن الزهرى: أُتِيَ بِبَدْرٍ، يَعْنِي طَبَقًا فِيهِ خَضِرَاتٌ. / 200 - وفيه: أَنَسَ، قَالَ عليه السلام: (مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلا يَقْرَبْنَا، ولا يُصَلِّيَنَّ مَعَنَا) . فى هذا الحديث من الفقه إباحة أكل الثوم؛ لأن قوله: (من أكل) لفظ إباحة، وفى ذلك دليل على أن شهود الجماعة ليس بفريضة خلافًا لأهل الظاهر الذين يوجبونها، ويحرمون أكل الثوم من أجل شهودها، وقد أكل الثوم جماعة من السلف، واختلف العلماء فى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 معانٍ من هذا الحديث، فقال بعضهم: إنما خرج النهى عن مسجد الرسول خاصة من أجل ملائكة الوحى. وقال جمهور العلماء: حكم مسجد الرسول وحكم سائر المساجد سواء، وملائكة الوحى وغيرها سواء؛ لأنه قد أخبر عليه السلام أنه يتأذى منه بنو آدم، وقال: (يؤذينا بريح الثوم) ، ولا يحل أذى الجليس المسلم حيث كان. وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: من أكل الثوم يوم الجمعة لا أرى له أن يشهد الجمعة فى المسجد ولا رحابه، وبئس ما صنع من أكل الثوم وهو ممن تجب عليه الجمعة. وفيه: دليل أن كل ما يتأذى به كالمجذوم وشبهه يبعد عن المسجد وحلق الذكر، وقد قال سحنون: لا أرى الجمعة تجب على المجذوم، واحتج بقوله عليه السلام: (من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا) . وأفتى أبو عمر أحمد بن عبد الملك بن هاشم فى رجل شكا جيرانه أنه يؤذيهم فى المسجد بلسانه، قال: يخرج عن المسجد، ويبعد عنه ونزع بهذا الحديث، وقال: أذاه أكثر من أذى الثوم، وهذا الحديث أصل فى نفى كل ما يتأذى به. وفيه: أن الخضر كانت عندهم بالمدينة، وفى إجماع أهلها على أنه لا زكاة فيها دليل على أن رسول الله لم يأخذ منها الزكاة، ولو أخذ منها لم يخف على جميعهم ولنقل ذلك، وهو قول مالك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 والشافعى، وجماعة، وقال المهلب: فى قوله: (أناجى من لا تناجى) ، دليل أن الملائكة أفضل من بنى آدم. وفيه: أن بنى آدم يلزم من بر بعضهم ما لا يلزم لجميعهم؛ ألا ترى أنه لم يؤمر آكل الثوم باجتناب أهل الأسواق ومهنة الناس وباعتهم. قال مالك: ما سمعت فى أكل الثوم كراهية فى دخول السوق، وإنما ذلك فى المسجد، ذكره ابن أبى زيد فى النوادر. وفيه: أنه من ترك طعامًا لا يحبه أنه لا لوم عليه كفعله عليه السلام، فى الضب. وقال الخطابى: فسر ابن وهب البدر أنه الطبق، سمى بذلك لاستدارته واتساقه، ولذلك سمى القمر عند اتساقه بدرًا، ومنه عين بدرة إذا كانت واسعة مستديرة قال امرؤ القيس: وعين لها حَدْرة بَدْرة شُقَّتْ مآقيهما مِنْ أُخُر والبدرة: مسك السخلة، وبه سميت بدرة المال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 4 - باب وُضُوءِ الصِّبْيَانِ، وَمَتَى يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْغُسْلُ وَالطُّهُورُ وَحُضُورِهِمُ الْجَمَاعَةَ وَالْعِيدَيْنِ وَالْجَنَائِزَ وَصُفُوفِهِمْ / 201 - فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: أن النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) مر عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ، فَأَمَّهُمْ، وَصَفُّوا عَلَيْهِ. / 202 - وفيه: أَبو سَعِيدٍ، قَالَ عليه السلام: (الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ) . / 203 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: (بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَنَامَ النَّبِيُّ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ، قَامَ النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّقٍ وُضُوءًا خَفِيفًا، ثُمَّ قَامَ فصَلِّي، فَقُمْتُ، فَتَوَضَّأْتُ نَحْوًا مِمَّا تَوَضَّأَ، ثُمَّ جِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَحَوَّلَنِي، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ. . .) ، الحديث. / 204 - وفيه: أَنَسِ: (أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ، فَقَالَ: قُومُوا فَلأصَلِّيَ بِكُمْ، فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا، قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لَبِثَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ وَالْيَتِيمُ مَعِي وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ) . / 205 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلامَ، وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، فَنَزَلْتُ، وَأَرْسَلْتُ الأتَانَ تَرْتَعُ، وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ. / 206 - وفيه: عَائِشَةَ: (أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ بالْعِشَاءِ، حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ: قَدْ نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأرْضِ يُصَلِّي هَذِهِ الصَّلاةَ غَيْرُكُمْ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَوْمَئِذٍ يُصَلِّي إِلا أَهْلِ الْمَدِينَةِ) . / 207 - وقَالَ رَجُل لابْنَ عَبَّاسٍ: شَهِدْتَ العيد مَعَ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَم، وَلَوْلا مَكَانِي مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 قال المهلب: فى هذا الباب وضوء الصبيان وصلاتهم، وشهودهم الجماعات فى النوافل والفرائض، وتدريبهم عليها قبل وجوبها عليهم ليبلغوا إليها وقد اعتادوها وتمرنوا فيها، وأحاديث هذا الباب بَيِّنة فى ذلك؛ لأن ابن عباس صلى مع الرسول على القبر المنبوذ، وإذ بات عند خالته ميمونة وصلى خلف النبى، وإقباله على الأتان، وحديث أنس واليتيم، كان ذلك كله فى حال الصغر، يدل على ذلك قول ابن عباس: ولولا مكانى من الصغر ما شهدته، يريد بذلك حين أتى النساء ووعظهن وابن عباس معه، وذكر البخارى فى فضائل القرآن أنه توفى الرسول وأنا ابن عشر سنين، وذكر ابن أبى شيبة عن الربيع، حدثنا ابن معبد الجهنى، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله: (إذا بلغ الغلام سبع سنين فأمروه بالصلاة، فإذا بلغ عشرًا فاضربوه عليها) . ورواه ابن شعيب عن أبيه، عن جده، عن النبى، وقال به مكحول، ومالك، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وجماعة، وقد روى أشهب عن مالك فى العتبية أنه يضرب على الصلاة لسبع، وقال عروة: يؤمر بالصلاة إذا عقلها، وقال ابن عمر: يعلم الصبى الصلاة إذا عرف يمينه من شماله، وهو قول ابن سيرين. ولم يختلف العلماء أن الاحتلام أول وقت لزوم الفرائض والحدود والأحكام، واختلفوا إذا أتى عليه من السنين ما يحتلم فى مثلها ولم يحتلم على أقوال سيأتى ذكرها فى موضعها من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 5 - باب خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِاللَّيْلِ وَالْغَلَسِ / 208 - فيه: عَائِشَةَ: (أَعْتَمَ النبى (صلى الله عليه وسلم) بِالْعَتَمَةِ، حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ: نَامَ النِّسَاءُ. . .) ، الحديث. / 209 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، أن نَّبِيِّ الله قَالَ: (إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ، فَأْذَنُوا لَهُنَّ) . / 210 - وفيه: أُمَّ سَلَمَةَ: أَنَّ النِّسَاءَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا سَلَّمْنَ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ، قُمْنَ، وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ وَمَنْ صَلَّى مِنَ الرِّجَالِ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ قَامَ الرِّجَالُ. / 211 - وفيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ لَيُصَلِّي الصُّبْحَ، فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ. / 212 - وفيه: أَبو قَتَادَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (إِنِّي لأقُومُ إِلَى الصَّلاةِ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ) . / 213 - وفيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: لَوْ أَدْرَكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ المساجد، كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وقوله عليه السلام: (إذا استأذنكم بالليل) ، فيه دليل أن النهار يخالف الليل؛ لنصه على الليل، وهذا الحديث يقضى على قوله: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) . قال مالك: إنه بلغه عن ابن عمر، عن نبى الله فكأنه قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ، يعنى: فى الليل، والغلس فيه معنى الليل، ألا ترى قول عائشة ما يعرفن من الغلس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 قال المهلب: أى لا يتميزن إن كن نساءً أو رجالاً، وقد جاء هذا المعنى بينًا فى حديث قَيْلَةَ، قالت: (قدمت على الرسول وهو يصلى بالناس صلاة الغداة حين انشق الفجر، فصففت مع الرجال وأنا امرأة حديثة عهد بجاهلية، فقال لى الرجل الذى يلينى: امرأة أنت أم رجل؟ فقلت: امرأة) . ففيه دليل أن المرأة لا تخرج إلى المسجد إلا بإذن زوجها أو غيره من أوليائها، وفيه دليل أنه ينبغى له أن يأذن لها ولا يمنعها مما فيه منفعتها، وذلك محمول على الأصول إذا لم يخف الفتنة عليها ولا بها؛ لأنه كان الأغلب من حال أهل ذلك الزمان، وأما حديث عائشة ففيه دليل لا ينبغى للنساء أن يخرجن إلى المساجد إذا حدث فى الناس الفساد. وهذا عند مالك محمول على العجائز، وروى عنه أشهب قال: وللمتجالة أن تخرج إلى المسجد ولا تكثر الترداد، وللشابة أن تخرج إليه المرة بعد المرة، وتخرج فى جنائز أهلها. وقال أبو حنيفة: أكره للنساء شهود الجمعة، والصلاة المكتوبة، وأرخص للعجوز أن تشهد العشاء والفجر، وأما غير ذلك فلا. وقال أبو يوسف: لا بأس أن تخرج العجوز فى الصلوات كلها وأكرهه للشابة، وقال الثورى: ليس للمرأة خير من بيتها، وإن كانت عجوزًا، وقال ابن مسعود: المرأة عورة وأقرب ما تكون إلى الله فى قعر بيتها، فإذا خرجت استشرفها الشيطان. وكان ابن عمر يقوم بحصب النساء يوم الجمعة يخرجهن من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 المسجد، وقال أبو عمرو الشيبانى: سمعت ابن مسعود حلف فبالغ فى اليمين: ما صلت امرأة صلاة أحب إلى الله من صلاتها فى بيتها إلا فى حج أو عمرة إلا امرأة قد يئست من البعولة. وقال ابن مسعود لامرأة سألته عن الصلاة فى المسجد يوم الجمعة، فقال: صلاتك فى مخدعك أفضل من صلاتك فى بيتك، وصلاتك فى بيتك أفضل من صلاتك فى حجرتك، وصلاتك فى حجرتك أفضل من صلاتك فى مسجد قومك. وكان إبراهيم يمنع نساءه الجمعة والجماعة، وسئل الحسن البصرى عن امرأة حلفت إن خرج زوجها من السجن تصلى فى كل مسجد يجمع فيه الصلاة بالبصرة ركعتين، فقال الحسن: تصلى فى مسجد قومها؛ لأنها لا تطيق ذلك، لو أدركها عمر بن الخطاب لأوجع رأسها. 6 - باب صَلاةِ النِّسَاءِ خَلْفَ الرِّجَالِ / 214 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ عليه السلام، إِذَا سَلَّمَ، قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ، وَيَمْكُثُ هُوَ فِي مَقَامِهِ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ، قَالَ: نَرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ ذَلِكَ كَانَ ليَنْصَرِفَ النِّسَاءُ، قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ الرِّجَالِ. / 215 - فيه: أَنَسِ: صَلَّى الرسول فِي بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقُمْتُ وَيَتِيمٌ خَلْفَهُ وَأُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا. هكذا سنة صلاة النساء أن يقمن خلف الرجال، وذلك والله أعلم، خشية الفتنة بهن، واشتغال النفوس بما جبلت عليه من أمورهن عن الخشوع فى الصلاة والإقبال عليها وإخلاص الفكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 فيها لله؛ إذ النساء مزينات فى القلوب ومقدمات على جميع الشهوات، وهذا أصل فى قطع الذرائع، وقد روى عن الرسول أنه قال: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) ، رواه سفيان عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبى هريرة، وروى أيضًا من حديث جابر، وروى ابن عباس أن امرأة جميلة دخلت المسجد فوقفت فى الصف الأول من صفوف النساء، فمن الناس من تقدم حتى لا يراها، ومنهم من تأخر فلاحظها، فأنزل الله تعالى: (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين) [الحجر: 24] . 7 - باب سُرْعَةِ انْصِرَافِ النِّسَاءِ مِنَ الصُّبْحِ، وَقِلَّةِ مَقَامِهِنَّ فِي الْمَسْجِدِ / 216 - فيه: عَائِشَةَ: كَانَ عليه السلام، يُصَلِّي الصُّبْحَ بِغَلَسٍ، فَتَنْصَرِفَ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، لا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ، أَوْ لا يَعْرِفُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا. هذه السنة المعمول بها أن تنصرف النساء فى الغلس قبل الرجال ليخفين أنفسهن، ولا يتبين لمن لقيهن من الرجال، فهذا يدل أنهن لا يُقمن فى المسجد بعد تمام الصلاة، وهذا كله من باب قطع الذرائع، والتحظير على حدود الله، والمباعدة بين الرجال والنساء خوف الفتنة ودخول الحرج، ومواقعة الإثم فى الاختلاط بهن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 8 - باب اسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِى الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ / 217 - فيه: ابن عمر: أن الرسول قال: (إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ فَلا يَمْنَعْهَا) . هذا الحديث معناه العموم، وتقييده بزيادة من زاد فيه بالليل لصلاتهن فى مساجد الجماعة، ويخرج من هذا الحديث أن الرجل إذا استأذنته امرأته إلى الحج لا يمنعها، فيكون وجه نهيه عن منعها المسجد الحرام لأداء فريضة الحج نهى إيجاب، وهو قول مالك، والشافعى أن المرأة ليس لزوجها منعها من الحج، ويكون على الوجه الأول، أعنى الصلوات الخمس فى المساجد، نهى أدب؛ لأنه واجب عليه أن لا يمنعها. وقال الطبرى: فى إطلاقه عليه السلام لهن الخروج إلى المساجد وذلك إباحة لا ندب ولا فرض، دليل أن نظير ذلك الإذن لهن فى كل ما كان مطلقًا الخروج فيه نحو عيادة إحداهن بعض أهلها، وشهودها أعياد المسلمين أو زيارة قبر ميت لها، وإذا كان حقًا عليهم أن يأذنوا لهن فيما هو مطلق لهن الخروج فيه، فالإذن لهن فيما هو فرض عليهن أو ندب الخروج إليه أولى، كخروجهن لأداء شهادة لزمتهن، أو لتعرف أسباب دينهن، ولأداء فرض الحج وشبهه من الفرائض، أو لزيارة أمهاتهن وآبائهن وذوى محارمهن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 - كِتَاب الْجُمُعَةِ - باب فَرْضِ الْجُمُعَةِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) [الجمعة 9] / 1 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ: قال رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمِ الَّذِي فُرِضَ الله عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ له، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ: الْيَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ) . قال المؤلف: قوله: (نحن الآخرون السابقون) ، يريد عليه السلام آخر الأنبياء والرسل، وهو خاتم النبيين لا نبى بعده، وقوله: (السابقون) ، يعنى أن أمته يسبقون سائر الأمم بالدخول فى الجنة، وهو الشافع ليقضى بين الخلائق يوم القيامة إذا اشتد بالناس العرق، وطال بهم الوقوف، فيمشى حتى يأخذ حلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا يحمده أهل الجمع كلهم. وأيضًا فقد أخبر عليه السلام أن أمته أعطوا أجر أهل الكتابين: التوراة، والإنجيل، فى حديث: (إنما مثلكم فيمن خلا من الأمم قبلكم) . وقوله: (هذا يومهم الذى فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 له) ، ليس فيه دليل أن يوم الجمعة فرض عليهم بعينه فتركوه؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يترك فرض الله عليه وهو مؤمن، وإنما يدل والله أعلم، أنه فرض عليهم يوم من الجمعة وكُل إلى اختيارهم ليقيموا فيه شريعتهم، فاختلفوا فى أىّ الأيام يكون ذلك اليوم، ولم يهدهم الله إلى يوم الجمعة، وذخره لهذه الأمة، وهداهم له تفضلاً منه عليها؛ ففضلت به على سائر الأمم؛ إذ هو خير يوم طلعت فيه الشمس وفضله الله بساعة يستجاب فيها الدعاء. وقوله: (بَيْد) ، معناه: (غَيْر) ، عند الخليل. - باب فَضْلِ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهَلْ عَلَى الصَّبِيِّ شُهُودُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَوْ عَلَى النِّسَاءِ / 2 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ، فَلْيَغْتَسِلْ) . / 3 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ مِنْ أَصْحَابِ رسول الله، فَنَادَاهُ عُمَرُ: أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ فقَالَ: إِنِّي شُغِلْتُ، فَلَمْ أَنْقَلِبْ إِلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ التَّأْذِينَ، فَلَمْ أَزِدْ أَنْ تَوَضَّأْتُ، فَقَالَ: وَالْوُضُوءُ أَيْضًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ. / 4 - وفيه: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 قال المؤلف: الغسل يوم الجمعة مرغب فيه مندوب إليه، وقد اختلف العلماء فى وجوبه، فذهبت طائفة إلى أنه ليس بواجب، يروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة، وهو قول مالك، والأوزاعى، والثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وجمهور العلماء. وأوجب قوم الغسل فرضًا، روى ذلك عن أبى هريرة، وكعب، وعن سعد وأبى قتادة ما يدل على ذلك، وهو قول أهل الظاهر، واحتجوا بقوله: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) . وقال الطحاوى: وحجة أهل المقالة الأولى: قول عمر لعثمان: (والوضوء أيضًا وقد علمت أن رسول الله كان يأمر بالغسل) ، فدل ذلك أن الغسل الذى كان أمر به لم يكن عندهم على الوجوب، وإنما كان لما ذكرت عائشة، وابن عباس أن الناس كانوا عمال أنفسهم يروحون بهيئتهم، فيؤذى بعضهم بعضًا بالروائح الكريهة، فقيل لهم: لو اغتسلتم، فدل أن الأمر كان من رسول الله بالغسل لم يكن للوجوب عليهم، وإنما كان لعلةٍ، ثم ذهبت تلك العلة، فذهب الغسل، ولولا ذلك لما تركه عثمان، ولا سكت عمر أن يأمره بالرجوع حتى يغتسل، وذلك بحضرة أصحاب النبى، عليه السلام، الذين سمعوا ذلك من النبى كما سمعه عمر، وعلموا معناه الذى أراده فلم ينكروا عليه من ذلك شيئًا، ولم يأمروا بخلافه، ففى هذا إجماع منهم على نفى وجوب الغسل. قال الطبرى: ودل ذلك أن أمره عليه السلام، بالغسل كان على وجه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 الندب والإرشاد، وقد جاءت روايات عن النبى، عليه السلام، تدل على ذلك، فروى شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب أن النبى، عليه السلام، قال: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) . ومعنى قوله عليه السلام: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) ، يعنى: واجب فى السنة وفى الأخلاق الكريمة، كما تقول: وجب حقك وبرك، أى: فى كرم الأخلاق، وقد تأتى لفظة على الوجوب لغير الفرض كما جاء فى الحديث: (الوتر واجب) ، وجمهور الأمة أنه غير فرض. وقوله: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) ، يدل أنه لا تجب الجمعة على الصبى، وهذا إجماع، وكذلك أجمعوا أنه لا جمعة على النساء. وقال المهلب: قول عمر لعثمان: (والوضوء أيضًا) ، يدل على إباحة الكلام فى الخطبة بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ لأنه من باب الخطبة. 3 - باب الطِّيبِ لِلْجُمُعَةِ / 5 - فيه: أَبو سَعِيدٍ، أن النبى، عليه السلام، قَالَ: (الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَأَنْ يَسْتَنَّ، وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا إِنْ وَجَدَ) . قَالَ عَمْرٌو: أَمَّا الْغُسْلُ فَأَشْهَدُ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَأَمَّا الاسْتِنَانُ وَالطِّيبُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَوَاجِبٌ هُوَ أَمْ لا؟ وَلَكِنْ هَكَذَا فِي الْحَدِيثِ. قوله: (أما الغسل فإنه واجب) ، يعنى: وجوب سنة على ما تقدم من الأدلة على ذلك، قال الطبرى، والطحاوى: لما قرن رسول الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 الغسل بالطيب يوم الجمعة، وأجمع الجميع على أن تارك الطيب يومئذ غير حرج إذا لم تكن له رائحة مكروهة يؤذى لها أهل المسجد، فكذلك حكم تارك الغسل؛ لأن مخرج الأمر من النبى، عليه السلام، بهما مخرج واحد، وكذلك أجمعوا أن أمره بالاستنان غير فرض، فكذلك الغسل والطيب، وإن كان العلماء يستحبون الطيب لمن قدر عليه، كما يستحبون اللباس الحسن، وكان ابن عمر يجِمّر ثيابه كل يوم جمعة، وقال معاوية بن قرة: أدركت ثلاثين من مزينة كانوا يفعلون ذلك. 4 - باب فَضْلِ الْجُمُعَةِ / 6 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ النبى، عليه السلام: (مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ رَاحَ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإمَامُ حَضَرَتِ الْمَلائِكَةُ، يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ) . / 7 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنُ الْخَطَّابِ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ، فَقَالَ عُمَرُ: لِمَ تَحْتَبِسُونَ عَنِ الصَّلاةِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا هُوَ إِلا أَنْ سَمِعْتُ النِّدَاءَ تَوَضَّأْتُ، فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعُ النَّبِيَّ عليه السلام، قَالَ: (إِذَا رَاحَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ؟) . قال المؤلف: فيه الحض على الاغتسال للجمعة والتبكير إليها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 وقوله: (كغسل الجنابة) ، فإنما يعنى: فى العموم والإسباغ لا فى الوجوب لما قدمناه قبل هذا. واختلف العلماء فى الساعات المذكورة فى هذا الحديث التى يكون الرواح فيها، فذهبت طائفة إلى أنها من أول طلوع الشمس، هذا قول الكوفيين، والشافعى، وأجاز الشافعى البكور إليها قبل طلوع الشمس، وقال مالك: لا يكون الرواح إلا بعد الزوال، والذى يقع فى قلبى أنه أراد عليه السلام، ساعة واحدة فيها هذا التفسير. قال الخطابى: وحجة مالك فى أن هذه الساعات كلها فى ساعة واحدة قولهم: جئت من ساعة، وقعدت عند فلان ساعة، يريد به جزءًا من الزمان غير معلوم دون الساعات التى هى أوراد الليل والنهار وأقسامها. واختار ابن حبيب القول الأول، واحتج له بأن ابن عمر سئل متى أروح؟ فقال: إذا صليت الغداة فَرُحْ إن شئت، قال ابن حبيب: وتأويل مالك محال وتحريف لوجه الحديث، وذلك أنه لا تكون ساعات فى ساعة واحدة، والشمس إنما تزول فى الساعة السادسة من النهار وهو وقت الأذان وخروج الإمام إلى الخطبة. وقول ابن حبيب خطأ لا خفاء به؛ لأن أهل العلم بالأوقات والحساب لا يختلفون أن الشمس إنما تزول فى أول الساعة السابعة، وتقع الصلاة إذا فاء الفىء ذراعًا وذلك فى الساعة الثامنة بعد مسير خمسها فى زمن الصيف، وبعد مسير نصفها فى زمن الشتاء. قال المهلب: ومفهوم الرواح فى لسان العرب يرد قول ابن حبيب؛ لأنهم لا يسمون الرواح إلا عند الزوال والغدو فى أول النهار، ولا يسمّون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 الغدو رواحًا، قال الله تعالى: (غدوها شهر ورواحها شهر) [سبأ: 12] ، فدل أن الغدو خلاف الرواح، والفرق بينهما مستفيض فى كلام الناس، والآثار الصحاح تشهد لقول مالك والفعل بالمدينة؛ لأنه أمر متردد فى كل جمعة لا يخفى على عامة العلماء، وروى أشهب عن مالك قال: التهجير إلى الجمعة ليس هو الغدو، ولم يكن الصحابة يغدون هكذا. وروى الزهرى عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة، عن النبى، عليه السلام، قال: (إذا كان يوم الجمعة قام على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فالمهجر إلى الجمعة كالمهدى بدنة، ثم الذى يليه كالمهدى بقرة، ثم الذى يليه كالمهدى كبشًا. . .) إلى آخر الحديث. والمهجر: مأخوذ من الهاجرة والهجير، وذلك وقت المسير إلى الجمعة، ولا يجوز أن يسمى عند طلوع الشمس هاجرة ولا هجيرًا، وقال فى الحديث: (ثم الذى يليه) ، ولم يذكر الساعات، فدل على صحة قول مالك. قال المهلب: وفيه دليل على أن المسارع إلى طاعة الله والسابق إليها أعظم أجرًا؛ ألا ترى أنه قد مثل ذلك بهدى البدنة، ثم الرائح بعده كمهدى البقرة إلى البيضة، فأراد عليه السلام أن يرى فضل ما بين البقرة والبدنة، ويدل على تفاوت ما بين السابق والمسبوق فى الفضل، وجعل الرواح إلى خروج الإمام. وقوله: (فإذا خرج الإمام طويت الصحف) ، فدل على أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 من أتى والإمام فى الخطبة أن أجره أقل من أجر من أتى قبله؛ لأن الملائكة لم تكتبه فى صحفها، وإنما يكون له أجر من أدرك الصلاة لا أجر المسارع. وقوله: (حضرت الملائكة يستمعون الذكر) ، يعنى: الخطبة، وقد بين ذلك فى حديث ابن المسيب، عن أبى هريرة، وقال: (يستمعون الخطبة) . وقد احتج بهذا الحديث من فضل البدن على البقر، والبقر على الضأن فى الضحايا، وهو قول الكوفيين والشافعى، واحتجوا بالإجماع على أن أفضل الهدايا: الإبل، وقالوا: ما استيسر من الهدى: شاة، فدل ذلك على نقصان مرتبتها عما هو أعلى منها، وذهب مالك إلى أن أفضل الضحايا: الضأن، وقال تعالى: (وفديناه بذبح عظيم) [الصافات: 107] ، وهو كبش لا جمل ولا بقرة، وقال: لو علم الله حيوانًا هو أفضل من الكبش لفدى به. وقوله: (من راح فى الساعة الرابعة كمن أهدى دجاجة، وفى الساعة الخامسة كمن أهدى بيضة) ، واسم الهدى لا يقع على الدجاجة والبيضة، وأما الغنم فقد اختلف العلماء فيها، فقال بعضهم: ليست بهدى والأكثرون منهم يجعلونها هديًا، وثمرة هذا الخلاف أن يوجب الرجل على نفسه هديًا، فإذا ذبح شاة أجزأه عن نذره فى قول من رآها هديًا، ولا يجزئه فى قول الآخرين إلا بدنة أو بقرة، ذكره الخطابى. وقوله: (أهدى دجاجة وبيضة) ، فمن المحمول على حكم ما تقدمه من الكلام كقوله: أكلت طعامًا وشرابًا، والأكل إنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 يصرف إلى الطعام دون الشراب، إلا أنه لما عطف به على المذكور قبله حمل على حكمه كقولهم: متقلدًا سيفًا ورمحًا، والرمح لا يتقلد إنما يحمل، ومثله: زَجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا، أى: كحلن العيونا. 5 - باب الدُّهْنِ لِلْجُمُعَةِ / 8 - فيه: سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام: (لا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ الطُهْور، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، ويَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإمَامُ إِلا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأخْرَى) . / 9 - وفيه: طَاوُسٌ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: ذَكَرُوا أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، قَالَ: (اغْتَسِلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْسِلُوا رُءُوسَكُمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا جُنُبًا، وَأَصِيبُوا مِنَ الطِّيبِ) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَّا الْغُسْلُ فَنَعَمْ، وَأَمَّا الطِّيبُ فَلا أَدْرِي. قال المؤلف: الدهن يوم الجمعة كالطيب لها، وقد تقدم أن العلماء متفقون على استحبابه، وروى فى حديث سلمان أنه عليه السلام، قال: (إذا توضأ الرجل يوم الجمعة ولبس ثيابه، ثم أتى الجمعة وأنصت حتى تقضى الصلاة؛ غفر له من الجمعة إلى الجمعة) ، فذكر مكان الغسل الوضوء رواه جرير بن حازم، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن القرثع الضبى، عن سلمان. قال الطبرى: وفيه البيان أن الثواب الذى وصفه النبى، عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 السلام، إنما هو أن يشهد الجمعة بالصفة التى وصفها وأنصت لخطبة إمامه وقراءته فى صلاته دون من لم ينصت. فإن قيل: فإذا كان كما وصفت، فما أنت قائل فيمن كان بهذه الصفة وكان من الإمام بحيث لا يبلغه صوته أو كان بحيث يبلغه صوته لو رفع، غير أن الإمام خفض صوته، فلم يسمع خطبته ولا قراءته، هل يستحق الثواب الذى ذكره النبى، عليه السلام، أم لا؟ . قيل: إذا كان بعض هذه العلل فالله تعالى، أكرم من أن يحرم عبدًا له مطيعًا، انتهى فى أمره إلى ما أمر به، ثواب عمله بسبب مانع منعه إلى ما قصده وأراده. وقوله عليه السلام: (اغتسلوا يوم الجمعة وإن لم تكونوا جنبًا) ، فإنه محمول عند الفقهاء على الاستحباب والندب كما تقدم فى باب فضل الغسل يوم الجمعة، وقال ابن المنذر: أكثر من نحفظ عنه من أهل العلم يقولون: يجزئ غسل واحد للجنابة والجمعة. وابن المنذر صاحب (الإشراف) ، هو القائل: وروينا هذا عن ابن عمر، ومجاهد، ومكحول، ومالك، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأبى ثور، وقال أحمد: أرجو أن يجزئه، وهو قول ابن كنانة، وأشهب، وابن وهب، ومطرف، وابن الماجشون، وابن نافع، ورواه عن مالك، وهو قول المزنى. وقال آخرون: لا يجزئه غسل الجمعة عن غسل الجنابة حتى ينويها، هذا قول مالك فى المدونة وذكره ابن عبد الحكم، وذكر ابن المنذر عن بعض ولد أبى قتادة أنه قال: من اغتسل للجنابة يوم الجمعة اغتسل للجمعة. وقال ابن حبيب: لم يختلف قول مالك ومن علمت من أصحابنا، فيمن اغتسل للجنابة وهو ناسٍ للجمعة أن ذلك لا يجزئه عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 غسل الجمعة، غير محمد بن عبد الحكم، فإنه قال: غسل الجنابة يجزئ عن غسل الجمعة، ولا يجزئ غسل الجمعة عن غسل الجنابة، وقال الأبهرى: إنما لم يجزئ غسل الجمعة عن الجنابة؛ لأن غسل الجنابة فرض، وغسل الجمعة مندوب إليه ليس بفرض وسيأتى معنى قوله: (فلا يفرق بين اثنين) فى بابه. 6 - باب يَلْبَسُ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ / 10 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ تَلَبِسْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ) . ثُمَّ جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ مِنْهَا حُلَلٌ، فَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهَا حُلَّةً، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَوْتَنِيهَا، وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا) ، فَكَسَاهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا. قوله فى الحلة: (فتلبسها للجمعة) ، يدل أنه كان عندهم معهود أن يلبس الرجل أفضل ثيابه وأحسنها لشهود الجمعة، وقد روى عنه عليه السلام، أنه قال: (ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبى مهنته) ، من بلاغات مالك عن يحيى بن سعيد. وذكر أهل السير: أن النبى عليه السلام، كان يلبس برده الأحمر يوم الجمعة وأحسن ثيابه، ويمس من الطيب، وكذلك فى العيدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 قال عبد الرحمن بن أبى ليلى: أدركت أصحاب محمد من أصحاب بدر، وأصحاب الشجرة إذا كان يوم الجمعة لبسوا أحسن ثيابهم وإن كان عندهم طيب مسُّوا منه، ثم راحوا إلى الجمعة. والسيراء: ثياب يخالطها حرير، يقال: سيرت الثوب والسهم: جعلت فيه خطوطًا، من كتاب (العين) . 7 - باب السِّوَاكِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ / 11 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ النبى، عليه السلام: (لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، أَوْ عَلَى النَّاسِ، لأمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاةٍ) . / 12 - وفيه: أَنَسٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَكْثَرْتُ عَلَيْكُمْ فِي السِّوَاكِ) . / 13 - وفيه: حُذَيْفَةَ قَالَ: (كَانَ عليه السلام، إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ) . قال المؤلف: إذا كانت الجمعة لها مزية فضيلة فى الغسل لها واللباس والطيب، وكان السواك مستحبًا لكل صلاة مندوبًا إليه، كانت الجمعة أولى بذلك. وقال المهلب: قوله: (لولا أن أشق على أمتى) ، يدل أن السنن والفضائل ترتفع عن الناس إذا خشى منها الحرج عليهم، وإنما أكد فى السواك لمناجاة الله ولتلقى الملائكة لتلك المناجاة فلزم تطهير النكهة، وتطييب الفم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 8 - باب مَنْ تَسَوَّكَ بِسِوَاكِ غَيْرِهِ / 14 - فيه: عَائِشَةَ: دَخَلَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَمَعَهُ سِوَاكٌ يَسْتَنُّ بِهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ، فَقُلْتُ لَهُ: (أَعْطِنِي هَذَا السِّوَاكَ يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ) ، فَأَعْطَانِيهِ، فَقَضَمْتُهُ، ثُمَّ مَضَغْتُهُ، فَأَعْطَيْتُهُ رَسُولَ اللَّهِ فَاسْتَنَّ بِهِ، وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى صَدْرِي. وفيه: الترجمة، وفيه: طهارة ريق ابن آدم، وقد تقدم فى كتاب الطهارة. 9 - باب مَا يُقْرَأُ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ / 15 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام، يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ يوم الْجُمُعَةِ) الم تَنْزِيلُ (، وَ) هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ) [الإنسان 1] ) . ذهب العلماء إلى القول بهذا الحديث، وأجازوا أن يقرأ سورة فيها سجدة فى الفجر يوم الجمعة، روى ذلك عن على بن أبى طالب، وابن عباس واستحبه النخعى، وابن سيرين، وهو قول الكوفيين، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقالوا: هو سنة، واختلف قول مالك فى ذلك فروى ابن وهب عنه أنه لا بأس أن يقرأ الإمام بالسجدة فى الفريضة، وروى عنه أشهب أنه كره للإمام ذلك إلا أن يكون من خلفه قليل لا يخاف أن يخلط عليهم. وقال المهلب: القراءة فى الصلاة كلها محمولة على قوله تعالى: (فاقرءوا ما تيسر من القرآن) [المزمل: 20] ، وإنما كره ذلك مالك خشية التخليط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 على الناس، ولذلك، والله أعلم، ترك النبى، عليه السلام، فى آخر فعله السجود فى المفصل؛ لأنه الذى يقرأ به فى الصلوات الخمس، وستأتى زيادة فى هذا المعنى فى باب سجود القرآن، إن شاء الله تعالى. - باب الْجُمُعَةِ فِي الْقُرَى وَالْمُدُنِ / 16 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ، بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ، فِي مَسْجِدِ عَبْدِالْقَيْسِ بِجُوَاثَى مِنَ الْبَحْرَيْنِ) . / 17 - وكَتَبَ رُزَيْقُ بْنُ حُكَيْمٍ إِلَى ابْنِ شِهَابٍ، وهو بِوَادِي الْقُرَى: هَلْ تَرَى أَنْ أُجَمِّعَ؟ ، وَرُزَيْقٌ عَامِلٌ عَلَى أَرْضٍ وَفِيهَا جَمَاعَةٌ، فَكَتَبَ إليه ابْنُ شِهَابٍ أَنْ يُجَمِّعَ، قال: وحَدَّثَنى سَالِم، عن أبيه، أَنَّ النبى، عليه السلام، قال: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) . أجمع العلماء على وجوب الجمعة على أهل المدن، واختلفوا فى وجوبها على أهل القرى، فقال مالك: كل قرية فيها مسجد أو سوق، فالجمعة واجبة على أهلها، وبه قال الشافعى وجماعة، وقال مالك، والشافعى: لا تجب على أهل العمود، وإن كثروا؛ لأنهم فى حكم المسافرين. وقال أبو حنيفة، والثورى: لا تجب الجمعة إلا على أهل الأمصار خاصة، وأحاديث هذا الباب حجة لمن أوجب الجمعة على أهل القرى. وفى احتجاج ابن شهاب أن الجمعة على أهل القرى بقوله عليه السلام: (كلكم راع ومسئول عن رعيته) ، حجة للكوفيين فى أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 الجمعة لا تقوم إلا بالأمراء أو من أَذِنَ له الأمراء، وزعموا أن الإمام فيها شرط؛ لأن النبى، عليه السلام، صلى بهم يوم الجمعة وخلفاؤه بعده، وقال مالك، والشافعى: تقوم الجمعة فى القرى والمدن بِوَالٍ أو غيره. قال ابن القصار: ولو جاز أن يقول إن إقامة الجمعة بالنبى وخلفائه شرط لجاز أن يقول ذلك فى سائر الصلوات؛ لأنه عليه السلام، تولى سائر الصلوات بنفسه واستخلف أبا بكر الصديق، فكان يجب ألا تصلى صلاة إلا بسلطان أو إذنه، والجمعة لابد أن تفعل فى المسجد مع الأئمة، والجماعات فى الجمعة كما هى فى الأعياد والاستسقاء والخسوف والحج، وهى أعلام من الشرائع بكثرة الاجتماع لها، فجرت عادة السلطان بحضورها لمقاماتها، لا أن غير ذلك لا يجوز، كما فعل سائر الصلوات فى المسجد، وتوعد على تركها معه فى المسجد ولم يقل أن غير ذلك لا يجوز. - باب هَلْ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْجُمُعَةَ غُسْلٌ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّمَا الْغُسْلُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ. / 18 - فيه: ابْنَ عُمَرَ قال النبى، عليه السلام: (مَنْ جَاءَ مِنْكُمُ الْجُمُعَةَ، فَلْيَغْتَسِلْ) . / 19 - وفيه: أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ: (غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ) . / 20 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (. . . نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ. . .) ، إلى قوله: (حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 / 21 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ النَّبِيِّ عليه السلام: (ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسَاجِدِ) . / 22 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ لِعُمَرَ تَشْهَدُ صَلاةَ الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَقِيلَ لَهَا: لِمَ تَخْرُجِينَ، وَقَدْ تَعْلَمِينَ أَنَّ عُمَرَ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَيَغَارُ؟ قَالَتْ: فَمَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْهَانِي؟ ، قَالَ: يَمْنَعُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ: (لا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ) . قال المؤلف: أما الصبيان فلا يلزمهم غسل الجمعة حتى يحتلموا كما قال النبى، عليه السلام، وقد استحب مالك أن يغتسل من حضر الجمعة من النساء والعبيد والصبيان، وهو قول الشافعى فى غير المحتلمين إذا شهدوا الجمعة، وروى عن طاوس وأبى وائل أنهما كانا يأمران نساءهما بالغسل يوم الجمعة، وأجمع أئمة الفتوى أن الصبيان والنساء لا تلزمهم الجمعة فسقط الغسل عنهم، وكذلك أجمع أئمة الفتوى أن المسافرين لا جمعة عليهم فلا غسل عليهم، وقد روى عن طلحة بن عبيد الله أنه كان يغتسل للجمعة فى السفر، وعن طاوس ومجاهد مثله، وقال أبو ثور: لا يجب ترك ذلك. وقوله عليه السلام: (من جاء منكم الجمعة فليغتسل) ، يَرُدُّ هذا كله؛ لأنه عليه السلام شرط الغسل بشهود الجمعة، فمن لزمته الجمعة اغتسل، ومن سقطت الجمعة عنه سقط عنه الغسل كما قال ابن عمر، وقوله عليه السلام: (ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد) ، حجة فى أنه لا جمعة على النساء؛ لأنه عليه السلام جعل لأزواجهن الإذن لهم بالليل إلى المساجد ولا جمعة فى الليل، ولو لزمتهن الصلاة فى المساجد كما تلزم الرجال لما خص الليل دون النهار، ولم يخاطب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 أزواجهن بالإذن لهن؛ بل خاطبهن آمرًا لهن بذلك، وإن كان إجماع أئمة الفتوى الذين هم الحجة على أن النساء والصبيان لا جمعة عليهم يغنى عن إقامة الدليل عليه. وكذلك حديث امرأة عمر أنها كانت تشهد العشاء والصبح فى جماعة يدل أن الصحابة فهمت إذن النبى، عليه السلام، للنساء بالصلاة فى الجماعة: إنما أريد به الليل والغلس، على ما بوب له البخارى قبل هذا؛ فإن الجمعة لا إذن لهن فيها، والله الموفق. واختلفوا فى وقت غسل الجمعة، وهل الغسل لأجل اليوم أو لأجل الصلاة، فقال أبو يوسف: إذا اغتسل بعد طلوع الفجر ثم أحدث فتوضأ، ثم شهد الجمعة لم يكن كمن شهد الجمعة على غسل، قال أبو يوسف: إن كان الغسل لليوم فإن اغتسل بعد الفجر، ثم أحدث فصلى الجمعة بوضوء فغسله تام، وإن كان الغسل للصلاة، فإنما شهد الجمعة على وضوء. وذكر ابن المنذر عن مجاهد، والحسن البصرى، والنخعى، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، أنه من اغتسل بعد الفجر للجمعة أنه يجزئه من غسل الجمعة، وهو قول ابن وهب صاحب مالك، وقال مالك: لا يجزئه إلا أن يكون غسلاً متصلاً بالرواح ولا يجزئ فى أول النهار. وقال الطحاوى: قوله عليه السلام: (من جاء إلى الجمعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 فليغتسل) ، وروى (من راح إلى الجمعة فليغتسل) ، يدل أن الغسل للرواح وقوله: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) ، و (حق على كل مسلم أن يغتسل فى كل سبعة أيام يومًا) ، يدل أن المقصود به اليوم لا الرواح، والواجب حمل الأخبار على أن المقصود به الصلاة لا اليوم؛ لأن اليوم إنما ذكره لأن فيه الجمعة حتى تتفق معانى الأخبار؛ ولأنهم متفقون على أنه لو اغتسل يوم الجمعة بعد فوات الجمعة أنه غير مصيب لغسل يوم الجمعة، فدل أن المقصود بالغسل إلى الرواح لا إلى اليوم. - باب الرُّخْصَةِ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرِ الْجُمُعَةَ فِي الْمَطَرِ / 23 - فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: أنه قال لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ: إِذَا قُلْتَ: (أَشْهَدُ أَنَّ لا إلهَ إلا الله، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَلا تَقُلْ: حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، قُلْ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ، فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذلك، فقَالَ: فَعَلَهُ مَنْ كَانَ خَيْرٌ مِنِّي، إِنَّ الْجُمْعَةَ عَزْمَةٌ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ، فَتَمْشُونَ فِي الطِّينِ وَالدَّحَضِ) . اختلف العلماء فى التخلف عن الجمعة للمطر، فممن كان يتخلف عنها لذلك: ابن سيرين، وعبد الرحمن بن سمرة، وهو قول أحمد وإسحاق، واحتجوا بهذا الحديث، وقالت طائفة: لا يتخلف عن الجمعة للمطر، روى ابن نافع قال: قيل لمالك: أيتخلف عن الجمعة فى اليوم المطير، قال: ما سمعت، قيل له: فالحديث (ألا صلوا فى الرحال) ، قال: ذلك فى السفر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 وقد رخص فى ترك الجمعة لأعذار أخر غير المطر، روى ابن القاسم عن مالك أنه أجاز أن يتخلف عن الجمعة لجنازة أخ من إخوانه لينظر فى أمره، قال ابن حبيب عن مالك: وكذلك إن كان له مريض يخشى عليه الموت، وقد زار ابن عمر ابنًا لسعيد بن زيد ذكر له شكواه، فأتاه إلى العقيق وترك الجمعة، وهو مذهب عطاء، والحسن، والأوزاعى، وقاله الشافعى فى الولد والوالد إذا خاف فوات نفسه، وقال عطاء: إذا استصرخ على أبيك يوم الجمعة والإمام يخطب فقم إليه واترك الجمعة، وقال الحسن: يرخص فى الجمعة للخائف. وقال مالك فى (الواضحة) : ليس على المريض والصحيح الفانى جمعة، وقال أبو مجلز: إذا اشتكى بطنه لا يأتى الجمعة، وقال ابن حبيب: أرخص النبى، عليه السلام، فى التخلف عن الجمعة لمن شهد الفطر والأضحى صبيحة ذلك اليوم من أهل القرى الخارجة عن المدينة لما فى رجوعهم من المشقة لما أصابهم من شغل العيد، وفعله عثمان لأهل العوالى واختلف قول مالك فيه. - باب مِنْ أَيْنَ تُؤْتَى الْجُمُعَةُ؟ وَعَلَى مَنْ تَجِبُ؟ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الجمعة 9] وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا كُنْتَ فِي قَرْيَةٍ جَامِعَةٍ، فَنُودِيَ بِالصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَحَقٌّ عَلَيْكَ أَنْ تَشْهَدَهَا، سَمِعْتَ النِّدَاءَ أَم لَمْ تَسْمَعْهُ، وَكَانَ أَنَسٌ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَصْرِهِ أَحْيَانًا يُجَمِّعُ، وَأَحْيَانًا لا يُجَمِّعُ، وَهُوَ بِالزَّاوِيَةِ عَلَى فَرْسَخَيْنِ. / 24 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ الْجُمُعَةِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَالْعَوَالِيِّ، فَيَأْتُونَ فِي الْغُبَارِ، يُصِيبُهُمُ الْغُبَارُ وَالْعَرَقُ، فَيَخْرُجُ مِنْهُمُ الْعَرَقُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ إِنْسَانٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ عِنْدِي، فَقَالَ عليه السلام: (لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فقالت طائفة: تجب الجمعة على من آواه الليل إلى أهله، روى ذلك عن أبى هريرة، وابن عمر، وهو قول عطاء، والأوزاعى، وأبى ثور، وقال الزهرى: يجب على من كان على ستة أميال، وروى عنه أربعة أميال، وهو قول ربيعة، وقالت طائفة: تجب الجمعة على من سمع النداء، روى ذلك عن سعيد بن المسيب، وهو قول مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقال مالك فى (المجموعة) : عزيمة الجمعة على كل من كان فى موضع يسمع منه النداء، وذلك على ثلاثة أميال ومن كان أبعد فهو فى سعة، وقال فى (المختصر) : من كان على ثلاثة أميال أو زيادة يسيرة لزمتهم الجمعة، وقال الكوفيون: لا تجب الجمعة إلا على أهل المصر، ومن كان خارج المصر فلا تجب عليه، وإن سمع النداء، وقال حذيفة: ليس على من على رأس ميل جمعة. وقال المهلب: نص كتاب الله يدل على أن الجمعة تجب على من سمع النداء، وإن كان خارج المصر وهذا أصح الأقوال. قال ابن القصار: اعتل الكوفيون لقولهم أن الجمعة لا تجب على من كان خارج المصر، قالوا: لأن الأذان علم لمن لم يحضر، والأذان بعد دخول الوقت، ومعلوم أن من يسمع على أميال يأخذ فى المشى فلا يلحق، فيقال لهم: معنى قوله تعالى: (إذا نودى للصلاة) [الجمعة: 9] ، أى: إذا قرب وقت النداء لها بمقدار ما يدركها كل ساع إليها، فاسعوا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 وليس على أنه لا يجب السعى إليها إلا حين ينادى لها، والعرب قد تضع البلوغ بمعنى المقاربة كقوله: (إن ابن أم مكتوم لا ينادى حتى يقال له: أصبحت أصبحت) ، أى: قارب الصباح ومثله: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف) [الطلاق: 2] ، يريد إذا قاربن البلوغ؛ لأنه إذا بلغت آخر أجلها لم يكن له إمساكها، وفى إجماع العلماء على أن من كان فى طرف المصر العظيم، وإن لم يسمع النداء يلزمه السعى دليل واضح أنه لم يرد بالسعى حين النداء خاصة، وإنما أريد قربه، وأما من كان خارج المصر إذا سمع النداء فهو داخل فى عموم قوله تعالى: (إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) [الجمعة: 9] ، ولم يخص من فى المصر أو خارجه. وأما حديث عائشة: أن الناس كانوا ينتابون الجمعة من العوالى، ففيه رد لقول الكوفيين أن الجمعة لا تجب على من كان خارج المصر؛ لأنها أخبرت عنهم بفعل دائم أنهم كانوا ينتابون الجمعة، فدل ذلك على لزومها ووجوبها عليهم. قال محمد بن مسلمة: ومما يبين أن الجمعة لازمة لأهل العوالى إذن عثمان لهم يوم العيد فى الانصراف ولولا وجوبها عليهم ما أَذِنَ لهم. وما روى عن أنس أنه كان مرة يشهد الجمعة من الزاوية وهى على فرسخين من البصرة، ومرة كان لا يشهدها، والفرسخ ثلاثة أميال، ولو كان لازمًا عنده شهودها لمن كان على ستة أميال لما تركها بعض المرات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 واختلفوا فى عدد من تلزمهم الجمعة، فروى عن أبى هريرة أنها لا تنعقد إلا بأربعين نفسًا، هذا قول الشافعى، وزعم أن النبى، عليه السلام، جمع بأربعين، وذكر ابن حبيب عن مطرف، وابن الماجشون، عن مالك أن ثلاثين بيتًا وما قاربهم جماعة. قال ابن القصار: ورأيت لمالك أنها لا تجب على الثلاثة والأربعة، ولكنها تنعقد بما دون الأربعين، وعن ربيعة أنها تنعقد باثنى عشر رجلاً عدد الذين بقوا مع النبى يوم انفضوا إلى العير، قال أبو حنيفة: تنعقد بإمام وثلاثة أنفس، وهو قول الأوزاعى، والمزنى، والثورى، وقال أبو يوسف: تنعقد بإمام ونفسين، وقال الحسن: تنعقد بإمام وآخر معه. وقال ابن القصار: هذا الخلاف كله معارض لقول الشافعى، وليس أحد الأقوال أولى من صاحبه، فوجب الرجوع إلى صفة من خوطب فى الآية، والذين أمر الله بالسعى إليها فهم قوم لهم بيع وشراء، فوجب طلب قوم هذه صفتهم، ولسنا نعتبر عددًا حتى يصيروا به جماعة، ولكنا نقول: كل قوم لهم مسجد وسوق ينطلق عليهم اسم جماعة، فالجمعة واجبة عليهم سواء كانوا خمسة أو أربعين؛ لأن المقادير والتحديدات فى الشريعة لا تثبت إلا من طريق صحيح، وقال المزنى: لا يصح عن أصحاب الحديث ما احتج به الشافعى من أنه حين قدم المدينة جمع أربعين رجلاً؛ لأنه معلوم أن النبى، عليه السلام، قدم المدينة وقد تكاثر المسلمون وتوافروا فيجوز أن يكون جمع فى موضع نزوله قبل دخوله فى نفس المدينة، فاتفق له أربعون نفسًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 - باب وَقْتُ الْجُمُعَةِ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَكَذَلِكَ يُذكر عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَعَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ. / 25 - فيه: عَائِشَةُ قَالَتْ: كَانَ النَّاسُ مَهَنَةَ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانُوا إِذَا رَاحُوا إِلَى الْجُمُعَةِ، رَاحُوا فِي هَيْئَتِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَوِ اغْتَسَلْتُمْ. / 26 - وفيه: أَنَسِ: (أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ) . / 27 - قال أنس: كُنَّا نُبَكِّرُ بِالْجُمُعَةِ، وَنَقِيلُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ. قال المؤلف: إنما ذكر البخارى الصحابة فى صدر هذا الباب؛ لأنه قد روى عن أبى بكر، وعمر، وعثمان أنهم كانوا يصلون الجمعة قبل الزوال من طريق لا يثبت، رواه وكيع عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج الكلابى، عن عبد الله بن سَيْدان السلمى قال: شهدت الجمعة مع أبى بكر الصديق، فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر وعثمان إلى أن أقول: انتصف النهار، فما رأيت أحدًا عاب ذلك ولا أنكره. وعبد الله بن سيدان لا يعرف، والصحيح عن الصحابة ما ذكره البخارى، ونحوه ذُكر عن مالك عن عمر فى قصة طنفسة عقيل، وأجمع الفقهاء على أن وقت الجمعة بعد زوال الشمس إلا ما روى عن مجاهد أنه قال: جائز أن تصلى الجمعة فى وقت صلاة العيد؛ لأنها صلاة عيد، وقال أحمد بن حنبل: تجوز صلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 الجمعة قبل الزوال، وهذا القول يرده حديث أنس المذكور فى هذا الباب وعمل الخلفاء بعده. وقال ابن القصار: لا تخلو الجمعة من أن تكون ظهرًا فوقتها لا يختلف، أو بدلاً من الظهر فيجب ألا يختلف أيضًا؛ لأن الأبدال لا تتقدم مبدلاتها، كالقصر فى السفر لا يخرج الصلاة عن أوقاتها. وقوله: كنا نبكر بالجمعة، فإنما يريد أنهم كانوا يصلونها بعد الزوال فى أول الوقت وهو وقت الرواح عند العرب. وقوله: (نقيل بعد الجمعة) ، يعنى أنهم كانوا يقيلون بعد الصلاة بدلاً من القائلة التى امتنعوا منها بسبب تبكيرهم إلى الجمعة، وقد ذكر ابن أبى شيبة فى حديث جابر بن عبد الله، وسلمة بن الأكوع أنهما قالا: كنا نصلى مع رسول الله الجمعة إذا زالت الشمس. - باب إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ / 28 - فيه: أَنَسَ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام، إِذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلاةِ، وَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ برَدَ بِالصَّلاةِ - يَعْنِي: الْجُمُعَةَ) . وقَالَ أَبُو خَلْدَةَ: (صَلَّى بِنَا أَمِيرنا الْجُمُعَةَ، ثُمَّ قَالَ لأنَس: كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ يُصَلِّي الظُّهْرَ؟) . هذا الباب فى معنى الذى قبله أن الجمعة وقتها وقت الظهر، وأنها تصلى بعد الزوال يبرد بها فى شدة الحر، ولا يكون الإبراد إلا بعد تمكن الوقت، ومدار هذا الباب على ذكر الظهر؛ فإذا صح بهذا أن الجمعة هى الظهر لم يجز أن تصلى قبل الزوال كما زعم مجاهد وأحمد بن حنبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 - باب الْمَشْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الجمعة 9] . وَمَنْ قَالَ: السَّعْيُ: الْعَمَلُ وَالذَّهَابُ؛ لِقَوْل اللَّه تَعَالَى: (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) [الإسراء 19] ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَحْرُمُ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ: تَحْرُمُ الصِّنَاعَاتُ كُلُّهَا، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ: إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ مُسَافِرٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ. / 29 - فيه: عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ قَالَ: أَدْرَكَنِي أَبُو عَبْسٍ، وَأَنَا أَذْهَبُ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ) . / 30 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيِّ عليه السلام، يَقُولُ: (إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَلا تَأْتُوهَا وَأَنتم تَسْعَوْنَ، وَائَتُوهَا تَمْشُونَ، عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا) . / 31 - وقال أَبو قَتَادَةَ: قَالَ عليه السلام: (لا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ) . قال المؤلف: السعى فى لسان العرب يصلح للإسراع فى المشى والاشتداد فيه، ويصلح للعمل والترسل فى المشى دون السعى، فمن السعى الذى هو بمعنى الإسراع قوله عليه السلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، أى: تسرعون، وائتوها تمشون عليكم السكينة) ، وممن كان يسعى إذا سمع النداء: أنس بن مالك. وأما السعى الذى هو بمعنى العمل، فقوله تعالى: (وسعى لها سعيها) [الإسراء: 19] ، يعنى: وعمل لها عملها، وقوله: (وإذا تولى سعى فى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 الأرض ليفسد فيها) [البقرة: 205] ، وقال: (وأما من جاءك يسعى) [عبس: 8] ، هذه الآيات، لما علم أن المراد بها غير الجرى، على صحة هذا القول، وبأن قوله عليه السلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وائتوها تمشون، وعليكم السكينة) ، أن المراد بقوله تعالى: (فاسعوا إلى ذكر الله) [الجمعة: 9] ، غير الجرى، وكذلك قال الحسن فى تأويل هذه الآية: أما والله ما هو بالسعى على الأقدام، وقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنيات والخشوع. وإلى هذا ذهب مالك وأكثر العلماء، وهو مذهب البخارى، وكان عمر وابن مسعود يقرأن: (فامشوا إلى ذكر الله) ، وقال ابن مسعود: لو قرأتها (فاسعوا) لسعيت حتى يسقط ردائى. واختلفوا فى وقت تحريم البيع والشراء، فقالت طائفة: هو زوال الشمس، وروى ذلك عن عطاء، والقاسم، والحسن، ومجاهد، وقالت طائفة: هو عند النداء الثانى والإمام على المنبر، رواه ابن القاسم عن مالك، وأنكر منع الناس البيع قبل ذلك. واختلفوا فى البيع فروى ابن القاسم عن مالك أن البيع مفسوخ، وروى عنه ابن وهب، وعلى بن زياد: بئس ما صنع ويستغفر الله، وقال عنه على: ولا أرى الربح فيه حرامًا. وقال ابن القاسم: لا يفسخ ما عقد حينئذ من النكاح، وإن لم يدخل، ولا تفسخ الهبة، والصدقة، والرهن، والحمالة، وقال أصبغ: يفسخ النكاح، وقال أبو حنيفة، والثورى، والشافعى: البيع صحيح، وفاعله عاصٍ لله؛ لأن النهى لم يقع على البيع، وإنما جرى ذكر البيع؛ لأنهم كانوا يشتغلون بالتجارة عن الجمعة، والمعنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 المقصود من ذلك كل ما يمنع من إثباتها، وقد أجمع العلماء على أن المصلى لا يحل له فى صلاته بيع ولا شراء، فلو قال رجل لآخر فى الصلاة: بعنى سلعتك بكذا، فأجابه المصلى بنعم، أو بكلام ينعقد فيه البيع أن البيع جائز، وإن كان عاصيًا؛ لأن البيع معنى والصلاة غيره. وقال الزهرى: إذا سمع المؤذن يوم الجمعة وهو مسافر، فعليه أن يشهد، قال ابن المنذر: وقد اختلف فيه عنه، وأكثر العلماء على أنه لا جمعة على مسافر. - باب لا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ / 32 - فيه: سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَتَطَهَّرَ بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، ثُمَّ ادَّهَنَ، أَوْ مَسَّ مِنْ طِيبٍ، ثُمَّ رَاحَ فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَصَلَّى مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ إِذَا خَرَجَ الإمَامُ أَنْصَتَ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأخْرَى) . وقوله: (لا يفرق بين اثنين) ، يعنى لا يتخطى رقابهما، يدل على ذلك ما رواه ابن أبى خيثمة قال: حدثنا محمد بن بكار، حدثنا عباد بن عباد، حدثنا هشام بن زياد، عن عمار بن سعد، عن عثمان بن أبى الأرقم، عن أبيه، وكان من أصحاب النبى عليه السلام، قال: (الذى يتخطى رقاب الناس يفرق بين الاثنين يوم الجمعة بعد خروج الإمام كالجارِّ قصبه فى النار) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 وروى ابن وهب، عن أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله ابن عمرو بن العاص أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما) . وفى قوله: (لا يفرق بين اثنين) ، حض على التبكير إلى الجمعة؛ ليصل إلى مكان مصلاه دون تخط ولا تفريق بين اثنين. اختلف العلماء فى التخطى، فكرهه أبو هريرة، وسلمان، وكعب، ورواه ابن أبى شيبة عن أبى هريرة قال: لأن أصلى بالحرة أحب إلىّ من أن أتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، وعن سعيد بن المسيب مثله، وقال كعب: لأن أدع الجمعة أحب إلى من أن أتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، وقال سلمان: إياك والتخطى واجلس حيث بلغتك الجمعة، وهو قول عطاء، والثورى، وأحمد بن حنبل. وفيه قول ثان: قال قتادة: يتخطاهم إلى مجلسه، وقال الأوزاعى: يتخطاهم إلى السعة، وهذا يشبه قول الحسن البصرى قال: لا بأس بالتخطى إذا كان فى المسجد سعة، وقال الشافعى: أكره التخطى قبل دخول الإمام وبعده إلا أن لا يجد السبيل إلى المصلى إلا بأن يتخطى فيسعه التخطى. وفيها قول ثالث: روى عن أبى نضرة قال: يتخطاهم بإذنهم، وكان مالك لا يكره التخطى إلا إذا كان الإمام على المنبر، ولا بأس به قبل ذلك إذا كان بين يديه فرج، وذكر الطحاوى عن الأوزاعى مثله، قال: التخطى الذى جاء فيه القول إنما هو والإمام يخطب؛ لأن الآثار تدل على ذلك؛ ألا ترى قوله عليه السلام: (الذى يتخطى رقاب الناس فيفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كالجار قصبه فى النار) ، وقوله للذى يتخطى وهو يخطب: (آذيت وآنيت) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 - باب لا يُقِيمُ الرَّجُلُ أَخَاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَقْعُدُ فِي مَكَانِهِ / 33 - فيه: ابْنَ عُمَرَ: نَهَى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ مِنْ مَقْعَدِهِ، وَيَجْلِسَ فِيهِ، قُلْتُ لِنَافِعٍ: الْجُمُعَةَ؟ ، قَالَ: الْجُمُعَةَ وَغَيْرَهَا. قال المهلب: هذا على العموم كما قال نافع، لا يجوز أن يقيم أحد أحدًا من مكانه؛ لأنه من سبق إلى موضع من مواضع الجماعات التى يتساوى الناس فيها فهو أحق به لبداره إليه. - باب الأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ / 34 - فيه: السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إِذَا جَلَسَ الإمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ رسول الله وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ، وَكَثُرَ النَّاسُ، زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ. وترجم له: (باب المؤذن الواحد يوم الجمعة) ، وزاد فيه. / 35 - عن السَّائِبِ قال: وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ عليه السلام، مُؤَذِّنٌ غَيْرَ وَاحِدٍ، وَكَانَ التَّأْذِينُ حِينَ يَجْلِسُ الإمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ. اختلف معنى قول مالك فى صفة الأذان يوم الجمعة، فروى عنه ابن عبد الحكم قال: إذا جلس الإمام على المنبر ونادى المنادى منع الناس من البيع تلك الساعة، وهذا يدل أن النداء عنده واحد على ما فى هذا الحديث، ونحوه عن الشافعى، وفى المدونة قال مالك: إذا جلس الإمام على المنبر وأخذ المؤذنون فى الأذان حرم البيع حينئذ، فذكر المؤذنين بلفظ الجمع، ونحوه عن الكوفيين، وقال مالك فى المجموعة: إن هشام بن عبد الملك هو الذى أحدث الأذان بين يديه وإنما الأذان على المنار واحدًا بعد واحدٍ إذا جلس الإمام على المنبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 واحتج الطحاوى بما رواه الزهرى عن ثعلبة بن أبى مالك القرظى أنهم كانوا فى زمن عمر بن الخطاب يصلون حتى يخرج عمر، فإذا خرج وجلس على المنبر وأذن المؤذنون، بلفظ الجمع، وهذا كله يدل أنه إن أذَّن مؤذنون أو مؤذن أجزأ فى ذلك، ألا ترى قوله تعالى: (إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة) [الجمعة: 9] ، أنه يدخل فى معناه أقل ما يقع عليه اسم نداء وهو مؤذن واحد. فإن قال قائل: فإن كان مؤذنًا واحدًا على ما روى الزهرى عن السائب فما معنى قوله فى آخر الحديث: (فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء) ، وهذا يدل أن ثم أذانًا ثانيًا، وآخر الحديث مخالف لأوله. قيل: لا اختلاف فيه ولا تناقض وإنما كان يؤذن المؤذن ثم يقيم والإقامة تسمى أذانًا، وقد بين ذلك ابن أبى شيبة فى (مصنفه) من رواية ابن أبى ذئب، عن الزهرى، عن السائب: (أن النداء كان أوله على عهد النبى، عليه السلام، وأبى بكر وعمر إذا خرج الإمام، وإذا قامت الصلاة، حتى إذا كان زمن عثمان وكثر الناس فزاد النداء الثالث على الزوراء، فثبت حتى الساعة) ، فبان بهذا الحديث أن الأذان الثانى المتوهم فى حديث السائب إنما يعنى به: الإقامة، ويشهد لصحة ذلك قوله عليه السلام: (بين كل أذانين صلاة لمن شاء) ، يعنى بين كل أذان وإقامة صلاة، وقد روى عقيل، عن ابن شهاب، عن السائب: أن التأذين الثانى يوم الجمعة أمر به عثمان حين كثر الناس، ذكره البخارى فى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 باب الجلوس على المنبر عند التأذين بعد هذا فتكون الإقامة: الأذان الثالث على هذا القول. وقوله: (كان التأذين حين يجلس الإمام على المنبر) ، قال المهلب: إنما جعل التأذين فى هذا الوقت، والله أعلم، ليعرف الناس بجلوس الإمام فينصتون له. والزوراء: حجر كبير عند باب المسجد. - باب يُجِيبُ الإمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ / 36 - فيه: مُعَاوِيَةَ: (أنه جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فقَالَ مُعَاوِيَةُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَأَنَا، فَلَمَّا قَضَى التَّأْذِينَ، قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَلَى هَذَا الْمَجْلِسِ حِينَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، يَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ مِنِّي) . قال المؤلف: فى هذا الحديث إباحة الكلام للإمام على المنبر قبل أن يدخل فى الخطبة بما فيه تعليم الناس السنن؛ لأن القول مثل ما يقول المؤذن قد حض عليه النبى، عليه السلام، وقد تقدم فى أبواب الأذان اختلاف العلماء فيمن كان فى صلاة هل يقول مثل ما يقول المؤذن؟ . - باب الْجُلُوسِ عَلَى الْمِنْبَرِ عِنْدَ التَّأْذِينِ / 37 - فيه: السَّائِبَ: أَنَّ التَّأْذِينَ الثَّانِيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ، حِينَ كَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ التَّأْذِينُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ يَجْلِسُ الإمَامُ، رواه عقيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 عَنِ الزُّهْرِيِّ، وروى يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبَ: (فَلَمَّا كَانَ فِي خِلافَةِ عُثْمَانَ وَكَثُرُوا، أَمَرَ بِالأذَانِ الثَّالِثِ، فَأُذِّنَ بِهِ عَلَى الزَّوْرَاءِ) . الجلوس على المنبر إنما هو لمن يخطب عليه، ومن خطب فى الأرض، فإنما يجلس عند التأذين فى موضع خطبته وهذه الجلسة قبل التأذين وضعت له، وهى سنة عند مالك، والشافعى، وأبى ثور، ولذلك قال العلماء: لا جلوس فى العيد قبل الخطبة؛ لأن العيد لا أذان فيه، وقال أبو حنيفة: لا يجلس الإمام قبل الخطبة، وخالف هذا الحديث. - باب الْخُطْبَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ أَنَسٌ: خَطَبَ النَّبِيُّ عليه السلام، عَلَى الْمِنْبَرِ. / 38 - فيه سَهْلَ: أن النبى، عليه السلام، قال لامْرَأَةٍ: (مُرِي غُلامَكِ النَّجَّارَ أَنْ يَعْمَلَ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ، إِذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ، فَعَمِلَته. . .) ، الحديث. / 39 - وفيه: جَابِرَ قَالَ: كَانَ جِذْعٌ يَقُومُ إِلَيْهِ النَّبِيُّ عليه السلام، فَلَمَّا وُضِعَ الْمِنْبَرُ، سَمِع لِلْجِذْعِ مِثْلَ أَصْوَاتِ الْعِشَارِ، حَتَّى نَزَلَ النَّبِيُّ عليه السلام، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ. / 40 - وفيه: ابن عمر: سَمِعْتُ النَّبِيَّ عليه السلام، يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ. قال: إذا كان الخليفة هو الذى يخطب، فسنته أن يجلس على المنبر إذا خطب، وإذا خطب غير الخليفة قام إن شاء على المنبر، وإن شاء على الأرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 قال مالك: ومن لا يرقى على المنبر عندنا، فمنهم من يقوم عن يسار المنبر، ومنهم من يقوم عن يمينه وكل واسع، وروى أن أبا بكر الصديق نزل بعد النبى، عليه السلام، درجةً من المنبر تواضعًا منه، ولم ير نفسه أهلاً لموضع النبى، عليه السلام، وكذلك فعل عمر نزل بعد أبى بكر، فكان يخطب على الأولى، وكان المنبر من ثلاث درجات. وجماعة الفقهاء على أن الخطبة من شرط الجمعة لا تصح إلا بها، ومتى لم يخطب الإمام صلى أربعًا، وشذ الحسن البصرى فقال: تجزئهم جمعتهم خطب الإمام أو لم يخطب، ذكره ابن المنذر عنه، وذكر عبد الوهاب أنه قول أهل الظاهر. ويرد قولهم أن النبى، عليه السلام، لم يجمع قط إلا بخطبة، نقل ذلك الكافة عن الكافة ومن لا يجوز عليه السهو، ولو كانت الجمعة تجزئ بغير خطبة لبين ذلك لأمته، وقد قال عمر بن الخطاب: إنما قصرت الصلاة من أجل الخطبة، وقال سعيد بن جبير: إن الخطبة جعلت مكان الركعتين. وحديث جابر يعارض حديث سهل فى الظاهر؛ لأنه قال عليه السلام، فى حديث سهل: (مُرى غلامك النجار يعمل لى أعوادًا أجلس عليهن إذا كلمت الناس) ، فدل هذا أنه كان يخطب جالسًا، وقال جابر فى حديثه: (كان جذع يقوم إليه النبى، عليه السلام) ، فدل هذا أنه كان يخطب قائمًا، والذى يجمع بين الحديثين وينفى التعارض أنه لم يحفظ عنه، عليه السلام، أنه خطب للجمعة قط إلا قائمًا، وقد قال بعض العلماء فى قول الله تعالى: (وتركوك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 قائمًا) [الجمعة: 11] ، قال: قائمًا يخطب، فيمكن أن يكون جلوسه فى حديث سهل إذا خطب الناس فى غير الجمعة لوعظ أو تعليم جلس على المنبر، وإذا خطب فى الجمعة قام، ويؤيد هذا حديث ابن عمر، وقد ترجم له باب الخطبة قائمًا. وفى حديث جابر علم عظيم من أعلام نبوته، ودليل على صحة رسالته، عليه السلام، وهو حنين الجماد إليه وذلك بأن الله تعالى، جعل للجذع حياة حَنَّ بها، وهذا لا يجوز إلا أن يكون بفضل الله تعالى، الذى يحيى الموتى، بقوله: (كن فيكون (. - باب الْخُطْبَةِ قَائِمًا وَقَالَ أَنَسٌ: بَيْنَا النَّبِيُّ عليه السلام، يَخْطُبُ قَائِمًا. / 41 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: (كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام، يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَقْعُدُ، ثُمَّ يَقُومُ، كَمَا تَفْعَلُونَ الآنَ) . اختلف العلماء فى الخطبة قائمًا، فقال مالك، والشافعى: يخطب قائمًا، وقال أبو حنيفة: إن شاء خطب قائمًا أو جالسًا، ذكره ابن القصار عنه. قال المؤلف: وحديث عبد الله بن عمر يدل على صحة قول مالك؛ لأن قوله: كان النبى، عليه السلام، يخطب قائمًا، ثم يقعد، ثم يقوم، يدل على تكرار فعله فى ذلك ودوامه، وأنه لم يخالف ذلك، ولا خطب جالسًا، وذكر ابن أبى شيبة عن طاوس، قال: خطب رسول الله قائمًا، وأبو بكر قائمًا وعمر قائمًا وعثمان قائمًا، وأول من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 جلس على المنبر معاوية بن أبى سفيان: وقال الشعبى: إنما خطب معاوية قاعدًا حين كثر شحم بطنه. قال المؤلف: رأيت للشافعى أنه إذا خطب قاعدًا ولم يعلموا أنه مريض حملوه على أنه معذور حتى يستيقنوا، فإن تبين لهم أنه خطب قاعدًا من غير عذر بطلت صلاتهم جميعًا، لقوله تعالى: (وتركوك قائمًا) [الجمعة: 11] ، وأن النبى لم يخطب قط إلا قائمًا. قال ابن القصار: والذى يقع فى نفسى أن القيام فى الخطبة واجب وجوب سنة لا أنه إن تركه فسدت الخطبة، ولا أنه مباح إن شاء فعله، وإن شاء تركه كما قال أبو حنيفة. باب اسْتِقْبَالِ النَّاسِ الإمَامَ إِذَا خَطَبَ وَاسْتَقْبَلَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ الإمَامَ . (1) / 42 - فيه: أَبَو سَعِيدٍ: (أنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ) . واستقبال الإمام للناس سنة لكل من يقابله، ومن لا يقابله فيصرف إليه وجهه، يدل على ذلك قول أبى سعيد: (وجلسنا حوله) ، ولا يكون جلوسهم حوله إلا وهم ينظرون إليه، ومن أدبر عنه، فليس بمستمع له ولا مقبل عليه. ومعنى استقبالهم له، والله أعلم، لكى يتفرغوا لسماع موعظته وتدبر كلامه ولا يشتغلوا بغير ذلك، وقال الشعبى: من السنة أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 يستقبل الإمام يوم الجمعة، وقال ابن المنذر: استقبال الناس الإمام إذا خطب هو قول شريح، وعطاء، ومالك، والثورى، والكوفيين، والأوزاعى، والشافعى، وإسحاق، وهو كالإجماع، وروى وكيع عن أبان ابن عبد الله البجلى، عن عدى بن ثابت، قال: (كان النبى، عليه السلام، إذا خطب استقبله أصحابه بوجوههم) . - باب مَنْ قَالَ فِي الْخُطْبَةِ بَعْدَ الثَّنَاءِ أَمَّا بَعْدُ رَوَاهُ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام. / 43 - فيه: أسماء فى حديث الكسوف. / 44 - وفيه: عمرو بن تغلب. / 45 - وعائشة. / 46 - وأبو حميد الساعدى. / 47 - والمسور بن مخرمة. / 48 - وحديث ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (صَعِدَ النَّبِيُّ عليه السلام، على الْمِنْبَرَ، وَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ، مُتَعَطِّفًا بمِلْحَفَةً عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وقَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ دَسِمَةٍ. . .) ، الحديث. وقال فى هذه الأحاديث كلها بعد الثناء على الله: (أما بعد) . قال المؤلف: (أما بعد) من فصيح الكلام، وهو فصل بين الثناء على الله تعالى، وبين ابتداء الخبر الذى يريد الخطيب إعلام الناس به، وقد قال بعض أهل التأويل فى قول الله تعالى، عن داود عليه السلام: (وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) [ص: 20] ، أنه: أما بَعْد. وقد اختلف العلماء فيما يجزئ من الخطبة، فذكر ابن حبيب عن مطرف، وابن الماجشون وأصبغ أنه تجزئه خطبة واحدة، ورواه مطرف عن مالك، وهو قول الأوزاعى، وأبى يوسف، ومحمد، وإسحاق، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 وأبى ثور، قال ابن حبيب: ولو لم يُتم الأولى وتكلم بما خف من الثناء على الله وعلى نبيه عليه السلام، لأجزأه. وروى مطرف عن مالك فى مختصر ابن عبد الحكم: إن سبح أو هلل وصلى على النبى، عليه السلام، فلا إعادة عليه، وقال الشعبى: يجزئه ما قل وكثر، وقال أبو حنيفة: يجزئه إن خطب بتسبيحة واحدة، قال ابن حبيب: روى ابن القاسم عن مالك أنه إن لم يخطب من الثانية ما لهُ بال لم يجزئهم وأعادوا، ونحوه قال الشافعى إلا أنه قال: أقل ما يجزئ من الخطبتين جميعًا أن يحمد الله تعالى، ويصلى على الرسول، ويوصى بتقوى الله، ويقرأ آيات من القرآن فى الأولى، ويحمد الله ويصلى على النبى ويدعو فى الآخرة. وقوله: (عصابة دسمة) ، فذكر أبو عمر المطرز أنها السوداء وذكره عن ثعلب، عن ابن الأعرابى قال: ومنه حديث عثمان بن عفان، أنه مر ببعض طرقات المدينة فرأى صبيًا ومعه حشمة فقال: دسموا نونته لكى لا تصيبه العين، معناه دسموا ذلك الموضع ليرد العين، والنونة: النقبة التى تكون فى ذقن الصبى الصغير، وقال ابن دريد: الدسمة: غبرة فيها سواد، الذكر: أدسم، والأنثى: دسماء، وأنشد: إلى كل دسماء الذراعين والعقب ذكر البخارى هذا الحديث فى كتاب اللباس وقال: عصابة دسماء، وقال أبو عمرو الشيبانى: العصابة: العمامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 قال المؤلف: وإنما سميت العمامة عصابة؛ لأنها تعصب الرأس أى تربطه؛ ألا ترى قول الحجاج: لأعصبنكم عصب السلمة، أى: لأربطنكم ربط الشجرة. - باب الْقَعْدَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ / 49 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: (كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام، يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا) . اختلف العلماء فى الجلسة بين الخطبتين فعند مالك هى سنة، وعند الشافعى واجبة، فإن لم يخطب خطبتين يجلس بينهما صلى الظهر أربعًا، وعند أبى حنيفة إن شاء خطب قائمًا أو جالسًا، وروى عن المغيرة بن شعبة أنه كان لا يجلس فى خطبته. وحجة من قال إنها سنة حديث ابن عمر: (أن النبى، عليه السلام، كان يجلس فى خطبته) ، ولم يقل إنه لا تجزئه الخطبة إلا بالجلوس فيها؛ لأن عليه فرض البيان، ومن قال: إنها فريضة فلا حجة له؛ لأن القعدة فصل بن الذِّكرين، واستراحة للخطيب، وليست من الخطبة فى شىء، والمفهوم من لسان العرب أن الخطبة اسم للكلام الذى يخطب به خاصة لا للجلوس. قال الطحاوى: ولم يقل بقول الشافعى أحد غيره، ولما كان لو خطب خطبتيه جميعًا قاعدًا جازت الخطبة، ولم يقع بينهما فصل، كذلك تجوز إذا قام موضع القعود. قال غيره: ولو كانت فريضة ما جهلها المغيرة بن شعبة، ولو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 جهلها ما ترك جماعة من بحضرته من الصحابة والتابعين تنبيهه عليها وإعلامه بوجوبها، وقد حُصِرَ عثمان عن الخطبة فتكلم ونزل ولم يجلس، ولم يخالفه أحد فصار كالإجماع، ذكره ابن القصار. - باب الاسْتِمَاعِ إِلَى الْخُطْبَةِ / 50 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عليه السلام: (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقَفَتِ الْمَلائِكَةُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يَكْتُبُونَ الأوَّلَ فَالأوَّلَ، وَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ، كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كَبْشًا، ثُمَّ دَجَاجَةً، ثُمَّ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإمَامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ، وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ) . استماع الخطبة واجب وجوب سنة عند أكثر العلماء، ومنهم من جعله فريضة، روى عن مجاهد أنه قال: لا يجب الإنصات للقرآن إلا فى موضعين فى الصلاة والخطبة. وفى استماع الملائكة للخطبة حض على الاستماع إليها والإنصات لها، وقال أكثر العلماء: الإنصات واجب على من سمعها ومن لم يسمعها، وهو قول مالك، وقد قال عثمان بن عفان: للمنصت الذى لا يسمع من الأجر مثل ما للمنصت الذى يسمع، وكان عروة بن الزبير لا يرى بأسًا بالكلام إذا لم يسمع الخطبة، ذكره ابن المنذر، وقال إبراهيم: إنى لأقرأ حزبى إذا لم أسمع الخطبة، وقال أحمد: لا بأس أن يذكر الله ويقرأ من لم يسمع الخطبة. واختلفوا فى وقت الإنصات، فقال أبو حنيفة: خروج الإمام يقطع الكلام والصلاة جميعًا لقوله: (فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ويستمعون الذكر) ، وقالت طائفة: لا يجب الإنصات إلا عند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 ابتداء الخطبة، ولا بأس بالكلام قبلها هذا قول مالك، والثورى، وأبى يوسف، ومحمد، والأوزاعى، والشافعى، وحجتهم قوله عليه السلام: (وينصت إذا تكلم الإمام) ، ذكره فى باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب بعد هذا. - باب إِذَا رَأَى الإمَامُ رَجُلا جَاءَ وَهُوَ يَخْطُبُ، أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ / 51 - فيه: جَابِرِ قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ عليه السلام، يَخْطُبُ النَّاسَ، قَالَ: صَلَّيْتَ يَا فُلانُ؟ قَالَ: لا، قَالَ: قُمْ فَارْكَعْ) . وترجم له: (باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين) . / 52 - وقال فيه: فصل رَكْعَتَيْنِ. اختلف العلماء فى معنى هذا الحديث، فقال قوم بظاهره وقالوا: من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين، وذلك سنة معمول بها، روى هذا عن الحسن، ومكحول وبه قال الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وطائفة من أهل الحديث. وفيه: قول ثان: قال الأوزاعى: من ركعهما فى بيته، ثم دخل المسجد والإمام يخطب قعد ولم يركع، وإن لم يكن ركعهما ركعهما فى المسجد؛ لأنه عليه السلام إنما أمره بالركوع حين ذكر له أنه لم يصل فى بيته. وفيها قول ثالث: قال أبو مجلز: إن شئت فاركع وإن شئت فاجلس. وفيها قول رابع: أنه يجلس ولا يركع وهو قول الجمهور، ذكره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 ابن أبى شيبة عن عمر، وعثمان، وعلى بن أبى طالب، وابن عباس، ومن التابعين عن عطاء، والنخعى، وابن سيرين، وشريح، وعروة، وسعيد بن المسيب، وهو قول مالك، والليث، والكوفيين. واحتج بعض أهل هذه المقالة أن النبى، عليه السلام، إنما أمره بالصلاة لبذاذة هيئته؛ فأراد أن يفطن الناس له ويتصدقوا عليه، وروى ذلك ابن عجلان، عن عياض بن عبد الله، عن أبى سعيد الخدرى: (أن رجلاً دخل المسجد ورسول الله على المنبر، فأمره النبى، عليه السلام، أن يدنوا منه، فأمره أن يركع ركعتين قبل أن يجلس وعليه خرقة خلق، ثم صنع ذلك فى الثانية، فأمره بمثل ذلك، ثم صنع مثل ذلك فى الجمعة الثالثة، فأمره النبى، عليه السلام، بمثل ذلك، وقال للناس: تصدقوا، فألقى الثياب، فأمره النبى، عليه السلام، فأخذ ثوبين، فلما كان بعد ذلك أمر الناس أن يتصدقوا، فألقى الرجل أحد ثوبيه فغضب رسول الله ثم أمره أن يأخذ ثوبه) . قال الطحاوى: وقد يجوز أن يكون النبى، عليه السلام، أمر سُليكًا بالصلاة فقطع خطبته ثم استأنف، وقد يجوز أن يكون بنى عليها، وكان ذلك قبل أن ينسخ الكلام فى الصلاة، ثم نسخ الكلام فى الصلاة فنسخ أيضًا فى الخطبة، وقد يجوز أن يكون ما قال أهل المقالة الأولى ويكون سنة معمولاً بها، فنظرنا هل روى شىء يخالف ذلك؟ فإذا بحر ابن نصر، حدثنا عن عبد الله بن وهب قال: سمعت معاوية بن صالح يحدث عن أبى الزاهرية، عن عبد الله بن بُسر قال: (جاء رجل فتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، فقال له رسول الله: اجلس فقد آذيت) ، فأمره عليه السلام بالجلوس ولم يأمره بالصلاة، وهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 يخالف حديث سليك، وكذلك حديث أبى سعيد الخدرى يدل أن ذلك كان فى حال إباحة الأفعال فى الخطبة قبل أن ينهى عنها، وقد أجمع المسلمون أن نزع الرجل ثوبه، والإمام يخطب مكروه وأن مسه الحصى، وقوله لصاحبه: أنصت فى الخطبة مكروه. قال الطحاوى: والدليل على أنه كان وقت إباحة الكلام فى الخطبة أنه ذكر فى حديث أبى سعيد الخدرى: (أن النبى، عليه السلام، أتى بالصدقة فأعطى منها رجلاً ثوبين، فلما كانت الجمعة طرح الرجل أحد ثوبيه فصاح الرسول به، وقال: (خذه، ثم قال: انظروا إلى هذا جاء تلك الجمعة. . .) ، وذكر الحديث، ولا نعلم خلافًا أن مثل هذا الكلام محظور فى الخطبة لقوله عليه السلام: (إذا قلت لأخيك: أنصت والإمام يخطب فى الخطبة فقد لغوت) . ومن طريق النظر، فقد رأيناهم لا يختلفون أن من كان فى المسجد قبل أن يخطب الإمام، فإن الخطبة تمنعه من الصلاة، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك من دخل المسجد، والإمام يخطب ألا يصلى؛ لأنه داخل فى غير موضع صلاة، والأصل المتفق عليه أن الأوقات التى تمنع من الصلوات يستوى فيها من كان قبلها فى المسجد، ومن دخل فيها فى المسجد فى المنع من الصلاة. فإن قال قائل: إنما أمره عليه السلام، أن يركع لقوله عليه السلام: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس) . قيل له: إنما هذا لمن دخل فى المسجد فى وقت تحل فيه الصلاة؛ ألا ترى أن من دخل المسجد عند طلوع الشمس وعند غروبها، وفى الأوقات المنهى عن الصلاة فيها أنه لا ينبغى له الصلاة، وليس كمن أمره النبى، عليه السلام، بالركوع لدخوله المسجد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 قال غيره: فى حديث جابر حجة لمن أجاز للخطيب يوم الجمعة أن يتكلم فى خطبته بما عرض له من كلام من غير جنس الخطبة بما فيه نفع للناس وتعليم لهم، وقد روى عن على بن أبى طالب ذلك حين تخطى الأشعث بن قيس رقاب الناس، ذكره الطبرى. وفى (المدونة) : جائز أن يتكلم الإمام فى خطبته لأمر أو نهى، ولا يكون لاغيًا، ومن كلمه الإمام فرد عليه لم يكن لاغيًا. - باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الْخُطْبَةِ / 53 - فيه: أَنَسٍ قَالَ: (بَيْنَمَا رسول الله يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِذْ قَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْكُرَاعُ، هَلَكَ الشَّاءُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا، فَمَدَّ يَدَيْهِ وَدَعَا) . وترجم له: (باب الاسْتِسْقَاءِ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) . / 54 - وزاد فيه: (حتَى سَالَ الْوَادِي قَنَاةُ شَهْرًا، وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلا حَدَّثَ بِالْجَوْدِ) . رفع اليدين فى الخطبة فى معنى الضراعة إلى الله والتذلل له، وقد أخبر النبى، عليه السلام، أن العبد إذا دعا الله تعالى، وبسط كفيه أنه لا يردهما خائبين من فضله، فلذلك رفع النبى عليه السلام، يديه. وقد أنكر بعض الناس ذلك، فروى الأعمش، عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال: رفع الإمام يوم الجمعة يديه على المنبر، فرفع الناس أيديهم، فقال مسروق: ما لهم قطع الله أيديهم، وقال الزهرى: رفع الأيدى يوم الجمعة محدث، وقال ابن سيرين: أول من رفع يديه يوم الجمعة عبيد الله بن عبد الله بن معمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 وكان مالك لا يرى رفع اليدين إلا فى خطبة الاستسقاء، وسيأتى هذا المعنى مستقصى فى كتاب الاستسقاء، إن شاء الله تعالى، ويأتى فيه تفسير (الجوبة) . وقوله فى هذا الحديث: (حتى سال الوادى قناة شهرًا) ، فمعناه اسم الوادى ولم يصرفه؛ لأنه معرفة بدل من معرفة، وفى أبواب الاستسقاء (حتى سال وادى قناة) غير مصروف أيضًا؛ لأن قناة معرفة، وهى اسم البقعة، والجَوْدُ: المطر الغزير، يقال: جاد المطر جودًا أو جودة: إذا كثر، وسيأتى حكم الاستسقاء فى خطبة الجمعة بعد هذا، إن شاء الله تعالى. 30 - باب الإنْصَاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإمَامُ يَخْطُبُ، وَإِذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَا وَقَالَ سَلْمَانُ عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام: (يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإمَامُ . / 55 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ أَنَّ النبى عليه السلام، قَالَ: (إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ، وَالإمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ) . اللغو: كل شىء من الكلام ليس بحسن، عند أبى عبيدة. وقال قتادة فى قوله تعالى: (وإذا مروا باللغو مروا كرامًا) [الفرقان: 72] ، قال: لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم. وجماعة أئمة الفتوى على وجوب الإنصات للخطبة، وفى حديث سلمان حجة لمن رأى الإنصات عند ابتداء الخطبة وقد تقدم هذا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 وقال ابن مسعود: إذا رأيته يتكلم والإمام يخطب فأقرع رأسه بالعصا، وروى عن عمر، وابن عمر، وابن عباس أنهم قالوا: من قال لصاحبه اسكت فلا جمعة له، وقال ابن عباس: الذى يتكلم والإمام يخطب، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا، ذكره ابن أبى شيبة. وقوله: (لا جمعة له) ، أى لا جمعة كاملة مثل جمعة المنصت؛ لأن جماعة الفقهاء مجمعون أن جمعته مجزئة عنه، ولا يصلى أربعًا. وقال ابن وهب: من لَغَا كانت صلاته ظهرًا ولم تكن له جمعة وحُرِمَ فضلها. وقال ابن جريج: قلت لعطاء: هل تعلم شيئًا يقطع جمعة الإنسان حتى يجب عليه أن يصلى أربعًا من كلام أو تخطى رقاب الناس أو غير ذلك؟ قال: لا. وقد رخص جماعة من التابعين فى الكلام والإمام يخطب إذا كان من أئمة الجور أو أخذ فى خطبته فى غير ذلك، روى عن النخعى، والشعبى، وأبى بردة، وسعيد بن جبير أنهم كانوا يتكلمون والحجاج يخطب، وقال بعضهم: إنا لم نؤمر أن ننصت لهذا، وروى ابن أبى شيبة أن إبراهيم كُلِّم فى ذلك فقال: إنى كنت قد صليت، ورأى الليث إذا أخذ الإمام فى غير ذكر الخطبة والموعظة أن يتكلم ولا ينصت. وروى ابن وهب، وابن نافع، وعلى بن زياد، عن مالك أن الإمام إذا لغا وشتم الناس فعلى الناس الإنصات ولا يتكلمون، وروى عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 إذا خطب فى أمر ليس من الخطبة، ولا من الصلاة من أمر كتاب يقرؤه أو نحو ذلك، فليس على الناس الإنصات. ورأى الليث إذا أخذ الإمام فى غير ذكر الله والموعظة أن يتكلم ولا ينصت. واختلفوا فى رد السلام وتشميت العاطس والإمام يخطب فرخص فى ذلك النخعى، والشعبى، والحسن، وهو قول الثورى، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وكره ذلك مالك والكوفيون، والشافعى. 31 - باب السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ / 56 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: (فِيهِ سَاعَةٌ لا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا، إِلا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا) . اختلف السلف فى هذه الساعة، فروى عن أبى هريرة قال: هى من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وبعد صلاة العصر إلى غروب الشمس. وقال الحسن، وأبو العالية: هى عند زوال الشمس، وقال أبو ذر: هى ما بين أن تزيغ الشمس بشبر إلى ذراع، وقالت عائشة: هى إذا أذن المؤذن بالصلاة، وقال ابن عمر: هى الساعة التى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 اختار الله فيها الصلاة، وهو قول أبى بردة، وابن سيرين، وقال أبو أمامة: إنى لأرجو أن تكون فى هذه الساعات: إذا أذن المؤذن، أو إذا جلس الإمام على المنبر، أو عند الإقامة. قال الشعبى: هو ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل، وحجة هذا القول ما روى ابن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن أبى بردة بن أبى موسى قال: (قال لى عبد الله بن عمر: سمعت أباك يحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى شأن ساعة الجمعة؟ قلت: نعم، سمعته يقول: سمعت النبى، عليه السلام، يقول: (هى ما بين مجلس الإمام إلى تقضى الصلاة) . وروى الأوزاعى عن من حَدَّثَهُ عن أبى الخير، عن على بن أبى طالب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا زالت الأفْيَاء وراحت الأرواح، فاطلبوا إلى الله تعالى حوائجكم، فإنها ساعة الأوابين، وإنه كان للأوابين غفورًا) . وقال عبد الله بن سلام: هى ما بين العصر إلى أن تغرب الشمس، وروى مثله عن ابن عباس، وأبى هريرة، ومجاهد، وطاوس. قال المهلب: وحجة من قال: إنها بعد العصر قوله: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون فى صلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم) ، فهو وقت العروج وعرض الأعمال على الله تعالى، فيوجب الله تعالى، فيه مغفرته للمصلين من عباده؛ ولذلك شدد النبى، عليه السلام، على من حلف على سلعة بعد العصر لقد أعطى بها أكثر؛ تعظيمًا للساعة، وفيها يكون اللعان والقسامة، وقيل فى قوله تعالى: (تحبسونهما من بعد الصلاة) [المائدة: 106] ، أنها بعد العصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 ومعنى قوله: (وهو قائم يصلى) ، قد فسرهُ عبد الله بن سلام لأبى هريرة فقال: ألم يقل رسول الله: (من جلس ينتظر الصلاة فهو فى صلاة) ، فقال أبو هريرة: بلى، فقال: هو ذاك. وروى ابن أبى أويس عن أخيه، عن سليمان بن بلال، عن الثقة، عن صفوان بن سليم، عن أبى سلمة، عن أبى سعيد الخدرى قال: قال النبى، عليه السلام: (الساعة التى يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس أغفل ما يكون الناس) . 32 - باب إِذَا نَفَرَ النَّاسُ عَنِ الإمَامِ فِي صَلاةِ الْجُمُعَةِ، فَصَلاةُ الإمَامِ وَمَنْ بَقِيَ جَائِزَةٌ / 57 - فيه: جَابِرُ قَالَ: (بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ عليه السلام، إِذْ أَقْبَلَتْ عِيرٌ تَحْمِلُ طَعَامًا، فَالْتَفَتُوا إِلَيْهَا، حَتَّى مَا بَقِيَ مَعَ النَّبِيِّ إِلا اثْنَا عَشَرَ رَجُلا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) [الجمعة 11] ) . قال المؤلف: فى هذا الحديث أنهم كانوا فى الصلاة حين أقبلت العير، روى حماد، عن يونس، عن الحسن: أن النبى، عليه السلام، كان يخطب يوم الجمعة، فجاءت عير من الشام فابتدرها الناس، وبقى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى نفر يسير، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لو تتابعتم لسال بكم الوادى نارًا) ، ونزلت هذه الآية. قال الأصيلى: وقد وصف الله تعالى، أصحاب محمد بأنهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 ) لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) [النور: 37] ، إلا أن يكون هذا الحديث قبل نزول هذه الآية. قال المهلب: يحتمل قول جابر: (بينما نحن نصلى مع النبى، عليه السلام) ، أن يكون فى الخطبة كما قال الحسن؛ لأن من انتظر الصلاة فهو فى صلاة، ولا يظن فى الصحابة إلا حسن الظن. واختلف العلماء فى الإمام يفتتح صلاة الجمعة بالجماعة، ثم يفترقون عنه، فقال الثورى: إذا ذهبوا إلا رجلين صلى ركعتين، وإن بقى معه رجل واحد صلى أربعًا. وقال أبو ثور: إذا بقى معه واحد صلى الجمعة؛ لأنه قد دخل فى صلاة هى له ولهم جمعة، ورآه الشافعى، وقال أبو يوسف، ومحمد: إذا افتتح الجمعة وكبر للإحرام، ثم نفروا كلهم صلى الجمعة وحده، وقال أبو حنيفة: إذا نفر عنه الناس قبل أن يركع ويسجد سجدة يستقبل الظهر، وإذا نفروا عنه بعدما ركع وسجد سجدة بنى على الجمعة. وقال ابن القصار مثله عن مالك، وهو قول المزنى، وقال زفر: إذا نفروا عنه قبل أن يجلس للتشهد بطلت صلاته؛ لأنه يراعى فيها الاجتماع إلى آخرها، وعن الشافعى روايتان: إن بقى اثنان حتى تكون صلاته صلاة جماعة أجزأهم، والقول الآخر: لا تجزئهم حتى يكونوا أربعين رجلاً. وقال إسحاق: إن بقى معه اثنا عشر رجلاً صلى الجمعة ركعتين على ظاهر هذا الحديث؛ لأن الذين بقوا مع النبى، عليه السلام، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 كانوا اثنى عشر رجلاً، وهذه المسألة فرع على اختلافهم فى عدد من تقوم بهم الجمعة، وقد تقدم. والصحيح قول من قال: إن نفروا عنه بعد عقد ركعة يسجد فيها أنه يصلى الجمعة ركعتين، لقول النبى، عليه السلام: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) ، فبان أن أدنى ما يقع به الاشتراك هو فعل الركعة، ولا يجوز أن يعتبر فى جواز البناء الدخول فى الجمعة وحده؛ لأن الإمام متى كَبَّر حصل دخوله فى الجمعة، وإن لم يصح له البناء عليها إلا بمشاركة المؤتمين، يبين هذا أنهم لو نفروا عنه، وقد كبر ولم يكبروا هم لم يصح أن يبنى الإمام على جمعته، فكذلك إذا نفروا بعد أن كبروا. فإن قيل: إن الجمعة قد استقرت بدخولهم فيها، فلا معتبر بعقد الركعة. قيل: إذا أدرك التشهد من الجمعة هو مدرك لتكبيرة الإحرام مع الإمام ولا يعتد بها، ولا يبنى عليها جمعة فسقط قولهم. واحتج الطحاوى لأصحابه قال: شرط صحة الجمعة الإمام والمأموم، فلما كان المأموم تصح له الجمعة، بأن يدرك بعض الصلاة مع الإمام وإن لم يدرك جميعها، كذلك ينبغى أن يصح للإمام مشاركة المأمومين له فى بعض صلاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 33 - باب الصَّلاةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ وَقَبْلَهَا / 58 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: (أَنَّ النبى، عليه السلام، كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ، وَبَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ لا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ) . اختلف العلماء فى الصلاة بعد الجمعة فقالت طائفة: يصلى بعدها ركعتين فى بيته كالتطوع بعد الظهر، روى ذلك عن ابن عمر، وعمران بن حصين، والنخعى، وقال مالك: إذا صلى الإمام الجمعة فينبغى أن يدخل فى منزله ولا يركع فى المسجد، لما روى عن النبى، عليه السلام، أنه كان ينصرف بعد الجمعة ولم يركع فى المسجد، قال: ومن خلفه أيضًا إذا سلموا فأحبّ إلىّ أن ينصرفوا ولا يركعوا فى المسجد، وإن ركعوا فذلك واسع. وقالت طائفة: يصلى بعدها ركعتين ثم أربعًا، روى ذلك عن على، وابن عمر، وأبى موسى، وهو قول عطاء، والثورى، وأبى يوسف، إلا أن أبا يوسف استحب أن يقدم الأربع قبل الركعتين، وقال الشافعى: ما أكثر المصلى بعد الجمعة من التطوع فهو أحب إلىّ. وقالت طائفة: يصلى بعدها أربعًا لا يفصل بينهن بسلام، روى ذلك عن ابن مسعود، وعن علقمة، والنخعى، وهو قول أبى حنيفة، وإسحاق. واحتج أهل المقالة الأولى بحديث ابن عمر: (أن النبى، عليه السلام، كان لا يصلى بعد الجمعة إلا ركعتين فى بيته) ، قال المهلب: وهما الركعتان اللتان تصلى بعد الظهر فى سائر الأيام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 وكرر ابن عمر ذكرها من أجل أنه عليه السلام كان يصليها فى بيته، ووجه ذلك، والله أعلم، أنه لما كانت الجمعة ركعتين لم يصل بعدها صلاة مثلها خشية أن يظن أنها التى حذفت منها، وأنها واجبة، فلما زال عن موطن القصد صلى فى بيته، وقد روى ابن جريج عن عمر بن عطاء بن أبى الخُوار: (أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب ابن أخت نمر يسأله عن شىء رآه منه معاوية فى الصلاة، فقال: نعم صليت معه الجمعة، فلما سلم الإمام قمت فصليت، فقال: لا تعد لما فعلت، إذا صليت الجمعة فلا تَصِلْهَا بصلاة حتى تكلم أو تخرج؛ فإن النبى، عليه السلام، أمرنا أن لا نصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج) . وروى الأعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق قال: كنا نقرأ فى المسجد فنقوم فنصلى فى الصف، فقال عبد الله: صَلُّوا فى رحالكم لئلا يراكم الناس فيرونها سنة، وقد أجاز مالك الصلاة بعد الجمعة فى المسجد للناس، ولم يجزه للأئمة. وحجة أهل المقالة الثانية ما رواه أبو إسحاق عن عطاء قال: صليت مع ابن عمر الجمعة، فلما سلم قام فركع ركعتين، ثم صلى أربع ركعات ثم انصرف، وما رواه سفيان، عن أبى حصين، عن أبى عبد الرحمن، عن على بن أبى طالب، أنه قال: من كان مصليًا بعد الجمعة فليصل ستًا، ووجه قول أبى يوسف ما رواه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 الأعمش، عن إبراهيم، عن سليمان بن مسهر، عن خرشة بن الحر أن عمر بن الخطاب كره أن يصلى بعد صلاة مثلها. ووجه أهل المقالة الثالثة ما رواه ابن عيينة، عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (من كان منكم مصليًا بعد الجمعة فليصل أربعًا) . وأما الصلاة قبل الجمعة فقد تقدم اختلاف العلماء فى الصلاة عند استواء الشمس فى أبواب أوقات الصلوات، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، والحمد لله. 34 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) [الجمعة 10] / 59 - فيه: سَهْلِ قَالَ: (كَانَتْ فِينَا امْرَأَةٌ تَحْقَلُ عَلَى أَرْبِعَاءَ فِي مَزْرَعَةٍ لَهَا سِلْقًا، فَكَانَتْ إِذَا كَانَ يَوْمُ جُمُعَةٍ، تَنْزِعُ أُصُولَ السِّلْقِ، فَتَجْعَلُهُ فِي قِدْرٍ، ثُمَّ تَجْعَلُ عَلَيْهِ قَبْضَةً مِنْ شَعِيرٍ تَطْحَنُهَا، وَكُنَّا نَنْصَرِفُ مِنْ صَلاةِ الْجُمُعَةِ، فَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا، فَتُقَرِّبُ ذَلِكَ الطَّعَامَ إِلَيْنَا، فَنَلْعَقُهُ، وَكُنَّا نَتَمَنَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِطَعَامِهَا ذَلِكَ، ومَا كُنَّا نَقِيلُ وَلا نَتَغَدَّى إِلا بَعْدَ الْجُمُعَةِ) . وترجم له: (باب الْقَائِلَةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ) . / 60 - وزاد فيه: عَنِ أَنَس قال: (كُنَّا نُبَكِّرُ إِلَى الْجُمُعَةِ ثُمَّ نَقِيلُ) . والفقهاء متفقون على أن معنى قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 فانتشروا فى الأرض) [الجمعة 10] ، الإباحة؛ لأنه ورد بعد تقدم أمره بالسعى إلى الصلاة، وترك البيع؛ فأبان بقوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض وابتغوا من فضل الله) [الجمعة: 10] ، زوال ما أوجب عليهم من السعى وترك البيع فى وقت الصلاة، وهذا كقوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا) [المائدة: 2] . وموافقة الحديث للترجمة وهو قوله: (كنا ننصرف من الجمعة فنسلم عليها، فتقرب إلينا ذلك الطعام) ، ألا ترى أن انصرافهم بعد الجمعة لم يكن واجبًا عندهم، وإنما كانوا ينصرفون لما ذكره من الغداء، ثم القائلة عوضًا مما فاتهم من ذلك فى وقته، وهذا الحديث بين فى ردَّ قول مجاهد، وأحمد بن حنبل: أن الجمعة تصلى قبل الزوال استدلالاً، بقوله: (وما كنا نقيل إلا بعد الجمعة) ، ولا يسمى بعد الجمعة وقت الغداء، قبان أن قائلتهم وغداءهم بعد الجمعة إنما كان عوضًا مما فاتهم فى وقته من أجل بدارهم بالسعى إلى الصلاة والتهجير إلى الجمعة، وعلى هذا التأويل جمهور الأئمة وعامة العلماء، فلا معنى للاشتغال بما خالفهم، وقد تقدم ما للعلماء فى ذلك من الحجة فى باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس. وقال صاحب (العين) : الأربعاء الجداول واحدها ربيع. وقوله: (تحقل) مأخوذة من الحقل، والحقل: الزرع المتشعب الورق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 35 - باب صَلاةِ الْخَوْفِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ (إلى قوله: (مُهِينًا) [النساء: 101، 102] / 61 - فيه: ابْنَ عُمَرَ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبىِّ عَلَيْهِ السَّلاَم قِبَلَ نَجْدٍ، فَوَازَيْنَا الْعَدُوَّ، فَصَافَفْنَا لَهُمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي لَنَا، فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ تُصَلِّي، وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَدُوِّ، وَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِمَنْ مَعَهُ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَكَانَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ، فَجَاءُوا فَرَكَعَ، رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَرَكَعَ لِنَفْسِهِ رَكْعَةً، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) . قال المؤلف: لم يذكر البخارى فى أبواب صلاة الخوف غير حديث ابن عمر هذا، وذكر فى كتاب المغازى حديث مالك عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عمن شهد مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلاة الخوف يوم ذات الرقاع: (أن طائفة صلت معه وطائفة وِجَاهَ العدو، فصلى النبى بمن معه ركعة ثم ثبت قائمًا، فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وصَفُّوا وِجَاهَ العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التى بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم) . قال مالك: هذا أحسن ما سمعت فى صلاة الخوف، هكذا رواه البخارى عن قتيبة، عن مالك، وكذلك هو فى موطأ القعنبى، وابن بكير، وأبى مصعب، قال مالك: وحديث يزيد بن رومان أحب ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 سمعت إلىّ، وفى موطأ يحيى بن يحيى، قال مالك: وحديث القاسم أحبّ ما سمعت إلىّ فى صلاة الخوف. وذكر إسماعيل بن إسحاق، عن ابن وهب، عن مالك قال: حديث يزيد أحب إلىّ، ثم رجع فقال: يكون قضاؤهم بعد السلام أحبّ إلى على حديث القاسم، وذكر البخارى فى المغازى عن مسدد، عن يحيى القطان، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن صالح ابن خوات، عن سهل بن أبى حثمة قال: يقوم الإمام مستقبل القبلة وطائفة منهم معه، وطائفة من قِبَلِ العدو ووجوههم إلى العدو فيصلى بالذين معه ركعة، ثم يقومون فيركعون لأنفسهم ركعة ويسجدون سجدتين فى مكانهم، ثم يذهب هؤلاء إلى مقام أولئك فيجىء أولئك فيركع بهم ركعة فله ثنتان، ثم يركعون ويسجدون سجدتين. هكذا رواه مسدد عن القطان، عن يحيى بن سعيد لم يذكر فيه سلام الطائفة الأولى إذا تمت صلاتها، ولا ذكر سلام الرسول بالطائفة الثانية قبل أن تتم لأنفسها، وذكر مالك ذلك فى روايته عن يحيى بن سعيد، والزيادة من الحافظ مقبولة. وذكر البخارى فى المغازى حديث جابر إلا أنه لم يسنده قال: وقال أبان: حدثنا يحيى ابن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن جابر قال: (كنا مع النبى (صلى الله عليه وسلم) بذات الرقاع فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكان للنبى أربع ركعات وللقوم ركعتان) . وهذه الأحاديث كلها قد قال بها قوم من الفقهاء، وسأذكر أقوالهم بعد ذِكْرِى من قال بأحاديث ابن عمر المتقدمة فى هذا الباب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 فى حديث ابن عمر أن الطائفة الأولى التى صلى بها النبى، عليه السلام، ركعة لم تتم ركعتها الثانية إلا بعد سلام النبى، أنهم كانوا فى انصرافهم وِجَاهَ العدو فى حكم الصلاة، كذلك الطائفة الثانية قضوا ركعتهم بعد صلاة النبى أيضًا. وقال بهذا أبو حنيفة، وأشهب صاحب مالك، والأوزاعى، ثم رجع فأخذ بحديث غزوة ذات الرقاع، قاله سحنون، إلا أن أبا حنيفة فرق بين الطائفة الأولى والثانية فى القراءة فى الركعة الثانية التى تقضيها فقال: لا تقرأ الطائفة الأولى فيها؛ لأنها فى حكم صلاة الإمام حتى يصلى بالطائفة الثانية تمام صلاته، وقراءته فيها تُسقط عنهم القراءة، ثم يسلم وينصرف، والطائفة الثانية تقرأ لأنها تقضى بعد صلاة الإمام، ولم يتحمل عنهم القراءة، ولم يكونوا فى حكمه. قالوا: وحديث ابن عمر تشهد له الأصول المجتمع عليها فى سائر الصلوات أن المأموم لا يقضى إلا بعد سلام الإمام، وليس فى الأصول خروج المأموم قبل فراغ إمامه من صلاته التى افتتحها معه، وهم الطائفة الأولى على ما رواه مالك فى حديث ابن القاسم، وذلك يوجب انتظار الإمام فراغ المأمومين من صلاتهم، فيصير الإمام تابعًا لهم، ولا نظير لهذا فى الأصول. قال ابن القصار: فالجواب أن هذه الصلاة نفسها قد خرجت عن الأصول عند أبى حنيفة وعندنا؛ لأنه ليس فى الأصول أن المأموم ينصرف بعد ركعة فيعمل أعمالاً غير عمل الإمام ويذهب ويجىء ويستدبر القبلة حتى يفرغ الإمام من صلاته ثم يجىء فيتم بهم، ويقول إن الله تعالى، أمر نبيه أن يفرق الناس طائفتين، ويجعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 لكل طائفة ركعتين، فينبغى أن يسوى بينهما، فلما قلتم وقلنا فى الطائفة الثانية أن ركعتها الثانية تكون خارجة من صلاة الإمام؛ وجب أن تكون الطائفة الأولى كذلك فتكون ركعتها الثانية خارجة عن حكم صلاة الإمام. وقولنا: يؤدى إلى الاحتراز من العدو؛ لأن الطائفة الأولى إذا تمت صلاتها ومرت وجاه العدو واحتاجت إلى القتال فعلته، وهى فى غير صلاة وتمكنت بغير شغل قلب بالصلاة، وعندكم إن رمى واحد منهم بسهم أو قاتل بطلت صلاته، وهذا أضرّ على المسلمين من قولنا، وقد يحترز من العدو بالصياح والكلام ليعلم المصلين ما طرق من الحوادث وهذا خارج الصلاة أمكن، وأما حديث يزيد بن رومان فى أن الطائفة الأولى إذا صلى بها الإمام ركعة، فإنها تتم لنفسها بقية صلاتها وتسلم ثم تنصرف وجاه العدو، ثم تأتى الطائفة الثانية فيصلى بها الإمام ركعة، ثم يثبت الإمام حتى تقضى ركعتها الثانية ويسلم بهم، فقال به الشافعى، واختاره أحمد بن حنبل، وهو الذى رجع عنه مالك. قال الشافعى: والمصير إليه أولى من حديث القاسم؛ لأنه موقوف وحديث يزيد أشبه بظاهر كتاب الله، تعالى، واحتج الشافعى بأن الله تعالى، ذكر استفتاح الإمام ببعضهم بقوله تعالى: (فلتقم طائفة منهم معك (، ثم قال: (فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم) [النساء: 102] ، وذكر انصراف الطائفتين والإمام من الصلاة معًا بقوله: (فإذا قضيتم الصلاة) [النساء: 103] ، وذلك للجمع لا للتبعيض، ولم يذكر أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 على واحد منهم قضاء، قال: وفى الآية دليل على أن الطائفة الثانية لا تدخل فى الصلاة إلا بعد انصراف الطائفة الأولى لقوله تعالى: (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك) [النساء: 102] ، دليل على أن الطائفة الأولى تنصرف، فلم يبق عليها من الصلاة شىء تفعله بعد الإمام. وقال ابن القصار: يقال للشافعى كلما أمكن أن لا تخرج الصلاة من الأصول فهو أولى، وفى الأصول سلام الإمام قبل أن يقضى المأموم صلاته، ولولا أن الضرورة دعت إلى أن تقضى الطائفة الأولى ما بقى عليها قبل فراغ الإمام لما جوزنا لها ذلك، ولا ضرورة بنا إلى أن تقضى الثانية باقى صلاتها قبل إمامها، ومبادرة الإمام أولى من بقائه لما يحدث ويشغل قلب صاحب الجيش أشد ممن يتبعه فيخفف عليه بالمبادرة بالسلام، وقوله: (فليصلوا معك (، معناه ما بقى من صلاتك، ويقضون ما فاتهم، فأما أن يصلوا معه ما لم يصله معهم فمحال، وقوله: (فإذا قضيتم الصلاة (لايقتضى أن يكون قضاء الجميع معًا، وإنما هو إخبار عما أبيح لهم فعله بعد الصلاة من ذكر الله وغير ذلك كما قال: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله) [البقرة: 200] ، ولم يقتض ذلك بأن يكون قضاء مناسكهم معًا؛ لأن قضاء من تعجل فى يومين قبل قضاء من تأخر، وقد خاطب الله الجميع لا البعض. وأما حديث القاسم فقد قال به مالك، وأحمد بن حنبل، وأبو ثور، وفى رواية مالك أن سلام الطائفة الأولى إذا قضت ركعتها، وينصرفون إلى العدو وهم فى غير صلاة، ثم تصلى الطائفة الثانية ركعتها الأولى وراء الإمام، ثم يسلم الإمام ويتمون لأنفسهم بعد سلامه، وهو موافق لحديث يزيد إلا فى سلام النبى قبل أن تتم الطائفة الثانية ركعتها الثانية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 قال المهلب: وهذه الصفة، أعنى حديث القاسم، هى الموافقة لكتاب الله تعالى، قال الله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم (، يعنى الباقين) فإذا سجدوا (، يعنى المصلين) فليكونوا من ورائكم) [النساء: 102، 103] ، يعنى الذين هم مواجهة العدو، فاشترط الله تعالى، أن تكون إحدى الطائفتين فى غير صلاة مواجهين للعدو والثانية فى الصلاة، وقوله: (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك (، يدل أن الأولى قد صلت تمام صلاتها، وقوله تعالى: (فليصلوا معك (، يقتضى بقية صلاة النبى، عليه السلام، كلها وإذا اقتضى ذلك وجب أن يسلم؛ لأن آخر صلاته السلام. قال غيره: وهذا أشبه بالأصول؛ لأن المأموم أبدًا إنما يقضى بعد فراغ إمامه وسلامه، فهو أولى على ما بيناه من حديث يزيد بن رومان. وأما حديث جابر فقد حكى عن الشافعى أنه قال به، وقال: صلاة الخوف يصلى الإمام بكل طائفة ركعتين، وهو على أصله فى جواز صلاة المفترض خلف المتنفل. قال أصحابه: هذا إذا كان فى سفر وهو مخير عنده فى السفر بين القصر والإتمام، ولم يحفظ عن النبى، عليه السلام، أنه صلى صلاة خوف قط فى حضر ولم يكن له حرب فى حضر إلا يوم الخندق، ولم تكن نزلت صلاة الخوف بعدُ. ودفع مالك، وأبو حنيفة هذا التأويل وقال أصحابهما: إن النبى، عليه السلام، كان فى حضر ببطن النخل على باب المدينة، ولم يكن مسافرًا، وإنما كان خوف فخرج منه محترسًا، ولم ينقل عنه عليه السلام، سلام فى ركعتين بهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 قال ابن القصار: وكذلك نقول: إذا كان الخوف فى حضر أن يصلى بكل طائفة ركعتين، ولو ثبت أنه كان فى سفر فصلى بكل طائفة ركعتين لكان هذا خاصًا للنبى للفضيلة فى الصلاة خلفه. قال المهلب: لا يصح أنه كان فى حضر؛ لأن جابرًا ذكر فى الحديث أنهم كانوا بذات الرقاع، وقد كانت صلاة الخوف نزلت. وقال الطحاوى: ولا حجة لمن قال بهذا الحديث؛ لأنه قد يجوز أن يكون ذلك من النبى، والفريضة تصلى مرتين فتكون كل واحدة منهما فريضة، وقد كان ذلك يفعل فى أول الإسلام ثم نسخ، وقد ذكرت الحديث بذلك فى باب إذا صلى ثم أمَّ قومًا عند حديث معاذ فى أبواب الإمامة قبل هذا. قال المؤلف: وقد روى عن جابر خلاف حديثه هذا المتقدم، روى شعبة، عن الحكم، عن يزيد الفقير، عن جابر قال: (صلينا مع النبى، عليه السلام، صلاة الخوف فركع فى الصف المتقدم ركعة، وسجد سجدتين، ثم تأخروا، ثم تقدم الآخرون، فركع بهم ركع واحدة، وسجد سجدتين فكانت للنبى (صلى الله عليه وسلم) ركعتين وللناس ركعة ركعة) ، وقد يجوز أن يكون النبى، عليه السلام، صلى على ما روى جابر مرتين على صفتين. وقد قال أحمد بن حنبل: أحاديث صلاة الخوف صحاح كلها، ويجوز أن تكون فى مرات مختلفة على حسب شدة الخوف، ومن صلى بصفة منها فلا حرج عليه، وهو قول الطبرى وطائفة من أهل الحديث. قال ابن القصار: وحكى عن أبى يوسف والمزنى أنهما قالا: صلاة الخوف منسوخة ولا يجوز أن تصلى بعد النبى، عليه السلام، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 وقالا: إنما خاطب الله نبيه بذلك، فهو خاص له لا يشاركه فيه غيره؛ لأن فى صلاة الخوف تغيير هيئات لا تجوز إلا خلف النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن كونهم خلفه عوض من تغيير الهيئات، وكانت صلاة الخوف ثابتة فى الشريعة، ثم نسخت بدلالة تأخيره عليه السلام، الصلاة يوم الخندق عن وقتها إلى هوىّ من الليل ثم قضاها دفعةً، ثم قال: (ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا) ، فلو جازت صلاة الخوف لم يكونوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، وهذا قول شاذ وجماعة الفقهاء على خلافه. قال الطحاوى: ومما يرد هذا القول قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) [التوبة: 103] الآية، فكان الخطاب هاهنا له، وقد أجمعوا أن ذلك معمول به من بعده، كما كان يعمل به فى حياته. قال ابن القصار: وما ذكروه من النسخ بدلالة تأخيره يوم الخندق فهو قول من لا يعرف السنن، وذلك أن الله تعالى، أمر نبيه بصلاة الخوف بعد الخندق؛ لأن يوم الخندق كان سنة خمس وصلاة الخوف فى غزوة ذات الرقاع فى سنة سبع، فكيف يُنسخ الآخرُ بالأول وإنما يُنسخ الأول بالآخر، والصحابة أعرف بالنسخ من غيرهم وقد صلوا صلاة الخوف. فأما قولهم: إن فيها تغييرًا وترك الركوع والقبلة، فيقال لهم: فى هذا ما أوجبه القرآن وفعله عليه السلام، ثم إن استدراك فضيلة الوقت مع تغيير الصفات أولى؛ ألا ترى عادم الماء أخذ عليه أن يصلى فى الوقت بالتيمم، ولم يرخص له فى تأخيرها عن وقتها حتى يجد الماء، فسقط قولهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 36 - باب صَلاةِ الْخَوْفِ رِجَالا وَرُكْبَانًا / 62 - فيه: نافع، عن ابْنِ عُمَرَ، نَحْوًا مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ: إِذَا اخْتَلَطُوا قِيَامًا، وَزَادَ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَلْيُصَلُّوا قِيَامًا وَرُكْبَانًا) . أما صلاة الخوف رجالاً وركبانًا، فلا تكون إلا إذا اشتد الخوف واختلطوا فى القتال، وهذه الصلاة تسمى صلاة المسايفة، فيصلى إيماءً وكيف تمكن، وممن قال بذلك ابن عمر ذكره عنه مالك فى الموطأ، إن كان خوفًا شديدًا صلوا قيامًا على إقدامهم أو ركبانًا مستقبلى القبلة أو غير مستقبليها، وهو قول مجاهد، وطاوس، وإبراهيم، والحسن، والزهرى، وطائفة من التابعين، روى ابن جريج عن مجاهد قال: إذا اختلطوا فإنما هو الذكر والإشارة بالرأس. فمذهب مجاهد أنه يجزئه الإيماء عند شدة القتال كمذهب ابن عمر، وهو مذهب مالك، والثورى، والشافعى. وقول البخارى: وزاد ابن عمر عن النبى، عليه السلام: (وإن كانوا أكثر فليصلوا قيامًا وركبانًا) ، فإنما أراد أن ابن عمر رواه عن النبى، عليه السلام، وليس من رأيه، وإنما هو مسند، وكذلك قال مالك. قال نافع: ولا أرى عبد الله ذكر ذلك إلا عن النبى، عليه السلام. وقول الشافعى فى ذلك: لا بأس أن يضرب فى الصلاة الضربة الخفيفة ويطعن، وإن تابع الطعن أو الضرب أو عمل عملاً يطول بطلت صلاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 قال الطحاوى: وذهب قوم إلى أن الراكب لا يصلى الفريضة على دابته، وإن كان فى حال لا يمكنه فيها النزول، قال: وذهب آخرون إلى أن الراكب إن كان يقاتل فلا يصلى، وإن كان راكبًا لا يمكنه النزول ولا يقاتل صلى. قالوا: وقد يجوز أن يكون النبى يوم الخندق لم يصل؛ لأن القتال عمل، والصلاة لا يكون فيها عمل، وذكر الطحاوى هذين القولين، ورد القول الأول بأن الرسول لم يكن صلى يوم الخندق؛ لأن صلاة الخوف لم تكن نزلت حينئذ، قال: وروى ابن وهب، عن ابن أبى ذئب، عن سعيد المقبرى، عن عبد الرحمن بن أبى سعيد الخدرى، عن أبيه قال: (صلى النبى (صلى الله عليه وسلم) الظهر والعصر والمغرب يوم الخندق بعد المغرب بهوى من الليل كما كان يصليها فى وقتها، وذلك قبل أن ينزل الله عليه فى صلاة الخوف) فرجالاً أو ركبانًا (. قال الطحاوى: فأخبر أبو سعيد أن تركهم الصلاة يومئذ ركبانًا، إنما كان قبل أن يباح لهم ذلك ثم أبيح لهم بهذه الآية، فثبت بذلك أن الرجل إذا كان فى الخوف لا يمكنه النزول عن دابته أن له أن يصلى عليها إيماءً، وكذلك لو أن رجلاً كان على الأرض خاف أن يفترسه سبع أو يضربه رجل بسيف فله أن يصلى قاعدًا إن كان يخاف ذلك فى القيام، ويومئ إيماءً، وذلك كله قول أبى حنيفة، وأبى يوسف، ومحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 وقال ابن المنذر: وكل ما فعله المصلى فى حال شدة الخوف مما لا يقدر على غيره، فالصلاة مجزئة عنه قياسًا على ما وضع عنه من القيام والركوع والسجود لعلة ما هو فيه من مطاردة العدو، وهذا أشبه بظاهر الكتاب والسنة مع موافقته للنظر. وروى على بن زياد عن مالك، فيمن خاف أن ينزل عن دابته من لصوص أو سباع، فإنه يصلى عليها الفريضة حيث توجهت به ويومئ، وقاله أشهب. 37 - باب يَحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي صَلاةِ الْخَوْفِ / 63 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ عَلَيهِ السَّلاَم وَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَكَبَّرَ وَكَبَّرُوا مَعَهُ، وَرَكَعَ وَرَكَعَ نَاسٌ مِنْهُمْ مَعَهُ، ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ، ثُمَّ قَامَ لِلثَّانِيَةِ، فَقَامَ الَّذِينَ سَجَدُوا، وَحَرَسُوا إِخْوَانَهُمْ، وَأَتَتِ الطَّائِفَةُ الأخْرَى، فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا مَعَهُ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِي صَلاةٍ، وَلَكِنْ يَحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. قال المؤلف: حديث ابن عباس هذا إذا كان العدو فى القبلة من المسلمين، فإنه يجعل الناس صفين خلفه، فيركع بالصف الذى يليه ويسجد معه، والصف الثانى قائمون يحرسون، فإذا قام من سجوده إلى الركعة الثانية تقدم الصف الثانى وتأخر الأولون، فركع النبى بهم وسجد، والصف الثانى يحرسونهم، وهم كلهم فى صلاة، وقد روى هذا الحديث سفيان، عن أبى بكر بن أبى الجهم، عن عبيد الله، عن ابن عباس: (أن الرسول صلى بهم صلاة الخوف بذى قرد، والمشركون بينه وبين القبلة) ، وقد روى نحوه عن أبى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 عياش الزرقى، وجابر بن عبد الله، عن النبى، عليه السلام، وبه قال ابن عباس: إذا كان العدو فى القبلة أن يصلى على هذه الصفة، وهو مذهب ابن أبى ليلى، وحكى ابن القصار عن الشافعى نحوه. وقال الطحاوى: ذهب أبو يوسف إلى أن العدو إذا كان فى القبلة فالصلاة هكذا، وإن كانوا فى غير القبلة، فالصلاة كما روى ابن عمر وغيره، قال: وبهذا تتفق الأحاديث، قال: وليس هذا بخلاف للتنزيل؛ لأنه قد يجوز أن يكون قوله تعالى: (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك) [النساء: 102] ، إذا كان العدو فى غير القبلة، ثم أوحى إليه بعد ذلك كيف حكم الصلاة إذا كانوا فى القبلة، ففعل الفعلين جميعًا كما جاء الخبران. وترك مالك، وأبو حنيفة العمل بهذا الحديث لمخالفته لكتاب الله وهو قوله: (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك) [النساء: 102] ، والقرآن يدل على ما جاءت به الروايات فى صلاة الخوف عن ابن عمر وغيره، من دخول الطائفة الثانية فى الركعة الثانية ولم يكونوا صلوا قبل ذلك. وقال أشهب وسحنون: إذا كان العدو فى القبلة لا أحب أن يصلى بالجيش أجمع؛ لأنه يتعرض أن يفتنه العدو ويشغلوه، ويصلى بطائفتين سنة صلاة الخوف. 38 - باب الصَّلاةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الْحُصُونِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ وَقَالَ الأوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الْفَتْحُ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاةِ، صَلَّوْا إِيمَاءً كُلُّ امْرِئٍ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الإيمَاءِ، أَخَّرُوا الصَّلاةَ، حَتَّى يَنْكَشِفَ الْقِتَالُ، أَوْ يَأْمَنُوا، فَيُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 صَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا، لا يُجْزِئُهُمُ التَّكْبِيرُ، وَيُؤَخِّرُوهَا، حَتَّى يَأْمَنُوا، وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: حَضَرْتُ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ حِصْنِ تُسْتَرَ عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ، وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاةِ، فَلَمْ نُصَلِّ إِلا بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ، فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى، فَفُتِحَ لَنَا. قَالَ أَنَسُ: مَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلاةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. / 64 - فيه: جابر قال: (جَاءَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَلَّيْتُ الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَغِيبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيهِ السَّلاَم: وَأَنَا وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا بَعْدُ، قَالَ: فَنَزَلَ إِلَى بُطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ، وَصَلَّى الْعَصْرَ، بَعْدَ مَا غَابَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ بَعْدَهَا) . وأما الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو فهى صلاة حال المسايفة والقتال التى تقدم ذكرها فى باب صلاة الخوف رجالاً وركبانًا، وحديث جابر فى هذا الباب هو حجة الأوزاعى، ومكحول أنه من لم يقدر على الإيماء أخر الصلاة حتى يصليها كاملة ولا يجزئ عنهم تسبيح ولا تهليل؛ لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد أخرها يوم الخندق، وإن كان ذلك قبل نزول صلاة الخوف، فإن فيه من الاستدلال أن الله تعالى، لم يعب تأخيره لها لما كان فيه من شغل الحرب، فكذلك الحال التى هى أشد من ذلك، إلا أنه استدلال ضعيف من أجل أن سنة صلاة الخوف لم تكن نزلت قبل ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 فأما قول الأوزاعى: فإن لم يقدروا صلوا ركع وسجدتين، فقد روى مثله عن الحسن البصرى وقتادة، وهو قول مكحول، ويحتمل أن يقولوا ذلك من حديث أبى عوانة، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: (صلاة الخوف ركعة) . قال الطحاوى: وهذا الحديث يعارضه القرآن، وذلك أن الله، تعالى، قال فى كتابه: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة (إلى) فليصلوا معك) [النساء: 102] ، ففرض الله صلاة الخوف ونص فرضها فى كتابه هكذا، وجعل صلاة الطائفة الأخرى بعد تمام الركعة الأولى مع الإمام، فثبت بهذا أن الإمام يصليها فى حال الخوف ركعتين بخلاف هذا الحديث، وقد روى عبيد الله عن ابن عباس خلاف ما روى عنه مجاهد، وهذا الحديث الذى فى الباب قبل هذا، وأما التكبير فقد روى عن مجاهد أنه قال: صلاة المسايفة بتكبيرة واحدة. وعن سعيد بن جبير، وأبى عبد الرحمن قال: الصلاة عند المسايفة تهليل وتسبيح وتحميد وتكبير، ذكره الفزارى فى السير، وذكر ابن المنذر عن إسحاق: تجزئك ركعة تومئ بها، فإن لم تقدر فسجدة واحدة، فإن لم تقدر فتكبيرة واحدة؛ لأنه ذكر لله. وقال الحسن بن حى: يكبر مكان كل ركعة تكبيرة. وأما أئمة الفتوى بالأمصار فلا يجزئ عندهم التكبير من الركوع والسجود؛ لأن التكبير لا يسمى بركوع ولا سجود، وإنما يجزئ الإتيان بأيسرهما، وأقل الأفعال الثابتة عنهما الإشارة والإيماء الدال على الخضوع لله فيهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 قال الأصيلى: ومعنى قول أنس: (فلم يقدروا على الصلاة) ، فإنهم لم يجدوا السبيل إلى الوضوء من شدة القتال، فأخروا الصلاة إلى وجود الماء، ويحتمل أن يكون تأخير النبى، عليه السلام، الصلاة يوم الخندق حتى غربت الشمس؛ لأنه لم يجد السبيل إلى الوضوء، والله أعلم. 39 - باب صَلاةِ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ رَاكِبًا وَإِيمَاءً قَالَ الْوَلِيدُ: ذَكَرْتُ لِلأوْزَاعِيِّ صَلاةَ شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ وَأَصْحَابِهِ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، فَقَالَ: كَذَلِكَ الأمْرُ عِنْدَنَا إِذَا تُخُوِّفَنَا الْفَوْتُ. وَاحْتَجَّ الْوَلِيدُ بِقَوْلِه عَلَيهِ السَّلاَم: لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ. / 65 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأحْزَابِ: (لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ) ، فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ) . اختلف العلماء فى صلاة الطالب على ظهر الدابة بعد اتفاقهم على جواز صلاة المطلوب راكبًا، فذهبت طائفة إلى أن الطالب لا يصلى على دابته وينزل ويصلى بالأرض، هذا قول عطاء، والحسن، وإليه ذهب الثورى، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور. وقال الشافعى: إلا فى حالة واحدة، وذلك أن يقطع الطالبون أصحابهم فيخافون عودة المطلوبين إليهم، فإذا كان هذا هكذا كان لهم الإيماء ركبانًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 وذكر ابن حبيب عن ابن عبد الحكم قال: صلاة الطالب بالأرض أولى من الصلاة على الدواب. وفيها قول ثان قال ابن حبيب: هو فى سعة، وإن كان طالبًا لا ينزل ويصلى إيماء؛ لأنه مع عدوه لم يصل إلى حقيقة أمن، وقاله مالك وهو مذهب الأوزاعى، وشرحبيل. وذكر الفزارى عن الأوزاعى قال: إذا خاف الطالبون إن نزلوا بالأرض فوت العدو صلوا حيث وجهوا على كل حال؛ لأن الحديث جاء أن النصر لا يرفع ما دام الطلب. قال المؤلف: وطلبت قصة شرحبيل بن السمط بتمامها لأتبين هل كانوا طالبين أم لا، فذكر الفزارى فى السير عن ابن عون، عن رجاء بن حيوة، عن ثابت بن السمط، أو السمط بن ثابت، قال: كانوا فى سفر فى خوف فصلوا ركبانًا، فالتفت فرأى الأشتر قد نزل للصلاة، فقال: خالف خولف به، فخرج الأشتر فى الفتنة. فبان بهذا الخبر أنهم كانوا طالبين حين صلوا ركبانًا؛ لأن الإجماع حاصل على أن المطلوب لا يصلى إلا راكبًا، وإنما اختلفوا فى الطالب. وأما استدلال الوليد بقصة بنى قريظة على صلاة الطالب راكبًا، فلو وجد فى بعض طرق الحديث أن الذين صلوا فى الطريق صلوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 ركبانًا لكان بينًا فى الاستدلال، ولم يحتج إلى غيره، ولما لم يوجد ذلك احتمل أن يكون لما أمرهم النبى (صلى الله عليه وسلم) بتأخير العصر إلى بنى قريظة، وقد علم بالوحى أنهم لا يأتونها إلا بعد مغيب الشمس، ووقت العصر فرض، فاستدل أنه كما ساغ للذين صلوا ببنى قريظة ترك الوقت وهو فرض ولم يعنفهم النبى، عليه السلام، فكذلك سوغ للطالب أن يصلى فى الوقت راكبًا بالإيماء، ويكون تركه للركوع والسجود المفترض كترك الذين صلوا ببنى قريظة الوقت الذى هو فرض، وكان ذلك قبل نزول صلاة الخوف، قاله المهلب. قال: وقوله عليه السلام: (لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة) ، فإنه أراد إزعاج الناس إليها لما كان أخبره جبريل أنه لم يضع السلاح بعد وأمره ببنى قريظة. 40 - باب التَّبْكيرِ وَالْغَلَسِ بِالصُّبْحِ وَالصَّلاةِ عِنْدَ الإغَارَةِ وَالْحَرْبِ / 66 - فيه: أَنَسِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى الصُّبْحَ بِغَلَسٍ، ثُمَّ رَكِبَ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ. . . . .) الحديث. السنة فى صلاة الصبح: التغليس فى السفر كما فى الحضر. قال المهلب: وكانت عادته عليه السلام، التغليس بالصبح ولم يؤخرها عن ذلك إلا اليوم الذى علم الأعرابى الذى سأله عن وقت الصلاة. وفيه: أن التكبير عند الإشراف على المدن والقرى سنة، وكذلك عند رؤية الهلال وولادة الغلام؛ لأنه إعلام بما ظهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 وتفاءل عليه السلام، لخبير بالخراب، من اسمها، على أهلها فكان كذلك، وكذلك كان يتفاءل بالأسماء التى يكون له فيها المحبوب، وكان يكره الطيرة ولم يكن هذا طيرة بالخراب؛ لأن الخراب لخيبر من سعادة النبى، عليه السلام، وأصحابه، فهو من الفأل الحسن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 - كتاب صَلاة الْعِيدَيْنِ وَالتَّجَمُّلِ فِيهِمَا / 1 - فيه: ابْنَ عُمَرَ: وَجَدَ عُمَرُ جُبَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْتَعْ هَذِهِ تَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوُفُودِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: (إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ. . .) ، الحديث. التجمل فى العيدين بحسن الثياب سنة مندوب إليها كل من يقدر عليها. قال المهلب: وكذلك التجمل فى الجماعات والوفود بحسن الثياب مما جرى به العمل، وترك عليه السلام، لباس الجبة زهدًا فى الدنيا، وأراد أن يؤخر طيبات الدنيا للآخرة التى لا انقضاء لها، ورأى أن تعجيل طيباته فى الدنيا المنقطعة وبيع الدائم بها ليس من الحزم، فزهد فى الدنيا للآخرة وأمر بذلك، ونهى عن كل سرف وحرَّمه. - باب الْحِرَابِ وَالدَّرَقِ يَوْمَ الْعِيدِ / 2 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النبى، عليه السلام، وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، فَانْتَهَرَنِي، وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ عليه السلام، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (دَعْهُمَا) ، فَلَمَّا غَفَلَ، غَمَزْتُهُمَا، فَخَرَجَتَا، وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 رسول الله، وَإِمَّا قَالَ: (تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟) ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ، خَدِّي عَلَى خَدِّهِ، وَهُوَ يَقُولُ: (دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ) حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ، قَالَ: (حَسْبُكِ) ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (فَاذْهَبِي) . حمل السلاح والحراب يوم العيد لا مدخل له عند العلماء فى سنة العيد، ولا فى هيئة الخروج إليه، ولا استحبه أحد من العلماء، ولا ندب إليه، ويمكن أن يكون عليه السلام محاربًا خائفًا من بعض أعدائه، فرأى الاستعداد والتأهب بالسلاح، وإذا كان كذلك فهو جائز عند العلماء، ولعب الحبشة ليس فيه أن الرسول خرج بها فى العيد، ولا أمر أصحابه بالتأهب بها، ولم تكن الحبشة للنبى، عليه السلام، حشدًا ولا أنصارًا، وإنما هم قوم يلعبون. وفائدة هذا الحديث: إباحة النظر إلى اللهو إذا كان فيه تدريب الجوارح على تقليب السلاح لتخف الأيدى بها فى الحرب. وفيه: ما كان النبى، عليه السلام، عليه من الخلق الحسن وما ينبغى للمرء أن يمتثله مع أهله من إيثاره مسارهم فيما لا حرج عليهم فيه. - باب سُنَّةِ الْعِيدَيْنِ لأهْلِ الإسْلامِ / 3 - فيه: الْبَرَاءِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ عليه السلام، يَخْطُبُ، فَقَالَ: (إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ فِى يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ، فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ، فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا) . / 4 - وفيه عَائِشَةَ: أن النبى، عليه السلام، دَخَلَ عليها، وَعِنْدِها جَارِيَتَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 مِنْ جَوَارِي الأنْصَارِ تُغَنِّيَانِ، مِمَا تَقَاوَلَتِ به الأنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثَ، قَالَتْ: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ وَذَلِكَ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَقَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا) . سنة العيدين: الصلاة، قال مالك: وصلاة العيدين سنة لأهل الآفاق لا تترك، وروى ابن القاسم عنه فى القرية فيها عشرون رجلاً: أرى أن يصلوا العيدين، وروى عنه ابن نافع ليس ذلك إلا على من تجب عليه الجمعة، وهو قول الليث وأكثر أهل العلم، وقال ربيعة: كانوا يرون الفرسخ وهو ثلاثة أميال، وقال الأوزاعى: من آواه الليل إلى أهله فعليه الجمعة والعيد، وقال ابن القاسم، وأشهب: إن شاء من لا تجب عليهم الجمعة أن يصلوها بإمام فعلوا، ولكن لا خطبة عليهم، وإن خطب فحسن. وقوله: (أول ما نبدأ به الصلاة) ، يدل أن الخطبة بعدها، وقد جاء هذا منصوصًا بعد هذا. وفيه: أن النحر لا يكون إلا بعد الصلاة. قال المهلب: وفيه دليل أن العيد موضوع للراحات وبسط النفوس إلى ما يحل من الدنيا والأخذ بطيبات الرزق وما أحل الله من اللعب والأكل والشراب والجماع؛ ألا ترى أنه أباح الغناء من أجل عذر العيد قال: (دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد) ، وكان أهل المدينة على سيرة من أمر الغناء واللهو، وكان النبى، عليه السلام، وأبو بكر على خلاف ذلك؛ ولذلك أنكر أبو بكر المغنيتين فى بيت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 عائشة؛ لأنه لم يرهما قبل ذلك بحضرة النبى، عليه السلام، فرخص فى ذلك للعيد وفى ولائم إعلان النكاح. وقوله: (تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث) ، تريد ترفعان أصواتهما بالإنشاد، وكل من رفع صوته بشىء ووالى به مرة بعد مرة، فصوته عند العرب غناء، وأكثره فيما شاق من صوت، أو شجا من نغمة ولحن، ولهذا قالوا: غنت الحمامة، ويغنى الطائر، هذا قول الخطابى. وإنما كانتا تنشدان المراثى التى تحزن وتبعث النفوس على الاتنقام من العدو، وهى مراثى من أصيب يوم بعاث، فأباح النبى (صلى الله عليه وسلم) هذا النوع من الغناء. وقولها: (وليستا بمغنيتين) ، تعنى الغناء الذى فيه ذكر الخنا والتعريض بالفواحش وما يسميه المُجان وأهل المعاصى غناء مما يكثر التنغيم فيه. قال المهلب: وهذا الذى أنكره أبو بكر كثرة التنغيم وإخراج الإنشاد عن وجهه إلى معنى التطريب بالألحان؛ ألا ترى أنه لم ينكر الإنشاد وإنما أنكر مشابهة الزمير، فما كان من الغناء الذى يجرى هذا المجرى من اختلاف النغمات وطلب الإطراب فهو الذى تخشى فتنته واستهواؤه للنفوس، وقطع الذريعة فيه أحسن، وما كان دون ذلك من الإنشاد ورفع الصوت حتى لا يخفى معنى البيت، وما أراده الشاعر بشعره فغير منهى عنه، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه رخص فى غناء الأعراب، وهو صوت كالحداء يسمى النصب إلا أنه رقيق. وروى النضر بن شميل، عن محمد بن عمرو، عن يحيى بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 عبد الرحمن، عن أبيه، قال: خرجنا مع عمر فى الحج حتى إذا كنا بالروحاء كلم القوم رباح بن المعترف، وكان حسن الصوت بغناء الأعراب، فقالوا: أسمعنا وقصر عنا المسير فقال: إنى أفرق عمر، فقام أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى عمر فكلموه، فقال: يا رباح، أسمعهم وقصر عنهم المسير، فإذا سحرت فارفع قال: فرفع عقيرته وتغنى) . فهذا وما أشبهه مما يدعى غناء لم ير به بأس، ولم ير فيه إثم؛ لأنه حداء يحث المطى ويقصر المسير ويخفف السفر، وتأتى زيادة فى هذا الباب فى باب كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله فى آخر كتاب الاستئذان، ويأتى فى فضائل القرآن عند قوله: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) ، من أجاز سماع القرآن بالألحان ومن كرهه. 3 - باب الأكْلِ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الْخُرُوجِ / 5 - فيه: أَنَسِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ، وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا. الأكل عند الغدو إلى المصلى سنة مستحبة عند العلماء تأسيًا بالنبى، عليه السلام، وروى عن على، وابن عباس أنهما قالا: من السنة ألا تخرج يوم الفطر حتى تطعم، وهو قول عامة العلماء، وكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 بعض التابعين يأمرهم بالأكل فى الطريق، وروى عن ابن مسعود أنه قال: إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل، وعن النخعى مثله، وقد روى عن ابن عمر الرخصة فى ترك الأكل، وذكر ابن أبى شيبة عن عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان يخرج يوم العيد إلى المصلى ولا يطعم شيئًا، قال ابن المنذر: والذى عليه الأكثر استحباب الأكل. قال المهلب: إنما كان يؤكل يوم الفطر قبل الغدو إلى المصلى، والله أعلم لئلا يظن ظان أن الصيام يلزم يوم الفطر إلى أن تصلى صلاة العيد، فخشى الذريعة إلى الزيادة فى حدود الله، فاستبرأ ذلك بالأكل، والدليل على ذلك أنه لم يكن يأمر بالأكل قبل الغدو إلى المصلى فى الأضحى. ويجعلن وترًا استشعارًا للوحدانية، وكذلك كان يفعل فى جميع أموره. 4 - باب الأكْلِ يَوْمَ النَّحْرِ / 6 - فيه: أَنَسٍ قَالَ عليه السلام: (مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَلْيُعِدْ) ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ، وَذَكَرَ مِنْ جِيرَانِهِ، فَكَأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلاَم صَدَّقَهُ، فقَالَ: وَعِنْدِي جَذَعَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، فَرَخَّصَ لَهُ عليه السلام. / 7 - وفيه: الْبَرَاءِ: خَطَبَ النَّبِيُّ عليه السلام، يَوْمَ الأضْحَى بَعْدَ الصَّلاةِ، فَقَالَ: (مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا، وَنَسَكَ نُسُكَنَا، فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَلا نُسُكَ لَهُ) ، فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ - خَالُ الْبَرَاءِ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي نَسَكْتُ شَاتِي قَبْلَ الصَّلاةِ، وَعَرَفْتُ أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونَ شَاتِي أَوَّلَ مَا تُذْبَحُ فِي بَيْتِي، وَتَغَدَّيْتُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 قَبْلَ أَنْ آتِيَ الصَّلاةَ، قَالَ: (شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ؟) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ عِنْدَنَا عَنَاقًا لَنَا جَذَعَةً، هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ شَاتَيْنِ، فَتَجْزِئ عَنِّي؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَلَنْ تَجْزِئ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ) . وأما يوم النحر فهو يوم أكل كما قال أبو بردة، إلا أنه لا يستحب فيه الأكل قبل الغدو إلى الصلاة، ولا ينهى عنه؛ ألا ترى أن النبى، عليه السلام، فى حديث البراء لم يحسن أكله ولا عنفه عليه، وإنما أجابه عما به الحاجة إليه من سنة الذبح وعذره فى الذبح لما قصده من إطعام جيرانه لحاجتهم، فلم ير عليه السلام، أن يخيب فعلته الكريمة، وأجاز له أن يضحى بالجذعة وهى لا تجزئ فى الضحايا عن أحد غيره. فبين الفطر والأضحى فى الأكل قبل الصلاة فرقان: الواحد ليفصل بين الصيام وبين الصلاة بالأكل، والثانى فى الأضحى مباح، إن فعل فحسن وإن لم يفعل فحسن؛ لأنه ليس قبله صيام يحتاج إلى فصله. والعناق: الأنثى من المعز، عن الخليل. 5 - باب الْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى بِغَيْرِ مِنْبَرٍ / 8 - فيه: أبو سَعِيدٍ قَالَ: (كَانَ النبى، عليه السلام، يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالأضْحَى إِلَى الْمُصَلَّى، فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلاةُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ، وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ، فَيَعِظُهُمْ، وَيُوصِيهِمْ، وَيَأْمُرُهُمْ، فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ، بَعْثًا قَطَعَهُ، أَوْ يَأْمُرَ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ) ، فقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى خَرَجْتُ مَعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 مَرْوَانَ، وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ، فَلَمَّا أَتَيْنَا الْمُصَلَّى إِذَا مِنْبَرٌ بَنَاهُ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ، فَإِذَا مَرْوَانُ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَقِيَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَجَبَذْتُ بِثَوْبِهِ، فَجَبَذَنِي، وَارْتَفَعَ، يَخَطَبَ قَبْلَ الصَّلاةِ، قُلْتُ لَهُ: غَيَّرْتُمْ وَاللَّهِ، قَالَ: أَبَا سَعِيدٍ، قَدْ ذَهَبَ مَا تَعْلَمُ، فَقُلْتُ: مَا أَعْلَمُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا لا أَعْلَمُ، فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَجْلِسُونَ لَنَا بَعْدَ الصَّلاةِ، فَجَعَلْتُهَا قَبْلَ الصَّلاةِ. قال المؤلف: قال أشهب فى المجموعة: خروج المنبر إلى العيدين واسع إن شاء أخرج وإن شاء ترك. وقال ابن حبيب: قال مالك: لا يخرج المنبر فى العيدين من شأنه أن يخطب إلى جانبه، فإنما يخطب عليه الخلفاء. قال المهلب: وبنيان كثير للمنبر يدل على أنه لم يكن قبل ذلك. وفيه: أن الصلاة قبل الخطبة، وأن الخلفاء الراشدين كانوا على ذلك. وفيه: مواجهة الخطيب للناس وأنهم بين يديه. وفيه: البروز إلى المصلى والخروج إليها، وأنه من سنتها وأنه لا يصلى فى المسجد إلا من ضرورة، روى ابن زياد عن مالك قال: السنة الخروج إليها إلى المصلى إلا لأهل مكة، فالسنة صلاتهم إياها فى المسجد. وقوله: (غيرتم والله) ، فقد روى عن عثمان بن عفان أنه فعل ذلك فليس بتغيير. وقد اختلف الناس فى أول من قدم الخطبة فى العيدين، فروى ابن نافع عن مالك قال: أول من فعل ذلك عثمان بن عفان، وإنما صنع ذلك ليدرك الناس الصلاة، وروى ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، قال: أول من بدأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 بالخطبة قبل الصلاة عثمان، وروى ابن جريج عن ابن شهاب قال: أول من قدم الخطبة قبل الصلاة معاوية، وروى سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة قبل الصلاة يوم العيدين مروان. وذكر مالك وغيره أن عثمان إنما فعل ذلك ليدرك الناس الصلاة؛ لأنهم كانوا يأتون بعد الصلاة. قال المهلب: وفى هذا من الفقه أنه يحدث للناس أمورًا بقدر الاجتهاد إذا كان صلاحًا لهم، والأصل فى ذلك أن النبى، عليه السلام، خطب قبل الجمعة، فترك عثمان وغيره الصلاة حتى خطبوا لعلَّة أوجبت ذلك من افتراق الناس؛ لِسنته عليه السلام فى تقديمه الخطبة فى الجمعة، فليس بتغيير، وإنما ترك فعل بفعل، ولم يترك لغير فعل الرسول، وإنما كانت الخطبة فى الجمعة قبل الصلاة لقوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض) [الجمعة: 10] ، فعلم الرسول من هذه الآية أن ليس بعد صلاة الجمعة جلوس لخطبة ولا لغيرها. 6 - باب الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ إِلَى الْعِيدِ وَالصَّلاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلا إِقَامَةٍ / 9 - فيه: ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ النبى، عليه السلام، كَانَ يُصَلِّي فِي الأضْحَى وَالْفِطْرِ، ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلاةِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 / 10 - وفيه: جَابِرِ: (إِنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، خَرَجَ يَوْمَ الْفِطْرِ، فَبَدَأَ بِالصَّلاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ) . / 11 - وأرسل ابْنَ عَبَّاسٍ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي أَوَّلِ مَا بُويِعَ لَهُ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ لِلصَّلاَةِ يَوْمَ الْفِطْرِ، إِنَّمَا الْخُطْبَةُ بَعْدَ الصَّلاةِ. / 12 - وقال جَابِرِ وابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَلا يَوْمَ الأضْحَى. وسنة الخروج إلى العيدين عند العلماء المشى؛ لأنه من التواضع، والركوب مباح وليس فى أحاديث هذا الباب ما يدل على الركوب، وروى زرّ عن عمر بن الخطاب، أنه خرج يوم فطر يمشى، وعن على بن أبى طالب أنه قال: من السنة أن يأتى العيد ماشيًا، واستحب ذلك مالك، والثورى، والشافعى، وأحمد، وجماعة. وقال مالك: إنما نحن نمشى ومكاننا قريب، ومن بعد عليه فلا بأس أن يركب، وكان الحسن يأتى العيد راكبًا، وكره النخعى الركوب فى العيدين والجمعة. وأما الصلاة قبل الخطبة، فهو إجماع من العلماء قديمًا وحديثًا إلا ما كان من بنى أمية من تقديم الخطبة وقد تقدم ذلك، وروى عن ابن الزبير مثله. وفيه: أن سنة صلاة العيدين ألا يؤذن لها ولا يقام، وهو قول جماعة الفقهاء، وقال الشعبى، والحكم، وابن سيرين: الأذان يوم الأضحى ويوم الفطر بدعة. وقال سعيد بن المسيب: أول من أحدث الأذان فى العيد معاوية، وقال حصين: أول من أذن فى العيد زياد، وقال عطاء: سأل ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 الزبير ابن عباس، وكان الذى بينهما حسن، فقال: لا تؤذن ولا تقم، فلما ساء ما بينهما أذن وأقام. 7 - باب الْخُطْبَةِ بَعْدَ الْعِيدِ / 13 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: (شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ النبى، عليه السلام، وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَكُلُّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ) . / 14 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (كَانَ عليه السلام، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ) . / 15 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى يَوْمَ الْفِطْرِ رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلا بَعْدَهَا، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ، وَمَعَهُ بِلالٌ، فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ، تُلْقِي الْمَرْأَةُ خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا) . / 16 - وفيه: الْبَرَاءِ أن النَّبِيُّ عليه السلام، قال: (أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ به فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ونَرْجِعَ فَنَنْحَرَ. . .) الحديث. قد تقدم أن الصلاة قبل الخطبة هو إجماع من العلماء، وذكرنا من قدم الخطبة قبل الصلاة من السلف. وقال أشهب فى (المجموعة) : من بدأ بالخطبة قبل الصلاة أعادها بعد الصلاة، فإن لم يفعل أجزأه وقد أساء، قال مالك: والسنة تقديم الصلاة قبل الخطبة، وبذلك عمل رسول الله وأبى بكر، وعمر، وعثمان صدرًا من ولايته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 وقد غلط النسائى فى حديث البراء، وترجم له باب الخطبة قبل الصلاة، واستدل على ذلك من قوله عليه السلام: (أول ما نبدأ به فى يومنا هذا أن نصلى ثم ننحر) ، وتأول أن قوله هذا كان قبل الصلاة؛ لأنه كيف يقول أول ما نبدأ به أن نصلى وهو قد صلى، وهذا غلط؛ لأن العرب قد تضع الفعل المستقبل مكان الماضى؛ فكأنه قال عليه السلام: أول ما يكون الابتداء به فى هذا اليوم الصلاة التى قدمنا فعلها وبدأنا بها، وهو قوله تعالى: (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله) [البروج: 8] ، والمعنى: وما نقموا منهم إلا الإيمان المتقدم منهم، وقد بين ذلك فى باب استقبال الإمام الناس فى خطبة العيد فقال: (إن أول نسكنا فى يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة) . والسخاب: قلادة من قرنفل وسُكّ ليس فيها جوهر، قال ابن دريد: والجمع سُخُب. 8 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ حَمْلِ السِّلاحِ فِي الْعِيدِ وَالْحَرَمِ وَقَالَ الْحَسَنُ: نُهُوا أَنْ يَحْمِلُوا السِّلاحَ يَوْمَ العِيد، إِلا أَنْ يَخَافُوا عَدُوًّا. / 17 - فيه: سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أنه قَالَ: (كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ حِينَ أَصَابَهُ سِنَانُ الرُّمْحِ فِي أَخْمَصِ قَدَمِهِ، فَلَزِقَتْ قَدَمُهُ بِالرِّكَابِ، فَنَزَلْتُ، فَنَزَعْتُهَا، وَذَلِكَ بِمِنًى، فَبَلَغَ الْحَجَّاجَ، فَجَاء يَعُودُهُ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: لَوْ نَعْلَمُ مَنْ أَصَابَكَ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَنْتَ أَصَبْتَنِي، قَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: حَمَلْتَ السِّلاحَ فِي يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ يُحْمَلُ فِيهِ، وَأَدْخَلْتَ السِّلاحَ فى الْحَرَمَ، وَلَمْ يَكُنِ السِّلاحُ يُدْخَلُ الْحَرَمَ) . / 18 - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 وقال مرة: (حَمْلِت السِّلاحِ فِي يَوْمٍ لا يَحِلُّ حَمْلُهُ فِيهِ) . قول ابن عمر: (حملت السلاح فى يوم لم يكن يحمل فيه) ، يدل أن حملها ليس من شأن العيد، وحملها فى المشاهد التى لا يحتاج إلى الحمل فيها مكروه؛ لما يخشى فيها من الأذى والعقر عند تزاحم الناس، وقد قال عليه السلام للذى رآه يحمل نبلاً فى المسجد: (أمسك بنصالها لا تعقرن بها مسلمًا) . فإن خافوا عدوًا فمباح حملها كما قال الحسن. قال المهلب: وقد أباح الله حمل السلاح فى الصلاة عند الخوف، فقال تعالى: (خذوا حذركم وأسلحتكم) [النساء: 71] . وقوله: أمرت بحمل السلاح فى الحرم ولم يكن يُدخل فيه، إنما ذلك للأمن الذى جعله الله لجماعة المسلمين فيه لقوله تعالى: (ومن دخله كان آمنًا) [آل عمران: 97] . وقول ابن عمر: (أنت أصبتنى) ، دليل على قطع الذرائع؛ لأنه لامه على ما أدّاه إلى أذاه، وإن كان لم يقصد الحجاج ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 9 - باب التَّبْكِيرِ للعِيدِ وَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ بُسْرٍ: إِنْ كُنَّا فَرَغْنَا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ وَذَلِكَ حِينَ التَّسْبِيحِ. / 19 - فيه: الْبَرَاءِ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ عليه السلام، يَوْمَ النَّحْرِ فقَالَ: (إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ عَجَّلَهُ لأهْلِهِ، لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ) . أجمع الفقهاء أن العيد لا يصلى قبل طلوع الشمس، ولا عند طلوعها، فإذا ارتفعت الشمس وابيضت وجازت صلاة النافلة، فهو وقت العيد؛ ألا ترى قول عبد الله بن بسر: وذلك حين التسبيح، أى: حين الصلاة، فدل أن صلاة العيد سبحة ذلك اليوم فلا تؤخر عن وقتها لقوله عليه السلام: (أول ما نبدأ به فى يومنا هذا الصلاة) ، ودل ذلك على التبكير بصلاة العيد كما ترجم به البخارى، إلا أن مالكًا قال: وقت صلاة العيد ممتد إلى الزوال. واختلفوا فى وقت الغُدُوِّ إلى العيد، فكان عبد الله بن عمر يصلى الصبح ثم يغدو كما هو إلى المصلى، وفعله سعيد بن المسيب، وقال إبراهيم: كانوا يصلون الفجر وعليهم ثيابهم يوم العيد، وعن أبى مجلز مثله. وفيها قول آخر روى عن رافع بن خديج أنه كان يجلس فى المسجد مع بنيه، فإذا طلعت الشمس صلى ركعتين، ثم يذهبون إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 الفطر والأضحى، وكان عروة لا يأتى العيد حتى تستقل الشمس، وهو قول عطاء والشعبى. وفى (المدونة) عن مالك: يغدو من داره أو من المسجد إذا طلعت الشمس. وقال على بن زياد عنه: ومن غدا إليها قبل طلوع الشمس، فلا بأس ولكن لا يكبر حتى تطلع الشمس ولا ينبغى للإمام أن يأتى المصلى حتى تحين الصلاة. وقال الشافعى: يرى فى المصلى حين تبرز الشمس فى الأضحى، ويؤخر الغدو فى الفطر عن ذلك قليلاً، وحديث البراء دليل للقول الأول. وقيل قوله: (أول ما نبدأ به فى يومنا هذا أن نصلى) ، يدل أنه لا يجب أن يشتغل بشىء غير التأهب للعيد والخروج إليه، وأن لا يفعل قبل صلاة العيد شىء غيرها. - باب فَضْلِ الْعَمَلِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (وَيذْكُرُوا اسم اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) [الحج: 28] أَيَّامُ الْعَشْرِ، وَالأيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا، وَكَبَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ خَلْفَ النَّافِلَةِ. / 20 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ عليه السلام: (مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ) ، قَالُوا: وَلا الْجِهَادُ فى سبيل الله؟ ، قَالَ: (وَلا الْجِهَادُ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ) . وقال المهلب: العمل فى أيام التشريق هو التكبير المسنون، وهو أفضل من صلاة النافلة؛ لأنه لو كان هذا الكلام حضًا على الصلاة والصيام فى هذه الأيام لعارض قوله عليه السلام: (أيام أكل وشرب) ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 وقد نهى عن صيام هذه الأيام، وهذا يدل على تفريغ هذه الأيام للأكل والشرب اللذة، فلم يبق تعارض إذا عنى بالعمل التكبير. وقوله: (يخاطر بنفسه) ، يعنى يكافح العدو بنفسه وسلاحه وجواده، فيسلم من القتل أو لا يسلم منه، فهذه المخاطرة، وهذا العمل أفضل فى هذه الأيام وغيرها مع أن هذا العمل لا يمتنع صاحبه من إتيان التكبير والإعلان به. قوله: (فلم يرجع بشىء) ، يحتمل أن لا يرجع بشىء من ماله ويرجع هو، ويحتمل أن لا يرجع هو ولا ماله فيرزقه الله الشهادة، وقد وعد الله عليها الجنة. وقد اختلف العلماء فى الأيام المعلومات فقال بقول ابن عباس: أنها أيام العشر: النخعى، وبه قال الشافعى وقال: وفيها يوم النحر، وروى عن على، وابن عمر أن المعلومات يوم النحر ويومان بعده، وبه قال مالك، قال الطحاوى وإليه أذهب لقوله تعالى: (ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) [الحج: 28] ، وهى أيام النحر. قال المهلب: إنما سميت معلومات؛ لأنها عند الناس كلهم معلومة للذبح فيتوخى المساكين القصد فيها فيُعْطون. وأما المعدودات فعامة العلماء على أنها أيام التشريق الثلاثة بعد يوم النحر كما قال ابن عباس، وإنما سميت معدودات، والله أعلم، لقول الله تعالى: (واذكروا الله فى أيام معدودات فمن تعجل فى يومين فلا إثم عليه) [البقرة: 203] ، يعنى فمن تعجل فى النفر من منى، فنفر فى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فنفر فى اليوم الثالث فلا إثم عليه. وقيل: إنما سميت أيام التشريق معدودات؛ لأنه إذا زيد عليها فى البقاء كان حصرًا لقوله عليه السلام: (لا يبقين مهاجر بمكة بعد قضاء نسكه فوق ثلاث) . وأما خروج ابن عمر، وأبى هريرة إلى السوق وتكبير الناس بتكبيرهما، فقالت طائفة به، والفقهاء لا يرون ذلك، وإنما التكبير عندهم من وقف رمى الجمار؛ لأن الناس فيه تبع لأهل منى كما قال مالك. وأما تكبير محمد بن على خلف النافلة، فهو قول الشافعى، وسائر الفقهاء لا يرون التكبير إلا خلف الفريضة. - باب التَّكْبِيرِ أَيَّامَ مِنًى وَإِذَا غَدَا إِلَى عَرَفَةَ وَكَانَ عُمَرُ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى، فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فَيُكَبِّرُونَ، وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الأسْوَاقِ، حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ الأيَّامَ، وَخَلْفَ الصَّلاة وَعَلَى فِرَاشِهِ وَفِي فُسْطَاطِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمَمْشَاهُ وتِلْكَ الأيَّامَ جَمِيعًا، وَكَانَتْ مَيْمُونَةُ تُكَبِّرُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَكانَّ النِّسَاءُ يُكَبِّرْنَ خَلْفَ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ. / 21 - فيه: ابْنُ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَنَحْنُ غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ عَنِ التَّلْبِيَةِ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ مَعَ النَّبِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 عليه السلام؟ قَالَ: كَانَ يُلَبِّي الْمُلَبِّي، لا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ لا يُنْكَرُ عَلَيْهِ. / 22 - وفيه: أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ، حَتَّى نُخْرِجَ الْبِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا، حَتَّى نُخْرِجَ الْحُيَّضَ، فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ، وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ. وترجم لحديث أم عطية: (باب خروج الحيض إلى المصلى) ، وباب (اعتزال الحيض المصلى) . وقال المهلب: أيام منى هى أيام التشريق، وتأول العلماء فيها قوله تعالى: (ولتكبروا الله على ما هداكم) [البقرة: 185] ، ومعنى التكبير فى هذا الفصل، والله أعلم، لأنه تصل الذبائح لله تعالى. وكانت الجاهلية تذبح لطواغيتها ونُصُبِهَا، فجعل التكبير استشعارًا للذبح لله تعالى، حتى لا يذكر فى أيام الذبح غيره، ومعنى اشتراط التسمية على الذبح لئلا يذكر غيره، ويعلن بذكره حتى تنسى عبادة الجاهلية، استحب العلماء التكبير يوم العيد فى طريق المصلى، وروى عن على ابن أبى طالب أنه كبر يوم الأضحى حتى أتى الجبانة، وعن أبى قتادة أنه كان يكبر يوم العيد حتى يبلغ المصلى. وعن ابن عمر أنه كان يكبر فى العيد حتى يبلغ المصلى، ويرفع صوته بالتكبير، وهو قول مالك والأوزاعى، قال مالك: ويكبر فى المصلى إلى أن يخرج الإمام، فإذا خرج الإمام قطعه ولا يكبر إذا رجع. وقال الشافعى: أحب إظهار التكبير ليلة الفطر وليلة النحر، وإذا غدوا إلى المصلى حتى يخرج الإمام، وقال أبو حنيفة: يكبر يوم الأضحى يجهر فى ذهابه ولا يكبر يوم الفطر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 وفيها قول آخر، ذكر الطحاوى عن سفينة مولى ابن عباس قال: كنت أقود ابن عباس إلى المصلى، فيسمع الناس يكبرون، فيقول: ما شأن الناس أكبر الإمام؟ فأقول: لا، فيقول: مجانين الناس، فأنكر التكبير فى طريق المصلى، وهذا يدل أن التكبير عنده الذى يكبر الإمام مما يصلح أن يكبر الناس معه. قال المؤلف: ولم أجد أحدًا من الفقهاء يقول بقول ابن عباس. قال الطحاوى: ومن كبر يوم الفطر تأول قول الله، تعالى: (ولتكبروا الله على ما هداكم) [البقرة: 185] ، وتأول ذلك زيد بن أسلم، قال الطحاوى: ويحتمل قوله تعالى: (ولتكبروا الله على ما هداكم) [البقرة: 185] ، تعظيم الله بالأفعال والأقوال كقوله تعالى: (وكبره تكبيرًا) [الإسراء: 111] ، قال: والقياس أن يكبر فى العيدين جميعًا؛ لأن صلاة العيدين لا يختلفان فى التكبير فيهما والخطبة بعدهما وسائر سننهما، كذلك التكبير فى الخروج إليهما. وقال ابن أبى عمران: إن السنة عند أصحاب أبى حنيفة جميعًا فى الفطر أن يكبر فى الطريق إلى المصلى، ولم يعرفوا قول أبى حنيفة. وفى حديث أم عطية: خروج النساء إلى المصلى كما ترجم، وقد فسرت أم عطية إخراج الحُيض فقالت: ليشهدن الخير ودعوة المسلمين، رجاء بركة ذلك اليوم وطهرته، ورغبة فى دعاء المسلمين فى الجماعات؛ لأن البروز إلى الله لا يكون إلا عن نية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 وقصد، فرجاء بركة القصد إلى الله والبروز إليه والجماعة لا تخلو من فاضل من الناس ودعاؤهم مشترك. وقد اختلف الناس فى خروج النساء إلى العيدين، فروى عن أبى بكر وعلى أنهما قالا: على كل ذات نطاق أن تخرج إلى العيدين، وكان ابن عمر يُخرج من استطاع من أهله فى العيد، وقال أبو قلابة: قالت عائشة: كانت الكواعب تخرج لرسول الله فى الفطر والأضحى، وكان علقمة والأسود يُخرجان نساءهم فى العيد ويمنعانهن الجمعة، وروى ابن نافع عن مالك أنه لا بأس أن تخرج المتجالة إلى العيدين والجمعة وليس بواجب، وهو قول أبى يوسف. وكرهت ذلك طائفة، روى عن عروة أنه كان لا يدع امرأة من أهله تخرج إلى فطر أو أضحى، وكان القاسم أشد شىء على العواتق، وقال النخعى، ويحيى الأنصارى: لا يُعرف خروج المرأة الشابة فى العيد عندنا. واختلف قول أبى حنيفة فى ذلك، فروى عنه أنه لم ير خروج النساء فى شىء من الصلوات غير العيدين، وقال مرةً أخرى: كان يرخص للنساء فى الخروج إلى العيدين، فأما اليوم فأنا أكرهه، وقول من رأى خروجهن أصح لشهادة السنة الثابتة له. وفى حديث أم عطية حجة لمالك والشافعى فى قولهما: إن النساء يلزمهن التكبير فى عقيب الصلوات فى أيام التشريق، وأبو حنيفة لا يرى عليهن تكبيرًا، وخالفه أبو يوسف ومحمد قالا بقول مالك: إن التكبير على النساء كما هو على الرجال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 وقد ذكر البخارى عن ميمونة زوج النبى، عليه السلام، أنها كانت تكبر يوم النحر، وأن النساء كن يكبرن خلف أبان بن عثمان، وعمر بن عبد العزيز، وهذا أمر مستفيض. قال المهلب: وإنما أمر الحُيَّض باعتزال المصلى خشية الاختلاف؛ أن يكون طائفة تصلى وطائفة بينهم لا تصلى، وخشية ما يحدث للحائض من خروج الدم الذى لا يؤمن ذلك منها، فتؤذى من جاورها وتنجس موضع الصلاة. - باب الصَّلاةِ إِلَى الْحَرْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ / 23 - فيه: ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، كَانَ تُرْكَزُ الْحَرْبَةُ قُدَّامَهُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ، ثُمَّ يُصَلِّي) . وترجم له: باب حمل العنزة والحربة بين يدى الإمام يوم العيد وقال فيه. / 24 - ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (أن نَّبِيُّ اللَّه كان يَغْدُو إِلَى الْمُصَلَّى، وَالْعَنَزَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ) . حمل العنزة والحربة بين يديه لتكون له سترة فى صلاته إذا كانت المصلى فى الصحراء، ولم يكن فيها من البنيان ما يستتر به، ومن سنته عليه السلام، أن لا يصلى المصلى إلا إلى سترة إمامًا كان أو منفردًا. فإن قيل: فقد صلى عليه السلام، بمنى إلى غير جدار فى حديث ابن عباس نزل من الأتان ومرّ بين يدى بعض الصف. قيل له: هذا يدل من فعله عليه السلام، أن السترة للمصلى ليست بفريضة وأنها سنة مستحبة؛ لأن صلاته بمنى إلى غير السترة كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 نادرًا من فعله عليه السلام، والذى واظب عليه طول دهره الصلاة إلى سترة، وقد تقدم ما للعلماء فى هذه المسألة فى باب: سترة الإمام سترة لمن خلفه. - باب خُرُوجِ الصِّبْيَانِ إِلَى الْمُصَلَّى / 25 - فيه: ابْنَ عَبَّاسٍ، قيل له: (شهدت العيد مع النبى، عليه السلام؟ قال: نعم، لولا مكانى من الصغر ما شهدته، ثم أتى النساء فوعظهن. . .) ، الحديث. خروج الصبيان إلى المصلى إنما هو إذا كان الصبى ممن يضبط نفسه عن اللعب، ويعقل الصلاة، ويتحفظ مما يفسدها، ألا ترى ضبط ابن عباس للقصة، ولإتيانه عليه السلام، النساء ووعظهن وأمرهن بالصدقة، وأخذ بلال ذلك فى ثوبه، فدل ذلك على أنه كان ممن يعقل الصلاة وغيرها. وقال المهلب: وقوله: (ولولا مكانى من الصغر ما شهدته) ، يريد حين أتى النساء فوعظن، فذكر أنه شهد بذلك معه، وقد تقدم هذا المعنى قبل هذا وترجم له: باب موعظة الإمام النساء يوم العيد، وزاد فيه: عن ابن جريج قلت لعطاء: أترى حقًا على الإمام أن يأتيهن ويذكرهن؟ قال: إنه لحق عليهم ومالهم لا يفعلونه. قال المؤلف: أما إتيانه عليه السلام، إلى النساء ووعظهن فهو خاص له عند العلماء؛ لأنه أب لهن، وهم مجمعون أن الخطيب لا تلزمه خطبة أخرى للنساء ولا يقطع خطبته ليتمها عند النساء، وفائدة هذا الحديث الرخصة فى شهود النساء والصبيان العيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 والفتخ: خواتم بلا فصوص كأنها حلق، الواحدة: فتخة. - باب اسْتِقْبَالِ الإمَامِ النَّاسَ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ وقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قَامَ النَّبِيُّ عليه السلام، مُقَابِلَ النَّاسِ. / 26 - فيه: الْبَرَاءِ: (خَرَجَ النَّبِيُّ عليه السلام، يَوْمَ الأَضْحًى إِلَى الْبَقِيعِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، وَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نَبْدَأَ بِالصَّلاةِ. . .) ، الحديث. السنة استقبال الإمام الناس فى خطبة العيد والجمعة وغيرها؛ لأن كل من حضر الخطبة مأمور باستماعها، ولا يكون المستمع إلا مقبلاً بوجهه على المسموع منه ليكون أوعى لموعظته. - باب إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ فِي الْعِيدِ / 27 - فيه: حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عن امرأة غزت مع رسول الله فقَالَتْ: كُنَّا نَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى وَنُدَاوِي الْكَلْمَى، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَلا تَخْرُجَ؟ فَقَالَ: (لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا، وَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ المسلمين. . . .) ، الحديث. هذا يدل على تأكيد خروج النساء إلى العيدين؛ لأنه إذا أمرت المرأة أن تلبس من لا جلباب لها، فمن لها جلباب أولى أن تخرج وتشهد دعوة المؤمنين رجاء بركة ذلك اليوم. وقال الطحاوى: وأمره عليه السلام، أن تخرج الحيض وذوات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 الخدور فى العيد يحتمل أن يكون ذلك فى أول الإسلام والمسلمون قليل، فأريد التكثير بحضورهن إرهابًا للعدو، وأما اليوم فلا يحتاج إلى ذلك. قال المؤلف: وهذا التأويل يحتاج إلى معرفة تاريخ الوقت الذى أمر فيه النبى، عليه السلام، النساء بذلك، ونسخ أمره لهن بالخروج إلى العيدين، وهذا لا سبيل إليه، والحديث باق على عمومه لم ينسخه شىء ولا أحاله، والنسخ لا يثبت إلا بيقين، وأيضًا فإن النساء ليس ممن يرهب بهن على العدو، ولذلك لم يلزمهن فرض الجهاد. والعواتق: جمع عاتق، وقال ابن دريد: عتقت الجارية: صارت عاتقًا إذا أوشكت البلوغ، وقال ابن السكيت: العاتق فيما بين أن تدرك إلى أن تعنس ما لم تزوج، والخدور: البيوت. فأمر الملازمات للبيوت المحتجبات بالبروز إلى العيدين بخلاف قول أبى حنيفة. - باب النَّحْرِ وَالذَّبْحِ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْمُصَلَّى / 28 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: (أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، كَانَ يَنْحَرُ أَوْ يَذْبَحُ بِالْمُصَلَّى) . السنة، والله أعلم، بالذبح فى المصلى لئلا يُتقدم الإمام بالذبح، ولما كانت أفعال العيدين والجماعات إلى الإمام وجب أن يكون متقدمًا فى ذلك والناس له تبع، ولهذا قال مالك: لا يذبح أحد حتى يذبح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 الإمام، وروى مثل قول مالك أثر انفرد به ابن جريج، وأكثر الآثار على مراعاة الصلاة فقط، ولم يختلفوا أن من رمى الجمرة، فقد حل له الذبح والحلق، وإن لم يذبح الإمام إلا بعد ذلك، فكذلك من صلى عندهم يوم النحر أن المعنى المتعبد به: الوقت لا الفعل، وقد أجمعوا أن الإمام لو لم يذبح يوم النحر أصلاً، ودخل وقت الذبح أن الذبح حلال. قال المهلب: وإنما قال مالك إنه من ذبح قبل الإمام أعاد ليكون للضعفاء وقت يقصدونه للصدقة ولا يجيئون حتى يعم الناس الإفضال، وتستوى بهم الحال، ويكتفى الضعفاء بقية يومهم. - باب كَلامِ الإمَامِ وَالنَّاسِ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ، وَإِذَا سُئِلَ الإمَامُ عَنْ شَيْءٍ، وَهُوَ يَخْطُبُ / 29 - فيه: الْبَرَاءِ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَقَالَ: (مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا، وَنَسَكَ نُسْكَنَا، فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَتِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ. . .) ، الحديث، فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ، فَقَالَ: والله يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ نَسَكْتُ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ إِلَى الصَّلاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ) ، قَالَ: فَإِنَّ عِنْدِي عَنَاقًا فَهَلْ تَجْزِئ عَنِّي؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَلَنْ تَجْزِئ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ) . والكلام فى الخطبة بما كان من أمر الدين للسائل والمسئول جائز، وقد قال عليه السلام، للذين قتلوا ابن أبى الحقيق حين دخلوا عليه يوم الجمعة، وهو يخطب: (أفلحت الوجوه) ، وقال عمر وهو على المنبر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 املكوا العجين، فإنه أحد الرَّيْعَيْن، رواه هشام بن عروة، عن أبيه، وقال هشام: أمرهم رحمه الله بما كان يأمر أهله، ورأى أن ذلك حق. وكره العلماء كلام الناس والإمام يخطب، روى ذلك عن عطاء، والحسن، والنخعى، وقال مالك: لينصت للخطبة ويستقبل، وليس من تكلم فى ذلك كمن تكلم فى خطبة الجمعة، وقال شعبة: كلمنى الحكم بن عُتيبة يوم عيد والإمام يخطب. - باب مَنْ خَالَفَ الطَّرِيقَ إِذَا رَجَعَ يَوْمَ الْعِيدِ / 30 - فيه: جَابِرِ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام، إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ) . وجمهور العلماء يستحبون الرجوع يوم العيد من طريق أخرى، وقال أبو حنيفة: يستحب له ذلك، فإن لم يفعل فلا حرج عليه. ورأيت للعلماء فى معنى رجوعه عليه السلام، من طريق أخرى تأويلات كثيرة، وأَولاها عندى، والله أعلم، أن ذلك ليرى المشركين كثرة عدد المسلمين، ويرهب بذلك عليهم. - باب إِذَا فَاتَهُ الْعِيدُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ وَمَنْ كَانَ فِي الْبُيُوتِ وَالْقُرَى، لِقَوْلِه عليه السلام: هَذَا عِيدُنَا أَهْلَ الإسْلامِ، وَأَمَرَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ مَوْلاهُمُ ابْنَ أَبِي عُتْبَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 بِالزَّاوِيَةِ، فَجَمَعَ أَهْلَهُ وَبَنِيهِ، فَصَلَّى كَصَلاةِ أَهْلِ الْمِصْرِ وَتَكْبِيرِهِمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَهْلُ السَّوَادِ يَجْتَمِعُونَ فِي الْعِيدِ، يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ، كَمَا يَصْنَعُ الإمَامُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا فَاتَهُ الْعِيدُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. / 31 - فيه: عَائِشَةَ: (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا، وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيَّامِ مِنَى، تُدَفِّفَانِ وَتَضْرِبَانِ، وَالنَّبِيُّ عليه السلام، مُتَغَشٍّ بِثَوْبِهِ، فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ) . اختلف العلماء فيمن فاتته صلاة العيد مع الإمام، فقالت طائفة: يصلى ركعتين مثل صلاة الإمام، روى ذلك عن عطاء، والنخعى، والحسن، وابن سيرين، وهو قول مالك، والشافعى، وأبى ثور، إلا أن مالكًا قال: يستحب له ذلك من غير إيجاب، وقال الأوزاعى: يصلى ركعتين ولا يجهر بالقراءة ولا يكبر تكبير الإمام وليس بلازم. وقالت طائفة: يصليها إن شاء؛ لأنها إنما تصلى ركعتين إذا صليت مع الإمام بالبروز لها كما على من لم يحضر الجمعة مع الإمام أن يصلى أربعًا، روى ذلك عن على، وابن مسعود، وبه قال الثورى وأحمد. وقال أبو حنيفة: إن شاء صلى وإن شاء لم يصل، فإن صلى صلى أربعًا وإن شاء ركعتين، وقال إسحاق: إن صلى فى الجَبَّان صلى كصلاة الإمام، وإن لم يصل فى الجَبَّان صلى أربعًا، وأولى الأقوال بالصواب أن يصليها كما سنها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو الذى أشار إليه البخارى، واستدل على ذلك بقوله عليه السلام: (هذا عيدنا أهل الإسلام) ، و (إنها أيام عيد) ، وذلك إشارة إلى الصلاة، وقد أبان ذلك بقوله: (أول نسكنا فى يومنا هذا أن نصلى، ثم ننحر فمن فعل ذلك، فقد أصاب سنتنا) ، فمن صلى كصلاة الإمام فقد أصاب السنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 واتفق مالك، والكوفيون، والمزنى على أنه لا تصلى صلاة العيد فى غير يوم العيد، وقال الشافعى فى أحد قوليه: أنها تقضى من الغد، واحتج عليه المزنى، فقال: لما كان ما بعد الزوال أقرب منها من اليوم الثانى، وأجمعوا أنها لا تصلى إلا قبل الزوال، فأحرى ألا تصلى من الغد وأبعد. - باب الصَّلاةِ قَبْلَ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا، وكره ابن عباس الصلاة قبل العيد / 32 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، خَرَجَ يَوْمَ الْفِطْرِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلا بَعْدَهَا) . اختلف أهل العلم فى هذه المسألة على ثلاثة أقوال، فقالت طائفة بحديث ابن عباس هذا: لا يصلى قبل العيد ولا بعدها فى المصلى، روى ذلك عن على، وابن مسعود، وحذيفة، وجابر، وابن عمر، والشعبى، ومسروق، والقاسم، وسالم، وهو قول مالك، وأحمد بن حنبل إلا أن مالكًا قال: إذا صليت فى المسجد جاز التنفل قبلها وبعدها، وقالت طائفة: يصلى بعدها ولا يصلى قبلها، روى ذلك عن أبى مسعود البدرى، وبه قال علقمة، والأسود، وابن أبى ليلى، والنخعى، والثورى، والكوفيون، والأوزاعى. وقالت طائفة: يصلى قبلها وبعدها كما يصلى قبل الجمعة وبعدها، روى ذلك عن بريدة الأسلمى، وأنس بن مالك، والحسن، وعروة، وبه قال الشافعى. إلا أن السنة الثابتة فى ذلك ما رواه ابن عباس فى هذا الباب أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 النبى، عليه السلام، صلى ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها، فثبت أنها ليست كالجمعة، واستخلف على أبا مسعود، فخطب الناس وقال: لا صلاة قبل الإمام يوم العيد، ولم يرو عن غيره خلافه، ومثل هذا لا يقال بالرأى إنما طريقه التوقيف، قاله الطحاوى. أَبْوَاب الْوِتْرِ - باب مَا جَاءَ فِي الْوِتْرِ / 33 - فيه: ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبىِّ عَلَيْهِ السَّلام قال: (صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ، صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى) . وكان ابن عمر يسلم بين الركعة والركعتين فى الوتر حتى يأمر ببعض حاجته. / 34 - وفيه: ابْنَ عَبَّاسٍ (أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ خالته مَيْمُونَةَ، فقام النبى عليه السلام فصلى نصف الليل اثنى عشرة ركعة ثم أوتر ثم اضطجع. قال القاسم: ورأينا أناسًا منذ أدركنا يوترون بثلاث، وإن كلا لواسع أرجو ألا يكون بشىء منه بأس. / 35 - وفيه: عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ (أَنَّ النبى عَلَيْهِ السَّلاَم كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، كَانَتْ تِلْكَ صلاة الليل. اختلف العلماء فى صلاة الوتر، فقالت طائفة: الوتر ركعة، روى ذلك عن ابن عمر، وقال: كذلك أوتر النبى، عليه السلام، وأبو بكر، وعمر، وروى عن عثمان أنه كان يحيى الليل بركعة يجمع فيها القرآن يوتر بها، وعن سعد بن أبى وقاص، وابن عباس، ومعاوية، وأبى موسى، وابن الزبير، وعائشة: الوتر ركعة، وبه قال عطاء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 ومالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، إلا أن مالكًا قال: الوتر واحدة، ولا بد أن يكون قبلها شفع ليسلم بينهن فى الحضر والسفر، وروى على عن مالك: لا بأس أن يوتر المسافر بواحدة، وأوتر سحنون فى مرضه بواحدة، وقال الأوزاعى: إن شاء فصل بينهما، وإن شاء لم يفصل. وقالت طائفة: يوتر بثلاث ركعات لا يفصل بينهن بسلام، روى ذلك عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وحذيفة، وأبى بن كعب، وابن عباس، وأنس، وأبى أمامة، وبه قال عمر بن عبد العزيز، والفقهاء السبعة بالمدينة، وقال سعيد بن المسيب: لا يسلم فى الركعتين من الوتر، وإليه ذهب الكوفيون، والثورى، وقال الأوزاعى: إن شاء فصل بينهن بسلام، وإن شاء لم يفصل. وتأول الكوفيون حديث ابن عباس حين بات عند خالته ميمونة، ورمق صلاته بالليل، فذكر أنه عليه السلام صلى ركعتين ثم ركعتين حتى عَدَّ ثنتى عشرة ركعة قال: ثم أوتر، فيحتمل أن يكون أوتر بواحدة مع اثنتين قد تقدمتاها، فتكون مع الواحدة ثلاثًا، وكذلك تأولوا فى حديث عائشة، أن النبى، عليه السلام، كان يصلى بالليل إحدى عشرة ركعة كانت تلك صلاته بالليل، أن الوتر منها الركعة الأخيرة مع ركعتين تقدمتها، قالوا: ويدل على صحة حديث عائشة أن الرسول كان لا يزيد فى رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلى أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلى أربعًا كذلك، ثم يصلى ثلاثًا فدل أن الوتر ثلاث. وقال أهل المقاللة الأولى: قوله عليه السلام: (صلاة الليل مثنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 مثنى) ، يُفسر حديث عائشة أنه كان يصلى أربعًا ثم ثلاثًا، وهى زيادة يجب قبولها، وقوله: (فإذا خشيت الصبح، فأوتر بواحدة توتر لك ما قد صليت) ، دليل أن الوتر واحدة؛ لأنه عليه السلام، قال فى الركعة: إنما هى التى توتر ما قبلها، والوتر فى لسان العرب هو الواحد، فلذلك قال عليه السلام: (إن الله وتر) ، أى واحد لا شريك له، والحكم يتعلق بأول الاسم كما أن الظاهر من قوله: (مثنى مثنى) ، أى ثنتين مفردتين، فدل ذلك أن الواحد هى الوتر دون غيرها، وإذا جازت الركعة بعد صلاة ركعتين أو أكثر جازت دونها؛ لأنها منفصلة بالسلام منها. وكان مالك يكره الوتر بواحدة ليس قبلها نافلة، ويقول: أى شىء توتر له الركعة؟ وقد قال عليه السلام: (توتر له ما قد صلى) ، ألا ترى أنه لم يوتر قط، عليه السلام، إلا بعد عشر ركعات أو اثنتى عشرة ركعة على اختلاف الأحاديث فى ذلك، فلذلك استحب أن تكون للركعة الوتر نافلة توترها، وأقل ذلك ركعتان. وإنما ذكر البخارى عن ابن عمر أنه كان يسلم بين الركعة والركعتين فى الوتر خلافًا لأبى حنيفة، وكل من روى عنه الفصل بين الشفع، وركعة الوتر بسلام، يجيز الوتر بركعة واحدة ليس قبلها شىء، وقال الشعبى: كان آل سعد، وآل عبد الله بن عمر يسلمون فى ركعتى الوتر، ويوترون بركعة. وقوله: (فإذا خشى أحدكم الصبح صلى ركعة) ، يدل أن آخر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 وقت الوتر انفجار الصبح، فإذا انفجر الصبح، فقد خرج وقت الوتر ولا يعيدها من فاتته حينئذ، روى هذا عن ابن عمر، وعطاء، والنخعى، وسعيد بن جبير. وقالت طائفة أخرى: وقت الوتر ما لم يُصل الصبح، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس وجماعة، وهو قول مالك، والشافعى، وأحمد، وقال أبو حنيفة: عليه قضاء الوتر وإن صلى الصبح، وعن الشعبى، والحسن، وطاوس: يصلى الوتر، وإن طلعت الشمس، وبه قال الأوزاعى، وأبو ثور، وعن سعيد بن جبير: يوتر من الليلة القابلة. - باب سَاعَاتِ الْوِتْرِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَوْصَانِي النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْوِتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ. / 36 - فيه: أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ: قُلْتُ لابْنِ عُمَرَ: أَرَأَيْتَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الْغَدَاةِ، أُطِيلُ فِيهِمَا الْقِرَاءَةَ؟ فَقَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلاَم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى وَيُوتِرُ بِرَكْعَةٍ، وَيُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الْغَدَاةِ، وَكَأَنَّ الأذَانَ بِأُذُنَيْهِ) . قَالَ حَمَّادٌ: أَيْ سُرْعَةً. / 37 - وفيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (كُلَّ اللَّيْلِ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ) . قال المهلب: ليس للوتر وقت مؤقت لا يجوز غيره؛ لأنه عليه السلام، قد أوتر كُلَّ الليل، كما قالت عائشة، وقد اختلف السلف فى ذلك: عن أبى بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأبى هريرة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 ورافع بن خديج، أنهم كانوا يوترون أول الليل، وكان يوتر آخر الليل: عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وابن عباس، وابن عمر، وجماعة من التابعين، واستحبه مالك، والثورى، والكوفيون، وجمهور العلماء. وقال الطبرى: فإن قال قائل: فإن كان جمهور العلماء على هذا فما وجه أمره عليه السلام، لأبى هريرة بالوتر قبل النوم وأمره واجب، وقول عائشة: كل الليل أوتر رسول الله، خبر عن فعله، وما لم يكن من فعله بيانًا لمجمل القرآن قلنا: الأخذ به وتركه، والأمر ليس كذلك حتى يُبَيِّنَه أمر آخر أنه على غير الوجوب. قيل: كلا الخبرين صحيح وأمره لأبى هريرة اختيار منه له حين خشى أن يستولى عليه النوم فيقع وتره فى غير الليل، فأمره بالأخذ بالثقة، وأن يوتر قبل نومه، وبهذا وردت الأخبار عنه عليه السلام، روى سفيان عن الأعمش، عن جابر، عن عائشة، أن النبى، عليه السلام، قال: (من خاف منكم ألا يستيقظ آخر الليل فليوتر أول الليل) ، ومن علم أنه يستيقظ آخر الليل، فإن صلاته آخر الليل محضورة وذلك أفضل، وروى حماد بن سلمة، عن ثابت البنانى، عن عبد الله بن رباح، عن أبى قتادة، قال: قال رسول الله: (يا أبا بكر، متى توتر؟ قال: أول الليل، وقال لعمر: متى توتر؟ قال: آخر الليل، فقال عليه السلام لأبى بكر: أخذت بالحزم، وقال لعمر: أخذت بالقوة) . قال المهلب: وقوله: (كأن الأذان بأذنيه) ، يعنى الإقامة يريد أنه كان يسرع ركعتى الفجر قبل الإقامة من أجل تغليسه بالصبح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 - باب إِيقَاظِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) أَهْلَهُ بِالْوِتْرِ / 38 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلاَم يُصَلِّي وَأَنَا رَاقِدَةٌ - مُعْتَرِضَةً - عَلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ، أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ) . هذا امتثال لقول الله تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) [طه: 132] . وفيه: تأكيد الوتر والأمر به والمواظبة عليه. - باب لِيَجْعَلْ آخِرَ صَلاتِهِ وِتْرًا / 39 - فيه: ابْنِ عُمَرَ أن النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلاَم قَالَ: (اجْعَلُوا آخِرَ صَلاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا) . اختلف السلف فى وجوب الوتر، فروى عن على بن أبى طالب، وعبادة بن الصامت أنه سنة، وعن سعيد بن المسيب، والحسن، والشعبى، وابن شهاب مثله، هو قول مالك، والثورى، والليث، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وعامة الفقهاء. وقالت طائفة: الوتر واجب على أهل القرآن دون غيرهم، لقوله عليه السلام: (أوتروا يا أهل القرآن) ، روى ذلك عن ابن مسعود، وحذيفة وهو قول النخعى، وقالت طائفة: هو واجب لا يسوغ تركه، روى ذلك عن أبى يوسف الأنصارى، وهو قول أبى حنيفة، وهو أنه عليه السلام، أمر بالوتر وأمره على الوجوب، وبقوله: (الوتر حق) ، و (من لم يوتر فليس منا) . وقال الطبرى: الصواب قول من جعله سنة لإجماع الجميع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 أن عدة الصلوات المفروضات خمس، لو كان الوتر فرضًا لكانت ستًا، ولكان وتر صلاة الليل إحدى الست كما وتر صلاة النهار (المغرب) ، إحدى الخمس، فدل على اختلاف حكم وتر صلاة الليل، وحكم وتر صلاة النهار فى أن أحدهما فرض والثانى نافلة. وقوله: (الوتر حق) ، معناه: حق فى السنة. وقوله: (من لم يوتر فليس منا) ، يقتضى الترغيب فيه، ومعناه: ليس بآخذ سُنتنا ولا مُقْتَدٍ بنا، كما قال: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) ، ولم يرد إخراجه من الإسلام. واختلف العلماء فيمن أوتر ثم نام ثم قام فصلى، هل يجعل آخر صلاته وترًا أم لا؟ فكان ابن عمر إذا عرض له ذلك صلى ركعة واحدة فى ابتداء قيامه أضافها إلى تره ينقضه بها، ثم يصلى مثنى مثنى ثم يوتر بواحدة، روى ذلك عن سعد وابن عباس، وابن مسعود، وبه قال إسحاق، وممن روى عنه أنه يشفع وتره: عثمان، وعلى بن أبى طالب، وعن عمرو بن ميمون، وابن سيرين مثله. وكانت طائفة لا ترى نقض الوتر، روى عن أبى بكر الصديق أنه قال: أما أنا، فإنى أنام على وتر، فإن استيقظت صليت شفعًا حتى الصباح، وروى مثله عن عمار، وسعد، وابن عباس، وقالت عائشة فى الذى ينقض وتره: هذا يلعب بوتره، وقال الشعبى: أمرنا بالإبرام ولم نؤمر بالنقض، وكان لا يرى نقض الوتر: علقمةُ، ومكحول، والنخعى، والحسن، وهو قول مالك، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 - باب الْوِتْرِ عَلَى الدَّابَّةِ / 40 - فيه: سَعِيدِ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَسِيرُ مَعَ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَلَمَّا خَشِيتُ الصُّبْحَ، نَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ، ثُمَّ لَحِقْتُ ابنْ عُمَر، فَقَالَ لى: أَيْنَ كُنْتَ؟ فَقُلْتُ: خَشِيتُ الصُّبْحَ، فَنَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ، فَقَالَ لِى ابْن عُمَر: أَلَيْسَ لَكَ فِي رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ فَقُلْتُ: بَلَى، وَاللَّهِ، قَالَ: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ. قال الطبرى: هذا الحديث حجة على أبى حنيفة فى إيجابه الوتر؛ لأنه لا خلاف بين الجميع أنه غير جائز لأحد أن يصلى مكتوبة راكبًا فى غير حال العذر، ولو كان الوتر فرضًا ما صلاهُ الرسول راكبًا بغير عذر. فإن قال قائل: فقد روى مجاهد أنه قال: صحبت ابن عمر، فكان لا يزيد فى السفر على ركعتى المكتوبة، ويحيى الليل صلاة على ظهر الدابة، وينزل قبل الفجر فيوتر بالأرض، وقال إبراهيم: كانوا يصلون على إبلهم حيث كانت وجوههم إلا المكتوبة والوتر. قيل: لا حجة فى فعل ابن عمر لأبى حنيفة؛ لأنه يجوز أن ينزل للوتر طلبًا للفضل لا أن ذلك كان عنده الواجب؛ لأنه قد صح عن ابن عمر أنه كان يوتر على بعيره، ذكره ابن المنذر عنه، وهو معنى ما ذكره البخارى عنه، وكان يفعل ذلك على، وابن عباس أيضًا، وعن عطاء مثله. فإن قيل: فما وجه نزول ابن عمر فى ذلك؟ . قيل: لما كان عند ابن عمر من صلاة التطوع، وكان المتطوع بها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 مخيرًا فى عملها إن شاء راكبًا، وإن شاء نازلاً كان يوتر أحيانًا بالأرض، وهذا وجه فعل ما ذكره النخعى عنه، وهذا كله حجة على الكوفيين. قال الطحاوى: ذكر عنهم أن الوتر لا يصلى على الراحلة، وهو خلاف للسنة الثابت، وقال مالك، والثورى، والأوزاعى، والليث، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور: يصلى الوتر على الراحلة اتباعًا لهذا الحديث. - باب الْوِتْرِ فِي السَّفَرِ / 41 - فيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلاَم يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ، يُومِئُ إِيمَاءً صَلاةَ اللَّيْلِ، إِلا الْفَرَائِضَ، وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ) . الوتر سنة مؤكدة فى الحضر والسفر، والسنة لا يسقطها السفر إذا كانت مؤكدة، وقد روى عن ابن عباس، وابن عمر أنهما قالا: الوتر فى السفر سنة، وهذا رد على الضحاك فى قوله: إن المسافر لا وتر عليه، وأيضًا فإن ابن عمر ذكر أن النبى، عليه السلام، كان يتنفل فى السفر على راحلته حيث توجهت به، فالوتر أولى بذلك لأنه أوكد من النافلة. قال المهلب: وهذا الحديث تفسير لقوله تعالى: (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) [البقرة: 144] ، أن المراد به الصلوات المفروضات، وأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 القبلة فرض فيها، وبين أن القبلة فى النوافل سنة لصلاته، عليه السلام، لها فى السفر على راحلته حيث ما توجهت به. - باب الْقُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ / 42 - فيه: ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ: أَقَنَتَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلاَم فِي الصُّبْحِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقِيلَ لَهُ: أَوَقَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ؟ قَالَ: بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيرًا. / 43 - وقال عاصم: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ الْقُنُوتِ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ الْقُنُوتُ، قُلْتُ: قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: قَبْلَهُ، قَالَ: فَإِنَّ فُلانًا أَخْبَرَنِي عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ: بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَقَالَ: كَذَبَ، إِنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا، أُرَاهُ كَانَ بَعَثَ قَوْمًا، يُقَالُ لَهُمُ: الْقُرَّاءُ، زُهَاءَ سَبْعِينَ رَجُلا إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَهْدٌ، فَقَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) شَهْرًا، يَدْعُو عَلَيْهِمْ. / 44 - وقال أبو مجلز، عن أنس: (قَنَتَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ) . / 45 - وقال أبو قلابة، عن أنس: (كَانَ الْقُنُوتُ فِي الْمَغْرِبِ وَالْفَجْرِ) . وقال ابن المنذر: اختلف العلماء فى القنوت، فقالت طائفة بالقنوت قبل الركوع، روى ذلك عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وأبى موسى، والبراء، وأنس، وابن عباس، وابن أبى ليلى، وبه قال إسحاق. وقالت طائفة: القنوت بعد الركوع روى ذلك عن أبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وقال أنس: كل ذلك كان يفعله قَبْلُ وبَعْدُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 وبه قال أحمد، وفى (المدونة) : القنوت فى الصبح قبل الركوع وبعده واسع، والذى يستحب مالك فى خاصة نفسه قبل الركوع، وهو حسن عند مالك، وعند الشافعى سنة فى الصبح، وقال: يقنت فى الصلوات كلها عند حاجة المسلمين إلى الدعاء. قال الطحاوى: لم يقل هذا أحد قبله؛ لأن النبى، عليه السلام، لم يزل محاربًا للمشركين إلى أن توفاه الله، ولم يقنت فى الصلوات. وقالت طائفة: لا قنوت فى شىء من الصلوات المكتوبة، روى ذلك عن عمر، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وقال ابن عمر: هى بدعة، وقال قتادة، وإبراهيم: لم يقنت أبو بكر ولا عمر حتى مضيا. وقال علقمة، عن أبى الدرداء: لا قنوت فى الفجر، وعن طاوس مثله، وهو قول الكوفيين والليث، وقال الكوفيون: إنما القنوت فى الوتر، واحتج هؤلاء بما روى الطبرى، عن أبى كريب، حدثنا ابن إدريس قال: سمعت سعد بن طارق أبا مالك الأشجعى قال: قلت لأبى: صليت خلف رسول الله، وأبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلى أكانوا يقنتون؟ قال: لا يا بنى، محدثة. وقال الطبرى: والصواب فى ذلك أن يقال إن الخبر قد صح عن الرسول أنه قنت على القراء إما شهرًا أو أكثر فى كل صلاة مكتوبة، ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 ترك ذلك، وثبت قنوته فى الصبح، وصح الخبر عنه أنه لم يزل يقنت فى صلاة الصبح حتى فارق الدنيا، حدثناه عمرو بن على قال: أخبرنا خالد بن زيد، قال: أخبرنا أبو جعفر الرازى عن الربيع قال: (سئل أنس عن قنوت النبى، عليه السلام، أنه قنت شهرًا قال: لم يزل يقنت عليه السلام، حتى مات) ، حديث أبى مالك صحيح عندنا أيضًا ولا تعارض بينهما بحمد الله، فنقول: إذا نابت المسلمين نائبة نظيرة التى نزلت بالمسلمين بمصابهم بمن قتل ببئر معونة، فنرى القنوت فى ذلك حسنًا على ما فعله النبى، عليه السلام، حتى يكشف عنهم، وذلك أن أبا هريرة روى أن النبى، عليه السلام، ترك الدعاء عليهم إذ جاءوا تائبين، وروى أنس أنه قنت شهرًا. وذكر الطحاوى بإسناده عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وأبى سلمة، عن أبى هريرة: (أن النبى، عليه السلام، كان إذا أراد أن يدعو لأحد أو يدعو على أحد قنت. . .) ، وذكر الحديث، قال: روى حماد، عن إبراهيم، عن الأسود قال: كان عمر إذا حارب قنت وإذا لم يحارب لم يقنت. قال الطبرى: ولسنا وإن كنا نرى ذلك حسنًا إذا نابت المسلمين نائبة بموجبين على من تركه إعادة لا سجود سهو، وإن تركه عامدًا، وذلك أن المسلمين مجمعون أن من ترك القنوت غير مفسد لصلاته، فإن قنت قانت فبفعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عمل، وإن ترك تارك فبرخصة رسول الله أخذ، وذلك أنه كان يقنت أحيانًا، ويترك القنوت أحيانًا، فأخبر أنس عنه أنه لم يزل يقنت على ما عهده من فعله ذلك بالقنوت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 فيها مرةً وترك القنوت أخرى معلمًا بذلك أمته أنهم مخيرون فى العمل بأى ذلك شاءوا من فعله. وأخبر طارق أنه صلى معه، فلم يره قنت، وغير منكر أن يكون صلى معه فى الأوقات التى لم يقنت فيها، فأخبر عنه بما رأى وشاهد، وليس قول: لم أر النبى (صلى الله عليه وسلم) قنت حجة يدفع بها قول من قال: رأيته يقنت، ولا سيما والقنوت أمرٌ المصلى مخير فيه وفى تركه، ولو كان قول من قال: لم أره يقنت دافعًا لقول من قال: رأيته قنت وجب قولُ من قال: رأيته لا يرفع يديه عند الركوع، وعند رفعه منه دافعًا لقول من قال: رأيته يرفع يديه عندهما. وكذلك كان يجب أن يكون كل ما حكى عنه من اختلاف كان منه فى صلاته مما فعله تعليمًا لأمته فى أنهم مخيرون بين العمل له وتركه غير جائز العمل بأحدهما، وفى إجماع الأمة أن ذلك ليس كذلك، وأن رفع اليدين فى حال الركوع والرفع منه غير مفسد لصلاة المصلى، ولا تركه بموجب عليه قضاء إذْ كان من العمل الذى عمله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحيانًا وتركه أحيانًا، فكذلك القنوت مثله سواء، وكذلك القول عندنا فيما روى عن أصحابه عليه السلام، من الاختلاف فى ذلك؛ لأن كُلا شهد بما رأى منه عليه السلام، فى ذلك وكل محق صادق. قال المهلب: ووجه اختيار مالك القنوت قبل الركوع، والله أعلم ليدرك المستيقظون من النوم الركعة التى بها تدرك الصلاة، ولذلك كان الوقوف فى الصبح أطول من غيرها. قال غيره: ووجه قول أنس للسائل: كذب، يريد أنه كذب إن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 كان قال عنه: أن القنوت أبدًا بعد الركوع، وقد بين الثورى هذا المعنى فى سياقه لهذا الحديث فروى الثورى، عن عاصم، عن أنس قال: (إنما قنت رسول الله بعد الركعة شهرًا، قلت: فكيف القنوت؟ قال: قبل الركوع) ، فبان بذلك أن الذى دام عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) من القنوت كان قبل الركوع كما استحسنه مالك. قال المهلب: ولم يحفظ عن النبى، عليه السلام، أنه تمادى على القنوت فى المغرب بل تركه تركًا لا يكاد يثبت معه أنه لو قنت فيها لترك الناس نقله، إلا أنه روى عن أبى بكر الصديق أنه كان يدعو فى الثالثة من المغرب بعد قراءته أم القرآن: (ربنا ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) [آل عمران: 8] ، واستحبه الشافعى، وقال مالك: ليس العمل عندنا على هذا، وإنما جاء أن الناس كانوا يلعنون الكفرة فى رمضان فى الوتر. وقال مالك فى (المدونة) : ليس العمل على القنوت بلعن الكفرة فى رمضان، وقال ابن نافع عنه: كانوا يلعنون الكفرة فى النصف من رمضان حتى ينسلخ، وأرى ذلك واسعًا إن شاء فعل وإن شاء ترك. وقوله: زهاء سبعين: قال صاحب (العين) : الزهاء: القدر فى العدد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 الجزء الثالث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 - كتاب الاسْتِسْقَاءِ - بابَ خُرُوجِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فِي الاسْتِسْقَاءِ / 1 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زيد، قَالَ: (خَرَجَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) ، يَسْتَسْقِي وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ) . وترجم له: (باب الاستسقاء فى المصلى) ، وزاد فيه: (خَرَجَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) ، إلى المصلى يَسْتَسْقِي) . أجمع المسلمون على جواز الخروج إلى الاستسقاء والبروز إليه فى المصلى عند إمساك الغيث عنهم. واختلفوا فى الصلاة، فقال أبو حنيفة: يبرز المسلمون للدعاء والتضرع إلى الله فيما نزل بهم، وإن خطب مُذكر لهم ومخوف فحسن، ولم يعرف الصلاة فى الاستسقاء، واحتج بهذا الحديث الذى لا ذكر للصلاة فيه، وروى مغيرة عن إبراهيم: أنه خرج مرة للاستسقاء فلما فرغوا قاموا يصلون، فرجع إبراهيم ولم يصل. وقال سائر الفقهاء، وأبو يوسف ومحمد: إن صلاة الاستسقاء سنة ركعتان؛ لثبوت ذلك عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وليس تقصير من قصر عنها بحجة على من ذكرها بل الذى رواها أولى؛ لأنها زيادة يجب قبولها. - باب دُعَاءِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ / 2 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 الرَّكْعَةِ الأخِيرَة يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ) ، هَذَا كُلُّهُ فِي الصُّبْحِ. / 3 - فيه: عَبْدِاللَّهِ: أنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) ، لَمَّا رَأَى مِنَ النَّاسِ إِدْبَارًا، قَالَ: (اللَّهُمَّ سَبْعٌ كَسَبْعِ يُوسُفَ) ، فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ وَالْجِيَفَ، وَيَنْظُرَ أَحَدُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ، فَيَرَى الدُّخَانَ مِنَ الْجُوعِ، فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِنَّ قَوْمَكَ هَلَكُوا، فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (إِلَى قَوْلِهِ: (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى) [الدخان: 15، 16] ، فَالْبَطْشَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَدْ مَضَتِ الْبَطْشَةُ والدُّخَانُ، وَاللِّزَامُ وَآيَةُ الرُّومِ. فيه: جواز الدعاء على الكفار بالجوع والجهد وغيره، قال المهلب: وإنما دعا عليهم بالسبع سنين، والله أعلم، إرادة أن يضعفهم بالجوع عن طغيانهم؛ فإن نفس الجائع أخشع لله وأقرب للانقياد والتذلل، فأجاب الله دعوته وأعلمه أنهم سيعودون بعد أن يرغبوا فى رد العذاب عنهم. وفيه: الدعاء على الظالم بالهلاك. وفيه: الدعاء لأسرى المؤمنين بالنجاة من أيدى العدو. وفيه: جواز الدعاء فى صلاة الفريضة بما ليس فى القرآن بخلاف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 الكوفيين، وذكر أبو الزناد فى حديث أبى هريرة أن ذلك كان فى صلاة الصبح. وقال المهلب: والدعاء على المشركين يختلف معناه، فإذا كانوا منتهكين لحرم الدين وحرم أهله، فالدعاء عليهم واجب، وعلى كل من سار بسيرهم من أهل المعاصى والانتهاك، فإن لم ينتهكوا حرمة الدين وأهله وجب أن يُدعَى لهم بالتوبة كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، حين سئل أن يدعوا على دوس فقال: (اللهم اهد دوسًا وائت بهم) ، وقيل: إنما يجب أن يكون الدعاء على أهل المعاصى فى حين انتهاكهم، وأما عند تركهم وإدبارهم عن الانتهاك فيجب أن يُدعى لهم بالتوبة، وروى أن أبا بكر الصديق وزوجته كانا يدعوان على عبد الرحمن ابنهما يوم بدر بالهلاك إذ حمل على المسلمين، وإذا أدبر يدعوان له بالتوبة. وفى قوله: (غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله) ، الدعاء للمؤمنين بالمغفرة، تَفَاءَل لهما (صلى الله عليه وسلم) ، من أسمائهما فَأْلا حسنًا، وكان يعجبه الفأل الحسن، وقال الخطابى: وقوله: (غفار غفر الله لها) ، فنرى، والله أعلم، إنما خصهم بالدعاء والمغفرة لمبادرتهم إلى الإسلام وبحسن بلائهم فيه، ودعا لأسلم؛ لأن إسلامهم كان سلمًا من غير حرب، ويقال: كان مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم حنين من أسلم أربعمائة ومن غفار مثلها. وقوله: (حَصَّت كل شىء) ، يعنى أذهبته قال صاحب (العين) ، يقال: الحصّ: السنة الجرداء، والحَصّ إذهاب الشعر، والبيضة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 تحصُّ رأس صاحبها، ومن أمثال العرب: (أفلت وانحصّ الذَنَبُ) ، يقال للذى تفلت من منتشب، وأصله الطائر يفلت من يد الإنسان فيبقى فى يديه من ريش ذنبه بقية. 3 - باب سُؤَالِ النَّاسِ الإمَامَ الاسْتِسْقَاءَ إِذَا قَحَطُوا / 4 - فيه: ابْنَ عُمَرَ قَالَ: (رُبَّمَا ذَكَرْتُ شِعْرِ أَبِي طَالِبٍ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ النَّبِيِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَسْتَسْقِي: وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأرَامِلِ فَمَا يَنْزِلُ حَتَّى يَجِيشَ كُلُّ مِيزَابٍ لك ميزاب) . / 5 - وفيه: أَنَسِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا، فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا، قَالَ: فَيُسْقَوْنَ. فيه: أن الخروج إلى الاستسقاء والاجتماع والبروز لا يكون إلا بإذن الإمام، وهذه سنن الأمم السالفة قال الله تعالى: (وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه) [الأعراف: 160] ، وأما الدعاء فى أعقاب الصلوات فى الاستسقاء فجائز بغير إذن الإمام. قال المهلب: وموضع الترجمة من الحديث قول عمر: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا وهو معنى قول أبى طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه، وأما استسقاء عمر بالعباس، فإنما هو للرحم التى كانت بينه وبين النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فأراد عمر أن يصلها بمراعاة حقه، ويتوسل إلى من أمر بصلة الأرحام بما وصلوه من رحم العباس، وأن يجعلوا ذلك السبب إلى رحمة الله تعالى. والثمال: هو الذى يثمل القوم فيكفيهم أمرهم بإفضاله عليهم. 4 - باب تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ فِي الاسْتِسْقَاءِ / 6 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: (أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) ، اسْتَسْقَى وَقَلَبَ رِدَاءَهُ) . / 7 - وقال مرة: (خَرَجَ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى الْمُصَلَّى، فَاسْتَسْقَى، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) . وكَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: عَبْد اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ هُوَ صَاحِبُ الأذَانِ، وَلَكِنَّهُ وَهْمٌ؛ لأنَّ هَذَا هُوَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْمَازِنِيُّ، مَازِنُ الأنْصَارِ. وذهب مالك، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور إلى أن الإمام يحول رداءه ويحول الناس أرديتهم بتحويله، وقال الليث، وأبو يوسف، ومحمد بن عبد الحكم يقلب الإمام وحده رداءه، وليس ذلك على من خلفه، وقال محمد بن عبد الحكم: ليس فى الحديث أن الناس حولوا أرديتهم، وكذلك روى عيسى، عن ابن وهب أنه كان لا يرى تحويل الرداء إلا على الإمام وحده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 واحتج من قال: يحول الناس بتحويل الإمام بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، فما فعل الإمام واجب على المأموم فعله. واختلفوا أيضًا فى صفة تحويله، فروى ابن القاسم عن مالك قال: يحول ما على اليمين على اليسار، وما على اليسار على اليمين، وروى عنه ابن عبد الحكم: إذا فرغ من خطبته استقبل القبلة، وحول رداءه، ما على ظهره منه يلى السماء وما كان يلى السماء على ظهره، وبه قال أحمد، وأبو ثور، وقال الشافعى: ينكس أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه. والقول الأول أولى لأنه قد روى سفيان، عن المسعودى، عن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عباد بن تميم، عن عمه (أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، جعل اليمين على الشمال) ، ذكره البخارى، فى باب الاستسقاء فى المصلى بعد هذا. قال المهلب: وتحويل الرداء إنما هو على وجه التفاؤل بتحويل الحال عما هى عليه، والله أعلم، ألا ترى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يعجبه الفأل الحسن إذا سمع من القول، فكيف من الفعل؟ . وفيه: دليل على استعمال الفأل من الأمور، وإن لم يقع بالموافقة ووقع استعمالاً. وقوله: (صلى ركعتين) ، هو حجة جمهور أهل العلم أن السنة فى الاستسقاء أن يصلى ركعتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 5 - باب الاسْتِسْقَاءِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ / 8 - فيه: أَنَسَ: أَنَّ رَجُلا دَخَلَ المسجد يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ وِجَاهَ الْمِنْبَرِ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ أن يُغِيثُنَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ يَدَيْهِ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اسْقِنَا، ثلاث مرات. . .) وذكر الحديث. وترجم له: (باب الاستسقاء فى خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة) ، وباب (الاستسقاء على المنبر) ، وباب (من اكتفى بصلاة الجمعة فى الاستسقاء) . فيه: الاكتفاء بالاستسقاء فى المسجد الجامع دون بروز إلى المصلى؛ لأن الله تعالى، أجاب دعوة نبيه (صلى الله عليه وسلم) وسقاهم. وفيه: بركة دعائه (صلى الله عليه وسلم) ، ولم يختلف العلماء أنه إذا استسقى فى خطبة الجمعة أنه لا يستقبل القبلة فى دعائه بالاستسقاء كما يصنع إذا ربز، ولا يحول رداءه فى خطبة الجمعة، وإنما ذلك من سُنَّة البروز إليها. وفيه: إن اجتزءوا بالاستسقاء فى كل جمعة فى المسجد الجامع جاز. وقد أجاز قوم الاستسقاء بغير صلاة، ذكره ابن المنذر عن قيس بن أبى حازم، وأبى حنيفة، قال: ورأى ذلك الشافعى، قال: وكان الثورى يكره ذلك. الإكام: الكُدى واحدتها أكمة، ويقال: آكام، وأكم عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 الخليل، والظراب: الجبال الصغار واحدها ظرب عن أبى عبيد، وظرب عن الخليل، والقزع: سحاب صغار تتطاير فى السماء وهى من أحب السحاب إلى الناس، عن أبى حنيفة. و (سَلْع) جبل بقرب المدينة، بإسكان اللام. 6 - باب الدُّعَاءِ إِذَا تَقَطَّعَتِ السُّبُلُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَطَرِ / 9 - فيه: أَنَسِ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَمُطِرُوا مِنْ جُمُعَةٍ إِلَى جُمُعَةٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ، وَأتْقَطَعَتِ السُّبُلُ، وَهَلَكَتِ الْمَوَاشِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: اللَّهُمَّ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ وَالآكَامِ، وَبُطُونِ الأوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ، فَانْجَابَتْ عَنِ الْمَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ) . وترجم له: (باب الدعاء إذا كثر المطر: حوالينا ولا علينا) ، وزاد أنس هذا اللفظ فى حديثه. قال المؤلف: فيه الدعاء إلى الله فى الاستصحاء كما يُدعى فى الاستسقاء؛ لأن كل ذلك بلاء يُفزع إلى الله فى كشفه، وقد سمى الله كثرة المطر أذىً فقال: (إن كان بكم أذىً من مطر) [النساء: 102] ، ولا يحول الرداء فى الاستصحاء إذ لا بروز فيه ولا صلاة تفرد له، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 وإنما يكون الدعاء فى الاستصحاء فى خطبة الجمعة أو فى أوقات الصلوات وأدبارها. وفيه من الفقه: استعمال أدب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، المهذب وخلقه العظيم؛ لأنه لم يدع الله ليرفع الغيث جملة لئلا يرد على الله فضله وبركته وما رغب إليه فيه، وسأله إياه فقال: (اللهم على رءوس الجبال والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر) ؛ لأن المطر لا يضر نزوله فى هذه الأماكن وقال: (اللهم حوالينا ولا علينا) ، فيجب امتثال ذلك فى نعم الله إذا كثرت ألا يسأل أحد قطعها وصرفها عن العباد. وقوله: (فانجابت) ، تقول العرب: جبت القميص قوَّرت جيبه، عن ابن قتيبة، ومنه قوله تعالى: (جابوا الصخر بالواد) [الفجر: 9] ، قطعوه ونقبوه ونحتوه، ومنه: جبت الرحى إذا نقبت وسطها مثل جيب القميص، فشبه انقطاع السحاب من المدينة بتدوير انجياب الثوب إذا قُوِّر جيبه وفتح. 7 - باب مَا قِيلَ إِنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) ، لَمْ يُحَوِّلْ رِدَاءَهُ فِي الاسْتِسْقَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ / 10 - فيه: أَنَسِ أَنَّ رَجُلا شَكَا إِلَى رسول الله هَلاكَ الْمَالِ، وَجَهْدَ الْعِيَالِ، فَدَعَا اللَّهَ أن يَسْتَسْقِي، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ حَوَّلَ رِدَاءَهُ، وَلا اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 وقد تقدم أن تحويل الرداء واستقبال القبلة بالدعاء إنما يكون من سنة صلاة الاستسقاء إذا برز لها، وأما فى المساجد فلا يكون ذلك. 8 - باب إِذَا اسْتَشْفَعُوا إِلَى الإمَامِ لِيَسْتَسْقِيَ لَهُمْ لَمْ يَرُدَّهُمْ / 11 - فيه: أَنَسِ: (أَنَّ رَجُلٌ جَاءَ إِلَى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ، فَدَعَا اللَّهَ، فَمُطِرْنَا مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ. . .) الحديث. وفيه: أن على الإمام إذا سئل الخروج إلى الاستسقاء أن يجيب إلى ذلك، لما فيه من الضراعة إلى الله فى صلاح أحوال عباده وأن يأمرهم بالخروج من المظالم والتوبة من الذنوب، وإصلاح نياتهم، ويعظهم، وكذلك إذا سئل الإمام ما فيه صلاح أحوال الرعية أن يجيبهم إلى ذلك أيضًا؛ لأن الإمام راع ومسئول عن رعيته، فيلزمه حياطتهم وتشفيعهم فيما سألوه مما لا بد لهم منه، وكان (صلى الله عليه وسلم) لا يرد من سأله حاجة. 9 - باب إِذَا اسْتَشْفَعَ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْقَحْطِ / 12 فيه: ابْنَ مَسْعُودٍ: (أَنَّ قُرَيْشًا أَبْطَئُوا عَنِ الإسْلامِ، فَدَعَا عَلَيْهِمُ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ، حَتَّى هَلَكُوا فِيهَا، وَأَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْعِظَامَ، فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، جِئْتَ تَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِنَّ قَوْمَكَ قد هَلَكُوا، فَادْعُ اللَّهَ فَقَرَأَ: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) [الدخان: 10] ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى كُفْرِهِمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى) [الدخان: 16] يَوْمَ بَدْرٍ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 وَزَادَ أَسْبَاطٌ عَنْ مَنْصُورٍ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَسُقُوا الْغَيْثَ، فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ سَبْعًا، وَشَكَا النَّاسُ كَثْرَةَ الْمَطَرِ، قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا، فَانْحَدَرَ السَّحَابَ عَنْ رَأْسِهِ، فَسُقُوا النَّاسُ حَوْلَهُمْ) . قال المهلب: استشفاع المشركين بالمسلمين جائز إذا رجى رجوعهم إلى الحق، وكانت هذه القصة والنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بمكة قبل الهجرة. وفيه: دليل أن الإمام إذا طمع بدار من دور الحرب أن يسلم أهلها أن يرفق بهم، ويأخذ عفوهم، ويدعو لهم بالصلاح، ويكف عن ثمارهم وزروعهم، وأما إن يئس من إنابتهم فلا يدعو لهم؛ بل يدعو عليهم، ولا بأس حينئذ بقطع ثمارهم وزروعهم. وفيه: إقرار المشركين والمنافقين بفضل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وقرب مكانه من ربه، وأنه المستشفع عنده فيما سأله إياه، وأن تلك عادة من الله عَلِمُوها، ولولا ذلك ما لجئوا إليه فى كشف ضرهم عند إشرافهم على الهلكة، فسألوه أن يكون وسيلة إلى الله فى إزالة ضرهم، وذلك أدل الدليل على معرفتهم بصدقه، ولكن حملهم الحسد والأنفة على معاداته ومخالفته لما سبق فى أم الكتاب من كفرهم، أعاذنا الله من العناد، ومكابرة العيان. - باب الدُّعَاءِ فِي الاسْتِسْقَاءِ قَائِمًا / 13 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الأنْصَارِيُّ: أنه خَرَجَ مَعَ الْبَرَاءُ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، فَاسْتَسْقَى، فَقَامَ عَلَى راحلته عَلَى غَيْرِ مِنْبَرٍ، فَاسْتَغْفَرَ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ، وَلَمْ يُؤَذِّنْ، وَلَمْ يُقِمْ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السبيعى: وَرَأَى عَبْدُاللَّهِ بْنُ يَزِيدَ النَّبِيَّ، (صلى الله عليه وسلم) . / 14 - وفيه: عبد الله بن يزيد: (أَنَّ الرسول خَرَجَ بِالنَّاسِ يَسْتَسْقِي لَهُمْ، فَدَعَا اللَّهَ قَائِمًا، ثُمَّ تَوَجَّهَ قِبَلَ الْقِبْلَةِ، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ) . السنة فى الاستسقاء لمن برز إليها أن يدعو الله قائمًا؛ لأنه حال خشوع وإنابة وخضوع، وكذلك لا خلاف بين العلماء أنه لا أذان، ولا إقامة لصلاة الاستسقاء. - باب الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الاسْتِسْقَاءِ / 15 - فيه: عبد الله بن زيد: (خَرَجَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) ، يَسْتَسْقِي فَتَوَجَّهَ نحو الْقِبْلَةِ يَدْعُو، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ) . السنة المجتمع عليها الجهر بالقراءة فى صلاة الاستسقاء، وإنما اختلف فى قراءة صلاة الكسوف على ما يأتى بعد هذا فى موضعه، إن شاء الله تعالى. وهذا الحديث يدل أن الخطبة فى الاستسقاء قبل الصلاة؛ لأنه قال فيه أنه استسقى وتوجه إلى القبلة يدعو وحول رداءه وصلى ركعتين، و (ثُمَّ) ، للترتيب فى كلام العرب، ويدل أن الثانى بعد الأول. وممن روى عنه أن الخطبة قبل الصلاة فى ذلك عمر بن الخطاب، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 وابن الزبير، والبراء ابن عازب، وزيد بن أرقم، وعمر بن عبد العزيز، وهو قول الليث. وقال مالك، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعى: يبدأ بالصلاة قبل الخطبة، وحجتهم ما رواه أبو بكر بن حزم، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد: (أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، خرج يستسقى فصلى ركعتين وقلب رداءه) ، ذكره البخارى فى باب الاستسقاء فى المصلى فذكر تقديم الصلاة على الخطبة، وفى هذا الحديث أبو بكر بن حزم، وهو أضبط للقصة من ابنه عبد الله الذى ذكر تقديم الخطبة قبل الصلاة. واحتجوا أيضًا بما رواه النعمان بن راشد، عن الزهرى، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبى هريرة، قال: (خرج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يستسقى فصلى بنا ركعتين بغير أذان ولا إقامة، ثم خطبنا ودعا وصلى) ، والنعمان بن راشد، وإن كان كثير الوهم على الزهرى، فإن رواية أبى بكر بن حزم تشهد لحديثه بالصحة. واحتج الطحاوى لأصحابه فى ذلك فقال: لما اختلفت الآثار فى ذلك نظرنا فوجدنا الجمعة فيها خطبة، وهى قبل الصلاة، ورأينا العيدين فيها خطبة، وهى بعد الصلاة، فأردنا أن ننظر خطبة الاستسقاء بأى الخطبتين هى أشبه، فرأينا خطبة الجمعة فريضة وصلاة الجمعة بها مضمنة لا تجزئ إلا بها، ورأينا خطبة العيدين ليست كذلك؛ لأن صلاة العيدين تجزئ أيضًا وإن لم يكن معها خطبة، ثم رأينا صلاة الاستسقاء تجزىء أيضًا وإن لم يخطب، وإن كان قد أساء بترك الخطبة فيها، فكانت بحكم صلاة العيدين أشبه منها بخطبة الجمعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 - باب كَيْفَ حَوَّلَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) ، ظَهْرَهُ لَلنَّاسِ / 16 - فيه: عبد الله بن زيد قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ خَرَجَ ليَسْتَسْقِي، فَحَوَّلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَدْعُو، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، يصَلَّى. . .) الحديث. وترجم له: (باب استقبال القبلة فى الاستسقاء) . / 17 - وزاد فيه: (أنه لما دعا أو أراد أن يدعو اسقبل القبلة وحول رداءه) . وسنة من برز إلى الاستسقاء أن يستقبل القبلة ببعض دعائه، وسنة من خطب الناس مُعَلِّمًا لهم وواعظًا أن يستقبلهم بوجهه أيضًا، ثم يعود عند دعاء الاستسقاء فيستقبل القبلة؛ لأن الدعاء مستقبل القبلة أفضل. وقوله: (لما دعا أو أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه) ، فإن قول مالك وأصحابه اختلف فى وقت تحويل الإمام رداءه، فروى ابن القاسم، وابن عبد الحكم أنه يحول رداءه إذا فرغ من الخطبة، وروى عنه على بن زياد أنه يقلبه بين ظهرانى خطبته، وقال ابن الماجشون: يقلبه بعد صدر منها، وقال أصبغ: إذا أشرف على فراغ الخطبة قلب رداءه، وهذه الأقوال كلها خارجة من هذا الحديث من أصل شك المحدث فى تحويل الرداء إن كان بعد الدعاء أو قبله، وبالله التوفيق. قال الطحاوى: وقول عبد الله بن زيد أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، خرج يستسقى فاستقبل القبلة يدعو وحول رداءه ثم صلى ركعتين، ولم يذكر فيه تكبيرًا كتكبير العيدين، وقول الشافعى: إن تكبير الاستسقاء كتكبير العيدين، واحتج بما رواه هشام بن إسحاق عن أبيه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 عن ابن عباس: (أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، خرج فى الاستسقاء متذللا متواضعًا، ودعا وصلى ركعتين كما يصلى فى العيدين) ، قال الطحاوى: وهشام بن إسحاق، وأبوه غير مشهورين بالعلم ولا تثبت بروايتهما حجة. وقوله: (كصلاة العيدين) ، يحتمل أنه صلى ركعتين، فكان التشبيه واقعًا من جهة القَدْرِ لا من جهة التكبير كما قال تعالى: (ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) [الأنعام: 38] ، ولم يكن المراد أنها أمم أمثالنا فى النطق والتعبد، وإنما أراد أمم كما نحن أمم. - باب الاسْتِسْقَاءِ فِي الْمُصَلَّى / 18 - فيه: سفيان، عن المسعودى، عن أبى بكر بن حزم، عن عَبَّادَ بْنَ تَمِيمٍ: أَنَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) ، خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى يَسْتَسْقِي، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ، وَجَعَلَ الْيَمِينَ عَلَى الشِّمَالِ. هذا الحديث حجة لمالك ومن وافقه أن الصلاة فى الاستسقاء قبل الخطبة؛ لأنه ذكر فيه أنه صلى قبل قَلْبه رداءه، والعلماء لا يختلفون أن قلب الرداء إنما يكون فى الخطبة، فمنهم من قال بعد تمامها، ومنهم من قال بعد صدر منها، ومنهم من قال عند فراغها، على ما تقدم فى الباب قبل هذا، فإذا كانت الخطبة وقلب الرداء بعد الصلاة فهو الذى ذهب إليه مالك أن الصلاة قبل الخطبة، وهو نص هذا الحديث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 وقوله: (ثم جعل اليمين على الشمال) ، قد تقدم ما للعلماء فيه فأغنى عن إعادته. قال المهلب: وفيه دليل على أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يلبس الرداء على حسب لباسنا بالأندلس ولباس أهل مصر وبغداد، وهو غير الاشتمال به؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) ، حول ما على يمينه على يساره، ولو كان لباسه اشتمالاً لما صحت العبارة عنه إلا بأن يقال قلب أسفله أعلاه، أو حل رداءه فقلبه، وهذا بَيِّن لا إشكال فيه. وفى المدونة: أنه لا يخرج إليها بمنبر، وقال أشهب فى المجموعة: واسع أن يخرج إليها بالمنبر أو لا يخرج. - باب رَفْعِ النَّاسِ أَيْدِيَهُمْ مَعَ الإمَامِ فِي الاسْتِسْقَاءِ / 19 - فيه: أَنَسَ: (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتِ الْمَاشِيَةُ، هَلَكَ الْعِيَالُ، هَلَكَ النَّاسُ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَدَيْهِ يَدْعُو، وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ مَعَ رسول الله يَدْعُونَ، قَالَ: فَمَا خَرَجْنَا مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى مُطِرْنَا، فَمَا زِلْنَا نُمْطَرُ حَتَّى كَانَتِ الْجُمُعَةُ الأخْرَى، فَأَتَى الرَّجُلُ إِلَى رسول اللَّهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَشِقَ الْمُسَافِرُ وَمُنِعَ الطَّرِيقُ) . وذكر بعد هذا حديث: / 20 - أَنَس قال: (كان النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) ، لا يرَفَعَ يَدَيْهِ فى شىءٍ من دعائه إلا فى الاستسقاء، وإنه يرفع يديه حَتَّى يرى بَيَاضَ إِبْطَيْهِ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 وترجم له: (باب رفع الأيدى فى الاستسقاء) . قال المهلب: رفع اليدين فى الاستسقاء وغيره مستحب؛ لأنه خضوع وتذلل، وتضرع إلى الله تعالى، وروى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه قال: (إن الله حيى، يستحيى إذا رفع العبد إليه يديه أن يردهما صفرًا) . وذكر ابن حبيب قال: كان مالك يرى رفع اليدين فى الاستسقاء للناس والإمام، وبطونهما إلى الأرض، وذلك العمل عند الاستكانة والخوف والتضرع وهو الرَّهَبُ، وأما الرغبة والمسألة فتبسط الأيدى، وهو الرَّغَبُ وهو معنى قول الله، تعالى: (ويدعوننا رغبًا ورهبًا) [الأنبياء: 92] ، خوفًا وطمعًا، وروى عن مالك فى المجموعة أنه استحسن رفع الأيدى فى الاستسقاء والحجة له قول أنس: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يكن يرفع يديه فى شىء من دعائه إلا فى الاستسقاء. وقال ابن القاسم فى (المدونة) : يرفع يديه فى الاستسقاء ومواضع الدعاء، ومن مواضع الدعاء: الصفا والمروة، وعند الجمرتين، وبعرفات، وبالمشعر الحرام رفعًا خفيفًا ولا يمد يديه رافعًا. وسيأتى اختلاف العلماء فى رفع اليدين فى الدعاء فى باب رفع الأيدى بالدعاء فى كتاب الدعاء، إن شاء الله تعالى. وذكر الرواة فى هذا الحديث: (بشق المسافر) ، بالباء ولم أجد له فى اللغة معنى، ووجدت له فى: (نوادر اللحيانى) : (نَشِقَ) بالنون وكسر الشين وارتبق وانربق، بمعنى نَشِبَ وعلى هذا يصح المعنى لقوله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 ومُنع الطريق، وقال كراع: نَشِقَ الصيد فى الحِبالة نشقَا: نَشِبَ وكذلك فراشة القفل، وأنشد ابن الأعرابى لبعض بنى نمير: وإن حبلا لم ينشقا فى حبالة وإن يرصدا يومًا يخب مرصداهما وقال المطرز: النشقة: حبالة الصائد، وقال أبو عبيد فى المصنف: الرِّبقة والنشقة: الحلقة التى تشد بها الغنم. - باب مَا يُقَالُ إِذَا مَطَرَتْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (كَصَيِّبٍ) [البقرة 19] الْمَطَرُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: صَابَ وَأَصَابَ يَصُوبُ. (1) / 21 - فيه: عَائِشَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا رَأَى الْمَطَرَ، قَالَ: صَيِّبًا نَافِعًا) . فيه: الدعاء فى الازدياد من الخير والبركة فيه والنفع به، قال ابن عيينة: حفظناه سيبًا. وقال الخطابى: السَّيْب العطاء، والسِّيب مجرى الماء، والجمع سيوب، وقد ساب يسوب إذا جرى، فأما الصيّب فأصله من صاب يصوب، يقال: صاب المطر يصوب إذا نزل وقال الشاعر: تحدّر من جو السماء يَصُوب وقال المبرد: هو من صاب إذا قصد. وفى كتاب (الأفعال) : صاب صوبًا وصيبًا فأصاب مطره، ويقال: صاب الشىء: إذا نزل من علو إلى سفل، وصاب: إذا قصد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 - باب مَنْ تَمَطَّرَ فِي الْمَطَرِ حَتَّى تَحَادَرَ عَلَى لِحْيَتِهِ / 22 - فيه: أَنَسُ: (قَدمَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْمَالُ، وَجَاعَ الْعِيَالُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَدَيْهِ، وَمَا فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ، فَثَارَ السَحَابٌ أَمْثَالُ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَمُطِرْنَا إِلَى الْجُمُعَةِ الأخْرَى، فَقَامَ ذَلِكَ الأعْرَابِيُّ أَوْ غَيْرُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ، وَغَرِقَ الْمَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ يَدَيْهِ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا، وَلا عَلَيْنَا) ، فَمَا جَعَلَ يُشِيرُ بِيَدِيهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ السَّمَاءِ، إِلا تَفَرَّجَتْ، وصَارَتِ الْمَدِينَةُ مِثْلِ الْجَوْبَةِ، حَتَّى سَالَ الْوَادِي، وَادِي قَنَاةَ شَهْرًا، قَالَ: فَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلا حَدَّثَ بِالْجَوْدِ) . فيه: دليل أنه يستزاد من المطر، وإن كان نازلاً فى حين الاستزادة، وأن يصبر للبلل ولا ينكر وقعه فى الثياب وغيرها عند حاجة الناس إليه، وكذلك فى كل نعمة وفضل يستزاد الله منه ويسأل وإن كان فى حين الدعاء دَارا موجودًا. وفيه: بركة دعوة النبى، (صلى الله عليه وسلم) . وتمطر للمطر معناه: تعرّض، وتفعل عند العرب تأتى بمعنى أخذك من الشىء بعضًا بعد بعض، نحو: تحسيت الحشاء وتنقصته الأيام. وقوله: (حتى صارت المدينة مثل الجوبة) ، قال ابن دريد: الجوبة الفجوة بين البيوت، والجوبة أيضًا قطعة من الفضاء سهلة بين أرضين غلاظ، فيحتمل أن يكون: حتى صارت فى مثل الشىء المنقطع من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 السحاب، والجواب: القطع والشق، فالمعنى أن السحاب ينقطع حول المدينة مستديرًا وأبيض ما عليها من السحاب وصار كالردع فى بياضه وانقطاعه على قول الخليل، وعلى قول ابن دريد: حتى انكشف عن المدينة وباينت الأرضين المجاورة، كمباينة الجوبة التى هى القطعة السهلة من الأرض لما حولها من الأرضين الغلاظ. وفى هذا الحديث: (وادى قناة) ، على الإضافة غير مصروف؛ لأنه معرفة، وقد تقدم فى كتاب الجمعة: (حتى سال الوادى قناة) ، على البدل غير مصروف أيضًا؛ لأنه بدل من معرفة. والجود: المطر الغزير. - باب إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ / 23 - فيه: أَنَسَ قال: كَانَتِ الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ إِذَا هَبَّتْ، عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ، (صلى الله عليه وسلم) . وقال المهلب: كان (صلى الله عليه وسلم) ، يخشى أن تصيبهم عقوبة ذنوب العامة كما أصاب الذين قالوا: (هذا عارض ممطرنا) [الأحقاف: 24] . وفيه: تذكر ما نسى الناس من عذاب الله للأمم الخالية، والتحذير من طريقهم فى العصيان خشية نزول ما حلّ بهم، قال الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 تعالى: (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتًا وهم نائمون (إلى) الخاسرون) [الأعراف: 97 - 99] . - باب قَوْلِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) ، نُصِرْتُ بِالصَّبَا / 24 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ) . الصَّبا: هى الريح الشرقية، وهى القبول أيضًا، والريح الدبور: هى الغربية. وفيه: تفضيل المخلوقات بعضها على بعض. وفيه: إخبار المرء عن نفسه بما خصه الله به على جهة التحدث بنعمة الله، والاعترافات بها والشكر له لا على الفخر. وفيه: الإخبار عن الأمم الماضية وإهلاكها. - باب مَا قِيلَ فِي الزَّلازِلِ وَالآيَاتِ / 25 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ، وَهُوَ الْقَتْلُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ، فَيَفِيضَ) . / 26 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَفِي يَمَنِنَا، قَالُوا: وَفِي نَجْدِنَا، قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَفِي يَمَنِنَا، قَالُوا: وَفِي نَجْدِنَا، قَالَ: هُنَاكَ الزَّلازِلُ وَالْفِتَنُ، وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 قال المهلب: ظهور الزلازل والآيات أيضًا وعيد من الله تعالى لأهل الأرض، قال تعالى: (وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا) [الإسراء: 59] ، وكذلك قال (صلى الله عليه وسلم) فى الرعد: (إنه وعيد شديد لأهل الأرض) ، والتخويف والوعيد بهذه الآيات إنما يكون عند المجاهرة بالمعاصى والإعلان بها؛ ألا ترى قول عمر حين زلزلت المدينة فى أيامه: يا أهل المدينة، ما أسرع ما أحدثتم، والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم. فخشى أن تصيبه العقوبة معهم، كما قالت عائشة: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كثر الخبث وإذا هلكت العامة بذنوب الخاصة بعض الله الصالحين على نياتهم) . قال ابن المنذر: اختلفوا فى الصلاة عند الزلزلة وسائر الآيات، فقالت طائفة: يصلى عندها كما يصلى عند الكسوف استدلالاً بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، عز وجل) ، وكذلك الزلزلة والهادّ وما أشبه ذلك من آيات الله، وروينا عن ابن عباس أنه صلى فى الزلزلة بالبصرة، وقال ابن مسعود: (إذا سمعتم هادًا من السماء فافزعوا إلى الصلاة) ، وهو قول أحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وكان مالك، والشافعى، لا يريان ذلك. وقال الكوفيون: الصلاة فى ذلك حسنة، يعنى فى الظلمة والريح الشديدة. قال المؤلف: وقوله فى هذا الحديث: (فإذا رأيتم شيئًا من ذلك) ، تضم الزلازل وجميع الآيات، فهو حجة لمن رأى الصلاة عند جميعها، وحجة مالك والشافعى، قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإذا رأيتموهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 فصلوا) ، يعنى الشمس والقمر المذكورين فى أول الكلام وهما اللذان صلى فيهما (صلى الله عليه وسلم) ، ونقل ذلك من فعله. وأما سائر الحديث فهى أشراط الساعة وعلاماتها، ونحن فى ذلك؛ قد قبض العلم وظهرت الفتن وعمت وطبقت وكثر الهرج وهو القتل، وكثر المال ولاسيما عند أراذل الناس كما جاء فى الحديث عند تقارب الزمان: (يكون أسعد الناس فى الدنيا لكع بن لكع، ويتطاول رعاة الإبل البهم فى البنيان) ، وقد شاهدناه عيانًا، أعاذنا الله من شر المنقلب وختم أعمالنا بالسعادة والنجاة من الفتن، وسيأتى تفسير قوله: (ويتقارب الزمان) ، فى كتاب الفتن، فى باب: ظهور الفتن، فهو موضعه إن شاء الله تعالى. قال أبو الحسن بن القابسى: سقط من حديث ابن عمر (عن النبى، (صلى الله عليه وسلم)) وهو لفظه (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن مثل ذلك لا يدرك بالرأى. وقال المهلب: إنما ترك الدعاء لأهل المشرق، والله أعلم، ليضعفوا عن الشَّرِّ الذى هو موضوع فى جهتهم ولاستيلاء الشيطان بالفتن فيها، كما دعا على أهل مكة بسبع كسبع يوسف ليؤدبهم بذلك، وكذلك دعا أن تنقل الحمى إلى الجحفة، وذلك والله أعلم، لما رآه من أرداف السوداء فى المنام فتأول أنهم أحق بمثل هذا البلاء ليضعفوا عما كانوا عليه من أذى للناس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 وقرن الشيطان: أمته وحزبه، وروى معتمر عن ابن طاوس، عن أبيه، عن كعب، قال: يخرج الدجال من العراق، وقال: عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: يخرج الدجال من كور من الكوفة. - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة 82] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شُكْرَكُمْ. / 27 - فيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ (صلى الله عليه وسلم) ، أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، قَالَ: (هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟) ، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: بِنَوْءِ كَذَا، وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ) . قال المهلب: تعليق الترجمة بهذا الحديث هو أنهم كانوا ينسبون الأفعال إلى غير الله، فيظنون أن النجوم تمطرهم وترزقهم، فهذا تكذيبهم، فنهاهم الله عن نسبة الغيوث التى جعلها الله حياةً لعباده وبلاده إلى الأنواء، وأمرهم أن ينسبوا ذلك إليه؛ لأنه من نعمته وتفضله عليهم، وأن يفردوه بالشكر على ذلك والحمد على تفضله. قال الطبرى: فإن قال قائل: إن كان كما وصفت من نهى الله ورسوله عن نسبة الغيوث إلى الأنواء، فما أنت قائل فيما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 روى عن عمر بن الخطاب، أنه حين استسقى قال للعباس: يا عم كم بقى من نوء الثريا، فقال العلماء: يزعمون أنها تعترض فى الأفق بعد سقوطها سبعًا، قال: فما مضت سابعة حتى مطروا. قيل: إن ذلك من عمر لم يكن على المعنى المنهى عنه، وذلك أن المعنى المنهى عنه إضافة ذلك إلى أنه من فعل النوء لا من فعل الله، فكان ذلك منهم بالله كفرًا، وأما ما كان من عمر، فإنه كان منه أنه من قبل الله تعالى، عند نوء النجوم كما يقول القائل: إذا كان الصيف كان الحر، وإذا كان الشتاء كان البرد، لا على أن الشتاء والصيف يفعل شيئًا من ذلك؛ بل الذى يأتى بالشتاء والصيف والحر والبرد: الله خالق كل ذلك، ولكن ذلك من الناس على ما جرت عادتهم فيه، وتعارفوا معانى ذلك فى خطابهم ومرادهم، لا على أن النجوم تُحدث نفعًا أو ضرًا بغير إذن الله لها بذلك. قال الطبرى: فإن قال قائل: كيف يكون الرزق بمعنى الشكر؟ . قيل: لذلك مخارج فى اللغة عند العرب: أحدها: أن يراد به: وتجعلون ما جعله الله سببًا لرزقكم من الغيوث أنكم تكذبون به، ثم ترك ذكر السبب، وأقيم الرزق مكانه إِذْ كان مؤديًا عنه كما قال تعالى: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) [آل عمران: 175] ، بمعنى يخوفكم بأوليائه؛ إذ كان معلومًا أنه لا يخوف من كان له وليًا، وإنما يخوف من كان له عدوًا فاكتفى بذكر أوليائه. والثانى: أن يكون المراد وتجعلون رِزْقكم الذى رَزَقكم من الغيث الذى به حياتكم ووجب به عليكم شكر ربكم تكذيبكم به، فاكتفى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 بذكر الرزق من ذكر الشكر؛ إذ كان معلومًا أن من رزق إنسانًا، فقد اصطنع إليه معروفًا يستوجب به الشكر. والثالث: أن يكون الرزق اسمًا من أسماء الشكر، وحُدِّثْتُ عن الهيثم بن عدى أنه قال: من لغة أزد شنوءة: ما رزق فلان فلانًا بمعنى ما شكر. - باب لا يَدْرِي مَتَى يَجِيءُ الْمَطَرُ إِلا اللَّهُ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) : (خَمْسٌ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلا اللَّهُ) . / 28 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ، لا يَعْلَمُهَن إِلا اللَّهُ: لا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي غَدٍ، وَلا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي الأرْحَامِ، وَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلاَ يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَجِيءُ الْمَطَرُ) . قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يدرى أحد متى يجىء المطر) ، يدل على صحة التأويل المتقدم فى الباب قبل هذا أن نسبة الغيث إلى الأنواء كفر؛ لأن النبى قد أخبر أنه لا يدرى متى يجىء المطر إلا الله، ولو كان الغيث من قِبَل الأنواء لعُلم متى يجىء المطر على ما رسمهُ أهل الجاهلية فى الأنواء، وقد وجدنا خلاف رسمهم فى ذلك بالمشاهدة، وذلك أنه من فعل الله وحده لا شريك له، ومصداق هذا الحديث فى قوله تعالى: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث) [لقمان: 34] ، الآية وهذه الآية مع هذا الحديث تبطل تخرص المنجمين فى تعاطيهم علم الغيب، فمن ادعى علم ما أخبر الله ورسوله أن الله منفرد بعلمه، وأنه لا يعلمه سواه فقد كذب الله ورسوله، وذلك كُفر من قائله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 - باب الصلاة فى كسوف الشمس / 29 فيه: أَبُو بَكْرَة، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَانْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلْنَا، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ حَتَّى انْجَلَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُا، فَصَلُّوا، وَادْعُوا حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ) . وروى أبو مسعود مثل معناه، ورواه ابن عمر، المغيرة بن شعبة، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وقالا: (لموت أحد ولا لحياته) ، وقال المغيرة فى حديثه: (كسفت الشمس يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموته) . سُنَّة صلاة الكسوف أن تُصلى ركعتين فى جماعة، هذا قول جمهور العلماء إلا أن فى حديث عائشة وغيرها: فى كل ركعة ركوعان، وهى زيادة يجب قبولها. وخالف ذلك الكوفيون وقالوا: إنها ركعتان كصلاة الصبح، وظاهر حديث أبى بكرة حجة للكوفيين؛ لأنه حديث مجمل لا ذكر فيه لصفة الصلاة، وإنما قال فيه عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (فصلى بنا ركعتين) . وفيه: أنه ينبغى أن تطول صلاة الكسوف إلى أن تنجلى الشمس، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 فإن ظن الناس أنه قد قرب انجلاؤها لم يكن عليهم أن يزيدوا ركعتين أخريين، وعليهم الدعاء والتضرع إلى الله حتى تنجلى. وقد استدل قوم من العلماء بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا رأيتموها فصلوا، وادعوا حتى يكشف ما بكم) ، على أنه لا ينبغى أن تقطع صلاة الكسوف حتى تنجلى الشمس. قال الطحاوى: فيقال لهم: قد جاء فى هذا الحديث (فصلوا وادعوا حتى تنجلى الشمس) ، ذكره البخارى فى باب الدعاء فى الكسوف من حديث المغيرة بن شعبة، وروى أبو موسى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (وإذا رأيتم شيئًا من ذلك، فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره) ، ذكره البخارى فى باب الذكر فى الكسوف، قال: فأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالدعاء عندهما والاستغفار كما أمر بالصلاة، فدل ذلك أنه لم يرد منهم عند الكسوف الصلاة خاصة، ولكن أريد منهم ما يتقربون به إلى الله من الصلاة والدعاء والاستغفار وغيره. وقد اختلف بعض أصحاب مالك إن تجلت الشمس قبل فراغ الصلاة، فقال أصبغ فى (العتبية) : يتمها على ما بقى من سنتها حتى يفرغ منها ولا ينصرف إلا على شفع، وقال سحنون: يصلى ركعة واحدة وسجدتين، ثم ينصرف ولا يصلى باقى الصلاة على سنة الخوف. وقوله فى حديث أبى بكرة: (فقام النبى يجر رداءه) ، فيه ما كان عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) من الخوف لله، والبدار إلى طاعته، ألا ترى أنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 قام إلى الصلاة فزعًا وجرَّ رداءه شغلاً بما نزل، وهذا يدل أن جرّ الثوب لا يذم إلا ممن قصد ذلك واعتمده. وفيه: إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من اعتقادهم أن الشمس تنكسف لموت الرجل من عظمائهم، فأعلمهم (صلى الله عليه وسلم) ، أنها لا تنكسف لموت أحد، ولا لحياته وإنما هو تخويف وتحذير. وفيه: رد على من زعم أن النجوم تسقط عند موت أحدٍ. - باب الصدقة فى الكسوف / 30 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كسفت الشَّمْسُ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَصَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ، وَقَدِ انْجَلَتِ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَادْعُوا اللَّهَ، وَكَبِّرُوا، وَصَلُّوا، وَتَصَدَّقُوا) ، ثُمَّ قَالَ: (يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِىَ عَبْدُهُ، أَوْ تَزْنِىَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلا، وَلبَكَيْتُمْ كَثِيرًا) . فيه: أن الإمام يلزمه عند الآيات موعظته للناس ويأمرهم بأعمال البر وينهاهم عن المعاصى، ويذكرهم نقمات الله. وفيه: أن الصدقة والصلاة والاستغفار تكشف النقم، وترفع العذاب، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) ، للنساء: (تصدقن فإنى رأيتكن أكثر أهل النار) . قال المهلب: وفيه دليل أن أكثر ما تهدد (صلى الله عليه وسلم) ، فى ذلك الوقت بالكسوف إنما كان من أجل الغِنَاء، وذلك عظيم فى عهد النبوة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 وطراوة الشريعة، فلذلك قال (صلى الله عليه وسلم) ، هذا القول فى قوله: (والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا) ، دليل على أنهم كانوا مقبلين على اللهو واللعب، وكذلك كانت عادة الأنصار قديمًا يحبون الغناء واللهو والضحك؛ ألا ترى قول النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لعائشة فى إقبالها من عرس: (هل كان عندكم لهو، فإن الأنصار تحب اللهو) ، فدل هذا أن اتباع اللهو من الذنوب التى يتوعد عليها بالآيات، يشهد لذلك حديث المعازف والقيان. - باب النداء بالصلاة جامعة فى الكسوف / 31 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عمر، لَمَّا كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) نُودِىَ: إِنَّ الصَّلاةَ جَامِعَةٌ. فيه: أن صلاة الكسوف لا أذان لها ولا إقامة، وإنما ينادى لها بالصلاة جامعة عند باب المسجد، وكذلك سائر الصلوات المسنونات لا أذان لها ولا إقامة، وإنما ينادى لها: الصلاة جامعة عند باب المسجد ولا خلاف فى ذلك بين العلماء. - باب خطبة الإمام فى الكسوف وقالت عائشة وأسماء: خطب النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) . / 32 - فيه: عَائِشَةَ، وَانْجَلَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ، ثُمَّ قَامَ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: (هُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ. . . .) الحديث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 اختلف العلماء فى الكسوف هل فيه خطبة أم لا، فقال الشافعى، وإسحاق، والطبرى: يخطب بعد الصلاة فى الكسوف كالعيدين والاستسقاء، واحتجوا بهذا الحديث. وقال مالك والكوفيون: لا خطبة فى كسوف الشمس، واحتجوا فى ذلك بأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إنما خطب الناس؛ لأنهم قالوا: إن الشمس والقمر كسفت لموت أحدهم، وهو ابن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فعرفهم أن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وأمرهم بالصلاة والدعاء والصدقة. وقال القاضى أبو الطيب: إن قال قائل: أليس رؤية الأهلة، وحدوث الحر والبرد، وكل ما قد أجرى الله العادة بحدوثه على وتيرة واحدة آيات، فما معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنهما آيتان من آيات الله) ، وأمر بالصلاة والذكر، ولم يقل إن طلوع الشمس والقمر وحدوث الحر والبرد آية من آيات الله؟ . فالجواب: أن كل هذه الحوادث آيات الله تعالى، ودلالة على وجوده وقدمه، غير أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إنما خص كسوفهما بأنهما آيتان لإخباره لهم عن ربه أن القيامة تقوم وهما منكسفان وذاهبا النور، فلما أعلمهم ذلك أمرهم عند رؤية الكسوف بالصلاة والتوبة والإقلاع والشروع فى صالح الأعمال؛ خوفًا من أن يكون الكسوف لقيام الساعة، ليعدوا لها، فهذا تأويل كونهما آيتان. قال المهلب: وكان هذا قبل أن يعلمه الله بأشراط الساعة، فإن أشراطها كثيرة، وسيأتى ذكرها فى كتاب الفتن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 - باب هَلْ يَقُالُ كَسَفَتِ الشَّمْسُ أَوْ خَسَفَتْ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) [القيامة: 8] / 33 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى يَوْمَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ. . .) الحديث. إنما أراد بهذا الباب رد قول من زعم من العلماء أن الكسوف للشمس والخسوف للقمر لقوله تعالى: (وخسف القمر) [القيامة: 8] ، روى ذلك عن عروة بن الزبير، وفى الآثار الثابتة الكسوف والخسوف مقولان فى الشمس والقمر أنهما: (آيتان من آيات الله لا يخسفان. . .) ، الحديث. وروى ابن عباس، وابن عمر، وأبو بكرة مثل ذلك فى حديثهم عن النبى، وروى (لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته) ، عن النبى: المغيرةُ بن شعبة، وأبو مسعود الأنصارى، ورواية عن أبى بكر فلا معنى لإنكار شىء من ذلك. - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (يُخَوِّفُ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالْكُسُوفِ ، قَالَه أَبُو مُوسَى: عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . / 34 - فيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ يُخَوِّفُ بِهِمَا الله عِبَادَهُ) . قال المهلب: مصداق هذا الحديث فى قول الله تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 ) وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا) [الإسراء: 59] ، يدل ذلك أن الآيات تحذير للعباد، فينبغى عند نزولها مبادرة الصلاة والخشوع والإخلاص لله، واستشعار التوبة والإقلاع عن المعاصى، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) ، عُرض عليه فى مقامه الجنة والنار؛ ليتوعد بالنار أهل المعاصى، ويشوق بالجنة أهل الطاعة، وأخبرهم أن الكسوف ليس كما زعم الجهال أنه من أجل موت ابنه إبراهيم، وإنما هو تخويف وتحذير. - باب التعوذ من عذاب القبر فى الكسوف / 35 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ يَهُودِيَّةً جَاءَتْ تَسْأَلُهَا، فَقَالَتْ: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَيُعَذَّبُ النَّاسُ فِى قُبُورِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ذَاتَ غَدَاةٍ مَرْكَبًا، فَخَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَرَجَعَ ضُحًى، فَمَرَّ بَيْنَ ظَهْرَانَىِ الْحُجَرِ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّى. . . . .، فذكر صلاة الكسوف، ثم انْصَرَفَ، فَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ: (أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) . وترجم له: (باب صلاة الكسوف بالمسجد) . قوله: (فرجع ضحى، فمر بين ظهرانى الحُجَر ثم قام يصلى) ، فإن العلماء اختلفوا فى وقتها، فقال مالك فى المدونة: إنها إنما تصلى ضحوة النهار، ولا تصلى بعد الزوال، وروى على بن زياد، عنه: لا تصلى بعد العصر، ولكن يجتمع الناس فيدعون ويتصدقون ويرغبون، وروى عنه ابن وهب أنها تصلى فى وقت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 صلاة، وإن كان بعد الزوال، وقال ابن حبيب: وهكذا أخبرنى ابن الماجشون، ومطرف، وأصبغ، وابن عبد الحكم، وأنكروا رواية ابن القاسم، وبهذا قال الكوفيون: لا تصلى فى الأوقات المنهى عن الصلاة فيها لورود النهى بذلك وتصلى فى سائر الأوقات، وهو قول ابن أبى مليكة، وعطاء، وجماعة. وقال الشافعى: تصلى فى كل وقت نصف النهار وبعد العصر، وبعد الصبح، وهو قول أبى ثور، وقالوا: نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن الصلاة بعد الصبح والعصر إنما هو عن النافلة المبتدأة لا عن المكتوبات والمسنونات. وعند أهل المقالة الأولى النهى عن الصلاة المسنونة كنهيه عن النافلة المبتدأة. وفيه: أن عذاب القبر حق، وأهل السنة مجمعون على الإيمان به والتصديق، ولا ينكره إلا مبتدع. وأما صلاة الكسوف فى المسجد فهو الذى عليه العلماء، وذكر ابن حبيب أن للإمام إن شاء أن يصليها فى المسجد تحت سقفه أو فى صحنه، وإن شاء خارجًا فى البراز، وقاله أصبغ. - باب طول السجود فى الكسوف / 36 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّهُ قَالَ: (لَمَّا كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نُودِىَ إِنَّ الصَّلاةَ جَامِعَةٌ، فَرَكَعَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، رَكْعَتَيْنِ فِى سَجْدَةٍ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِى سَجْدَةٍ، ثُمَّ جَلَسَ. . . .) الحديث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا سَجَدْتُ سُجُودًا قَطُّ كَانَ أَطْوَلَ مِنْهَا. اختلف العلماء فى هيئة السجود فى الكسوف، ففى (المدونة) لابن القاسم: أحب إلىّ أن يطيل السجود، وهو قول جماعة من أهل الحديث، روى ذلك عن ابن عمر. وفى (مختصر ابن عبد الحكم) : ليس عليه أن يطيل السجود، ويسجد سجدتين تامتين، وهو قول الشافعى، وأحمد بن حنبل. وقول عائشة: (ما سجدت سجودًا قط كان أطول منها) ، حجة لمن رأى تطويل السجود. وقوله: (ركعتين فى سجدة) ، يريد ركعتين فى ركعة، وقد يعبر بالسجود عن الركعة. 30 - باب صَلاةِ الْكُسُوفِ جَمَاعَةً وَصَلَّى ابْنُ عَبَّاسٍ لَهُمْ فِى صُفَّةِ زَمْزَمَ، وَجَمَعَ عَلِىُّ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَصَلَّى ابْنُ عُمَرَ جَمَاعَةَ. / 37 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلا، نَحْوًا مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلا، ثُمَّ رَفَعَ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 الأوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِى مَقَامِكَ، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَتَنَاوَلْتُ عُنْقُودًا، وَلَوْ أَصَبْتُهُ لأكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، ورَأَيْتُ النَّارَ، فَلَمْ أَنْظُر مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ. . . .) ، الحديث. سنة صلاة الكسوف أن تصلى جماعة فى المسجد كما فعل (صلى الله عليه وسلم) ، وإن تخلف الإمام عنها فليقدموا من يجمع بهم، هذا قول مالك، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، وقد صلى عبد الرحمن بن أبى ليلى، وسليمان التيمى كل واحد منهم بأصحابه. وفى (المدونة) : يصليها أهل القرى والمسافرون بإمام إلا أن يعجل بالمسافرين السير ويصليها المسافر وحده، وتصليها المرأة فى بيتها. وقال أشهب: ومن لم يقدر أن يصليها مع الإمام من النساء والضعفاء، فإنهم يصلونها أفذاذًا أو بإمام. وكره أبو حنيفة، والثورى أن يجمع النساء، وقالا: يصلين وحدانًا، ولا يجمعهن فيها رجل، وقول من استحب الجماعة فيها للنساء وغيرهن أولى؛ لأن سنتها الجماعة لكل من صلاها فكذلك النساء. واختلفوا فى صفة صلاة الكسوف، فقال مالك، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور: تصلى ركعتين فى ركعة على حديث ابن عباس، وعائشة، وعبد الله بن عمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 وقال أبو حنيفة، وأصحابه: تصلى ركعتين كسائر النوافل، إن شاء أطال القراءة، وإن شاء قصرها، واحتج بحديث أبى بكرة. وقد رويت فى صلاة الكسوف أحاديث مختلفة، فقال بها قوم من الفقهاء، وزعم بعضهم أن القول بها كلها جائز؛ لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى الكسوف مرات كثيرة وخَيَّر أُمته فى العمل بأى ذلك شاءوا، منها أنه (صلى الله عليه وسلم) ، صلى ثلاث ركعات فى ركعة، ومنها أربع ركعات فى ركعة، ومنها خمس ركعات فى ركعة، ومنها ست ركعات فى ركعة، ومنها ثمان ركعات فى ركعة، قالوا: لأنه (صلى الله عليه وسلم) ، كان يزيد فى الركوع إذا لم ير الشمس تنجلى، فإذا انجلت سجد، فمن هاهنا زيادة الركعات. فيقال لهم: أكثر تلك الأحاديث ضعاف، وأصح ما فى أحاديث صلاة الخسوف ما ذكره البخارى، وما رواه فى موطئه، وبه قال أهل المدينة عملاً، قرنًا بعد قرن. واحتج الطحاوى لأصحابه فقال: رأينا سائر الصلوات من التطوع والمكتوبات مع كل ركعة سجدتان، فالنظر على ذلك أن تكون هذه الصلاة كذلك. قال ابن القصار: فالجواب أن الصلوات قد خُصت بهيئات وصفات تفارق سائرها، كصلاة الخوف والعيدين والجنازة، فصلاة الخوف يجوز فيها زيادة الأفعال من الذهاب والمجىء واستدبار القبلة والقتال، وصلاة العيدين زيد فيها التكبير، وصلاة الجنازة حذف منها الركوع والسجود، ولم يكن هذا إلا لورود الشرع به، فكذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 صلاة الكسوف زيد فى كل ركعة ركوع آخر، لورود الشرع به، ولا مدخل للنظر فى ذلك. وقوله: (فيقرأ نحوًا من سورة البقرة) يدل أن القراءة فى صلاة الكسوف سر، ولو كانت جهرًا ما قال: نحوًا من سورة البقرة، وبالسر فيها قال مالك، والكوفيون، والشافعى، وسيأتى ذلك فى موضعه، إن شاء الله تعالى. قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنى رأيت الجنة والنار) ، فيحتمل أن يمثلا له، فينظر إليهما بعينيه كما مُثل له بيت المقدس حين كذبه الكفار فى الإسراء، فنظر إليه فجعل يخبرهم عنه، قال مجاهد فى قوله تعالى: (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض) [الأنعام: 75] ، قال: فُرجت له السموات حتى نظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش، وفرجت له الأرضون السبع فنظر إلى ما فيهن. وقوله: (فتناولت منها عنقودًا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا) ، فإن العرب تقول فى لو: أنها تجىء لامتناع الشىء لامتناع غيره، كقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لو كان بعدى نبى لكان عمر) ، ولا سبيل أن يكون بعده نبى كما لا سبيل أن يكون عمر نبيًا. ولو يأخذه (صلى الله عليه وسلم) ، ولم يأكل منه فى الدنيا؛ لأن طعام الجنة باق أبدًا لا يفنى، ولا يجوز أن يكون شىء من دار البقاء فى دار الفناء، وقد قدر الله أن رزق الدنيا لا ينال إلا بالتعب فيه والنصب، ولا يبدل القول لديه، وأيضًا فإن طعام الجنة إنما شوق الله إليه عباده، ووعدهم نيله جزاءً لأعمالهم الصالحة، والدنيا ليست بدار جزاء، ولذلك لم يصح لهم فى الدنيا أخذه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 31 - باب صلاة النساء مع الرجال فى الكسوف / 38 - فيه: أَسْمَاءَ، قَالَتْ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ حِينَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ، وَإِذَا هِىَ قَائِمَةٌ تُصَلِّى، فَقُلْتُ: مَا لِلنَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَقُلْتُ: آيَةٌ؟ فَأَشَارَتْ، أَىْ نَعَمْ، قَالَتْ: فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلانِى الْغَشْىُ، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ فَوْقَ رَأْسِى الْمَاءَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (مَا مِنْ شَىْءٍ لَمْ أَرَهُ إِلا قَدْ رَأَيْتُهُ فِى مَقَامِى هَذَا حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ) - لا أَدْرِى أَيَّتَهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ - يُؤْتَى أَحَدُكُمْ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوِ الْمُوقِنُ - لا أَدْرِى أَىَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا، فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ صَالِحًا قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُومنًا، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوِ الْمُرْتَابُ - لا أَدْرِى أَيَّهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيَقُولُ: لا أَدْرِى، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ. فيه من الفقه: حضور النساء صلاة الكسوف مع الجماعة فى المساجد، ورخص مالك، والكوفيون للعجائز فى ذلك وكرهه للشابة، وقال الشافعى: لا أكره لمن لا هيئة لها بارعة من النساء ولا للصبية شهود صلاة الكسوف مع الإمام، بل أحبه لهن، وأحب لذات الهيئة أن تصليها فى بيتها، ورأى إسحاق أن يخرجن شبابًا كن أو عجائز، وإن كن حيضًا وتعتزل الحيض المسجد ويقربن منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 وفيه: جواز استماع المصلى إلى ما يخبره به من ليس فى صلاة. وفيه: جواز إشارة المصلى بيده ورأسه لمن يسأله مرة بعد أخرى؛ لأن أسماء قالت: (فقلت: آية؟) ، فأشارت عائشة: (أى نعم) ، فإنما أشارت برأسها وقد كانت أشارت قبل ذلك إلى السماء. وفيه: أن صلاة الكسوف قيامها طويل لقولها: (فقمت حتى تجلانى الغشى) ، وهو حجة لمالك، والشافعى على أبى حنيفة فى قوله: إن صلاة الكسوف إن شاء قصرها كالنوافل. وقولها: (فجعلت أصب فوق رأسى الماء) ، فيه دليل على جواز العمل اليسير فى الصلاة. وفيه: أن تفكر المصلى، ونظره إلى قبلته فى صلاته جائز؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما من شىء كنت لم أره إلا قد رأيته فى مقامى هذا وأوحى إلى أنكم تفتنون فى القبور) ، وذلك كله فى الصلاة. وفيه: أن فتنة القبور حق كما يقول أهل السنة. وفيه: أن من ارتاب فى تصديق النبى أَوْ شَكَّ فى صحة رسالته، فهو كافر، ألا ترى قول المنافق أو المرتاب: لا أدرى، فهذا لم يؤمن بالنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لما دخله من الارتياب والنفاق، ومن لم يدر فقد نفى عن نفسه التصديق، ثم زاد شكه بيانًا بقوله: (سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته) ، فأخبر أنه إنما جرى تصديق النبى على لسانه من أجل قول الناس ذلك لا من أجل اعتقاده لصحة ما جرى على لسانه وهذا هو حقيقة الريب أن يقول اللسان ما لا يعتقد صحته القلب. وفيه: أن تمام الإيمان وتمام العلم إنما هو المعرفة بالله ورسله، ومعرفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 الدلالة على ذلك؛ ألا ترى أن الرسول نفى الإيمان عمن يقول إذا سئل عن نبيه يقول: (لا أدرى سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته) . وفيه: ذم التقليد وأن المقلد لا يستحق اسم العلم التام على الحقيقة. فإن قال قائل: كيف قلت: إن تمام الإيمان، وتمام العلم هو المعرفة بالله ورسوله، ومعرفة الدلالة على ذلك، وقد روى عن السلف أنهم كانوا يقولون عليكم بدين العذارى، والعذارى لا علم عندهن بالدلالة على الإيمان، وإنما عليهن التقليد وأنت قد ذممت التقليد؟ . قيل: قد جاءت هذه الكلمة فى حديث عبيد الله بن عدى بن الخيار حين كلم خاله عثمان بن عفان فى أخيه الوليد بن عقبة، وقال له: (قد أكثر الناس فى شأن الوليد، فحق عليك أن تقيم عليه الحد، فقال: يا ابن أختى، أدركت رسول الله؟ فقلت: لا، ولكن قد خلص إلىّ من علمه ما خلص إلى العذارى فى سترها. . .) ، وذكر الحديث، ذكره البخارى فى كتاب فضائل الصحابة فى باب هجرة الحبشة. ومعنى قولهم: (دين العذارى) ، هو أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بلغ عن ربه دينه حتى وصل ذلك إلى العذارى فى خدورهن، فعلمنه خالصًا لم يُشب، وقد ألزم الله المؤمنين أن يعلموا ذريتهم حقيقة الإيمان بقوله: (قوا أنفسكم وأهليكم نارًا) [التحريم: 6] ، فكل مؤمن يُعَلِّمُ بنيه فى الصغر خالص الإيمان، وما يلزمه من فرائضه، ولا يعلمه اعتراض الملحدين ولا شبه الزائغين؛ لأن الجدال فيه ربما أورث شكا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 فإيمان العذارى التصديق الخالص الذى لا ريب فيه ولا شك، بخلاف أحوال المنافق والمرتاب الذى قال: (لا أدرى سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته) . ولم يُرد بقوله: (عليكم بدين العذارى) ، ترك معرفة الاستدلال على حقائق الإيمان والازدياد من العلم، هذا إبراهيم خليل الرحمن سأل ربه أن يريه كيف يحيى الموتى، وإنما سأله تعالى زيادة فى العلم ليطمئن بها قلبه، ولم يكن قبلها شاكًا. وهذه عائشة ترد على عبد الله بن عمر فى البكاء على الميت، وغير ذلك وتقول: رحم الله أبا عبد الرحمن إنما أراد رسولُ الله خلاف ما ذهب إليه ابن عمر، وترد على عروة بن الزبير تأويله فى الطواف بين الصفا والمروة، وقالت عائشة أيضًا: نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء من الفقه فى الدين، فحكمت لهن بالفقه فى الدين، والفقه فى لسان العرب هو معرفة الشىء ومعرفة الدلالة على صحته، فلا خلاف بين شىء من ذلك. وقوله: (تكعكعت) ، يعنى تأخرت يقال: كع الرجل: إذا نكص على عقبيه. 32 - باب من أحب العتاقة فى كسوف الشمس / 39 - فيه: أَسْمَاءَ قَالَتْ: لَقَدْ أَمَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، بِالْعَتَاقَةِ فِى كُسُوفِ الشَّمْسِ. إنما يخوف الله عباده بالآيات ليتقربوا إليه بالأعمال الصالحة كالصلاة والعتق والصدقة، وجاء أن العتق يفك المؤمن من النار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 وقد قرن الله فى كتابه العتق بالصدقة، فقال: (فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام فى يوم ذى مسغبة) [البلد: 11 - 14] ، وبأعمال البر كلها يدفع الله البلاء والنقم عن عباده. 33 - باب الذِّكْرِ فِى الْكُسُوفِ رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. / 40 فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَزِعًا فَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ، فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ رَأَيْتُهُ قَطُّ يَفْعَلُهُ، وَقَالَ: (هَذِهِ الآيَاتُ الَّتِى يُرْسِلُ اللَّهُ لا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ: (يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ) [الزمر 16] فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّه وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ) . وترجم له: (باب الدعاء فى الخسوف) ، وقد تقدم أن السنة عند نزول الآيات: الاستغفار والذكر والفزع إلى الله تعالى، بالدعاء وإخلاص النيات بالتوبة والإقلاع، وبذلك يكشف الله تعالى، ظاهر العذاب قال الله تعالى: (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) [الأنعام: 43] . قال المهلب قوله: (قام فزعًا يخشى أن تقوم الساعة) ، يدل أن الكسوف كان بالشمس كلها، ولم يعهد مثله قبل ذلك، وكان ذلك قبل أن يُعلمه الله بأشراط الساعة ومقدماتها، ولم يسرع انجلاؤه ولذلك أطال الصلاة فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 34 - باب قول الإمام فى خطبة الكسوف: أما بعد / 41 - فيه: أَسْمَاءَ، قَالَتْ: انْصَرَفَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ) . قد تقدم هذا الباب فى أبواب الجمعة، فأغنى عن إعادته. 35 - باب الصلاة فى كسوف القمر / 42 - فيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، فَانْجَلَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ: (إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَإِنَّهُمَا لا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَصَلُّوا وَادْعُوا. .) الحديث. اختلف العلماء فى خسوف القمر هل يجمع له للصلاة، فذهبت طائفة إلى أنه يجمع فيه كما يجمع فى كسوف الشمس سواء، روى ذلك عن عثمان بن عفان، وابن عباس، وبه قال النخعى، وعطاء، والحسن، وإليه ذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأهل الحديث، واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) فى هذا الحديث: (فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا) ، قالوا: قد عرفنا كيف الصلاة فى أحدهما، فكان ذلك دليلاً على الصلاة عند الأخرى، وإلى هذا المعنى أشار البخارى فى ترجمته، ولذلك ذكر كسوف الشمس وترجم عليه الصلاة فى كسوف القمر استغناء بذكر أحدهما عن الأخرى. وقال مالك، والكوفيون: لا يجمع فى كسوف القمر، ولكن يصلى الناس فرادى ركعتين ركعتين كسائر النوافل، غير أن الليث قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 هيئة الصلاة فيه كهيئة الصلاة فى كسوف الشمس، وهو قول عبد العزيز بن أبى سلمة. وحجة مالك ومن وافقه أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، جمع فى كسوف الشمس ولم يجمع فى كسوف القمر، فعلم أن معنى قوله: (فافزعوا إلى الصلاة) ، فى كسوف القمر: فرادى، وفى كسوف الشمس: جماعة. قال ابن القصار: وأهل المدينة بأسرهم على هذا، والمعهود أن كسوف القمر يقع أبدًا ولا يكاد يخلو منه عام، وكسوف الشمس نادر، ومحال أن يكون كسوف القمر مألوفًا، والنبى (صلى الله عليه وسلم) ، يجمع له مدة حياته فيهم، ثم يخفى عليهم ذلك جملة، وبقول مالك: لم يبلغنا ولا أهل بلدنا أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، جمع لكسوف القمر، ولا نُقل عن أحد من الأئمة بعد النبى أنه جمع فيه. قال المهلب: ويمكن أن يكون مع تركه، والله أعلم، الجمع فى كسوف القمر رحمةً للمؤمنين لئلا تخلو بيوتهم بالليل، فيحطمهم الناس ويسرقونهم، يدل على ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) ، لأم سلمة، ليلة نزول التوبة على كعب بن مالك وصاحبيه، حين قالت له: (ألا أبشر الناس؟ فقال (صلى الله عليه وسلم) : أخشى أن يحطمكم الناس) ، فى حديث آخر: (أخشى أن يمنع الناس نومَهمُ) . وقد قال تعالى: (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه) [القصص: 73] ، فجعل السكون فى الليل من النعم التى عدّدها على عباده، وقد سمى ذلك رحمة، وقد أشار ابن القصار إلى نحو هذا المعنى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 فقال: خسوف القمر يتفق ليلاً، فيشق الاجتماع له، وربما أدرك الناسَ نيامًا، فيثقل عليهم الخروج لها، ولا ينبغى أن يقاس على كسوف الشمس؛ لأنه يدرك الناس مستيقظين منصرفين، ولا يشق اجتماعهم كالعيدين والجمعة والاستسقاء، ولم نر صلاة جمعة ولا عيد ولا استسقاء جعلت بالليل. 36 - باب الركعة الأولى فى الكسوف أطول / 43 - فيه: عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى بِهِمْ فِى كُسُوفِ الشَّمْسِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي سَجْدَتَيْنِ، الأوَّلُ الأوَّلُ أَطْوَلُ. أجمع العلماء أن القيام الثانى والركوع الثانى من الركوع الأول فى صلاة الكسوف أقصر من القيام ومن الركوع الأول؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (دون القيام الأول ودون الركوع الأول) ، وكذلك أجمعوا أن القيام، والركوع الثانى من الركعة الثانية أقصر من الأول منها. واختلف فى القيام والركوع الأول من الركعة الثانية هل هو دون الثانى من الركعة الأولى أو مثله، وهل يرجع قوله (صلى الله عليه وسلم) : (دون القيام الأول) ، إلى الركعة الأولى، أو إلى الثانية منها، فقال قوم: يرجع إلى الأولى من الركعة الأولى، وقال قوم: بل يرجع إلى القيام، والركوع الثانى من الركعة الأولى، وهذا قول مالك فى المدونة: أن كل ركعة من الأربع أطول من التى تليها، وقوله فى حديث عائشة: (الأولى الأولى أطول) ، حجة لقول مالك، وهذا كله حجة على أبى حنيفة فى قوله: إنها ركعتان كسائر النافلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 37 - باب الجهر بالقراءة فى الكسوف / 44 - فيه: الْوَلِيدُ، عَنْ ابْنُ نَمِرٍ، عَنْ ابْنَ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جهر النبى (صلى الله عليه وسلم) فى صلاة الكسوف بقراءته. . . الحديث. وَقَالَ الأوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، فَبَعَثَ مُنَادِيًا أَنَّ الصَّلاةُ جَامِعَةٌ، فَتَقَدَّمَ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فِى رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ نَمِرٍ، سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ مِثْلَهُ، فَقُلْتُ: مَا صَنَعَ أَخُوكَ فى ذَلِكَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، مَا صَلَّى إِلا رَكْعَتَيْنِ مِثْلَ الصُّبْحِ؛ إِذْ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: أَجَلْ إِنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ. تابعه سليمان بن كثير وسفيان بن حسين، عن الزهرى فى الجهر. اختلف العلماء فى القراءة فى صلاة الكسوف، فقالت طائفة: يجهر بها، روى ذلك عن على بن أبى طالب، وبه قال أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بحديث سفيان، وابن نمر، عن الزهرى. وقالت طائفة: يُسِرُّ بالقراءة فيها، روى ذلك عن عثمان بن عفان، وابن مسعود، وابن عباس، وهو قول مالك، والليث، والكوفيين، والشافعى، واحتجوا بحديث ابن عباس: (أنه صلى خلف النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقرأ قراءة طويلة نحوًا من سورة البقرة) ، وقد تقدم فى باب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 صلاة الكسوف جماعة، ولو جهر بها لم يقل نحوًا من سورة البقرة، وأما سفيان بن حسين، وعبد الرحمن بن نمر، وسليمان بن كثير، فكلهم ضعيف فى حديث الزهرى، وفيما ساقه البخارى من رواية الأوزاعى عن ابن شهاب، ولم يذكر عنه الجهر ما يردُّ رواية الوليد عن ابن نمر بالجهر، فيبقى سليمان بن كثير، وسفيان بن حسين، وليسا بحجة فى القول عن الزهرى لضعفهما، وقد عارضهما حديث عائشة، وابن عباس، وسمرة. فأما حديث عائشة فرواه ابن إسحاق عن هشام بن عروة، وعبد الله بن أبى سلمة، عن عروة، عن عائشة قالت: (كسفت الشمس على عهد الرسول، فخرج فصلى بالناس فأطال القيام، فَحزَرْتُ أنه قرأ سورة البقرة، قالت: وسجد سجدتين، ثم قام فحزرت أنه قرأ سورة آل عمران) . وأما حديث ابن عباس، فرواه ابن لهيعة عن يزيد بن أبى حبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: (كنت إلى جنب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى صلاة الكسوف فما سمعت منه حرفًا) . وأما حديث سمرة فرواه سفيان، عن الأسود بن قيس، عن ثعلبة بن عباد، عن سمرة ابن جندب، قال: (صلى بنا النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلاة الكسوف لا نسمع له صوتًا) . قال ابن القصار: ونقل السر فى صلاة الكسوف أهل المدينة خلف عن سلف نقلاً متصلاً، ولو تعارضت الأحاديث لبقى حديث ابن عباس وهو حجة. وقوله: (أخطأ السنة) ، حجة لمالك والشافعى فى أن السنة أربع ركعات فى ركعتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 38 - باب ما جاء فى سجود القرآن وسنَّتها / 45 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: قَرَأَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، النَّجْمَ بِمَكَّةَ فَسَجَدَ فِيهَا، وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ غَيْرَ شَيْخٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ، وَقَالَ: يَكْفِينِى هَذَا، فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا. اختلف العلماء فى سجود النجم لاختلافهم فى سجود المفصل، فروى عن عمر، وعثمان، وعلى، وابن مسعود، وابن عمر، وأبى هريرة أنهم كانوا يسجدون فى النجم والمفصل، وهو قول الثورى، وأبو حنيفة، والليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وابن وهب، وابن حبيب من أصحاب مالك، واحتجوا بهذا الحديث. وقالت طائفة: لا سجود فى النجم ولا فى المفصل، روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وأبى بن كعب، وابن عباس، وأنس، وعن سعيد بن المسيب، والحسن، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وقال يحيى بن سعيد: أدركت القراء لا يسجدون فى شىء من المفصل، وهو قول مالك، واحتج من لم يرَ السجود فى النجم بما ذكره البخارى عن زيد بن ثابت: (أنه قرأ الرسول والنجم، فلم يسجد فيها) ، وبما رواه قتادة عن عكرمة قال: (سجد رسول الله بمكة فى المفصل، فلما هاجر ترك) . واحتج الطبرى لأهل المقالة الأولى، فقال: يمكن أن يكون (صلى الله عليه وسلم) ، لم يسجد فيها؛ لأن زيدًا لم يسجد فيها، وإنما القارئ هو الذى يسجد فيسجد السامع، ويمكن أن يكون ترك السجود فيها؛ ليدل أن سجود القرآن ليس منه شىء واجب، قال الطحاوى: ويمكن أن يكون قرأها فى وقت لا يحل فيه السجود أو لأنه كان على غير وضوء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 واحتج ابن القصار لمذهب مالك فقال: إذا اعتبرنا سجود النجم والمفصل وجدناه يخرج من طريق سائر السجدات؛ لأن قوله فى النجم: (فاسجدوا لله واعبدوا) [النجم: 62] ، إنما هو أمر بالسجود، فوجب أن يتوجه إلى سجود الصلوات، فقوله: (اسجد) ، أى: صل، فلم يلزم ما ذكروه. قال الطحاوى أيضًا: والنظر على هذا أن يكون كل موضع اختلف فيه هل هو سجود أم لا، أن ينظر فيه، فإن كان موضع أمر، فإنما هو تعليم فلا سجود فيه، وكل موضع فيه خبر عن السجود فهو موضع سجود التلاوة. قال المهلب: يمكن أن يكون اختيار من اختار من العلماء ترك السجود فى (والنجم) ، والمفصل خشية أن يخلط على الناس صلاتهم؛ لأن المفصل هو أكثر ما يقرأ فى الصلوات، وقد أشار مالك إلى هذا. وأما الذى أخذ كفا من حصى وترك السجود مع الرسول ففيه أنه من خالف النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، استهزاءً به: كافر يعاقب فى الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) [النور: 63] ، فكذلك أصاب هذا الشيخ فتنة وكفر، ويُصيبه فى الآخرة عذاب أليم، وقيل: إنه الوليد ابن المغيرة. 39 - باب سجدة تنزيل السجدة / 46 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، يَقْرَأُ فِى الْجُمُعَةِ فِى صَلاةِ الْفَجْرِ) الم تَنْزِيلُ) [السجدة 1 - 2] وَ) هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ) [الإنسان 1] . والفقهاء مجمعون على السجود فى سورة تنزيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 40 - باب سجدة ص / 47 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: (ص) لَيْسَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ الرسول يَسْجُدُ فِيهَا. اختلف العلماء فى السجود فى ص، فقالت طائفة: لا سجود فيها، روى ذلك عن ابن مسعود، وقال: هى توبةُ نَبِىٍّ، وروى مثله عن عطاء، وبه قال الشافعى. وقالت طائفة بالسجود فيها، روى ذلك عن عمر، وعثمان، وابن عمر، وعقبة بن عامر، وعن سعيد بن المسيب، والحسن، وطاوس، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والثورى، وقد روى عن ابن عباس مثله، ذكره البخارى فى كتاب الأنبياء عن مجاهد أنه سأل ابن عباس: أَأسْجُدُ فى ص؟ ، فقرأ: (ومن ذريته داود وسليمان (حتى انتهى: (فبهداهم اقتده) [الأنعام: 84 - 90] ، فقال: نبيكم ممن أمر أن يقتدى بهم، فاحتجاج ابن عباس بالقرآن أولى من قوله: ليس ص من عزائم السجود. وقال مالك: إنها من عزائم السجود، وقال الطحاوى: والنظر عندنا أن يكون فى ص سجدة؛ لأن موضع السجود منها موضع خبر لا موضع أمر، فينبغى أن يرد إلى حكم أشكاله من الأخبار، فيكون فيها سجود. واختلفوا فى عزائم السجود، فقال على بن أبى طالب: عزائم السجود أربع: (ألم تنزيل، وحم تنزيل، والنجم، واقرأ باسم ربك) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 وعن ابن مسعود: (العزائم خمسة: الأعراف، وبنو إسرائيل، والنجم، واقرأ باسم ربك، وإذا السماء انشقت) . وعن ابن جبير: عزائم السجود ثلاث: ألم تنزيل، والنجم، واقرأ باسم ربك. وقال مالك: عزائم السجود إحدى عشرة ليس فى المفصل منها شىء، وليس فيها الثانية من الحج. وقال أبو يوسف: أربع عشرة وليس فيها الأولى من الحج، وقال الشافعى: أربع عشرة ليس فيها سجدة ص؛ لأنها سجدة شكر، وفى الحج سجدتان عنده. 41 - باب سُجُودِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكُ نَجَسٌ لَيْسَ لَهُ وُضُوءٌ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْجُدُ عَلَى وُضُوءٍ . / 48 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، قرأ والنَّجْمِ فَسَجَدَ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالإنْسُ. ووقع فى نسخة الأصيلى: (وكان ابن عمر يسجد على وضوء) ، وكذلك عند أبى الهيثم عن الفربرى، ووقع فى بعض النسخ (على غير وضوء) ، وهكذا فى رواية ابن السكن بإثبات (غير) والصواب: رواية ابن السكن بإثبات (غير) ؛ لأن المعروف عن ابن عمر أنه كان يسجد على غير وضوء، ذكره ابن أبى شيبة قال: حدثنا محمد بن بشر، ثنا زكريا بن أبى زائدة قال: حدثنا أبو الحسن، يعنى عبيد بن الحسن، عن رجل زعم أنه كنفسه عن سعيد بن جبير قال: كان عبد الله بن عمر ينزل عن راحلته فيهريق الماء، ثم يركب فيقرأ السجدة فيسجد وما يتوضأ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 وذكر وكيع، عن زكريا، عن الشعبى فى الرجل يقرأ السجدة وهو على غير وضوء قال: يسجد حيث كان وجهه. وذهب فقهاء الأمصار إلى أنه لا يجوز سجود التلاوة إلا على وضوء، فإن ذهب البخارى إلى الاحتجاج بقول ابن عمر، والشعبى: نسجد مع المشركين، فلا حجة فيه؛ لأن سجود المشركين لم يكن على وجه العبادة لله والتعظيم له، وإنما كان لما ألقى الشيطان على لسان الرسول من ذكر آلهتهم من قوله: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) [النجم: 20، 21] ، فقال: تلك الغرانيق العُلى، وإن شفاعتهم لترتجى، فسجدوا لما سمعوا من تعظيم آلهتهم، فلما علم الرسول ما ألقى الشيطان على لسانه من ذلك أشفق وحزن له، فأنزل الله عليه تأنيسًا له وتسلية عما عرض له: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته (إلى) حكيم) [الحج: 52] ، أى: إذا تلا ألقى الشيطان فى تلاوته، فلا يُستنبط من سجود المشركين جواز السجود على غير وضوء؛ لأن المشرك نجس لا يصح له وضوء ولا سجود إلا بعد عقد الإسلام. وإن كان أراد البخارى الرد على ابن عمر، والشعبى بقوله: والمشرك نجس ليس له وضوء، فهو أشبه بالصواب، إن شاء الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 42 - باب مَنْ قَرَأَ السَّجْدَةَ وَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا / 49 - فيه: زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)) وَالنَّجْمِ (فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا. هذا الحديث حجة لمالك والشافعى أن سجود القرآن سنة، ولو كان واجبًا كما زعم الكوفيون لم يترك زيد السجود فيها، ولا تركه النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه بعث معلمًا، وحديث زيد هذا يبين حديث ابن مسعود أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، حين سجد فى (والنجم) ، بمكة أن ذلك كان إعلامًا منه لأمته أن قارئ السجدة بالخيار، إن شاء سجد فيها، وإن شاء لم يسجد، وكذلك فعل عمر فى (النحل) سجد فيها مرةً ولم يسجد فيها أخرى؛ ليُرى أن ذلك غير واجب، وقال: إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء، وسيأتى زيادة فى هذا المعنى فى بابه، إن شاء الله تعالى. 43 - باب سَجْدَةِ) إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ( / 50 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَرَأَ) إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (فَسَجَدَ فيهَا، فَقَالَ أَبُو سلمة: أَلَمْ أَرَكَ تَسْجُدُ؟ قَالَ: لَوْ لَمْ أَرَ رسول الله يَسْجُدُ لَمْ أَسْجُدْ. من قال بالسجود فى المفصل يرى السجود فى هذه السورة، وقد تقدم الاختلاف فى ذلك، واحتج بهذا الحديث من قال بالسجود فى المفصل، وقالوا هذا الحديث يَرُدُّ ما روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه لم يسجد فى المفصل منذ تحول إلى المدينة؛ لأن أبا هريرة كان إسلامه بالمدينة، وروى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، سجد فى (إذا السماء انشقت) ، فكيف يقال إنه بعدما هاجر لم يسجد فى المفصل؟ ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 واحتج الكوفيون وقالوا: النظر أن يكون فى (إذا السماء انشقت) ، سجود؛ لأن قوله تعالى: (فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) [الأنشقاق: 20، 21] ، إخبار لا أمر، وسجود التلاوة إنما هو فى موضع الإخبار، وموضع الأمر إنما هو تعليم فلا سجود فيه، وهذا قول الطحاوى. واحتج من قال: لا سجود فى المفصل فقالوا: معنى سجود التلاوة ما كان على وجه المدح والذم، وسجدة (إذا السماء انشقت) ، خارجة عن هذا المعنى؛ لأن قوله تعالى: (فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) [الانشقاق: 20، 21] ، إنما يعنى أى لا يسجدون بعد الإيمان السجود المذكور فى القرآن للصلاة، وهذا ليس بخطاب للمؤمنين؛ لأنهم يسجدون مع الإيمان سجود الصلاة، هذا قول ابن القصار. قال المهلب: وأما قول أبى سلمة لأبى هريرة: (ألم أرَك تسجد) ، يعنى: ألم أرَك تسجد فى سورة ما رأيت الناس يسجدون فيها، هكذا رواه الليث، عن ابن الهاد، عن أبى سلمة، فهذا يدل أنه لم يكن العمل عندهم على السجود فى (إذا السماء انشقت) ، كما قال مالك وأهل المدينة، فأنكر عليه سجوده فيها، ولا يجوز إنكار ما عليه العمل، فهذا يدل أنها ليست من العزائم. 44 - باب مَنْ سَجَدَ لِسُجُودِ الْقَارِئِ / 51 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ (صلى الله عليه وسلم) ، يَقْرَأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ فِيهَا السَّجْدَةُ فَيَسْجُدُ، وَنَسْجُدُ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَوْضِعَ جَبْهَتِهِ. وترجم له: (باب ازدحام الناس إذا قرأ الإمام السجدة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 أجمع فقهاء الأمصار أن التالى إذا سجد فى تلاوته لزم الجالس إليه المستمع له أن يسجد بسجوده، وقال عثمان: إنما السجدة على من سمعها. واختلفوا فى التالى إذا قرأ السجدة ولم يسجد فيها هل يسجد المستمع لقراءته أم لا؟ ، فقال ابن القاسم فى (المدونة) : على الذين جلسوا إليه أن يسجدوا وإن لم يسجد، وذكر ابن المنذر مثله عن الشافعى قال: إن أحب المستمع أن يسجد فليسجد. وقال ابن حبيب: لم أرَ أحدًا قال بقول ابن القاسم فى ذلك، وسمعت مطرفًا، وابن الماجشون، وابن عبد الحكم، وأصبغ يقولون: لا يسجدوا؛ لأنه إمامهم، قال: وهو الصواب؛ لأن القارئ لو كان فى صلاة ولم يسجد لم يسجد من معه، فكذلك هذا. وفى المدونة: كره مالك أن يجلس قوم إلى قارئ يستمعون قراءته؛ ليسجدوا معه إذا سجد، وأنكر ذلك إنكارًا شديدًا، قال: وأرى أن يقام وينهى ولا يجلس إليه. وقال ابن شعبان: قال مالك: فإن لم ينته وقرأ لهم فمرّ بسجدة لم يسجد ولم يسجدوا، وقد قال مالك أيضًا: أرى أن يسجدوا معه. قال المهلب: وقوله: (فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته) ، فيه الحرص على فعل الخير والتسابق إليه، وفيه لزوم متابعة أفعال النبى (صلى الله عليه وسلم) على كمالها، ويحتمل أن يكون سجدوا عند ارتفاع الناس وباشروا الأرض، ويحتمل أن يسجد ببلوغ طاقتهم من الإيماء فى ذلك، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 45 - باب مَنْ رَأَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُوجِبِ السُّجُودَ وَقِيلَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: الرَّجُلُ يَسْمَعُ السَّجْدَةَ وَلَمْ يَجْلِسْ لَهَا؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ قَعَدَ لَهَا، كَأَنَّهُ لا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ سَلْمَانُ: مَا لِهَذَا غَدَوْنَا. وَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنِ اسْتَمَعَهَا. وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: لا تسْجُدُ إِلا أَنْ وَأَنْتَ طَاهِرًا، فَإِذَا سَجَدْتَ، وَأَنْتَ فِى حَضَرٍ، فَاسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، فَإِنْ كُنْتَ رَاكِبًا فَلا عَلَيْكَ حَيْثُ كَانَ وَجْهُكَ، وَكَانَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ لا يَسْجُدُ لِسُجُودِ الْقَاصِّ. / 52 - وفيه: عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ، وَسَجَدَ النَّاسُ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ، قَرَأَ بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ، قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ، فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ، وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ. وَزَادَ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ السُّجُودَ إِلا أَنْ نَشَاءَ. اختلف الفقهاء فى سجود القرآن، فقال مالك، والليث، والأوزاعى، والشافعى: سجود القرآن سنة، وقال أبو حنيفة: هو واجب، واحتج أصحابه لوجوبه بقوله تعالى: (وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) [الانشقاق: 21] ، قالوا: والذم لا يتعلق إلا بترك الواجبات، وبقوله: (واسجد واقترب) [العلق: 19] ، وقالوا: هذا أمر. قال ابن القصار: فالجواب أن الذم هاهنا للكفار بأنهم لا يؤمنون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون، فعلق الذم بترك الجميع؛ لأنهم لو سجدوا ألف مرة فى النهار مع كونهم كفارًا كان الذم لاحقًا بهم، فعلمنا أن الذم لم يختص السجود، ويزيد هذا بيانًا قوله تعالى: (بل الذين كفروا يكذبون) [الانشقاق: 22] ، فلم يقع الوعيد إلا على التكذيب، وقوله: (واسجد واقترب) [العلق: 19] ، هو أمر له بالصلاة وتعليم له، وقد تقدم أن سجود القرآن إنما هو ما جاء بلفظ الخبر، وما جاء بلفظ الأمر إنما هو إعلام له بالصلاة وأمر له بالسجود فيها. وما ذكره البخارى فى هذا الباب عن الصحابة من تركهم السجود ولا مخالف لهم فهو حجة لمن لا يوجبه؛ لأن الفرض لا يجوز تركه، ولا يجوز أن يكون عند بعضهم أنه واجب ويسكت عن الإنكار على غيره فى قوله: (ومن لم يسجد فلا إثم عليه) ، ألا ترى قول عمر: (إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء) . قال المهلب: وفى فعل عمر دليل على أن على العلماء أن يبيِّنوا كيف لزوم السنن إن كانت على العزم أو الندب والإباحة، وكان عمر من أشد الناس تعليمًا للمسلمين كما تأول له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى الرؤيا أنه استحالت الذَّنُوب بيده غربًا فتأول له العلم، ألا ترى إلى قول عمر حين رأى أنه قد بلغ من تعليم الناس إلى غاية رضيها قال: قد سُنَّتْ لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتم على الواضحة، فأعلمنا بهذا القول أنه يجب أن يفصل بين السنن والفرائض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 46 - باب مَنْ قَرَأَ السَّجْدَةَ فِى الصَّلاةِ فَسَجَدَ بِهَا / 53 - فيه: أَبُو رَافِع قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِى هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ، فَقَرَأَ) إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (فَسَجَدَ فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ؟ قَالَ: سَجَدْتُ بِهَا خَلْفَ أَبِى الْقَاسِمِ، فَلا أَزَالُ أَسْجُدُ بهَا حَتَّى أَلْقَاهُ. فى هذا الحديث حجة لقول الشافعى، والثورى أنه من قرأ سجدة فى صلاة مكتوبة أنه لا بأس أن يسجد فيها، إلا الذين لا يرون السجود فى المفصل لا يرون السجود فى هذه السورة، فإن فعل فلا حرج عندهم فى ذلك، وقد كره مالك قراءة سجدة فى صلاة الفريضة فيما يجهر به كرة، وفيما لا يجهر به مرة، وأجازه أخرى. وقال ابن حبيب: لا يقرأ الإمام السجدة فيما يسر فيه، ويقرأها فيما يجهر فيه، وروى مثله عن أبى حنيفة، ومنع ذلك أبو مجلز، ذكره الطبرى عنه أنه كان لا يرى السجود فى صلاة الفريضة، وزعم أن ذلك زيادة فى الصلاة ما ليس فيها، ورأى أن السجود فيها غير الصلاة. قال الطبرى: وحديث أبى هريرة شاهد بخلاف قول أبى مجلز، ودليل كاف يقضى بصحة قول الجماعة، وبه عمل السلف من الصحابة وعلماء الأمة. روى عن عمر بن الخطاب أنه صلى الصبح فقرأ: (والنجم (فسجد فيها، وقرأ مرة فى الصبح: (الحج (فسجد فيها سجدتين، وقال ابن مسعود فى السورة يكون آخرها سجدة: إن شئت سجدت بها، ثم قمت فقرأت وركعت، وإن شئت ركعت بها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 وقال الطحاوى: إنما قرأ الرسول السجدة فى العتمة والصبح، وهذا فيما جهر فيه، وإذا سجد فى قراءة السر لم يدر الناس لم سجد للتلاوة فى الصلاة أم غيرها أو سجود شكر، فيسجدون من غير علم لما سجدوا له. وفى حديث أبى هريرة حجة لمن قال: إن سجدة: (إذا السماء انشقت (ليست من عزائم السجود، لترك السلف السجود فيها، ولذلك أنكر أبو رافع على أبى هريرة سجوده فيها كما أنكره عليه أبو سلمة. وقول أبى هريرة: (سجدت بها خلف أبى القاسم، فلا أزال أسجد بها) يحتمل أن يكون سجد بها خلفه، ولم يواظب (صلى الله عليه وسلم) على السجود فيها، ولذلك أجمع الناس على تركها، ولو واظب عليه لم يخف ذلك عليهم ولا تركوها. 47 - باب مَنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا لِلسُّجُودِ مَعَ الإمَامِ مِنَ الزِّحَامِ / 54 - فيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَقْرَأُ السُّورَةَ الَّتِى فِيهَا السَّجْدَةُ، فَيَسْجُدُ، وَنَسْجُدُ مَعَهُ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَكَانًا لِمَوْضِعِ جَبْهَتِهِ. قال المؤلف: لم أجد فى هذه المسألة نصا للعلماء، ووجدت أقوالهم فيمن لا يقدر على السجود على الأرض من الزحام فى صلاة الفريضة، فكان عمر بن الخطاب يقول: يسجد على ظهر أخيه، وبه قال: الثورى، والكوفيون، والشعبى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وقال نافعى، مولى ابن عمر: يومئ إيمًاء. وقال عطاء، والزهرى: يمسك عن السجود فإذا رفعوا سجد. وهو قول مالك وجميع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 أصحابه، وقال مالك: إن سجد على ظهر أخيه يعيد الصلاة. وذكر ابن شعبان فى مختصره عن مالك قال: يعيد فى الوقت وبعده. وقال أشهب: يعيد فى الوقت لقول عمر: اسجد ولو على ظهر أخيك. فعلى قول من أجاز السجود فى صلاة الفريضة من الزحام على ظهر أخيه فهو أجوز عنده فى سجود القرآن، لأن السجود فى الصلاة فرض وليس سجود القرآن بفرض. وعلى قول عطاء، والزهرى، ومالك الذين لا يجيزون السجود فى الصلاة من الزحام وغيره إلا على الأرض، يحتمل أن يجوز عندهم سجود التلاوة فى الصلاة على ظهر رجل وإيماء على غير الأرض، كقول الجمهور، لما قدمنا من الفرق بين سجود التلاوة وبين سجود الصلاة، ويحتمل خلافهم، واحتمال وفاقهم أشبه بدليل حديث ابن عمر، وهو المقنع فى ذلك، إن شاء الله تعالى. بسم الله الرحمن الرحيم أَبْوَاب تَقْصِيرِ الصَّلاةِ 48 - باب مَا جَاءَ فِي التَّقْصِيرِ، وَكَمْ يُقِيمُ حَتَّى يَقْصُرَ؟ / 55 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَقَامَ الرَسُول تِسْعَةَ عَشَرَ يومًا يَقْصُرُ، فَنَحْنُ إِذَا سَافَرْنَا تِسْعَةَ عَشَرَ يومًا قَصَرْنَا، وَإِنْ زِدْنَا أَتْمَمْنَا. / 56 - فيه: أَنَس، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَكَانَ يُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، قُلْتُ: أَقَمْتُمْ بِمَكَّةَ شَيْئًا؟ قَالَ: (أَقَمْنَا بِهَا عَشْرًا) . إنما أقام الرسول تسعة عشر يومًا يقصر، لأنه كان محاصرًا فى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 حصار الطائف أو حرب هوازن، فجعل ابن عباس هذه المدة حدًا بين القصر والإتمام، لقوله: (فنحن إذا سافرنا تسعة عشر يومًا قصرنا وإن زدنا أتممنا) . قال المهلب: والفقهاء لا يتأولون هذا الحديث كما تأوله ابن عباس ويقولون: إنه كان (صلى الله عليه وسلم) فى هذه المدة التى ذكرها ابن عباس غير عازم على الاستقرار، لأنه كان ينتظر الفتح، ثم يرحل بعد ذلك، فظن ابن عباس أن التقصير لازم إلى تسعة عشر يومًا، ثم ما بعد ذلك حضر تتم فيه الصلاة، ولم يرع نيته فى ذلك. وقد روى جابر بن عبد الله أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة. ذكره عبد الرزاق. وروى ابن عيينة عن ابن أبى نجيح أنه سأل سالم بن عبد الله كيف كان ابن عمر يصنع؟ قال: إذا أجمع المكث أتم، وإذا قال: اليوم وغدًا قصر الصلاة، وإن مكث عشرين ليلة. والعلماء مجمعون على هذا لا يختلفون فيه، وتأول الفقهاء فى حديث أنس أيضًا أن إقامته (صلى الله عليه وسلم) بمكة لا استيطانًا لها لئلا يكون رجوعًا فى الهجرة، وقد روى عن ابن عباس أيضًا: أما من نوى إقامة عشر ليال أنه يتم الصلاة، وهو قول له آخر خلاف تأويله للحديث، ولا أعلم أحدًا من أئمة الفتوى قال بحديث ابن عباس وجعل تسعة عشر يومًا حدًا للتقصير فهو مذهب له انفرد به، وقد ذكر ابن أبى شيبة عن حفص، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس أن نبى الله أقام سبع عشرة يقصر الصلاة؛ قال ابن عباس: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 من أقام سبع عشرة قصر الصلاة، ومن أقام أكثر من ذلك أتم، وإنما جاء هذا الحديث، والله أعلم، من الرواة، وروى عباد بن منصور، عن عكرمة تسع عشرة، كما روى البخارى، ولم يقل سبع عشرة أحد من الفقهاء أيضًا إلا الشافعى، فإنه قال: من أقام بدار الحرب خاصة سبع عشرة ليلة قصر. وسأذكره فى هذا الباب، إن شاء الله. وأما حديث أنس فروى عن على، وابن عباس أنه إذا نوى إقامة عشر ليال أتم الصلاة. وسيأتى اختلاف العلماء فى هذه المسألة بعد هذا فى باب كم أقام النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى حجته. وأذكر فيه طرفًا من أقوالهم وحجتهم فى ذلك. وتأويل الفقهاء فى حديث أنس أيضًا أن إقامته (صلى الله عليه وسلم) بمكة عشرًا كانت بنية الرحيل، وكانت العوائق تمنعه من ذلك، فما كان على نية الرحيل فإنه يقصر فيه وإن أقام مدة طويلة بإجماع العلماء. وفى حديث ابن عباس من الفقه ما ذهب إليه مالك، وأبو حنيفة وأحد قولى الشافعى: أنه من كان فى أرض العدو من المسلمين ونوى الإقامة مدة يتم المسافر فى مثلها الصلاة أنه يقصر الصلاة، لأنه لا يدرى متى يرحل. قال ابن القصار: والقول الثانى للشافعى الذى خالف فيه الفقهاء، قال: إن كان المقيمون بدار الحرب ينتظرون الرجوع كل يوم فإنه يجوز لهم أن يقصروا إلى سبعة عشر يومًا أو ثمانية عشر يومًا، فإذا جاوزوا هذا المقدار أتموا، واحتج بأن الرسول أقام بهوازن هذه المدة يقصر، وقوله الأول الموافق للفقهاء أولى، لأن إقامة من كان بدار الحرب ليست بإقامة صحيحة، وإنما هى موقوفة على ما يتفق لهم من الفتح لأن أرض العدو ليست بدار إقامة للمسلمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 وقد روى جابر أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أقام بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة، وأقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يحارب ويقصر، وأقام أنس بنيسابور سنتين يقصر الصلاة، وفعله جماعة من الصحابة. 49 - باب الصَّلاةِ بِمِنًى / 57 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَمَعَ عُثْمَانَ صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِهِ، ثُمَّ أَتَمَّهَا. / 58 - وفيه: حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، آمَنَ مَا كُنَا بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ. / 59 - وفيه: عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ قَالَ: صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِى بَكْرٍ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، فَلَيْتَ حَظِّى مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ. اتفق العلماء على أن الحاج القادم مكة يقصر الصلاة بها وبمنى وسائر المشاهد، لأنه عندهم فى سفر، إذ ليست مكة دار إقامة إلا لأهلها أو لمن أراد الإقامة بها، وكان المهاجرون قد فرض عليهم ترك المقام بها، فلذلك لم يَنْوِ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الإقامة بمكة ولا بمنى. واختلف الفقهاء فى صلاة المكى بمنى، فقال مالك: يتم المكى بمكة ويقصر بمنى، وكذلك أهل منى يتمون بمنى ويقصرون بمكة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 وعرفات، وجعل أن هذه المواضع مخصوصة بذلك، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لما قصر بعرفة لم يميز من وراءه، ولم يقل: يا أهل مكة أتموا، وهذا موضع بيان، وكذلك عمر بن الخطاب بعده قال لأهل مكة: يا أهل مكة، أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر. وممن روى عنه أن المكى يقصر بمنى: ابن عمر، وسالم، والقاسم، وطاوس، وبه قال الأوزاعى، وإسحاق. وقالت طائفة: لا يقصر الصلاة أهل مكة بمنى وعرفات، لأنه ليس بينهما مسافة ما تقصر فيه الصلاة. روى ذلك عن عطاء، والزهرى، وهو قول الثورى، والكوفيين، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، قالوا: وفى قول عمر بن الخطاب لأهل مكة: أتموا صلاتكم، ما أغنى أن يقول ذلك بمنى. قال الطحاوى: ليس الحج موجبًا للقصر، لأن أهل منى وعرفات إذا كانوا حجاجًا أتموا، وليس هو متعلقًا بالموضع، وإنما هو متعلق بالسفر، وأهل مكة مقيمون هناك فلا يقصرون، ولما كان المعتمر لا يقصر لو خرج إلى منى كذلك الحاج. واحتج أهل المقالة الأولى بحديث حارثة بن وهب، قال: (صلى بنا النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ونحن أكثر ما كنا قط وآمنَ بمنى ركعتين) . وحارثة كانت أمه تحت عمر بن الخطاب، فولدت له عبد الله، وكانت دار حارثة بمكة، ولو لم يجز لأهل مكة القصر بمنى لقال حارثة: وأتممنا نحن، أو قال لنا: أتموا، لأنه (صلى الله عليه وسلم) يلزمه البيان لأمته فثبت القصر بمنى لأهل مكة بالسنة. وأما إتمام الصلاة فى السفر، فإن العلماء والسلف اختلفوا فى ذلك، فذهبت طائفة إلى أن ذلك سنة، روى ذلك عن عائشة، وسعد بن أبى وقاص أنهما كانا يتمان فى السفر، ذكره عطاء بن أبى رباح عنهما، وعن حذيفة مثله، وروى مثله عن المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 ابن الأسود، وعن سعيد بن المسيب، وأبى قلابة، وروى أبو مصعب عن مالك، قال: قصر الصلاة فى السفر سنة، وهو قول الشافعى، وأبى ثور، وذهب الشافعى إلى أنه مخير غير أن الإتمام أفضل، وذهب بعض أصحاب مالك إلى أنه مخير غير أن الاستحباب القصر. وقال ابن القصار: وهذا اختيار الأبهرى، واختيارى. وذهبت طائفة إلى أن الواجب على المسافر ركعتان، روى ذلك عن عمر، وابن عمر، وابن عباس، وهو قول الكوفيين، ومحمد بن سحنون، واختاره إسماعيل بن إسحاق من أصحاب مالك. واحتج الكوفيون عن عائشة، قالت: فرضت الصلاة ركعتين فى الحضر، والسفر. . . الحديث، وقد تقدم فى أول كتاب الصلاة شىء من معنى هذا الحديث، ونزيده هاهنا بيانًا وإيضاحًا على حسب ما يقتضيه هذا الباب، فنقول: إن الفرض قد يأتى لغير الحتم والإيجاب كما نقول: فرض القاضى النفقة، يعنى قدرها وبيَّنها، وقد قال بعض المفسرين فى قوله تعالى: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) [التحريم: 2] ، أى بيَّن لكم كيف تكفرون عنها. وقال الطبرى: يحتمل قول عائشة: (فرضت الصلاة ركعتين فى السفر) ، يعنى إن اختار المسافر أن يكون فرضه ركعتين فله ذلك، وإن اختار أن يكون فرضه أربعًا، فله ذلك. فإن قيل: فهل يوجد فرض بهذه الصفة يكون للمفروض عليه الخيار فى تركه إذا شاء، والعمل به إذا شاء؟ . قيل: نعم، إنا وجدنا تأخر الحاج بمنىً فى اليوم الثانى من أيام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 التشريق، وتركه النفر فيه إلى اليوم الثالث، فإنه إن اختار المقام به إلى اليوم الثالث فعلى فرضه أقام، وإن نفر فى اليوم الثانى وتعجل فيه فعلى أداء فرضه نفر، وأى ذلك فعل كان صوابًا. وكذلك المسافر، ولو كان فرض المسافر الذى ليس له غيره الركعتين لم يكن له أن يجعلهما أربعًا بوجه من الوجوه، كما ليس للمقيم أن يجعل ظهره مثنى وصلاة الفجر أربعًا، وقد اتفق فقهاء الأمصار على أن المسافر إذا أدرك ركعة من صلاة المقيم لزمه الإتمام، فهذا يدل أنه ليس فرضه ركعتين إلا على التخيير، وبان أن من صلى من المسافرين الظهر أربعًا ففرضه اختار، وأن من صلاها ركعتين فعلى تمام فرضه انصرف. وأما إتمام عثمان الصلاة بمنى فللعلماء فى ذلك أقوال، روى أيوب عن الزهرى، قال: إنما صلى عثمان بمنى أربعًا، لأن الأعراب كانوا كثروا فى ذلك العام، فأحب أن يخبرهم أن الصلاة أربعًا. وقال ابن جريج: إن أعرابيًا ناداه فى منى، فقال: يا أمير المؤمنين، مازلت أصليها مُذ رأيتك عام أول صليتها ركعتين، فخشى عثمان أن يظن جهالُ الناس أن الصلاة ركعتان. وروى معمر، عن الزهرى وجهًا آخر قال: إنما صلى عثمان أربعًا لأنه أزمع على المقام بعد الحاج. وروى عن عبد الله بن الحارث بن أبى ذباب، عن أبيه، وقد عمل الحارث لعمر بن الخطاب، قال: صلى بنا عثمان أربع ركعات، فلما سلم أقبل على الناس، فقال: إنى تأهلت بمكة، وقد سمعت رسول الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 (صلى الله عليه وسلم) يقول: (من تأهل ببلدة فهو من أهلها فليصل أربعًا) . وهذه الوجوه كلها ليست بشىء. قال الطحاوى: وذلك أن الأعراب كانوا بأحكام الصلاة أجهل فى زمن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فلم يتم بهم لتلك العلة، ولم يكن عثمان ليخاف عليهم ما لم يخفه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، لأنه بهم رءوف رحيم. قال غيره: ألا ترى أن الجمعة لما كان فرضها ركعتين لم يعدل عنها، وكان يحضرها الغوغاء والوفود، وقد يجوز أن صلاة الجمعة فى كل مكان ركعتان. وأما ما ذكر عنه أنه أزمع على المقام بعد الحج فليس بشىء، فإن المهاجرين فرض عليهم ترك المقام بمكة، وقد صح عن عثمان أنه كان لا يودع النساء إلا على راحلته، ويسرع الخروج من مكة خشية أن يرجع فى هجرته التى هاجرها الله. وما ذكر أنه اتخذ أهلاً بمكة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان فى غزواته وحجه وأسفاره كلها يسافر بأهله بعد أن يقرع بينهن، وكان أولى أن يتأول ذلك ويفعله، فلم يفعله وقصر الصلاة، وكذلك تأولوا فى إتمام عائشة أنها كانت أم المؤمنين، فحيث ما حلت فهو بيتها، وهذا فى الضعف مثل الأول، ألا ترى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان أبًا للمؤمنين وهو أولى بهم من عائشة، ولم يتأول ذلك. والوجه الصحيح فى ذلك، والله أعلم، أن عثمان وعائشة إنما أتمَّا فى السفر لأنهما اعتقدا فى قصر الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه لما خُير بين القصر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 والإتمام اختار الأيسر من ذلك على أمته، وقالت عائشة: ما خير رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى أمرين قط إلا أخذ بأيسرهما ما لم يكن إثمًا. فأخذت هى وعثمان فى أنفسهما بالشدة وتركا الرخصة، إذ كان ذلك مباحًا لهما فى حكم التخيير فيما أذن الله تعالى فيه، ويدل على ذلك إنكار ابن مسعود الإتمام على عثمان، ثم صلى خلفه وأتم، ثم كلم فى ذلك، فقال: الخلاف شر. ولو كان القصر فرضًا لم يخف على عثمان، ولم يجز له أن يتم، ولا أتم خلفه ابن مسعود، ولا جماعة الصحابة بالحضرة دون نكير، ولا يجوز على جماعة الصحابة أن يعلموا أن فرضهم ركعتان ويصلوها مع عثمان أربعًا، كما لا يجوز لو صلى بهم الظهر خمسًا والفجر ثلاثًا أن يتبعوه على ذلك. وإنما جاز لهم اتباعه والانقياد له لعلم جميعهم أنه فعل مباحًا جائزًا، وهذه حُجَّة قاطعة، وإنما قال ابن مسعود: الخلاف شر، لأنه رأى أن الخلاف على الإمام فيما سبيله التخيير والإباحة شر. وقد روى ابن أبى شيبة، عن ميمون بن مهران: أنه سأل سعيد بن المسيب عن الصلاة فى السفر، فقال: إن شئت ركعتين، وإن شئت أربعًا. وذكر عن أبى قلابة أنه قال: (إن صليت فى السفر ركعتين فالسنة، وإن صليت أربعًا فالسنة. 50 - باب كَمْ أَقَامَ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّتِهِ ؟ / 60 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، قَالَ: قَدِمَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَأَصْحَابُهُ لِصُبْحِ رَابِعَةٍ يُلَبُّونَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إِلا مَنْ مَعَهُ الْهَدْىُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 وقال فى كتاب المغازى: بَاب إِقَامَةِ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ. / 61 - فيه: عُمَرَ بْنَ عَبْدِالْعَزِيزِ أَنُّه سأل السَّائِبَ ابْنَ أُخْتِ الْنَّمِرِ: مَا سَمِعْتَ فِى سُكْنَى مَكَّةَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِىِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (ثَلاثٌ لِلْمُهَاجِرِ بَعْدَ الصَّدَرِ) . وقال أحمد بن حنبل: قدم الرسول (صلى الله عليه وسلم) مكة صبح رابعة من ذى الحجة، فأقام اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع، وهو فى ذلك كله يقصر الصلاة، ثم خرج إلى منى يوم التروية وهو اليوم الثامن فلم يزل مسافرًا فى المناسك إلى أن تم حجه. فجعل أحمد ابن حنبل أربعة أيام يقصر فيها الصلاة إذا نوى إقامتها، وإن قام أكثر من ذلك فهو حضر يتم فيه الصلاة، واستدل بحديث ابن عباس هذا. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: هذا الحديث يدل أنه من أقام عشرين صلاة يقصر الصلاة، لأنه (صلى الله عليه وسلم) صلى فى الرابع الظهر والعصر، ثم صلى فى الخامس والسادس والسابع خمس عشرة صلاة، ثم صلى الليلة الثامنة المغرب والعشاء والصبح، فذلك عشرون صلاة، ولم يتم، وهو حجة على ابن الماجشون، وسحنون فى قولهما أنه من أقام عشرين صلاة أنه يتم. وذهب مالك، والشافعى، وأبو ثور إلى أنه من عزم على إقامة أربعة أيام بلياليها أنه يتم الصلاة ولا يقصر، وروى مثله عن عمر، وعثمان. قال ابن القصار: وحجة هذه المقالة حديث العلاء بن الحضرمى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، جعل للمهاجر بعد قضاء نسكه [ثلاثًا، ثم] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 يصدر، وذلك أن الله حرم على المهاجرين الإقامة بمكة، الأرض التى هاجروا منها، ولا يستوطنوها، ثم أباح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للمهاجر المسافر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام. فبيَّن (صلى الله عليه وسلم) أن ثلاثة أيام سفر لا إقامة، إذ لو كان ما فوق الثلاث سفرًا لما منعهم من ذلك، فدل أنه إقامة، ووجب أن تكون الثلاث فصلا بين السفر والإقامة، ولا وجه لمن اعتبر مقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى حجته من حين دخوله مكة إلى خروجه إلى منى ولا إلى صدره إلى المدينة، لأن مكة ليست له بدار إقامة ولا لأحد من المهاجرين، لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يزل مسافرًا منذ خرج من المدينة وقصر بذى الحليفة إلى أن انصرف إلى المدينة، ولم ينو فى شىء من ذلك إقامة، وليس فى هذه المسألة اختلاف، سوى ما تقدم، يقتضى الباب ذكره، وذلك لأنه ذهب قوم إلى أنه إن نوى إقامة أكثر من خمسة عشر يومًا أتم الصلاة، وإن نوى إقامة أقل قصر، روى هذا عن ابن عمر، وهذا قول الكوفيين، والثورى. وذهب قوم إلى أنه إذا نوى إقامة اثنتى عشرة أتم الصلاة، وإن نوى إقامة أقل قصر، هذا قول ابن عمر، أحد أقاويله، وأخذ به الأوزاعى، وذهب قوم أنه إذا عزم على مقام عشر ليال أتم الصلاة، روى ذلك عن على، وابن عباس، وقد تقدم هذا القول فى حديث أنس فى أول أبواب التقصير. وروى عن ربيعة قول شاذ أنه من نوى إقامة يوم وليلة أتم الصلاة. وحجة الليث ما رواه ابن إسحاق، عن الزهرى، عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 عبيد الله، عن عبد الله بن عباس، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أقام حيث فتح مكة خمسة عشر يومًا يقصر الصلاة حتى سار إلى خيبر. وحجة الكوفيين ما رواه مجاهد، عن ابن عمر، وابن عباس، أنهما قالا: إذا قدمت بلدًا وأنت مسافر، وفى نفسك أن تقيم خمس عشرة ليلة، فأكمل الصلاة. ولا حجة لمن اعتبر اثنى عشر يومًا ولا لربيعة، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وأصحابه لم يتم واحد منهم فى هذا المقدار. وأصح الأقوال فى هذه المسألة قول مالك ومن وافقه، وبيان ذلك من حديث ابن عباس مع الحديث الذى جاء أن يوم عرفة كان يوم الجمعة، أن مقام النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بمكة فى حجته كان عشرة أيام كما قال أنس فى حديثه. وذكر أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قدم مكة صبح رابعةٍ من ذى الحجة صبيحة يوم الأحد، صلى الصبح بذى طوى، واستهل ذو الحجة ذلك العام ليلة الخميس، فأقام الرسول (صلى الله عليه وسلم) بمكة يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء وليلة الخميس، ثم نهض يوم الخميس ضحوةً إلى منى، فأقام بها باقى نهاره وليلة الجمعة، ثم نهض يوم الجمعة إلى عرفات، فبقى بها نهاره، ودفع منها بعد غروب الشمس من ليلة السبت إلى المزدلفة، فأقام بها باقى ليلته، ثم نهض منها قبل طلوع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 الشمس من يوم السبت، وهو يوم الأضحى والنفر إلى منى، فرمى جمرة العقبة ضحوةً، ثم نهض إلى مكة ذلك اليوم، فطاف بالبيت قبل الظهر. ثم رجع فى يومه ذلك إلى منى فأقام بها باقى يوم السبت، ويوم الأحد، ويوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ثم نهض بعد الظهر من يوم الثلاثاء، وهو آخر أيام التشريق إلى المحصب، فصلى به الظهر، وبات فيه ليلة الأربعاء، وفى تلك الليلة اعتمرت عائشة من التنعيم ليلاً، ثم طاف النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، طواف الوداع سَحَرًا قبل صلاة الصبح من يوم الأربعاء، وهى صبيحة رابعة عشرة، فأقام عشرة أيام كما قال أنس فى حديثه، ثم نهض إلى المدينة، وكان خروجه من المدينة إلى حجة الوداع يوم السبت لأربع بقين من ذى القعدة، وصلى الظهر بذى الحليفة، وأحرم بإثرها، وهذا كله مستنبط من قوله: (قدم النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صبيحة أربع من ذى الحجة) ، ومن الحديث الذى جاء أن يوم عرفة كان يوم الجمعة، وفيه نزلت: (اليوم أكملت لكم دينكم) [المائدة: 3] . 51 - باب فِى كَمْ تُقْصَرُ الصَّلاةَ؟ وَسَمَّى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، السفر يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقْصُرَانِ وَيُفْطِرَانِ فِى أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وَهِىَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا. / 62 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (لا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلاثًا إِلا مَعَ ذِى مَحْرَمٍ) . / 63 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 اختلف العلماء فى قدر المسافة التى يستباح فيها القصر فى الصلاة، فكان مالك يقول: يقصر فى مسيرة يوم وليلة، ثم رجع فقال: يقصر فى أربعة بُرُد، وهى ثمانية وأربعون ميلاً، كقول ابن عمر، وابن عباس، وبه قال الليث، والشافعى فى أحد أقواله، وهو قول أحمد، وإسحاق. وروى أشهب، عن مالك، فيمن خرج إلى ضيعته، وهى على رأس خمسة وأربعين ميلاً، قال: يقصر. وروى أبو زيد، عن ابن القاسم فيمن قصر فى ستة وثلاثين ميلاً، قال: لا يعيد. وقال ابن حبيب: يقصر فى أربعين ميلاً، وهى قريب من أربعة بُرُد. وقال الأوزاعى: عامة العلماء يقولون: مسيرة يوم تامٍ، وبه نأخذ. وقالت طائفة: يقصر فى يومين، روى هذا عن ابن عمر، والحسن البصرى، والزهرى، وذكر مثله عن الشافعى. وقالت طائفة: لا يقصر إلا من سافر ثلاثة أيام، روى هذا عن ابن مسعود، وبه قال الثورى، والكوفيون. وقال الأوزاعى: كان أنس بن مالك يقصر الصلاة فى خمسة فراسخ، وذلك خمسة عشر ميلاً. وحُكى عمن لا يعتد بخلافه من أهل الظاهر أنه يجوز فى قليل السفر، وكثيره إذا جاوز البنيان ولو قصد إلى بُستانه، وحكوه عن على بن أبى طالب. قال ابن القصار: والحجة لقول مالك، ومن وافقه حديث أبى هريرة أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حُرمة) . فجعل لليوم والليلة حكمًا خلاف حكم الحضر، فعلمنا أنه الزمان الفاصل بين السفر يجوز فيه القصر، وبين السفر الذى لا يجوز فيه، قال: وهذا قول ابن عمر، وابن عباس. واحتج الكوفيون بحديث ابن عمر، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (لا تسافر المرأة ثلاثًا إلا مع ذى محرم) ، وقالوا: لما اختلفت الآثار والعلماء فى المسافة التى تقصر فيها الصلاة، وكان الأصل الإتمام لم يجب أن ننتقل عنه إلا بيقين، واليقين ما لا تنازع فيه، وذلك ثلاثة أيام. قال ابن القصار: والجواب أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قد ذكر اليوم والليلة، ونص عليه فهو أولى من دليل خبركم أن ما كان دون الثلاث فبخلافها، والدليل إذا اجتمع مع النص قُضى بالنص عليه. قال الأصيلى: والدليل على أن المسافر يقصر فى يوم وليلة قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر) [البقرة: 184] ، فما نقل الله المسافر من حال الصيام إلى حال الإفطار فى سفر يوم، كذلك يجب أن ينتقل من التمام إلى القصر فى ذلك. وقال غيره: وأما اختلاف الآثار فى يوم وليلة، وفى ثلاثة أيام، وقد روى فى يومين، فالمعنى الذى تأتلف عليه هذه الأخبار أنها كلها خرجت على جواب سائلين مختلفين، كأن سائلاً سأله (صلى الله عليه وسلم) : هل تسافر المرأة يومًا وليلة مع غير ذى محرم؟ فقال: لا، ثم سأله آخر عن مثل ذلك فى يومين، فقال: لا، ثم سأله آخر عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 مثل ذلك فى ثلاث، فقال: لا، فروى عنه (صلى الله عليه وسلم) كلُّ واحد ما سمع وليس بتعارض ولا نسخ، لأن الأصل ألا تسافر المرأة أصلاً، ولا تخلو مع غير ذى محرم، لأن الداخلة عليها فى الليلة الواحدة كالداخلة عليها فى الثلاث، وهى علة المبيت والمغيب على المرأة فى ظلمة الليل، واستيلاء النوم على الرفقاء فيكون الشيطان ثالثهما، فقويت الذريعة وظهرت الخشية على ناقصات العقل والدين، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا يخلون رجل بامرأة ليست بذى محرم منه) . وقال: (إنها صفية) . واحتج الكوفيون بحديث ابن عمر وأبى هريرة، فقالوا: لا يحل للمرأة أن تخرج إلى الحج مع غير ذى محرم، وجعلوا المحرم للمرأة سبيلاً من سبل الحج. وقال مالك وغيره: تخرج فى الرفقة المأمونة مع جماعة النساء، وإن لم تكن لها محرم. وقال المهلب: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تسافر المرأة يومًا وليلةً إلا مع ذى محرم) ، مبنى على فرض الله اللازم للنساء من وجوب الحج عليهن. وفى قوله: (لا يحل لامرأة) ، شاهد أنه إنما نهاها عن السفر الذى لا يلزمهن ولهن استحلاله وتركه فمنعهن (صلى الله عليه وسلم) من الأسفار المختارة إلا الضرورية الجماعية التى لا تعدم فيها المرافقة، ألا ترى اشتراط مالك خروجها للحج فى جماعة المرافقين بالغة الدين فى سفر الطاعة لله، واستشعارهم الخشية له، ولذلك سن عليه السلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 الحج بأمير أو سلطان محافظ، وإمام معلم يحفظ الضيعة، ويضم القَاذَّة ويرد الشاذّة، ولا ينفرد أحد عن الجماعة، ولا تتفق الأعين كلها على الغفلة، ولا تجتمع على النوم فى وقت واحد، فلابد من وجود المراقبة من الجماعة، فضعف الخوف بحضور الكثرة، وسأزيد هذا المعنى بيانًا فى باب حج النساء فى آخر كتاب الحج، إن شاء الله. وما حكاه الأوزاعى، عن أنس، وقولُ أهل الظاهر فالجماعة على خلافه وفى بيان الحجة لمالك ما ينتظم الرد عليه، لأن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تسافر امرأة يومًا وليلةً إلا مع ذى حرمة منها) . قد أثبت للسفر حرمة إذا كان يومًا وليلةً، فدل أن ما دونه بخلافه، وإذا لم يكن إلا حضر، أو سفر، ولم يكن لما دون اليوم والليلة حرمة، صح أنه فى معنى الحضر. 52 - باب تقصير الصلاة إِذَا خَرَجَ مِنْ مَوْضِعِهِ وَخَرَجَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ، فَقَصَرَ وَهُوَ يَرَى الْبُيُوتَ، فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ: هَذِهِ الْكُوفَةُ، قَالَ: لا، حَتَّى نَدْخُلَهَا. / 64 - وفيه: أَنَس، قَالَ: صَلَّيْتُ الظُّهْرَ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَبِذِى الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ. / 65 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتِ: الصَّلاةُ أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلاةُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 السَّفَرِ، وَأُتِمَّتْ صَلاةُ الْحَضَرِ. قَالَ الزُّهْرِىُّ: فَقُلْتُ لِعُرْوَةَ: مَا بَالُ عَائِشَةَ تُتِمُّ؟ قَالَ: تَأَوَّلَتْ مَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ. أجمع فقهاء الأمصار أن المسافر لا يقصر الصلاة حتى يبرز عن بيوت القرية التى يخرج منها، واختلفت الرواية عن مالك فى صفة ذلك، ففى المدونة وكتاب ابن عبد الحكم، عن مالك: لا حتى يبرز عن بيوت القرية، ثم لا يزال يقصر حتى يدنو منها راجعًا، كقول الجماعة، وروى ابن وهب عن مالك فى المبسوط أنه قال: إذا خرج المسافر من المصر الذى فيه أهله فلا أرى أن يقصر حتى يخرج من حد ما تجب فيه الجمعة، وذلك ثلاثة أميال. وروى ابن الماجشون ومطرف، عن مالك: أنه استحب ذلك، لأن الثلاثة أميال مع المصر كَفَرسَخ واحد، وإذا رجع قصر إلى حَدِّه ذلك، وإذا كانت قرية لا يجمع أهلها قصر إذا جاوز بيوتها المتصلة بها، ذكره ابن حبيب. واختار قوم من السلف تقصير الصلاة قبل الخروج من بيوت القرية، قال ابن المنذر: روينا عن الحارث بن أبى ربيعة أنه أراد سفرًا، فصلى بهم ركعتين فى منزله، ومنهم الأسود بن يزيد، وغير واحد من أصحاب عبد الله، وروينا معنى هذا القول عن عطاء ابن أبى رباح، وسليمان بن موسى. وشَذَّ مجاهد، فقال: إذا خرجت مسافرًا، فلا تقصر لو مكثت حتى الليل، ولا أعلم أحدًا وافقه عليه. قال المهلب: إنما يقصر الصلاة من خرج من موضع إذا نوى سفرًا يقصر الصلاة فى مثله على ما تقدم من مذاهب العلماء فى ذلك، لأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 مشقة السفر لازمة له من حين خروجه من موضعه، لكن لا يتم إلا بالمبيت والشغل بأمر المعاش المتصل بمشقة السعى مع الاحتراس بالليل وغيره، وكذلك تبقى على الراجع المشقة حتى يحل عن نفسه بوصوله إلى منزله. ومن أجاز من التابعين تقصير الصلاة قبل الخروج من البيوت فقوله مردود بفعله (صلى الله عليه وسلم) حين أتم الظهر بالمدينة، ثم خرج فقصر العصر بذى الحليفة، وإنما لزم التقصير إذا خرج من بيوت القرية لا قبل ذلك، لأن السفر يحتاج إلى عمل ونية، وليس كالإقامة التى تصح بالنية دون العمل. وحديث أنس حجة لجماعة الفقهاء أهل المقالة الأولى، وذلك أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حين أتم الظهر بالمدينة، وقصر العصر بذى الحليفة إنما فعل ذلك، لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان متوجهًا إلى مكة، ذكره البخارى فى بعض طرق الحديث لا أنه كان سفره إلى ذى الحليفة فقط، وبين المدينة وذى الحليفة من ستة أميال إلى سبعة، فلا حجة لمن أجاز التقصير فى قليل السفر، ولمن خرج إلى بستانه، لأن الحجة فى السُّنَّة لا فيما خالفها، وإنما ترك على التقصير، وهو يرى الكوفة حتى يدخلها، لأنه كان فى حكم المسافر فى ذلك الوقت، فلو أراد أن يصلى حينئذ لصلى صلاة سفر، وكان له تأخير الصلاة إلى الكوفة إذا كان فى سعة من الوقت ليصليها صلاة حضر، فاختار ذلك أخذًا بالأفضل واحتياطًا للإتمام حين طمع به وأمكنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 وأما حديث عائشة، فقد تقدم القول فيه قبل هذا فلا معنى لتكريره، وقد روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) الإتمام مثل فعل عائشة، وعثمان. حدثنا المهلب، قال: حدثنا أبو الحسن على بن بندار الفربرى، بمكة، قال: حدثنا أبو الحسن الدارقطنى، حدثنا المحاملى، حدثنا سعيد بن محمد بن ثواب، حدثنا أبو عاصم، حدثنا عمر بن سعيد، عن عطاء بن أبى رباح، عن عائشة، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يقصر فى السفر ويتم، ويصوم ويفطر. قال الدارقطنى: هذا إسناد صحيح. قال الدارقطنى: وحدثنا أبو بكر النيسابورى، حدثنا عبد الله بن محمد بن عمرو، حدثنا محمد بن يوسف الفريابى، حدثنا العلاء بن زهير، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة، قالت: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى عمرة فى رمضان، فأفطر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصمت، وقصر وأتممت، فقال: (أحسنت يا عائشة) . قال الدارقطنى: وعبد الرحمن قد أدرك عائشة، ودخل عليها وهو مراهق. 53 - باب يُصَلِّى الْمَغْرِبَ ثَلاثًا فِى السَّفَرِ / 66 - فيه: ابن عُمَر، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِى السَّفَرِ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ. قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ عَبْدُاللَّهِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 يَفْعَلُهُ إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِى السَّفَرِ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ، وَكَان ابن عُمَر يفعله. (وَأَخَّرَ ابْنُ عُمَرَ الْمَغْرِبَ، وَكَانَ اسْتُصْرِخَ عَلَى امْرَأَتِهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِى عُبَيْدٍ، فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلاةَ، فَقَالَ: سِرْ، فَقُلْتُ: الصَّلاةَ، فَقَالَ: سِرْ، حَتَّى سَارَ مِيلَيْنِ، أَوْ ثَلاثَةً، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ. يُقيم الْمَغْرِبَ، فَيُصَلِّيهَا ثَلاثًا، ثُمَّ يُسَلِّمُ، ثُمَّ قَلَّمَا يَلْبَثُ حَتَّى يُقِيمَ الْعِشَاءَ، فَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ، وَلا يُسَبِّحُ بَعْدَ الْعِشَاءِ حَتَّى يَقُومَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ) . أجمعت الأمة على أن المغرب يصلى ثلاثًا فى السفر كما يصلى فى الحضر، وهذا يدل أن قول عائشة: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وزيد فى صلاة الحضر) ، ليس على عمومه فى الصلوات كلها، للإجماع أن المغرب ثلاثًا لا يزاد فيها فى حضر، ولا ينقص منها فى سفر، وكذلك الصبح ركعتان فى السفر والحضر. قال المهلب: ولم تقصر المغرب فى السفر عما كانت عليه فى صلاة الفريضة لأنها وتر صلاة النهار، ولم يزد فى الفجر لطول قراءتها، وقدر وى هذا عن عائشة، رضى الله عنها. وفى تقصير ابن عمر حين استُصرخ على صفية امرأته من الفقه: أن التقصير فى السفر المباح غير الحج والجهاد جائز على ما يذهب إليه جماعة الفقهاء، ورد لقول أهل الظاهر الذين لا يجيزون التقصير إلا فى سفر الحج والجهاد، وذكر أنه مذهب ابن مسعود. وابن عمر روى السنة فى ذلك عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وفهم عنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 معناها، وأن ذلك جائز فى كل سفر مباح، ألا ترى قول ابن عمر: (هكذا رأيت النبى (صلى الله عليه وسلم) إذا أعجله السير فى السفر) . وهذا عام فى كل سفر، فمن ادعى أن ذلك فى بعض الأسفار دون بعض فعليه الدليل، ويقال لهم: إن الله قرن بين أحوال المسافرين فى طلب الرزق، والمسافرين فى قتال العدو فى سقوط قيام الليل عنهم، فقال: (فتاب عليكم (إلى قوله: (وآخرون يضربون فى الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون فى سبيل الله) [المزمل: 20] ، فلما سوى بينهم تعالى فى سقوط قيام الليل وجبت التسوية بينهم فى استباحة رخصة التقصير فى السفر، وهذا دليل لازم. وفيه: دليل على تأكيد قيام الليل، لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان لا يتركه فى السفر، فالحضر أولى بذلك. 54 - باب صَلاةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الدَّابَّةِ وَحَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ / 67 - فيه: عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يُصَلِّى عَلَى ناقته حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ. / 68 - وفيه حديث: أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ يُصَلِّى التَّطَوُّعَ، وَهُوَ رَاكِبٌ فِى غَيْرِ الْقِبْلَةِ. / 69 - وفيه: ابْنُ عُمَرَ، أَنُّه كَانَ يُصَلِّى عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا، يُخْبِرُ أَنَّ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَفْعَلُهُ. قال المهلب: هذه الأحاديث تخص قوله تعالى: (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) [البقرة: 144، 150] ، وتبين أن معناه فى المكتوبات، وما كان من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 النوافل فى الأرض، وتفسر قوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله) [البقرة: 115] أن ذلك فى النافلة على الدابة. وقد روى عن ابن عمر أن هذه الآية نزلت فى قول اليهود فى القبلة، وذهب جماعة الفقهاء إلى الأخذ بهذه الأحاديث، وأجازوا التنفل على الدابة فى السفر إلى غير القبلة، وممن روى ذلك عنه: علىّ، وابن الزبير، وأبو ذر، وابن عمر، وأنس، وبه قال طاوس، وعطاء، وإليه ذهب مالك، والثورى، والكوفيون، والليث، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور، غير أن أحمد وأبا ثور كانا يستحبان أن يستقبل القبلة بالتكبير. واختلفوا فى الصلاة على الدابة فى السفر الذى لا تقصر فى مثله الصلاة، فقال الفقهاء الذين تقدم ذكرهم: يصلى فى قصير السفر وطويله، غير مالك فإنه قال: لا يصلى أحد على دابته فى سفر لا تقصر فى مثله الصلاة. والحجة له أن الخبر إنما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يصلى على راحلته فى سفره إلى خيبر، وجائز قصر الصلاة من المدينة إلى خيبر، ولم ينقل عنه أنه (صلى الله عليه وسلم) صلى على دابته إلا فى سفر تقصر الصلاة فيه، كذلك رواه مالك عن عمرو بن يحيى، عن سعيد بن يسار، عن ابن عمر، قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلى على حمار وهو متوجه إلى خيبر. وأيضًا فإن ذلك رخصة فى السفر كالفطر والقصر، فينبغى أن تكون هذه الرخص كلها على طريقة واحدة، وأيضًا فإن القبلة آكد، لأن الصلاة تقصر فى السفر، ولا يعدل فيها عن القبلة مع القدرة، فلما كان فى السفر القصير لا يقصر، والقصر أضعف، كان بألا يجوز ترك القبلة أولى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 وحجة أهل المقالة الأولى الآثار الواردة بذلك، ليس فيها تحديد سفر، ولا تخصيص مسافة، فوجب حملها على العموم فى كل سفر قصير أو طويل. ومن طريق النظر أن الله تعالى جعل التيمم رخصةً للمريض والمسافر، وقد أجمعت الأمة أن من كان خارج المصر على ميل، أو أقل ونيته العودة إلى منزله لا الشخوص إلى سفر، ولم يجد ماءً أنه يجوز له التيمم، ولا يقع عليه اسم مسافر، فكما جاز له التيمم فى هذا القدر جاز أن يتنفل على الدابة، ولا فرق بين ذلك قاله الطبرى، قال: ولا أعلم من خالف هذا القول من المتقدمين إلا مالك بن أنس. 55 - باب الإيمَاءِ عَلَى الدَّابَّةِ / 70 - فيه ابن عُمَرَ، أَنّه كَانَ يُصَلِّى فِى السَّفَرِ عَلَى دابته أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ، يُومِئُ، وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ يَفْعَلُهُ. قال المؤلف: سنة الصلاة على الدابة الإيماء، ويكون السجود أخفض من الركوع، وروى أشهب عن مالك فى الذى يصلى على الدابة، أو المحمل لا يسجد بل يومئ، لأن ذلك من سنة الصلاة على الدابة. وقال ابن القاسم: يصلى فى المحمل متربعًا إن لم يشق عليه أن يثنى رجليه عند سجوده فليفعل ذلك. قال ابن حبيب: وإذا تنفل على الدابة، فلا ينحرف إلى جهة القبلة، وليتوجه لوجه دابته، وله إمساك عنانها وضربها وتحريك رجليه، إلا أنه لا يتكلم ولا يلتفت، ولا يسجد الراكب على قَرَبُوس سرجه، ولكن يومئ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 واستحب ابن حنبل، وأبو ثور أن يفتتح الصلاة فى توجهه إلى القبلة، ثم لا يبالى حيث توجهت به. والحجة لهم حديث الجارود بن أبى سبرة، عن أنس بن مالك: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان إذا أراد أن يتنفل فى السفر استقبل بناقته القبلة، ثم صلى حيث توجهت ركابه. وليس فى حديث ابن عمر وعامر بن ربيعة وجابر استقبال القبلة عند التكبير، وهى أصح من حديث الجارود. وحجة من لم ير استقبال القبلة عند التكبير، وهو قول الجمهور أنه كما تجوز له سائر صلاته إلى غير القبلة، وهو عالم بذلك كذلك يجوز له افتتاحها إلى غير القبلة. واختلف قول مالك فى التنفل فى السفينة إلى غير القبلة، فقال فى الواضحة: لا بأس به حيث ما توجهت به كالدابة، وفى المختصر: لا يتنفل فيها إلا إلى القبلة بخلاف الدابة. واختلف قوله أيضًا فى المريض الذى لا يقدر على الصلاة على الأرض إلا إيماءً، هل يصلى الفريضة على الدابة فى محمله؟ وفى المدونة أنه لا يصلى إلا بالأرض، وروى أشهب أنه يصلى على المحمل كما يصلى على الأرض، ويوجه إلى القبلة، وفى كتاب ابن عبد الحكم مثله. 56 - باب يَنْزِلُ لِلْمَكْتُوبَةِ / 71 - فيه: عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ عَلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 الرَّاحِلَةِ يُسَبِّحُ، يُومِئُ بِرَأْسِهِ قِبَلَ أَىِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَصْنَعُ ذَلِكَ فِى الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ. وروى ابن عُمَرَ وَجَابِر مثله. / 72 - وَقَالَ جَابِر: فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّىَ الْمَكْتُوبَةَ نَزَلَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ. أجمع العلماء أنه لا يجوز أن يصلى أحد فريضةً على الدابة من غير عذر، وإنه لا يجوز له ترك القبلة إلا فى شدة الخوف، وفى النافلة فى السفر على الدابة، رخصةً من الله لعباده ورفقًا بهم. فثبت أن القبلة فرض من الفرائض فى الحضر والسفر، وفى السنن لمن تنفل على الأرض. 57 - باب صَلاةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْحِمَارِ / 73 - فيه: أَنَس، أَنّه صَلِّى عَلَى حِمَارٍ وَوَجْهُهُ عَنْ يَسَارِ الْقِبْلَةِ بِعَيْنِ التَّمْرِ، مقدمه من الشام، فَقَال لَهُ أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ: رَأَيْتُكَ تُصَلِّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ؟ فَقَالَ: لَوْلا أَنِّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَعَلَهُ لَمْ أَفْعَلْهُ. ولا فرق بين التنفل فى السفر على الحمار والبغل، والبعير، وجميع الدواب عند جماعة الفقهاء على ما تقدم من اختلافهم فى السفر الطويل والقصير، وروى عن أبى يوسف أنه أجاز أن يصلى فى المصر على الدابة بالإيماء، لحديث يحيى بن سعيد، عن أنس، أنه صلى على حمار فى أزقة المدينة يومئ إيماءً. وجماعة الفقهاء على خلافه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 58 - باب مَنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ فِى السَّفَرِ / 74 - فيه: ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: صَحِبْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمْ أَرَهُ يُسَبِّحُ فى السَّفَرِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21] . / 75 - وقال: صَحِبْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَكَانَ لا يَزِيدُ فِى السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ. قول ابن عمر: (لم أر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يسبح فى السفر) يريد لم أره يتطوع فى السفر قبل صلاة الفريضة ولا بعدها، يعنى فى الأرض، لأنه قد روى ابن عمر عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه كان يصلى على راحلته فى السفر حيث توجهت به، وأنه كان يتهجد بالليل فى السفر، وعلى هذا التأويل لا تتضاد الأخبار عن ابن عمر، وقد جاء هذا المعنى بَيِّنًا عنه. ذكر البخارى فى (صلاة المغرب ثلاثًا فى السفر) ، حديث ابن عمر حين استُصرِخ على صفية زوجته، وأنه جمع بين المغرب والعشاء، وقال: هكذا رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلى المغرب ثلاثًا، ثم يسلم، ثم قلَّمَا يلبث حتى يقيم العشاء فيصليها ركعتين ثم يسلم، ولا يسبح بعد العشاء حتى يقوم من جوف الليل. وذكر مالك فى الموطأ عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يصلى على الأرض وعلى راحلته حيث توجهت به. فبان أنه أراد بقوله لم أر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يسبح فى السفر، التطوع فى الأرض، المتصل بالفريضة، الذى حكمه حكمها فى استقبال القبلة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 والركوع والسجود، وكذلك كان ابن عمر يقول: لو تنفلت لأتممت، أى لو تنفلت التنفل الذى هو من جنس الفريضة لجعلته فى الفريضة ولم أقصرها. وممن كان لا يتنفل فى السفر قبل الصلاة، ولا بعدها سوى ابن عمر: على بن الحسين، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وليس قول ابن عمر: لم أر النبى (صلى الله عليه وسلم) يسبح فى السفر، بحجة على من رآه (صلى الله عليه وسلم) ، لأن من نفى شيئًا فليس بشاهد، وقد روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه تنفل فى السفر مع صلاة الفريضة، وهو قول عامة العلماء. قال الطبرى: يحتمل أن يكون تركُه (صلى الله عليه وسلم) التنفل فى السفر فى حديث ابن عمر تحريًا منه (صلى الله عليه وسلم) إعلام أمته أنهم فى أسفارهم بالخيار فى التنفل بالسنن المؤكدة وتركها، وقد بيّن ذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان إذا جمع فى السفر صلى المغرب، ثم يدعو بعَشَائه، فيتعشَّى، ثم يرتحل، وإذا جاز الشغل بالعَشَاء بعد دخول وقت العِشَاء وبعد الفراغ من صلاة المغرب، فالشغل بالصلاة أحرى أن يجوز، وسأذكر ذلك فى الباب الذى بعد هذا، إن شاء الله تعالى. 59 - باب مَنْ تَطَوَّعَ فِى السَّفَرِ وَرَكَعَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى السَّفَرِ رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 / 76 - فيه: ابْنِ أَبِى لَيْلَى، قَالَ: مَا أَخْبَرَنَا أَحَدٌ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى الضُّحَى غَيْرُ أُمِّ هَانِئٍ، ذَكَرَتْ أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ اغْتَسَلَ فِى بَيْتِهَا، فَصَلَّى ثَمَانِىَ رَكَعَاتٍ، فَمَا رَأَيْتُهُ صَلَّى صَلاةً أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ. / 77 - وفيه: عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى السُّبْحَةَ بِاللَّيْلِ فِى السَّفَرِ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ، يُومِئُ بِرَأْسِهِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ. قد تقدم فى الباب قبل هذا من لم بتطوع فى السفر قبل الفريضة، ولا بعدها، ونذكر فى هذا الباب من تطوع فيه. روى الليث، عن صفوان بن سليم، عن أبى سبرة، عن البراء بن عازب، قال: سافرت مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثمانى عشرة سفرة، فما رأيته ترك الركعتين قبل الظهر. وأما صلاته، (صلى الله عليه وسلم) ، الضحى يوم الفتح فإنه صلاها فى بيته بالأرض على غير راحلته فدل ذلك على جواز التنفل فى السفر بالأرض، لأنه لم تكن تلك صلاة الضحى، لقول ابن أبى ليلى: ما أخبرنا أحد أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى الضحى. فإنه قد صلاها بالأرض وإلى القبلة فى السفر بخلاف قول ابن عمر، وكذلك صلاته، (صلى الله عليه وسلم) ، ركعتى الفجر فى السفر وتنفله على الراحلة بالليل والنهار فيه دليل على جواز التنفل على الأرض، لأنه لما جاز له التنفل على الراحلة كان فى الأرض أجوز، وقد قال الحسن البصرى: كان أصحاب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يسافرون ويتطوعون قبل المكتوبة وبعدها، وهو قول جماعة العلماء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 قال ابن المنذر: روينا ذلك عن عمر، وعلى، وابن عباس، وجابر، وابن مسعود، وأنس، وأبى ذر، وجماعة من التابعين يكثر عددهم، وهو قول مالك، والكوفيين، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وهو الصحيح، لأنه ثبت عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه كان يتنفل فى السفر من غير وجه وليس قول ابن أبى ليلى بحُجة تسقط صلاة الضحى، لأن أكثر الأحاديث يرويها واحد عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يُلجأ إليه فيها، وتصير سنة معمولاً بها، وما فعله الرسول (صلى الله عليه وسلم) مرة اكتفت الأمة بذلك، فكيف وقد روى أبو هريرة، وأبو الدرداء، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه أوصاهما بثلاث، منها ركعتا الضحى. 60 - باب الْجَمْعِ فِى السَّفَرِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ / 78 - فيه: ابن عُمَر، كَانَ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ. / 79 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إِذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. / 80 - فيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَجْمَعُ بَيْنَ صَلاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِى السَّفَرِ. اختلف العلماء فى جمع المسافر بين الصلاتين، فذهب جمهور العلماء إلى أن المسافر يجوز له الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، روى ذلك عن سعد بن أبى وقاص، وسعيد بن زيد، وأبى موسى الأشعرى، وابن عمر، وابن عباس، وأسامة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 ابن زيد، وهو قول مالك، والليث، والأوزاعى، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وذهبت طائفة إلى أنه لا يجوز الحج للمسافر إلا إذا جدَّ به السير، وهو قول مالك فى المدونة، وقول الليث، واحتجوا بحديث ابن عمر أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان إذا جدَّ به السير جمع بين المغرب والعشاء. وبحديث ابن عباس أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يجمع بين الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير. وكرهت طائفة للمسافر الجمع إلا بعرفة والمزدلفة، هذا قول النخعى، والحسن، وابن سيرين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، واحتجوا بأن مواقيت الصلاة قد صحت فلا تترك لأخبار الآحاد. قال ابن القصار: فيقال لهم: إن أوقات السفر لا تعترض أوقات الحضر، وقد روى جمعُه (صلى الله عليه وسلم) بين الصلاتين فى السفر من طريق تجرى مجرى الاستفاضة، منها حديث ابن عمر، وابن عباس، وحديث معاذ، وقد اتفقنا على جواز جمع أهل مكة وعرفة بعرفة، والمزدلفة، وهم مقيمون، فكذلك يجوز أن يجمعوا بينهما إذا سافروا. وقال الطبرى: قد تظاهرت الأخبار عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يجمع بين الصلاتين فى السفر فظاهرها أنه كان يجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة، فهل بينك وبين من أنكر الجمع بعرفة والمزدلفة، وأجازه فى السفر بالأخبار الواردة عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يجمع فى السفر: فرقٌ، قالوا: ولو لم يأت عنه أنه جمع إلا بعرفة والمزدلفة فقط لكان ذلك دليلاً على جواز الجمع للمسافر. وروى مالك، عن ابن شهاب، قال: سألت سالم بن عبد الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 هل يجمع بين الظهر والعصر فى السفر؟ قال: نعم، ألا ترى إلى صلاة الناس بعرفة. وفى حديث أنس جواز الجمع للمسافر من غير أن يجدّ به السير كما قال جمهور العلماء، وكلا الفعلين قد صح عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، جمع حين جَدَّ به السير، وجمع دون ذلك، وليس ذلك بتعارض، بل كل واحد حكى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما رأى، وكُل سُنَّة. وقد قال ابن حبيب من أصحاب مالك: يجوز الجمع للمسافر جَدَّ به السير، أو لم يجدّ إلا لقطع السفر، وإن لم يَخَفْ شيئًا، وهو قول ابن الماجشون، وأصبغ بن الفرج. وترجم لحديث ابن عمر، وأنس باب: هَلْ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ إِذَا جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وذكر فيه قول سالم: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ، يُقِيمُ الْمَغْرِبَ، فَيُصَلِّيهَا ثَلاثًا، ثُمَّ يُسَلِّمُ، ثُمَّ يُقِيمَ الْعِشَاءَ، فَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ. . . الحديث. قوله: (يقيم المغرب ثم يقيم العشاء) ، يحتمل أن يكون معناه بما تقام به الصلوات فى أوقاتها من الأذان والإقامة، ويحتمل أن يريد الإقامة وحدها على ما جاء فى الجمع بعرفة والمزدلفة من الاختلاف فى إقامتها، وقال ابن المنذر: يؤذن ويقيم، فإن أقام ولم يؤذن أجزأَهُ، ولو ترك الأذان والإقامة لم يكن عليه إعادة الصلاة، وإن كان مسيئًا بتركه ذلك، وقد تقدم اختلاف العلماء فى ذلك فى أبواب الأذان قبل هذا، فأغنى عن إعادته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 61 - باب يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إِلَى الْعَصْرِ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ / 81 - فيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَجْمَعُ، وَإِذَا زَاغَتْ، صَلَّى الظُّهْرَ، وَرَكِبَ. أجمع العلماء أنه إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، فإنه يؤخر الظهر إلى العصر، كُل على أصله من القول بالاشتراك، أو يقدم، واختلفوا فى وقت جمع المسافر بين الصلاتين، فذهبت طائفة إلى أنه يجمع بينهما فى وقت إحداهما، هذا قول عطاء بن أبى رباح، وسالم، وجمهور علماء المدينة: أبى الزناد وربيعة وغيرهم، وحكى أبو الفرج عن مالك مثله، وبه قال الشافعى، وإسحاق، قالوا: إن شاء جمع بينهما فى وقت الأولى، وإن شاء جمع فى وقت الآخرة. وقالت طائفة: إذا أراد المسافر الجمع أخرَّ الظهر وعجلَّ العصر وأخر المغرب، وعجل العشاء، وروى هذا عن سعد بن أبى وقاص، وابن عمر، وهو قول مالك فى المزنية، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، وقال: وجه الجمع أن يؤخر الظهر حتى يدخل وقت العصر، ثم ينزل فيجمع بينهما ويؤخر المغرب كذلك، وإن قدَّم فأرجو ألا يكون به بأس. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يصلى الظهر فى آخر وقتها، ثم يمكث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 قليلاً، ثم يصلى العصر فى أول وقتها، ولا يجوز الجمع بين الصلاتين فى وقت إحداهما إلا بعرفة والمزدلفة. وحجة أهل المقالة نَص ودليلٌ، أما الدليل فإن معنى حديث أنس عندهم أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان إذا زاغت الشمس صلى الظهر، ثم ركب، أو صلى الظهر والعصر ثم ركب، لأنه إنما كان يؤخر الظهر إلى العصر إذا لم تزغ الشمس، فكذلك يقدم العصر إلى الظهر إذا زاغت الشمس وعلى ذلك تأولوا حديث ابن عباس الذى فى الباب قبل هذا أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يجمع بين الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، أن ذلك كان إذا زاغت الشمس. وأما النص كحديث معاذ ذكره أبو داود من حديث الليث: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر. وأما من قال: إن الجمع لا يكون إلا فى آخر وقت الظهر وأول وقت العصر، فلم يؤخر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الجمع إلى وقت العصر إلا إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس خاصة، وأما إذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس فإنه كان يجمع فى أول وقت الظهر، ولا يؤخر الجمع إلى العصر، فقولهم خلاف الحديث، وكذلك قول الكوفيين خلاف الآثار، وأثبتها فى ذلك حديث معاذ: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان فى غزوة تبوك، إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، وإن ترحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى العصر، وفى المغرب والعشاء كذلك. فكأنه (صلى الله عليه وسلم) كان يجمع بينهما مرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 فى وقت الظهر، ومرة فى وقت العصر، والمغرب والعشاء، مرة فى وقت المغرب، ومرة فى وقت العشاء، بخلاف قول الكوفيين. وكذلك قال أنس: إن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم يجمع. مخالف لقولهم أنهم لا يجيزون صلاة الظهر فى وقت العصر فى الجمع بين الصلوات. وحجة أخرى من طريق النظر، لو كان كما قالوا لكان ذلك أشد حرجًا وضيقًا من الإتيان بكل صلاة فى وقتها، لأن وقت كل صلاة واسع، ومراعاته أمكن من مراعاة طرفى الوقتين، ولو كان الجمع كما قالوا لجاز الجمع بين العصر والمغرب، وبين العشاء والفجر. ولَمَّا أجمع العلماء أن الجمع بينهما لا يجوز عُلم أن المعنى فى الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء أيضًا، وردت به السنة للرخصة فى اشتراك وقتيهما، فإذا صليت كل صلاة فى وقتها فلا يسمى جمعًا. واحتج أبو الفرج المالكى بما ذكره عن مالك أن له أن يجمع بينهما فى وقت إحداهما أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قدّم العصر إلى الظهر بعرفة، وأخر المغرب إلى العشاء بالمزدلفة، وقال: هذا أصل هذا الباب، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، سافر فقصر وجمع بينهما، والجمع للمسافر أيسر خطبًا من التقصير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 62 - باب إِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ مَا زَاغَتِ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ / 82 - فيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ، أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ زَاغَتِ [الشَّمْسُ] قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ، صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَكِبَ. وقد تقدم فى الباب قبل هذا اختلافهم فى وقت الجمع بين الظهر والعصر، فأغنى عن إعادته، وليس فى حديث أنس تقديم العصر إلى الظهر إذا زاغت الشمس، وذلك محفوظ فى حديث معاذ، ذكره أبو داود، قال: حدثنا يزيد بن خالد، حدثنا المفضل بن فضالة، والليث، عن هشام بن سعد، عن أبى الزبير، عن أبى الطفيل، عن معاذ بن جبل، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذ كان فى غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، وإذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى العصر، وفى المغرب والعشاء كذلك. فجاء فى هذا الحديث ما يقطع الالتباس فى أن للمسافر أن يجمع بين الظهر والعصر إذا واغت الشمس، نازلاً كان أو سائرًا، جَدَّ به السير أو لم يجدَّ، على خلاف ما تأوله أبو حنيفة، وهى حجة على من أجاز الجمع، وإن لم يجد به السير، وقد تقدم ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 63 - باب صَلاةِ الْقَاعِدِ / 83 - فيه: عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى بَيْتِهِ، وَهُوَ شَاكٍ، فَصَلَّى جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: (إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ. . . .) الحديث. / 84 - وفيه: أَنَس، قَالَ: سَقَطَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عن فَرَسٍ، فَخُدِشَ - أَوْ فَجُحِشَ - شِقُّهُ الأيْمَنُ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ، فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَصَلَّى قَاعِدًا، فَصَلَّيْنَا قُعُودًا. . . الحديث. / 85 - وفيه: عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَكَانَ مَبْسُورًا، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ صَلاةِ الرَّجُلِ قَاعِدًا، فَقَالَ: (إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا، فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ) . وترجم له : (باب صَلاةِ الْقَاعِدِ بِالإيماءِ) . أما حديث عائشة ففيه أنه من لم يقدر على صلاة الفريضة لِعِلَّةٍ نزلت به، فإن فرضَهُ الجلوسُ، ألا ترى قولها: (وهو شَاكٍ) ، وكذلك فى حديث أنس أنه سَقَطَ (صلى الله عليه وسلم) من الفرس فَخُدِشَ، أو فَجُحِشَ، شقه فصلى جالسًا. فأراد البخارى أن يدل أن الفريضة لا يصليها أحد جالسًا إلا مَنْ شَكَا ما يمنعُه القيام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 والعلماء مجمعون أن فرض من لا يطيق القيام أن يصلى الفريضة جالسًا، وقد تقدم فى أبواب الإمامة فى باب إنما جعل الإمام ليؤتم به اختلافهم فى إمامة القاعد، فأغنى عن إعادته. وأما حديث عمران فإنما ورد فى صلاة النافلة، لأن المصلى فرضه جالسًا لا يخلو أن يكون مطيقًا على القيام أو عاجزًا عنه، فإن كان مطيقًا وصلى جالسًا فلا تجزئه صلاته عند الجميع، وعليه إعادتها فكيف يكون له نصف فضل مصلى فإذا عجز عن القيام فقد سقط عنه فرض القيام وانتقل فرضه إلى الجلوس، فإذا صلى جالسًا فليس المصلى قائمًا أفضل منه. وأما قوله: (من صلى بإيماء فله نصف أجر القاعد) فلا يصح معناه عند العلماء، لأنهم مجمعون أن النافلة لا يصليها القادر على القيام إيماء وإنما دخل الوهم على ناقل هذا الحديث فأدخل معنى الفرض فى لفظ النافلة، ألا ترى قوله: (كان مبسورًا) وهذا يدل على أنه لم يكن يقدر على أكثر مما أدى به فرضه وهذه صفة صلاة الفرض، ولا خلاف بين العلماء أنه لا يقال لمن لا يقدر على الشىء: لك نصف أجر القادر عليه، بل الآثار الثابتة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه من منعه الله وحبسه عن عمله بمرض أو غيره، فإنه يكتب له أجر عمله، وهو صحيح، ورواية عبد الوارث وروح بن عبادة، عن حسين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 المعلم لحديث عمران هذا تدفعه الأصول، والذى يصح فيه رواية إبراهيم بن طهمان عن حسين المعلم على ما يأتى فى الباب بعد هذا، وهو فى صلاة الفريضة. وقد غلط النسائى فى حديث عمران بن حصين وصحفه وترجم له باب صلاة النائم، فظن أن قوله (صلى الله عليه وسلم) ، ومن صلى بإيماء إنما هو ومن صلى نائمًا والغلط فيه ظاهر، لأنه قد ثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أن للمصلى إذا غلبه النوم أن يقطع الصلاة، ثم بين (صلى الله عليه وسلم) معنى ذلك، قال: (لعله يستغفر فيسب نفسه) فكيف يأمره بقطع الصلاة وهى مباحة له، وله عليها: نصف أجر القاعد. والصلاة لها ثلاثة أحوال: أولها القيام، فإن عجز عنه فالقعود، ثم إن عجز عن القعود فالإيماء، وليس النوم من أحوال الصلاة. 64 - باب إِذَا لَمْ يُطِقْ قَاعِدًا صَلَّى عَلَى جَنْبٍ ، وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذا لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى الْقِبْلَةِ صَلَّى حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ / 86 - فيه: عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: كَانَتْ بِى بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبِىِّ، - عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 السلام -، عَنِ الصَّلاةِ، فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ قَائِمًا فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ. هذا الحديث فى صلاة الفريضة، والعلماء مجمعون أنه يصليها كما يقدر حتى ينتهى به الأمر إلى الإيماء على ظهره أو على جنبه كيفما تيسر عليه، فإن صلى على جنبه كان وجهه إلى القبلة على حسب دفن الميت، وإن صلى على ظهره كانت رجلاه فى قبلته ويومئ برأسه إيماء. ومساق إبراهيم بن طهمان لهذا الحديث، ولم يذكر فيه: فله نصف أجر القائم، يدل أنه فى صلاة الفرض، ويدل أن القيام لا يسقط فرضه إلا بعدم الاستطاعة، ثم كذلك القعود، فإذا لم يقدر على القعود انتقل فرضه إلى الإيماء على جنب أو كيف تهيًا له، حتى يسقط عنه ذلك عند عدم القدرة فيصير إلى حالة الإغماء لا يلزمه شىء. وحديث عمران هذا تعضده الأصول ولا يختلف الفقهاء فى معناه وهو أصح معنى من حديث روح بن عبادة وعبد الوارث عن حسين. 65 - باب إِذَا صَلَّى قَاعِدًا ثُمَّ صَحَّ أَوْ وَجَدَ خِفَّةً تَمَّمَ مَا بَقِى َوَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ شَاءَ الْمَرِيضُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَاعِدًا وَرَكْعَتَيْنِ قَائِمًا / 87 - فيه: عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ: أَنَّهَا لَمْ تَرَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى صَلاةَ اللَّيْلِ قَاعِدًا قَطُّ حَتَّى أَسَنَّ، فَكَانَ يَقْرَأُ قَاعِدًا، حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ، فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ ثَلاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً، ثُمَّ رَكَعَ. هذه الترجمة فى صلاة الفريضة وأما هذا الحديث فهو فى النافلة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 ووجه استنباط البخارى منه حكم الفريضة هو أنه لما جاز فى النافلة القعود لغير علة مانعة من القيام، وكان (صلى الله عليه وسلم) يقوم فيها قبل الركوع، كانت الفريضة التى لا يجوز القعود فيها إلا بعدم القدرة على القيام أولى أن يلزم القيام فيها إذا ارتفعت العلة المانعة منه. وقد اختلف العلماء فى ذلك، فقال ابن القاسم فى المريض يصلى مضطجعًا أو قاعدًا ثم يخف عنه المرض فيجد قوة: أنه يقوم فيما بقى من صلاته، ويبنى على ما مضى منها، وهو قول زفر والشافعى. وقال أبو حنفية، وأبو يوسف، ومحمد: إن صلى ركعة مضطجعًا ثم صح: أنه يستقبل الصلاة ولو كان قاعدًا يركع ويسجد، بنى فى قول أبى حنيفة، ولم يبن فى قول محمد بن الحسن. وقال ابن القصار: الدليل على أنه يبنى أن للمصلى ثلاثة أحوال، أولها: القيام مع القدرة، وثانيها: القعود إن عجز عن القيام، وثالثها: الإيماء إن عجز عن القعود، فقدرته على القعود بعد الإيماء يوجب عليه البناء، فيجب أن تكون قدرته على القيام توجب عليه البناء، لأنه أصل كالقعود. فإن قيل: الفصل بين المومئ والقاعد أن القاعد يقدر على الركوع والسجود، والمومئ لا يقدر عليه، والقاعد معه بدل القيام، والمومئ لا بدل معه منه. قيل: صلاته بالإيماء صحيحة كقدرته على القيام والقعود فقد استوت أحواله، فإذا كان عجزه عن فرض لا يبطل الفرض الآخر ويبنى معه، فقدرته على فرض لا تبطل الفرض الآخر ويبنى معه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 فإن قالوا: قد جوزنا معكم إمامة القاعد، ومنعنا إمامة المومئ فثبت الفرق بينهما، لأن القاعد بدل القيام والقعود جميعًا، وقد صح عقده لتكبيرة الإحرام كما تصح فى قيامه وقعوده، وأما التفرقة بينهما فى الإمامة فليس إذا أبطلنا حكم المأموم لعلة فى الإمام، وجب أن تبطل صلاة الإمام، وصلاة المومئ فى نفسه صحيحة، وإن لم يصح الائتمام به، كصلاة المرأة هى صحيحة وإن لم يصح الائتمام بها، والأمى بالقارئ. وكذلك اختلفوا فيمن افتتح الصلاة قائمًا وصلى ركعة، ثم عجز عن القيام وصار إلى حال الإيماء، فعند مالك أنه يبنى عليها قاعدًا وبه قال أبو حنيفة، والثورى، والشافعى. وقال أبو يوسف، ومحمد: تبطل صلاته إلا أن يتمادى قائمًا، والدلائل المتقدمة تلزمه، لأن طرءان العجز بعد القدرة كطرءان القدرة بعد العجز، وأن العجز عن الركن لا يبطل حكم الركن المقدور عليه كما أن القدرة إذا طرأت لم تبطل حكم ما مضى. واختلفوا فى النافلة يفتتحها قاعدًا، هل يجوز له أن يركع قائمًا؟ قال الطحاوى: فكره ذلك قوم، واحتجوا بما رواه حماد بن زيد عن بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق العقيلى، عن عائشة قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يكثر الصلاة قائمًا وقاعدًا فإذا صلى قائمًا ركع قائمًا، وإذا صلى قاعدًا ركع قاعدًا. وخالفهم آخرون فأجازوا لمن افتتح النافلة قاعدًا أن يركع قائمًا واحتجوا بحديث عائشة المذكور فى هذا الباب، وهو قول أبى حنيفة، وأبى يوسف، ومحمد، وهو قياس قول مالك، وقاله أشهب. وقال الطحاوى: هذا الحديث أولى من حديث ابن شقيق، عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 عائشة، لأن فى هذا الحديث أنه كان يركع قائمًا بعدما افتتح الصلاة قاعدًا، وهو نص فى موضع الخلاف، وتماديه على الركوع فى حديث ابن شقيق حتى يركع قاعدًا لا يدل أنه ليس له أن يقوم فيركع قائمًا، وقيامه من قعوده حتى يركع قائمًا يدل أن له أن يركع قائمًا بعد ما افتتح قاعدًا، وهو حكم زائد، والزيادة يجب الأخذ بها، فلذلك جعلناه أولى من حديث ابن شقيق. وقال مالك: من افتتح النافلة قائمًا ثم شاء الجلوس فله ذلك. وخالفه أشهب فقال: إذا أحرم قائمًا فى نافلة فلا يجلس لغير عذر، وقد لزمه تمامها بما نوى فيها من القيام، فإن فعل أعاد إلا أن يغلب فلا قضاء عليه. 66 - باب التَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ وَقَوْلِهِ: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ) [الإسراء: 79] أى أسهر نافلة لك / 88 - فيه: ابْنَ عَبَّاس قَالَ: كَانَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ، قَالَ: (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 لِى مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، أَوْ لا إِلَهَ غَيْرُكَ) . التهجد عند العرب: التيقظ والسهر بعد نومة من الليل، والهجود أيضًا النوم، يقال تهجد: إذا سهر، وهجد: إذا نام. وقوله: (نَافِلَةً لَّكَ) [الإسراء: 79] يعنى فضلا لك عن فرائضك. واختلف فى المعنى الذى من أجله خص بذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال بعضهم: إنما خص بذلك لأنها كانت عليه فريضة ولغيره تطوع، فقال: أقمها نافلة لك: عن ابن عباس. وقال مجاهد: إنما قيل له ذلك لأنه لم يكن فعله ذلك يكفر عنه شيئًا من الذنوب، لأن الله كان قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكان له نافلة فضل وزيادة، فأما غيره فهو كفارة له وليس له نافلة. وقال الطبرى: وقول ابن عباس أولى بالصواب، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قد كان خصه الله بما فرضه عليه من قيام الليل دون سائر أمته، ولا معنى لقول مجاهد، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان أشد استغفارًا لربه بعد نزول قوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) [الفتح: 2] وذلك أن هذه السورة نزلت عليه بعد منصرفه من الحديبية وأنزل عليه: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) [النصر: 1] عام قبض، وقيل له فيها) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر: 3] فكان يعد استغفاره فى المجلس الواحد مائة مرة، ومعلوم أن الله تعالى، لم يأمره أن يستغفره إلا بما يغفر له باستغفاره فبان فساد قول مجاهد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 وقال قتادة نافلة لك: تطوعًا وفضيلة. وفى حديث ابن عباس تهجده (صلى الله عليه وسلم) وأنه كان يدعو عند قيامه ويخلص الثناء على الله بما هو أهله والإقرار بوعده ووعيده وفيه الأسوة الحسنة. وقوله: (أنت قيم السماوات والأرض) فيه ثلاث لغات يقال: قيام وقيوم وقيم. قال مجاهد: القيوم القائم على كل شىء وكذلك قال أبو عبيد. وقوله: (أنت نور السموات والأرض) أى بنورك يهتدى من فى السماوات ومن فى الأرض. وقوله: (أنت الحق) فالحق اسم من أسمائه وصفة ومن صفاته. (وقولك الحق) يعنى قولك الصدق والعدل. (ووعدك حق) يعنى لا تخلف الميعاد وتجزى الذين أساءوا بما عملوا إلا ما تجاوز عنه، وتجزى الذين أحسنوا بالحسنى. وقوله: (ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق) فيه الإقرار بالبعث بعد الموت، والإقرار بالجنة والنار، والإقرار بالأنبياء عليهم السلام. وقوله: (لك أسلمت) معناه: انقدت لحكمك وسلمت ورضيت. وقوله: (وبك آمنت) يعنى صدقت بك وبما أنزلت، والإيمان فى اللغة: التصديق. (وعليك توكلت) تبرأ إليه من الحول والقوة وصرف أموره إليه. قال الفراء: الوكيل: الكافى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 وقوله: (إليك أنبت) أى أطعت أمرك، والمنيب المقبل بقلبه إلى الله (وبك خاصمت) يقول: بما آتيتنى من البراهين احتججت. (وإليك حاكمت) يعنى إليك احتكمت مع كل من أبى قبول الحق والإيمان، وكان (صلى الله عليه وسلم) يقول عند القتال: (اللهم أنزل الحق) ويستنصر. وقوله: (اغفر لى ما قدمت، وأخرت، وأسررت، وأعلنت) أمر الأنبياء وإن كانوا قد غفر لهم أن يستغفروا الله ويدعوا الله، ويرغبوا إليه، ويرهبوا منه، وكان (صلى الله عليه وسلم) يقول: (اللهم إنى أستغفرك من عمدى، وخطئى، وجهلى، وظلمى، وكل ذلك عندى) يقر على نفسه بالتقصير، وكان يقول فى سجوده: (اللهم باعد بينى وبين خطاياى كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقنى من الذنوب كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس) وبهذا رفع الله رسله وأنبياءه، أنهم يجتهدون فى الأعمال لمعرفتهم بعظمة من يعبدونه، فأمتهم أحرى بذلك. قاله الداوودى. قال المهلب: وقوله: (أنت المقدم، وأنت المؤخر) يعنى أنه قُدّم فى البعث إلى الناس على غيره (صلى الله عليه وسلم) ، بقوله: (نحن الآخرون السابقون) ثم قدمه عليهم يوم القيامة بما فضله به على سائر الأنبياء، فسبق بذلك الرسل. 67 - باب فَضْلِ قِيَامِ اللَّيْلِ / 89 - فيه: ابْنِ عُمَرَ كَانَ الرَّجُلُ مَنا فِى زمن رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا رَأَى رُؤْيَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا فَأَقُصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَكُنْتُ غُلامًا شَابًّا، وَكُنْتُ أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، فَرَأَيْتُ فِى النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِى فَذَهَبَا بِى إِلَى النَّارِ، فَإِذَا هِىَ مَطْوِيَّةٌ كَطَىِّ الْبِئْرِ، وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ، وَإِذَا فِيهَا أُنَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ، فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ، فَقَالَ لِى: لَمْ تُرَعْ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ) ، فَكَانَ بَعْدُ لا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلا قَلِيلا. قال المهلب: إنما فسر الرسول هذه الرؤيا فى قيام الليل، والله أعلم، من أجل قول الملك الآخر: لم ترع، أى لم تعرض عليك لأنك مستحقها، إنما ذُكِّرْتَ بها، ثم نظر رسول الله فى أحوال عبد الله فلم ير شيئًا يغفل عنه من الفرائض فيذكر بالنار، وعلم مبيته فى المسجد فعبر بذلك، لأنه منبه على قيام الليل فيه بالقرآن، ألا ترى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، رأى الذى علمه القرآن ونام عنه بالليل تشدخ رأسه إلى يوم القيامة فى رؤياه (صلى الله عليه وسلم) . وفيه: أن قيام الليل ينجى من النار. وروى سنيد: حدثنا يوسف بن محمد بن المنكدر، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (قالت أم سليمان لسليمان: يا بنى لا تكثر النوم بالليل فإن كثرة النوم بالليل تدع الرجل فقيرًا يوم القيامة) . وذكر الطبرى، قال: حدثنا أحمد بن بشير، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (الرؤيا ثلاث: فرؤيا حق، ورؤيا يحدث بها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 الرجل نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان، فمن رأى ما يكره فليقم فليصل) . فيه: تمنى الخير والعلم والحرص عليه، لأن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، وتفسير النبى لها من العلم الذى يجب الرغبة فيه. 68 - باب طُولِ السُّجُودِ فِى قِيَامِ اللَّيْلِ / 90 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ الرَسُولَ كَانَ يُصَلِّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، كَانَتْ تِلْكَ صَلاتَهُ، يَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ؛ الحديث. أما طول سجود النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى قيام الليل فذلك، والله أعلم لاجتهاده فيه بالدعاء والتضرع إلى الله، وذلك أبلغ أحوال التواضع والتذلل إلى الله تعالى، وهو الذى أبى إبليس منه فاستحق بذلك اللعنة إلى يوم الدين والخلود فى النار أبدًا، فكان (صلى الله عليه وسلم) يطول فى السجود فى خلوته ومناجاته لله شكرًا على ما أنعم به عليه، وقد كان غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وفيه: الأسوة الحسنة لمن لا يعلم ما يفعل به أن يمتثل فعله (صلى الله عليه وسلم) فى صلاته بالليل وجميع أفعاله ويلجأ إلى الله فى سؤال العفو والمغفرة، فهو الميسر لذلك عز وجهه، وكان السلف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 يفعلون ذلك، قال أبو إسحاق: ما رأيت أحدًا أعظم سجدة من ابن الزبير. وقال يحيى بن وثاب: كان ابن الزبير يسجد حتى تنزل العصافير على ظهره، وما تحسبه إلا جرم حائط. 69 - باب تَرْكِ الْقِيَامِ لِلْمَرِيضِ / 91 - فيه: جُنْدَب، اشْتَكَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ. / 92 - وَقَالَ جُنْدَب: احْتَبَسَ جِبْرِيلُ عَن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ: أَبْطَأَ عَلَيْهِ شَيْطَانُهُ فَنَزَلَتْ: (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى: 1، 5] . قال المؤلف: روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه من كان له حظ من العبادة ومنعه الله منها بمرض، فإن الله عز وجل يتفضل عليه بهبة ثوابها. وروى أبو موسى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إذا مرض العبد، أو سافر يكتب له ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا) ، ذكره البخارى فى كتاب الجهاد. وروى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (ما من عبد يكون له صلاة يغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة) . قال المهلب: لما لم يقم النبى (صلى الله عليه وسلم) وقت شكواه، ولم تسمعه المرأة يصلى حينئذ ظنت هذا الظن والقصة واحدة رواها جندب. وقد روى: أن خديجة قالت للنبى (صلى الله عليه وسلم) حين أبطأ عنه الوحى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 إن ربك قد قلاك، فنزلت: (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى: 1، 5] ، فأعطاه الله ألف قصر فى الجنة من لؤلؤ ترابها المسك فى كل قصر ما ينبغى له. ذكره بقى بن مخلد فى التفسير. وقد قيل فى هذا الحديث: من لم يرزء فى جسمه فليظن أن الله قد قلاه. لكن روى عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لا يحزن أحدكم ألا يرانى فى منامه، إذا كان طالبًا للعلم، فله فى ذلك العوض) . 70 - باب تَحْرِيضِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى قيام اللَّيْلِ وَالنَّوَافِلِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ وَطَرَقَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَاطِمَةَ وَعَلِيًّا لَيْلا لِلصَّلاةِ / 93 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) اسْتَيْقَظَ لَيْلَةً، فَقَالَ: (سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتْن؟ مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ؟ يَا رُبَّ كَاسِيَةٍ فِى الدُّنْيَا، عَارِيَةٍ فِى الآخِرَةِ) . / 94 - وفيه: عَلِىَّ، أَنَّ الرَسُول (صلى الله عليه وسلم) طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لَيْلَةً، فَقَالَ: (أَلا تُصَلِّيَانِ) ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَىَّ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلا) [الكهف: 54] . / 95 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَيَدَعُ الْعَمَلَ، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ، فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ. . . . . الحديث. / 96 - وقالت عَائِشَةَ: صَلَّى رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ذَاتَ لَيْلَةٍ فِى الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى بِصَلاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ، فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمَّا أَصْبَحَ، قَالَ: (قَدْ رَأَيْتُ الَّذِى صَنَعْتُمْ، وَلَمْ يَمْنَعْنِى مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلا أَننِّى خَشِيتُ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْكُمْ وَذَلِكَ فِى رَمَضَانَ) . وفى حديث أم سلمة، وحديث على فضل صلاة الليل وإنباه النائمين من الأهل والقرابة، قال الطبرى: وذلك أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أيقظ لها عليًا وبنته مرتين، حثا لهما على ذلك فى وقت جعله الله لخلقه سكنًا، لَمَّا علم عظيم ثواب الله عليها، وشرفت عنده منازل أصحابها، اختار لهم إحراز فضلها على السكون والدعة. قال المهلب: فى حديث على رجوع المرء عما ندب إليه، إذا لم يوجب ذلك، وأنه ليس للإمام والعالم أن يشتد فى النوافل وقوله: (أنفسنا بيد الله) ، فهو كلام صحيح قنع به النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، من العذر لترك النافلة، ولا يعذر بمثل هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 فى فريضة، وقوله: (أنفسنا بيد الله) ، كقول بلال: (أخذ بنفسى الذى أخذ بنفسك) ، وهو معنى قوله تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) [الزمر: 42] ، أى أن نفس النائم ممسكة بيد الله، وأن التى فى اليقظة مرسلة إلى جسدها، غير خارجة من قدرة الله تعالى، فقنع بذلك النبى (صلى الله عليه وسلم) وانصرف. وأما ضربه فخذه وقوله: (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلا) [الكهف: 54] ، فإنه يدل أنه ظن أنه أحرجهم وندم على إنباههم، وكذلك لا يحرج الناس إذا حُضوا على النوافل، ولا يُضيق عليهم، وإنما يذكروا فى ذلك ويشار عليهم. وقوله: (ماذا أنزل الليلة من الفتن؟ وماذا أنزل من الخزائن) ؟ قال ذلك لما أعلمه الله من الوحى أنه يفتح على أمته من الغنى والخزائن، وعرفه أن الفتن مقرونة بها مخوفة على من فتحت عليه، ولذلك آثر كثير من السلف القلة على الغنى، خوف التعرض لفتنة المال، وقد استعاذ النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، من فتنة الغنى كما استعاذ من فتنة الفقر. وقوله: (من يوقظ صواحب الحجرات) ، يريد أزواجه (صلى الله عليه وسلم) ، يعنى من يوقظهن للصلاة بالليل، وهذا يدل أن الصلاة تنجى من شر الفتن، ويُعتصم بها من المحن. وقوله: (كاسية فى الدنيا عارية فى الآخرة) ، يريد كاسية بالثياب الواصفة لأجسامهن لغير أزواجهن، ومن يحرم عليه النظر إلى ذلك منهن، وهن عاريات فى الحقيقة فربما عوقبت فى الآخرة بالتعرى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 الذى كانت إليه مائلة فى الدنيا، مباهية بحسنها، فعرف النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أن الصلاة تعصم من شر ذلك، وقد فسر مالك حديث كاسيات عاريات أنهن لابسات رقيق الثياب، وقد يحتمل أن يريد (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (كاسية فى الدنيا عارية فى الآخرة) النهى عن لباس رقيق الثياب واصفًا كان أو غير واصف خشية الفتنة، وسيأتى هذا المعنى مستوعبًا فى كتاب الفتن فى باب لا يأتى زمان إلا الذى بعده شر منه. وأما حديث عائشة، فظاهره أن من الفرائض ما يفرض الله على العباد من أجل رغبتهم فيها وحرصهم عليها، والأصول ترد هذا التوهم، وذلك أن الله فرض على عباده الفرائض، وهو عالم بثقلها وشدتها عليهم، أراد محنتهم بذلك لتتم الحجة عليهم، فقال: (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) [البقرة 45] ، وقال موسى لمحمد، (صلى الله عليه وسلم) ، ليلة الإسراء حين رده الله من خمسين صلاة إلى خمس صلوات: (راجع ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك) . ويحتمل حديث عائشة، والله أعلم، معنيين: أحدهما أنه يمكن أن يكون هذا القول منه (صلى الله عليه وسلم) فى وقت فرض قيام الليل عليه دون أمته، لقوله فى الحديث: (لم يمنعنى من الخروج إليكم إلا أننى خشيت أن تفرض عليكم) ، فدل أنه كان فرضًا عليه وحده. وقد روى عن ابن عباس أن قيام الليل كان فرضًا على النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ذكره ابن الأدفوى، فيكون معنى قول عائشة: (إن كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليدع العمل) ، يعنى إن كان يدع إظهار عمله لأمته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 ودعاءهم إلى فعله معه، لا أنها أرادت أنه كان يدع العمل أصلاً، وقد فرضه الله تعالى عليه، أو ندبه إليه، لأنه كان أتقى أمته لله وأشدهم اجتهادًا، ألا ترى أنه لما اجتمع الناس من الليلة الثالثة، أو الرابعة لم يخرج إليهم، ولا شك أنه صلى حزبه تلك الليلة فى بيته. فخشى إن خرج إليهم والتزموا معه صلاة الليل أن يسّوى الله تعالى بينهم وبينه فى حكمها، فيفرضها عليهم من أجل أنها فرض عليه، إذ المعهود فى الشريعة مساواة حال الإمام والمأموم فى الصلاة، فما كان منها فريضة فالإمام والمأموم فيها سواء، وكذلك ما كان منها سنة أو نافلة. والمعنى الثانى هو أن يكون خشى من مواظبتهم على صلاة الليل معه أن يضعفوا عنها فيكون من تركها عاصيًا لله فى مخالفته لنبيه وترك اتباعه، متوعدًا بالعقاب على ذلك، لأن الله تعالى فرض اتباعه، فقال: (واتبعوه لعلكم تهتدون) [الأعراف: 158] ، وقال فى ترك اتباعه: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) [النور: 63] ، فخشى على تاركها أن يكون كتارك ما فرض الله عليه، لأن طاعة الرسول (صلى الله عليه وسلم) كطاعة الله، وكان (صلى الله عليه وسلم) رفيقًا بالمؤمنين رحيمًا بهم. وسيأتى فى باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنى فى كتاب الاعتصام زيادة فى هذا المعنى وبيانه، إن شاء الله تعالى. وقال المهلب: فى حديث عائشة أن قيام رمضان بإمام ومأمومين سنة، لأنه (صلى الله عليه وسلم) صلى بصلاته ناس ائتموا به، وهذا خلاف قول من أزرى فقال: [. . . .] عمر. ولم يتق الله فى مقالته، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 ولا صدق، لأن الناس كانوا يصلون لأنفسهم أفذاذًا، وإنما فعل عمر التخفيف عنهم، فجمعهم على قارئ واحد يكفيهم القراءة ويفرغهم للتدبر. وقد احتج قوم من الفقهاء بقعود النبى (صلى الله عليه وسلم) عن الخروج إلى أصحابه الليلة الثالثة، أو الرابعة، وقالوا: إن صلاة رمضان فى البيت للمنفرد أفضل من صلاتها فى المسجد، منهم مالك، وأبو يوسف، والشافعى، وقال مالك: كان ربيعة وغير واحد من علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس، وأنا أفعل ذلك، وما قام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا فى بيته. وذكر ابن أبى شيبة، عن ابن عمر، وسالم، وعلقمة، والأسود، أنهم كانوا لا يقومون مع الناس فى رمضان. وقال الحسن البصرى: لأن تفوه بالقرآن أحب إليك من أن يفاه به عليك. ومن الحجة لهم أيضًا حديث زيد بن ثابت: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، حين لم يخرج إليهم قال لهم: (إنى خشيت أن بفرض عليكم، فصلوا أيها الناس فى بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء فى بيته إلا المكتوبة) . فأخبر أن التطوع فى البيت أفضل منه فى المسجد لاسيما مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى مسجده. وخالفهم آخرون، فقالوا: صلاتها فى الجماعة أفضل. قال الليث: لو أن الناس فى رمضان قاموا لأنفسهم وأهليهم حتى تترك المساجد، حتى لا يقوم فيها أحد لكان ينبغى أن يخرجوا من بيوتهم إلى المسجد حتى يقوموا فيه، لأن قيام الناس فى رمضان الأمر الذى لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 ينبغى تركه، وهو مما سَنَّ عمر بن الخطاب للمسلمين وجمعهم عليه. ذكر ابن أبى شيبة، عن عبد الله بن السائب، قال: كنت أصلى بالناس فى رمضان، فبينا أنا أصلى إذ سمعت تكبير عمر على باب المسجد قدم معتمرًا، فدخل فصلى خلفى. وكان ابن سيرين يصلى مع الجماعة، وكان طاوس يصلى لنفسه ويركع ويسجد معهم، وقال أحمد بن حنبل: كان جابر يصليها فى جماعة. وروى عن على، وابن مسعود مثل ذلك، وهو قول محمد بن عبد الحكم. قال الطحاوى: وممن قال إن الجماعة أفضل: عيسى بن أبان، والمزنى، وبكار بن قتيبة، وأحمد بن أبى عمران، واحتج أحمد فى ذلك بحديث أبى ذر: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، خرج لما بقى من الشهر سبع فصلى بهم حتى مضى ثلث الليل، ثم لم يصل بنا السادسة، ثم خرج الليلة الخامسة، فصلى بنا حتى مضى شطر الليل، فقلنا: يا رسول الله، لو نفلتنا، قال: (إن القوم إذا صلوا مع الإمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة) ، ثم خرج الليلة السابعة، وخرجنا وخرج بأهله، حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، وهو السحور. رواه ابن أبى شيبة، عن محمد بن فضيل، عن داود بن أبى هند، عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرشى، عن جبير بن نفير، عن أبى ذر. قال الطحاوى: وكل من اختار التفرد، فينبغى أن يكون ذلك على أن لا ينقطع معه القيام فى المسجد، فأما الذى ينقطع معه القيام فى المسجد فلا. قال: وقد أجمعوا على أنه لا يجوز تعطيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 المساجد عن قيام رمضان، فصار هذا القيام واجبًا على الكفاية فمن فعله كان أفضل ممن انفرد كالفروض التى على الكفاية. قال ابن القصار: أما الذين لا يقدرون ولا يقوون على القيام، فالأفضل لهم حضورها ليسمعوا القرآن وتحصل لهم الصلاة ويقيموا السنة التى قد صارت عَلَمًا. 71 - باب قِيَامِ اللَّيْلَ قَالَتْ عَائِشَةُ: قام النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى تَفَطَّرَ قَدَمَاهُ. وَالْفُطُورُ: الشُّقُوقُ، انْفَطَرَتْ: انْشَقَّتْ. / 97 - فيه: الْمُغِيرَةَ، إِنْ كَانَ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) لَيَقُومُ؛ أو لِيُصَلِّىَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ، أَوْ سَاقَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: (أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا) . قال المهلب: فيه أخذ الإنسان على نفسه بالشدة فى العبادة، وإن أضر ذلك ببدنه، وذلك له حلال، وله أن يأخذ بالرخصة ويكلف نفسه ما عفت له به وسمحت، إلا أن الأخذ بالشدة أفضل، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أفلا أكون عبدًا شكورًا) ، فكيف من لم يعلم أنه استحق النار أم لا؟ فمن وفق للأخذ بالشدة فله فى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أفضل الأسوة. وإنما ألزم الأنبياء والصالحون أنفسهم شدة الخوف، وإن كانوا قد أمنوا، لعلمهم بعظيم نعم الله عليهم، وأنه ابتدأهم بها قبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 استحقاقها، فبذلوا مجهودهم فى شكره تعالى بأكبر مما افترض عليهم فاستقلوا ذلك. ولهذا المعنى قال طلق بن حبيب: إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، ونعمه أكثر من أن تحصى ولكن أصبحوا قانتين وأمسوا تائبين، وهذا كله مفهوم من قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [فاطر: 28] . 72 - باب مَنْ نَامَ عِنْدَ السَّحَرِ / 98 - فيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرِو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ لَهُ: (أَحَبُّ الصَّلاةِ إِلَى اللَّهِ صَلاةُ دَاوُدَ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا) . / 99 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ أَحَبَّ الْعَمَل إِلَى رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) الدَّائِمُ، قُلْتُ: مَتَى كَانَ يَقُومُ؟ قَالَتْ: إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ) . / 100 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا أَلْفَاهُ السَّحَرُ عِنْدِى إِلا نَائِمًا، تَعْنِى النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: هذا يدل أن دواد كان يجم نفسه بنوم أول الليل، ثم يقوم فى الوقت الذى ينادى فيه الله تعالى: هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ ثم يستدرك من النوم ما يستريح فيه من نصب القيام فى بقية الليل. وإنما صارت هذه الطريقة أحب إلى الله من أجل الأخذ بالرفق على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 النفوس التى يخشى منها السآمة والملل الذى هو سبب إلى ترك العبادة، والله يحب أن يديم فضله، ويوالى إحسانه أبدًا، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله لا يمل حتى تملوا) . يعنى أن الله لا يقطع المجازاة على العبادة حتى تقطعوا العمل. فأخرج اللفظ المجازاة بلفظ الفعل، لأن الملل غير جائز على الله تعالى، ولا هو من صفاته. وقول عائشة: (كان يقوم إذا سمع الصارخ) ، فهو فى حدود ثلث الليل الآخر، ليتحرى وقت تنزل الله تعالى، ثم يرجع إلى الاضطجاع للراحة من نصب القيام، ولما يستقبله من طول قيام صلاة الصبح، فلذلك كان ينام عند السحر، وهذا كان يفعله (صلى الله عليه وسلم) فى الليالى الطوال، وفى غير شهر رمضان، لأنه قد ثبت عنه تأخير السحور على ما يأتى فى الباب بعد هذا، إن شاء الله. 73 - باب مَنْ تَسَحَّرَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاةِ فَلَمْ يَنَمْ حَتَّى الصُّبْحَ / 101 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ تَسَحَّرَا، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ سَحُورِهِمَا، قَامَ نَبِىُّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى الصَّلاةِ، فَصَلَّيا قُلْت لأنَسٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَحُورِهِمَا وَدُخُولِهِمَا فِى الصَّلاة؟ ِ قَالَ: كَقَدْرِ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَةً. فى هذا الحديث تأخير السحور. وقوله: (كم كان بين فراغهما ودخولهما فى الصلاة) يريد صلاة الصبح، وقد ترجم البخارى لهذا الحديث فى كتاب الصيام، باب قدر كم بين السحور وصلاة الصبح. إلا أنه أول ما قام إليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 ركعتا الفجر، لأنه حين [. . . . .] الفجر، وكان بين سحوره (صلى الله عليه وسلم) وصلاة الصبح قدر خمسين آية [. . . .] تلك المدة التى تقدر بخمسين آية صلى ركعتى الفجر، ثم قعد ينتظر الصبح. 74 - باب طُولِ الْقِيَامِ فِى صَلاةِ اللَّيْلِ / 102 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ، قُلْنَا: وَمَا هَمَمْتَ بِهِ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ أَقْعُدَ وَأَذَرَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) . / 103 - وفيه: حُذَيْفَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ إِذَا قَامَ لِلتَّهَجُّدِ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ. قال المهلب: فيه أن مخالفة الإمام أمر سوء كما قال ابن مسعود، وقال تعالى: (فليحذر الذين يخالفون أمره) [النور: 63] الآية، وكذلك قال (صلى الله عليه وسلم) للذين صلوا خلفه قيامًا، وهو جالس: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، إلى قوله: (فإذا صلى جالسًا، فصلوا جلوسًا أجمعون) ، فينبغى أن يكون ما خالف الإمام من أمر الصلاة وغيرها من سيئ الأعمال. وفى حديث ابن مسعود دليل على طول القيام فى صلاة الليل، لأن ابن مسعود أخبر أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يزل قائمًا حتى همّ بالقعود، وهذا لا يكون إلا لطول القيام، لأن ابن مسعود كان جلدًا مقتديًا بالرسول محافظًا على ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 وقد اختلف العلماء: هل الأفضل فى صلاة التطوع طول القيام، أو كثرة الركوع والسجود، فذهبت طائفة إلى أن كثرة الركوع والسجود فيها أفضل، وروى عن أبى ذر: أنه كان لا يطيل القيام ويكثر الركوع والسجود، فسئل عن ذلك، فقال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (من ركع ركعة وسجد سجدة رفعه الله بها درجة، وحطت عنه بها خطيئة) . وروى عن ابن عمر، أنه رأى فتىً يصلى قد أطال صلاته، فلما انصرف قال: من يعرف هذا؟ قال رجل: أنا، قال عبد الله: لو كنت أعرفه لأمرته أن يطيل الركوع والسجود، فإنى سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (إذا قام العبد يصلى أتى بذنوبه فجعلت على رأسه وعاتقيه، وكلما ركع وسجد تساقطت عنه) . وقال يحيى بن رافع: كان يقال: لا تطل القراءة فى الصلاة، فيعرض لك الشيطان فيمنيك. وقال آخرون: طول القيام أفضل، واحتجوا بما روى وكيع، عن الأعمش، عن أبى سفيان، عن جابر، قال: سئل رسول الله، أى الصلاة أفضل؟ قال: (طول القنوت) . وهو قول إبراهيم، وأبى مجلز، والحسن البصرى. وإليه ذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وقال أشهب: هو أحب إلىّ لكثرة القراءة، على سعة ذلك كله. قال الطحاوى: وليس فى حديث أبى ذر ما يخالف هذا الحديث، لأنه قد يجوز أن يكون قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من ركع لله ركعة وسجد سجدة رفعه الله بها درجة وحَطَّ عنه خطيئة) . وإن زاد مع ذلك طول القيام كان أفضل، وكان ما يعطيهم الله من الثواب أكثر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 هذا أَوْلى ما حُمل عليه معنى الحديث، لئلا يضاد الأحاديث الأُخر، وكذلك حديث ابن عمر ليس فيه تفضيل الركوع والسجود على طول القيام، وإنما فيه ما يعطاه المصلى على الركوع والسجود من حط الذنوب عنه، ولعله يعطى بطول القيام أفضل من ذلك، وحديث ابن مسعود يشهد بصحة هذا القول. قال المؤلف: وأما حديث حذيفة فلا مدخل له فى هذا الباب، لأن شوص الفم بالسواك فى صلاة الليل لا يدل على طول الصلاة، ولا قصرها، كما لا يدل عليه قوله: (لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ، أنه أراد طوال الصلوات دون القصار، وهذا الحديث يمكن أن يكون من غلط الناسخ، فكتب فى غير موضعه، وإن لم يكن كذلك فإن البخارى أعجلته المنية عن تهذيب كتابه وتصفحه، وله فيه مواضع مثل هذا تدل على أنه مات قبل تحرير الكتاب، والله أعلم. وفيه: أن السواك من الرغائب وهو من الفطرة، وقال أبو زيد: الشوص: الاستياك من سفل إلى علو، وبه سمى هذا الداء (شَوْصَة) لأنه ريح يرفع القلب عن موضعه. وقال أبو حنيفة فى كتاب النيات: شاص فاه بالسواك شوصًا، وماصه موصًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 75 - باب كَيْفَ صَلاةُ الليْلِ؟ وَكَمْ كَانَ الرسُول يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ؟ / 104 - فيه: ابْن عُمَر،: إنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ صَلاةُ اللَّيْلِ؟ قَالَ: (مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ) . / 105 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتْ صَلاةُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يَعْنِي بِاللَّيْلِ. / 106 - وفيه: عَائِشَةَ، أن صَلاةِ النَّبِىّ بِاللَّيْلِ، سَبْعٌ وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ سِوَى رَكْعَتِى الْفَجْرِ. / 107 - وقالت أيضًا: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْهَا الْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ. وذهب أكثر العلماء إلى أن صلاته بالليل مثنى مثنى، على حديث ابن عمر، وقالوا: قوله: (مثنى مثنى) يفيد التسليم فى كل ركعتين ليفصل بينها وبين صلاة أربع، وإلا فلا يفيد هذا الكلام، لأنه على التقدير تكون صلاة الظهر والعصر والعشاء مثنى مثنى، فلما لم يقل لواحدة منها مثنى مثنى علم أن المثنى يقتضى الفصل بالسلام، وسأذكر اختلاف العلماء فى ذلك فى صلاة النهار، وهل هى مثنى مثنى فى بابه بعد هذا، إن شاء الله. وأما عدد صلاته (صلى الله عليه وسلم) بالليل، فإن الآثار اختلفت فى ذلك عن ابن عباس وعائشة، فروى أبو جمرة، عن ابن عباس: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يصلى ثلاث عشرة ركعة. ورواه مالك، عن مخرمة بن سليمان، عن كريب، عن ابن عباس، أنه بات عند خالته ميمونة فذكر أنه صلى مع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إحدى عشرة ركعة بالوتر. فهذا خلاف ما روى مالك، عن مخرمة، عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 كريب، ذكره النسائى، وروى شريك ابن أبى نمر، عن كريب، عن ابن عباس، أنه صلى مع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إحدى عشرة ركعة. وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله. وذكر الطحاوى، عن على بن معبد، قال: حدثنا شبابة بن سوار، حدثنا يونس بن أبى إسحاق، عن المنهال بن عمر، عن على بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، قال: أمرنى العباس أن أبيت عند النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وقدم إلىّ ألا تنام حتى تحفظ لى صلاته، قال: فصليت معه إحدى عشرة ركعة بالوتر. وأما اختلاف الآثار، عن عائشة أيضًا، فروى مسروق، والقاسم بن محمد، وأبو سلمة، عن عائشة: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى إحدى عشرة ركعة سوى ركعتى الفجر. وروى عنها خلاف ذلك من حديث مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلى من الليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلى إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين. وكذلك روى عن زيد بن خالد الجهنى حين رمق صلاة النبى بالليل ثلاث عشرة ركعة بالوتر. وقد أكثر الناس القول فى هذه الأحاديث، فقال بعضهم: إن هذا الاختلاف جاء من قبل عائشة، وابن عباس، لأن رواة هذه الأحاديث الثقات الحفاظ، وكل ذلك قد عمل به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليدل على التوسعة فى ذلك، وأن صلاة الليل لا حدّ فيها لا يجوز تجاوزه إلى غيره وكلٌ سُنَّةٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 وقال آخرون: بل جاء الاختلاف فيها من قبل الرواة، وأن الصحيح منها إحدى عشرة ركعة بالوتر. قالوا: وقد كشفت عائشة هذا المعنى ورفعت الإشكال فيه لقولها: (ما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يزيد فى رمضان ولا فى غيره على إحدى عشرة ركعة) ، وهى أعلم الناس بأفعاله لشدة مراعاتها له، وهى أضبط لها من ابن عباس، لأنه إنما رمق صلاته مرةً حين بعثه العباس ليحفظ صلاته بالليل، وعائشة رقبت ذلك دهرها كله. فما روى عنها مما خالف إحدى عشرة ركعة فهو وهم، ويحتمل الغلط فى ذلك أن يقع من أجل أنهم عدّوا ركعتى الفجر مع الإحدى عشرة ركعة، فتمت بذلك ثلاث عشرة ركعة. وقد جاء هذا المعنى بيانًا فى بعض طرق الحديث، روى عبد الرزاق، عن الثورى، عن سلمة بن كهيل، عن كريب، عن ابن عباس، قال: بت عند خالتى ميمونة، فقام الرسول (صلى الله عليه وسلم) يصلى، فتمطيت كراهية أن يرانى أراقبه، ثم قمت ففعلت مثل ما فعل فصلى فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة منها ركعتا الفجر، ثم نام حتى نفخ، فجاءه بلال فآذنه بالصلاة، فقام فصلى ولم يتوضأ. وروى ابن وهب، عن ابن أبى ذئب، ويونس، وعمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، أخبرهم عن عروة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلى فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة، ويسجد سجدة قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية، فإذا سكت المؤذن من أذان الفجر وتبين له الفجر ركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 فكل ما خالف هذا عن ابن عباس، وعائشة فهو وهم. وقالوا: ومما يدل على صحة هذا التأويل قول ابن مسعود للرجل الذى قال: قرأت المفصّل فى ركعة فقال: هذا كَهَذِّ الشِّعْر، لقد عرفت النظائر التى كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقرن بينهما، فذكر عشرين سورة من المفصل، سورتين فى كل ركعة. فدل هذا أن حزبه بالليل عشر ركعات، ثم يوتر بواحدة، قاله المهلب، وأخوه عبد الله. وقال آخرون: الذى تأتلف عليه أحاديث النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى الصلاة بالليل وينفى التعارض عنها، والله أعلم، أنه قد روى أبو هريرة، وعائشة، عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه كان إذا قام من الليل يصلى افتتح صلاته بركعتين خفيفتين. فمن جعل صلاته بالليل عشر ركعات والوتر واحدة لم يعتد بهاتين الركعتين فى صلاته، ومن عدها جعلها ثلاث عشرة ركعة سوى ركعتى الفجر. وأما حديث أبى هريرة، فرواه ابن عيينة، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا قام أحدكم من الليل يصلى فليصل ركعتين خفيفتين يفتتح بهما صلاته) . وحديث عائشة رواه ابن أبى شيبة، عن هشيم، قال: حدثنا أبو حرة، عن الحسن، عن سعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 بن هشام، عن عائشة، عن النبى مثله. وأما قول عائشة: (إن صلاة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بالليل سبع وتسع) فقد روى الأسود عنها أنها قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلى من الليل تسع ركعات، فلما أسن صلى سبع ركعات. وروى عنها أنه كان يصلى بعد السبع ركعتين وهو جالس، وبعد التسع كذلك. رواه معمر، عن قتادة، عن الحسن، قال: أخبرنا سعد بن هشام، أنه سمع عائشة تقول: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوتر بتسع ركعات وهو جالس، فلما ضعف أوتر بسبع ركعات وهو جالس. قال المهلب: وإنما كان يوتر بتسع ركعات، والله أعلم، حين يفاجئه الفجر، وأما إذا اتَّسَع له الليل فما كان ينقص من عشر ركعات، للمطابقة التى بينها وبين الفرائض التى امتثلها (صلى الله عليه وسلم) فى نوافله وامتثلها فى الصلوات المسنونة. 76 - باب قِيَامِ النَّبِىِّ بِاللَّيْلِ مِنْ نَوْمِهِ وَمَا نُسِخَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا (إلى قوله: (سَبْحًا طَوِيلا) [المزمل: 1 - 7] وَقَوْلُهُ: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ (إلى قوله: (غفور رحيم) [المزمل: 20] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَشَأَ: قَامَ بِالْحَبَشِيَّةِ: (وِطَاءً (قَالَ: مُوَاطَأَةَ للْقُرْآنِ أَشَدُّ مُوَافَقَةً لِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقَلْبِهِ.) لِيُوَاطِئُوا (: لِيُوَافِقُوا. / 108 - وفيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لا يَصُومَ مِنْهُ، وَيَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لا يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ لا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلا رَأَيْتَهُ، وَلا نَائِمًا إِلا رَأَيْتَهُ. قال المؤلف: ذكر ابن الأدفوى أن للعلماء فى قوله تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ) [المزمل: 2 - 3] أقوالا منها: أن قوله: (قُمِ اللَّيْلَ (ليس معناه الفرض، يدل على ذلك أن بعده: (نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) [المزمل: 3 - 4] وليس كذا يكون الفرض وإنما هو ندب وحض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 وقيل: هو حتم. والقول الثالث: أن يكون حتمًا وفرضًا على النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وحده، روى ذلك عن ابن عباس، وحجة هذا القول قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لم يمنعنى من الخروج إليكم إلا أنى خشيت أن يفرض عليكم) فهذا يبين أنه لم يكن فرضًا عليهم. ويجوز أن يكون فرضًا عليه وعلى أمته، ثم نسخ بعد ذلك بقوله: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) [المزمل: 2] وعلى هذا جماعة من العلماء، وحجتهم ما روى النسائى، قال: حدثنا إسماعيل بن مسعود، قال: حدثنا خالد بن الحارث، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن زرارة بن أبى أوفى، عن سعد بن هشام، قال: قلت لعائشة: أنبئينى عن قيام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قالت: إن الله افترض القيام فى أول) يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) [المزمل: 1] على النبى وعلى أصحابه حتى انتفخت أقدامهم وأمسك الله خاتمتها اثنى عشر شهرًا، ثم نزل التخفيف فى آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعًا بعد أن كان فريضة، وقال النحاس: هذا قول ابن عباس، ومجاهد، وزيد بن أسلم وجماعة. وقال الحسن، وابن سيرين: صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو قدر حلب شاة. قال إسماعيل بن إسحاق: أحسبهما قالا ذلك لقوله تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ) [المزمل: 20] . وقال الشافعى: سمعت بعض العلماء يقول: إن الله، تعالى، أنزل فرضًا فى الصلاة قبل فرض الصلوات الخمس، فقال: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ) [المزمل: 1 - 3] الآية، ثم نسخ هذا بقوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ (ثم احتمل قوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ (أن يكون فرضًا ثابتًا، لقوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ) [الإسراء: 79] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 فوجب طلب الدليل عن السُّنَّة على أحد المعنيين، فوجدنا سُنَّة الرسول تدل ألا واجب من الصلوات إلا خمس. وقوله تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) [المزمل: 2 - 4] التقدير، والله أعلم، أنه منصوب بإضمار فعل كأنه قال تعالى: قم نصف الليل إلا قليلا، فعلم تعالى أن هذا القليل يختلف الناس فى تقديره على قدر أفهامهم وطاقتهم على القيام، فقال: أو انقص من نصف الليل بعد إسقاط ذلك القليل قليلا أو زد عليه، وكأن هذا تخييرًا من الله تعالى، إرادة الرفق بخلقه والتوسعة عليهم.) وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) [المزمل: 4] أى اقرأه على ترسل، عن مجاهد.) قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل: 5] حلاله وحرامه، عن مجاهد. وقيل: العمل به، عن الحسن) نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) [المزمل: 6] بعد النوم، أى ابتداء عمله شيئًا بعد شىء وهو من نشأ إذا ابتدأ. ابن عباس ومجاهد: هى الليل كله. ابن عمر وغيره: هى ما بين المغرب والعشاء.) أَشَدُّ وَطْئًا) [المزمل: 6] أى أمكن موقعًا. الأخفش: أشد قيامًا. قتادة: أثبت فى الخير، وأشد للحفظ، للتفرغ بالليل. وأصل الوطء الثقل، ومن قولهم: اشتدت وطأة الشيطان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 ومن قرأ: (وطاء) فالمعنى أشد مهادًا للتصرف فى التفكر والتدبر، عن مجاهد، يواطئ السمع والبصر والقلب.) وَأَقْوَمُ قِيلاً) [المزمل: 6] أى أثبت للقراءة، عن مجاهد. قال بعضهم: ولهذا المعنى فرض الله صلاة الليل بالساعات جزءًا من الليل لا جزءًا من القرآن، إرادة التنبيه على تفقهه وتدبره والعمل بالقلب، وأنه ليس بهذه الحروف وجريه على اللسان، وأن الثواب بمقدار تمام الساعات التى يقرأ فيها.) سَبْحًا طَوِيلاً) [المزمل: 7] أى فراغاً، عن ابن عباس وغيره. قال المهلب: وحديث أنس يدل أن أعمال التطوع ليست منوطة بأوقات معلومة، وإنما هى على قدر الإرادة لها والنشاط فيها. 77 - باب عَقْدِ الشَّيْطَانِ عَلَى قَافِيَةِ الرَّأْسِ إِذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ / 109 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ الرَسُولَ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ عِنْدَ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلانَ) . / 110 - وفيه: سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ عَنِ الرَسُولَ فِى الرُّؤْيَا قَالَ: (أَمَّا الَّذِى يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفِضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ) . قال المهلب: قد فسر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، معنى العقد وهو قوله: (عليك ليل طويل فارقد) كأنه يقولها إذا أراد النائم الاستيقاظ إلى حزبه فيعتقد فى نفسه أنه بقيت من الليل بقية طويلة حتى يروم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 بذلك إتلاف ساعات ليله وتفويت حزبه، فإذا ذكر الله انحلت عقدة، أى علم أنه قد مر من الليل طويل وأنه لم يبق منه طويل، فإذا قام وتوضأ استبان له ذلك أيضًا وانحل ما كان عقد فى نفسه من الغرور والاستدراج، فإذا صلى واستقبل القبلة انحلت العقدة الثالثة، لأنه لم يصغ إلى قوله، ويئس الشيطان منه. والقافية: هى مؤخرة الرأس، وفيه العقل والفهم، فعقده فيه إثباته فى فهمه أنه بقى عليه ليل طويل. (فيصبح نشيطًا طيب النفس) ، لأنه مسرور بما قدم، مستبشر بما وعده الله من الثواب والغفران، وإذا لم يصل (أصبح خبيث النفس) ، أى مهمومًا بجواز كيد الشيطان عليه، و (كسلان) بتثبيط الشيطان له عما كان اعتاده من فعل الخير. قال المؤلف: ورأيت لبعض من فَسَّرَ هذا الحديث، قال: العقد الثلاث هى: الأكل والشرب والنوم، وقال: ألا ترى أن من أكثر الأكل والشرب أنه يكثر نومه لذلك، والله أعلم بصحة هذا التأويل وبما أراد (صلى الله عليه وسلم) من ذلك. قال المهلب: وقوله فى حديث سمرة: (يأخذ القرآن فيرفضه) ، يعنى يترك حفظ حروفه والعمل بمعانيه، فأما إذا ترك حفظ حروفه وعمل بمعانيه فليس برافض له، لكنه قد أتى فى الحديث أنه يحشر يوم القيامة أجذم أى مقطوع الحجة، والرافض له يثلغ رأسه وذلك لعقد الشيطان فيه، فوقعت العقوبة فى موضع المعصية. وقوله: (ينام عن الصلاة المكتوبة) ، يعنى لخروج وقتها وفواته، وهذا إنما يتوجه إلى تضييع صلاة الصبح وحدها، لأنها هى التى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 تبطل بالنوم، وهى التى أكد الله المحافظة عليها، وفيها تجتمع الملائكة، وسائرُ الصلوات إذ ضُيعت فحملها محملها، لكن لهذه الفضل. 78 - باب إِذَا نَامَ وَلَمْ يُصَلِّ بَالَ الشَّيْطَانُ فِى أُذُنِهِ / 111 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، رَجُلٌ، فَقَالَ: مَا زَالَ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحَ مَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ، فَقَالَ: (بَالَ الشَّيْطَانُ فِى أُذُنِهِ) . قال المهلب: قوله: (بال الشيطان فى أذنه) على سبيل الإغياء من تحكم الشيطان فى العقد على رأسه بالنوم الطويل، وقال ابن مسعود: كفى لامرئ من الشر أن يبول الشيطان فى أذنه. قال ابن قتيبة: والعرب تقول: بال فى كذا إذا أفسده، قال الفرزدق: وإن الذى يسعى ليفسد زوجتى كساعٍ إلى أسد الشرى يستبيلها معناه: يطلب مفسدتها. 79 - باب الدُّعَاءِ فِى الصَّلاةِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ وَقَالَ تَعَالَى: (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) [الذاريات: 17] يَنَامُونَ. / 112 - فيه: أَبُو هُرَيْرَة، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 إِلَى سَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِى فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِى فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِى فَأَغْفِرَ لَهُ) . قال ابن فورك: حجة أهل البدع هذا الحديث وشبهه، وقالوا: لا يمكن حمل شىء منه على تأويل صحيح من غير أن يكون فيه تشبيه، أو تحديد، أو وصف للرب تعالى بما لا يليق به، وقد ورد التنزيل، بمعنى هذا الحديث وهو قوله: (وجاء ربك والملك صفا صفا) [الفجر: 22] ، و) هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله فى ظلل من الغمام والملائكة) [البقرة: 21] ، و) أتى الله بنيانهم من القواعد) [النحل: 26] . ولا فرق بين الإتيان والمجئ والنزول إذا أضيف جميع ذلك إلى الأجسام التى يجوز عليها الحركة والنقلة التى هى تفريغ مكان زشغل غيره، فإذا أضيف ذلك إلى من لا يليق به الانتقال والحركة كان تأويل ذلك على حسب ما يليق بنعته وصفته عزَّ وجلَّ. فمن ذلك أنا وجدنا لفظة النزول فى اللغة مستعملة على معانٍ مختلفة، فمنها النزول بمعنى الانتقال والتحويل كقوله: (وأنزلنا من السماء ماءً طهورًا) [الفرقان: 48] ، ومنها النزول بمعنى الإعلام كقوله: (نزل به الروح الأمين) [الشعراء: 193] ، أى أعلم به الروحُ الأمين محمدًا، (صلى الله عليه وسلم) . ومنها النزول بمعنى القول فى قوله تعالى: (سأنزل مثل ما أنزل الله) [الأنعام: 93] ، أى سأقول مثل ما قال، ومنها النزول بمعنى الإقبال على الشىء، وذلك هو المستعمل فى كلامهم الجارى فى عرفهم، وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 أنهم يقولون: نزل فلان من مكارم الأخلاق إلى دنيّها، أى أقبل إلى دنيها، ونزل قدر فلان عند فلان، أى انخفض. ومنها النزول بمعنى نزول الحكم، من ذلك قولهم: كنا فى خير وعدل حتى نزل بنا بنو فلان، أى حكمهم، وكل ذلك متعارف عند أهل اللغة، وإذا كانت هذه اللفظة مشتركة المعنى فينبغى حمل ما وصف به الرب تعالى من النزول على ما يليق به من بعض هذه المعانى. إما أن يراد به إقباله على أهل الأرض بالرحمة والتنبيه الذى يلقى فى قلوب أهل الخير منهم، والزواجر التى تزعجهم إلى الإقبال على الطاعة، ويحتمل أن يكون ذلك فعلا يظهر بأمره، فيضاف إليه، كما يقال: ضرب الأمير اللص، ونادى الأمير فى البلد، وإنما أمر بذلك، فيضاف إليه الفعل على معنى أنه عن أمره ظهر، وإذا احتمل ذلك فى اللغة لم ينكر أن يكون لله ملائكة يأمرهم بالنزول إلى السماء الدنيا بهذا النداء والدعاء، فيضاف إلى الله. وقد روى هذا التأويل فى بعض طرق هذا الحديث، روى النسائى، قال: حدثنا إبراهيم ابن يعقوب، حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبى، عن الأعمش، حدثنا أبو إسحاق، حدثنا أبو مسلم، عن الأغر، قال: سمعت أبا هريرة، وأبا سعيد الخدرى يقولان: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله يمهل حتى يمضى شطر الليل الأول، ثم يأمر مناديًا ينادى يقول: هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يغفر له، هل من سائل يعطى) . وقد سئل الأوزاعى عن معنى هذا الحديث، فقال: يفعل الله ما يشاء. وهذه إشارة منه إلى أن ذلك فعل يظهر منه تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 وقد روى حبيب، عن مالك، أنه قال فى هذا الحديث: ينزل أمره ورحمته، وقد رواه غير حبيب عنه، روى محمد بن على البجلى بالقيروان، قال: حدثنا جامع بن سوادة، قال: حدثنا مطرف، عن مالك بن أنس، أنه سئل عن هذا الحديث، فقال: ذلك تنزل أمره. وقد سئل بعض العلماء عن حديث النزول، فقال: تفسيره قول إبراهيم حين أفل النجم: (لا أحب الآفلين) [الأنعام: 76] فطلب ربا لا يجوز عليه الانتقال والحركات، ولا يتعاقب عليه النزول، وقد مدحه الله بذلك وأثنى عليه فى كتابه، فقال: (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين) [الأنعام: 75] ، فوصفه لأنه بقوله هذا، موقن. وفى حديث أبى هريرة أن آخر الليل أفضل للدعاء والاستغفار، وقال تعالى: (وبالأسحار هم يستغفرون) [الذرايات: 18] وروى محارب بن دثار، عن عمه: أنه كان يأتى المسجد فى السحر فيمر بدار ابن مسعود فيسمعه: اللهم إنك أمرتنى فأطعت، ودعوتنى فأجبت، وهذا السحر فاغفر لى. فسئل ابن مسعود عن ذلك، فقال: إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر بقوله: (سوف أستغفر لكم ربى) [يوسف: 98] . وروى الجريرى: (أن داود، (صلى الله عليه وسلم) ، سأل جبريل أى الليل أسمع؟ فقال: لا أدرى، غير أن العرش يهتز فى السحر) . وقوله: (أسمع) يريد أنها أوقع للسمع، والمعنى: أنها أولى بالدعاء وأرجى للاستجابة، وهذا كقول ضماد حين عَرض عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الإسلام، فقال: سمعت كلامًا لم أسمع قط أسمع منه يريد أبلغ منه، ولا أنجع فى القلب. عن الخطابى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 وترجم لحديث التنزل فى كتاب الدعاء، باب الدعاء نصف الليل، وسأذكر فيه معنى تخصيص الله ثلث الليل بإجابة الدعاء، إن شاء الله تعالى. 80 - باب مَنْ نَامَ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَأَحْيَا آخِرَهُ وَقَالَ سَلْمَانُ لأبِى الدَّرْدَاءِ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قَالَ: قُمْ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (صَدَقَ سَلْمَانُ) . / 113 - وفيه: الأسْوَدِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ كَيْفَ كَانَتْ صَلاةُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِاللَّيْلِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَنَامُ أَوَّلَهُ، وَيَقُومُ آخِرَهُ فَيُصَلِّى، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَثَبَ، فَإِنْ كَانَت بِهِ حَاجَةٌ اغْتَسَلَ وَإِلا تَوَضَّأَ وَخَرَجَ. قال المهلب: إنما كان يقوم آخره من أجل حديث التنزل، وهذا كان فعل السلف، روى الزهرى، عن عروة، عن عبد الرحمن بن عبد القارى، قال: قال عمر بن الخطاب: الساعة التى تنامون فيها أعجب إلىّ من الساعة التى تقومون فيها. وقال ابن عباس فى قيام رمضان: ما تتركون منه أفضل مما تقومون فيه. وفيه: دليل أنه فى رجوعه من الصلاة إلى فراشه قد كان يطأ ويصبح جنبًا، ثم يغتسل، وقد كان لا يفعل ذلك. 81 - باب قِيَامِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) بِاللَّيْلِ فِى رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ / 114 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَزِيدُ فِى رَمَضَانَ وَلا فِى غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّى أَرْبَعًا، فَلا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّى أَرْبَعًا، فَلا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّى ثَلاثًا، قَالَتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ فَقَالَ: (يَا عَائِشَةُ، إِنَّ عَيْنَىَّ تَنَامَانِ، وَلا يَنَامُ قَلْبِى) . / 115 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يَقْرَأُ فِى شَىْءٍ مِنْ صَلاةِ اللَّيْلِ جَالِسًا، حَتَّى إِذَا كَبِرَ قَرَأَ جَالِسًا، فَإِذَا بَقِىَ عَلَيْهِ مِنَ السُّورَةِ ثَلاثُونَ أَوْ أَرْبَعُونَ آيَةً، قَامَ فَقَرَأَهُنّ، َ ثُمَّ رَكَعَ. وقد تقدم اختلاف الآثار فى عدد صلاته (صلى الله عليه وسلم) بالليل فى باب كيف كانت صلاته بالليل، وكم كان يصلى بالليل، فأغنى عن إعادته. وقد اختلف السلف فى عدد الصلاة فى رمضان، فذكر ابن أبى شيبة، قال: حدثنا يزيد ابن هارون، قال: حدثنا إبراهيم بن عثمان، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يصلى فى رمضان عشرين ركعة والوتر، وروى مثله عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وأبى بن كعب، وبه قال: الكوفيون والشافعى، إلا أن إبراهيم هذا هو جد بنى شيبة، وهو ضعيف، فلا حجة فى حديثه، والمعروف القيام بعشرين ركعة فى رمضان عن عمر وعلى. وقال عطاء: أدركت الناس يصلون ثلاثًا وعشرين ركعة، الوتر منها ثلاثًا. وروى ابن مهدى عن داود بن قيس، قال: أدركت الناس بالمدينة فى زمن عمر بن عبد العزيز، وأبان بن عثمان يصلون ستا وثلاثين ركعة، ويوترون بثلاث، وهو قول مالك وأهل المدينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 وأما قول عائشة: يصلى أربعًا فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم أربعًا، ثم ثلاثًا، فقد تقدم فى أبواب الوتر أن ذلك مرتب على قوله (صلى الله عليه وسلم) : (صلاة الليل مثنى مثنى) لأنه مفسر وقاض على المجمل، وقد جاء بيان هذا فى بعض طرق هذا الحديث، روى ابن أبى ذئب، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلى بالليل إحدى عشرة ركعة بالوتر، يسلم بين كل ركعتين. وقيل فى قولها: يصلى أربعًا، ثم أربعًا، أنه كان ينام بعد الأربع، ثم يصلى، ثم ينام بعد الأربع، ثم يقوم فيوتر بثلاث، فاحتج من قال ذلك بحديث الليث، عن ابن أبى مليكة، عن يعلى، عن أم سلمة أنها وصفت صلاة رسول الله بالليل وقراءته فقالت: كان يصلى ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلى قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى، ثم يقوم فيوتر. وقال أبو الحسن القابسى: أما قول عائشة للنبى (صلى الله عليه وسلم) : تنام قبل أن توتر، فإنها توهمت أن الوتر بإثر العشاء لا يكون غيره على ما رأت من أبيها، لأنه كان يوتر بإثر العشاء، فلما أتت النبى ورأته يؤخر وتره إلى الوقت المرغب فيه رأت خلاف ما علمت من فعل أبيها، فسألته (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك فأخبرها أن عينيه تنامان ولا ينام قلبه وليس ذلك لأبيها، وهذه من أعلى مراتب الأنبياء، عليهم السلام، ولذلك قال ابن عباس: (رؤيا الأنبياء وحى) لأنهم يفارقون سائر البشر فى نوم القلب ويساوونهم فى نوم العين. روى أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبى، - عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 السلام -، نام حتى سمع غطيطه، ثم صلى ولم يتوضأ، قال عكرمة: كان رسول الله محفوظًا. فإن قيل: فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يتوضأ من النوم. قيل له: كان يتوضأ لكل صلاة، ولا يبعد أن يتوضأ إذا خامر قلبه النوم واستولى عليه، وذلك فى النادر كنومه فى سفره عن صلاة الصبح، لِيَسُنَّ لأمته أن الصلاة لا يسقطها خروج الوقت وإن كان مغلوبًا بنوم أو نسيان. وفى حديث عائشة الثانى قيامه (صلى الله عليه وسلم) بالليل. قال المهلب: ومعنى قيامه بالليل عند الركوع، والله أعلم، لئلا يخلى نفسه من فضل القيام فى آخر الركعة، وليكون انحطاطه إلى الركوع والسجود من القيام، إذ هو أبلغ وأشد فى التذلل والخضوع لله، عز وجل. 82 - باب فَضْلِ الصَّلاةِ بَعْدَ الطُّهُورِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ / 116 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ لِبِلال: حَدِّثْنِى بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإسْلامِ، فَإِنِّى سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَىَّ فِي الْجَنَّةِ؟) قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلا أَرْجَى عِنْدِى أَنِّى لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِى أَنْ أُصَلِّىَ. قال المهلب: فيه دليل أن الله يعظم المجازاة على ما ستر العبد بينه وبين ربه مما لا يطلع عليه أحد، ولذلك استحب العلماء أن يكون بين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 العبد وبين ربه خبيئة عمل من الطاعة يدخرها لنفسه عند ربه، ويدل أنها كانت خبيئة بين بلال وبين ربه أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يعرفها حتى سأله عنها، وفى سؤال النبى عن ذلك دليل على سؤال الصالحين عما يهديهم الله إليه من الأعمال المقتدى بهم فيها، ويمتثل رجاء بركتها. وقوله: (دف نعليك) قال: وقال صاحب العين: يقال: دف الطائر إذا حرك جناحيه، ورجلاه فى الأرض. 83 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّشْدِيدِ فِي الْعِبَادَةِ / 117 - فيه: أَنَسِ، دَخَلَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَّارِيَتَيْنِ فَقَالَ: (مَا هَذَا الْحَبْلُ؟) قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ به، فَقَالَ: (صلى الله عليه وسلم) : (لا حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ) . / - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ عِنْدِى امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَدَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (مَنْ هَذِهِ؟) قُلْتُ: فُلانَةُ، لا تَنَامُ بِاللَّيْلِ، تَذْكُر مِنْ صَلاتِهَا، فَقَالَ: (مَهْ، عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنَ الأعْمَالِ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا) . إنما يكره التشديد فى العبادة خشية الفتور وخوف الملل، ألا ترى قوله: (خير العمل ما دام عليه صاحبه وإن قل) وقد قال تعالى: (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) [البقرة: 286] وقال تعالى: (وما جعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 عليكم فى الدين من حرج) [الحج: 78] فكره (صلى الله عليه وسلم) الإفراط فى العبادة، لئلا ينقطع عنها المرء فيكون كأنه رجوع فيما بذله من نفسه لله، تعالى، وتطوع به، وقد تقدم معنى قوله: (فإن الله لا يمل حتى تملوا) فى كتاب العلم، ونذكر منه هاهنا طرفًا، والمعنى أن الله لا يقطع الثواب عنكم حتى تقطعوا أنتم العمل به بالملل الذى هو من شأنكم، لأن الملل لا يجوز على الله ولا هو من صفاته، وإنما أخبر بالملل عنه تعالى للمساواة بين قسمى الكلام، كما قال تعالى: (ومكروا ومكر الله) [آل عمران: 54] . وقد اختلف السلف فى التعلق بالحبل فى النافلة عند الفتور والكسل، فذكر ابن أبى شيبة عن أبى حازم: أن مولاته كانت فى أصحاب الصفة قالت: وكانت لنا حبال نتعلق بها إذا فترنا ونعسنا فى الصلاة، فأتانا أبو بكر فقال: اقطعوا هذه الحبال وافضوا إلى الأرض. وقال حذيفة فى التعلق فى الصلاة: إنما يفعل ذلك اليهود، ورخص فى ذلك آخرون، قال عراك بن مالك: أدركت الناس فى رمضان تربط لهم الحبال يستمسكون بها من طول القيام. وفى باب استعانة اليد فى الصلاة بعد هذا من كره الاعتماد على الشىء فى الصلاة ومن أجازه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 84 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ تَرْكِ قِيَامِ اللَّيْلِ لِمَنْ كَانَ يَقُومُهُ / 119 - فيه: عَبْدُ اللَّه بْنُ عَمْرِو، قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ: (أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ باللَّيْلِ وَتَصُومُ بالنَّهَارِ؟) ، قُلْتُ: إِنِّى أَفْعَلُ ذَلِكَ، قَالَ: (فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ عَيْنُكَ، وَنَفِهَتْ نَفْسُكَ، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ حَقًّا، وَلأهْلِكَ حَقًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ) . قال المهلب: فيه أن من دخل فى طاعة الله وقطعها فإنه مذموم، وقد عاب الله قومًا بذلك فقال: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) [الحديد: 27] فاستحقوا الذم حين لم يفوا بما تطوعوا به، ولا رعوه حق رعايته، فصار رجوعًا منهم عنه، فلذلك لا ينبغى أن يدخل فى شىء من العبادة ويرجع عنها، بل ينبغى أن يرتقى المرء كل يوم فى درج الخير، ويرغب إلى الله أن يجعل خاتمة عمله خيرًا من أوله، ولذلك كان (صلى الله عليه وسلم) لا يحب من العمل إلا ما دام عليه صاحبه وإن قل. فإن كان قطع العمل بمرض أو شغل وضعف عنه فلا لوم عليه، بل يرجى له من الله ألا يقطع أجره، فقد جاء عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أن المريض يكتب له أجر ما كان يعمله فى صحته، وفى كتاب الله ما يشهد لذلك قوله: (ثم رددناه أسفل سافلين) [التين: 5] ، يعنى بالهرم والضعف) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) [التين: 6] ، أى غير مقطوع وإن ضعفوا عن العمل يكتب لهم أجر عملهم فى الشباب والصحة. وقوله: (إن لنفسك عليك حقًا) يريد ما جعل الله، تعالى، للإنسان من الراحة المباحة واللذة فى غير محرم، فإن فى ذلك قوة على طاعة الله ونشاطًا إليها، وكذلك للأهل حق على الزوج أن يوفيهم حقوق الزوجية، وأن ينظر لهم فيما لابد لهم من أمور الدنيا والآخرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 وقوله (هجمت عينك) : غارت، عن أبى عمرو الشيبانى. وقال الأصمعى: هجمت ونفهت: أعيت، ويقال للمُعْيى: نافه ومُنفَّه. 85 - باب فَضْلِ مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى / 120 - فيه: عُبَادَةُ، قَالَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ العلى العظيم، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى، أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى، قُبِلَتْ صَلاتُهُ) . / 127 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قال رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ أَخًا لَكُمْ لا يَقُولُ الرَّفَثَ) ، يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ رَوَاحَةَ: وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا يَبِيتُ يُجَافِى جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الْفَجْرِ سَاطِعُ بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ / - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: رَأَيْتُ كَأَنَّ بِيَدِي قِطْعَةَ اِسْتَبْرَقٍ فَكَأَنِّى لا أُرِيدُ مَكَانًا مِنَ الْجَنَّةِ إِلا طَارَتْ إِلَيْهِ، وَرَأَيْتُ وكَأَنَّ اثْنَيْنِ أَتَيَانِى أَرَادَا أَنْ يَذْهَبَا بِى إِلَى النَّارِ، فَتَلَقَّاهُمَا مَلَكٌ، فَقَالَ: لَمْ تُرَعْ، خَلِّيَا عَنْهُ. وذكر الحديث. قال المؤلف: حديث عبادة شريف عظيم القدر، وفيه ما وعد الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 عباده على التيقظ من نومهم لهجة ألسنتهم بشهادة التوحيد له والربوبية، والإذعان له بالملك، والاعتراف له بالحمد على جزيل نعمه التى لا تحصى، رطبة أفواهم بالإقرار له بالقدرة التى لا تتناهى، مطمئنة قلوبهم بحمده وتسبيحه وتنزيهه عما لا يليق بالإلهية من صفات النقص، والتسليم له بالعجز عن القدرة عن نيل شىء إلا به تعالى. فإنه وعد بإجابة دعاء من بهذا دعاه، وقبول صلاة من بعد ذلك صلى، وهو تعالى لا يخلف الميعاد، وهو الكريم الوهاب فينبغى لكل مؤمن بلغه هذا الحديث أن يغتنم العمل به، ويخلص نيته لربه العظيم أن يرزقه حظا من قيام الليل، فلا عون إلا به، ويسأله فكاك رقبته من النار، وأن يوفقه لعمل الأبرار، ويتوفاه على الإسلام. قد سأل ذلك الأنبياء الذين هم خيرة الله وصفوه من خلقه، فمن رزقه الله حظا من قيام الليل فليكثر شكره على ذلك، ويسأله أن يديم له ما رزقه، وأن يختم له بفوز العاقبة، وجميل الخاتمة. وقوله: (إن أخا لكم لا يقول الرفث) وذكر قول ابن رواحة يدل أن حسن الشعر محمود كحسن الكلام، وتبين أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يريه خيرٌ له من أن يمتلئ شعرًا) أنه لا يراد به كل الشعر، وإنما المراد به الشعر الذى فيه الباطل والهجر من القول، لأنه (صلى الله عليه وسلم) قد نفى عن ابن رواحة بقوله هذه الأبيات، قول الرفث، وإذا لم تكن من الرفث فهى فى حَيِّزِ الحق، والحق مرغب فيه، مأجور عليه صاحبه. وفى حديث ابن عمر أن قيام الليل ينجى من النار، وقد تقدم القول فيه فى باب فضل قيام الليل، وقال صاحب العين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 التعارّ: السهر والتقلب على الفراش ليلا مع كلام، أخذه من عرار الطير وهو صوته. 86 - باب الْمُدَاوَمَةِ عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ / 123 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: صَلَّى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْعِشَاءَ، ثُمَّ صَلَّى ثَمَان رَكَعَاتٍ، وَرَكْعَتَيْنِ جَالِسًا، وَرَكْعَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدَعْهُمَا أَبَدًا. هذا الحديث يدل على فضل ركعتى الفجر وأنهما من أشرف التطوع، لمواظبته (صلى الله عليه وسلم) عليهما وملازمته لهما. روى ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة، قالت: ما رأيت رسول الله يسرع إلى شىء من النوافل إسراعه إلى ركعتى الفجر، ولا إلى غنيمة. وروى قتادة، عن زرارة بن أبى أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة، قالت: قال رسول الله: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) . وقال أبو هريرة: لا تدع ركعتى الفجر ولو طرقتك الخيل. وقال عمر: هما أحب إلى من حمر النعم. وقال إبراهيم: إذا صلى ركعتى الفجر ثم مات أجزأه من صلاة الفجر. وقال على: سألت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، عن إدبار النجوم، فقال: (ركعتين بعد الفجر) قال على وأدبار السجود: ركعتين بعد المغرب. وروى مثله عن عمر، وأبى هريرة. واختلف العلماء فى الوقت الذى يقضيهما فيه من فاتته، فقالت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 طائفة: يركعهما بعد صلاة الصبح، هذا قول: عطاء وطاوس، ورواية عن ابن عمر، ورواية المزنى، عن الشافعى، وأبى ذلك مالك وأكثر العلماء، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس) . وقالت طائفة: يقضيهما بعد طلوع الشمس، روى ذلك عن ابن عمر، والقاسم بن محمد، وهو قول: الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، ورواية البويطى، عن الشافعى، وقال مالك، ومحمد بن الحسن: يقضيهما بعد طلوع الشمس إن أحب، وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: لا يقضيهما من فاتته، وليسا بمنزلة الوتر. واختلفوا فيمن لم يصلهما وأدرك الإمام فى صلاة الصبح أو أقيمت عليه، فقالت طائفة: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، روى ذلك عن عمر وابن عمر، وأبى هريرة، وبه قال: الشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وفيه قول ثان: أنه يصليهما فى المسجد والإمام يصلى، روى ذلك عن ابن مسعود، وبه قال الثورى والأوزاعى، إلا أنهما قالا: إن خشى أن تفوته الركعتان دخل مع الإمام، وإن طمع بإدراك الركعة الثانية صلاهما ثم دخل مع الإمام. وقال أبو حنيفة مثله، إلا أنه قال: لا يركعهما فى المسجد. وقال مالك: إن دخل المسجد فلا يركعهما وليدخل معه فى الصلاة، وإن كان خارج المسجد ولم يخف أن يفوته الإمام بركعة فليركعهما، وإن خاف أن تفوته الركعة الأولى فليدخل وليصل معه، ثم يصليهما إن أحب بعد طلوع الشمس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 87 - باب الضِّجْعَةِ عَلَى الشِّقِّ الأيْمَنِ بَعْدَ رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ / 124 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا صَلَّى رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأيْمَنِ. ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الضجعة بعد ركعتى الفجر سُنَّة يجب بها العمل وممن كان يفعلها: أبو موسى الأشعرى، ورافع بن خديج، ورواية ضعيفة عن ابن عمر ذكرها ابن أبى شيبة، وروى مثله عن ابن سيرين وعروة. وذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الضجعة إنما كان يفعلها للراحة من تعب القيام، وكرهوها، وممن كرهها من السلف: ذكر ابن أبى شيبة، قال: قال أبو الصديق الناجى: رأى ابن عمر قومًا قد اضطجعوا بعد ركعتى الفجر، فأرسل إليهم فنهاهم، فقالوا: نريد بذلك السُّنَّة، فقال ابن عمر: ارجع إليهم فأخبرهم أنها بدعة. وعن ابن المسيب قال: رأى ابن عمر رجلا اضطجع بعد الركعتين فقال: احصبوه. وقال أبو مجلز: سألت ابن عمر عنها، فقال: يتلعب بكم الشيطان. وقال ابن مسعود: ما بال أحدكم إذا صلى الركعتين يتمعك كما يتمعك الحمار. وكرهها النخعى. وقال سعيد بن جبير: لا تضطجع بعد الركعتين قبل الفجر، واضطجع بعد الوتر. قال المهلب: واضطجاعه (صلى الله عليه وسلم) بعد الركعتين إنما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 كان فى الغِبِّ، لأنه كان أكثر عمله أن يصليهما إذا جاءه المؤذن للإقامة. 88 - باب مَنْ تَحَدَّثَ بَعْدَ رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ وَلَمْ يَضْطَجِعْ / 125 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا صَلَّى، فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِى، وَإِلا اضْطَجَعَ حَتَّى يُؤْذَنَ بِالصَّلاةِ. قال المؤلف، رحمه الله: هذا الحديث يبين أن الضجعة ليست بسُنَّة، وأنها للراحة، فمن شاء فعلها ومن شاء تركها، ألا ترى قول عائشة: فإن كنت مستيقظة حدثنى وإلا اضطجع، فدل أن اضطجاعه (صلى الله عليه وسلم) إنما كان يفعله إذا عدم التحدث معها ليستريح من تعب القيام، وفى سماع ابن وهب قيل: فمن ركع ركعتى الفجر، أيضطجع على شقه الأيمن؟ قال: لا، يريد لا يفعله استنانًا، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يجعله استنانًا، وكان ينتظر المؤذن حتى يأتيه. فإن قيل: فما وجه تركه (صلى الله عليه وسلم) الاستغفار حين كان يحدثها إذا كانت مستيقظة، وقد مدح الله، تعالى، المستغفرين بالأسحار؟ . فالجواب: أن السحر يقع على ما قبل الفجر كما يقع على ما بعده ومنه قيل للسحور سحورًا، لأنه طعام فى السحر قبل الفجر، وقد كان (صلى الله عليه وسلم) أخذ بأوفر الحظ من قيام الليل والاستغفار، وقد جاء فى حديث التنزيل: (أن الله، تعالى، ينزل إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعونى فأستجيب له، من يسألنى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 فأعطيه، من يستغفرنى فأغفر له) فذكر أن الاستغفار المندوب إليه المرجو بركة إجابته، هو قبل الفجر، وليس المستغفر ممنوعًا من أن يتكلم فى حال استغفاره بما به الحاجة إليه من إصلاح شأنه وعلم ينشره، ولا يخرجه ذلك من أن يسمى مستغفرًا. واختلف السلف فى الكلام بعد ركعتى الفجر، فقال نافع: كان ابن عمر ربما تكلم بعد ركعتى الفجر، وقال إبراهيم: لا بأس أن يسلم ويتكلم بالحاجة بعد ركعتى الفجر، وعن الحسن وابن سيرين مثله. وكره الكوفيون الكلام قبل صلاة الفجر إلا بخير، وكان مالك يتكلم فى العلم بعد ركعتى الفجر، فإذا سلم من الصبح لم يتكلم مع أحد حتى تطلع الشمس، قال مالك: لا يكره الكلام قبل الفجر، وإنما يكره بعدها إلى طلوع الشمس. وممن كان لا يرخص فى الكلام بعد ركعتى الفجر، قال مجاهد: رأى ابن مسعود رجلا يتكلم بعد ركعتى الفجر، فقال: إما أن تذكر الله وإما أن تسكت، وعن سعيد بن جبير مثله. وقال إبراهيم: كانوا يكرهون الكلام بعد ركعتى الفجر، وهو قول عطاء، وسئل جابر ابن زيد: هل يفرق بين صلاة الفجر وبين الركعتين قبلها بكلام؟ قال: لا، ألا أن يتكلم بحاجة إن شاء. ذكر هذه الآثار ابن أبى شيبة، والقول الأول أولى بشهادة السُّنَّة الثابتة له، ولا قول لأحد مع السُّنَّة. واختلفوا فى التنفل بعد طلوع الفجر، فكرهت طائفة الصلاة بعد الفجر إلا ركعتى الفجر، روى ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وابن المسيب، ورواية عن عطاء، وحجتهم حديث موسى بن عقبة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 عن نافع، عن ابن عمر، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتى الفجر) ويروى أيضًا من مرسلات ابن المسيب عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وأجاز ذلك آخرون، روى هذا عن طاوس والحسن البصرى، ورواية عن عطاء، قالوا: إذا طلع الفجر فَصَلِّ ما شئت، ذكر هذا عبد الرزاق. [أبواب التطوع] 89 - باب مَا جَاءَ فِي التَّطَوُّعِ مَثْنَى مَثْنَى وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عَمَّارٍ، وَأَبِى ذَرٍّ، وَأَنَسٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالزُّهْرِىِّ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأنْصَارِىُّ: مَا أَدْرَكْتُ فُقَهَاءَ أَرْضِنَا إِلا يُسَلِّمُونَ فِى كُلِّ اثْنَتَيْنِ مِنَ النَّهَارِ. / 126 - فيه: جَابِر، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ فِى الأمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأمْرَ خَيْرٌ لِى فِى دِينِى وَمَعَاشِى وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِى وَآجِلِهِ، فَاقْدُرْهُ لِى، وَيَسِّرْهُ لِى، ثُمَّ بَارِكْ لِى فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأمْرَ شَرٌّ لِى فِى دِينِى وَمَعَاشِى وَعَاقِبَةِ أَمْرِى، أَوْ قَالَ: فِى عَاجِلِ أَمْرِى وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّى، وَاصْرِفْنِى عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِىَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِى، قَالَ: وَيُسَمِّى حَاجَتَهُ. / 127 - وفيه: أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّىَ رَكْعَتَيْنِ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 / 128 - وفيه: أَنَسِ، صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ. / 129 - وفيه ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ. / 130 - وفيه: جَابِرَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ يَخْطُبُ: (إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ وَالإمَامُ يَخْطُبُ، أَوْ قَدْ خَرَجَ، فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ) . / 131 - وفيه: ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِى وَجْهِ الْكَعْبَةِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَوْصَانِى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِرَكْعَتَىِ الضُّحَى. وَقَالَ عِتْبَانُ: صَلَّى الرَسُولَ فى بيتى ركعتين. واختلف الفقهاء فى التطوع بالليل والنهار كيف هو؟ فقالت طائفة: هو مثنى مثنى، هذا قول: ابن أبى ليلى، ومالك، والليث، والشافعى، وأبى ثور، وهو قول: أبى يوسف، ومحمد فى صلاة الليل. وقال أبو حنيفة: أما صلاة الليل فإن شئت صليت ركعتين وإن شئت صليت أربعًا، وإن شئت صليت ستا، وإن شئت ثمانيًا، وكره أن يزيد على ذلك شيئًا. قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد: أما صلاة النهار فإن شئت صليت بتكبيرة ركعتين، وإن شئت أربعًا، وكرهوا أن يزيد على ذلك شيئًا، وحجة أبى حنيفة لقوله فى صلاة الليل حديث عائشة أنها قالت: كان (صلى الله عليه وسلم) يصلى بالليل أربعًا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم أربعًا، ثم ثلاثًا. فقال لهم أهل المقالة الأولى: ليس فى حديث عائشة يصلى أربعًا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 أن الأربع بسلام واحد، وإنما أرادت العدد فى قولها أربعًا، ثم أربعًا، ثم ثلاثًا، بدليل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (صلاة الليل مثنى مثنى) وهذا يقتضى ركعتين ركعتين بسلام بينهما على ما قدمناه فى باب كيف كانت صلاة الليل. وقد رد الطحاوى على أبى حنيفة، وقال: قد روى الزهرى، عن عروة، عن عائشة، أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يسلم بين كل اثنتين منهن، قال: وهذا الباب إنما يؤخذ من جهة التوقيف والاتباع لما فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأمر به، وفعله أصحابه من بعده، فلم نجد عنه من قوله، ولا من فعله أنه (صلى الله عليه وسلم) أباح أن يصلى بالليل بتكبيرة أكثر من ركعتين، وهذا أصح القولين عندنا. وأما صلاة النهار فالحجة لأبى حنيفة ما رواه شعبة، عن عبيدة، عن إبراهيم، عن سهم ابن منجاب، عن قزعة، عن القَرْثَع، عن أبى أيوب الأنصارى، عن الرسول، قال: (أربع ركعات قبل الظهر لا تسليم فيهن تفتح لهن أبواب السماء) وقال إبراهيم: كان عبد الله يصلى قبل الجمعة أربعًا، وبعدها أربعًا، لا يفصل بينهن بسلام. وروى عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يصلى بالليل ركعتين وبالنهار أربعًا. قال ابن القصار: فالجواب أن حديث أبى أيوب إنما يدل على فضل الأربع إذا اتصلت وفعلت فى هذا الوقت، ولا يدل على أن أكثر من الأربع لا يكون أفضل منها إذا كانت منفصلة، لأنه (صلى الله عليه وسلم) قد يذكر فضل الشىء ويكون هناك ما لو قاله أو فعله لكان أفضل، ألا ترى أنه قال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) أفترى أن ليس رطل تمرٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 أفضل من تمرة، فإنما نبّه بذكره على أربع ركعات على أن الأكثر يكون أفضل، فلو صلى عشرين ركعة يسلم فى كل ركعتين لكان أفضل من أربع متصلة، فسقط قولهم. قال غيره: وما أثبته البخارى من الروايات المتواترة عن الرسول فى صلاته ركعتين من طرق فى الأوقات المختلفة، منها قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين) يدخل فى عمومه إذا دخل المسجد قبل الظهر، وفى جميع أوقات النهار والليل المباحة للتنفل. وكذلك روى ابن عمر، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يصلى قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، فهذا كله يفسر حديث أبى أيوب أن الأربع التى حض عليهن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبل الظهر إنما أراد اتصالهن ذلك الوقت، لا أَنَّهُ لا سلام بينهن، لما صح من صلاته (صلى الله عليه وسلم) قبل الظهر وبعدها ركعتين، فوجب رد ما خالف هذا المعنى إليه، والله الموفق. وأما حديث جابر أن الرسول، قال: (إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين) فإنها قصة السليك. قال الأصيلى: وخالف شعبة فيه أصحاب عمرو بن دينار سوى ابن جريج وحماد بن زيد وابن عيينة، فرووه عن عمرو، عن جابر، أن رجلا جاء إلى المسجد والنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يخطب قال له: (أصليت) ؟ قال: لا، قال: (قم فاركع ركعتين) قصة السليك، وكذلك روى أبو الزبير عن جابر، فانفرد شعبة بما لم يتابع عليه، ولم تكن زيادة زادها الحافظ على غيره، بل هى قصة منقلبة عن وجهها. وقال يحيى بن معين: أحق أصحاب عمرو بن دينار بحديثه سفيان بن عيينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 90 - باب الْحَدِيثِ، بَعْدَ رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ قد تقدم هذا الباب فلا معنى لتكراره. 91 - باب تَعَاهُدِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَمَنْ سَمَّاهُمَا تَطَوُّعًا / 132 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمْ يَكُنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى شَىْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مِنْهُ تَعَاهُدًا عَلَى رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ. العلماء متفقون على تأكيد ركعتى الفجر، إلا أنهم اختلفوا فى تسميتها، فذكر ابن أبى شيبة عن الحسن البصرى أنهما واجبتان، وذهبت طائفة من العلماء إلى أنهما سُنَّة، هذا قول أشهب، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وأَبَى كثير منهم أن يسميها سُنَّة، قال مالك فى المختصر: ليستا بسُنَّة، وقد عمل بها المسلمون فلا ينبغى تركها، وذكر ابن المواز عن ابن عبد الحكم وأصبغ أنهما ليستا بسُنَّة، وهما من الرغائب. والحجة لمن أوجبهما: ما روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه قضاهما بعد طلوع الشمس يوم نام عن الصلاة لما قضى الفريضة ولم يأت عنه أنه قضى شيئًا من السنن بعد خروج وقتها غيرهما، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 وحجة من جعلهما سُنَّة: مواظبة الرسول عليهما، وشدة تعاهده لهما، وأن النوافل تصير سننًا بذلك. وحجة من لم يسمهما سُنَّة، قول عائشة: لم يكن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، على شىء من النوافل أشد تعاهدًا منه عليهما، فجعلتهما من جملة النوافل، وقد روى ابن القاسم عن مالك: أن ابن عمر كان لا يتركهما فى السفر. 92 - باب مَا يُقْرَأُ فِي رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ / 133 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يُصَلِّى بِاللَّيْلِ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُصَلِّى إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ. / 134 - وَقَالَتْ عَائِشَةَ: كَانَ (صلى الله عليه وسلم) ، يُخَفِّفُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الصُّبْحِ، حَتَّى إِنِّى لأقُولُ: هَلْ قَرَأَ فِيهُمَا بِأُمِّ الْكِتَابِ. اختلف العلماء فى القراءة فى الفجر على أربعة مذاهب، فقال الطحاوى: قال قوم: لا يقرأ فى ركعتى الفجر. وقال آخرون: يخفف القراءة فيهما بأم القرآن خاصة. وروى هذا عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وهو قول مالك فى رواية ابن وهب، وعلى بن زياد، قال: وهو الذى آخذ به فى خاصة نفسى. وقالت طائفة: يخفف فيهما القراءة، ولا بأس أن يقرأ مع أم القرآن سورة قصيرة، رواه ابن القاسم، عن مالك فى المجموعة، وهو قول الشافعى. وروى عن إبراهيم النخعى ومجاهد أنه لا بأس أن يطيل القراءة فيهما، ذكره ابن أبى شيبة. وقال أبو حنيفة: ربما قرأت فى ركعتى الفجر حزبى من القرآن وهو قول أصحابه، واحتج لهم الطحاوى، فقال: لما كانت ركعتا الفجر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 من أشرف التطوع، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها) كان أولى أن يفعل فيها أشرف ما يفعل فى التطوع من إطالة القراءة فيهما، وهو عندنا أفضل من التقصير، لأنه من طول القنوت الذى فضله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى التطوع على غيره. وأما من قال: لا قراءة فيهما، فإنه احتج بحديثى هذا الباب، والحجة عليه ما رواه شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن، قال: سمعت عمتى عمرة تحدث عن عائشة، أن رسول الله كان إذا طلع الفجر صلى ركعتين، أقول: يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب؟ فهذا خلاف أحاديث عائشة الأُخر، لأنها أثبتت فى هذا الحديث قراءة أم القرآن، فذلك حجة على من نفى القراءة، وهذا الحديث حجة لمن قال: يقرأ فيهما بأم القرآن خاصة، وقد يجوز أن يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب وغيرها، ويخفف القراءة حتى يقال على التعجب من تخفيفه: هل قرأ فيهما بفاتحة الكتاب. وحجة من قال: يقرأ فيهما بأم القرآن وسورة قصيرة، ما رواه أبو نعيم، عن إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: رمقت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أربعًا وعشرين مرة يقرأ فى الركعتين قبل صلاة الغداة، وفى الركعتين بعد المغرب: (قل يا أيها الكافر (، و) قل هو الله أحد (. وروى أبو وائل، عن عبد الله مثله، وقال: ما أحصى ما سمعت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يقرأ بذلك، وبه كان يأخذ ابن مسعود وذكره ابن أبى شيبة، وقد روى مثله من حديث قتادة عن أنس، ومن حديث جابر، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى ركعتى الفجر خاصة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 قال المؤلف: وهذه الآثار حجة على أبى حنيفة ومن جوز تطويل القراءة فيهما، لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يحفظ عنه خلافها، ولا قياس لأحد مع وجود السُنَّة الثابتة، وقد ذكر لابن سيرين قول النخعى فقال: ما أدرى ما هذا وكان أصحاب ابن مسعود يأخذون فى ذلك بحديث ابن عمر، وبحديث ابن مسعود من تخفيفه القراءة. قال المهلب: وتخفيفه لهما، والله أعلم، لمزاحمة الإقامة، لأنه كان لا يصليهما فى أكثر أحواله حتى يأتيه المؤذن للإقامة، وكان يُغلس بصلاة الصبح. 93 - باب التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ / 135 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، فَفِي بَيْتِهِ. وَحَدَّثَتْنِي أُخْتِي حَفْصَةُ أَنَّ نَّبِىَّ الله كَانَ يُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَعْدَ مَا يَطْلُعُ الْفَجْرُ، وَكَانَتْ سَاعَةً لا أَدْخُلُ عَلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِيهَا. قال المهلب: قوله: (سجدتين قبل الظهر) الحديث، فإنه أراد ركعتين فعبر عن الركوع بالسجود، وهذا يبين ما روى فى صلاة الكسوف فى حديث عبد الله بن عمر، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى حين كسفت الشمس ركعتين فى سجدة، وإنما أراد ركعتين فى ركعة على ما روته عائشة فى ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 قال المهلب: وتطوعه (صلى الله عليه وسلم) بهذه النوافل قبل الفرائض وبعدها، لأن أفضل الأوقات أوقات صلوات الفريضة، وفيها تفتح أبواب السماء للدعاء، ويقبل العمل الصالح فلذلك يحييها (صلى الله عليه وسلم) بالنوافل، وليس فى حديث ابن عمر التنفل قبل العصر. قال الطبرى: وقد روى على عن الرسول: أنه كان يصلى قبل العصر أربع ركعات يفصل بينها بسلام، وقد اختلف السلف فى ذلك فكان بعضهم يصلى أربعًا، وبعضهم يصلى ركعتين، وبعضهم لا يرى الصلاة قبلها، فممن كان يصلى أربعًا: على بن أبى طالب، وقال إبراهيم: كانوا يحبون أربعًا قبل العصر. وممن كان يصلى ركعتين: روى سفيان وجرير، عن منصور، عن إبراهيم: قال كانوا يركعون الركعتين قبل العصر، ولا يرونها من السُّنَّة. وممن كان لا يصلى قبلها شيئًا، روى قتادة عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يصلى قبل العصر شيئًا. وقتادة عن الحسن مثل ذلك وروى فضيل، عن منصور، عن إبراهيم، أنه رأى إنسانًا يصلى قبل العصر فقال: إنما العصر أربع. قال الطبرى: والصواب عندنا أن الفضل فى التنفل قبل العصر بأربع ركعات، لصحة الخبر بذلك عن على، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، حدثنى به موسى بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عبد الحميد الحمانى، عن مسعر، عن إبى إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن على، قال: رأيت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى أربع ركعات قبل العصر. فأما قول ابن عمر: فأما الركعتان بعد المغرب والعشاء ففى بيته، فقد اختلف فى ذلك، فروى عن قوم من السلف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 منهم زيد بن ثابت، وعبد الرحمن بن عوف أنهما كانا يركعان الركعتين بعد المغرب فى بيوتهما. وقال العباس بن سهل بن سعد: لقد أدركت عثمان، وإنه ليسلم من المغرب فما أرى رجلا واحدًا يصليهما فى المسجد، كانوا يبتدرون أبواب المسجد فيصلونها فى بيوتهم. وقال ميمون بن مهران: كانوا يستحبون تأخير الركعتين بعد المغرب إلى بيوتهم، وكانوا يؤخرونها حتى تشتبك النجوم. وروى عن طائفة أنهم كانوا يتنفلون النوافل كلها فى بيوتهم دون المسجد، روى عن عبيدة أنه كان لا يصلى بعد الفريضة شيئًا حتى يأتى أهله. وقال الأعمش: ما رأيت إبراهيم متطوعًا حياته فى مسجد إلا مرة صلى بعد الظهر ركعتين. وكانت طائفة لا تتنفل إلا فى المسجد، روى عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يصلى سبحته مكانه، وكان أبو مجلز يصلى بين الظهر والعصر فى المسجد الأعظم. وروى ابن القاسم، عن مالك، قال: التنفل فى المسجد هو شأن الناس فى النهار، وبالليل فى بيوتهم، وهو قول الثورى. وقال الطبرى به، وقال: والحجة لهذا القول ما حدثنا به أحمد بن الحسن الترمذى، حدثنا محمد بن يوسف الفريابى، حدثنا إسرائيل، عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال، عن زِرٍّ، عن حذيفة، قال: صليت مع الرسول العشاء الآخرة، ثم صلى حتى لم يبق فى المسجد واحدٌ، وقال: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 عن جعفر، عن سعيد بن جبير، قال: كان النبى، (صلى الله عليه وسلم) يصلى بعد المغرب ركعتين، ويصليهما حتى يتصدع أهل المسجد، فإنما كره الصلاة فى المسجد لئلا يرى جاهل عالمًا يصليها فيه فيراها فريضة، أو كراهة أن يخلى منزله من الصلاة فيه، أو حذرًا على نفسه من رياء أو عارض من خطرات الشيطان، فإذا سلم من ذلك فإن الصلاة فى المسجد حسنة. وقد بين بعضهم عِلَّة كراهية من كرهه، من ذلك: سفيان عن الأعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق، قال: كنا نقرأ فى المسجد فنقوم فنصلى فى الصف. قال عبد الله: صلوا فى بيوتكم لا يرونكم الناس فيرونها سُنَّة. والذى يقول: إن حديث حذيفة وما رواه سعيد بن جبير، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (صلاتكم فى بيوتكم إلا المكتوبة) فهى صحاح كلها لا يدفع شىء منها، وذلك نظير ما ثبت أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يعمل العمل ليتأسى به فيه، ثم يعمل بخلافه فى حال أخرى ليعلم بذلك من فعله أن أمره بذلك على وجه الندب، وأنه غير واجب العمل به. 94 - باب مَنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ / 136 - فيه: ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، ثَمَانِيًا جَمِيعًا، وَسَبْعًا جَمِيعًا. قد تقدم الكلام فى هذا الحديث وفى اشتراط الصلوات فيه، وأما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 تركه - عليه السلام - التنقل فيه فالسُّنَّة عند جميع الصلوات ترك التنفل، فأراد (صلى الله عليه وسلم) أن يعلم أمته أن التطوع ليس بلازم، لا يسع تركه، ولذلك كان ابن عمر لا يتنفل فى السفر. 95 - باب صَلاةِ الضُّحَى فِى السَّفَرِ / 137 - فيه: مُوَرِّقٍ، قُلْتُ لابْنِ عُمَرَ:: تُصَلِّى الضُّحَى؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: فَعُمَرُ؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: فَأَبُو بَكْرٍ؟ قَالَ: لا، قُلْتُ فَالنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: (لا، إِخَالُهُ) . / 138 - فيه: ابْنَ أَبِى لَيْلَى، قَالَ: مَا حَدَّثَنَا أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يُصَلِّى الضُّحَى غَيْرُ أُمِّ هَانِئٍ، فَإِنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ الفَتْحِ، فَتْحِ مَكَّةَ، فَاغْتَسَلَ، وَصَلَّى ثَمَانِىَ رَكَعَاتٍ، فَلَمْ أَرَ صَلاةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ. قال المؤلف: أما حديث مورق عن ابن عمر فليس من هذا الباب، وإنما يصلح فى الباب الذى بعد هذا فيمن لم يصلى الضحى، وأظنه من غلط الناسخ، والله أعلم. وأما قول ابن أبى ليلى: ما حدثنا أحد أنه رأى الرسول يصلى الضحى غير أم هانئ فلا حجة فيه تَرُدُّ ما روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه صلى الضحى وأمر بصلاتها من طرق جمة، وسأذكر منها فى هذا الباب، وفى الباب الذى بعد هذا، إن شاء الله. وقد يجوز أن يذهب علم مثل هذا عن كثير، ويوجد عند الأقل، ولما صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم الفتح ثمان ركعات فى وقت الضحى استدل البخارى من ذلك على جواز صلاة الضحى فى السفر، وقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 روى ذلك نصا لا دليلا، روى ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله، قال: حدثنى الضحاك بن عبد الله القرشى، عن أنس بن مالك، قال: رأيت رسول الله فى السفر صلى سبحة الضحى ثمان ركعات، وإذا جازت صلاتها فى السفر فالحضر أولى بذلك. وقد ذكر الطبرى آثارًا مختلفة عن الرسول فى عدد صلاة الضحى، فمنها حديث أم هانئ، وحديث أنس هذا، وذكر أن سعد بن أبى وقاص، وأم سلمة كانا يصليان الضحى ثمانيًا، ومنها حديث ابن مسعود أن الرسول قال: (من صلى الضحى عشر ركعات بنى له بيت فى الجنة) . ومنها حديث ثمامة عن أنس بن مالك، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من صلى الضحى ثنتى عشرة ركعة بنى الله له بها قصرًا من ذهب فى الجنة) . ومنها: حديث حميد، عن أنس، أن الرسول كان يصلى الضحى ست ركعات، وحديث جابر مثله، وروى عن عائشة أنها كانت تصلى الضحى ست ركعات. ومنها: حديث على، أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يصلى أربعًا، وعن عائشة مثله، وبه كان يأخذ علقمة والنخعى، وسعيد بن المسيب. ومنها: حديث عتبان بن مالك، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى فى بيته سبحة الضحى ركعتين. ومنها: حديث أنس، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى فى بيت الرجل الضحى ركعتين. ومنها: حديث جابر، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمره أن يصلى سبحة الضحى فصلى ركعتين. ومنها: حديث أبى هريرة، أن الرسول أوصاه بركعتى الضحى، وقال: (من حافظ عليها غفر له ذنوبه وإن كانت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 مثل زبد البحر) . وعن عبد الله بن عمر، أنه كان يصلى الضحى ركعتين، وعن الضحاك مثله. قال الطبرى: وليس منها حديث يدفع صاحبه، وذلك أنه من صلى الضحى أربعًا جائز أن يكون رآه فى حال فعله ذلك، ورآه غيره فى حال أخرى صلى ركعتين، ورآه آخر فى حال أخرى صلاها ثمانيًا، وسمعه آخر يحث على أن تصلى ستا، وآخر يحث على ركعتين، وآخر على عشر، وآخر على اثنتى عشرة، فأخبر كل واحد منهم عما رأى أو سمع. ومن الدليل على صحة ما قلناه فى ذلك ما روى عن زيد بن أسلم، قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول لأبى ذر: أوصنى يا عم، فقال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عما سألتنى، قال: (من صلى الضحى ركعتين لم يكتب من الغافلين، ومن صلى أربعًا كتب من العابدين، ومن صلى ستًا، لم يلحقه ذلك اليوم ذنب، ومن صلى ثمانيًا كتب من القانتين، ومن صلى ثنتى عشرة ركعة بنى الله له بيتًا فى الجنة) . وقال مجاهد: صلى رسول الله يومًا الضحى ركعتين، ثم يومًا أربعًا، ثم يومًا ستا، ثم يومًا ثمانيًا، ثم ترك فأبان بهذا الخبر عن صحة ما قلناه من احتمال خبر كل مخبر ممن تقدم قوله، أن يكون إخباره بما أخبر عنه (صلى الله عليه وسلم) فى صلاة الضحى كان على قدر ما شاهده وعاينه. فالصواب إذا كان الأمر كذلك أن يصليها من أراد على ما شاء من العدد، وقد روى هذا عن قوم من السلف، حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: سأل رجل الأسود، قال: كم أصلى الضحى؟ قال: كما شئت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 96 - باب مَنْ لَمْ يُصَلِّ الضُّحَى وَرَآهُ وَاسِعًا / 139 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يسَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى، وَإِنِّى لأسَبِّحُهَا. قال المؤلف: أما حديث مورق: قلت لابن عمر: تصلى الضحى؟ قال: لا، قلت: فعمر؟ قال: لا، قلت: فأبو بكر؟ قال: لا، قلت: فالنبى (صلى الله عليه وسلم) ؟ قال: لا، إخاله المذكور فى الباب قبل هذا، فهذا موضعه، ليس ذلك الباب، وأخذ قوم من السلف به وبحديث عائشة، ولم يروا صلاة الضحى، وقال بعضهم: بأنها بدعة. روى الشعبى، عن قيس بن عباد، قال: كنت أختلف إلى ابن مسعود السنة كلها، فما رأيته مصليًا الضحى. وقال إبراهيم النخعى: حدثنى من رأى ابن مسعود صلى الفجر، ثم لم يقم لصلاة حتى أذن لصلاة الظهر، فقام فصلى أربعًا. روى شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف: أنه كان لا يصلى الضحى. وعن مجاهد، قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا ابن عمر جالس عند باب حجرة عائشة، وإذا الناس يصلون فى المسجد صلاة الضحى، فسألناه عن صلاتهم، فقال: بدعة، وقال مرة: ونعمت البدعة. وقال الشعبى: سمعت ابن عمر يقول: ما ابتدع المسلمون بدعة أفضل من صلاة الضحى، وقد سئل أنس عن صلاة الضحى، فقال: الصلوات خمس. وقد قيل: إن صلاته (صلى الله عليه وسلم) يوم الفتح ثمان ركعات لم تكن صلاة الضحى، وإنما كانت من أجل الفتح، وأن سُنَّة الفتح أن يصلى عنده ثمان ركعات، ذكره الطبرى فى التاريخ عن الشعبى، قال: لما فتح خالد بن الوليد الحيرة صلى صلاة الفتح ثمان ركعات، ولم يسلم فيهن، ثم انصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 قال المؤلف، رحمه الله: هذا تأويل لا يدفع صلاة الضحى لتواتر الروايات بها عن الرسول، وفعل السلف بعده. قال الطبرى: وذهب قوم من السلف أن صلاة الضحى تصلى فى بعض الأيام دون بعض، واحتجوا بما رواه الجريرى، عن عبد الله بن شقيق قلت لعائشة: أكان رسول الله يصلى الضحى؟ قالت: لا، إلا أن يجئ من مغيبه، وروى [. . . .] ، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبى سعيد، قال: كان رسول الله يصلى الضحى حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها. ذكر من كان يفعل ذلك من السلف: روى شعبة عن حسين الشهيد، عن عكرمة، قال: كان ابن عباس يصليها يومًا ويدعها عشرة أيام، يعنى صلاة الضحى. وشعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أنه كان لا يصلى الضحى، فإذا أتى مسجد قباء صلى وكان يأتيه كل سبت. وسفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها كالمكتوبة، ويصلون ويدعون، يعنى صلاة الضحى. وعن سعيد بن جبير قال: إنى لأدع صلاة الضحى وأنا أشتهيها، مخافة أن أراها حتمًا علىّ. قال الطبرى: وحديث عبد الله بن شقيق، عن عائشة، وحديث أبى سعيد لا يضاد ما ثبت من الآثار عنه (صلى الله عليه وسلم) ، بصلاة الضحى، لأنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 يحتمل أن يكون كل مخبر إنما أخبر عنه (صلى الله عليه وسلم) بما شاهده وعاينه من فعله. وليس فى قول من نفى صلاة الضحى واحتج بقول عائشة: ما رأيت رسول الله يسبح سبحة الضحى قط، حجة لأنها أخبرت بما علمت لما خالفه، لأن قول القائل: لم يصلها النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، غير مخبر عنه أنه قال: (لم أصلها ولا أصليها) ، فكيف وقد أخبر غير واحد عن عائشة ممن لا يتهم أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يصلى الضحى. وذلك ما حدثنا به محمد بن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، حدثنى أبى، عن قتادة، عن معاذة، عن عائشة، أنها سألتها: أكان النبى يصلى الضحى؟ قالت: نعم، ورواه شعبة عن يزيد الرشك، عن معاذة، عن عائشة، قالت: كان النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يصلى الضحى أربعًا ويزيد ما شاء الله. قال الطبرى: فلو لم يدل على وهم الحديث عن عائشة، أن النبى لم يسبح سبحة الضحى، إلا هذه الأخبار المدونة عنها أنه صلاها، فكيف وفى خبر عبد الله بن شقيق عنها أنه كان يصليها عند قدومه من مغيبه؟ . قال غيره: وقد يمكن الجمع بين أحاديث عائشة وغيرها، فيحمل قولها: ما رأيت رسول الله يسبح سبحة الضحى، يعنى مواظبًا عليها ومعلنا بها، لأنه يجوز أن يصليها بحيث لا تراه، وقد روى عن عائشة أنها كانت تغلق على نفسها بابها ثم تصلى الضحى. وقال مسروق: كنا نقرأ فى المسجد فنبقى بعد قيام ابن مسعود، ثم نقوم فنصلى الضحى، فبلغ ابن مسعود ذلك، فقال: لم تحملوا عباد الله ما لم يحملهم الله؟ إن كنتم لابد فاعلين ففى بيوتكم. وكان أبو مجلز يصلى الضحى فى منزله. وكان مذهب السلف الاستتار بها وترك إظهارها للعامة، لئلا يرونها واجبة. وفى قولها: (وإننى لأسبحها) دليل أنها صلاة مندوب إليها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 مرغب فيها، وقد روى عنها أنها، قالت: لو نشر لى أبواى من قبرهما ما تركتهما، فالتزامها لها لا يكون إلا عن علم عندها من النبى، (صلى الله عليه وسلم) . 97 - باب صَلاةِ الضُّحَى فِي الْحَضَرِ قَالَهُ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) . / 140 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَوْصَانِى الرَسُولِ بِثَلاثٍ، لا أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ، صَوْمِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلاةِ الضُّحَى، وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ. / 141 - وفيه: أَنَسَ أَنَّ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، وَكَانَ ضَخْمًا، قَالَ لِلنَّبِيِّ، (صلى الله عليه وسلم) : إِنِّى لا أَسْتَطِيعُ أصَلّى مَعَكَ، فَصَنَعَ لِلنَّبِىِّ طَعَامًا، ودَعَاهُ إِلَى بَيْتِهِ، وَنَضَحَ لَهُ طَرَفَ حَصِيرٍ بِمَاءٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: أَنَس مَا رَأَيْت صَلاةِ الضُّحَى، غَيْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. قال المهلب: فى حديث أبى هريرة الترغيب فى صلاة الضحى والحض عليها، لأنه لا يوصيه النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بالمحافظة على عمل إلا وله فى عمله جزيل الأجر وعظيم الثواب. وقد ذكر الطبرى أحاديث كثيرة عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى صلاة الضحى سوى هذه، فمن أحسنها ما حدثه أبو كريب، حدثنا وكيع، عن النَّهَّاس بن قَهْم، عن شداد أبى عمار، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (من حافظ على ركعتى الضحى غفر له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر) . قال: وحدثنا ابن المثنى، حدثنا حكيم بن معاوية، قال: حدثنا زياد بن عبد الله، عن حميد الطويل، عن أنس، قال: كان النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يصلى الضحى ست ركعات. قال: وحدثنا عيسى بن خالد، عن أبى مسهر، حدثنا إسماعيل بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 عياش، عن بحير ابن سعد، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن أبى الدرداء، وأبى ذر قالا: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (يقول الله عز وجل: ابن آدم، صَلِّ أربع ركعات أول النهار أكفك آخره) . وحدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهرى، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنى الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (فى الإنسان ثلاث مائة مفصل، وستون مفصلاً ففى كل مفصل صدقة) . قالوا: يا رسول الله، ومن يطيق ذلك؟ قال: (أليس ينحى أحدكم الأذى من الطريق، فإن لم يطق ذلك، فإن ركعتى الضحى تجزئ عنه) . وحدثنا أبو كريب، حدثنا ابن فضيل، حدثنا حصين بن عبد الرحمن، عن عمرو بن مرة، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلى الضحى. فى أحاديث كثيرة غير هذه تحقق رواية من روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه كان يصلى الضحى، ويندب أمته إليها، وبذلك عمل الصالحون والسلف، ذكر ابن أبى شيبة، عن زيد بن أرقم، قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على أهل قباء وهم يصلون الضحى، فقال: (صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحى) . وكان أبو ذر يصلى الضحى فيطيلها. وسأل رجل الحسن البصرى هل كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلون الضحى؟ قال: نعم، منهم من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 كان يصلى أربعًا، ومنهم من كان يصلى ركعتين، ومنهم من كان يمد إلى نصف النهار. وقال ابن أبى مليكة: سئل ابن عباس عن صلاة الضحى، فقال: إنها فى كتاب الله، لا يغوص عليها إلا غواص، ثم قرأها: (فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال) [النور: 36] . ويروى عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس، أنه دخل على أم هانئ، فأخبرته أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) صلى الضحى فخرج وهو يقول: (قرأت ما بين اللوحين فما عرفت صلاة الضحى إلا الآن) يسبحن بالعشى والإشراق) [ص: 18] ) ، وكنت أقول: وأين الإشراق، وهى هذه. 98 - باب الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ / 142 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَفِظْتُ مِنَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِى بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِى بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الصُّبْحِ، وَكَانَتْ سَاعَةً لا يُدْخَلُ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِيهَا. / 143 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، لا يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ. اختلفت الأحاديث فى التنفل قبل الظهر، وفى حديث ابن عمر، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ركع ركعتين قبل الظهر، وفى حديث عائشة أنه ركع أربعًا، وقد روى مثل حديث عائشة: أبو إسحاق الهمدانى، عن عمرو بن أوس، عن عنبسة بن أبى سيفان، عن أُم حبيبة، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وكان جماعة من السلف يفعلون ذلك. وروى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 عن ابن مسعود، وابن عمر، والبراء، وأبى أيوب أنهم كانوا يصلون قبل الظهر، وعن ابن المسيب مثله. وقال إبراهيم: من السُّنَّة أربع قبل الظهر، وركعتان بعد الظهر ببيته. وروى من حديث البراء مثل حديث ابن عمر، رواه الليث، عن صفوان بن سليم، عن أبى بسرة الغفارى، عن البراء، قال: سافرت مع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ثمان عشرة سفرة، وكان لا يدع ركعتين قبل الظهر. وقال الطبرى: والصواب أن يقال: كلا الخبرين فى عدد صلاته قبل الظهر صحيح، وهو أنه إنما يكون من روى عنه أربعًا رآه يفعل ذلك فى كثير من أحواله، ورآه ابن عمر وغيره يصلى ركعتين فى بعض الأحوال، فرووا عنه ذلك، وإذا كان ذلك كذلك فللمرء أن يصلى قبل الظهر ما يشاء، لأن ذلك تطوع، وقد ندب الله المؤمنين إلى التقرب إليه بما أطاقوا من فعل الخير، والصلاة بعد الزوال وقبل الظهر كانت تعدل بصلاة الليل فى الفضل، روى هذا عن جماعة من السلف. 99 - باب الصَّلاةِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ / 144 - فيه: عَبْدُاللَّهِ الْمُزَنِىُّ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (صَلُّوا قَبْلَ صَلاةِ الْمَغْرِبِ، قَالَ فِى الثَّالِثَةِ: لِمَنْ شَاءَ) ؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً. / 145 - وفيه: مَرْثَدَ الْيَزَنِىَّ، قَالَ: أَتَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِىَّ، فَقُلْتُ: أَلا أُعْجِبُكَ مِنْ أَبِى تَمِيمٍ، يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الْمَغْرِبِ، فَقَالَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 عُقْبَةُ: إِنَّا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، قُلْتُ: فَمَا يَمْنَعُكَ الآنَ؟ قَالَ: الشُّغْلُ. اختلف السلف فى التنفل قبل المغرب، فأجازته طائفة، وكرهته طائفة، فممن روى عنه أنه كان يفعله: أُبى بن كعب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، وقال حميد، عن أنس: إذا أذن المؤذن يبتدرون السوارى فيصلون. قال عبد الرحمن بن أبى ليلى: أدركت أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) يصلون عند كل تأذين. وكان الحسن، وابن سيرين يركعان قبل المغرب، وهو قول أحمد وإسحاق. والحجة لهم من حديث المزنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لمن شاء) . وممن كان يصليها، قال إبراهيم النخعى: لم يصل الركعتين قبل المغرب أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، وقال إبراهيم: هما بدعة. قال: وكان خيار أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالكوفة على، وابن مسعود، وحذيفة، وعمار، وأبو مسعود، فأخبرنى من رمقهم كلهم، فما رأى أحدًا منهم يصلى قبل المغرب، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والشافعى. قال المهلب: والحجة لهم أن هذا كان فى أول الإسلام ليدل على أن وقت التحجير فى صلاة النافلة فى هذا الوقت قد انقطع بمغيب الشمس، وحلت النافلة والفريضة، ثم التزم الناس مبادرة الفريضة، لئلا يتباطأ الناس بالصلاة عن الوقت الفاضل، ويختلف أمر الناس فى المبادرة بالصلاة، إذ المغرب لا يشكل على العامة والخاصة، وغيرها من الصلوات يشكل عليهم دخول أوائل أوقاتها، وفيها مهلة حتى يستحكم الوقت، فلذلك أبيح الركوع قبل غيرها من الصلوات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 0 - باب صَلاةِ النَّوَافِلِ جَمَاعَةً ذَكَرَهُ أَنَسٌ وَعَائِشَةُ عَنِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) . / 146 - فيه: عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ، أن رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) صَلى فِى بيته ركعتين، فكبر وصففنا خلفه. . . الحديث بطوله. هذا الحديث يدل على جواز صلاة النوافل جماعة، قال ابن حبيب: ولا بأس أن يؤم النفر فى النافلة فى صلاة الضحى وغيرها كالرجلين والثلاثة، وأما أن يكون مشتهرًا جدًا ويجتمع له الناس فلا. قاله مالك. قال ابن حبيب: إلا أن يكون فى قيام رمضان، لما فى ذلك من سُنَّة أصحاب رسول الله، (صلى الله عليه وسلم) . 1 - باب التَّطَوُّعِ فِى الْبَيْتِ / 147 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (اجْعَلُوا فِى بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاتِكُمْ، وَلا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا) . هذا من التمثيل البديع، وذلك بتشبيهه (صلى الله عليه وسلم) البيت الذى لا يصلى فيه بالقبر الذى لا يمكن الميت فيه عبادة، وشبه النائم الليل كله بالميت الذى انقطع منه فعل الخير، وقد قال عمر بن الخطاب: صلاة المرء فى بيته نُورٌ فَنَوِّرُوا بيوتكم. وللعلماء فى معنى هذا الحديث قولان: منهم من قال: إن الحديث ورد فى النافلة دون الفريضة، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قد سَنَّ الصلوات فى الجماعة، ورغب فى ذلك، وتوعد من تخلف عنها بغير عذر، وقال: (أفضل الصلاة صلاة المرء فى بيته إلا المكتوبة) . فبان أن الحديث ورد فى النافلة، لأنها إذا كانت فى البيت كان أبرأ من الرياء والشغل بحديث الناس، فحض (صلى الله عليه وسلم) على النوافل فى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 البيوت، إذ السِّرُّ فى النوافل أفضل من الإعلان، وعلى هذا التأويل تكون (مِن) زائدة كأنه قال: اجعلوا صلاتكم النافلة فى بيوتكم، كقوله: ما جاءنى من أحدٍ، وأنت تريد ما جاءنى أحدٌ، وإلى هذا الوجه أشار البخارى، وقد روى ما يدل عليه عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) . روى الطبرى من حديث عبد الرحمن بن سابط، عن أبيه، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (نَوِّرُوا بيوتكم بذكر الله، وأكثروا فيها تلاوة القرآن، ولا تتخذوها قبورًا كما اتخذها اليهود والنصارى، فإن البيت الذى يقرأ فيه القرآن يتسع على أهله، ويكثر خيره، وتحضره الملائكة، ويُدحض عنه الشيطان، وإن البيت الذى لا يقرأ فيه القرآن يضيق على أهله، ويقل خيره، وتنفر عنه الملائكة، وتحضره الشياطين) . وقد روى عن جماعة من السلف أنهم كانوا لا يتطوعون فى المسجد، روى ذلك عن حذيفة، وعن السائب بن يزيد، والنخعى، والربيع بن خثيم، وعبيدة، وسويد بن غفلة. وقال آخرون: هذا الحديث إنما ورد فى الفريضة، و (مِنْ) للتبعيض، كأنه قال: اجعلوا بعض صلاتكم المكتوبة فى بيوتكم ليقتدى بكم أهلوكم، ومن لا يخرج إلى المسجد منهم، ومن يلزمكم تعليمه لقوله تعالى: (قوا أنفسكم وأهليكم نارًا) [التحريم: 6] ومن تخلف عن جماعة لجماعة، وإن كانت أقل منها فلم يتخلف عنها، ومن صلى فى بيته جماعة فقد أصاب سُنَّة الجماعة وفضلها. روى حماد، عن إبراهيم قال: إذا صلى الرجل مع الرجل فهما جماعة، لهما التضعيف خمسًا وعشرين درجة. وروى أن أحمد بن حنبل، وإسحاق، وعلى بن المدينى، اجتمعوا فى دار أحمد فسمعوا النداء، فقال أحدهم: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 اخرج بنا إلى المسجد، فقال أحمد: خروجنا إنما هو للجماعة، ونحن فى جماعة، فأقاموا الصلاة وصلوا فى البيت. 2 - باب فَضْلِ الصَّلاةِ فِى مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ / 148 - فيه: أَبُو سَعِيد، وَأَبُو هُرَيْرَة، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ (صلى الله عليه وسلم) ، والْمَسْجِدِ الأقْصَى) . / 149 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (صَلاةٌ فِى مَسْجِدِى هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) . قال المؤلف: هذا الحديث فى النهى عن إعمال المطى، إنما هو عند العلماء فيمن نذر على نفسه الصلاة فى مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة المذكورة، قال مالك: من نذر صلاة فى مسجد لا يصل إليه إلا براحلة، فإنه يصلى فى بلده، إلا أن ينذر ذلك فى مسجد مكة أو المدينة أو بيت المقدس، فعليه السير إليها. وقال المؤلف: وأما من أراد الصلاة فى مساجد الصالحين والتبرك بها متطوعًا بذلك، فمباح له قصدها بإعمال المطى وغيره، ولا يتوجه إليه النهى فى هذا الحديث. فإن قيل: فإن أبا هريرة أعمل المطى إلى الطور، فلما انصرف لقيه بَصْرة بن أبى بَصْرة، فأنكر عليه خروجه، وقال له: لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت، سمعت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 الرسول يقول: (لا تعمل المطى إلا إلى ثلاثة مساجد) . فدل أن مذهب بَصْرة حمل الحديث على العموم فى النهى عن إعمال المطى إلى غير الثلاثة المساجد على كل حال، فدخل فيه الناذر والمتطوع. قيل له: ليس كما ظننت، وإنما أنكر بَصْرة على أبى هريرة خروجه إلى الطور، لأن أبا هريرة كان من أهل المدينة التى فيها أحد المساجد الثلاثة التى أُمر بإعمال المطى إليها، ومن كان كذلك فمسجده أولى بالإتيان، وليس فى الحديث أن أبا هريرة نذر السير إلى الطور، وإنما ظاهره أنه خرج متطوعًا إليه، وكان مسجده بالمدينة أولى بالفضل من الطور، لأن مسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس أفضل من الطور. وقد اختلف العلماء فيمن كان بالمدينة، فنذر المشى إلى بيت المقدس، فقال مالك: يمشى ويركب. وقال الأوزاعى: يمشى ويركب ويتصدق. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يصلى فى مسجد المدينة أو مكة. واحتج أبو يوسف فى ذلك بأن الصلاة فى مكة والمدينة أفضل من الصلاة فى بيت المقدس، فلذلك أجزأُه. وقال سعيد بن المسيب: من نَذَر أن يعتكف فى مسجد إيلياء، فاعتكف فى مسجد النبى (صلى الله عليه وسلم) أجزأ عنه، ومن نذر أن يعتكف فى مسجد النبى (صلى الله عليه وسلم) فاعتكف فى المسجد الحرام أجزأ عنه، وقال الشافعى: يمشى إلى مسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس، إذا نذر ذلك، ولا يتبين لى وجوبه عليه، لأن البر بإتيان بيت الله، عز وجل، فرضٌ، والبر بإتيان هذين نافلة. وقال ابن المنذر: من نذر المشى إلى مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، والمسجد الحرام، وجب عليه ذلك، لأن الوفاء به طاعة، ومن نذر المشى إلى بيت المقدس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 كان بالخيار إن شاء مشى إليه، وإن شاء مشى إلى المسجد الحرام، لحديث جابر: أن رجلاً قال للنبى، (صلى الله عليه وسلم) : إنى نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلى فى بيت المقدس، قال: (صلى هاهنا ثلاثًا) . وقال أبو يوسف: إن نذر أن يصلى فى المسجد الحرام، فصلى فى بيت المقدس لم يجزئه، لأنه صلى فى مكان ليس له من الفضل ما للمكان الذى أوجب على نفسه فيه الصلاة. وحكى الطحاوى عن أبى حنيفة، ومحمد أنه من جعل الله عليه أن يصلى فى مكان، فصلى فى غيره أجزأه. واحتج لهم الطحاوى بأن معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) . أن المراد به الفريضة لا النافلة، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (خير صلاة المرء فى بيته إلا المكتوبة) ، فثبت فساد ما احتج به أبو يوسف، وثبت أن من أوجب على نفسه صلاة فى مكان، وصلى فى غيره أجزأه. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (صلاة فى مسجدى هذا خير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) ، فإن العلماء اختلفوا فى تفضيل مكة على المدينة، أو المدينة على مكة، فذهبت طائفة إلى أن المدينة أفضل من مكة، روى هذا عن عمر بن الخطاب، وهو قول مالك، وكثير من أهل المدينة. وذهبت طائفة إلى تفضيل مكة، هذا قول عطاء، والمكيين، وأهل الكوفة، والشافعى. وقال الشافعى: مكة أفضل البقاع. ذكره الساجى، وهو قول ابن وهب صاحب مالك، وابن حبيب الأندلسى، وكلا الطائفتين نزعت بحديث أبى هريرة. قال المؤلف: وليس فى حديث أبى هريرة حجة لواحدٍ منهما، وإنما يفهم من لفظ حديث أبى هريرة أن صلاة فى مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، ثم استثنى المسجد الحرام، وحكم الاستثناء عند أهل اللسان إخراج الشىء مما دخل فيه هو وغيره بلفظ شامل لهما، وإدخاله فيما خرج منه هو وغيره بلفظ شامل لهما. وقد مثل بعض أهل العلم بلسان العرب الاستثناء فى هذا الحديث بمثالٍ بَيَّن فيه معناه، فإذا قلت: اليمن أفضل من جميع البلاد بألف درجة إلا العراق، جاز أن يكون العراق مساويًا لليمن، وجاز أن يكون فاضلاً وأن يكون مفضولاً، فإن كان مساويًا فقد عُلم فضله، وإن كان فاضلاً أو مفضولاً لم يقدر مقدار المفاضلة بينهما إلا بدليل على عدة درجات، إما زائدة على ذلك، أو ناقصة عنها فيحتاج إلى ذكرها. ومما احتج به أهل المقالة الأولى على ذلك ما رواه ابن عيينة، عن زياد بن سعد، سمع سليمان بن عتيق، سمع ابن الزبير، سمع عمر بن الخطاب، يقول: صلاة فى المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيما سواه. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: فقول عمر هذا يفسر قول النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) . فإن مسجدى خير من تسع مائة منه. ومثل هذا التأويل تأول عبد الله بن نافع صاحب مالك حديث أبى هريرة، فكان يقول: الصلاة فى مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) أفضل من الصلاة فى سائر المساجد بألف صلاة إلا المسجد الحرام، فإن الصلاة فى مسجد النبى (صلى الله عليه وسلم) أفضل من الصلاة فيه بدون الألف. واحتج أهل المقالة الثانية بما رواه حماد بن زيد، عن حبيب المعلم، عن عطاء بن أبى رباح، عن عبد الله بن الزبير، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (صلاة فى المسجد الحرام أفضل من الصلاة فى مسجدى هذا بمائة صلاة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 واحتجوا من طريق النظر بأن الله تعالى فرض على عباده قصد بيته الحرام مرة فى العمر، ولم يفرض عليهم قصد مسجد المدينة، قالوا: ومن قول مالك أن من نذر الصلاة فى مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، والمشى إليه ألا يلزمه المشى إليه، وعليه أن يأتيه راكبًا، ومن نذر المشى إلى مكة فإنه يمشى إليها ولا يركب. فدل هذا من قوله أن مكة أفضل، لأنه لم يوجب المشى إليها إلا لتعظيم حرمتها وكبير فضلها. 3 - باب مَسْجِدِ قُبَاءٍ / 150 - فيه: ابْنَ عُمَرَ، أَنّه كَانَ لا يُصَلِّى الضُّحَى إِلا فِى يَوْمَيْنِ: يَوْمَ يَقْدَمُ مَكَّةَ، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيُصَلِّى حول الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَيَوْمَ يَأْتِى مَسْجِدَ قُبَاءٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَرِهَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ حَتَّى يُصَلِّىَ فِيهِ، وَكَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ الرَسُول (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَزُورُهُ رَاكِبًا وَمَاشِيًا، ويَقُولُ: إِنَّمَا أَصْنَعُ كَمَا رَأَيْتُ أَصْحَابِى يَصْنَعُونَ، وَلا أَمْنَعُ أَحَدًا أَنْ يُصَلِّىَ فِى أَىِّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، غَيْرَ أَنْ لا تَتَحَرَّوْا بِصَّلاَتَكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلا غُرُوبَهَا. وترجم له باب مَنْ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ. وقَالَ ابْنِ عُمَرَ: كَانَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يَأْتِيه كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا. قال أبو جعفر الداودى: إتيان النبى (صلى الله عليه وسلم) مسجد قباء يدل أن ما قرب من المساجد الفاضلة التى فى المصر لا بأس أن يؤتى ماشيًا وراكبًا، ولا يكون فيه ما نهى أن تُعمل المطى. وذكر ابن أبى شيبة من حديث أبى أمامة بن سهل، عن أبيه، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (إن صلاة فى مسجد قباء كعمرة) . وروى عن سعد بن أبى وقاص، وابن عمر، أنهما قالا: صلاة فيه كعمرة. وروى وكيع، عن ربيعة بن عثمان، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 قال: حدثنى عمران بن أبى أنس، عن سهل بن سعد، قال: اختلف رجلان فى المسجد الذى أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد المدينة، وقال الآخر: هو مسجد قباء، فأتوا النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: (هو مسجدى هذا) . وروى وكيع، عن أسامة بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبى سعيد الخدرى، عن أبيه، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، مثله. وذكر الدارقطنى عن كثير بن الوليد، عن مالك بن أنس، عن أبى الزناد، عن خارجة ابن زيد بن ثابت، عن أبيه، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، مثله. وهو قول ابن عمر، وسعيد بن المسيب، ومالك بن أنس، وقد يجوز أن يكونا جميعًا أسسا على التقوى. وقد اختلف فيمن نذر الصلاة فى مسجد قباء من المدينة، فذكر ابن حبيب، عن ابن عباس أنه أوجبه فيه، وفى كتاب ابن المنذر: ومن نذر أن يصلى فى مسجد غير الثلاث مساجد فليصل موضعه ولا يأتيه، إلا أن يكون قريبًا جدًا، فليأته فليصل فيه. قال ابن حبيب: قال مالك: إن كان معه فى البلد مشى إليه، وصلى فيه. 4 - باب فَضْلِ مَا بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ / 151 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (مَا بَيْنَ بَيْتِى وَمِنْبَرِى رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ) . وعن أَبِى هُرَيْرَة مثله، وزاد: (وَمِنْبَرِى عَلَى حَوْضِى) . قال الطبرى: وقوله: (ما بين بيتى ومنبرى) يحتمل معنيين: أحدهما: بين بيتى الذى أسكنه، وذلك أظهر معنييه، لأن المتعارف من كلام الناس بينهم إذا قال قائل: فلان فى بيته أنه يعنى به بيته الذى يسكنه. وقد روى (ما بين حجرتى ومنبرى) ، وهذا بيِّن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 والوجه الثانى: قاله زيد بن أسلم، قال: بيته فى هذا الحديث هو قبره، ويؤيد هذا القول رواية من روى (ما بين قبرى ومنبرى) . قال الطبرى: إذا كان قبره فى بيت من بيوته، كان معلوم بذلك أن الروايات وإن اختلفت ألفاظها صحيحة، لأن معانيها متفقة، لأن بيته الذى فيه قبره هو حجرة من حجره، وبيت من بيوته، وهو قبره أيضًا، وبيته بعد وفاته، فبين بيته الذى فيه قبره وحجرته التى فيها جدثه روضة من رياض الجنة، والروضة فى كلام العرب المكان المطمئن من الأرض فيه النبت والعشب. وإنما عنى (صلى الله عليه وسلم) أن ذلك الموضع للمصلى فيه، والذاكر الله عنده والعامل بطاعته كالعامل فى روضة من رياض الجنة، وأن ذلك يقود إلى الجنة، وكذلك ما كان يسمع فيه من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، من الإيمان والدين يقود إليها أيضًا، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (ارتعوا فى رياض الجنة) ، قيل: ما رياض الجنة؟ قال: (مجالس الذكر) . فجعل مجالس الذكر فى شرفها وفضلها بمنزلة رياض الجنة، وجعل ذاكر الله فيها كالراتع فى رياض الجنة. وكما قال (صلى الله عليه وسلم) : (الجنة تحت ظلال السيوف) يعنى أنه عمل يوصل به إلى الجنة، وكما قال: (الأم باب من أبواب الجنة) ، يريد أن يره بها ودعاءها له يوصله إلى الجنة، وهذا معلوم فى لسان العرب؛ تسمية الشىئ بما يئول إليه ويتولد عنه. وقوله: (ومنبرى على حوضى) ، يحتمل معنين: أحدهما: أن يكون الله تعالى يعيد المنبر بعينه، ويرفعه فيكون على حوضه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 كأنه قال عليه السلام: ولى أيضًا منبر على حوضى أدعو الناس إلى الحوض عليه. 5 - باب اسْتِعَانَةِ الْيَدِ فِى الصَّلاةِ إِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الصَّلاةِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَسْتَعِينُ الرَّجُلُ فِى صَلاتِهِ مِنْ جَسَدِهِ بِمَا شَاءَ. وَوَضَعَ أَبُو إِسْحَاقَ قَلَنْسُوَتَهُ فِى الصَّلاةِ وَرَفَعَهَا، وَوَضَعَ عَلِىٌّ كَفَّهُ عَلَى رُسْغِهِ الأيْسَرِ إِلا أَنْ يَحُكَّ جِلْدًا أَوْ يُصْلِحَ ثَوْبًا. / 152 - فيه: ابْن عَبَّاس، حين بَاتَ عِنْدَ خَالَتُهُ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَقام رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يصلى فَقُمت إِلَى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِى، وَأَخَذَ بِأُذُنِى الْيُمْنَى فَفْتِلُهَا بِيَدِهِ الْيُمْنَى. . الحديث. هذا الباب هو من باب العمل فى الصلاة، ويسيره معفو عنه عند العلماء، والاستعانة باليد فى الصلاة فى هذا الحديث هى وضع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يده على رأس ابن عباس وفتله أذنه، فاستنبط البخارى منه أنه لما جاز للمصلى أن يستعين بيده فى صلاته فيما يحض به غيره على الصلاة، ويعينه عليها، وينشطه فيها، كان استعانته فى أمر نفسه ليتقوى بذلك على صلاته وينشط إليها إذا احتاج إلى ذلك أولى. وقد اختلف السلف فى الاعتماد فى الصلاة والتوكؤ على الشىء، فذكر البخارى عن ابن عباس أنه لم ير بأسًا أن يستعين فى الصلاة بما شاء من جسده، وعن على بن أبى طالب أنه وضع كفه على رسغه الأيسر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 وقالت طائفة: لا بأس أن يستعين فى صلاته بما شاء من جسده وغيره، ذكر ابن أبى شيبة قال: كان أبو سعيد الخدرى يتوكأ على عصا، وعن أبى ذر مثله. وقال عطاء: كان أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) يتوكئون على العصى فى الصلاة. وأوتد عمرو بن ميمون وتدًا فى حائط، فكان إذا سئم القيام فى الصلاة، أو شق عليه أمسك الوتد يعتمد عليه، وقال الشعبى: لا بأس أن يعتمد على الحائط، وكرهت ذلك طائفة، روى ابن أبى شيبة، عن الحسن أنه كره أن يعتمد على الحائط فى المكتوبة، إلا من عِلَّة، ولم يَرَ به بأسًا فى النافلة ونحوها. قال مالك فى المدونة: لا يتكئ على عصًا أو حائط، ولا بأس به فى النافلة لطول القيام، وكرهه ابن سيرين فى الفريضة والتطوع، قال مجاهد: إذا توكأ على الحائط ينقص من صلاته بقدر ذلك. وقد تقدم فى باب ما يكره من التشديد فى العبادة زيادة فى هذا المعنى، وقول البخارى: إلا أن يحك جلدًا، أو يصلح ثوبًا، فلا حرج عليه فيه، لأنه أمر عام لا يمكن الاحتراز عنه. 6 - باب مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ الْكَلامِ فِى الصَّلاةِ / 153 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: (كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ فِى الصَّلاةِ، فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِىِّ، سَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا، وَقَالَ: (إِنَّ فِى الصَّلاةِ شُغْلا) . / 154 - وفيه: زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، إِنْ كُنَّا لَنَتَكَلَّمُ فِى الصَّلاةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يُكَلِّمُ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ بِحَاجَتِهِ حَتَّى نَزَلَتْ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238] ، فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 قال المهلب: المصلى مناجٍ لربه، فواجب عليه ألا يقطع مناجاته بكلام مخلوق، وأن يُقبل على ربه، ويلتزم الخشوع، ويعرض عما سوى ذلك، ألا ترى قوله، (صلى الله عليه وسلم) : (إن فى الصلاة شغلاً) . وقوله: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (والقنوت فى هذه الآية الطاعة والخشوع لله تعالى، فينبغى ترك الكلام المنافى للخشوع، إلا أن يكون الكلام فى إصلاح الصلاة، فإنه من الخشوع، لأنه فى تصحيح ما هو فيه من أمر صلاته. وقد أجاز الكلام فى الصلاة عمدًا وسهوًا لمصلحتها طائفة، منهم مالك والأوزاعى، وَمَنع ذلك الكوفيون وزعموا أن حديث ابن مسعود وزيد بن أرقم ناسخ لقصة ذى اليدين، وسأذكر اختلاف أهل العلم فى ذلك عند ذكر قصة ذى اليدين بعد هذا، إن شاء الله تعالى، ونذكر هاهنا طرفًا من ذلك فى رد قول الكوفيين، وذلك أن الآثار تواترت عن ابن مسعود أن قدومه من الحبشة على النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، حين لم يرد النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، السلامَ، وقال له: (إن فى الصلاة شغلاً) ، كان بمكة، وإسلام أبى هريرة كان بالمدينة عام خيبر، فكيف ينسخ الأول الآخر، هذا محال. فإن قالوا: فحديث ابن أرقم ناسخ لحديث أبى هريرة فى قصة ذى اليدين، لأن زيدًا كان من الأنصار ولم يصحب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إلا بالمدينة، وسورة البقرة مدنية. قيل: لا تاريخ عندنا لأى حديث كان منهما قبل صاحبه، غير أن زيدًا أقدم إسلامًا من أبى هريرة، وأبو هريرة أسلم عام خيبر، وصحب النبى (صلى الله عليه وسلم) خمسة أعوام، وإذا لم يعلم أيهما قبل صاحبه، لم يقض بالنسخ لواحد منهما، ويحتمل أن يكون معنى قول زيد ابن أرقم: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 (فأمرنا بالسكوت) ، يعنى إلا ما كان من أمر الكلام فى مصلحة الصلاة، فهو غير داخل فى النهى عن الكلام فى الصلاة، ليوافق حديث أبى هريرة، فلا يعارض واحد منهما صاحبه. ودل حديث زيد على النوع المنهى عنه من الكلام فى الصلاة، وهو قوله: (كنا نتكلم فى الصلاة، يكلم أحدنا صاحبه بحاجته) ، والأمة مجمعة على تحريم هذا النوع من الكلام فى الصلاة، وعلى مثل ذلك دل حديث ابن مسعود أنهم كانوا يسلم بعضهم على بعض فى الصلاة فلما قدموا من الحبشة لم يردّ (صلى الله عليه وسلم) عليهم، وقال: (إن فى الصلاة شغلاً) فبان فى الحديثين النوع المنهى عنه من الكلام فى الصلاة، وهو ما ليس من أمر الصلاة، وثبت بحديث ذى اليدين جواز الكلام فى الصلاة لمصلحتها، وهذا التأويل أولى لئلا تتضاد الأحاديث، والله الموفق. 7 - باب مَا يَجُوزُ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ فِى الصَّلاةِ لِلرِّجَالِ / 155 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: خَرَجَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يُصْلِحُ بَيْنَ بَنِى عَمْرِو بنِ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ، وَحَانَتِ الصَّلاةُ، فَجَاءَ بِلالٌ لأَبِى بَكْر، فَقَالَ: حُبِسَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَتَؤُمُّ النَّاسَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتُمْ، فَأَقَامَ بِلالٌ الصَّلاةَ، فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَصَلَّى، فَجَاءَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَمْشِى فِى الصُّفُوفِ يَشُقُّهَا شَقًّا، حَتَّى قَامَ فِى الصَّفِّ الأوَّلِ، فَأَخَذَ النَّاسُ فِى التَّصْفِيحِ، فَقَالَ سَهْلٌ: هَلْ تَدْرُونَ مَا التَّصْفِيحُ؟ قَالَ: هُوَ التَّصْفِيقُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لا يَلْتَفِتُ فِى صَلاتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا الْتَفَتَ، فَإِذَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى الصَّفِّ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ: مَكَانَكَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ، فَتَقَدَّمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَصَلَّى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 قال المهلب: فيه من الفقه: أن الصلاة لا يجب تأخيرها عن وقتها المختار، وإن غاب الإمام الفاضل. وفيه: أنه لا يجب لأحد أن يتقدم جماعة لصلاة، ولا غيرها، إلا عن رضا الجماعة، لقول أبى بكر: نعم إن شئتم، وهو يعلم أنه أفضلهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وفيه: أن الإقامة إلى المؤذن وهو أولى بها، وقد اختلف فيها، فقال بعضهم: من أذن فهو يقيم، وقال مالك والكوفيون: لا بأس بأذان المؤذن وإقامة غيره. والذى ترجم له البخارى فهو [. . . . . .] فى هذا الحديث، وقد تقدم فى أبواب الإمامة فى حديث سهل هذا، وهو أيضًا فى باب رفع الأيدى فى الصلاة لأمر ينزل به بعد هذا. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما لى أراكم أكثرتم التصفيق، من نابه شىء فى صلاته فليسبح، فإنه إذا سبح التفت إليه) ، ففى هذا أن التسبيح جائز للرجال والنساء عندما ينزل بهم من حاجة تنوبهم، ألا ترى أن الناس أكثروا بالتصفيق لأبى بكر ليتأخر للنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وبهذا قال مالك والشافعى: أن من سبح فى صلاته لشىء ينوبه، أو أشار إلى إنسان، فإنه لا تقطع صلاته. وخالف فى ذلك أبو حنيفة، فقال: إن سبح أو حمد الله جوابًا لإنسان فهو كلام، وإن كان منه ابتداءً لم يقطع، وإن وطئ على حصاة، أو لسعته عقرب، فقال: بسم الله، أراد بذلك الوجع فهو كلام. وقال أبو يوسف فى الأمرين: ليس بكلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 وقول أبى حنيفة مخالف للحديث، لأن الرسول، قال: (إذا سبح التفت إليه) ، وفهم الصحابة من هذا أنهم إذا سبحوا للإمام ولم يفهم عنهم أن يكثروا ذلك حتى يفهم، ألا ترى أنهم أكثروا التصفيق حتى التفت أبو بكر، ولو لم يكن التسبيح على نية إعلام الساهى ما ردَّدُوه حتى فهم. وقد بَيِّن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن الالتفات فى الصلاة إنما يكون من أجل التسبيح، فهو مقصود بذلك. وفيه: أن الالتفات فى الصلاة لا يقطعها. وفيه: أنه لا بأس بتخلل الصفوف والمشى إلى الصف الأول لمن يليق به الصلاة فيه، لأن شأن الصف الأول أن يقوم فيه أفضل الناس علمًا ودينًا، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليلينى منكم ذوو الأحلام والنهى) ، يعنى، والله أعلم، ليحفظوا عنه ويَعُوا ما كان منه فى صلاته، وكذلك يصلح أن يقوم فى الصف الأول من يصلح أن يلقن الإمام ما تعامى عليه من القراءة، ومن يصلح للاستخلاف فى الصلاة، وقد تقدم كثير من معانى هذا الحديث فى أبواب الإمامة، فأغنى عن إعادته. وفيه: دليل على جواز الفتح على الإمام وتلقينه إذا أخطأ، وقد اختلف العلماء فى ذلك فأجازه الأكثر، وممن أجازه: على، وعثمان، وابن عمر، وروى عن عطاء، والحسن، وابن سيرين، وهو قول مالك، وأبى يوسف، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وكرهه طائفة، روى ذلك عن ابن مسعود، والشعبى، والنخعى، وكانوا يرونه بمنزلة الكلام، وهو قول الثورى والكوفيبن، وروى عن أبى حنيفة: إن كان التسبيح جوابًا قطع الصلاة، وإن كان من مرور إنسان بين يديه لم يقطع. وقال أبو يوسف: لا يقطع وإن كان جوابًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 واعتلَّ من كرهه، فقالوا: التلقين كلام لا قراءة للقرآن. والقول الأول أولى، لأنه إذا جاز التسبيح جازت التلاوة، لأنه لو قرأ شيئًا من القرآن غير قاصد تلقين أحد لم تفسد بذلك صلاته عند الجميع، فإذا كان كذلك لم يغير ذلك معناه، قصد به تلقين إمامه أو غيره، كما لو قرأ ما أمر بقراءته فى صلاته وعمد بها إسماع من بحضرته ليتعلمه لم تفسد بذلك صلاته، قاله الطبرى. وقال الطحاوى: ولما كان التسبيح لما ينوبه فى صلاته مباحًا، ففتحه على الإمام أحرى أن يكون مباحًا. وقال أبو على البغدادى: صفح الرجل تصفيحًا: مثل صفق. 8 - باب مَنْ سَمَّى قَوْمًا أَوْ سَلَّمَ فِى الصَّلاةِ عَلَى غَيْرِهِ مُوَاجَهَةً وَهُوَ لا يَعْلَمُ / 156 - فيه: ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كُنَّا نَقُولُ التَّحِيَّةُ فِى الصَّلاةِ، وَنُسَمِّى، وَيُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (قُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِىُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِذَا قَلْتُمْ ذَلِكَ، فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِى السَّمَاءِ وَالأرْضِ) . معنى هذا الباب: أنه يجوز الكلام فى الصلاة إذا كان من شأنها، وهو مثل قوله، (صلى الله عليه وسلم) ، فى الصلاة: (اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين) ، فهو من الكلام الذى يرجى نفعه، وتعم بركته، وقوله: (من سَمَّى قومًا) يريد ما كانوا يفعلونه أولا من مواجهة بعضهم بعضًا ومخاطبتهم قبل أن يأمرهم النبى (صلى الله عليه وسلم) بهذا التشهد، فأراد البخارى يعرفك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 أنه لما لم يأمرهم النبى بإعادة تلك الصلاة التى سمّى فيها بعضهم بعضًا، عُلم أنه مَنْ فَعَل هذا جاهلاً أنه لا تفسد صلاته، وقال مالك والشافعى: إن من تكلم فى صلاته ساهيًا لم تفسد صلاته، وقوله: (أو يسلم فى الصلاة على غيره وهو لا يعلم) ، يعنى لا يعلم المسلَّم عليه، ولا يسمع السلام عليه. قال المهلب: وأمره (صلى الله عليه وسلم) بمخاطبته فى التحيات لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (السلام عليك أيها النبى) ، وهو أيضًا خطاب فى الصلاة لغير المصلى، لكن لما كان خطاب النبى (صلى الله عليه وسلم) حيًا وميتًا من باب الخشوع، ومن أسباب الصلاة المرجو بركتها لم يكن بخطاب المصلى لغيره، وفى هذا دليل أن ما كان من الكلام عامدًا فى أسباب الصلاة أنه جائز سائغ، بخلاف قول أبى حنيفة، والشافعى. وإنما أنكر (صلى الله عليه وسلم) تسميتهم للناس بأسمائهم، لأن ذلك يطول على المصلى ويخرجه مما هو فيه من مناجاة ربه إلى مناجاة الناس شخصًا شخصًا، فجمع لهم هذا المعنى فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين) ، فهو وإن خاطب نفسه فقد خاطب أيضًا غيره معه، لكنه مما يرجى بركته فيها، فكأنه منها. 9 - باب التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ / 157 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أن النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ) . وترجم البخارى لحديث سهل، باب من صفق جاهلاً من الرجال فى صلاته لم تفسد صلاته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 أجمع العلماء أن سُنَّة الرجال إذا نابهم شىء فى الصلاة التسبيح، واختلفوا فى حكم النساء، فذهبت طائفة إلى أن إذن المرأة فى الصلاة التصفيق، وإذن الرجل التسبيح على ظاهر الحديث، وروى عن النخعى، وهو قول الأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وقالت طائفة: التسبيح للرجال والنساء جميعًا، هذا قول مالك، وتأول أصحابه قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنما التصفيق للنساء) أنه من شأنهن فى غير الصلاة، فهو على وجه الذم لذلك فلا تفعله فى الصلاة امرأة ولا رجل. وذكر ابن شعبان فى كتابه: اختلف قول مالك فى ذلك، فقال مرة: تسبح النساء ولا يصفقن، لأن الحديث جاء (من نابه شىء فى صلاته فليسبح) ، وقال مرة أخرى: التصفيح للنساء، والتسبيح للرجال، كما جاء فى الحديث، قال: والأول أحب إلينا. واحتج أهل المقالة الأولى أن التسبيح إنما كره للنساء، لأن صوت المرأة فتنة، ولهذا منعت من الأذان، والإقامة، والجهر بالقراءة فى الصلاة، واحتجوا بما رواه حماد بن زيد، عن أبى حازم، عن سهل بن سعد، فى هذا الحديث أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (من نابه شىء فى صلاته فليسبح الرجال، ولتصفح النساء) . قالوا: وهذا نص لا تأويل لأحد معه. وقوله فى أول الباب: (من صفق جاهلاً من الرجال لم تفسد صلاته) ، إنما تأول ذلك، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يأمر الذين صفقوا بالإعادة، ففيه جواز العمل اليسير فى الصلاة. والتصفيق: الاضطراب وضرب اليد على اليد، وفى كتاب الأفعال: صفق رأسه صفقًا: ضربه باليد، وكذلك صفق عنقه. وقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 الأصمعى: صفقت يده بالبيعة: إذا ضربت يدك على يده، وصفق الطائر بجناحيه: ضرب بهما. 0 - باب مَنْ رَجَعَ الْقَهْقَرَى فِى صَلاتِهِ أَوْ تَقَدَّمَ بِأَمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ رَوَاهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) . / 158 - وفيه: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَا هُمْ فِى الْفَجْرِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّى بِهِمْ، فَفَجِئَهُمُ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَدْ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ صُفُوفٌ، فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ، فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الصَّلاةِ، وَهَمَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فِى صَلاتِهِمْ فَرَحًا بِالنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ رَأَوْهُ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ: أَنْ أَتِمُّوا، ثُمَّ دَخَلَ الْحُجْرَةَ، وَأَرْخَى السِّتْرَ، وَتُوُفِّىَ ذَلِكَ الْيَوْمَ. وهذا الباب أيضًا من باب العمل اليسير فى الصلاة. وفيه: أن التقدم والتأخر فى الصلاة جائز لما ينزل بالمصلى. وفيه: تفسير لقوله (صلى الله عليه وسلم) لأبى بكرة حين دبَّ راكعًا: (زادك الله حرصًا ولا تعد) أنه لم يرد بقوله: لا تجزئك صلاتك إذ لا فرق بين مشى القائم ومشى الراكع فى الصلاة، فلما لم تنتقض صلاة أبى بكر بتأخره وتقدمه، عُلم أن الراكع إذا تقدم أو تأخر أيضًا لا تبطل صلاته. وفيه من الفقه: جواز مخاطبة من ليس فى صلاة لمن هو فى صلاة، وجواز استماع المصلى إلى ما يخبره به من ليس فى صلاة ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) لما أشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم سمعوا منه وأكملوا صلاتهم، ولم يضرهم ذلك، وهو قول مالك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 1 - باب إِذَا دَعَتِ الأمُّ وَلَدَهَا فِى الصَّلاةِ / 159 - وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِى جَعْفَرُ،، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (نَادَتِ امْرَأَةٌ ابْنَهَا، وَهُوَ فِى صَوْمَعَتِةِ، قَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، قَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّى وَصَلاتِى، ثلاثًا، قَالَتِ: اللَّهُمَّ لا يَمُوتُ جُرَيْجٌ حَتَّى يَنْظُرَ فِى وُجُوهِ الْمَيَامِيسِ، وَكَانَتْ تَأْوِى إِلَى صَوْمَعَتِهِ رَاعِيَةٌ تَرْعَى الْغَنَمَ، فَوَلَدَتْ، فَقِيلَ: لَهَا مِمَّنْ هَذَا الْوَلَدُ؟ قَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ، قَالَ جُرَيْجٌ: أَيْنَ هَذِهِ الَّتِى تَزْعُمُ أَنَّ وَلَدَهَا لِى؟ قَالَ: يَا بَابُوسُ مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: الرَاعِى) . البابوس: الصبى الرضيع بالفارسية. قال المؤلف: هذا الحديث دليل أنه لم يكن الكلام فى الصلاة ممنوعًا فى شريعة جريج، فلما لم يأت من إجابتها بما هو مباح له، استجيبت دعوة أمه فيه، وقد كان الكلام فى شريعتنا جائزًا فى الصلاة إلى أن نزلت: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238] . وذكر البخارى عن أبى سعيد بن المعلى، قال: كنت أصلى فى المسجد، فدعانى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فلم أجبه، فقلت: يا رسول الله، كنت أصلى، قال: (ألم يقل الله: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) [الأنفال: 25] ) ، الحديث. ولا يجوز أن يوبخه النبى (صلى الله عليه وسلم) على ترك الاستجابة إلا وقت إباحة الكلام فى الصلاة، فلما نسخ ذلك لم يجز للمصلى إذا دعته أمه، أو غيرها أن يقطع صلاته، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق) . وحق الله تعالى الذى شرع فيه ألزم من حق الأبوين حتى يفرغ منه، لكن العلماء يستحبون له أن يخفف صلاته ويجيب أبويه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 وقد روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حديث مرسل يخالف هذا رواه ابن أبى شيبة عن حفص ابن غياث، عن ابن أبى ذئب، عن محمد بن المنكدر، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (إذا دعتك أمك فأجبها، وإذا دعاك أبوك فلا تجبه) ، وقال به مكحول، رواه الأوزاعى عنه، وقال العوام: سألت مجاهدًا عن الرجل تقام عليه الصلاة وتدعوه أمه أو والده، قال: يجيبهما. وفى كتاب البر والصلة، عن الحسن فى الرجل تقول له أمه: أفطر، قال: يفطر وليس عليه قضاء، وله أجر الصوم والبر، وإذا قالت له: لا تخرج إلى الصلاة، فليس لها فى هذا طاعة، هذه فريضة. فدل هذا أن قياس قوله إذا دعته فى الصلاة لا يجيبها، وأما مرسل ابن المنكدر فالفقهاء على خلافه، ولا أعلم به قائلاً غير مكحول، ويحتمل أن يكون معناه إذا دعته أمه فليجبها، يعنى بالتسبيح وبما أبيح للمصلى الاستجابة به، كما ذكر ابن حبيب، قال: من أتاه أبوه ليكلمه وهو فى نافلة فليخفف، وليسلم ويكلمه، وإذا نادته أمه فليبتدرها بالتسبيح، وليخفف وليسلم. وأما قول مجاهد: إذا أقميت عليه الصلاة ودعاه أبوه، أو أمه فليجبهما، فيحتمل أن يكون أمره بإجابتهما إذا كان الوقت متسعًا، ولم يدخل فى الصلاة، فتجتمع له إجابة أبويه وقضاء الصلاة فى وقتها. وقال المهلب: وفى حديث أبى هريرة دليل أنه من أخذ بالشدة فى أمور العبادات كان أفضل إذا علم من نفسه قوة على ذلك، لأن جريجًا رعى حق الله فى التزام الخشوع له فى صلاته، وفضله على الاستجابة لأمه، فعاقبه الله على ما ترك من الاستجابة لها بما ابتلاه به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 من دعوة المرأة عليه، ثم أراه فضل ما آثره به من مناجاة ربه، والتزام الخشوع له، أن جعل له آية معجزة فى كلام الطفل، فخلصه بها من محنة دعوة أمه عليه. وفى هذا الحديث إجابة دعوة الوالدة فى السراء والضراء. وقوله: (اللهم أمى وصلاتى) ، إنما سأله أن يلقى فى قلبه الأفضل، ويحمله على أولى الأمرين به، فحمله على التزام مراعاة حق الله على حق أمه، وقد يمكن أن يكون جريج نبيًا، لأنه كان فى زمن يمكن فيه النبوة. فإن قال قائل: يحتمل أن يكون حديث أبى سعيد بن المعلى قبل تحريم الكلام فى الصلاة كما قلت، فكيف جاز له ترك مجاوبة النبى (صلى الله عليه وسلم) إذا كان الكلام مباحًا؟ قيل: يمكن أن يتأول أبو سعيد قوله: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) [الأنفال: 25] إذا كنتم فى غير الصلاة، فعذره النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بذلك حين رأى التزام السكوت فى الصلاة تعظيمًا لشأنها، كما تأول أصحاب الرسول (صلى الله عليه وسلم) يوم الحديبية حين أمرهم بالحلاق ألا يحلقوا لَمَّا لَمْ يبلغ الهدى محله. فإن قيل: فيحتمل أن يدعوه الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى وقت تحريم الكلام فى الصلاة، قيل: نعم، يحتمل ذلك وتكون استجابته له بالتسبيح فيوجز فى صلاته، فتجتمع طاعة الله بإتمام الصلاة، وطاعة الرسول بالاستجابة له. وأظهر التأويلين أن يدعوه النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وقت إباحة الكلام فى الصلاة، وقد احتج قوم من أهل الظاهر بحديث أبى سعيد بن المعلى، وزعموا أن كلام الرسول (صلى الله عليه وسلم) يوم ذى اليدين خصوص له، وقالوا: لا يجوز لأحدٍ أن يفعل ذلك بعد النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لأن الله تعالى قال: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم ( الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 فلا يتكلم أحد، ولا يجيب غير الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، ولا حجة لهم فيه، لأن قوله: (استجيبوا لله وللرسول (معناه بما يستجيب به المصلى من قوله: سبحان الله، وإشارة تفهم عنه كما كان، (صلى الله عليه وسلم) ، يرد السلام على الأنصار إشارةً حين دخلوا عليه فى مسجد قباء، وهو يصلى، وكذلك قوله: (من نابه شىء فى صلاته فليسبح) . قال ابن السكيت: المومس: البغى، قال أبو عبيد: وهى المومسة أيضًا. 2 - باب مَسْحِ الْحَصَا فِى الصَّلاةِ / 160 - فيه: مُعَيْقِيبٌ، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ فِى الرَّجُلِ يُسَوِّى التُّرَابَ حَيْثُ يَسْجُدُ، قَالَ: (إِنْ كُنْتَ فَاعِلا فَوَاحِدَةً) . قال المهلب: هذا من باب العمل فى الصلاة، وقد تقدم أن قليل ذلك معفو عنه فيها، وقوله: (إن كنت فاعلاً فواحدة) ، يريد تقليل العمل فيها، ووكل الأمر فى ذلك إلى أمانة المصلى، وقد روى عن جماعة من السلف أنهم كانوا يمسحون الحصى لموضع سجودهم مرة واحدة، وكرهوا ما زاد عليها. وروى ذلك عن ابن مسعود، وأبى ذر، وأبى هريرة، وروى مالك عن يحيى بن سعيد، قال: إن أبا ذر كان يقول: مسح الحصى مرةً واحدةً، وتركها خير من حمر النعم. وهو قول الأوزاعى، والكوفيين، وروى عن ابن عمر أنه كان إذا أهوى ليسجد مسح الحصى مسحًا خفيفًا. وكان مالك لا يرى بالشىء الخفيف منه بأسًا، وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أكانوا يشددون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 فى مسح الحصى لموضع الجبين ما لا يشددون فى مسح الوجه من التراب؟ قال: أجل، وإنما أبيح مسح الحصى مرة وهو يسير، لأن المصلى لا يجوز أن يعمل جوارحه فى غير الصلاة، ومسح الحصى ليس من الصلاة فلا ينبغى له ذلك، ولا أن يأخذ شيئًا، ولا أن يضعه، فإن فعل لم تنتقض صلاته، ولا سهو عليه. 3 - باب بَسْطِ الثَّوْبِ فِى الصَّلاةِ لِلسُّجُودِ / 161 - فيه: أَنَسِ، قَالَ: كُنَّا نُصَلِّى مَعَ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) فِى شِدَّةِ الْحَرِّ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ وَجْهَهُ مِنَ الأرْضِ، بَسَطَ ثَوْبَهُ، فَسَجَدَ عَلَيْهِ. قال المهلب: هذا الباب أيضًا من باب العمل اليسير فى الصلاة، وهو مستجاز، لأنه من أمور الصلاة، وقد أمر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بالإبراد من أجل الحر، ولئلا يتعذب الناس بفيح النار، ولا يتمكن من السجود، ولا المبالغة فيه فى زمن الحر، إلا أن يتقيه بثوبه لشدة حر الحجارة، وقد ترجم لحديث أنس فى أبواب اللباس فى الصلاة، باب السجود على الثوب فى شدة الحر، وذكرنا فيه اختلاف العلماء فى السجود على الثياب، فأغنى عن إعادته. 4 - باب مَا يَجُوزُ مِنَ الْعَمَلِ فِى الصَّلاةِ / 162 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَمُدُّ رِجْلِى فِى قِبْلَةِ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ يُصَلِّى فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِى، فَرَفَعْتُهَا فَإِذَا قَامَ مَدَدْتُهَما. / 163 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن الرسُول (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى صَلاةً، فَقَالَ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي، فَشَدَّ عَلَىَّ، لِيَقْطَعَ الصَّلاةَ عَلَىَّ فَأَمْكَنَنِى اللَّهُ مِنْهُ، فَذَعَتُّهُ، وَلَقَدْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 هَمَمْتُ أَنْ أُوثِقَهُ إِلَى سَارِيَةٍ حَتَّى تُصْبِحُوا، فَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ سُلَيْمَانَ: (رَبّ هَبْ لِى مُلْكًا لا يَنْبَغِى لأحَدٍ مِنْ بَعْدِى) [ص: 35] فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِئًا) . استخف جماعة العلماء العمل اليسير فى الصلاة، وأجمعوا أن الكثير منه لا يجوز، إلا أنهم لم يحدّوا القليل، ولا الكثير، وإنما هو اجتهاد واحتياط، وغمزُه، (صلى الله عليه وسلم) ، رجل عائشة فى الصلاة هو عمل يسير، إلا أن تكرير ذلك ربما أخرجه عن حَدِّ القليل. وأما حديث الشيطان الذى عرض للنبى (صلى الله عليه وسلم) فى الصلاة، فقد رواه عبد الرزاق مفسرًا، فقال: (عرض لى فى صورة هرّ) ، فهذا معنى قوله: (فأمكننى الله منه) أى صوره لى فى صورة الهرِّ مشخصًا يمكنه أخذه، فأراد ربطه، ففى هذا جواز العمل فى الصلاة، وربطه إلى سارية عمل كثير قد هم به الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، ولا يهم إلا بجائز. ومما استخف العلماء من العمل فى الصلاة أخذ البرغوث والقملة، ودفع المارِّ بين يدى المصلى، والإشارة والالتفات الخفيف، والمشى الخفيف، وقتل الحية والعقرب، وهذا كله إذا لم يقصد المصلى بذلك العبث فى صلاته ولا التهاون بها، وممن أجاز أخذ القملة فى الصلاة وقتلها الكوفيون والأوزاعى. وقال أبو يوسف: قد أساء، وصلاته تامة، وكره الليث قتلها فى المسجد، ولو قتلها لم يكن عليه شىء، وقال مالك: لا يقتلها فى المسجد ولا يطرحها فيه، ولا يدفنها فى الصلاة. وقال الطحاوى: لو حك بدنه لم يكره، كذلك أخذ القملة وطرحها. ورخص فى قتل العقرب فى الصلاة: ابن عمر، والحسن، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 والأوزاعى، واختلف قول مالك فى ذلك، فمرة كرهه، ومرة أجازه، وقال: لا بأس بقتلها إذا آذته وخَفَّفَه، وكذلك الحية والطير يرميه بحجر يتناوله من الأرض، فإن لم يطل ذلك لم تبطل صلاته. وأجاز قتل الحية والعقرب فى الصلاة: الكوفيون، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وكره قتل العقرب فى الصلاة: إبراهيم النخعى، وسئل مالك عمن يمسك عنان فرسه فى الصلاة، ولا يتمكن من وضع يديه بالأرض، قال: أرجو أن يكون خفيفًا، ولا يتعمد ذلك. وروى على بن زياد، عن مالك فى المصلى يخاف على صبى بقرب نار فذهب يُنَحِّيه، قال: إن انحرف عن القبلة ابتدأ، وإن لم ينحرف بَنَى. وسئل أحمد بن حنبل، عن رجل أمامه سترة فسقطت، فأخذها فأركزها، قال: أرجو ألا يكون به بأس. فذكر له عن ابن المبارك أنه أمر رجلاً صنع ذلك بالإعادة، قال: لا آمره بالإعادة، وأرجو أن يكون خفيفًا. وأجاز مالك والشافعى حمل الصبى فى الصلاة المكتوبة، وهو قول أبى ثور. قال الخطابى: وقوله: (فذعته) رواه جماعة بالدال من الدَّعِّ الذى هو الدفع من قوله تعالى: (يدع اليتيم) [الماعون: 2] والأصل فى دع: دعع، فإذا أسندت الفعل إلى نفسك قلت: دَعَعْتُهُ، فإن قلت: دَعَتُّه، لم يجز فى العربية؛ لأنه لا يجوز فى العربية أن تدغم العين فى التاء، وإنما يدغم الحرف فى مثله، أو فيما قارب مخرجه مخرجه، فبطل بذلك أن يكون بالدال. قال الخطابى: والصواب فيه ما حدثنى الخيام عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 النسفى، عن البخارى (فذعته) بالذال، وحكى عن ثعلب، عن الأصمعى، قال: الذعت: الخنق: قالا: والذعت أيضًا أن تُمَعِّكَ الرجل فى التراب، فإذا أسندت الفعل من ذعت إليك قلت: ذعتُّه، أذعته، وكان الأصل ذعته، فأدغمت لام الفعل التى هى تاء المتكلم كما تقول متته وسبته من قولك مت الحَبْل، بمعنى مدّ، وسبت رأسه: حلقه، وسبت شعره: أرسله. 5 - باب إِذَا انْفَلَتَتِ الدَّابَّةُ فِى الصَّلاةِ قَالَ قَتَادَةُ: إِنْ أُخِذَ ثَوْبُهُ يَتْبَعُ السَّارِقَ، وَيَدَعُ الصَّلاةَ. / 164 - فيه: الأزْرَقُ بْنُ قَيْسٍ، قَالَ: كُنَّا بِالأهْوَازِ نُقَاتِلُ الْحَرُورِيَّةَ، فَبَيْنَا أَنَا عَلَى حَرْف نَهَرٍ إِذَا رَجُلٌ يُصَلِّى، وَإِذَا لِجَامُ دَابَّتِهِ بِيَدِهِ، فَجَعَلَتِ الدَّابَّةُ تُنَازِعُهُ، وَجَعَلَ يَتْبَعُهَا، قَالَ شُعْبَةُ: هُوَ أَبُو بَرْزَةَ الأسْلَمِىُّ، فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ افْعَلْ بِهَذَا الشَّيْخِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ الشَّيْخُ، قَالَ: إِنِّى سَمِعْتُ قَوْلَكُمْ، وَإِنِّى غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سِتَّ غَزَوَاتٍ، أَوْ سَبْعَ غَزَوَاتٍ، أَوْ ثَمَانِىَ، وَشَهِدْتُ تَيْسِيرَهُ، وَإِنِّى إِنْ كُنْتُ أرجعَ مَعَ دَابَّتِى، أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ أَدَعَهَا تَرْجِعُ إِلَى مَأْلَفِهَا، فَيَشُقُّ عَلَىَّ. / 165 - وفيه: عَائِشَةُ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَرَأَ سُورَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ، ثُمَّ قَالَ حِينَ فرغ: (لَقَدْ رَأَيْتُ فِى مَقَامِى هَذَا كُلَّ شَىْءٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 وُعِدْتُهُ، حَتَّى لَقَدْ رَأَيْتُ أُرِيدُ أَنْ آخُذَ قِطْفًا مِنَ الْجَنَّةِ، حِينَ رَأَيْتُمُونِى جَعَلْتُ أَتَقَدَّمُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، حِينَ رَأَيْتُمُونِى تَأَخَّرْتُ، وَرَأَيْتُ فِيهَا عَمْرَو بْنَ لُحَىٍّ، وَهُوَ الَّذِى سَيَّبَ السَّوَائِبَ) . لا خلاف بين الفقهاء أنه من أفلتت دابته وهو فى الصلاة أنه يقطع الصلاة ويتبعها، وقال مالك فى المختصر: من خشى على دابته الهلاك، أو على صبى رآه فى الموت فليقطع صلاته. وروى عنه ابن القاسم فى مسافر انفلتت دابته وخاف عليها، أو على صبى، أو أعمى أن يقع فى بئر أو نار، أو ذكر متاعًا يخاف أن يتلف، فذلك عذر يبيح له أن يستخلف ولا يفسد على من خلفه شيئًا. وقول أبى برزة للذى أنكر عليه قطع الصلاة واتباع دابته: (شهدت تيسير النبى، (صلى الله عليه وسلم)) ، يعنى تيسيره على أمته فى الصلاة وغيرها، ولا يجوز أن يفعل هذا أبو برزة من رأيه دون أن يشاهده من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قوله: (وإنى إن كنت أرجع مع دابتى أحب إلىّ) إلى آخر قوله، أخبر أن قطعه للصلاة واتباعه لدابته أفضل من تركها، وإن رجعت إلى مكان علفها، وموضعها فى داره، فكيف إن خشى عليها أنها لا ترجع إلى داره، فهذا أشد لقطعه للصلاة واتباعه لها. ففى هذا حجة للفقهاء فى أن كل ما خشى تلفه من متاع، أو مال، أو غير ذلك من جميع ما بالناس الحاجة إليه أنه يجوز قطع الصلاة وطلبه، وذلك فى معنى قطع الصلاة لهرب الدابة. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث عائشة: (لقد رأيت أريد أن آخذ قطفًا حين رأيتمونى جعلت أتقدم) ، فهذا المشى عمل فى الصلاة، وكذلك (حين رأيتمونى تأخرت) عمل أيضًا، إلا أنه ليس فيه قطع للصلاة، ولا استدبار للقبلة، ولا مشى كثير مثل ما يمشى من انفلتت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 دابته وبعدت عنه، فدل هذا الحديث إن مشى إلى دابته خطىً يسيرة نحو تقدمه (صلى الله عليه وسلم) إلى القطف، وكانت دابته قريبًا منه فى قبلته أنه لا يقطع صلاته. وقد سئل الحسن البصرى، عن رجل صلى وأشفق أن تذهب دابته قال: ينصرف، قيل له: أفيتم على ما مضى؟ قال: إذا ولى ظهره القبلة استأنف الصلاة، وسئل قتادة عن رجل دخلت الشاة فى بيته، وهو يصلى فيطأطئ رأسه ليأخذ القصبة يضربها؟ قال: لا بأس به. 6 - باب مَا يَجُوزُ مِنَ النفخِ فِى الصَّلاةِ والبزاق وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو نَفَخَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى سُجُودِهِ فِى كُسُوف الشمس. / 166 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) رَأَى نُخَامَةً فِى قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَتَغَيَّظَ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ قِبَلَ أَحَدِكُمْ، فَإِذَا كَانَ فِى صَلاتِهِ فَلا يَبْزُقَنَّ، أَوْ قَالَ: لا يَتَنَخَّمَنَّ، ثُمَّ نَزَلَ، فَحَتَّهَا بِيَدِهِ) . / 177 - وفيه: أَنَسِ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا كَانَ أَحَدِكُمْ فِى الصَّلاةِ، فَإِنَّهُ يُنَاجِى رَبَّهُ، فَلا يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلا عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ شِمَالِهِ، تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى) . اختلف العلماء فى النفخ فى الصلاة، فكرهته طائفة ولم توجب على من نفخ إعادة، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس، والنخعى، ورواية عن مالك، قال على عن مالك: أكره النفخ فى الصلاة، ولا يقطعها كما يقطعها الكلام. وهو قول أبى يوسف، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 وأشهب، وأحمد، وإسحاق. وقالت طائفة: هو بمنزلة الكلام يقطع الصلاة، روى عن سعيد بن جبير، وهو قول مالك فى المدونة، وفيه قول ثالث: أن النفخ إن كان يسمع فهو بمنزلة الكلام، ويقطع الصلاة، هذا قول أبى حنيفة، والثورى، ومحمد. والقول الأول أولى، لما ذكره البخارى عن عبد الله بن عمرو: (أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) نفخ فى سجوده) ، وذكر ابن أبى شيبة لأبى صالح أن قريبًا لأم سلمة صلى فنفخ، فقالت أم سلمة: لا تفعل، فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لغلام لنا أسود: (يا رباح، ترب وجهك) . وقال ابن بريدة: كان يقال: من الجفاء أن ينفخ الرجل فى صلاته، فدل هذا أن من كرهه إنما جعله من الجفاء وسوء الأدب، لا أنه بمنزلة الكلام عنده، ألا ترى أن أم سلمة لم تأمر قريبها حين نفخ فى صلاته بإعادتها، ولو كان بمنزلة الكلام عندها ما تركت بيان ذلك، ولا فعله رسوله الله (صلى الله عليه وسلم) . ويدل على صحة هذا اتفاقهم على جواز التنخم والبزاق فى الصلاة، وليس فى النفخ من النطق بالفاء والهمزة أكثر مما فى البزاق من النطق بالتاء والفاء اللتين من رمى البصاق، ولما اتفقوا على جواز البزاق فى الصلاة جاز النفخ فيها، إذ ليس بينهما فرق فى أن كل واحدٍ منهما بحروف، ولذلك ذكر البخارى حديث البزاق فى هذا الباب ليستدل به على جواز النفخ، لأنه لم يسند حديث عبد الله بن عمرو، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، نفخ فى سجوده، واعتمد على الاستدلال من حديث النخامة والبزاق، وهو استدلال حسن، وأما البزاق اليسير فإنه يحتمل فى الصلاة إذا كان على اليسار، أو تحت القدم، كما جاء فى الحديث، غير أنه ينبغى إرساله بغير نطق بحرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 مثل التاء والفاء اللتين يفهمان من رمى البزاق، لأن ذلك من النطق، وهو خلاف الخشوع فيها. 7 - باب إِذَا قِيلَ لِلْمُصَلِّى تَقَدَّمْ أَوِ انْتَظِرْ، فَانْتَظَرَ، فَلا بَأْسَ / 168 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُمْ عَاقِدُو أُزْرِهِمْ مِنَ الصِّغَرِ عَلَى رِقَابِهِمْ، فَقِيلَ لِلنِّسَاءِ: لا تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِىَ الرِّجَالُ جُلُوسًا. التقدم فى هذا الحديث هو تقدم الرجال بالسجود النساء، لأن النساء إذا لم يرفعن رءوسهن حتى يستوى الرجال جلوسًا، فقد تقدمهن بذلك وصرن منتظرات لهم، وفى هذا من الفقه جواز وقوع فعل المأموم بعد الإمام بمدة، ويصح ائتمامه، كمن زحم ولم يقدر على الركوع والسجود، حتى قام الناس، وفيه جواز سبق المأمومين بعضهم لبعض فى الأفعال، ولا يضر ذلك، وفيه إنصات المصلى لمخبر يخبره، وفيه جواز الفتح على المصلى، وإن كان الذى يفتح عليه فى غير صلاة، لأنه قد يجوز أن يكون القائل للنساء، لا ترفعن رءوسكن فى غير صلاة. 8 - باب لا يَرُدُّ السَّلامَ فِى الصَّلاةِ / 169 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: كُنْتُ أُسَلِّمُ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ فِى الصَّلاةِ، فَيَرُدُّ عَلَىَّ، فَلَمَّا رَجَعْنَا، سَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَىَّ، وَقَالَ: (إِنَّ فِى الصَّلاةِ شُغْلا) . / 170 - وفيه: جَابِرِ، قَالَ: بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَاجَةٍ لَهُ، فَانْطَلَقْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ، وَقَدْ قَضَيْتُهَا، فَأَتَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَىَّ، فَوَقَعَ فِى قَلْبِى مَا اللَّهُ بِهِ أَعْلَمُ، فَقُلْتُ فِى نَفْسِى: لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَجَدَ عَلَىَّ أَنِّى أَبْطَأْتُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 عَلَيْهِ، ثُمَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَىَّ، فَقَالَ: (إِنَّمَا مَنَعَنِى أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ أَنِّى كُنْتُ أُصَلِّى، وَكَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُتَوَجِّهًا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ) . أجمع العلماء أن المصلى لا يرد السلام متكلمًا، واختلفوا هل يرد بالإشارة، فكرهته طائفة، روى ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وهو قول أبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، واحتج الطحاوى لأصحابه بقوله: (فلم يرد علىّ، وقال: إن فى الصلاة شغلاً) ، واختلف فيه قول مالك، فمرة كرهه، ومرة أجازه، وقال: ليرد مشيرًا بيده وبرأسه، ورخصت فيه طائفة، روى ذلك عن سعيد بن المسيب، وقتادة، والحسن. وفيه قول ثالث: وهو أنه يرد عليه إذا فرغ من الصلاة، روى ذلك عن أبى ذر، وأبى العالية، وعطاء، والنخعى، والثورى، واحتج الذين رخصوا فى ذلك بما رواه ابن أبى شيبة، عن وكيع، عن ابن عون، عن ابن سيرين، قال: لما قدم عبد الله من الحبشة، وأتى الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو يصلى، فسلم عليه، فأومأ وأشار برأسه. قال: حدثنا ابن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، قال: سألت صهيبًا، كيف كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يصنع حين يسلم عليه وهو يصلى؟ قال: يشير بيده. وعن ابن عمر، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أتى قباء، فجاء الأنصار يسلمون عليه، وهو يصلى، فأشار إليهم بيده. وقال عطاء: سلم رجل على ابن عباس، وهو يصلى، فأخذ بيده فصافحه وغمزه. وقد ثبتت الإشارة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى الصلاة فى آثار كثيرة، ذكرها البخارى فى آخر كتاب الصلاة، فلا معنى لقول من أنكر رد السلام بالإشارة. وكذلك اختلفوا فى السلام على المصلى، فكره ذلك قوم، وروى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 عن جابر بن عبد الله، قال: لو دخلت على قوم وهم يصلون ما سلمت عليهم. وقال أبو مجلز: السلام على المصلى عجز. وكرهه عطاء، والشعبى، ورواه ابن وهب عن مالك، وبه قال إسحاق. ورخصت فيه طائفة، روى ذلك عن ابن عمر، وهو قول مالك فى المدونة، وقال: لا يكره السلام على المصلى فى فريضة ولا نافلة. وفعله أحمد بن حنبل. 9 - باب رَفْعِ الأيْدِى فِى الصَّلاةِ لأمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ / 171 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أن النَّبِىَ، (صلى الله عليه وسلم) ، جاء وَأَبُو بَكْرِ يُصَلِّىَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بأَنْ يُصَلِّىَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ. . . الحديث. رفع الأيدى استسلام وخشوع لله تعالى فى غير الصلاة، فكيف فى الصلاة التى هى موضوعة للخشوع والضراعة إلى الله تعالى، والحجة فى هذا الحديث فى رفع أبى بكر يديه بحضرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، ولم ينكر ذلك عليه. 0 - باب الْخَصْرِ فِى الصَّلاةِ / 172 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُصَلِّىَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا. قال المهلب: إنما كره الخصر فى الصلاة، لأنه يشبه المختالين، والخصر أن يضع الرجل يديه على خاصرتيه، وفيه معنى الكبرياء، فلا يحل القليل منه، فكيف فى الصلاة التى هى موضوعة للخشوع، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 والخيلاءُ والكبرُ ينافيان الخشوع، وكرهه ابن عباس، وعائشة، والنخعى، وهو قول مالك، والأوزاعى، والكوفيين. ورأى ابن عمر رجلاً وضع يديه على خاصرتيه فى الصلاة، فقال: هذا الصلب فى الصلاة، كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينهى عنه، وقالت عائشة: هو من فعل اليهود، وقالت مرة: هكذا أهل النار فى النار. وقال مجاهد: وضع اليد على الحقو استراحة أهل النار، وقال الخطابى: المعنى أنه فعل اليهود فى صلاتهم، وهم أهل النار، لا على أن لأهل النار المخلدين فيها راحة، قال تعالى: (لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون) [الزخرف: 75] . وقال ابن عباس: الشيطان يخصر كذلك. قال حميد بن هلال: إنما كره التخصر فى الصلاة، لأن إبليس أهبط مختصرًا. 1 - باب يَفَكُر الرَّجُلُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاةِ وَقَالَ عُمَرُ بنْ الخَطَّاب: إِنِّى لأجَهِّزُ جَيْشِى، وَأَنَا فِى الصَّلاةِ. / 173 - فيه: عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) الْعَصْرَ فَلَمَّا سَلَّمَ، قَامَ سَرِيعًا، ثًمَّ دَخَلَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، ثُمَّ خَرَجَ، وَرَأَى مَا فِى وُجُوهِ الْقَوْمِ مِنْ تَعَجُّبِهِمْ لِسُرْعَتِهِ، فَقَالَ: (ذَكَرْتُ وَأَنَا فِى الصَّلاةِ تِبْرًا عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أَنْ يُمْسِىَ، أَوْ يَبِيتَ، عِنْدَنَا، فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ) . / 174 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن الرَسُول (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (إِذَا أُذِّنَ بِالصَّلاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، لَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ أَقْبَلَ، فَلا يَزَالُ بِالْمَرْءِ يَقُولُ لَهُ: اذْكُرْ مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى لا يَدْرِىَ كَمْ صَلَّى (. / 175 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: يَقُولُ النَّاسُ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَلَقِيتُ رَجُلا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 فَقُلْتُ: بِمَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْبَارِحَةَ فِى الْعَتَمَةِ؟ فَقَالَ: لا أَدْرِى، قُلْتُ: لَمْ تَشْهَدْهَا، قَالَ: بَلَى، قَقُلْتُ: لَكِنْ أَنَا أَدْرِى، قَرَأَ بسُورَةَ كَذَا وَكَذَا. قال المهلب: الفكر فى الصلاة أمر غالب لا يمكن الاحتراز من جميعه، لما جعل الله للشيطان من السبيل إلى تذكيرنا ما يسهينا به عن صلاتنا، وخير ما يستعمل به الفكر فى الصلاة ما هو فيه من مناجاة ربه، ثم بعده الفكر فى إقامة حدود الله، كالفكر فى تفريق الصدقة كما فعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أو فى تجييش جيش الله، عز وجل، على أعدائه المشركين كما قال عمر. وروى هشام بن عروة، عن أبيه، قال: قال عمر: إنى لأحسب جزية البحرين، وأنا فى الصلاة. ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (من صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه) ، ليحض على الإقبال على الصلاة، وليجاهدوا الشيطان فى ذلك بما رغبهم فيه، وأعلمهم من غفران الذنوب لمن أجهد نفسه فيه، وهذا الانصراف من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لا يدخل فى معنى التخطى، لأن على الناس كلهم الانصراف بعد الصلاة، فمن بقى فى موضعه فهو مختار لذلك، وإنما التخطى فى الدخول إلى المسجد لا فى الخروج منه. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اذكر كذا، اذكر كذا) ، فإن أبا حنيفة أتاه رجل قد رفع مالا، ثم غاب عن مكانه سنين، فلما انصرف نسى الموضع الذى جعله فيه، فذكر ذلك لأبى حنيفة تبركًا برأيه، ورغبة فى فضل دعائه، فقال أبو حنيفة: توضأ هذه الليلة وصل، وأخلص النية فى صلاتك لله، وفرغ قلبك من خواطر الدنيا ومن كل عارض فيها، فلما جاء الليل فعل الرجل ما أمره به، وأجهد أن لا يجرى على باله شىء من أمور الدنيا، فجاءه الشيطان فذكره بموضع المال، فقصده من وقته فوجده فيه، فلما أصبح غدا إلى أبى حنيفة، فأخبره بوجود المال، فقال أبو حنيفة: قدرت أن الشيطان سيرضى أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 يشغله عن إخلاص فكره فى صلاته لله تعالى، ويصالحه على ذلك بتذكيره بما فقده من ماله، ليلهيه عن صلاته استدلالا بهذا الحديث، فعجب جلساؤه لجودة انتزاعه لهذا المعنى الغامض من هذا الحديث. وقول الرجل لأبى هريرة: (لا أدرى ما قرأ رسول الله) ، يدل أنه كان مفكرًا فى صلاته، فلذلك لم يدر ما قرأ به النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وقول أبى هريرة: (يقول الناس: أكثر أبو هريرة) ، ففيه أنه أكثر من يعلم، وكان حافظًا له ضابطًا، لأن الإكثار ليس بعيب، وإنما يكون عيبًا فيه إذا خشى قلة الضبط، فقد يكون من الناس غير مكثر من العلم ولا ضابط له مثل هذا الرجل الذى لم يحفظ ما قرأ به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى العتمة. وفيه: أنه يجوز أن يُنفى فعل الشىء عمن لم يحكمه، لأن أبا هريرة قال للرجل: لم تشهدها، يريد شهودًا تامًا، فقال الرجل: بلى شهدتها، كما يقال للصانع إذا لم يحسن صنعته: ما صنعت شيئًا، يريدون الإتقان، وللمتكلم: ما قلت شيئًا، إذا لم يعلم ما يقول. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، و (لا صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد) ، يريد لا صلاة تامة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 2 - باب مَا جَاءَ فِي السَّهْوِ إِذَا قَامَ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَرْضِ . / 176 - فيه: ابن بُحَيْنَةَ، أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَكْعَتَيْنِ مِنْ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ قَامَ فَلَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ، وَنَظَرْنَا تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ ثُمَّ سَلَّمَ. ورواه يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ الأعْرَجِ، وذكر أنها كانت صلاة الظهر. واختلف العلماء فيمن قام من اثنتين ساهيًا، هل يرجع إلى الجلوس؟ فقالت طائفة بحديث ابن بحينة: إذا استتم قائمًا، واستقل من الأرض فلا يرجع، وليمض فى صلاته، وإن لم يستو قائمًا جلس، وروى ذلك عن علقمة، وقتادة، وعبد الرحمن بن أبى ليلى، وهو قول الأوزاعى، وابن القاسم فى المدونة، والشافعى. وقالت طائفة: إذا فارقت أليته الأرض، وإن لم يعتدل، فلا يرجع ويتمادى، ويسجد قبل السلام، رواه ابن القاسم، عن مالك فى المجموعة. وقالت طائفة: يقعد وإن كان استتم قائمًا روى ذلك عن النعمان بن بشير، والنخعى، والحسن البصرى، إلا أن النخعى، قال: يجلس ما لم يفتتح القراءة، وقال الحسن: ما لم يركع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 وفى المدونة لابن القاسم، قال: إن أخطأ فرجع بعد أن قام سجد بعد السلام، وقال أشهب وعلى بن زياد: قبل السلام، لأنه قد وجب عليه السجود فى حين قيامه، ورجوعه إلى الجلوس زيادة، وعلة الذين قالوا: يقعد، وإن استتم قائمًا القياس على إجماع الجميع أن المصلى لو نسى الركوع من صلاته وسجد، ثم ذكر وهو ساجد أن عليه أن يقوم حتى يركع، فكذلك حكمه إذا نسى قعودًا فى موضع قيام حتى قام أن عليه أن يعود له إذا ذكره. قال الطبرى: والصواب قول من قال: إذا استوى قائمًا يمضى فى صلاته ولا يقعد، فإذا فرغ سجد سجدتى السهو، لحديث ابن بحينة أن نبى الله (صلى الله عليه وسلم) حين اعتدل قائمًا، من أن يذكر بنفسه، أو يذكره من خلفه بالتسبيح، وأى الحالين كان فلم ينصرف النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إلى الجلوس بعد قيامه، وقد روى عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، ومعاوية، وسعيد، والمغيرة بن شعبة، وعقبة بن عامر، أنهم قاموا فى اثنتين، فلما ذكروا بعد القيام لم يجلسوا، وقالوا: إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يفعل ذلك. وفى قول أكثر العلماء: أنه من رجع إلى الجلوس بعد قيامه من اثنتين أنه لا تفسد صلاته إلا ما ذكر ابن أبى زيد، عن سحنون أنه قال: أفسد الصلاة برجوعه، والصواب قول الجماعة، لأن الأصل ما فعله، وترك الرجوع رخصة وتنبيه أن الجلسة الأولى لم تكن فريضة، لأنها لو كانت فريضة لرجع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وقد سجد عنها، فلم يقضها، والفرائض لا ينوب عنها سجود ولا غيره، ولابد من قضائها فى العمد والسهو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 وقد شذت فرقة فأوجبت الأولى فرضًا، وقالوا: هى مخصوصة من بين سائر فروض الصلاة بأن ينوب عنها سجود السهو كالعرايا من المزابنة، وكالوقوف بعد الإحرام لمن وجد الإمام راكعًا، لا يقاس عليها شىء من أعمال البر فى الصلاة. ومنهم من قال: هى فرض، وأوجب الرجوع إليها ما لم يعمل المصلى بعدها ما يمنعه من الرجوع إليها، وذلك عقد الركعة التى قام إليها يرفع رأسه منها، وقولهم مردود بحديث ابن بحينة، فلا معنى للاشتغال به، وإنما ذكرته ليعرف فساده. وأجمع العلماء أن من ترك الجلسة الأولى عامدًا أن صلاته فاسدة وعليه إعادتها، قالوا: وهى سنة على حيالها، فحكم تركها عمدًا حكم الفرائض، وأجمعوا أن الجلسة الأخيرة فريضة إلا ابن علية، قال: ليست بفرض قياسًا على الجلسة الوسطى، واحتج بحديث ابن بحينة فى القيام من ثنتين. والجمهور حجة على من خالفهم لا يجوز عليهم جهل ما عليه الشاذ المنفرد، على أن ابن علية يوجب فساد صلاة من لم يأت بأعمال الصلاة كلها سننها وفرائضها، وقوله مردود بقوله، ويرد أيضًا قولَهُ قولُهُ (صلى الله عليه وسلم) : (وتحليلها التسليم) ، والتسليم لا يكون إلا بجلوس فسقط قولهم. وفى حديث ابن بحينة حجة لمن جعل سجود السهود فى النقص قبل السلام، وقد اختلفوا فى ذلك، فذهبت فرقة إلى أن السجود كله قبل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 روى هذا عن أبى هريرة ومكحول، وعن الزهرى، وربيعة، والأوزاعى، والليث، والشافعى، وقالت فرقة: السجود كله بعد السلام، روى ذلك عن على، وابن مسعود، وعمار، وسعد، وابن عباس، وأنس، وهو قول النخعى، والحسن، والثورى، والكوفيين، واحتجوا من طريق النظر بإجماعهم على أن حكم من سها فى صلاته أن لا يسجد فى موضع سهوه، وإنما يؤخر ذلك إلى آخر صلاته لتجمع له السجدتان كل سهو فى صلاته، ومعلوم أن السلام قد يمكن فيه السهو أيضًا، فوجب أن يؤخر السجدتان عن السلام أيضًا كما يؤخر عن التشهد. وذهب مالك إلى أن سهوه إن كان نقصانًا من الصلاة فسجوده قبل السلام على حديث ابن بحينة، وكل سهو كان زيادة فى الصلاة، فإن سجوده بعد السلام على حديث ذى اليدين، وهو قول أبى ثور، ولا مدخل للنظر مع وجود السنن، فلا معنى لقول الكوفيين. 3 - باب إِذَا صَلَّى خَمْسًا / 177 - فيه: ابن مسعود، أَنَّ الرَسُول (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا، فَقِيلَ لَهُ: أَزِيدَ فِى الصَّلاةِ؟ فَقَالَ (وَمَا ذَاكَ) ، قَالَ: صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، بَعْدَ مَا سَلَّمَ. اختلف الفقهاء فى المصلى إذا قام إلى خامسة، فقالت طائفة بظاهر هذا الحديث: إن ذكر وهو فى الخامسة قبل كمالها، رجع وجلس وتشهد وسلم، وإن لم يذكر إلا بعد فراغه من الخامسة، فإنه يسلم، ويسجد للسهو، وصلاته مجزئة عنه، هذا قول عطاء، والحسن، والنخعى، والزهرى، وإليه ذهب مالك، والأوزاعى، والليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 وقال أبو حنيفة: إذا صلى الظهر خمسًا ساهيًا نُظر، فإن لم يقعد فى الرابعة قدر التشهد، فإن صلاته الفرض قد بطلت، ويضيف إلى الخامسة سادسة، وتكون نافلة ويعيد الفرض، وإن جلس فى الرابعة مقدار التشهد فصلاته مجزئة ويضيف إلى الخامسة سادسة، وتكون الخامسة والسادسة نفلا، وإن ذكر وهو فى الخامسة قبل أن يسجد فيها، ولم يكن جلس فى الرابعة رجع إليها فأتمها كما نقول، وسجد بعد السلام. قال ابن القصار: فلا ينفك أصحاب أبى حنيفة فى هذا الحديث من أحد وجهين: إما أن يكون (صلى الله عليه وسلم) قعد فى الرابعة قدر التشهد، فإذا سجد ولم يزد على الخامسة سادسة، أو لم يقعد، فإنه لم يُعد الصلاة، وهم يقولون: قد بطلت صلاته، ولو كانت باطلة لم يسجد (صلى الله عليه وسلم) للسهو، ولأعاد الصلاة. وقوله: (فسجد سجدتين بعد ما سلم) ، هو حجة لمالك فى أن سجود السهو فى الزيادة بعد السلام، وخلاف لقول الشافعى فى أن سجود السهو فى الزيادة قبل السلام، وقول مالك يشهد له الحديث، ومن طريق النظر أن سجود النقص جبران، والجبران يقع داخل الصلاة، فيجعل زيادة فعل مكان ما سقط من الفعل، وتجعل الزيادة التى هى ترغيم للشيطان خارج الصلاة، ولا تدخل زيادة فعل على زيادة فعل، فتكثر الزيادات. وقال المهلب: السجود فى الزيادة إنما هو لأحد معنيين: ليشفع ما قد زاد إن كان زيادة كثيرة، وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إذا وجد ذلك أحدكم، فليسجد سجدتين تشفع له ما تقدم) ، وإن كانت زيادة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 قليلة فالسجدتان ترغيم للشيطان الذى أسهى وأشغل حتى زاد فى الصلاة، فأغيظ الشيطان بالسجدتين، لأن السجود هو الذى استحق إبليس بتركه العذاب فى الآخرة والخلود فى النار، فلا شىء أرغم له منه. 4 - باب إِذَا سَلَّمَ فِى رَكْعَتَيْنِ أَوْ فِى ثَلاثٍ يَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ مِثْلَ سُجُودِ الصَّلاةِ أَوْ أَطْوَلَ / 178 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: صَلَّى لنَا رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ، فَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: أقصرت الصَّلاة يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) لأصْحَابِهِ: (أَحَقٌّ مَا يَقُولُ) ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ. قَالَ سَعْدٌ: وصلى عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى مَا بَقِىَ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَقَالَ: هَكَذَا فَعَلَ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) . هذه الترجمة رد على أهل الظاهر فى قولهم: أنه لا يسجد أحد من السهو إلا فى الخمسة المواضع التى سجد فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو: السلام من ثنتين على حديث ذى اليدين، والقيام من ثنتين على حديث ابن بحينة، إلا أنه يجعل السجود فى ذلك بعد السلام، أو من صلى الظهر خمسًا على حديث ابن مسعود، وفى البناء على اليقين على حديث أبى سعيد الخدرى، وفى التحرى على حديث ابن مسعود. وجماعة الفقهاء يقولون: إن من سلم فى ثلاث ركعات، أو قام فى ثلاث، أو نقص من صلاته مَالَهُ بَالٌ، أو زاد فيها، فعليه سجود السهو، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، علم الناس فى السلام من ثنتين، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 والقيام منها، وزيادة خامسة، وفى البناء على اليقين، والتحرى سجود السهو، ليستعملوا ذلك فى كل سهو يكون فى معناه. واحتجوا فى ذلك أيضًا بحديث ابن مسعود أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (إذا شك أحدكم فى الصلاة، فليتحر الصواب، وليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين) ، فأمر بالسجود لكل سهو، وهو عام إلا أن يقوم دليل. وفى قصة ذى اليدين من الفقه أن اليقين لا يجب تركه للشك، حتى يأتى بيقين يزيله، ألا ترى أن ذا اليدين كان على يقين من أن فرض صلاتهم تلك أربع ركعات، فلما أتى بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على غير تمامها، وأمكن فى ذلك القصد من جهة الوحى، وأمكن النسيان، لزمه أن يستفهم حتى يصير إلى يقين يقطع به الشك، وفيه من الفقه أن من سلم ساهيًا فى صلاته وتكلم، وهو يظن أنه قد أتمها، فإنه لا يضره ذلك ويبنى على صلاته. وقد اختلف قول العلماء فى كيفية رجوع المصلى إلى إصلاح صلاته، فقال مالك فى المدونة: كل من رجع إلى إصلاح ما بنى عليه من صلاته، فليرجع بإحرام. وروى ابن وهب عنه أنه قال: إن لم يكبر فلا يضره ذلك مع إمام كان أو وحده. وقال ابن نافع: إن لم يدخل بإحرام أفسد صلاته على نفسه، وعلى من خلفه إن كان إمامًا. وقال الأصيلى: رواية ابن وهب هى القياس، لأن رجوعه إلى صلاته بنية تجزئه من ابتداء بإحرام، كما فعل (صلى الله عليه وسلم) فى حديث ذى اليدين، وليس سلامه ساهيًا مما يخرجه من صلاته. وقال غيره: إن لم يكبر فى رجوعه فلا شىء عليه، لأن التكبير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 شعار حركات المصلى، وأصل التكبير فى غير الإحرام إنما كان للإمام، ثم صار سُنَّة بمواظبة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، عليه وتكبير الصلوات محصور فلا وجه للزيادة فيه، ألا ترى أن الذى يحبسه الإمام عن القيام لا يكبر إذا قام لقضاء ما عليه، لأنها زيادة على تكبير الصلاة، وسلامه ساهيًا لا يخرجه عن الصلاة عند جمهور العلماء، وإذا كان فى صلاة بنى عليها، فلا معنى للإحرام، لأنه غير مستأنف لصلاة بل هو متمم لها، وإنما يؤمر بالتكبير من ابتدأ الصلاة، أو استأنفها. قال ابن القصار: وقول ذى اليدين لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله: لم تقصر ولم أنس) ، يدل أنه من تكلم ساهيًا فى الصلاة لم يفسدها، وهو قول مالك والشافعى. والحجة لذلك أنه لما قال ذو اليدين: بل قد نسيت، علمنا أنه لم يكن القصر فى الصلاة، وأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) فعل ذلك ناسيًا، فحصل كلامه (صلى الله عليه وسلم) فى حال نسيان الصلاة غير مفسد لها، ولو كان الكلام يفسدها لابتدأ (صلى الله عليه وسلم) الصلاة ولم يَبْنِ. هذا رد على أبى حنيفة وأصحابه والثورى، فإنهم زعموا أن من تكلم فى الصلاة ساهيًا، أو عامدًا لمصلحتها أنه قد أفسدها. وروى مثل قولهم عن النخعى، وقتادة، وقاله ابن وهب، وابن كنانة من أصحاب مالك. قال ابن وهب: إنما كان حديث ذى اليدين فى بدء الإسلام، ولا أرى لأحدٍ أن يفعله اليوم. وقال ابن كنانة: لا يجوز لأحدٍ اليوم ما جاز لمن كان مع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لأن ذا اليدين ظن أن التقصير نزل، وقد علم الناس كلهم اليوم أن تقصير الصلاة لا ينزل، فعلى من تكلم الإعادة. قال عيسى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 ابن دينار: فقرأته على ابن القاسم، فقال: ما أدرى ما هذه الحجة، قد قال لهم النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (كل ذلك لم يكن، قالوا: بلى قد كان بعض ذلك) . فقد كلموه عمدًا بعد علمهم أنها لم تقصر وبَنَوْا. وقال الشافعى: الكلام فى مصلحة الصلاة عمدًا لا يجوز. وقال مالك: الكلام فى مصلحتها عمدًا لا يفسدها، مثل أن يقول لإمامه: بقيت عليك ركعة أو تسليمة، أو يسأله الإمام عن شىء تركه فيجيبه. وقال الأوزاعى: إن تكلم لفرض يجب عليه لم تقسد صلاته، وإن كان لغير ذلك بطلت، والفرض عليه رَدُّ السلام، أو أن يرى أعمى يقع فى بئر، فينهاه. واحتج الكوفيون، فقالوا: حديث ذى اليدين منسوخ، نسخه حديث ابن مسعود، وزيد بن أرقم فى النهى عن الكلام فى الصلاة، وعللوا الحديث، فقالوا: أبو هريرة لم يشهد قصة ذى اليدين، لأن ذا اليدين قتل يوم بدر، قالوا: ويدل على ذلك ما رواه الليث بن سعد، عن نافع، وابن وهب، عن عبد الله العمرى، عن نافع، عن ابن عمر أنه ذكر له حديث ذى اليدين، فقال: كان إسلام أبى هريرة بعد ما قتل ذو اليدين. فعلى هذا معنى قول أبو هريرة: (صلى لنا رسول الله) ، يعنى صلى بالمسلمين، وهذا جائز فى اللغة، كما قال النزال بن سبرة: قال لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إنا وإياكم كنا ندعى بنى عبد مناف، وأنتم اليوم بنو عبد الله، ونحن بنو عبد الله) ، يعنى لقوم النزال، فهذا النزال يقول: قال لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وهو لم يره، يريد بذلك قال لقومنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 ومثله قال طاوس: قدم علينا معاذ بن جبل، فلم يأخذ من الخضروات شيئًا، وطاوس لم يدرك معاذًا، إنما قدم اليمن فى عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ولم يولد طاوس يومئذ، فمعنى قوله: قدم علينا، قدم بلدنا، وهذا الزهرى على علمه بالسنن يقول: إن قصة ذى اليدين كانت قبل بدر. وما ادعاه الكوفيون أن حديث ذى اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود فغير مسلَّم لهم، لما قدمنا فى باب ما ينهى عنه من الكلام فى الصلاة أن حديث ابن مسعود فى تحريم الكلام فى الصلاة كان بمكة، وقت قدومه من الحبشة، وإسلام أبى هريرة كان عام خيبر، وقد صح شهود أبى هريرة لقصة ذى اليدين، وأنها لم تكن قبل بدر. وقولهم: إن ذا اليدين قتل يوم بدر، فغير صحيح، وإنما المقتول يوم بدر ذو الشمالين، ذكر ذلك سعيد بن المسيب، وجماعة من أهل السير: ابن إسحاق وغيره، قالوا: وذو الشمالين هو عمير بن عمرو، من خزاعة حليف لبنى زهرة، وذو اليدين غير ذى الشمالين المقتول ببدر، وإن المتكلم كان من بنى سليم، ذكر ذلك يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة. وقال عمران بن حصين: رجل طويل اليدين يقال له: الخرباق، وقال الأثرم: سمعت مسددًا يقول: الذى قتل ببدر هو ذو الشمالين بن عبد عمرو، حليف بنى زهرة، وذو اليدين رجل من العرب كان يكون بالبادية، فيجئ فيصلى مع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وذكر ابن أبى خيثمة أن ذا اليدين عَمَّر إلى زمن معاوية، وتوفى بذى خشب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 وقد اضطرب الزهرى فى رواية حديث ذى اليدين، فجعله ذا الشمالين المقتول ببدر، وترك العلماء حديثه، لأنه مرة يرويه عن أبى بكر بن سليمان بن أبى حَثْمَة، قال: بلغنى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وحدث عنه مالك، عن سعيد وأبى سلمة، أنه بلغهما: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى ركعتين ثم سلم، ولم يسجد للسهو. وقال مسلم بن الحجاج فى كتاب التمييز: قول ابن شهاب أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يسجد يوم ذى اليدين خطأ وغلط، وقد ثبت ذلك عنه (صلى الله عليه وسلم) . قال ابن القصار: والدليل على أن كل من تكلم فى صلاته عمدًا لمصلحتها أن صلاته تامة، أن ذا اليدين لما قال للرسول (صلى الله عليه وسلم) : قد كان بعض ذلك، علم أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يقصر، وأن النسيان الجائز قد حصل منه فابتدأ عامدًا فسأل الناس، فأجابوه أيضًا عامدين، لأنهم علموا أنها لم تقصر، وأن النسيان قد وقع، وبهذا احتج ابن القاسم. وقال أبو الفرج: لو صح للمخالفين ما ادعوه من نسخ حديث ذى اليدين بتحريم الكلام فى الصلاة، لم يكن لهم فيه حجة، لأنه قد نهى عن التسبيح فى الصلاة فى غير موضعه، وأبيح للتنبيه على غفلة المصلى فى صلاته ليستدركه، فكذلك الكلام. ويدخل على أبى حنيفة والشافعى التناقض فى قولهم فى هذا الحديث، لأنهم يجيزون المشى فى الصلاة عامدًا لإصلاحها، كالراعف يخرج من المسجد يغسل الدم وللوضوء، ولا يجوز ذلك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 عندهم فى غير إصلاح الصلاة، فكذلك الكلام يجوز منه لإصلاح الصلاة ما لا يجوز منه لغير ذلك. 5 - باب مَنْ لَمْ يَتَشَهَّدْ فِي سَجْدَتَيِ السَّهْوِ وَسَلَّمَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ وَلَمْ يَتَشَهَّدَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: لا يَتَشَهَّدُ. / 179 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) انْصَرَفَ مِنِ اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ) ؟ فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَصَلَّى اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ، أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ. وقيل لابن سيرين: فِى سَجْدَتَىِ السَّهْوِ تَشَهُّدٌ؟ قَالَ: لَيْسَ فِى حَدِيثِ أَبِى هُرَيْرَةَ. اختلف العلماء فى سجدتى السهو، وهل فيهما تشهد وسلام، فقالت طائفة: لا تشهد فيها، ولا سلام. روى ذلك عن أنس، وطاوس، والحسن، والشعبى. وقالت طائفة: لا تشهد فيهما، وفيهما سلام. روى ذلك عن سعد بن أبى وقاص، وعمار، وابن أبى ليلى، وابن سيرين. وقالت طائفة: فيهما تشهد وسلام. روى ذلك عن ابن مسعود، والنخعى، والحكم، ورواية عن قتادة، واستحسن ذلك الليث، وقاله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 مالك فى العتبية والمجموعة، وهو قول الأوزاعى، والثورى، والكوفيين، والشافعى، ذكره ابن المنذر. وحكى الطحاوى، عن الأوزاعى، والشافعى: ليس فيهما تشهد. وفيهما قول رابع: إن سجد قبل السلام لم يتشهد، وإن سجد بعد السلام تشهد، رواه أشهب، عن مالك، وهو قول ابن الماجشون، وأحمد بن حنبل. قال المهلب: وليس فى حديث ذى اليدين تشهد، ولا تسليم، ويحتمل ذلك وجهين: أحدهما: أن يكون النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، تشهد فيهما وسلم، ولم ينقل ذلك المحدث. والثانى: أنه لم يتشهد فيهما، ولا سلم، وألحق المسلمون بهاتين السجدتين الصلاة، لما كانت صلاةً كَبَّرَ الرسول لهما، فأضيف إليهما التشهد، والسلام تأكيدًا لهما. وقال ابن المنذر: التسليم فى سجدتى السهو ثابت عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، من غير وجه، وفى ثبوت التشهد عنه (صلى الله عليه وسلم) فيهما نظر. وفى حديث ذى اليدين حجة لمالك على الشافعى فى قوله: إن سجود السهو كله فى الزيادة قبل السلام، لأنه (صلى الله عليه وسلم) زاد فى حديث ذى اليدين السلام، والكلام، ثم أكمل صلاته وسجد للسهو بعد السلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 6 - باب مَنْ يُكَبِّرُ فِى سَجْدَتَىِ السَّهْوِ / 180 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: صَلَّى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِحْدَى صَلاتَىِ الْعَشِىِّ - قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَكْثَرُ ظَنِّى الْعَصْرَ - رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِى مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا، وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ، فَقَالُوا: أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ؟ وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ذُو الْيَدَيْنِ، فَقَالَ: أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ؟ فَقَالَ: (لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ) ، قَالَ: بَلَى، قَدْ نَسِيتَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ، فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ، وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ. / 181 - وفيه: ابن بُحَيْنَةَ، أَنَّ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) قَامَ فِى صَلاةِ الظُّهْرِ، وَعَلَيْهِ جُلُوسٌ، فَلَمَّا أَتَمَّ صَلاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، فَكَبَّرَ فِى كُلِّ سَجْدَةٍ، وَهُوَ جَالِسٌ، قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، وَسَجَدَهُمَا النَّاسُ مَعَهُ مَكَانَ مَا نَسِىَ مِنَ الْجُلُوسِ. قال المهلب: التكبير فى سجود السهو ثابت عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ولذلك ألحق المسلمون فيهما التشهد والسلام. وفى هذا الحديث من الفقه أنه لو انحرف عن القبلة فى صلاته ساهيًا أو مشى قليلاً، أنه لا يخرجه ذلك عن صلاته، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قام إلى خشبة فى مقدم المسجد فوضع يده عليها، وخرج السرعان، وقالوا: إنه قصرت الصلاة، فلم ينقض ذلك صلاتهم، لأنه كان سهوًا، فدل أن السهو لا ينقض الصلاة، ولا يستعمل اليوم مثل هذا من الخروج من المسجد والكلام [. . . .] إعادة الصلاة، والعمل الكثير فى الصلاة مسقط لخشوعها، فلذلك استحب العلماء إعادتها من أولها إذا كثر العمل مثل هذا. واختلف العلماء فى الذى يسهو مرارًا فى الصلاة، فقال أكثر أهل العلم: يجزئه لجميع ذلك سجدتان، هذا قول النخعى، وربيعة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 ومالك، والثورى، والليث، والكوفيين، والشافعى، وأبى ثور، ومنهم من قال: يسجد فى ذلك كله قبل السلام، ومنهم من قال: بعد السلام، على حسب أقوالهم فى ذلك. وفيه قول ثانى: أن على من سها سهوين مختلفين أربع سجدات، هذا قول الأوزاعى. وقال ابن أبى حازم، وعبد العزيز بن أبى سلمة: إذا كان عليه سهوان فى صلاة واحدة، منه ما يسجد له قبل السلام، ومن ما يسجد له بعد السلام، فليسجد قبل السلام، وبعد السلام. قال ابن القصار: وحديث ذى اليدين حجة لأهل المقالة الأولى، وذلك أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، سلم وهذا يوجب سجود السهو، ثم مشى إلى خشبة معترضة فى المسجد فاتكأ عليها، وهذا يوجب سجود السهو، ثم تكلم، فقال: (أصدق ذو اليدين) ، وهذا يوجب سجود سهو، ثم سجد لجميع ذلك (صلى الله عليه وسلم) سجدتين، وهذا حجة على من خالفه. وقال مالك: إنه إذا اجتمع سهوان فى الصلاة بزيادة ونقصان فسجودهما قبل السلام. أخذ فى الزيادة بحديث ذى اليدين، وأخذ فى النقصان بحديث ابن بحينة، وبهذا يصح استعمال الخبرين جميعا، واستعمال الأخبار أولى من ادعاء النسخ فيها، والفرق بين الزيادة والنقصان بَيِّن من طريق النظر، لأن السجود فى النقصان إصلاح وجبر، ومحال أن يكون الجبر بعد الخروج من الصلاة والسجود فى الزيادة ترغيم للشيطان، وذلك ينبغى أن يكون بعد الفراغ من الصلاة. وسرعان الناس: أوائلهم، وكذلك سرعان الخيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 7 - باب إِذَا لَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلاثًا أَوْ أَرْبَعًا سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ / 182 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا نُودِىَ بِالصَّلاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لا يَسْمَعَ الأذَانَ، فَإِذَا قُضِىَ الأذَانُ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ، فَإِذَا قُضِىَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا وَكَذَا، مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ إِنْ يَدْرِى كَمْ صَلَّى فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ كَمْ صَلَّى، ثَلاثًا أَوْ أَرْبَعًا، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ) . اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فأخذ قوم بظاهره، وقالوا: من شك فى صلاته، فلم يدر زاد أم نقص، فليسجد سجدتين، وهو جالس ثم يسلم، وليس عليه ذلك روى ذلك، عن أنس، وأبى هريرة، وعن الحسن البصرى. وقال آخرون: هذا الحديث إنما هو فى المستنكح الذى يكثر عليه السهو ويلزمه حتى لا يدرى أسها أم لا، فمن كانت هذه حاله أبدًا أجزأه أن يسجد سجدتى السهو دون أن يأتى بركعة، وإنما يأتى بركعة الذى لا يعتريه ذلك كثيرًا، قالوا: وبهذا التأويل تسلم الأحاديث من التعارض. وعلى هذا فَسَّرَ الليث بن سعد حديث أبى هريرة، ذكره عنه ابن وهب، وذكره ابن المواز عن مالك، ورواه عيسى عن ابن القاسم. ولمالك قول آخر فيمن كثر عليه السهو حتى يظن أنه لا يتم صلاته: فَلْيَلْهُ عنه ولا شىء عليه. قال عنه ابن نافع: لا يسجد له، وقال ابن عبد الحكم: من كثر عليه السهو فلا يبنى على شكه، وَلْيَلْهُ عنه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 ولو سجد بعد السلام كان أحبَّ إلىَّ، ومن لا يعتريه إلا غبا فَلْيَبْنِ على يقينه، ويسجد بعد السلام. وقال آخرون: حديث أبى هريرة ناقص يفسره حديث أبى سعيد الخدرى، وعبد الرحمن بن عوف، فى البناء على اليقين والإتيان بركعة للشاكِّ، وحديث أبى هريرة فيه مضمر قد ظهر فى حديث غيره فلا يجزئ من شك فى صلاته أن يخرج منها إلا حتى يستيقن تمامها، لأن الفرض لازم عليه بيقين فلا يسقط عنه إلا بيقين. هذا قول ربيعة، ومالك، والثورى، والشافعى، وأبى ثور، وإسحاق. وقال آخرون: الحكم فى الشك أن ينظر المصلى إلى أغلب ظنه فى ذلك، فإن مال إلى أحد العددين بنى على الأقل حتى يعلم يقينًا أنه قد صلى ما عليه، هذا قول أبى حنيفة وأصحابه. واحتجوا فى ذلك بحديث ابن مسعود أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (إذا شك أحدكم فى صلاته فليتحرَّ الصواب فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم ليسجد سجدتين) . وقد ذكرت طرفًا من حجة من قال بالبناء على اليقين، ومن حجة من قال بالتحرى فى حديث ابن مسعود فى باب التوجه إلى القبلة حيث كان فى أول كتاب الصلاة، فأغنى عن إعادته. وقال آخرون: إذا لم يدر كم صلى أعادها أبدًا حتى يحفظ. روى هذا عن ابن عباس، وابن عمر، وعن الشعبى، وشريح، وعطاء، وسعيد بن جبير، وبه قال الأوزاعى، وحكى عن عطاء، وميمون بن مهران، وسعيد بن جبير قول آخر: أنهم إذا شكوا فى الصلاة أعادوها ثلاث مرات، فإذا كانت الرابعة لم يعيدوا. قال المؤلف: أما هذان القولان الآخران فمخالفان للآثار كلها، لحديث ابن مسعود فى التحرى، ولحديث أبى سعيد، وعبد الرحمن بن عوف فى البناء على اليقين، ولحديث أبى هريرة فى هذا الباب، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 فلا أعلم له وجهًا إلا من جهة الاحتياط للصلاة، غير أن من كثر شكه ولم ينفك منه إن كُلف أبدًا ما ليس فى وسعه، ولا معنى لمن حَدّ فى ذلك ثلاث مرات أيضًا، وكذلك لا أعلم وجها لرواية ابن نافع عن مالك، أنه لا سجود على من كثر شكه، لأنها خلاف لحديث أبى هريرة. وقد احتج ابن القصار لقول مالك فى الذى يكثر عليه السهو أنه ليس عليه غير السجود فقط، فقال: الذى يكثر عليه السهو ويعتاده لا يتوصل إلى أداء صلاته فى غالب الحال إلا باجتهاد، ولو ألزمناه البناء على اليقين كلما شك أدى إلى أن لا يخرج من صلاته حتى يكثر العمل فيها، وكلما عاد إلى ما عنده أنه يقينُه عاوده الشك، فلحقته المشقة، وأدى إلى خروج الوقت، وفى هذا ما لا يخفى. فحكمه حكم المستحاضة التى يخرج منها الدم، لو أمرناها بالخروج من الصلاة وغسل الدم، والوضوء وهو لا ينقطع أدى إلى أن لا تصلى حتى يخرج الوقت، ولعلها لا تصلى أصلاً، فكذلك من عادته الشك، وكثرة السهو، فينبغى أن يمضى على صلاته، ويشبه هذا قول أبو حنيفة فإنه يقول: من شك فى صلاته فلم يدر كم صلى فإن وقع له ذلك كثيرًا بنى على اجتهاده وغالب ظنه، وإن كان ذلك أول ما عرض له فليستأنف صلاته. فخالفنا فى الذى لا يقع منه السهو أبدًا، فنحن نقول: يبنى، وهو يقول: يبتدئ صلاته والحجة عليه فى هذا حديثُ ابن مسعود أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (من شك فى صلاته فليتحر الصواب، وليتم عليه) ، وأبو حنيفة يقول: لا يتم ويستأنف. وهو خلاف الحديث، وقد روى عن مكحول، والأوزاعى أنه من بنى على اليقين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 فليس عليه سجدتان، ومن لم يبن فليسجد. ذكره الطبرى، وهو خلاف حديث ابن مسعود وغيره فى السجود لمن بنى على اليقين، وخلاف لقول الفقهاء. 8 - باب السَّهْوِ فِى الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ وَسَجَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ وِتْرِهِ. / 183 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّى، جَاءَ الشَّيْطَانُ، فَلَبَسَ عَلَيْهِ حَتَّى لا يَدْرِىَ كَمْ صَلَّى؟ فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ) . الكلام فى هذا الحديث كالكلام فى حديث الباب الذى قبله، منهم من جعله مبينا على حديث البناء على اليقين، ومنهم من جعله فى المستنكح ومنهم من أخذ بظاهره فى المستنكح وغيره، ولم يوجب الإتيان بركعة على حسب ما تقدم فى الباب قبل هذا، وأما سجود السهو فى التطوع فإن جمهور الفقهاء يوجبون ذلك عليه، إلا ابن سيرين وقتادة، فإنهما قالا: إذا سها فى التطوع فلا سجود عليه. والحجة للجماعة عليهما، قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن أحدكم إذا قام يصلى جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدرى كم صلى) . وقوله: (قام يصلى) تدخل فيه جميع الصلوات فرضها ونفلها، فهو عام فى كل ما يسمى صلاة، وقد أوجب (صلى الله عليه وسلم) السجود على الساهى، والسنة حجة على من خالفها فصح قول الجماعة. قال المهلب: وإذا كان الشيطان هو الذى يلبس عليه حتى ينسيه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 فليرغم أنفه بالسجود فى السهو، فيرجع راغم الأنف خاسئًا بالسجود الذى حرمه الله فائدته، وخيبه من رحمته بإبائه منه. 9 - باب إِذَا كُلِّمَ وَهُوَ يُصَلِّى فَأَشَارَ بِيَدِهِ وَاسْتَمَعَ / 184 - فيه: كُرَيْبٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ أَزْهَرَ، أَرْسَلُوهُ إِلَى عَائِشَةَ، فَقَالُوا: اقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلامَ مِنَّا جَمِيعًا، وَسَلْهَا عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ صَلاةِ الْعَصْرِ، وَقُلْ لَهَا: إِنَّا أُخْبِرْنَا عَنْكِ أَنَّكِ تُصَلِّينَهُمَا، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ نبى الله نَهَى عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكُنْتُ أَضْرِبُ النَّاسَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ عَليهَا. قَالَ كُرَيْبٌ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَبَلَّغْتُهَا مَا أَرْسَلُونِى، فَقَالَتْ: سَلْ أُمَّ سَلَمَةَ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ، فَأَخْبَرْتُهُمْ بِقَوْلِهَا: فَرَدُّونِى إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَنْهَى عَنْهَا، ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا، حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَىَّ وَعِنْدِى نِسْوَةٌ مِنْ بَنِى حَرَامٍ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الْجَارِيَةَ، فَقُلْتُ: قُومِى بِجَنْبِهِ، فَقُولِى لَهُ: تَقُولُ لَكَ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِعْتُكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ الركعتين، ورأيتك تُصَلِّيهِمَا، فَإِنْ أَشَارَ بِيَدِهِ، فَاسْتَأْخِرِى عَنْهُ، فَفَعَلَتِ الْجَارِيَةُ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ، فَاسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: (يَا بِنْتَ أَبِى أُمَيَّةَ، سَأَلْتِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَإِنَّهُ أَتَانِى نَاسٌ مِنْ عَبْدِالْقَيْسِ، فَشَغَلُونِى عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَهُمَا هَاتَانِ) . اختلف العلماء فى الإشارة التى تفهم فى الصلاة، فقال مالك والشافعى: لا تقطع الصلاة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: تقطع الصلاة، وحكمها حكم الكلام. واحتجوا بما رواه ابن إسحاق، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 عن يعقوب بن عتبة، عن أبى غطفان بن طريف، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء، ومن أشار فى صلاته إشارة، تفهم عنه فليُعد) . واحتج أهل المقالة الأولى بحديث هذا الباب، وقالوا: قد جاء من طرق متواترة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) بإشارة مفهومة، فهو أولى من حديث أبى غطفان عن أبى هريرة، فليست الإشارة فى طريق النظر كالكلام، لأن الإشارة إنما هى حركة عضو، وقد رأينا حركة سائر الأعضاء غير اليد فى الصلاة لا تفسدها، فكذلك حركة اليد. وفى حديث عائشة جواز استماع المصلى إلى ما يخبره به من ليس فى الصلاة، وقد روى موسى عن ابن القاسم، أن من أخبر فى الصلاة بما يسرُّه، فحمد الله، أو بمصيبة فاسترجع، أو يخبر بشىء فيقول: الحمد لله على كل حال، أو الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات، فلا يعجبنى وصلاته مجزئة. وقد تقدم فى باب ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها فى كتاب أوقات الصلوات، الجمع بين معنى هذا الحديث، وبين نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن الصلاة بعد العصر للطبرى، فاطلبه هناك. قال المهلب: وفيه من الفقه أنه ينبغى أن يسأل أعلم الناس بالمسألة، وأن العلماء إذا اختلفوا رفعوا الأمر إلى من هو أعلم منهم وأفقه للمسألة لملازمة سبقت له، ثم يُقتدى به، ويُنتهى إلى فعله، وفيه فضل عائشة وعلمها، لأنهم اختصوها بالسؤال قبل غيرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 قال غيره: وإنما رفعت المسألة إلى أم سلمة، والله أعلم، لأن عائشة كانت تصليهما بعد العصر، وعلمت أن عند أم سلمة من علمها مثل ما عندها، وأنها قد رأت الرسول (صلى الله عليه وسلم) يصليهما فى ذلك الوقت فى بيتها، فأرادت عائشة أن تستظهر بأم سلمة تقويةً لمذهبها من أجل ظهور نهيه (صلى الله عليه وسلم) عنهما، وخشية الإنكار لقولها منفردة، وقد حفظ عن عائشة أنها قالت: (ما تركهما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى بيتى سرًا ولا جهرًا، تريد جهرًا منها، وكان لا يصليهما فى المسجد مخافة أن يثقل على أمته) . وأما الركعتان اللتان صلاهما النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ذلك اليوم فى بيت أم سلمة فهما غير اللتين كان يلتزم صلاتهما فى بيت عائشة بعد العصر، وإنما كانت الركعتان بعد الظهر على ما جاء فى الحديث، فأراد إعادتهما ذلك الوقت أخذًا بالأفضل، لا أن ذلك واجب عليه فى سنته، لأن السنن والنوافل إذا فاتت أوقاتها لم يلزم إعادتها، والله ولى التوفيق. 0 - باب الإشَارَةِ فِي الصَّلاةِ قَالَهُ كُرَيْبٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . / 185 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خَرَجَ يُصْلِّح بَيْنَ بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَجَاءَ النبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وأَبُو بَكْرٍ فِى الصلاة، فَأَشَارَ إِلَيْهِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّىَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ، على ذلك. . . . / 186 - وفيه: أَسْمَاءَ، دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، وَهِىَ تُصَلِّى، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 النَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَقُلْتُ: آيَةٌ؟ فَقَالَتْ: بِرَأْسِهَا، أَىْ نَعَمْ. / 187 - وفيه: عَائِشَةَ، صَلَّى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فِى بَيْتِهِ، وَهُوَ شَاكٍ جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا. . . الحديث. وهذا الباب كله كالذى قبله، فيه الإشارة المعهودة باليد، والرأس، وفيه جواز استفهام المصلى، ورده الجواب باليد والرأس خلافًا لقول الكوفيين، وروى ابن القاسم عن مالك من تكلم فى الصلاة، فأشار برأسه، أو بيده، فلا بأس بما خف ولا يكثر. وقال ابن وهب: لا بأس أن يشير فى الصلاة ب (لا) ، و (نعم) ، وقد اختلف قول مالك إذا تنحنح فى الصلاة لرجل يسمعه، فقال فى المختصر: إن ذلك لكلام. وروى عنه ابن القاسم أنه لا شىء عليه. قال الأبهرى: لأن التنحنح ليس بكلام، وليس له حروف هجاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 كِتَاب الْجَنَائِزِ - بَاب مَنْ كَانَ آخِرُ كَلامِهِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَقِيلَ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَلَيْسَ مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ لَيْسَ مِفْتَاحٌ إِلا لَهُ أَسْنَانٌ، فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ فُتِحَ لَكَ، وَإِلا لَمْ يُفْتَحْ لَكَ. / 1 - وفيه: أَبُو ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَتَانِى آتٍ مِنْ رَبِّى فَأَخْبَرَنِى، أَوْ قَالَ: بَشَّرَنِى، أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِى لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ) ، وَقُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: (وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ) . / 2 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ دَخَلَ النَّارَ) . وَقُلْتُ أَنَا: مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ. قال عبد الواحد: فإن قال قائل: ليس ظاهر هذين الحديثين مما يوافق التبويب، قيل له: قد ذكر البخارى حديث أبى ذر هذا فى كتاب اللباس، وقال فيه: إن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (ما من عبد، قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة) . إلى قوله: (وإن زنا وإن سرق. . . .) الحديث. وفسره بأن قال بأثره: قال أبو عبد الله: هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم، وقال: لا إله إلا الله، غفر له، فدل قوله هذا على أن من قال: لا إله إلا الله، وإن بَعُد قوله لها عن وقت موته، ثم مات على اعتقادها أنه ممن آخر كلامه لا إله إلا الله، وداخل فى معنى التبويب إذا لم يقل بعدها خلافها حتى مات. قال المؤلف: وقد روى ابن أبى الدنيا، قال: حدثنا يعقوب بن عبيد، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 قال: حدثنا أبو عاصم النبيل، قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن صالح بن أبى عريب، عن كثير بن مرة، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) ، على ظاهر الترجمة. وروى ابن أبى شيبة، حدثنا أبو خالد، عن يزيد بن كيسان، عن أبى حازم، عن أبى هريرة، قال: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) . قال المهلب: لا خلاف بين أئمة المسلمين أنه من قال: لا إله إلا الله، ومات عليها أنه لابد له من الجنة، ولكن بعد الفصل بين العباد ورد المظالم إلى أهلها. وذكر ابن إسحاق، قال: حدثنى عبد الله بن أبى بكر أنه حدث: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حين بعث معاذ ابن جبل إلى اليمن وأوصاه أن ييسر ولا يعسر، ويبشر ولا ينفر، وقال: (إنه سيقدم عليك قوم من أهل الكتاب يسألونك ما مفتاح الجنة؟ فقل: شهادة أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له) . قال غيره: وفى حديث أبى ذر وقول ابن مسعود رد على الرافضة والإباضية، وأكثر الخوارج فى قولهم: إن أصحاب الكبائر والمذنبين من المؤمنين يخلدون فى النار بذنوبهم، وقد نطق القرآن أيضًا بتكذيبهم. قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 48] . وقال أبو عثمان بن الحداد: والحجة عليهم فى أن الله تعالى لا يُخَلِّدُ فى النار من عمل عملاً مقبولاً منه، إذ قبول العمل يوجب ثوابه، والتخليد فى العذاب يمنع ثواب الأعمال، وقد أخبر الله تعالى فى كتابه الصادق به) إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها) [النساء: 40] ، وترك المثوبة على الإحسان ظلم، تعالى الله عن ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 وقول وهب بن منبه: إن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك. فإنما أراد بالأسنان القواعد التى بنى الإسلام عليها، التى هى كمال الإيمان ودعائمه، خلاف قول الغالية من المرجئة والجهمية الذين يقولون: إن الفرائض ليست إيمانًا، وقد سماها الله إيمانًا بقوله: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) [البقرة: 143] أى صلاتكم إلى بيت المقدس، وقال: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه) [النور: 62] واستئذانهم له عمل مفترض عليهم سموا به مؤمنين كما سموا بإيمانهم بالله ورسوله. قال المؤلف: وقول ابن مسعود أصل فى القول بدليل الخطاب وإثبات القياس، والله الموفق للصواب. - بَاب الأمْرِ بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ / 3 - فيه: الْبَرَاءِ، قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ: (أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِى، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَرَدِّ السَّلامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ. وَنَهَانَا: عَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ، وَالْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالْقَسِّىِّ، وَالإسْتَبْرَقِ) . / 4 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ) . قال المؤلف: اتباع الجنائز ودفنها والصلاة عليها من فروض الكفاية عند جمهور العلماء، واختلف أصحاب مالك فى ذلك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 فذكر ابن المواز، قال عبد الملك: الصلاة على الميت فريضة يحملها من قام بها. وحكى ابن سحنون عن أبيه مثله، وقال أصبغ بن الفرج: هى سُنَّة، وعيادة المرضى ندب وفضيلة. وأما إجابة الداعى فإن كانت الدعوة إلى وليمة النكاح، فجمهور العلماء يوجبونها فرضًا، ويوجبون الأكل فيها على من لم يكن صائمًا إن كان الطعام طيبًا، ولم يكن فى الدعوة منكر، وغير ذلك من الدعوات يراه العلماء حسنًا من باب الألفة وحسن الصحبة. وأما نصر المظلوم ففرض على من يقدر عليه ويطاع أمره، وإبرار القسم ندب وحض إذا أقسم الرجل على أخيه فى شىء لا مكروه فيه ولا يشق عليه، فعليه أن يبرَّ قسمه، وذلك من مكارم الأخلاق، ورد السلام فرض على الكفاية عند مالك والشافعى، وعند الكوفيين فرض معين على كل واحد من الجماعة. وتشميت العاطس واجب وجوب سنة، والشرب فى آنية الفضة واستعمالها حرام على الرجال والنساء، وكذلك آنية الذهب، والتختم بالذهب حرام على الرجال خاصة، مباح للنساء، والحرير المصمت الذى لا يخالطه غيره لا يجوز لبسه للرجال، إلا أنهم اختلفوا فى لباسه للحرب، وحال التداوى للجرب وشبهه، وهو حلال للنساء. وسقط من حديث البراء الخصلة السابعة المنهى عنها، وهى ركوب المياثر، وذكرها فى حديث البراء فى كتاب الاستئذان، وفى كتاب الأشربة. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (حقى المسلم على المسلم) يعنى حق حرمته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 عليه، وجميل صحبته له ما لم يكن فرضًا فى الحديث كتشميت العاطس، وعيادة المريض، وإجابة الدعوة، وهو كقول أبو هريرة: حق على المسلم أن يغتسل كل جمعة، وأن يستاك ويمس من طيب أهله. وليس شىء من ذلك عنده فرضًا، وسيأتى القول فى هذا الحديث مستوعبًا فى كتاب الاستئذان والسلام فهو موضعه، إن شاء الله تعالى، وفى كتاب النكاح فى إجابة دعوة الوليمة. 3 - بَاب الدُّخُولِ عَلَى الْمَيِّتِ إِذَا أُدْرِجَ فِى أَكْفَانِهِ / 5 - فيه: عَائِشَةَ أن أَبَا بَكْرٍ دخل عَلَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ: بِأَبِى أَنْتَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ، لا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِى كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا. فخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَقَالَ: اجْلِسْ، فَأَبَى، فَقَالَ: اجْلِسْ، فَأَبَى، فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ، فَمَالَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) فَإِنَّ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَىٌّ لا يَمُوتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ (إِلَى) الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144] وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا، حَتَّى تَلاهَا أَبُو بَكْرٍ، فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ، فَمَا سمَعُ بَشَرٌ إِلا يَتْلُوهَا. / 6 - وفيه: أُمَّ الْعَلاءِ، بَايَعَتِ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَتِّ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً، فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِى أَبْيَاتِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِى مَاتَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّىَ، وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِى أَثْوَابِهِ، دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِى عَلَيْكَ، لَقَدْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ: النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ؟) قُلْتُ: بِأَبِى وأمى أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ، فَقَالَ: (أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّى لأرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِى - وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ - مَا يُفْعَلُ بِى) ، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لا أُزَكِّى أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا. / 7 - وفيه: جَابِرَ، لَمَّا قُتِلَ أَبِى، جَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ، أَبْكِى، وَيَنْهَوْنِى عَنْهُ، وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لا يَنْهَانِى فَجَعَلَتْ عَمَّتِى فَاطِمَةُ تَبْكِى، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (تَبْكِينَ أَوْ لا تَبْكِينَ مَا زَالَتِ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ) . قال المهلب: فيه جواز كشف الثوب عن الميت إذا لم يبدُ منه أذى، وفيه جواز تقبيل الميت عند وداعه، ونهى الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن المكامعة، إنما هى فى حال الحياة، فلما ارتفعت فى الميت جاز تقبيله، وقد روى عبد الرزاق عن الثورى، عن عاصم بن عبيد الله، عن القاسم ابن محمد، عن عائشة: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دخل على عثمان بن مظعون فأكب عليه فقبله، ثم بكى، حتى رأيت الدموع تسيل على وجنتيه. وفيه جواز البكاء على الميت من غير نوح، وكذلك فى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث جابر: (تبكين أو لا تبكين) إباحة البكاء أيضًا، وسيأتى ذلك فى موضعه، إن شاء الله. وأما قول أبى بكر الصديق: لا يجمع الله عليك موتتين، فإنما قال ذلك، والله أعلم، لأن عمر بن الخطاب وغيره قالوا: إن رسول الله لم يمت وسيبعث ويقطع أيدى رجال وأرجلهم، ذكرته عن عمر فى فضائل أبى بكر الصديق، فأراد أنه لا يجمع الله عليه ميتتين فى الدنيا، بأن يميته هذه الميتة التى قد ماتها ثم يحييه، ثم يميته ميتة أخرى. وليس قوله: لا يجمع الله عليك ميتتين، بمعارض لقوله تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 ) ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) [غافر: 11] ، لأن الميتة الأولى خلقه الله من تراب ومن نطفة، لأن التراب والنطفة موات، والموات كله لم يمت نفسه، وإنما أماته الله الذى خلقه، والموت الثانى الذى يموت الخلق، وأما قوله: (وأحييتنا اثنتين (يعنى حياة الدنيا والحياة فى الآخرة بعد الموت، هذا قول ابن مسعود والسائب بن يزيد وابن جريج، فقوله: لا يجمع الله عليك ميتتين كقوله تعالى: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) [الدخان: 56] . وفى الآية قول آخر روى عن الضحاك أنه قال: الميتة الأولى ميتته، والثانية موته فى القبر بعد الفتنة والمساءلة، واحتج بأنه لا يجوز أن يقال للنطفة والتراب ميت، وإنما يقال: ميت لمن تقدمت له الحياة، وهذا اعتراض فاسد، قال الله تعالى: (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها) [يس: 33] ولم يتقدم لها حياة قط، وإنما جعلها الله جمادًا ومواتًا، وهذا من سعة كلام العرب، والقول الأول هو الذى عليه العلماء. وفيه أن أبا بكر الصديق أعلم من عُمر، وهذه إحدى المسائل التى ظهر فيها ثاقب علم أبى بكر، وفضل معرفته، ورجاحة رأيه وبارع فهمه، وسرعة انتزاعه بالقرآن، وثبات نفسه، وكذلك مكانته عند الأمة لا يساويه فيها أحد، ألا ترى أنه حين تشهد وبدأ بالكلام مال الناس إليه، وتركوا عمر. ولم يكن ذلك إلا لعظيم منزلته فى نفوسهم على عمر، وسمو محله عندهم، أخذوا ذلك رواية عن نبيهم، (صلى الله عليه وسلم) ، وقد أقر بذلك عمر بن الخطاب حين مات أبى بكر، فقال: والله ما أحب أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 ألقى الله بمثل عمل أحد إلا بمثل عمل أبى بكر، ولوددت أنى شعرة فى صدر أبى بكر. وذكر الطبرى عن ابن عباس، فقال: والله إنى لأمشى مع عمر فى خلافته وبيده الدرة، وهو يحدث نفسه ويضرب قدمه بدرته ما معه غيرى إذ قال لى: يا ابن عباس، هل تدرى ما حملنى على مقالتى التى قلت حين مات رسول الله؟ قلت: لا أدرى والله يا أمير المؤمنين. قال: ما حملنى على ذلك إلا قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا) [البقرة: 143] فوالله إنى كنت لأظن أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سيبقى فى أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها. وفى تأويل عمر هذه الحجة لمالك فى قوله: فى الصحابة مخطئ ومصيب، يعنى فى التأويل. وقال المهلب: وفى حديث أم العلاء أنه لا يقطع على أحد من أهل القبلة بجنة ولا نار، ولكن يرجى للمحسن، ويخاف على المسئ، وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (والله ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل بى) ، فيحتمل أن يكون قبل أن يعلمه الله بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد روى فى هذا الحديث (ما يفعل به) وهو الصواب، لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يعلم من ذلك إلا ما يوحى به إليه، والله الموافق للصواب. وقال عبد الواحد: فإن قيل: هذا المعنى يعارض قوله فى حديث جابر: (ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه) ، قيل: لا تعارض بينهما، وذلك أن الرسول لا ينطق عن الهوى، فأنكر على أم العلاء قطعها على ابن مظعون، إذ لم يعلم هو من أمره شيئًا، وفى قصة جابر قال بما علمه من طريق الوحى، إذ لا يجوز أن يقطع عليه السلام على مثل هذا إلا بوحى، فسقط التعارض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 4 - بَاب الرَّجُلِ يَنْعَى إِلَى أَهْل الْمَيِّتِ بِنَفْسِهِ / 8 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَعَى النَّجَاشِىَّ فِى الْيَوْمِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا. / 9 - وفيه: أَنَسِ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وَإِنَّ عَيْنَىْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَتَذْرِفَانِ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ، فَفُتِحَ لَهُ) . قال المهلب: هذا صواب الترجمة: باب الرجل ينعى إلى الناس الميت بنفسه، وإنما نعى (صلى الله عليه وسلم) النجاشى للناس، وخصه بالصلاة عليه، وهو غائب، لأنه كان عند الناس على غير الإسلام، فأراد أن يعلم الناس كلهم بإسلامه، فيدعو له فى جملة المسلمين ليناله بركة دعوتهم، ويرفع عنه اللعن المتوجه إلى قومه. والدليل على ذلك أنه لم يصل (صلى الله عليه وسلم) على أحد من المسلمين ومتقدمى المهاجرين والأنصار الذين ماتوا فى أقطار البلدان، وعلى هذا جرى عمل المسلمين بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ولم يصل على أحدٍ مات غائبًا، لأن الصلاة على الجنائز من فروض الكفاية يقوم بها من صلى على الميت فى البلد التى يموت فيها، ولم يحضر النجاشى مسلمٌ يصلى على جنازته، فذلك خصوص للنجاشى، بدليل إطباق الأمة على ترك العمل بهذا الحديث. وقال بعض العلماء: إن روح النجاشى أحضر بين يدى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فصلى عليه، ورفعت له جنازته كما كشف له عن بيت المقدس حين سألته قريش عن صفته، وعلم يوم موته ونعاه لأصحابه، وخرج فأمهم فى الصلاة عليه قبل أن يُوارَى، وهذه أدلة الخصوص، يدل على ذلك أيضًا إطباق الأمة على ترك العمل بهذا الحديث، ولم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 أجد لأحد من العلماء إجازة الصلاة على الغائب إلا ما ذكره ابن أبى زيد، عن عبد العزيز بن أبى سلمة، فإنه قال: إذا استوقن أنه غرق، أو قتل، أو أكلته السباع، ولم يوجد منه شىء صلى عليه كما فعل (صلى الله عليه وسلم) بالنجاشى، وبه قال ابن حبيب. وفى نعى النبى للنجاشى، وقوله: (أخذ الراية زيدٌ فأصيب) جواز نعى الميت للناس بخلاف قول من تأول نهى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، عن النعى أنه الإعلام بموت الميت، روى ذلك حذيفة: (أنه كان إذا مات له ميت، قال: لا تؤذنوا به أحدًا، فإننى أخاف أن يكون نعيًا، فإنى سمعت رسول الله ينهى عن النعى) ، وقال بذلك الربيع بن خثيم، وابن مسعود وعلقمة، وحديث النجاشى أصح من حديث حذيفة، وإنما الذى نهى عنه (صلى الله عليه وسلم) فهو نعى الجاهلية وأفعالها، وفيه علمٌ من أعلام النبوة بإخباره عن الغيب بخبر النجاشى، وخبر زيد وأصحابه، وسيأتى القول فى معنى حديث أنس فى كتاب الجهاد، إن شاء الله. 5 - بَاب الإذْنِ بِالْجَنَازَةِ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا آذَنْتُمُونِى) . / 10 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَاتَ إِنْسَانٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَعُودُهُ، فَمَاتَ بِاللَّيْلِ فَدَفَنُوهُ لَيْلا، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: (مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُعْلِمُونِى؟) قَالُوا: كَانَ اللَّيْلُ، وَكَانَتْ ظُلْمَةٌ، فَكَرِهْنَا أَنْ نَشُقَّ عَلَيْكَ، فَأَتَى قَبْرَهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ. الإذن بالجنازة والإعلام بها سُنَّة بخلاف قول من كره ذلك، روى عن ابن عمر أنه كان إذا مات له ميت تحين غفلة الناس، ثم خرج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 بجنازته. والحجة فى السنة لا فيما خالفها، وقد روى عن ابن عمر فى ذلك ما يوافق السنة، وذلك أنه نعى له رافع بن خديج، قال: كيف تريدون أن تصنعوا به؟ قالوا: نحبسه حتى نرسل إلى قباء وإلى قرى حول المدينة ليشهدوا، قال: نعم ما رأيتم. وكان أبو هريرة يمر بالمجالس، فيقول: إن أخاكم قد مات فاشهدوا جنازته. قال المهلب: وهذا الذى صلى عليه الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعد ما دفن إنما فعله لأنه كان يخدم المسجد، وقد روى أبو هريرة فى هذا الحديث: (أن أسود، رجل أو امرأة، كان يكون فى المسجد يقمّه فمات) ، وروى مالك عن ابن شهاب، عن أبى أمامة بن سهل بن حنيف: أن مسكينة مرضت، فأخبر رسول الله بمرضها، وكان يعود المساكين، وقال: (إذا ماتت فأذنونى) ، فخرج بجنازتها ليلاً. . . . وذكر الحديث، فإنما صلى على القبر، لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان وعد ليصلى عليه ليكرمه بذلك، لإكرامه بيت الله تعالى ليحتمل المسلمون من تنزيه المساجد ما ينالون به هذه الفضيلة، وسيأتى اختلاف العلماء فى الصلاة على القبر بعد ما يدفن فى بابه، إن شاء الله تعالى. 6 - بَاب فَضْلِ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ فَاحْتَسَبَ وَقَوْل اللَّهُ: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 155] / 11 - فيه: أَنَس، قَالَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنَ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلاثٌ، لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ) . / 12 - وفيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : اجْعَلْ لَنَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 يَوْمًا، فَوَعَظَهُنَّ، وَقَالَ: (أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَ لَهَا ثَلاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، كَانُوا حِجَابًا مِنَ النَّارِ) ، قَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: (وَاثْنَانِ) . وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ) . / 13 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَتوفىَ لِمُسْلِمٍ ثَلاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، فَيَلِجَ النَّارَ، إِلا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ)) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا) [مريم: 71] . قال المهلب: هذه الأحاديث تدل على أن أولاد المسلمين فى الجنة، وهو قول جمهور العلماء، وشذت المجبرة فجعلوا الأطفال فى المشيئة، وهو قول مهجور مردود بالسُّنة وإجماع الجماعة الذين لا يجوز عليهم الغلط، لأن يستحيل أن يكون الله تعالى يغفر لآبائهم بفضل رحمته، ولا يوجب الرحمة للأبناء، وهذا بَيِّنٌ لا إشكال فيه. وسيأتى الكلام فى الأطفال بعد هذا فى موضعه، إن شاء الله تعالى، وقد جاء أنه من مات له ولد واحد دخل الجنة، روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (قال الله عز وجل: ما جزاء عبدى إذا قبضت صفيه من الدنيا فيصبر ويحتسب إلا الجنة) ، ولا صفى أصفى من الولد. قال عبد الواحد: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (واثنان) بعد أن قال: (ثلاثة) يحتمل أنه لما قالت له المرأة: أو اثنان؟ نزل عليه الوحى فى الحين أن يجبيها بقوله: (واثنان) ولا يمتنع نزول الوحى على النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى أسرع من طرفة العين، ويدل على ذلك ما ثبت عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه لما نزلت عليه: (لا يستوى القاعدون من المؤمنين) [النساء: 95] قام إليه ابن أم مكتوم، فقال: يا رسول الله، إنى رجل ضرير البصر، فنزلت: (غير أولى الضرر) [النساء: 95] ، فألحقت بها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 وقوله عليه السلام: (إلا تحلة القسم) هو مخرج فى التفسير المسند، لأن القسم عند العلماء قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتمًا مقضيًا) [مريم: 71] هذا قول أبى عبيد يقول: فلا يَرِدُهَا إلا بقدر ما يبرُّ اللهُ قسمهُ. قال الخطابى: وعارضنا ابن قتيبة، فقال: هذا حسن من الاستخراج إن كان هذا قسمًا، قال: وفيه وجه آخر، وهو أشبه بكلام العرب ومعانيهم، وهو إذا أرادوا تقليل مكث الشىء وتقصير مدته شبهوه بتحليل القسم، وذلك أن يقول للرجل بعده: إن شاء الله فيقولون: ما يقيم فلان عنه إلا تحلة القسم، وما ينام العليل إلا كتحليل الأليّة، مشهور فى كلامهم، قال: ومعناه أن النار لا تمسه إلا قليلاً كتحليل اليمين، ثم ينجيه الله منها. قال: ولا إشكال أن المعنى ما ذهب إليه أبو عبيد، إلا أنه أغفل بيان موضع القسم، فتوهم ابن قتيبة أنه ليس بقسم. وقد جاء ذلك فى حديث مرفوع رواه زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس الجهنى، عن أبيه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (من حرس ليلة وراء عورة المسلمين تطوعًا لم ير النار تمسه إلا تحلة القسم) ، قال الله تعالى: (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتمًا مقضيا) [مريم: 71] وفى هذا ما يقطع بصحة قول أبى عبيد. قال الخطابى: وموضع القسم مردود إلى قوله تعالى: (فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا) [مريم: 68] الآية، وفيه وجه آخر وهو أن العرب تحلف وتضمر المقسم به كقوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها (المعنى: وإن منكم والله إلا واردها، وقال الحسن وقتادة: (حتمًا مقضيا (قسمًا واجبًا، وهو قول ابن مسعود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 واختلف العلماء فى هذا الورود المذكور فى الآية، فقال جابر بن عبد الله وابن عباس: لا يبقى بَر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن بردًا وسلامًا كما كانت على إبراهيم. وقال آخرون: الورود الممر على الصراط. وروى ذلك عن ابن مسعود، وكعب الأحبار، ورواية عن ابن عباس. وقال آخرون: هو خطاب للكفار، روى ذلك عن ابن عباس، قال: هو رد على الآيات التى قبلها فى الكفار قوله تعالى: (فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا (إلى قوله: (وإن منكم إلا واردها) [مريم: 68، 71] . وقال ابن الأنبارى، وغيره: جائز أن يرجع من مخاطبته الغائب إلى لفظ المواجهة، ومن المواجهة إلى الغائب، قال تعالى: (وسقاهم ربهم شرابًا طهورًا إن هذا كان لكم جزاءً) [الإنسان: 21، 22] فأبدل الكاف من الهاء، فعلى هذا صلح أن يكون خطابًا للمؤمنين، وقال مجاهد: الحُمَّى حظ المؤمن من النار. ثم قرأ: (وإن منكم إلا واردها (قال: الحُمَّى فى الدنيا الورود، فلا يَرِدُها فى الآخرة. والحجة له ما رواه أبو أسامة، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن إسماعيل بن عبد الله الأشعرى، عن أبى هريرة، قال: عاد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 معه مريضًا كان يتوعك، فقال: (أبشر فإن الله تعالى يقول: هى نارى أسلطها على عبدى المؤمن لتكون حظه من نار الآخرة) . وقال صاحب (العين) : بلغ الغلام الحنث إذا جرى عليه القلم، والحنث: الذنب العظيم. 7 - بَاب قَوْلِ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ اصْبِرِى / 14 - فيه: أَنَس، قَالَ: مَرَّ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِامْرَأَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: (اتَّقِى اللَّهَ، وَاصْبِرِى) . قال المؤلف: إنما أمرها بالصبر لعظيم ما وعد الله عليه من جزيل الأجر. قال ابن عون: كل عمل له ثواب إلا الصبر، قال الله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) [الزمر: 10] ، فأراد (صلى الله عليه وسلم) ألا تجتمع عليها مصيبتان مصيبة الهلاك، ومصيبة فقد الأجر الذى يبطله الجزع، فأمرها بالصبر الذى لابد للجازع من الرجوع إليه بعد سقوط أجره، وقد أحسن الحسن البصرى فى البيان عن هذا المعنى، فقال: الحمد لله الذى آجرنا على ما لابُدَّ لنا منه، وأثابنا على ما لو تكلفنا سواه صرنا إلى معصيته. فلذلك قال (صلى الله عليه وسلم) لها: (اتقى الله واصبرى) ، أى اتقى معصيته بلزوم الجزع الذى يحبط الأجر، واستشعرى الصبر على المصيبة بما وعد الله على ذلك، وقال بعض الحكماء لرجل عزاه: إن كل مصيبة لم يُذهِبْ فرحُ ثوابها بألم حزنها لهى المصيبة الدائمة، والحزن الباقى. وفى هذا الحديث دليل على جواز زيارة القبور، لأن ذلك لو كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 لا يجوز لما ترك (صلى الله عليه وسلم) بيان ذلك، ولأنكر على المرأة جلوسها عند القبر، وسيأتى بيان هذا المعنى فى بابه، إن شاء الله. 8 - بَاب غُسْلِ الْمَيِّتِ وَوُضُوئِهِ بِالْمَاءِ وَالسَّدْرِ وَحَنَّطَ ابْنُ عُمَرَ ابْنًا لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَحَمَلَهُ وَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُسْلِمُ لا يَنْجُسُ حَيًّا وَلا مَيِّتًا. وَقَالَ سَعدٌ: لَوْ كَانَ نَجِسًا مَا مَسِسْتُهُ. وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الْمُؤْمِنُ لا يَنْجُسُ) . / 15 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ تُوُفِّيَتِ ابْنَتُهُ، فَقَالَ: (اغْسِلْنَهَا ثَلاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِى الآخِرَةِ كَافُورًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ، فَآذِنَّنِى، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ، فَقَالَ: أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ، تَعْنِى إِزَارَهُ) . وترجم له: (باب يجعل الكافور فى آخره) . قال ابن المنذر: السُّنة أن يغسل الميت بالماء والسدر غسلاً، ولا معنى لطرح ورقات من السدر فى الماء كفعل العامة، لأن الغسل إنما يقع بالسدر المضروب بالماء، وأنكر أحمد الورقات التى يطرحها العامة فى الماء. جمهور العلماء على أن يغسل الميت الغسلة الأولى بالماء، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بماء فيه كافور، وروى قتادة عن ابن سيرين أنه كان يأخذ الغسل من أم عطية فيغسل بالماء والسدر مرتين، والثالثة بماء فيه كافور، ومنهم من يذهب إلى أن الغسلات كلها بالماء والسدر على ظاهر قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا، أو أكثر من ذلك بماء وسدر) ، وهو قول أحمد، ورووا فى حديث: (أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، غسل ثلاث غسلات كلهن بالماء والسدر) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 وكان إبراهيم النخعى لا يرى الكافور فى الغسلة الثالثة، وإنما الكافور عنده فى الحنوط، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، ولا معنى لقولهم، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (اجعلن فى الآخرة كافورًا) وعلى هذا أكثر السلف. وقيل: إن الكافور بسبب الملائكة. وفى أمره (صلى الله عليه وسلم) باستعمال الكافور دليل على جواز استعمال المسك، وكل ما جانسه من الطيب فى الحنوط، وأجاز المسك أكثر العلماء، وأمر علىّ بن أبى طالب أن يجعل فى حنوطه، وقال: هو من أفضل حنوط النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، واستعمله أنس، وابن عمر، وسعيد بن المسيب، وهو قول مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وكرهه عمر بن الخطاب، وعطاء، والحسن، ومجاهد، وقال عطاء، والحسن: إنه ميتة. وفى استعمال النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، له فى حنوطه الحجة على من كرهه. واختلف الصحابة فى غُسل من غَسَّل ميتًا، فروى عن علىّ بن أبى طالب، وأبى هريرة أنَّ عليه الغسل. وهو قول ابن المسيب، وابن سيرين، والزهرى، وهى رواية ابن القاسم، عن مالك فى (العتبية) ، قال: وعليه أدركت الناس. ولم أره يأخذ بحديث أسماء بنت عميس. وقالت طائفة: لا غسل عليه. روى ذلك عن ابن مسعود، وسعد، وابن عمر، وابن عباس، وجابر، ومن التابعين: القاسم، وسالم، والنخعى، والحسن البصرى، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه والليث، وحكى ابن حبيب، عن مالك أنه لا غسل عليه، وبه قال الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واحتج ابن حبيب بحديث أسماء بنت عميس: (أنها غسلت أبا بكر الصديق بعد موته، فلما فرغت من غسله سألت من حضر من المهاجرين والأنصار هل عليها غسل؟ قالوا: لا) . قال ابن القصار: واختلف العلماء فى ابن آدم إذا مات، فقالت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 طائفة: ينجس بالموت. وقالت طائفة: لا ينجس. وليس لمالك فيه نص، وقد رأيته لبعض أصحابه أنه طاهر، وهو الصواب، واختلف فيه قول الشافعى، والدليل على طهارته أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قبل عثمان بن مظعون لما مات والدموع تسيل على خديه، ولو كان نجسًا لم يجز أن يفعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) هذا، وخاصة فإن الدموع إذا سالت عليه وهو نجس لم يجز أن تلاصقها بشرة الحى، لأنها تصير نجسة رطبة. وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (المؤمن لا ينجس) ، وهو بعد موته مؤمن كما كان فى حياته، فثبتت طهارته كما قال ابن عباس. قال عبد الواحد: فإن قيل: فقد صح أن المؤمن لا ينجس، وأن المؤمن قد سقطت عنه العبادة بعد موته، فما وجه غسل الميت الذى ليس بنجس ولا متعبَّد، وما معنى غسله ثلاثًا؟ قيل: يحتمل أن يكون معنى غسله، والله أعلم، أنه تنظيف لمباشرة الملائكة إياه، وللقائه لله تعالى، ولذلك يجعل له الكافور ليلقاه طيب الرائحة، وأمر أن يغسل ثلاثًا، أو خمسًا، وليس التحديد فى ذلك بواجب، وإنما أريد بالغسل الإنقاء، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أو أكثر من ذلك إن رأيتن) . فإن قيل: إن واحدة تكفيه، فما معنى الثلاث والخمس؟ . قيل: للمبالغة فى غسله، ليلقى الله بأكمل الطهارات. فإن قيل: فماذا يطهر إذا لم يعلم به جنابة، ولا حيض بالمرأة، ولا بجسدها نجاسة؟ فالجواب: أنه يجوز أن يكون به جنابة لا نعلمها من احتلام وغيره، ويغشاه الموت فيموت جنبًا، أو يمس جسده فى مرضه شىء من النجاسات، ولا يعلم ذلك، فوجب أن يؤخذ له بالوثيقة ويحتاط له، ليوقن له أنه لقى الله طاهرًا، والله أعلم. وقد قال سعيد بن المسيب، والحسن البصرى: إن كل ميت يجنب، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 ولو مات وهو طاهر من ذلك كله لكان تطهيره حسنًا، إذ قد يكون به رائحةُ عرقٍ ذفرٍ من المرض، أو مهنة، لبعده عن الغسل، كما أمر الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، بالغسل يوم الجمعة لمن ليس بجنب ولا عليه نجاسة إلا زيادة فى التطهير لمناجاة ربه يوم الجمعة، فالميت أحوج إلى ذلك للقاء الله تعالى، وللقاء الملائكة. 9 - بَاب مَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُغْسَلَ وِتْرًا / 16 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، ونحن نغسل ابنته: اغْسِلْنَهَا ثَلاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ. . . .) الحديث. وَفِى حَدِيثِ حَفْصَةَ: (اغْسِلْنَهَا وِتْرًا، ثَلاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا) . قال ابن المنذر: فى حديث أم عطية دليل على أن أقل ما يغسل الميت ثلاث، وعلى أن الغاسل إذا رأى غسله أكثر من ثلاث ألا يغسله إلا وترًا، ومعنى أمره بالوتر، والله أعلم، ليستشعر المؤمن فى أعماله أن الله تعالى وحده لا شريك له كما قال (صلى الله عليه وسلم) لسعدٍ حين رآه يشير بأصبعين فى دعائه: (أحِّد أحِّد) . ولا يحفظ ذكر السبع فى حديث أم عطية إلا من رواية حفصة بنت سيرين عنها، ولم يروا ذلك محمد بن سيرين عن أم عطية إلا أنه روى هذه الألفاظ عن أخته، عن أم عطية، وروى سائر الحديث عن أم عطية. وقال مالك، والشافعى: يغسل الميت ثلاثًا أو خمسًا. وقال عطاء: أو سبعًا، وقال أحمد: لا يزاد على سبع. وقال الشافعى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 لا يقتصر عن ثلاث. وروى ابن وهب عن مالك أنه ليس لغسل الميت عندنا شىء موصوف، ولكنه يغسل ويطهر، وأحب إلىّ أن يغسل ثلاثًا، أو خمسًا، كما قال (صلى الله عليه وسلم) . وقال أبو حنيفة: إذا زاد على الثلاثة سقط الوتر. وهذا خلاف للحديث، وذهب الكوفيون، والثورى، ومالك، والمزنى أنه إذا خرج منه حدث بعد تمام غسله غسل ذلك الموضع، ولم يُعد غسله، لأنها عبادة على الحى قد أداها، وليس على الميت عبادة. وقال الشافعى: إن خرج منه شىء بعد الغسلة الثالثة أعيد غسله. وقال أحمد: يعاد غسله إذا خرج منه شىء إلى سبع غسلات، ولا يزاد عليها. والقول الأول أَوْلى، لأنه لو خرج من الحى بعد الغسل حدث لم ينتقض غسله، ولا يكون حكم الميت أكثر من حكم الحى. - بَاب يُبْدَأُ بِمَيَامِنِ الْمَيِّتِ وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ / 17 - فيه: أُمّ عَطِيَّةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى غَسْلِ ابْنَتِهِ: (ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا) . واستحب العلماء أن يُبدأ بميامن الميت، ومواضع الوضوء، لفضل الميامن وفضل أعضاء الوضوء، لأن الغرر والتحجيل يكون فيها، وقال ابن سيرين: يبدأ بمواضع الوضوء ثم بميامنه. وقال أبو قلابة: يبدأ بالرأس واللحية، ثم الميامن. واختلف الفقهاء فى وضوء الميت، وفى غسله، فقال مالك: إن وضئ فحسن. وقال أبو حنيفة: لا يوضأ، لأن العبادة ساقطة عنه والتكليف، ولأن المضمضة أن يمج ذلك من فيه، والاستنشاق لمن له نفس يجذبه، والميت لا يقدر على ذلك. وقال الشافعى: يوضأ قبل غسله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 قال ابن القصار: والحجة لقول مالك أنه قد ثبت وجوب غسله كالجنب، فلما كان وضوء الجنب عند الغسل مستحبًا، كذلك هذا، ولما كان الحى يتوضأ فى غسله ليلقى ربه فى أعلى مراتب الطهارة، كان فى الميت الذى حصل فى أول منازل الآخرة أولى أن يلقى ربه فى أعلى مراتب الطهارة أيضًا. وقول الكوفيين: إن العبادة ساقطة عنه، وقد تعبدنا نحن بتطهيره، والمضمضة للتنظيف، ونحن نفعلها كما نغسل المواضع الغامضة منه، فإن ترك وضوؤه فلا بأس، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: (وأى وضوء أعم من الغسل) . - بَاب هَلْ تُكَفَّنُ الْمَرْأَةُ فِى إِزَارِ الرَّجُلِ / 18 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: قال النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى غَسْلِ ابْنَتِهِ: (فَإِذَا فَرَغْتُنَّ، فَآذِنَّنِى) ، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَنَزَعَ إِزَارَهُ مِنْ حِقْوِهِ، وَقَالَ: (أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ) . لا خلاف بين العلماء أنه يجوز أن تكفن المرأة فى ثوب الرجل، والرجل فى ثوب المرأة، قال ابن المنذر: أكثر العلماء يرى أن تكفن المرأة فى خمسة أثواب. وفى المجموعة قال ابن القاسم: الوتر أحب إلى مالك فى الكفن، وإن لم يوجد للمرأة إلا ثوبان لفت فيهما. وقال أشهب: لا بأس بالأكفان فى ثوب الرجل والمرأة. وقال ابن شعبان: المرأة فى عدد أثواب الأكفان أكثر من الرجل، وأقله لها خمسة. وقال أبو حنيفة وجماعة: أدنى ما تكفن فيه المرأة ثلاثة أثواب، والسُّنة فيها خمسة. وقال ابن المنذر: درع وخمار ولفافتان، لفافة تحت الدرع تلف بها، وأخرى فوقه، وثوب لطيف يشد على وسطها يجمع ثيابها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 وقوله: (أشعرنها إياه) أى اجعلنه يلى جسدها، والشعار الثوب الذى يلى الجسد عند العرب، وسيأتى تفسير الحَقْو فى باب الإشعار للميت، إن شاء الله تعالى. - بَاب نَقْضِ شَعَرِ الْمَرْأَةِ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لا بَأْسَ أَنْ يُنْقَضَ شَعَرُ الْمَرْأَةِ. / 19 - فيه: أُمّ عَطِيَّةَ، أَنَّهُنَّ جَعَلْنَ رَأْسَ بِنْتِ الرَسُول ثَلاثَةَ قُرُونٍ، نَقَضْنَهُ، ثُمَّ غَسَلْنَهُ، ثُمَّ جَعَلْنَهُ ثَلاثَةَ قُرُونٍ. ناصيتها وقرنيها. وترجم له باب: (يجعل شعر المرأة ثلاثة قرون) ، وباب: (يلقى شعر المرأة خلفها) ، وزاد فيه: (فضفرنا شعرها ثلاثة قرون فألقيناه خلفها) . معنى نقض شعر المرأة، والله أعلم، لكى يبلغ الماء البشرة، ويعم الماء جميع جسدها، وتضفير شعرها بعد ذلك أحسن من استرساله وانتشاره، لأن التضفير يجمعه ويضمه. وقال الشافعى، وأحمد: يضفر رأس المرأة ثلاثة قرون: ناصيتها وقرنيها، ثم يلقى خلفها على حديث أم عطية. وهو قول ابن حبيب. وقال ابن القاسم فى العتبية: يلف شعر المرأة، وأما الضفر فلا أعرفه. وقال الكوفيون: يرسل من بين يديها من الجانبين جميعًا، ثم يسدل الخمار عليه. وقال الأوزاعى: ليس مشط رأس الميتة بواجب، ولكن يفرق شعرها وترسله مع خديها. وقول من تابع الحديث أولى، ولا حجة لمن خالفه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 - بَاب كَيْفَ الإشْعَارُ لِلْمَيِّتِ؟ وَقَالَ الْحَسَنُ: الْخِرْقَةُ الْخَامِسَةُ تَشُدُّ بِهَا الْفَخِذَيْنِ وَالْوَرِكَيْنِ تَحْتَ الدِّرْعِ. / 20 - وفيه: أُمّ عَطِيَّةَ، دَخَلَ عَلَيْنَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ، فَقَالَ: (اغْسِلْنَهَا ثَلاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِى الآخِرَةِ كَافُورًا، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ، فَآذِنَّنِى) ، قَالَتْ: فَلَمَّا فَرَغْنَا، أَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ، فَقَالَ: (أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ) . وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَلا أَدْرِى أَىُّ بَنَاتِهِ. وَزَعَمَ ابن سيرين أَنَّ الإشْعَارَ: الْفُفْنَهَا فِيهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَأْمُرُ بِالْمَرْأَةِ أَنْ تُشْعَرَ وَلا تُؤْزَرَ. وقوله: (أشعرنها إياه) ، فإنه أراد اجعلنه على جسدها، ومنه قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الأنصار شعار، والناس دثار) ، وقال ابن جريج: قلت لعطاء: ما معنى أشعرنها إياه، أتؤزر؟ قال: لا أراه إلا: الففنها فيه. كقول ابن سيرين. قال المؤلف: فإذا لفت فيه مما يلى جسمها منه فهو شعار لها، وما فضل منه فتكرير لَفِّه عليها أستر لها من أن تؤزر فيه مطلقًا دون أن يلف عليها ما فضل منه، فلذلك فسر أن الإشعار أريد به لفها فى الإزار، وكان ابن سيرين أعلم التابعين، بغسل الموتى، هو وأيوب بعده. قال المهلب: وإنما أعطاها إزاره تبركًا بالنبى، و (الحَقْوُ) فى اللغة موضع عقد الإزار من الرَّجُل وهو الخصر، وقال صاحب العين: هو الكشح والجمع أَحْقاء، والحقو أيضًا الإزار. روى هذا كله فى الحديث، ففى هذا الحديث سمى الإزار حقوًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 وفى باب: هل تكفن المرأة فى إزار الرجل، سمى الحقو موضع عقد الإزار، فقال: (فنزع من حقوه إزاره) ، فهذا شاهد لأهل اللغة، وقد استدل قوم من هذا الحديث أن غسل النساء للمرأة أولى من غسل زوجها لها، وهذا قول الشعبى، وأبى حنيفة، والثورى. وقالوا: إنما لم يجز غسلها، لأنه ليس فى عدة منها، ولو ماتت هى لم يمتنع من التزويج عقيب موتها، ولو مات هو لمنعت من التزويج حتى تخرج من عدتها. وقال مالك، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق: يغسل الرجل امرأته إذا ماتت، واحتجوا بأن فاطمة بنت النبى (صلى الله عليه وسلم) أوصت إلى زوجها على أن يغسلها. وكان هذا بحضرة الصحابة، ولم ينكره منهم أحد، فصار إجماعًا. واعتل الكوفيون بأن لزوجها أن يتزوج أختها، فلذلك لا يغسلها، لأنه إذا غسلها وقد تزوج أختها فقد جمع بينهما، وهذا لا حجة فيه، لأنها فى حكم الزوجة بدليل الموارثة، لا فى حكم المبتوتة، ويجوز لكل واحد منهما من صاحبه من النظر والمباشرة ما لا يجوز لغيرهما. وقال ابن القصار: والجمع بين الأختين إنما حرم منه الجمع بينهما بعقد النكاح والنظر إلى كل واحدة منهما بعين الشهوة واللذة، وهذا غير موجود فى مسألتنا، وأما إذا نظر إلى إحداهما على طريق الحرمة المتقدمة، فهو جائز كمن ينظر إلى أختيه من الرضاع، وإلى أختين مملوكتين. وأما غسل المرأة زوجها فهو إجماع لا خلاف فيه. وقول المحدث: لا أدرى أى بناته. فقد روى عبد الرزاق، عن هشام بن حسان، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية، قالت: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 توفيت زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا) ، وقال بعض أهل السير: هى أم كلثوم. - بَاب الثِّيَابِ الْبِيضِ لِلْكَفَنِ / 21 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كُفِّنَ فِى ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ يَمَانِيَةٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيها قَمِيصٌ وَلا عِمَامَةٌ. وترجم له باب: (الكفن بغير قميص) ، وباب: (الكفن بغير عمامة) . قال ابن المنذر: وروى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (خير ثيابكم البياض، فألبسوها أحياءكم، وكفنوا بها موتاكم) ، والسحولية: البيض، والسحل: الثوب الأبيض، وقيل: إن (سحول) قرية باليمن تصنع ثياب القطن، وتنسب إليها، والكرسف: القطن، والفقهاء يستحبون فى الكفن ما فى هذا الحديث، ولا يرون فى الكفن شيئًا واجبًا لا يتعدى، وما ستر العورة أجزأ عندهم. قال مالك: ليس فى كفن الميت حدّ، ويستحب الوتر، وقال مرة: لا أحب أن يكفن فى أقل من ثلاثة أثواب. وقال ابن القصار: لا يستحب القميص فى الكفن، والسُّنَّة تركه. وبه قال الشافعى. وروى يحيى عن ابن القاسم فى العتبية أنه لا يقمص الميت، ولا يعمم، ويدرج فى ثلاثة أثواب بيض إدراجًا، كما فعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وكان جابر بن عبد الله، وعطاء لا يعممان الميت. وقالت طائفة: لا بأس بالقميص، والعمامة فى الكفن. روى ذلك عن ابن عمر. وقال ابن حبيب: استحب مالك للرجل خمسة أثواب يعد فيها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 القميص والعمامة والمئزر، ويلف فى ثوبين، وقال فى المدونة: من شأن الميت أن يعمم عندنا. وقال أبو حنيفة: لا بأس أن يكفن فى قميص. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: قوله: (ليس فيها قميص ولا عمامة) يدل أن القميص الذى غسل فيه الرسول (صلى الله عليه وسلم) نزع عنه حين كفن، لأنه إنما قيل: لا تنزعوا القميص ليستر به، ولا يكشف جسده، فلما ستر بالكفن استغنى عن القميص، ولو لم ينزع القميص حين كفن لخرج عن حد الوتر الذى أمر به النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، واستحسنه فى غير ما شىء استشعارًا للتوحيد، وكانت تكون أربعة بالثوب المبلول، ويستبشع أن يكفن على قميص مبلول. فإن قيل: فقد روى يزيد بن أبى زياد، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: (كفن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى ثلاثة أثواب: قميصه الذى مات فيه، وحلة نجرانية) . قيل: هذا حديث انفرد به يزيد بن أبى زياد، وهو لا يحتج به لضعفه، وحديث عائشة أصح، الذى نفت عنه القميص. - بَاب الْكَفَنِ فِى ثَوْبَيْنِ / 22 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، بَيْنَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ؛ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ، قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِى ثَوْبَيْنِ، وَلا تُحَنِّطُوهُ، وَلا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا) . وترجم له باب: (الحنوط للميت) ، وقال فيه: (فأقصعته، أو قال: فأقعصته) ، وترجم له باب: (كيف يكفن المحرم) . قال المؤلف: قال مالك، وأبو حنيفة: لا أحب لأحد أن يكفن فى أقل من ثلاثة أثواب، وإن كفن فى ثوبين فحسنٌ على ظاهر قوله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 عليه السلام: (كفنوه فى ثوبيه، ولا تمسوه طيبًا، ولا تخمروا رأسه) ، وإنما ترجم له باب الحنوط للميت، لأنه لما قال فى هذا الحديث: (لا تحنطوه) ، وكان محرمًا استدل البخارى من هذا أنه إذا لم يكن محرمًا أنه يحنط. واختلف العلماء كيف يكفن المحرم، فقال الشافعى، وأحمد بن حنبل: يكفن المحرم، ولا يغطى رأسه، ولا يقرب طيبًا، لأن حكم إحرامه باق. وهو قول علىّ، وابن عباس على ظاهر هذا الحديث. وقال مالك، وأبو حنيفة، والأوزاعى: يفعل بالمحرم ما يفعل بالحلال. وهو قول عثمان، وعائشة، وابن عمر. قال ابن القصار: والحجة لهذا القول قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث. . . .) ، فدل أن بموته تنقطع العبادة، وقد كفن ابن عمر ابنه، وخمر رأسه يوم مات، وهو محرم، وقال: لولا أنا حرم لطيبناه، وهذا يدل أن الحديث خاص فى ذلك الرجل بعينه. قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا) ، كما قال فى الشهداء، فإن الشهيد يبعث يوم القيامة اللون لون الدم، والريح ريح مسكٍ، فأخبر عن حال كل من استحق الشهادة، ثم خص جعفر لما قطعت يداه، فقال: (له جناحان يطير بهما فى الجنة) ، ولم يقل ذلك فى غيره ممن قطعت يداه من الشهداء، فلذلك خَصَّ ذلك المحرم الذى وقص دون غيره. ويمكن أن يكون ذلك خصوصًا له من أجل أن الله تقبل حجه، ولا يعلم أحدٌ بعد الرسول هل تقبل الله حج غيره ممن يموت محرمًا؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 ولذلك غسل ابن عمر ابنه بالجحفة، وخمر رأسه ووجهه، إذ لم يعلم هل تقبل الله حجهُ؟ ويدل على ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (كل كَلْمٍ يكلمه المسلم فى سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم فى سبيله) ، فأخبر أن ليس كل مكلوم يأتى جرحه اللون لون دم والريح ريح مسك، وإنما ذلك لمن خلصت نيته وجهاده لله، لا لجميع المكلومين. وقال ابن المنذر فى قوله: (كفنوه فى ثوبيه) دليل أن الكفن من رأس المال. وقوله: (فوقصته) تقول للعرب: وقص الشىء وقصًا كسر. ولم أجد فى اللغة (أوقصه) اللفظة التى شك فيها المحدث، والقصع: القتل، والماء يقصع العطش، أى يقتله وقصع القملة: قتلها، والقعص: القتل المعجل. - بَاب الْكَفَنِ فِى الْقَمِيصِ الَّذِى يُكَفُّ أَوْ لا يُكَفُّ / 23 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ لَمَّا تُوُفِّىَ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: أَعْطِنِى قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ، وَصَلِّ عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُ، فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ، فَقَالَ: آذِنِّى أُصَلِّى عَلَيْهِ، فَآذَنَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّىَ عَلَيْهِ، جَذَبَهُ عُمَرُ، فَقَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ نَهَاكَ أَنْ تُصَلِّىَ عَلَى الْمُنَافِقِين؟ َ فَقَالَ: (أَنَا بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ) الحديث. / 24 - وفيه: جَابر، أَتَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَبْدَاللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ بَعْدَ مَا دُفِنَ، فَأَخْرَجَهُ، فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ. قال المؤلف: فى هذين الحديثين دليل على جواز الكفن فى القميص على ما ذهب إليه أبو حنيفة، واحتج أصحابه بقصة عبد الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 ابن أُبَىّ هذه. وقال أصحاب مالك: إنما دفع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إليه القميص، لأنه كانت لعبد الله بن أُبَىّ يدٌ عند النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وذلك أن يوم بدر أتى بأسارى، وكان العباس فى جملتهم، ولم يكن عليه ثوب، فنظر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، له قميصًا، فوجدوا قميص عبد الله بن أبى يقدر عليه، فكساه النبى إياه، قال ابن عيينة: فكافأه الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأن كفنه فى قميصه رجاء أن يخفف عنه من عذابه ما دام ذلك القميص عليه، ورجاء أن يكون معتقدًا لبعض ما كان يظهره من الإسلام فينفعه الله بذلك، ويدل على ذلك أن الله إنما أعلمه بأمره، ونهاه عن الصلاة عليه، وعلى غيره بعدما صلى عليه، وأما حين صلى عليه لم يعلم حقيقة أمره ولا باطنه. قال المهلب: وقوله فى الترجمة: الكفن فى القميص الذى يُكفَ أولا يُكفَ. إنما صوابه (يكفى) بإثبات الياء، ومعناه طويلاً كان ذلك القميص أو قصيرًا، فإنه يجوز الكفن فيه، وكان عبد الله بن أُبَىّ طويلاً، ولذلك كسا العباسَ قميصه، وكان العباس بائن الطول. - بَاب الْكَفَنُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِىُّ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَقَتَادَةُ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: الْحَنُوطُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يُبْدَأُ بِالْكَفَنِ، ثُمَّ بِالدَّيْنِ، ثُمَّ بِالْوَصِيَّةِ، وَقَالَ سُفْيَانُ: أَجْرُ الْقَبْرِ وَالْغَسْلِ هُوَ مِنَ الْكَفَنِ. / 25 - فيه: أن عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أُتِىَ يَوْمًا بِطَعَام، فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ ابْنُ عُمَيْرٍ، وَكَانَ خَيْرًا، مِنِّى، فَلَمْ نجد لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلا بُرْدَةٌ، وَقُتِلَ حَمْزَةُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 أَوْ رَجُلٌ آخَرُ، خَيْرٌ مِنِّى، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلا بُرْدَةٌ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُجِّلَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا فِى حَيَاتِنَا الدُّنْيَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِى. وترجم له باب (إذا لم يوجد إلا ثوب واحد) . ذهب جمهور العلماء إلى أن الكفن من رأس المال، ولا يلتفت إلى شذوذ من شذ، فقال: إنه من الثلث. يُروى ذلك عن جلاس بن عمرو، وروى فيه عن طاوس شذوذ آخر، قال: إن كان المال كثيرًا فهو من رأس المال، وإن كان يسيرًا فهو من الثلث. وهذا الحكم لا دليل عليه. قال المهلب: والحجة الواضحة للجماعة أن مصعب بن عمير، وحمزة لم يوجد لكل واحد منهما ما يكفن فيه، إلا بردة قصيرة، كفنه فيها رسول الله، ولم يلتفت إلى غريم ولا إلى وصية، ولا وارث، وبدَّاه على ذلك كله، فدل أنه من رأس المال، وقاله ابن المنذر. وفيه: جواز التكفين فى ثوب واحد عند عدم غيره كما ترجم له، والأصل فى ذلك ستر العورة، وإنما استحب لهما النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، التكفين فى تلك الثياب التى ليست بسابغة لأنهم فيها قُتلوا، وفيها يبعثون إن شاء الله. واختلفوا فى كفن المرأة ذات الزوج تموت، فقال الشعبى، وأحمد بن حنبل: كفنها من مالها. وقال مالك: كفنها على زوجها إن لم يكن لها مال. وقال ابن الماجشون: هو على الزوج، وإن كان لها مال كالنفقة. قال ابن حبيب، عن مالك مثل قول ابن الماجشون. وقال أصبغ: لا يكفنها فقيرة كانت أو مَلِيَّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 وفى حديث عبد الرحمن من الفقه أن العالم ينبغى له أن يُذَكّر بسير الصالحين، وتقللهم من الدنيا لتقل رغبته فيها، ويبكى من تأخُّر لحاقه بالأخيار ويشفق من ذلك، ألا ترى أنه بكى وترك الطعام. وفيه: أنه ينبغى للمرء أيضًا أن يذكر نعم الله عنده، ويعترف بالتقصير عن أداء شكرها، ويتخوف أن يُقَاصَّ بها فى الآخرة، ويذهب سعيه فيها. وقال عبد الواحد: إن قال قائل: لِمَ بكى عبد الرحمن وقد ضمن له النبى الجنة، وهو أحد العشرة؟ قيل له: كان الصحابة مشفقين خائفين من طول الحساب والوقوف له، مستصغرين لأنفسهم، راغبين فى إعلاء الدرجات، وإن كانت الجنة قد ضمنت لهم، فلذلك كانوا يبكون خوفًا من التأخر عن اللحاق بالدرجات العلى، ومن طول الحساب، والله أعلم. - بَاب إِذَا لَمْ يَجِدْ كَفَنًا إِلا مَا يُوَارِى به رَأْسَهُ أَوْ قَدَمَيْهِ غَطَّى رَأْسَهُ / 26 - فيه: خَبَّاب، هَاجَرْنَا مَعَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللَّهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ، فَهُوَ يَهْدِبُهَا، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ نَجِدْ مَا نُكَفِّنُهُ إِلا بردًا، إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا (صلى الله عليه وسلم) أَنْ نُغَطِّىَ رَأْسَهُ، وَأَنْ نَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الإذْخِرِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 قال ابن المنذر: وفيه دليل أن الثوب إذا ضاق فتغطية رأس الميت أولى أن يبدأ به من رجليه. وقال المهلب: إنما أمره (صلى الله عليه وسلم) بتغطية الأفضل إذا أمكن ذلك بعد ستر العورة، ولو ضاق الثوب عن تغطية رأسه وعورته لغطيت بذلك عورته، وجعل على سائره من الإذخر، لأن ستر العورة واجب فى حال الموت والحياة، والنظر إليها ومباشرتها باليد تحرم إلا من أحل الله له ذلك من الزوجين. وفى هذا الحديث ما كان عليه صدر هذه الأمة من الصدق فى وصف أحوالهم، ألا ترى إلى قوله: (فمنا من لم يأكل من أجره شيئًا) ، يعنى يكسب من الدنيا شيئًا، ولا اقتناه، وقصر نفسه عن شهواتها لينالها متوفرة فى الآخرة، و (منا من أينعت له ثمرته) ، يعنى من كسب المال، ونال من عرض الدنيا. وفى هذا الحديث أن الصبر على مكابدة الفقر وصعوبته من منازل الأبرار ودرجات الأخيار. وقوله: (يهدبها) يقال: هدبت الثمرة: جنيتها، وهدبت كل حلوبة: حلبتها بأطراف الأصابع. - بَاب مَنِ اسْتَعَدَّ الْكَفَنَ فِى زَمَنِ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ / 27 - فيه: سَهْل بن سعد، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا، قَالَتْ: نَسَجْتُهَا بِيَدِى، فَجِئْتُ لأكْسُوَكَهَا، فَأَخَذَهَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ، فَحَسَّنَهَا فُلانٌ، فَقَالَ: اكْسُنِيهَا، مَا أَحْسَنَهَا، قَالَ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، لَبِسَهَا النَّبِىُّ، - عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 السلام -، مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لا يَرُدُّ قَالَ: إِنِّى وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ لألْبَسَهُ، إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِى. قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ. فيه من الفقه: جواز إعداد الشىء قبل الحاجة إليه، وقد حفر قوم من الصالحين قبورهم بأيديهم ليمثلوا حلول الموت فيهم، وأفضل ما ينظر فيه فى وقت المهل وفسحة الأجل الاستعداد للمعاد، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (أفضل المؤمنين إيمانًا أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم له استعدادًا) . قال المهلب: وفيه قبول السلطان للهدية من الفقير. وفيه ترك مكافأته عليها بخلاف قول من قال إن هدية الفقير للمكافأة. وفيه أنه يسأل السلطان الفاضل والرجل العالم الشىء الذى له القيمة للتبرك به. - بَاب اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الْجَنَائِزَ / 28 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا. قال ابن المنذر: روينا عن ابن مسعود، وابن عمر، وأبى أمامة، وعائشة أنهم كرهوا للنساء اتباع الجنائز، وكره ذلك أبو أمامة، ومسروق، والنخعى، والحسن، ومحمد بن سيرين، وهو قول الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وقال الثورى: اتباع النساء الجنازة بدعة. وروى جواز اتباع النساء الجنازة عن ابن عباس، والقاسم، وسالم، وعن الزهرى، وربيعة، وأبى الزناد مثله، ورخص مالك فى ذلك، وقال: قد خرج النساء قديمًا فى الجنائز، وخرجت أسماء تقود فرس الزبير، وهى حامل، وقال: ما أرى بخروجهن بأسًا إلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 فى الأمر المستنكر. قال ابن المنذر: وقد احتج من كره ذلك بحديث أم عطية. قال المؤلف: واحتج به من أجاز ذلك أيضًا. وقال المهلب: هذا الحديث يدل على أن النهى من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، على درجات، فيه نهى تحريم، ونهى تنزيه، ونهى كراهية، وإنما قالت أم عطية: (ولم يعزم علينا) لأنها فهمت من النبى (صلى الله عليه وسلم) أن ذلك النهى إنما أراد به ترك ما كانت الجاهلية تقوله من الهجر وزور الكلام وقبيحه، ونسبة الأفعال إلى الدهر، فهى إذا تركت ذلك وبدلت منه الدعاء والترحم عليه كان خفيفًا، فهذا يدل أن الأوامر تحتاج إلى معرفة تلقى الصحابة لها، وينظر كيف تلقوها. - بَاب إِحْدَادِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا / 29 - فيه: أمّ عَطِيَّة، تُوُفِّيَ ابْن لها، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، دَعَتْ بِصُفْرَةٍ، فَتَمَسَّحَتْ بِهِ، وَقَالَتْ: نُهِينَا أَنْ نُحِدَّ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثٍ إِلا بِزَوْجٍ. / 30 - وفيه: زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِى سَلَمَةَ، قَالَتْ: لَمَّا جَاءَ نَعْىُ أَبِى سُفْيَانَ مِنَ الشَّأْمِ، دَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِصُفْرَةٍ، فَمَسَحَتْ بعَارِضَيْهَا وَذِرَاعَيْهَا، وَقَالَتْ: إِنِّى كُنْتُ عَنْ هَذَا لَغَنِيَّةً، لَوْلا أَنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَقُولُ: (لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ، إِلا عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) . الإحداد: ترك المرأة الزينة كلها من اللباس والطيب والحلى والكحل، وكل ما كان من دواعى الجماع، يقال: امرأة حادّ ومحدّ. وأباح النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أن تحد المرأة على غير زوجها من ذوى محارمها ثلاثة أيام، لما يغلب من لوعة الحزن، ويهجم من أليم الوجد، ولم يوجب ذلك عليها، وهذا مذهب الفقهاء، وحرم عليها من الإحداد ما فوق ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 ومما يدل على أن الإحداد فى الثلاثة أيام على غير الزوج غير واجب إجماع العلماء على أن من مات أبوها، أو ابنها، وكانت ذات زوج، وطالبها زوجها بالجماع فى الثلاثة الأيام التى أبيح لها الإحداد فيها أنه يقضى له عليها بالجماع فيها، ونص التنزيل أن الإحداد على ذوات الأزواج أربعة أشهر وعشرًا واجب. - بَاب زِيَارَةِ الْقُبُورِ / 31 - فيه: أَنَس، قَالَ: مَرَّ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِامْرَأَةٍ تَبْكِى عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: (اتَّقِى اللَّهَ، وَاصْبِرِى) ، قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّى، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِى، وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَتَتْ بَابَ الرسول فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ: (إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأولَى) . كره قوم زيارة القبور، لأنه روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أحاديث فى النهى عنها، وقال الشعبى: لولا أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابنتى. قال إبراهيم النخعى: كانوا يكرهون زيارة القبور. وعن ابن سيرين مثله. ثم وردت أحاديث بنسخ النهى، وإباحة زيارتها، روى ابن أبى شيبة، عن عبد الرحيم ابن سليمان، عن يحيى بن الحارث، عن عمرو بن عامر، عن أنس بن مالك، نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن زيارة القبور، ثم قال: (زوروها ولا تقولوا هُجرًا) . وروى معمر، عن عطاء الخراسانى، قال: حدثنى عبد الله بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 بريدة عن أبيه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إنى كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تذكر الآخرة) . وروى من حديث ابن مسعود عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) . وحديث أنس فى هذا الباب يشهد لصحة أحاديث الإباحة، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إنما عرض على المرأة الباكية الصبر ورغبها فيه، ولم ينكر عليها جلوسها عنده، ولا نهاها عن زيارته، لأنه (صلى الله عليه وسلم) لا يترك أحدًا يستبيح ما لا يجوز بحضرته ولا ينهاه، لأن الله تعالى فرض عليه التبليغ والبيان لأمته، فحديث أنس وشبهه ناسخ لأحاديث النهى فى ذلك، وأظن الشعبى والنخعى لم تبلغهم أحاديث الإباحة، والله أعلم. وكان النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يأتى قبور الشهداء عند رأس الحول، فيقول: (السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) . وكان أبو بكر، وعمر، وعثمان يفعلون ذلك. وزار النبى (صلى الله عليه وسلم) قبر أمه يوم فتح مكة فى ألف مُقَنَّعٍ. ذكره ابن أبى الدنيا، وذكر ابن أبى شيبة، عن على، وابن مسعود، وأنس بن مالك، إجازة زيارة القبور. وكانت فاطمة تزور قبر حمزة كل جمعة. وكان ابن عمر يزور قبر أبيه، فيقف عليه ويدعو له. وكانت عائشة تزور قبر أخيها عبد الرحمن وقبره بمكة. ذكر ذلك كله عبد الرزاق. وقال ابن حبيب: لا بأس بزيارة القبور والجلوس إليها، والسلام عليها عند المرور بها، وقد فعل ذلك النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وفى (المجموعة) : قال على بن زياد: سئل مالك عن زيارة القبور، فقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 قد كان نهى / عليه السلام، ثم أذن فيه، فلو فعل ذلك إنسان، ولم يقل إلا خيرًا، لم أر بذلك بأسًا. وروى عنه أنه كان يضعف زيارتها، وقوله الذى تعضده الآثار وعمل به السلف أولى بالصواب، والأمة مجمعة على زيارة قبر الرسول، وأبى بكر، وعمر، ولا يجوز على الإجماع الخطأ، قاله المهلب. وكان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه. رواه معمر، عن أيوب، عن نافع. قال المهلب: ومعنى النهى عن زيارة القبور، إنما كان فى أول الإسلام عند قربهم بعبادة الأوثان، واتخاذ القبور مساجد، والله أعلم، فلما استحكم الإسلام، وقوى فى قلوب الناس، وأمنت عبادة القبور والصلاة إليها، نسخ النهى عن زيارتها، لأنها تذكر الآخرة وتزهد فى الدنيا. وقد حدثنا أبو المطرف القنازعى، قال: حدثنا أبو محمد بن عثمان، قال أبو عبد الله الشبلى الزاهد: حدثنا محمد بن وضاح، حدثنا موسى بن معاوية، عن يحيى بن يمان، عن طاوس، قال: كانوا يستحبون ألا يتفرقوا عن الميت سبعة أيام، لأنهم يفتنون ويحاسبون فى قبورهم سبعة أيام. وفى حديث أنس ما كان عليه النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، من التواضع والرفق بالجاهل، لأنه لم ينهر المرأة حين قالت له: إليك عنى، وعذرها بمصيبتها. وإنما لم يتخذ بوابين، لأن الله تعالى أعلمه أنه يعصمه من الناس. وفيه أنه من اعتذر إليه بعذر لائح أنه يجب عليه قبوله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 - بَاب قَوْلِ الرَّسُول (صلى الله عليه وسلم) : (يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ إِذَا كَانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم: 6] . وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّتِهِ، فَهُوَ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ: (لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الإسراء: 15] وَهُوَ كَقَوْلِهِ تعالى: (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ) [فاطر: 18] وَمَا يُرَخَّصُ مِنَ الْبُكَاءِ مِنْ غَيْرِ نَوْحٍ. وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، وَذَلِكَ لأنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ) . / 32 - فيه: أُسَامَة، قَالَ: أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِى قُبِضَ، فَأْتِنَا، فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلامَ، وَيَقُولُ: (إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، ولِلَّه مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ، وَلْتَحْتَسِبْ) ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمَعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، وَرِجَالٌ، فَرُفِعَ إِلَى النبى (صلى الله عليه وسلم) الصَّبِىُّ، وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ - قَالَ: حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ: (كَأَنَّهَا شَنٌّ) - فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا؟ فَقَالَ: (هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِى قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) . / 33 - وفيه: أَنَس، قَالَ: شَهِدْنَا بِنْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ، قَالَ: فَرَأَيْتُ عَيْنَاهِ تَدْمَعَانِ، قَالَ: فَقَالَ: (هَلْ مِنْكُمْ رَجُلٌ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ؟) ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا، قَالَ: فَانْزِلْ، قَالَ: فَنَزَلَ فِى قَبْرِهَا. / 34 - وفيه: ابْن أَبِى مُلَيْكَةَ، قَالَ: تُوُفِّيَتِ ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ بِمَكَّةَ، وَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا، وَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِنِّى لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا، أَوْ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى أَحَدِهِمَا، ثُمَّ جَاءَ الآخَرُ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِى، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ، لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ: أَلا تَنْهَى عَنِ الْبُكَاءِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ الْمَيِّتَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ: بَعْضَ ذَلِكَ، ثُمَّ حَدَّثَ، قَالَ: صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، إِذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَةٍ، فَقَالَ: ادْعُهُ لِى، فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ، فَقُلْتُ: ارْتَحِلْ، فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ، دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِى، يَقُولُ: وَا أَخَاهُ، وَا صَاحِبَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا صُهَيْبُ أَتَبْكِى عَلَىَّ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَقَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ، وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ) وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ ذَلِكَ: وَاللَّهُ) هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) [النجم: 43] . قَالَ ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ: وَاللَّهِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ شَيْئًا. قَالَتْ عائشة: إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى يَهُودِيَّةٍ، يَبْكِى عَلَيْهَا، فَقَالَ: (إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِى قَبْرِهَا) . / 35 - وفى كتاب المغازى: قالت عائشة: إنما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إنه ليعذب بخطيئته وذنبه، وإن أهله ليبكون عليه) . اختلف أهل العلم فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (يعذب الميت ببكاء أهله عليه) ، فقالت طائفة: معناه أن يوصى بذلك الميت، فيعذب حينئذ بفعل نفسه لا بفعل غيره، وإليه ذهب البخارى فى قوله: إذا كان النوح من سنته، يعنى أن يوصى بذلك، وهو قول أهل الظاهر، وأنكروا قول عائشة، وأخذوا بحديث عمر، وابن عمر، والمغيرة أن الميت يعذب بما نيح. وقال آخرون: معناه أن يمدح الميت فى ذلك البكاء بما كان يمدح به أهل الجاهلية من الفتكات والغارات والقدرة على الظلم، وغير ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 من الأفعال التى هى عند الله ذنوب، فهم يبكون لفقدها ويمدحونه بها، وهو يعذب من أجلها. وقال آخرون: معناه أن الميت ليعذب ويحزن ببكاء أهله عليه، ويسوؤه إتيان ما يكره ربه، واحتجوا بحديث قَيْلَةَ حين ذكر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنها قالت: بكيتُ ثم قلت: والله يا رسول الله، لقد ولدته حرامًا، فقاتل معك يوم الربذة، ثم ذهب يمترى لى من خيبر فأصابته حمى فمات. فقال (صلى الله عليه وسلم) : (لو لم تكونى مسكينة لجررناك اليوم على وجهك، أتُغلب إحداكن على أن تصاحب صويحبةَ فى الدنيا معروفًا، حتى إذا حال بينه وبينه من هو أولى به، استرجع، فقال: رب أثبنى بما أمضيت، وأعنى على ما أبقيت، والذى نفس محمد بيده، إن إحداكن لتبكى فتستعين إليه صويحبة، فيا عباد الله، لا تعذبوا أمواتكم) . قال الطبرى: والدليل على أن بكاء الحى على الميت تعذيب من الحى له، لا تعذيب من الله ما رواه عوف عن جلاس بن عمرو، عن أبى هريرة، قال: (إن أعمالكم تعرض على أقربائكم من موتاكم، فإن رأوا خيرًا فرحوا به، وإن رأوا شرًا كرهوه، وإنهم ليستخبرون الميت إذا أتاهم: من مات بعدهم، حتى إن الرجل ليسأل عن امرأته هل تزوجت أم لا) . وروى محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبى بشر، عن يوسف بن ماهك، قال: كان ابن عمر فى جنازة رافع بن خديج بين قامتى السرير، فقال: إن الميت ليعذب ببكاء الحى، فقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 ابن عباس: إن الميت لا يعذب ببكاء الحى. وذهبت عائشة إلى أن أحدًا لا يعذب بفعل غيره، وهو أمر مجتمع عليه، لقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى () ولا تكسب كل نفس إلا عليها) [الأنعام: 164] . وكل حديث أتى فيه النهى عن البكاء فمعناه النياحة عند العلماء، لأن الله تعالى أضحك وأبكى، ولقوله (صلى الله عليه وسلم) : (تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب) . وقال الرسول لعمر إذ نهى النساء عن البكاء: (دعهن يا عمر، فإن النفس مصابة، والعين دامعة، والعهد قريب) . ونهى عن النياحة، ولعن النائحة والمُشِقَّة، وهى عن شق الجيوب، ولطم الخدود، ودعوى الجاهلية. وفى حديث أسامة، وأنس فى هذا الباب جواز البكاء الخفيف بدمع العين، قال الشافعى: أرخص فى البكاء بلا ندبة، ولا نياحة، وما ذهبت إليه عائشة أشبه بدلائل الكتاب، وما زيد فى عذاب الكافر باستحقاقه لا بذنب غيره، لأنه إذا بُكى عليه بذكر فتكاته وغاراته فهو مستحق للعذاب بذلك، وأهله يَعُدُّون ذلك من فضائله وهو يعذب من أجلها، فإنما يعذب بفعله لا ببكاء أهله، هذا معنى قول عائشة: إن الله ليزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه، وهو موافق لقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى (وتصويب الشافعى لقول عائشة، وإنكارها على ابن عمر يشبه أن يكون مذهب مالك، لدلالة ما فى موطئه عليه لأنه ذكر حديث عائشة، ولم يذكر خلافه عن أحد. وقوله: (ونفسه تقعقع) القعقعة: حكاية أصوات الرعد والجلود اليابسة وما أشبه ذلك، ورجل قعقاع وقعقعان، وهو الذى يسمع لمفاصل رجليه تقعقعًا، عن صاحب (العين) ، والشن: القربة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 اليابسة، ومن أمثالهم: أَلِمْثِلِى يقعقع بالشأن، يريد أن مثلى لا يفزع بذلك. - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنَ النِّيَاحَةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَقَالَ عُمَرُ: دَعْهُنَّ يَبْكِينَ عَلَى أَبِى سُلَيْمَانَ، مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ، أَوْ لَقْلَقَةٌ، وَالنَّقْعُ: التُّرَابُ عَلَى الرَّأْسِ، وَاللَّقْلَقَةُ: الصَّوْتُ. / 36 - فيه: الْمُغِيرَةِ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَقُولُ: (مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ، يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ) ، ورواه عمر عن الرسول. / 37 - وفيه: جَابِرَ، قَالَ: جِىءَ بِأَبِى يَوْمَ أُحُدٍ، قَدْ مُثِّلَ بِهِ، حَتَّى وُضِعَ بَيْنَ يَدَىْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَدْ سُجِّىَ ثَوْبًا، فَذَهَبْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكْشِفَ عَنْهُ، فَنَهَانِى قَوْمِى، ثُمَّ ذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْهُ، فَنَهَانِى قَوْمِى، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَرُفِعَ، فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ، فَقَالَ: (مَنْ هَذِهِ؟) فَقَالُوا: ابْنَةُ عَمْرٍو، أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو، قَالَ: (فَلِمَ تَبْكِى، أَوْ لا تَبْكِى، فَمَا زَالَتِ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ) . قال المؤلف: النوح محرم، لأنه من دين الجاهلية، ألا ترى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يشترط على النساء فى مبايعتهن على الإسلام ألا يَنُحْن، وهذا الباب يدل على أن النهى عن البكاء على الميت إنما هو إذا كان فيه نوح، ويدل على جواز البكاء بغير نوح قول عمر: دعهن يبكين ما لم يكن نقع أو لقلقة، فأباح لهن البكاء بغير نوح، وحديث المغيرة حجة لذلك، لشرطه (صلى الله عليه وسلم) فيه أنه يعذب بما نيح عليه، فدليله أن البكاء بغير نوح لا عذاب فيه، وحديث جابر نص فى ذلك، لأن زوجة جابر بكت عليه بحضرة الرسول، فلم يزد على أكثر من تسليتها بقوله: (إن الملائكة أظلته بأجنحتها حتى رفع) ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 فسلاها عن حزنها عليه بكرامة الله له، ولم يقل لها أنه يعذب ببكائك عليه. قال عبد الواحد: إن قيل: كيف أباح عمر لنسوة خالد البكاء عليه ما لم يكن نقع، أو لقلقة، ونهى صُهيبًا عن البكاء عليه فى الباب الذى قبل هذا؟ فالجواب: إنما نهى صهيبًا، لرفعه لصوته بقوله: وا أخاه، وا صاحباه، وخشى أن يكون رفعه لصوته من باب ما نهى عنه. - بَاب لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الْجُيُوبَ / 38 - فيه: عَنْ عَبْدِاللَّهِ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ) . وترجم له باب (ليس منا من ضرب الخدود) ، وباب (ما ينهى عنه من الويل ودعوى الجاهلية) . قال المهلب: قوله: (ليس منا) أى ليس متأسيًا بسنتنا، ولا مقتديًا بنا، ولا ممتثلاً لطريقتنا التى نحن عليها، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (ليس منا من غشنا) لأن لطم الخدود وشق الجيوب من أفعال الجاهلية. وقال الحسن فى قوله تعالى: (ولا يعصينك فى معروف) [الممتحنة: 12] ، قال: لا ينحن، ولا يشققن، ولا يخمشن، ولا ينشرن شعرًا، ولا يدعون ويلاً. وقد نسخ الله ذلك بشريعة الإسلام، وأمر بالاقتصاد فى الحزن والفرح، وترك الغلو فى ذلك، وحَضَّ على الصبر عند المصائب واحتساب أجرها على الله، وتفويض الأمور كلها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 إليه، فقال تعالى: (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) [البقرة: 156] ، فحق على كل مسلم مؤمن عَلِمَ سرعة الفناء ووشك الرحيل إلى دار البقاء ألا يحزن على فائت من الدنيا، وأن يستشعر الصبر والرضا، لينال هذه الدرجات الرفيعة من ربه، وهى الصلاة والرحمة والهدى، وفى واحد من هذه المنازل سعادة الأبد، وهبنا الله الصبر والرضا بالقضاء إنه كريم وهاب. - بَاب رِثَاءِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لسعْدَ بْنَ خَوْلَةَ / 39 - فيه: سَعْدِ، عادنِى النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِى. . . . الحديث إلى قوله: (اللَّهُمَّ أَمْضِ لأصْحَابِى هِجْرَتَهُمْ، وَلا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ) . قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: قوله: (يرثى له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن مات بمكة) من قول سعد فى بعض الطرق، وأكثر الطرق أنه من قول الزهرى، وليس هو من قول الرسول، وسعد بن خولة زوج سبيعة الأسلمية، وإنما توجع له إذا مات بمكة فى الأرض التى هاجر منها، وكان يحب له أن يموت فى مهاجره المدينة، ولذلك قال عمر: اللهم ارزقنى شهادة فى سبيلك، ووفاة ببلد رسولك. لأنه حرام على المهاجر الرجوع إلى وطنه الذى هجره لله، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا يبقين مهاجر بمكة بعد قضاء نسكه فوق ثلاث) . وكان عثمان وغيره لا يطوفون طواف الوداع، إلا ورواحلهم قد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 رُحِّلَت، وذكر البخارى أن سعد بن خولة شهد بدرًا، ثم انصرف إلى مكة ومات بها، وأنه من المهاجرين، خلاف قول عيسى بن دينار الذى قال: إنه أسلم ولم يهاجر، وكان من مهاجرة الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدرًا ابن خمس وعشرين سنة، وشهد أحدًا، والخندق، والحديبية، وتوفى بمكة عند زوجته سبيعة الأسلمية فى حجة الوداع وهى حامل، ثم وضعت بعد موته بليال فتمت عدتها، ذكره مسلم عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعن يحيى بن بكير، عن الليث، عن يزيد بن أبى حبيب، قال: توفى سعد بن خولة فى حجة الوداع. وقال الطبرى: مات سعد بن خولة بمكة سنة سبع فى الهدنة التى كانت بين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبين أهل مكة عام الحديبية، فخرج سعد بن خولة مجتازًا لا لحج ولا لجهاد، لأنه لم يفرض حينئذ الحج، وأما سعد بن أبى وقاص، فإنما خرج إلى مكة حاجًا، ولو مات فيها لم يكن فى معنى سعد بن خولة الذى رثى له النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لأن من خرج لفرض وجب عليه وأدركه أجله فلا حرج عليه، ولا إثم، ولا يقال له: بائس، ولا يسمى تارك لدار هجرته. وروى عن الأعرج قال: خَلَّف النبى (صلى الله عليه وسلم) على سعد رجلاً، وقال: (إن مات بمكة فلا تدفنه بها) . وقوله: (اللهم امض لأصحابى هجرتهم) ، أى تردهم إلى المدينة دار الهجرة. وقوله: (ولا تردهم على أعقابهم) يقال: لكل من رجع إلى حال دون ما كان عليه: رجع على عقبه وحَارَ، ومنه قوله: أعوذ بك من الحَوْرِ بعد الكَوْرِ، أى من النقصان بعد الزيادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 - بَاب مَا يُنْهَى مِنَ الْحَلْقِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ / 40 - فيه: أَبُو مُوسَى، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ. قال المهلب: قوله: (برئ منه) أى لم يرض بفعله فهو منه برئ فى وقت ذلك الفعل، لا أنه برئ من الإسلام، وقال صاحب (الأفعال) : حلقت المرأة عند المصيبة: ولولت، والصلق: شدة الصوت، وفى الحديث: (ليس منا من صلق، أو حلق عند المصيبة) . والحالق: التى تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة: التى تشق ثيابها. - بَاب مَنْ جَلَسَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ / 41 - فيه: عَائِشَةَ، لَمَّا قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرٍ، وَابْنِ رَوَاحَةَ، جَلَسَ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ، وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ صَائِرِ الْبَابِ - شَقِّ الْبَابِ - فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ، وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، لَمْ يُطِعْنَهُ، فَقَالَ: (انْهَهُنَّ) ، فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ، قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ غَلَبْنَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَزَعَمَتْ أَنَّهُ قَالَ: (فَاحْثُ فِى أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ) ، فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ، لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَمْ تَتْرُكْ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْعَنَاءِ. / 42 - وفيه: أَنَس، قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) شَهْرًا حِينَ قُتِلَ الْقُرَّاءُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَزِنَ حُزْنًا قَطُّ أَشَدَّ مِنْهُ. قال الطبرى: إن قال قائل: إن أحوال الناس فى الصبر متفاوتة، فمنهم من يظهر حزنه على المصيبة فى وجهه بالتغير له، وفى عينيه، بانحدار الدموع، ولا ينطق بالسيئ من القول، ومنهم من يظهر ذلك فى وجهه، وينطق بالهُجْر المنهى عنه، ومنهم من يجمع ذلك كله، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 ويزيد عليه إظهاره فى مطعمه وملبسه، ومنهم من يكون حاله فى حال المصيبة، وقبلها سواء، فأيهم المستحق اسم الصبر؟ . قيل: قد اختلف السلف قبلنا فى ذلك، فقال بعضهم: المستحق اسم الصبر الذى يكون فى حال المصيبة مثله قبلها، ولا يظهر عليه خرم فى جارحة ولا لسان. قال غيره: كما زعمت الصوفية، أن الولىَّ لا تقم له الولاية إلا إذا تم له الرضا بالقدر ولا يحزن على شىء. والناس فى هذا الحال مختلفون، فمنهم من طبعه الجَلَد وقلة المبالاة بالمصائب، ومنهم من هو بخلاف ذلك، فالذى يكون فى طبعه الجزع، ويملك نفسه، ويستشعر الصبر أعظم أجرًا من الذى الجَلَد طبعه، والله أعلم. قال الطبرى: كما روى عن ابن مسعود أنه لما نعى إليه أخوه عتبة، قال: لقد كان من أعز الناس علىَّ، وما يسرنى أنه بين أظهركم الآن حيا، قالوا: وكيف وهو من أعز الناس عليك؟ قال: إنى لأؤجر فيه أحب إلىَّ من أن يؤجر فىَّ. وقال ثابت: إن صلة بن أشيم مات أخوه فجاءه رجل، وهو يطعم، فقال: يا أبا الصبهاء، إن أخاك مات. قال: هلم فكل قد نُعى إلينا إِذَنْ فَكُلْ. قال: والله ما سبقنى إليك أحدٌ ممن نعاه. قال: بقول الله: (إنك ميت وإنهم ميتون) [الزمر: 30] . وقال الشعبى: كان شريح يدفن جنائزه ليلاً يغتنم ذلك، فيأتيه الرجل حين يصبح فيسأله عن المريض، فيقول: هدأ، لله الشكر، وأرجو أن يكون مستريحًا. أخذه من قصة أم سليم. وكان ابن سيرين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 يكون عند المصيبة كما هو قبلها، يتحدث ويضحك إلا يوم ماتت حفصة، رحمها الله، فإنه جعل يكشر، وأنت تعرف فى وجهه. وسئل ربيعة: ما منتهى الصبر؟ قال: أن يكون يوم تصيبه المصيبة مثله قبل أن تصيبه. وقال آخرون: الصبر المحمود هو ترك العبد عند حدوث المكروه عليه وبثه للناس، ورضاه بقضاء ربه، وتسليمه لأمره، فأما حزن القلب، وحزن النفس، ودمع العين، فإن ذلك لا يُخرج العبد عن معانى الصابرين إذا لم يتجاوزه إلى ما لا يجوز له فعله، لأن نفوس بنى آدم مجبولة على الجزع على المصائب. قالوا: وقد مدح الله الصابرين، ووعدهم جزيل الثواب عليه، قالوا: وثواب الله عباده إنما هو على ما اكتسبوه من أعمال الخير دون ما لا صنع لهم فيه، وتغيير الأجساد عن هيئاتها، ونقلها عن طباعها التى جبلت عليه لا يقدر عليه إلا الذى أنشأها. والمحمود من الصبر هو ما أمر الله به، وليس فيما أمر به تغيير جبلة عما خلقت عليه، والذى أمر به عند نزول البلاء الرضا بقضائه، والتسليم لحكمه، وترك شكوى ربه، وكذلك فعل السلف. قال ربيعة بن كلثوم: دخلنا على الحسن، وهو يشكى ضرسه، فقال: رب مسنى الضر، وأنت أرحم الراحمين، وروى المقبرى عن أبى هريرة، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه قال: (قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدى المؤمن فلم يشتك إلى عُوَّاده أنشطته من عقال، وبدلته لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، ويستأنف العمل) . وقال طلحة بن مصرف: لا تشك ضرك ولا مصيبتك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 قال: وأنبئت بأن يعقوب بن إسحاق، عليهما السلام، دخل عليه جاره، فقال: يا يعقوب، ما لى أراك قد تهشمت وفنيت، ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك، قال: هشمنى ما ابتلانى به من يوسف، فأوحى الله إلى يعقوب: أتشكونى إلى خلقى؟ قال: يا رب، خطيئة فاغفرها، قال: قد غفرتها لك. فكان إذا سئل بعد ذلك، قال: (إنما أشكو بثى وحزنى إلى الله) [يوسف: 86] . وقد توجع الصالحون على فقد الرسول وحزنوا له أشد الحزن، قال طاوس: ما رأيت خلقًا من خلق الله أشد تعظيمًا لمحارم الله من ابن عباس، وما ذكرته قط فشئت أن أبكى إلا بكيت، ورأيت على خديه مثل الشراكين من بكائه على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وقال أبو عثمان: ورأيت عمر بن الخطاب لما جاءه نعى النعمان بن مقرن وضع يده على رأسه وجعل يبكى. ولما مات سعيد بن أبى الحسن بكى عليه الحسن حولا، فقيل له: يا أبا سعيد، تأمر بالصبر وتبكى؟ قال: الحمد لله الذى جعل هذه الرحمة فى قلوب المؤمنين يرحم بها بعضهم بعضًا، تدمع العين، ويحزن القلب، وليس ذلك من الجزع، إنما الجزع ما كان من اللسان واليد. وقال يحيى بن سعيد: قلت لعروة: إن ابن عمر يشدد فى البكاء على الميت، فقال: قد بكى على أبيه. وبكى أبو وائل فى جنازة خيثمة. فهؤلاء معالم الدين لم يروا إظهار الوجد على المصيبة بجوارح الجسم إذا لم يجاوزوا فيه المحذور خروجًا من معنى الصبر، ولا دخولاً فى معنى الجزع. وقد بكى (صلى الله عليه وسلم) على ابنته زينب، وعلى ابنه إبراهيم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 وفاضت عيناه، وقال: (هذه رحمة جعلها الله فى قلوب عباده) ، وبكى (صلى الله عليه وسلم) لقتل جلة الإسلام وفضلاء الصحابة، وتوجع لفقدهم، فإذا كان المتَّبَع به نرجو الخلاص من ربنا، وقد كان حزن بالمصيبة، وأظهر ذلك بجوارحه ودمعه، وأخبر أن ذلك رحمة جعلها الله فى قلوب عباده، فقد صح قول من وافق ذلك، وسقط ما خالفه. - بَاب مَنْ لَمْ يُظْهِرْ حُزْنَهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: الحزن: الْقَوْلُ السَّيِّئُ وَالظَّنُّ السَّيِّئُ، وَقَالَ يَعْقُوبُ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ) [يوسف: 86] . / 43 - فيه: أَنَس، اشْتَكَى ابْنٌ لأبِى طَلْحَةَ، فَمَاتَ، وَأَبُو طَلْحَةَ خَارِجٌ، فَلَمَّا رَأَتِ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ هَيَّأَتْ شَيْئًا، وَنَحَّتْهُ فِى جَانِبِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ، قَالَ: كَيْفَ الْغُلامُ؟ قَالَتْ: هَدَأ نَفْسُهُ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَرَاحَ، فَظَنَّ أَبُو طَلْحَةَ أَنَّهَا صَادِقَةٌ، قَالَ: فَبَاتَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَعْلَمَتْهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَصَلَّى مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِمَا كَانَ منها، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُبَارِكَ لَكُمَا فِى لَيْلَتِكُمَا) . قَالَ سُفْيَانُ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: فَرَأَيْتُ لَهُمَا تِسْعَةَ أَوْلادٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ. قال المؤلف: أما من لم يظهر حزنه عند المصيبة، وترك ما أبيح له من إظهار الحزن الذى لا إسخاط فيه لله تعالى، واختار الصبر كفعل أم سليم، ومن قهر نفسه وغلبها على الصبر، ممن تقدم ذكره فى الباب قبل هذا، فهو آخذ بأدب الرب فى قوله: (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) [النحل: 126] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 وفيه من الفقه: جواز الأخذ بالشدة، وترك الرخصة لمن قدر عليها، وأن ذلك مما ينال به العبد جزيل الثواب ورفيع الأجر. قال المهلب: فى قول أم سليم: (هدأ نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح) التسلية عن المصائب بالتعريض من الكلام الذى يحتمل معنيين، فإنها أخبرت بكلام لم تكذب فيه، ولكن ورت به عن المعنى الذى كان يحزنها، ألا ترى أن نفسه قد هدأ كما قالت بالموت وانقطاع النفس، وأوهمته أنه استراح قلقُه، وإنما استراح من نصب الدنيا وهمها. وفيه: أن المرأة تتزين لزوجها تعرضًا للجماع، لقوله: (ثم هيأت شيئًا) إنما أراد هيأت شيئًا من حالها، فقال (صلى الله عليه وسلم) : (لعله أن يبارك لهما) ، فأجاب الله تعالى قوله. وفيه: أنه من ترك شيئًا لله تعالى وآثر ما ندب إليه وحض عليه من جميل الصبر أنه معوض خيرًا فيما فاته، ألا ترى قوله: فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن. قال الشيخ أبو الحسن بن القابسى: إنما حملت أم سليم حين مات الغلام بعبد الله بن أبى طلحة، والتسعة الذين قرءوا القرآن هم أولاد عبد الله هذا، وروى معمر عن ثابت، عن أنس، أنه لما جامعها قالت له: أرأيت لو أن رجلاً أعارك عارية، ثم بدا له فأخذها، أكنت تجزع؟ قال: لا، قالت: إن الله أعارك ابنك وقد أخذه، فالله أحق أن ترضى بفعله وتُسلم إليه، فغدا إلى الرسول فأخبره بقولها، فقال: (اللهم بارك لهما فى ليلتهما) ، فولدت غلامًا كان اسمه عبد الله، وكان من خير أهل زمانه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 ولقد أخذت أم سليم فى الصبر إلى أبعد غاية، على أن النساء أرق أفئدة، لأننا نقول: ما فى النساء ولا فى الجلة من الرجال مثل أم سليم، لأنها كانت تسبق الكثير من الشجعان إلى الجهاد، وتحتسب فى مداواة الجرحى، وثبتت يوم حنين فى ميدان الحرب والأقدام قد زلت، والصفوف قد انقضت، والمنايا قد فغرت، فالتفت إليها الرسول وفى يدها خنجر، فقالت: يا رسول الله، اُقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل هؤلاء الذين يحاربونك، فلبسوا بشرٍ منهم. 30 - بَاب الصَّبْرِ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأولَى وَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَ الْعِدْلانِ، وَنِعْمَت الْعِلاوَةُ: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة: 156] الآية، وقوله: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة: 45] . / 44 - فيه: أَنَس، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأولَى) . إن قيل: قد علمت أن العبد منهى عن الهُجر وتسخط قضاء الرب فى كل حال، فما وجه خصوص نزول الأولى بالصبر فى حال حدوثها؟ . قيل: وجه خصوص ذلك أن للنفس عند هجوم الحادثة محرك على الجزع، ليس فى غيرها مثله، وتلك حال يضعف عن ضبط النفس فيها كثير من الناس، ثم يصبر كل جازع بعد ذلك إلى السكون ونسيان المصيبة، والأخذ بقهر الصابر نفسه، وغلبته هواها عند صدمته إيثارًا لأمر الله على هوى نفسه، ومنجزًا لموعوده، بل السالى عن مُصابه لا يستحق اسم الصبر على الحقيقة، لأنه آثر السلو على الجزع واختاره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 وإنما الصابر على الحقيقة من صبر نفسه، وحبسها عن شهوتها، وقهرها عن الحزن والجزع والبكاء الذى فيه راحة النفس، وإطفاء لنار الحزن، فإذا قابل سورة الحزن وهجومه بالصبر الجميل، واسترجع عند ذلك، وأشعر نفسه أنه لله ملك، لا خروج له عن قضائه، وإليه راجع بعد الموت ويلقى حزنه بذلك، انقمعت نفسه، وذلك على الحق، فاستحقت جزيل الأجر. قال المهلب: (نعم العدلان، ونعمت العلاوة) فقيل: العدلان: الصلوات والرحمة، والعلاوة: (وأولئك هم المهتدون) [البقرة: 157] ، وقيل: (إنا لله وإنا إليه راجعون) [البقرة: 156] والعلاوة: التى يثاب عليها. 31 - بَاب قَوْلِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ الرسول: (تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ) . / 45 - فيه: أَنَس، دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى أَبِى سَيْفٍ الْقَيْنِ، وَكَانَ ظِئْرًا لإبْرَاهِيمَ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (يَا ابْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا رَحْمَةٌ) ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلا نَقُولُ إِلا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ) . قال المؤلف: قد تقدم فى الأبواب قبل هذا بيان البكاء والحزن المباحين والمحرمين بما فيه كفاية، لكنا كرهنا أن نخلى هذا الباب من شىء من الكلام فى هذا المعنى، هذا البكاء تفسير البكاء المباح والحزن الجائز، وذلك ما كان بدمع العين ورقة النفس، ولم يكن تسخطًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 لأمر الله، إذ الفطر مجبولة على الحزن، وقد قال الحسن البصرى: العين لا يملكها أحد، صبابة المرء بأخيه. وروى ابن أبى شيبة من حديث أبى هريرة: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان فى جنازة مع عمر فرأى امرأة تبكى فصاح عليها عمر، فقال النبى: (دعها يا عمر، فإن العين دامعة، والنفس مصابة، والعهد قريب) . فعذرها (صلى الله عليه وسلم) مع قرب العهد، لأن بعده ربما يكون [. . . . . .] للثكل، وفتور فورة الحزن، فإذا كان الحزن على الميت وفاء له ورقة عليه، ولم يكن سخطًا للقضاء ولا تشكيًا به، فهو مباح كما تقدم قبل هذا، لقوله: (إنها رحمة) . وقال أبو الحسن بن القابسى: قول أنس فى أبى سيف القين: (وكان ظئرًا لإبراهيم) هو الذى يحتج فى أن اللبن للفحل، وقيل: (كان ظئرًا) أى رضيعه وليس بشىء، لأن أبا سيف كان كالربيب، لأن فى نص الحديث ما يدل أن إبراهيم كان عند زوج أبى سيف وهو مريض. فيه: شدة إغراق النساء فى الحزن وجاوزهن الواجب فيه، لنقصهن، ومن رتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، وقد روى معمر عن الزهرى، قال: ثلاثة من أمر الجاهلية لا يدعها الناس أبدًا: الطعن فى الأحساب، والنياحة، والاستسقاء بالأنواء. وروى عن الحسن البصرى فى قوله تعالى: (وجعل بينكم مودة ورحمة) [الروم: 21] أن المودة: الجماع، والرحمة: الولد، ذكره ابن وهب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 32 - بَاب الْبُكَاءِ عِنْدَ الْمَرِيضِ / 46 - فيه: ابْن عُمَر، اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَأَتَاهُ الرسول يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ، وَعَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَوَجَدَهُ فِى غَاشِيَةِ أَهْلِهِ، فَقَالَ: (قَدْ قَضَى) ؟ قَالُوا: لا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَبَكَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بَكَوْا، فَقَالَ: (أَلا تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ، وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) . وَكَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ فِيهِ بِالْعَصَا، وَيَرْمِى بِالْحِجَارَةِ، وَيَحْثِى التُّرَابِ. قال المهلب: فيه جواز البكاء عند المريض، وليس ذلك من الجفاء عليه والتقريع له، وإنما هو إشفاق عليه، ورقة وحرقة لحاله، وقد بين فى هذا الحديث أنه لا يعذب بدمع العين، وحزن القلب، وإنما يعذب بالقول السيئ ودعوى الجاهلية، وقوله: (أو يرحم) يحتمل معنيين: أحدهما: أو يرحم إن لم ينفذ الوعيد فى ذلك، والثانى: يريد أو يرحمه إذا قال خيرًا، واستسلم لقضاء الله تعالى. 33 - بَاب مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ النَّوْحِ وَالْبُكَاءِ وَالزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ / 47 - فيه: عَائِشَة، قَتْلُ جَعْفَرٍ، وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ. . .) الحديث إلى قوله: (فَزَعَمَتْ أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (فَاحْثُ فِى أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ) ، فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ، فَوَاللَّهِ مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ، وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْعَنَاءِ. / 48 - وفيه: أُمِّ عَطِيَّة، قَالَتْ: أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عِنْدَ الْبَيْعَةِ: أَنْ لا نَنُوحَ، فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ غَيْرَ خَمْسِ نِسْوَةٍ. . . .) الحديث. قال المؤلف: قد تقدم معنى هذا الباب، وأن النوح والبكاء على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 سنة الجاهلية حرام قد نسخه الإسلام، ألا ترى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يشترط على النساء فى بيعة الإسلام ألا ينحن تأكيدًا للنهى عنه، وتحذيرًا منه. وفيه: أنه من نُهى عما لا ينبغى له فعله ولم ينته، أنه يجب أن يؤدب على ذلك ويزجر، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) للرجل: (فاحث فى أفواههن التراب) ، حين انصرف إليه المرة الثالثة، وقال: إنهن غلبننا، وهذا يدل أن بكاء نساء جعفر، وزيد الذى نهين عنه لم يكن من النوح المحرم، لأنه لو كان من النوح المحرم لزجرهن حتى ينتهين عنه، لأن الله فرض عليه التبليغ والبيان، ولا يؤمن على النساء عند بكائهن الهائج لهن أن يضعف غيرهن، فيصلن به نوحًا محرمًا، فلذلك نهاهن (صلى الله عليه وسلم) قطعًا للذريعة. وفيه من الفقه: أن للعالم أن ينهى عن المباح إذا اتصل به فعل محذور، أو خيف مواقعته، لأن الراتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، وهذا الحديث يدل أن قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث (الموطأ) ، حين دخل الرسول على عبد الله بن الربيع يعوده، فصاح به فلم يجبه، فاسترجع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وقال: (غلبنا عليك أبا الربيع) ، فصاح النسوة وبكين، فجعل جابر يسكتهن، فقال رسول الله: (دعهن، فإذا وجبت فلا تبكين باكية) ، والوجوب: الموت. فدل أن هذا الحديث على الندب لا على الإيجاب، لأنه لو كان ترك البكاء عليه فرضًا بعد موته لما جاز لنساء جعفر أن يبكين بعد موته، ولوجب أن يقتصرن على السكوت، فلما اعترضت عائشة لرسول الله حين قالت له: والله ما أنت بفاعل. ومثله قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لكن حمزة لا بواكى له) ، فدل على جواز البكاء على الميت بعد موته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 وقول أم عطية: (أخذ علينا النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ألا ننوح) يبين أن النوح بدعوى الجاهلية محرم، لأنه لم يقع فى البيعة شىء غير فرض، وقولها: (فما وفت منا امرأة غير خمس) ، يصدق قول النبى فى النساء: (إنهن ناقصات العقل والدين، وإنهن خلقن من ضلع أعوج) ، ومن كان بهذه الصفة يعسر رجوعه إلى الحق وانقياده إليه. وروى معمر، عن الزهرى، قال: ثلاثة من أمر الجاهلية لا يدعها الناس أبدًا: الطعن فى الأحساب، والنياحة، والاستسقاء بالأنواء. 34 - بَاب الْقِيَامِ لِلْجَنَازَةِ / 49 - فيه: عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ) . قال المهلب: مضى القيام للجنازة، والله أعلم، على التعظيم لأمر الموت، والإجلال لأمر الله، لأن الموت فزع، فيجب استقباله بالقيام له والجدّ، وقد روى هذا المعنى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وروى محمد بن كثير، عن الأوزاعى، عن يحيى، عن أبى سلمة، عن أبى سعيد الخدرى، قال: قال رسول الله: (الموت فزع، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا) ، ذكره ابن أبى الدنيا، ورواه ابن أبى شيبة من حديث أبى هريرة، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وأخذ بظاهر حديث عامر بن ربيعة جماعة من الصحابة والتابعين والفقهاء، وسأذكرهم فى الباب بعد هذا، إن شاء الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 ورأت طائفة ألا يقوم للجنازة إذا مرت به، وقالوا: لمن تبعها أن يجلس، وإن لم توضع، واحتجوا بحديث علىّ بن أبى طالب: (أن رسول الله كان يقوم فى الجنازة، ثم قعد بعد ذلك) ، فدل هذا أن القيام منسوخ بالجلوس، وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، ومالك بن أنس، وأبو حنيفة، وأصحابه، والشافعى، وأما حديث علىّ فرواه مالك، عن يحيى بن سعيد، عن واقد بن عمرو، عن نافع بن جبير، عن مسعود بن الحكم، عن علىّ ابن أبى طالب، قال: (قام رسول الله فى الجنائز ثم قعد) . رواه شعبة عن محمد بن المنكدر، عن مسعود بن الحكم، عن علىّ بن أبى طالب، قال: (رأينا رسول الله قام فقمنا، ورأيناه قعد فقعدنا) ، فثبت نسخ الأخبار الأول بالقيام للجنازة. قال الطحاوى: وحدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، حدثنا أنس بن عياض، عن أنيس ابن أبى يحيى، قال: سمعت أبى يقول: كان ابن عُمر وأصحاب النبى يجلسون قبل أن توضع الجنازة. فهذا ابن عمر يفعل هذا، وقد روى عن عامر بن ربيعة، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، خلاف ذلك، فدل ذلك على ثبوت نسخ ما حَدَّث بِهِ عامر بن ربيعة. وحدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، حدثنا عمرو بن الحارث، أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه: أن القاسم كان يجلس قبل أن توضع الجنازة، ولا يقوم لها، ويخبر عن عائشة أنها قالت: كان أهل الجاهلية يقومون لها ويقولون: فى أهلك ما أنت فى أهلك. فهذه عائشة تنكر القيام أصلاً، وتخبر أن ذلك كان من فعل الجاهلية، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 وستأتى زيادة فى هذا المعنى بعد هذا، إن شاء الله تعالى، فى باب من قام لجنازة يهودى. 35 - بَاب مَتَى يَقْعُدُ إِذَا قَامَ لِلْجَنَازَةِ / 50 - فيه: عَامِرِ بْنِ رَبِيعَة، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ جِنَازَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَاشِيًا مَعَهَا، فَلْيَقُمْ حَتَّى يُخَلِّفَهَا، أَوْ تُخَلِّفَهُ، أَوْ تُوضَعَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُخَلِّفَهُ) . / 51 - وفيه: أبو سَعِيد، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلا يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ) . قال المؤلف: أخذ بظاهر هذا الحديث طائفة وكانوا يقومون للجنازة إذا مرت بهم، روى ذلك عن أبى مسعود البدرى، وأبى سعيد الخدرى، وقيس بن سعد، وسهل بن حنيف، وسالم بن عبد الله، وقال أحمد وإسحاق: إن قام فلم أعبه، وإن قعد فلا بأس، ذكره ابن المنذر، وقد تقدم فى الباب قبل هذا أن هذا منسوخ، فإن أئمة الفتوى على ترك القيام. قوله: (فإن لم يكن ماشيًا معها) دليل على أن الجنازة من فروض الكفاية. قال ابن المنذر: وممن رأى ألا يجلس من تبع الجنازة حتى توضع عن مناكب الرجال: أبو هريرة، وابن عمر، وابن الزبير، والحسن بن على، والنخعى، والشعبى، والأوزاعى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 36 - بَاب مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلا يَقْعُدُ حَتَّى تُوضَعَ عَنْ مَنَاكِبِ الرِّجَالِ فَإِنْ قَعَدَ أُمِرَ بِالْقِيَامِ / 52 - فيه: أَبُو سَعِيد، كُنَّا فِى جَنَازَةٍ، فَأَخَذَ أَبُو هُرَيْرَةَ بِيَدِ مَرْوَانَ، فَجَلَسَا قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ، فَجَاءَ أَبُو سَعِيد، فَأَخَذَ بِيَدِ مَرْوَانَ، فَقَالَ: قُمْ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ هَذَا أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: صَدَقَ. قال ابن المنذر: وممن رأى ألا يجلس ممن تبع الجنازة حتى توضع: الحسن بن علىّ، وأبو هريرة، وابن عمر، وابن الزبير، والنخعى، والشعبى، وبه قال الأوزاعى. قال المؤلف: وأما أمر أبى سعيد لمروان بالقيام، فلا أعلم من قال به، وممن روى عنه القيام للجنازة إذا مرت بهم ممن ذكرناهم فى الباب قبل هذا لم يحفظ عن أحد منهم مثل قول أبى سعيد. قال المهلب: وقعود أبى هريرة ومروان دليل على أنهما علما أن القيام ليس بواجب، وأنه أمر متروك ليس عليه العمل، لأنه لا يجوز أن يكون العمل على القيام عندهم ويجلسان، ولو كان أمرًا معمولاً به ما خفى على مروان مثله، لتكرُّر مثل هذا الأمر وكثرة شهودهم للجنائز، والعمل فى هذا على ما روى ابن وهب، عن ابن عمر، وأصحاب محمد، أنهم كانوا يجلسون قبل أن توضع الجنائز. 37 - بَاب مَنْ قَامَ لِجَنَازَةِ يَهُودِىٍّ / 53 - فيه: جَابِر، قَالَ: مَرَّ بِنَا جَنَازَةٌ، فَقَامَ لَهَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَقُمْنَا بِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِىٍّ، قَالَ: (إِذَا رَأَيْتُمُ الْجِنَازَةَ فَقُومُوا) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 / 54 - وفيه: قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، إِنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ، فَقَامَ، فَقِيلَ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِىٍّ، فَقَالَ: (أَلَيْسَتْ نَفْسًا) . وكَانَ أَبُو مَسْعُودٍ، وَقَيْسٌ يَقُومَان. قال الطحاوى: قد ثبت نسخ هذه الآثار، ومما يبين ذلك ما حدثنا محمد بن بكر، حدثنا أحمد بن داود، ثنا مسدد، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا الليث بن أبى سليم، عن مجاهد، عن ابن سخبرة، قال: كنا قعودًا مع على بن أبى طالب ننتظر جنازة، فمرت أخرى فقمنا، فقال علىّ: ما هذا القيام؟ فقال أبو موسى: قال رسول الله: (إذا رأيتم جنازة مسلم، أو يهودى، أو نصرانى فقوموا، فإنكم لستم تقومون لها، إنما تقومون لمن معها من الملائكة) . فقال علىّ: إنما صنع ذلك رسول الله مرة واحدة، وكان يتشبه بأهل الكتاب فى الشىء، فإذا نُهى عنه تركه. فأخر على فى هذا الحديث أن رسول الله إنما كان يقوم على التشبيه بأهل الكتاب، وعلى الاقتداء بمن كان قبله من الأنبياء، حتى أُمر بالقعود. وحدثنا فهد، حدثنا محمد بن سعيد الأصبهانى، حدثنا شريك، عن عثمان بن أبى زرعة، عن زيد بن وهب، قال: تذاكرنا القيام إلى الجنازة عند علىٍّ، فقال أبو سعيد: قد كنا نقوم، فقال على: ذلك وأنتم يهود. فمعنى هذا أنهم كانوا يقومون على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 شريعتهم، ثم نسخ ذلك بشريعة الإسلام. وقد روى أن قيامه (صلى الله عليه وسلم) كان لمعنى آخر. أخبرنا إبراهيم بن مرزوق، أخبرنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: سمعت محمد بن عمرو يحدث عن الحسن، وابن عباس، أو عن أحدهما، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، مرت به جنازة يهودى، فقام، فقال: (آذانى نتن ريحها) . وذكر الطبرى عن الحسن بن على، أن رسول الله إنما قام لجنازة يهودى حين طلعت عليه، كراهية أن تعلو على رأسه. 38 - بَاب حَمْلِ الرِّجَالِ الْجِنَازَةَ دُونَ النِّسَاءِ / 55 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا وُضِعَتِ الْجِنَازَةُ، وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً، قَالَتْ: قَدِّمُونِى، قَدِّمُونىِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ، قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا، يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَىْءٍ إِلا الإنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهُ لصَعِقَ) . وترجم له باب: (قول الميت وهو على الجنازة قدمونى) . قال المؤلف: الترجمة تخرج من قوله (صلى الله عليه وسلم) : (واحتملها الرجال) دليل أن النساء لا يحملنها، لأنهن لا يلزمهن ما يلزم الرجال من المؤن، والقيام بالحقوق، ونصرة الملهوف، وإعانة الضعيف، وقد سقط عنهن كثير من الأحكام، عذرهن الله بضعفهن، فقال: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان) [النساء: 98] الآية، وقول بعض الناس فى قوله: (يسمعها كل شىء إلا الإنسان) إن قيل: ينبغى أن يسمعها الحيوان الصامت بدليل هذا الحديث، لأنه إنما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 استثنى الإنسان فقط. قيل: هذا مما لفظه العموم، والمراد به الخصوص، وإنما معناه: يسمعها كل شىء مميز، وهم الملائكة والجن، وإنما يتكلم روح الجنازة، لأن الجنازة لا تتكلم بعد خروج الروح منها إلا أن يرده الله فيها، فإنما يسمع الروح من هو مثله ويجانسه، وهم الملائكة والجن، والله أعلم، وقد بين (صلى الله عليه وسلم) المعنى الذى من أجله منع الإنسان أن يسمعها، وهو أنه كان يصعق لو سمعها، فأراد تعالى الإبقاء على عباده، والرفق بهم فى الدنيا، لتعمر ويقع فيها البلوى والاختبار. 39 - بَاب السُّرْعَةِ بِالْجِنَازَةِ وَقَالَ أَنَسٌ: أَنْتُمْ مُشَيِّعُونَ، فَامْشِوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَخَلْفَهَا، وَعَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ شِمَالِهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: قَرِيبًا مِنْهَا. / 56 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ فَإِنْ تَكُن صَالِحَةً، فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إليه، وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ) . قال الطحاوى: وقد روى شعبة، عن عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبى هريرة، أنهم كانوا معه فى جنازة فمشوا بها مشيًا لينًا، فانتهرهم أبو هريرة، وقال: كنا نرمل بها مع رسول الله. فأخذ قوم بهذا، وقالوا: السرعة بالجنازة أفضل. وخالفهم آخرون، وقالوا: المشى بها مشيًا لينًا أفضل. واحتجوا بما رواه شعبة، عن ليث ابن أبى سليم، قال: سمعت أبا بردة يحدث عن أبيه: أن النبى، - عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 السلام -، مر عليه بجنازة وهم يسرعون بها، فقال: (لتكن عليكم السكينة) . وذكر ابن المنذر أنه مذهب ابن عباس. قال الطحاوى: فلم يكن عندنا فى هذا الحديث حجة على أهل المقالة الأولى، لأنه قد يجوز أن يكون فى مشيهم ذلك عنف مجاوز ما أمروا به فى حديث أبى هريرة من السرعة، فنظرنا فى ذلك هل نجد دليلاً على شىء من ذلك، فروى زائدة، عن ليث، عن أبى بردة، عن أبيه، قال: مر على النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بجنازة يسرعون بها فى المشى، وهى تمخض مخض الزق، فقال: (عليكم بالقصد فى جنائزكم) . فيحتمل أن يكون أمرهم بالقصد، لأن تلك السرعة يخاف منها أن يكون من الميت فيها شىء، فنهاهم عن ذلك، وكان ما أمرهم به من السرعة فى الآثار الأول هى أفضل من هذه السرعة، فنظرنا فى ذلك أيضًا هل روى فيها شىء يدلنا على هذا المعنى، فحدثنا أبو أمية، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: حدثنا الحسن بن صالح، عن يحيى الجابر، عن أبى ماجد، عن ابن مسعود، قال: سألنا نبينا، (صلى الله عليه وسلم) ، عن السير بالجنازة، فقال: (ما دون الخبب، فإن يك مؤمنًا فما عجل فخير، وإن يك كافرًا فبعدًا لأهل النار) . فأخبر رسول الله فى هذا الحديث أن السير بالجنازة هو ما دون الخبب، مثل ما أمر به من السرعة فى حديث أبى هريرة، هذا قول أبى حنيفة، وأبى يوسف، ومحمد. وهو قول جمهور العلماء. وروى عن النخعى أنه قال: انبسطوا بها، ولا تدبوا دبيب اليهود والنصارى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 وقال ابن حبيب: لا تمش بالجنازة الهوينا، ولكن مشى الرجل الشاب فى حاجته، وكذلك قال الشافعى: يسرع بها إسراع سجية مشى الناس. قال غيره: وقد تأول قوم فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أسرعوا بالجنازة) إنما أراد تعجيل الدفن بعد استيقان الموت، واحتجوا بحديث الحصين بن وَحْوَح: (أن طلحة بن البراء مرض، فأتاه الرسول يعوده، فقال: (إنى لا أرى طلحة إلا وقد حدث به الموت، فآذنونى به وعجلوا، فإنه لا ينبغى لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهرانى أهله) . وكل ما احتمل فليس يبعد فى التأويل. وأما قول أنس: (أنتم مشيعون، فامشوا بين يديها وخلفها) اختلف فى ذلك على ثلاثة مذاهب، فقالت طائفة: يمشى أمامها وخلفها وحيث شاء. هذا قول أنس بن مالك، ومعاوية بن قرة، وسعيد بن جبير، وبه قال الثورى، قال: الفضل فى المشى أمامها وخلفها سواء. وقالت طائفة: المشى أمام الجنازة أفضل. روى ذلك عن ابن عمر، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وعن أبى بكر، وعمر، وعثمان أنهم كانوا يمشون أمام الجنازة، وهو قول ابن عمر، وابن عباس، وطلحة، والزبير، وأبى قتادة، وأبى هريرة، وإليه ذهب القاسم، وسالم، والفقهاء السبعة المدنيون، والزهرى، ومالك، والشافعى، وأحمد، وقال الزهرى: المشى خلف الجنازة من خطأ السنة. واحتج أحمد بتقديم عمر بن الخطاب الناس أمام جنازة زينب بنت جحش، وبحديث ابن عمر، وبعمل الخلفاء الراشدين المهديين. وقال ابن شهاب: ذلك عمل الخلفاء بعد النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إلى هلم جرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعى: المشى خلفها أفضل. وهو قول على بن أبى طالب، واحتجوا بما رواه أبو الأحوص، عن أبى فروة الهمدانى، عن زائدة بن خراش، عن ابن أبزى، عن أبيه، قال: كنت أمشى فى جنازة فيها أبو بكر، وعمر، وعلى، رضى الله عنهم، فكان أبو بكر، وعمر يمشيان أمامها، وكان على يمشى خلفها، فقال على: إن فضل الذى يمشى خلف الجنازة على الذى يمشى أمامها كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، وإنهما ليعلمان من ذلك مثل الذى أعلم، ولكنهما سهلان يسهلان على الناس. قالوا: ومثل هذا لا يقال بالرأى، وإنما يقال بما وقفهم عليه النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قالوا: وقد روى عن ابن عمر مثل هذا، روى أبو اليمان، حدثنا أبو بكر بن أبى مريم، عن راشد بن سعد، عن نافع، قال: خرج عبد الله بن عمر إلى جنازة فرأى معها نساء، فوقف، ثم قال: ردهن فإنهن فتنة الحى والميت، ثم مضى فمشى خلفها، قلت: يا أبا عبد الرحمن، كيف المشى فى الجنازة، أمامها أم خلفها؟ فقال: أما ترانى أمشى خلفها. فهذا ابن عمر يفعل هذا، وهو الذى يروى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه كان يمشى أمامها، فدل ذلك أن رسول الله كان يفعله على جهة التخفيف على الناس، لا لأن ذلك أفضل من غيره. وقد روى مغيرة، عن إبراهيم، قال: كانوا يكرهون السير أمام الجنازة، وتأولوا فى تقديم عمر بن الخطاب للناس فى جنازة زينب زوج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمام الجنازة أن ذلك كان من أجل النساء اللاتى كُنَّ خلفها، فكره عمر للرجال مخالطتهن، لا لأن المشى أمامها أفضل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 وقد روى يونس، عن ابن وهب أنه سمع من يقول ذلك، قال إبراهيم: كان الأسود إذا كان فى الجنازة نساء مشى أمامها، وإذا لم يكن معها نساء مشى خلفها. قال ابن المنذر: ومن تبع الجنازة حيثما مشى منها فليكثر ذكر الموت، والفكر فى صاحبهم، وأنهم صائرون إلى ما صار إليه، وليستعد للموت وما بعده، سهل الله لنا الاستعداد للقائه برحمته. وسمع أبو قلابة صوت قاصّ، فقال: كانوا يعظمون الموت بالسكينة. وآلَى ابنُ مسعود ألا يكلم رجلا رآه يضحك فى جنازة. وقال مطرف بن عبد الله: كان الرجل يلقى الخاص من إخوانه فى الجنازة له عهد عنده، فما يزيده على التسليم، ثم يُعرض عنه كأن له عليه موجدة، اشتغالاً بما هو فيه، فإذا خرج من الجنازة سَائَلَهُ عن حاله. وفى سماع أشهب: قال أسيد بن الحضير: لو كنتُ فى حالتى كلها مثلى فى ثلاث: إذا ذكرت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وإذا قرأت سورة البقرة، وما شهدت جنازة قط فحدثتُ نفسى إلا بما يقولُ ويقالُ له إذا انصرف. 40 - بَاب مَنْ صَفَّ صَفَّيْنِ أَوْ ثَلاثَةً عَلَى الْجِنَازَةِ خَلْفَ الإمَامِ / 57 - فيه: جَابِر، أَنَّ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، صَلَّى عَلَى النَّجَاشِىِّ، فَكُنْتُ فِى الصَّفِّ الثَّانِى أَوِ الثَّالِثِ. الصفوف على الجنازة من سُنَّة الصلاة عليها، وقد روى مالك بن هبيرة، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (ما من مسلم يصلى عليه ثلاث صفوف من المسلمين إلا أوجب) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 قال الطبرى: فينبغى لأهل الميت إذا لم يُخش عليه التغير أن ينتظروا اجتماع قومٍ تقوم منهم ثلاث صفوف لخبر مالك بن هبيرة. وقد روى الطبرى من حديث أبى هريرة، وعائشة، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (ما من مسلم صلى عليه مائة من المسلمين إلا شفعوا فيه) . وحديث ابن عباس، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (ما من رجل يقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئًا إلا شفعهم الله) . فإن قال قائل: ما وجه اختلاف العدد فى هذه الأحاديث الواردة فيمن يصلى على الميت فيغفر له بصلاتهم؟ . قيل: وجه ذلك، والله أعلم، أنها وردت جوابًا لسؤال سائلين مختلفين، لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يكن ينطق عن الهوى، فكأن سائلا سأله من صلى عليه مائة رجل هل يشفعون فيه؟ قال: نعم، وسأله آخر: من صلى عليه أربعون رجلاً؟ فقال مثل ذلك. ولعله لو سُئل عن أقل من أربعين لقال مثل ذلك. وقد بيَّنا فى حديث مالك بن هبيرة ما يدل على أقل من أربعين، لأنه قد يمكن أن تكون الثلاث صفوف أقل من أربعين، كما يمكن أن تكون أكثر، وإنما عَيَّن المائة والأربعين فى الأحاديث المتقدمة وهو من حيز الكثرة، لأن الشفاعة كلما كثر المشفعون فيها كان أَوْكَدَ لها، ولا تخلو جماعة من المسلمين لهم هذا المقدار أن يكون فيها فاضل لا ترد شفاعته، أو يكون اجتماع هذا العدد بالضراعة إلى الله شفيعًا عنده. 41 - بَاب الصُّفُوفِ عَلَى الْجِنَازَةِ / 58 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: نَعَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِلَى أَصْحَابِهِ النَّجَاشِىَّ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَفُّوا خَلْفَهُ، فَكَبَّرَ أَرْبَعًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 / 59 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَتَى عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ، فَصَفَّهُمْ، فَكَبّروا أَرْبَعًا. / 60 - وفيه: جَابِرَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَدْ تُوُفِّىَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنَ الْحَبَشِ، فَهَلُمَّ فَصَلُّوا عَلَيْهِ) ، [قَالَ:] فَصَفَفْنَا، فَصَلَّى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَيْهِ وَنَحْنُ مَعَهُ صُفُوفٌ. قال المؤلف: يحتمل أن يترجم البخارى، رحمه الله، هذا الباب والذى قبله خلافًا لعطاء، فإن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أفحق على الناس أن يسوُّوا صفوفهم على الجنائز كما يسوونها فى الصلاة؟ قال: لا، لأنهم قوم يكبرون ويستغفرون. وروى حميد، عن أنس، قال: لما جاءت وفاة النجاشى للنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وصلى عليه، قال بعض أصحابه: صَلى عَلَى علج، فنزلت: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم) [آل عمران: 199] الآية. 42 - بَاب صُفُوفِ الصِّبْيَانِ مَعَ الرِّجَالِ على الْجَنَازَة / 61 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَرَّ بِقَبْرٍ قَدْ دُفِنَ لَيْلا، فَقَالَ: (مَتَى دُفِنَ هَذَا؟) قَالُوا: الْبَارِحَةَ، قَالَ: (أَفَلا آذَنْتُمُونِى) ؟ قَالُوا: دَفَنَّاهُ فِى ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ، فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَنَا فِيهِمْ فَصَلَّى عَلَيْهِ. قال المؤلف: فيه صلاة الصبيان مع الرجال على الجنائز، لأن ابن عباس كان حينئذ صغيرًا. وفيه من الفقه: أنه ينبغى تدريب الصبيان على جميع شرائع الإسلام، وحضورهم مع الجماعات ليستأنسوا إليها، وتكون لهم عادة إذا لزمتهم، وإذا ندبوا إلى صلاة الجنازة، ليدربوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 عليها، وهى من فروض الكفاية على البالغين، فأحرى أن يندبوا إلى صلاة الفريضة، التى هى فرض عين على كل بالغ، وقد روى عن الرسول أنه قال: (مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشرة، وقد تقدم ذلك فى كتاب الصلاة. 43 - بَاب سُنَّةِ الصَّلاةِ عَلَى الْجَنَازَةِ وَقَالَ الرسول: (مَنْ صَلَّى عَلَى الْجَنَازَةِ) ، وَقَالَ: (صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ) ، وَقَالَ: (صَلُّوا عَلَى النَّجَاشِىِّ) ، سَمَّاهَا صَلاةً لَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلا سُجُودٌ، وَلا يُتَكَلَّمُ فِيهَا، وَفِيهَا تَكْبِيرٌ وَتَسْلِيمٌ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يُصَلِّى إِلا طَاهِرًا، وَلا يُصَلِّى عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلا غُرُوبِهَا، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ. قَالَ الْحَسَنُ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ، وَأَحَقُّهُمْ بِالصَّلاةِ عَلَى جَنَائِزِهِمْ مَنْ رَضُوهُ لِفَرَائِضِهِمْ، وَإِذَا أَحْدَثَ يَوْمَ الْعِيدِ أَوْ عِنْدَ الْجَنَازَةِ، يَطْلُبُ الْمَاءَ وَلا يَتَيَمَّمُ، وَإِذَا انْتَهَى إِلَى الْجَنَازَةِ، وَهُمْ يُصَلُّونَ يَدْخُلُ مَعَهمْ بِتَكْبِيرَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: يُكَبِّرُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالسَّفَرِ وَالْحَضَرِ أَرْبَعًا. وَقَالَ أَنَسٌ: التَّكْبِيرَةُ الْوَاحِدَةُ اسْتِفْتَاحُ الصَّلاةِ. وَقَالَ تَعالَى: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا) [التوبة: 84] ، وَفِيهِ صُفُوفٌ وَإِمَامٌ. / 62 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، صَلى عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ، فَأَمَّنَا، فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا عَمْرٍو، مَنْ حَدَّثَكَ؟ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 قال المؤلف: غرض البخارى الرد على الشعبى، فإنه أجاز الصلاة على الجنازة بغير طهارة، قال: لأنها دعاء ليس فيها ركوع ولا سجود، والفقهاء مجمعون من السلف والخلف على خلاف قوله، فلا يلتفت إلى شذوذه. وأجمعوا أنها لا تصلى إلا إلى القبلة، ولو كانت دعاء كما زعم الشعبى لجازت إلى غير القبلة، واحتجاج البخارى فى هذا الباب يكفى بعضه، وهو أن النبى سماها صلاة، وقول السلف الذين ذكرهم فى الباب أن حكمها عندهم حكم الصلاة فى أن لا تصلى إلا بطهارة، وفيها تكبير وسلام، ولا تصلى عند طلوع الشمس ولا غروبها، وأن الرسول أَمَّهم فيها وصلوا خلفه، كما فعل فى الصلاة، إلا أنهم اختلفوا فى صلاتها إذا خشى فوتها بالتيمم، فقال مالك، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور: ولا تصلى إلا بطهارة، ولا يجوز التيمم لها، وأجاز التيمم لها إذا خاف فوتها: عطاء، وسالم، والنخعى، والزهرى، وربيعة، والليث، والثورى، وأبو حنيفة، والأوزاعى، وابن وهب صاحب مالك. وقال ابن حبيب: الأمر فى ذلك واسع. واحتج هؤلاء بأن صلاة الجنازة لها مزية على سائر النوافل، لأنه قد اختلف فيها، فقيل: إنها فريضة على الكفاية، وقيل: إنها سُنَّة مؤكدة، فإذا خيف عليها الفوت جاز استدراك فضيلتها بالتيمم. واحتج أهل المقالة الأولى، فقالوا: أجمع أهل العلم على أن من خاف فوت الجمعة، أنه لا يجوز له التيمم مثل أن يدرك الإمام فى الركعة الثانية، فإن تيمم أدركها مع الإمام، وإن توضأ فاتته، فكلهم قال: لا يتيمم وإن فاتته الجمعة فالذى يخاف فوت الجنازة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 أولى بذلك، لأنها صلاة تفتقد إلى القبلة مع القدرة، وفيها تكبير وسلام، والتيمم طهارة ضرورية، وصلاة الجنازة لا ضرورة إليها، لأنه لا يخلو إما أن يكون وحده فيتوضأ ويصلى، أو يكون مع غيره ممن هو على وضوء، وإن كان ذلك الغير إذا صلى عليها كفى، وسقطت عن غيره، قال ابن القصار: وهذا لازم لها. واختلفوا فى رفع اليدين فى تكبير الجنازة، فقال مالك فى المدونة: لا يرفع يديه إلا فى التكبيرة الأولى، وروى مطرف وابن الماجشون مثله، وإليه ذهب الكوفيون والثورى. وروى ابن وهب عن مالك أنه يعجبه الرفع فى كل تكبيرة. وروى مثله عن ابن عمر، وسالم، وعطاء، والنخعى، ومكحول، والزهرى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد وإسحاق. وذكر ابن حبيب عن ابن القاسم أنه لم يكن يرى الرفع فى الأولى ولا فى غيرها، قال ابن أبى زيد: والمعروف عن ابن القاسم الرفع فى الأولى، خلاف ما ذكره عنه ابن حبيب. واختلفوا فى التسليم على الجنازة، فقال كثير من أهل العلم: يسلم واحدة، روى ذلك عن على، وابن عباس، وابن عمر، وجابر، وأبى هريرة، وأبى أمامة بن سهل، وأنس، وجماعة من التابعين، وهو قول مالك، وأحمد، وإسحاق. وقال الكوفيون: يسلم تسليمتين: واختلف قول الشافعى على القولين. وقال مالك فى (المجموعة) : ليس عليهم رَدّ السلام على الإمام، وروى عنه ابن غانم قال: يرد على الإمام من سمع كلامه. وكره أكثر العلماء الصلاة على الجنازة فى غير مواقيت الصلاة، روى ذلك عن ابن عمر أنه كان يصلى عليها بعد العصر حتى تصفر الشمس، وبعد الصبح حتى يسفر، ونحوه عن الأوزاعى، والثورى، والكوفيين، وأحمد، وإسحاق، وكرهوا الصلاة عليها عند الطلوع، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 وعند الغروب، وعند الزوال، زادو وقتًا ثالثًا، وخالفهم الشافعى، فقال: لا بأس بالصلاة عليها أى ساعة شاء من ليل أو نهار، وقال: إنما ورد النهى فى التطوع، لا فى الواجب والمسنون من الصلوات. واحتج الكوفيون بحديث عقبة بن عامر، قال: ثلاث ساعات نهانا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن نصلى فيها، ونقبر فيها موتانا: عند طلوع الشمس حتى تبيض، وعند انتصاف النهار حتى تزول، وعند اصفرار الشمس حتى تغيب. وقول الحسن: (أحق الناس بالصلاة على جنائزهم من رضوه لفرائضهم) . فإن أهل العلم اختلفوا من أحق بالصلاة عليها الولى، أو الوالى؟ فقال أكثر أهل العلم: الوالى أحق من الولى، روى عن علقمة، والأسود، والحسن، وجماعة، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق. إلا أن مالكًا قال فى الوالى والقاضى: إن كانت الصلاة إليهم فهم أحق من الولى. وقال مطرف، وابن عبد الحكم، وأصبغ: ليس ذلك إلى من إليه الصلاة من قاضٍ، أو صاحب شرطة، أو خليفة الوالى الأكبر، وإنما ذلك إلى الوالى الأكبر الذى تؤدى إليه الطاعة. وقال أبو يوسف، والشافعى: الولى أحق من الوالى. واحتج أصحاب الشافعى بقوله: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) [الأنفال: 75] فهم أَوْلى من غيرهم فى كل شىء إلا أن تقوم دلالة. وحجة القول الأول ما رواه الثورى، عن أبى حازم قال: شهدت الحسين بن على قدم سعيد بن العاص يوم مات الحسن بن على، رضى الله عنهما، وقال له: تقدم، فلولا السُّنَّة ما قدمتك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 وسعيد يومئذ أمير المدينة. وقال ابن المنذر: ليس فى هذا الباب أعلى من هذا، لأن جنازة الحسن شهدها عوام الناس من أصحاب الرسول، والمهاجرون، والأنصار، فلم يُنكرْ ذلك منهم أحد، فدل أنه كان عندهم الصواب. 44 - بَاب فَضْلِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: إِذَا صَلَّيْتَ فَقَدْ قَضَيْتَ الَّذِى عَلَيْكَ. وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ هِلالٍ: مَا عَلِمْنَا عَلَى الْجَنَازَةِ إِذْنًا، وَلَكِنْ مَنْ صَلَّى ثُمَّ رَجَعَ فَلَهُ قِيرَاطٌ. / 63 - فيه: ابْنُ عُمَرَ أَنّه حدث أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَقَالَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَيْنَا، فَصَدَّقَتْ - يَعْنِى عَائِشَةَ - أَبَا هُرَيْرَةَ، وَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُهُ. اختلف العلماء فى الانصراف من الجنازة، هل يحتاج إلى أذن أم لا؟ فروى عن زيد ابن ثابت، وجابر بن عبد الله، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وقتادة، وابن سيرين، وأبى قلابة أنهم كانوا ينصرفون إذا رويت الجنازة، ولا يستأذنون، وهو قول الشافعى، وجماعة من العلماء. ولمالك وأصحابه جواز الانصراف قبل الصلاة عليها، وبعدها دون إذن، سأذكره فى الباب بعد هذا، إن شاء الله تعالى. وقالت طائفة: لابد من الإذن فى ذلك، روى هذا عن عمر، وابن مسعود، وابن عمر، وأبى هريرة، والمسور بن مخرمة، والنخعى أنهم كانوا لا ينصرفون حتى يستأذنوا. وروى ابن عبد الحكم عن مالك، قال: لا يجب لمن شهد جنازة أن ينصرف عنها حتى يُؤذن له إلا أن يطول ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 والقول الأول أَوْلى بالصواب بدليل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من شهد جنازة فله قيراط، ومن شهد حتى تدفن كان له قيراطان) لأن قوله: (حتى تدفن) لفظ حَضّ وترغيب، لا لفظ حتم ووجوب، ألا ترى قول زيد بن ثابت: إذا صليت فقد قضيت الذى عليك. 45 - بَاب مَنِ انْتَظَرَ حَتَّى تُدْفَنَ / 64 - فيه: أَبُو هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّىَ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَ حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ) ، قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: (مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ) . قد قلنا أن الحديث يدل على أنه لا يحتاج إلى أذن فى الانصراف من الجنازة، لأنه أخبر (صلى الله عليه وسلم) أن من شهد الصلاة فله قيراط، ومن شهد الدفن فله قيراطان. فوكله (صلى الله عليه وسلم) إلى اختياره أن يرجع بقيراط من الأجر إن أحب، أو بقيراطين، فدل على تساوى حكم انصرافه بعد الصلاة وبعد الدفن فى أنه لا إذن عليه لأحد فيه، حين رد الاختيار إليه فى ذلك، هذا مفهوم الحديث. وقد أجاز مالك وبعض أصحابه لمن شيع الجنازة أن ينصرف منها قبل أن يصلى عليها، فى سماع أشهب، قال: سألت مالكًا: هل يحمل الرجل الجنازة وينصرف ولا يصلى عليها؟ قال: لا بأس بذلك، إن شاء الله. وروى عنه ابن القاسم أنه لا ينصرف قبل الصلاة إلا لحاجة أو علَّة. قال ابن القاسم: وذلك واسع لحاجة أو غيرها، وليست بفريضة، يعنى: إذا بقى من يقوم بها. قال ابن حبيب: لا بأس أن يمشى الرجل مع الجنازة ما أحب، وينصرف عنها قبل أن يصلى عليها. قاله جابر بن عبد الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 46 - بَاب الصَّلاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ بِالْمُصَلَّى وَالْمَسْجِدِ / 65 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، نَعَى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) النَّجَاشِىَّ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ، اليَوْمَ الَّذِى مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ: (اسْتَغْفِرُوا لأخِيكُمْ) . وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) صَفَّ بِهِمْ بِالْمُصَلَّى، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا. / 66 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ. قال المؤلف: المصلى موضع يُصلَّى فيه على الجنائز، وإنما ذكر المسجد فى هذه الترجمة لاتصاله بمصلى الجنائز، فلذلك ترجم له. قال ابن حبيب: إذا كان مُصلى الجنائز قريبًا من المسجد أو لاصقًا به مثل مصلى الجنائز بالمدينة، فإنه لاصق بالمسجد من ناحية السوق، فلا بأس بوضع الجنائز فى المصلى خارجًا من المسجد، وتمتد الصفوف بالناس فى المسجد كذلك. قال مالك: فلا يعجبنى أن يصلى على أحد فى المسجد. وهو قول ابن أبى ذئب، وأبى حنيفة، وأصحابه، وروى مثله عن ابن عباس. قال ابن حبيب: ولو فعل ذلك فاعل ما كان ضيقًا، ولا مكروهًا، فقد صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على سهيل بن بيضاء فى المسجد، وصلى صهيب على عمر فى المسجد، وهو قول عائشة، وقال ابن المنذر: صُلى على أبى بكر، وعمر فى المسجد، وأجاز الصلاة فى المسجد: الشافعى، وأحمد، وإسحاق. وقال إسماعيل بن إسحاق: لا بأس بالصلاة على الجنازة فى المسجد إذا احتيج إلى ذلك. وحجة من لم ير الصلاة فى المسجد ما رواه ابن أبى ذئب عن صالح مولى التوأمة، عن أبى هريرة، عن الرسول أنه قال: (من صلى على جنازة فى المسجد فلا شىء له) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 قال الطحاوى: فلما اختلفت الآثار فى هذا الباب، احتجنا إلى كشف ذلك لنعلم المتأخر، فكان فى حديث عائشة دليل أنهم تركوا الصلاة على الجنائز فى المسجد بعد أن كانت تفعل فيه حتى ارتفع ذلك من فعلهم، وذهبت معرفته على عامتهم. وفى إنكار من أنكر ذلك على عائشة، وهم يومئذٍ أصحاب رسول الله دليل أنهم قد كانوا علموا فى ذلك خلاف ما علمت، وقال الذين احتجوا بصلاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على سهيل بن بيضاء فى المسجد: الحجة فى رسول الله، وفيه الأسوة الحسنة، ألا ترى قول عائشة: ما أسرع ما نسى الناس. وليس من نسى علمًا بحجة على من ذكره وعلمه، ولو كان قولها خطأ عندهم لما سكتوا عن تبيينه لها. وقال إسماعيل بن إسحاق: وما روى عن الرسول أنه قال: (من صلى على ميت فى المسجد فلا شىء له) ، فإسناده ضعيف لا يثبت، وقاله ابن المنذر أيضًا. 47 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنِ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَلَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ضَرَبَتِ امْرَأَتُهُ الْقُبَّةَ عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً، ثُمَّ رُفِعَتْ، فَسَمِعُوا صَائِحًا يَقُولُ: أَلا هَلْ وَجَدُوا مَا فَقَدُوا؟ فَأَجَابَهُ الآخَرُ: بَلْ يَئِسُوا، فَانْقَلَبُوا. / 67 - فيه: عَائِشَةَ، قالت: قَالَ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى مَرَضِهِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ: (لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَساجد) . قَالَتْ: وَلَوْلا ذَلِكَ لأبْرَزُوا قَبْرَهُ، غَيْرَ أَنِّى أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. قال المهلب: هذا النهى من باب قطع الذريعة، لئلا يعبد قبره الجهالُ كما فعلت اليهود والنصارى بقبور أنبيائها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 روى ابن القاسم عن مالك فى (العتبية) أنه كره المسجد على القبور، فأما مقبرة داثرة يبنى عليها مسجد يُصلى فيه فلا بأس به. فى سماع أشهب قال مالك: أول من ضرب على قبر فسطاطًا عمر، ضرب على قبر زينب بنت جحش زوج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وأوصى أبو هريرة أهله عند موته ألا يضربوا عليه فسطاطًا، وهو قول أبى سعيد الخدرى، وسعيد بن المسيب، ذكره ابن وهب فى موطئه. قال ابن حبيب: ضرب الفسطاط على قبر المرأة أجوز منه على قبر الرجل، فأُجيز وكُره، ومن كرهه فإنما كرهه من جهة السمعة، وضربته عائشة على قبر أخيها، فنزعه ابن عمر، وضربه محمد بن الحنفية على قبر ابن عباس، فأقام عليه ثلاثة أيام. ومعنى ضرب القبة على الحسن حين ضربت عليه: سكنت وصلى فيها، فصارت مسجدًا على القبر، وإنما أورد ذلك دليلاً على الكراهية لقول الصائح: (ألا هل وجدوا. .) القصة. 48 - بَاب الصَّلاةِ عَلَى النُّفَسَاءِ إِذَا مَاتَتْ من نِفَاسِهَا فقام وسطها وترجم له بَاب: (أَيْنَ يَقُومُ مِنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ) ؟ . قال الطحاوى: ذهب قوم إلى الأخذ بحديث سمرة، وقالوا: هذا المقام الذى ينبغى أن يقومه المصلى على الجنازة على المرأة والرجل، روى ذلك عن النخعى، وهو قول أبى حنيفة. وخالفهم فى ذلك آخرون، وقالوا: أما المرأة فهكذا يقام عند الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 وسطها، وأما الرجل فعند رأسه. روى هذا عن أبى يوسف، وأحمد بن حنبل. وروى ابن غانم، عن مالك، قال: يقوم عند وسط المرأة ولم يذكر الرجل. والحجة لأبى يوسف، وأحمد ما روى إبراهيم بن مرزوق، قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق، حدثنا هشام، حدثنا أبو غالب، قال: رأيت أنس بن مالك صلى على رجل فقام عند رأسه، وجىء بجنازة امرأة فقام عند وسطها، فقال له العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، هكذا كان يفعل رسول الله؟ قال: نعم. قال الطحاوى: فبين أنس فى هذا الحديث أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يقوم من المرأة عند وسطها على ما فى حديث سمرة، وزاد عليه حكم الرجل فى القيام منه للصلاة عند رأسه، فهو أولى من حديث سمرة. وقال أبو يوسف: إنما يقوم من المرأة عند وسطها، لأنها مستورة بالنعش، ومن الرجل حيال صدره، لأنه إن قام وسطه وقع بصره على فرجه، ولعل ذلك أن يبدو. قال الطحاوى: وزعم زاعم أن قيام المصلى عند وسط المرأة إنما كان لعلة أنه لم تكن نعوش، فكان يقوم بحيال عجيزتها يسترها عن القوم، وذلك محال، لأن النعوش قد اتخذت فى خلافة أبى بكر، وكان أول من اتخذت له فاطمة بنت رسول الله، لأنها قالت لهم عند وفاتها: إنى امرأة ضئيلة يرانى الناس بعد وفاتى، فأحب أن يستر نعشى بالثياب. وقالت أم سليم، وأسماء بنت عميس أنهما رأتا فى أرض الحبشة النعوش، وأنها للناس مغطاة، فاتخذ لها نعش، فاتخذت فيه وبقى الناس إلى يومنا هذا على ذلك. وفى المسألة قول ثالث ذكره سحنون فى (المدونة) عن ابن مسعود، قال: يقوم عند وسط الرجل، وفى المرأة عند منكبيها. وذكر ابن المنذر عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 الحسن، قال: لا يبالى أين قام من الرجل ومن المرأة. وبه قال ابن شعبان، وهذان القولان خلاف حديث سمرة وحديث أنس، ولا حجة لهما. 49 - بَاب التَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَازَةِ أَرْبَعًا قَالَ حُمَيْدٌ: صَلَّى بِنَا أَنَسٌ فَكَبَّرَ ثَلاثًا، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقِيلَ لَهُ: فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ كَبَّرَ الرَّابِعَةَ، ثُمَّ سَلَّمَ. / 68 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ الرسُول نَعَى النَّجَاشِىَّ فِى الْيَوْمِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ. وجمهور الفقهاء على أن تكبير الجنازة أربع، روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وزيد ابن ثابت، وابن عمر، وابن أبى أوفى، والبراء بن عازب، وأبى هريرة، وعقبة بن عامر، وهو قول عطاء، ومالك، والثورى، والكوفيين، والأوزاعى، وأحمد، والشافعى. واختلف الصحابة فيها من ثلاث إلى تسع، وما سوى الأربع شذوذ لا يلتفت إليه، وقال النخعى: قبض رسول الله والناس مختلفون، فمنهم من يقول: كبر النبى أربعًا، ومنهم من يقول: خمسًا وسبعًا، فلما كان عمر جمع الصحابة، فقال: انظروا أمرًا تجتمعون عليه، فأجمع رأيهم على أربع تكبيرات، فيحتمل أن يكون ما روى عن الصحابة من خلاف فى ذلك كان قبل اجتماع الناس على أربع، وحديث النجاشى أصح ما روى فى ذلك. وقد صلى أبو بكر الصديق على النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فكبر أربعًا، وصلى عمر على أبى بكر فكبر أربعًا، وصلى صهيب على عمر فكبر أربعًا، وصلى الحسن بن علىٍّ عَلَى علىٍّ فكبر أربعًا، وصلى عثمان على جنازة فكبر أربعًا، وعن ابن عباس وأبى هريرة والبراء مثله، فصار الإجماع منهم قولاً وعملاً ناسخًا لما خالفه، وصار إجماعهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 حجة، وإن كانوا فعلوا فى عهد النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، خلافه لأنهم مأمونون على ما فعلوا كما هم مأمونون على ما رووا. فإن قيل: فكيف يكون ذلك ناسخًا، وقد كبر علىّ بعد ذلك أكثر من أربع تكبيرات، على سهل بن حنيف ستًا، وعلى أبى قتادة سبعًا؟ . قيل له: إن عليًا فعل ذلك لأن أهل بدر كان حكمهم فى الصلاة عليهم أن يزاد فيها من التكبير على ما يكبر على غيرهم من سائر الناس، والدليل على ذلك ما رواه ابن أبى زياد، عن عبد الله بن معقل، قال: صليت مع علىّ عَلَى جنازة، فكبر عليها خمسًا، ثم التفت، فقال: إنه من أهل بدر، ثم صليت مع علىٍّ عَلَى جنائز، كل ذلك يكبر أربعًا. قال الطحاوى: فكان هذا حكم الصلاة على أهل بدر، وقد حدثنى القاسم بن جعفر، حدثنى زيد بن أخزم، حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا سليمان بن بشير، قال: صليت خلف الأسود بن يزيد، وهمام بن الحارث، والنخعى، فكانوا يكبرون أربعًا أربعًا، قال همام: وجمع عمر بن الخطاب الناس على أربع إلا على أهل بدرٍ، فإنهم كانوا يكبرون عليهم خمسًا وستًا وسبعًا. قال مالك: وإن صلى خلف من يكبر الخامسة، فلا يسلم إلا بسلامه، ورواه عنه ابن الماجشون، وقاله مطرف. وروى ابن القاسم عن مالك فى العتبية أن المأموم يقطع بعد الرابعة، وكذلك فى سماع ابن وهب، وهو قول أبى حنيفة. ولم يحفظ عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه سلم على الجنازة من طريق الرواية، وأجمع الصحابة والتابعون، وأئمة الفتوى بعده على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 السلام فيها، إلا أن الفقهاء اختلفوا هل يُسلم واحدة، أو اثنتين، وأكثر السلف والخلف على أنها تسليمة واحدة، وروى عن الشعبى أنه يُسلم تسليمتين، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه. وقال الثورى: واحدة عن يمينه. 50 - بَاب قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْجَنَازَةِ وَقَالَ الْحَسَنُ: يَقْرَأُ عَلَى الطِّفْلِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا سَلَفًا وَفَرَطًا وَأَجْرًا. / 69 - وفيه: طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جَنَازَةٍ، فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، قَالَ: لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ. واختلف العلماء فى القراءة بفاتحة الكتاب على الجنازة، فروى عن ابن مسعود، وابن الزبير، وابن عباس، وعثمان بن حبيب، وأبى أمامة بن سهل بن حنيف، أنهم كانوا يقرءون فاتحة الكتاب على ظاهر حديث ابن عباس، وهو قول مكحول والحسن البصرى، وبه قال الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقالوا: ألا ترى قول ابن عباس: لتعلموا أنها سُنَّة، والصاحب إذا قال سُنَّة فإنما يريد سُنَّة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وذكر أبو عبُيد فى (فضائل القرآن) عن مكحول، قال: أم القرآن قراءة ومسألة ودعاء. وممن كان لا يقرأ على الجنازة وينكر ذلك: عمر بن الخطاب، وعلىّ بن أبى طالب، وابن عمر، وأبو هريرة، ومن التابعين: عطاء، وطاوس، وسعيد بن المسيب، وابن سيرين، وسعيد ابن جبير، والشعبى، والحكم، وبه قال مالك والثورى، وأبو حنيفة وأصحابه، قال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 مالك: الصلاة على الجنازة إنما هو دعاء، وليس قراءة فاتحة الكتاب معمولاً بها ببلدنا. قال الطحاوى: يحتمل أن تكون قراءة من قرأ فاتحة الكتاب من الصحابة على وجه الدعاء لا على وجه التلاوة، وقالوا: إنها سُنَّة، يحتمل أن الدعاء سُنَّة، لما روى عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم أنكروا ذلك، ولما لم يقرءوا بعد التكبيرة الثانية دل أنه لا يقرأ فيما قبلها، لأن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة، ولما لم يتشهد فى آخرها دل أنه لا قراءة فيها. 51 - بَاب الصَّلاةِ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ مَا يُدْفَنُ / 70 - فيه: ابْن عَبَّاس، أن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مر عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَأَمَّهُمْ، وَصَلَّوْا خَلْفَهُ. / 71 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَسْوَدَ، رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً، كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَمَاتَ، وَلَمْ يَعْلَمِ الرسول بِمَوْتِهِ، فَذَكَرَهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: (مَا فَعَلَ ذَلِكَ؟) قَالُوا: مَاتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (أَفَلا آذَنْتُمُونِى) ؟ فَقَالُوا: كَانَ كَذَا وَكَذَا، فَحَقَرُوا شَأْنَهُ، فَقَالَ: (فَدُلُّونِى عَلَى قَبْرِهِ) ، فَأَتَى قَبْرَهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ. اختلف العلماء فيمن فاتته الصلاة على الجنازة، هل يصلى على قبرها؟ فروى عن علىّ، وابن مسعود، وعائشة أنه أجازوا ذلك، وبه قال الأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بأحاديث هذا الباب وغيرها، وقالوا: لا يصلى على قبر إلا قرب ما يدفن، وأكثر ما حَدُّوا فيه شهرًا، إلا إسحاق فإنه قال: يصلى الغائب من شهر إلى ستة أشهر، والحاضر إلى ثلاثة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 وكره قوم الصلاة على القبر، وروى عن ابن عمر أنه كان إذا انتهى إلى جنازة قد صلى عليها دعا وانصرف ولم يصل عليها، وهو قول النخعى، والحسن البصرى، ومالك، والثورى، وأبى حنيفة، والليث. وقال ابن القاسم: قلت لمالك: فالحديث الذى جاء عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه صلى على قبر امرأة؟ قال: قد جاء هذا الحديث ليس عليه العمل. وقال أبو الفرج: صلاة النبى على من دُفن خاص له، لا يجوز لغيره، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن هذه القبور مملوءة ظلمة حتى أصلى عليها) . وقال أبو حنيفة: لا يصلى على قبر مرتين إلا أن يصلى عليها غير وليها، فيعيد وليها الصلاة عليها. وقال الطحاوى: يسقط الفرض بالصلاة الأولى إذا صلى عليها الولى، والصلاة الثانية لو فعلت لم تكن فرضًا فلا يصلى عليها، لأنهم لا يختلفون أن الولى إذا صلى عليه لم يجز له إعادة الصلاة ثانية لسقوط الفرض، وكذلك غيره من الناس إلا أن يكون الذى صلى عليها غير الولى، فلا يسقط حق الولى، لأن الولى كان إليه فعل فرض الصلاة على الميت. وما روى عن الرسول فى إعادة الصلاة، فلأنه كان إليه فعل فرض الصلاة، فلم يكن يسقطه فعل غيره، وقد كان (صلى الله عليه وسلم) تَقَدَّم إليهم أن يُعلموا، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا يموت منكم ميت ما دمت بين أظهركم إلا آذنتمونى به، فإن صلاتى عليه رحمة) . وقد ذكر ابن القصار نحو هذه الحجة سواء، واحتج أيضًا بالإجماع فى ترك الصلاة على قبر الرسول، ولو جاز ذلك لكان قبره أولى أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 يُصلى عليه أبدًا، ثم كذلك أبو بكر وعمر، فلما لم ينقل أن أحدًا صلى عليهم، كان ذلك من أقوى الدلالة على أنه لا يجوز. واختلفوا فيمن دُفن ونُسيت الصلاة عليه، فقال أبو حنيفة ومحمد: يصلى على القبر ما بينهم وبين ثلاث. وقال ابن وهب: إذا ذكروا ذلك عند انصرافهم من دفنه، فإنه لا ينبش وليصلوا على قبره، سمعت هذا. وقاله يحيى بن يحيى، وروى موسى وعيسى، عن ابن القاسم أنه يخرج بحضرة ذلك ويصلى عليه، وإن خافوا أن يتغير. وقاله عيسى بن دينار، وروى موسى، عن ابن القاسم، قال: وكذلك إذا نسوا غسله مع الصلاة عليه. وفى المبسوط: روى ابن نافع عن مالك إذا نسيت الصلاة حتى يفرغ من دفنه لا ينشره، ولا يصلى على قبره، ولكن يدعون له، وهو قول أشهب، وسحنون، ولم ير بالصلاة على القبر. وقوله: (يقم المسجد) يعنى يكنسه، يقال: قم فلان بيته يقمه، إذا كنسه، والقمامة: الكناسة، والمقمة المكنسة، ومن قولهم: اقتم فلان ما على الخوان، إذا أكل [. . . .] كالبيت المكنوس، والقميم يبس البقل، وقمت الشاة: رعت، والإقمام: ضرب الفحل الإبل، يقال: أقم الفحل الإبل إذا ضربها. وقال الخطابى: حديث ابن عباس يروى على وجهين: أحدهما: أن يجعل المنبوذ نعتًا للقبر ومعناه أنه قبر منبوذ عن القبور، والوجه الآخر: أن تكون الرواية على إضافة القبر إلى المنبوذ، معناه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 أنه مرّ بقبر لقيط فصلى عليه، والمنبوذ الملقوط، وهو المزكوم أيضًا، يقال: زكمت به أمه فهو زكمة فلان. 52 - بَاب الْمَيِّتُ يَسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ / 72 - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا وُضِعَ الْعَبْدُ فِى قَبْرِهِ، وَتُوُلِّىَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ، فَيَقُولانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ) ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا، وَأَمَّا الْكَافِرُ وِالْمُنَافِقُ، فَيَقُولُ: لا أَدْرِى، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلا الثَّقَلَيْنِ) . قوله (صلى الله عليه وسلم) فى الميت: (إنه يسمع قرع نعالهم) ، وكلامه مع الملكين يبين قوله: (وما أنت بمسمع من فى القبور) [فاطر: 22] أنه على غير العموم. قال المهلب: ولا معارضة بين الآية والحديث، لأن كل ما نسب إلى الموتى من استماع النداء والنوح، فهى فى هذا الوقت عند الفتنة أول ما يوضع الميت فى قبره أو متى شاء الله أن يرد أرواح الموتى ردها إليهم لما شاء) لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) [الأنبياء: 23] ، ثم قال بعد ذلك: لا يسمعون، كما قال تعالى: (إنك لا تسمع الموتى) [النمل: 80] ،) وما أنت بمسمع من فى القبور (. وفيه: أن فتنة القبر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 حق، وهو مذهب أهل السُّنَّة، وسيأتى الكلام فيه فى بابه، إن شاء الله. وأما قوله: (يسمعها من يليه) فالذى يليه هم الملائكة الذين يلون فتنته ومسألته فى قبره، والثقلان: الجن والإنس منعهم الله سماع صيحته إذا دفن فى قبره. فإن قال قائل: الجن من الثقلين، وقد منعهم الله سماع هذه الصيحة، ولم يمنعهم سماع كلام الميت إذا حمل، وقال: قدمونى قدمونى، فما الفرق بين ذلك؟ قيل: إن كلام الميت حين يحمل إلى قبره هو فى حكم الدنيا، وليس فيه شىء من الجزاء والعقوبة، لأن الجزاء لا يكون إلا فى الآخرة، وإنما كلامه اعتبار لمن سمعه وموعظة، فأسمعها الله الجن، لأنه جعل فيهم قوة يثبتون بها عند سماعه، ولا يضعفون بخلاف الإنسان الذى كان يصعق لو سمعه، وصيحة الميت فى القبر عند فتنته هى عقوبة وجزاء، فدخلت فى حكم الآخرة، فمنع الله الثقلين، اللذين هما فى دار الدنيا، سماعَ عقوبته وجوابه فى الآخرة، وأسمعه سائر خلقه. وقوله: (لا دريت ولا تليت) الأصل فيه تلوت، فردوه إلى الياء ليزدوج الكلام، هذا قول ثعلب. وقال ابن السكيت: (تليت) هاهنا اتباع ولا معنى لها. وقال ابن الأنبارى: إنما قيل للجن والإنس: الثقلان، لأنهما كالثقل للأرض وعليها، والثقل بمعنى الثقيل، وجمعها: أثقال، ومجراهما مجرى قول العرب مِثْل وَمثيل، وشبه وشبيه، وكانت العرب تقول للرجل الشجاع: ثقل على الأرض، فإذا مات أو قتل: سقط ذلك عنها. قالت الخنساء ترثى أخاها: أبعد ابن عمرو من الربذة حلت بها الأرض أثقالها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 53 - بَاب مَنْ أَحَبَّ الدَّفْنَ فِى الأرْضِ الْمُقَدَّسَةِ أَوْ نَحْوِهَا / 73 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: (أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِى إِلَى عَبْدٍ لا يُرِيدُ الْمَوْتَ، فَرَدَّ اللَّهُ إلَيْهِ عَيْنَهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ، فَقُلْ لَهُ: يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ بِهِ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ، قَالَ: أَىْ رَبِّ، ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ، قَالَ: فَالآنَ، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْفنهُ مِنَ الأرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ) ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ كُنْتُ ثَمَّ لأرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأحْمَرِ) . قال أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: أنكر بعض أهل البدع والجهمية هذا الحديث ودفعوه، وقالوا: لا يخلو أن يكون موسى عرف ملك الموت، أو لم يعرفه، فإن كان عرفه فقد ظلمه واستخف برسول الله، ومن استخف برسول الله فهو مستخف بالله، وإن كان لم يعرفه فرواية من روى أنه كان يأتى موسى عيانًا لا معنى لها. قال الجهمى: وزعمت الحشوية أن الله لم يقاصص الملك من اللطمة وفقء العين، والله تعالى لا يظلم أحدًا. قال ابن خزيمة: وهذا اعتراض من أعمى الله بصيرته، ولم يبصره رشده، ومعنى الحديث صحيح على غير ما ظنهُ الجهمى، وذلك أن موسى (صلى الله عليه وسلم) لم يبعث الله إليه ملك الموت، وهو يريد قبض روحه حينئذ، وإنما بعثه إليه اختبارًا وابتلاء، كما أمر الله خليله إبراهيم بذبح ابنه، ولم يُرد تعالى إمضاء الفعل ولا قتل ابنه، ففداه بذبح عظيم) وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) [الصافات: 104، 105] ولو أراد قبض روح موسى حين ألهم ملك الموت لكان ما أراد، لقوله تعالى: (إنما قولنا لشىء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) [النحل: 40] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 وكانت اللطمة مباحة عند موسى إذا رأى شخصًا فى صورة آدمى قد دخل عنده لا يعلم أنه ملك الموت، وقد أباح الرسول فقء عين الناظر فى دار المسلم بغير إذن، رواه بشير ابن نهيك، عن أبى هريرة أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (من اطلع فى دار قوم بغير إذن، ففقأ عينه فلا دية ولا قصاص) . ومحال أن يعلم موسى أنه ملك الموت ويفقأ عينه، وكذلك لا ينظره إلا بعلمه. وقد جاءت الملائكةُ خليل الله إبراهيم ولم يعرفهم فى الابتداء حتى أعلموه أنهم رسل ربهم، قال تعالى: (ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلامًا قال سلام (إلى) خيفة) [هود: 69، 70] ولو علم إبراهيم فى الابتداء أنهم ملائكة الله لكان من المحال أن يقدم إليهم عجلاً، لأن الملائكة لا تطعم، فلما وجس منهم خيفة، قالوا: لا تخف إنا أُرسلنا إلى قوم لوط، وقد أخبر الله أن رسله جاءت لوطًا فسيئ بهم وضاق بهم ذرعًا، ومحال أن يعلم فى الابتداء أنهم رسل الله ويضيق بهم ذرعًا، أو يسيئ بهم. وقد جاء الملك إلى مريم فلم تعرفه، واستعاذت منه، ولو علمت مريم فى الابتداء أنه ملك جاء يبشرها بغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويكون نبيًا ما استعاذت منه. وقد دخل الملكان على داود فى شبه آدميين يختصمان عنده ولم يعرفهما وإنما بعثهما الله ليتعظ بدعوى أحدهما على صاحبه، ويعلم أن الذى فعله لم يكن صوابًا فتاب إلى الله وندم، قال تعالى: (وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعًا) [ص: 24] ، فكيف يُستنكر ألا يعرف موسى ملك الموت حين دخل عليه. وقد جاء جبريلُ النبى (صلى الله عليه وسلم) وسأله عن الإيمان والإسلام فى صورة لم يعرفه النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ولا أحد من أصحابه، فلما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 ولَّى أخبر النبى أنه جبريل، وقال: (ما أتانى فى صورة قط إلا عرفته، غير هذه المرة) . وكان يأتيه فى بعض الأوقات مرة فى صورة، ومرة فى صورة أخرى، وأخبر (صلى الله عليه وسلم) أنه لم ير جبريل فى صورته التى خلق عليها إلا مرتين. وأما قول الجهمى: إن الله لم يقاصص ملك الموت من اللطمة، فهو دليل على جهل قائله، ومن أخبره أن بين الملائكة وبين الآدميين قصاص. ومن أخبره أن ملك الموت طلب القصاص من موسى، فلم يقاصصه الله منه. وقد أخبرنا الله تعالى أن موسى قتل نفسًا ولم يقاصص الله منه لقتله. وقيل: إذا كانت اللطمة غير مباحة يكون حكمها على كل الأحوال حكم العمد، فيه القصاص، أو تكون فى بعض الأحوال خطأ تجب فيه الدية على العاقلة، وما الدليل أن فقء عين ملك الموت كان عمدًا فيه القصاص دون أن يكون خطأ، وهل تركُ القصاص من موسى لملك الموت لو كان فقأ عين الملك عمدًا، وكان حكم الملائكة مع بنى آدم القصاص كحم الآدميين، إلا كترك القصاص من موسى لقتيله، وكترك القصاص من أحد بنى آدم لأخيه. وقد يأمر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بالأمر على وجه الاختبار والابتلاء، لا على وجه الإمضاء لأمره، كما أمر (صلى الله عليه وسلم) بإقامة الحد على الرجل الذى زعمت المرأة أنه وطئها من غير إقرار الرجل، ولا إقامة بينة عليه، فبان للنبى فى المتعفف من الوطء، وصح عنده أن الذى رمته به المرأة كان زنا، وهذا كأمر سليمان بن داود بقطع الصبى باثنين، وإنما أراد أن يختبر من أمُّ الصبى، لأن الأم أحنى على ولدها وأشفق، فلما رضيت إحداهما بقطع الصبى، ورضيت الأخرى بدفعه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 إلى الثانية، بان عنده وظهر أن أم الصبى اختارت حياة ابنها، وكذلك بعث الله ملك الموت إلى موسى للابتلاء والاختبار. وقد أخبرنا نبينا (صلى الله عليه وسلم) أن الله تعالى لم يقبض نبيًا قط حتى يريه مقعده من الجنة ويخيره، فلا يجوز أن يؤمر ملك الموت بقبض روحه قبل أن يريه مقعده من الجنة، وقبل أن يخيره، والله ولى التوفيق. ومعنى سؤال موسى أن يدنيه من الأرض المقدسة، والله أعلم، لفضل من دُفن فى الأرض المقدسة من الأنبياء والصالحين، فاستحب مجاورتهم فى الممات، كما يستحب جبرتهم فى المحيا، ولأن الفضلاء يقصدون المواضع الفاضلة، ويزورون قبورها ويدعون لأهلها. قال المهلب: إنما سأل الدنو من الأرض المقدسة ليسهل على نفسه، وتسقط عنه المشقة التى تكون على من هو بعيد منها من المشى وصعوبته عند البعث والحشر. قال غيره: ومعنى بعده منها (رمية بحجر) ليعمى قبره، لئلا يعبد قبره جهالُ أهل ملته، ويقصدونه بالتعظيم، والله أعلم، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أخبر أن اليهود تفعل ذلك بقوله: (لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ذلك) . 54 - بَاب الدَّفْنِ بِاللَّيْلِ وَدُفِنَ أَبُو بَكْرٍ لَيْلا / 74 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: صَلَّى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى رَجُلٍ بَعْدَ مَا دُفِنَ بِلَيْلَةٍ، قَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَكَانَ يسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالَ: (مَنْ هَذَا؟) فَقَالُوا: فُلانٌ، دُفِنَ الْبَارِحَةَ، فَصَلَّوْا عَلَيْهِ. قال ابن المنذر: أجاز أكثر العلماء الدفن بالليل، فممن دفن بالليل أبو بكر الصديق، دفنه عمر بن الخطاب بعد صلاة العشاء، ودُفنت عائشة وعثمان بن عفان بالليل أيضًا، ودفن علىُّ بن أبى طالب زوجته فاطمة ليلاً، فَرَّ بِهَا من أبى بكر أن يصلى عليها، كان بينهما شىء، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 رواه ابن جريج عن عمرو بن دينار، أن حسن بن محمد أخبره بذلك، وقال: أوصته فاطمة بذلك. ورخص فى ذلك عقبة بن عامر، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وهو قول الزهرى، والثورى، والكوفيين، وابن أبى حازم، ومطرف بن عبد الله، ذكره ابن حبيب، وإليه ذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق. وكان الحسن البصرى يكره الدفن بالليل، والدفنُ بالليل مباح، لأن الرسول صلى على الذى دفن بالليل، وعلى المسكينة، ولم ينكر ذلك عليهم. وذكر الطحاوى من حديث جابر، وابن عمر، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، نهى عن الدفن ليلاً، وقد يكون النهى عن ذلك ليس من طريق كراهية الدفن بالليل، أراد رسول الله أن يصلى على جميع موتى المسلمين لما لهم فى ذلك من الفضل والخير، وروى عن أبى هريرة، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، دخل المقبرة فصلى على رجل بعد ما دفن، فقال: (ملئت هذه القبور نورًا بعد أن كانت مظلمة عليهم) . وقيل: إنما نهى عن ذلك لمعنى آخر رواه أشعث عن الحسن، أن قومًا كانوا يسئون أكفان موتاهم، فنهى رسول الله عن دفن الليل. وأخبر الحسن أن النهى عن الدفن ليلاً إنما كان لهذه العلة، وقد روى جابر بن عبد الله نحوًا من ذلك. روى ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبى جعفر، عن أبى الزبير، عن جابر، قال: خطب بنا النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فذكر رجلاً من أصحابه قبض فكفن فى كفن غير طائل فدفن ليلاً، فزجر أن يقبر الرجل ليلاً لكى يصلى عليه، إلا أن يضطر إلى ذلك، وقال: (إذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 وارى أحدكم أخاه فليحسن كفنه) . قال الطحاوى: فجمع فى هذا الحديث العلتين اللتين قيل إن النهى كان من أجلهما. قال الطحاوى: وقد فعل ذلك رسول الله، وروى ابن إسحاق، عن فاطمة بنت محمد، عن عمرة، عن عائشة، قالت: ما علمنا بدفن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى سمعنا بصوت المساحى من آخر الليل ليلة الأربعاء. وقال عقبة بن عامر: (ثلاث ساعات كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينهانا أن نصلى فيهن وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تضيف الشمس إلى الغروب حتى تغرب) . فدل أن ما سوى هذه الأوقات بخلافها فى الصلاة على الموتى ودفنهم. 55 - بَاب بِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْقبور / 75 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا اشْتَكَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، ذَكَرَتْ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بالْحَبَشَةِ، يُقَالُ لَهَا: مَارِيَةُ، فَذَكَرَ مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: (أُولَئِكِ إِذَا مَاتَ مِنْهُمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَةَ، أُولَئِكِ هم شِرَارُ الْخَلْقِ) . لأنهم كانوا يعبدون تلك القبور، ولذلك نهى (صلى الله عليه وسلم) أن يتخذوا قبره مسجدًا، قطعًا للذريعة فى ذلك لئلا يعبد الجهل قبره، وقد تقدم هذا المعنى فى باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 56 - بَاب مَنْ يَدْخُلُ قَبْرَ الْمَرْأَةِ / 76 - فيه: أَنَس، قَالَ: شَهِدْنَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ، فَقَالَ: (هَلْ فِيكُمْ مِنْ أَحَدٍ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ؟) فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا، قَالَ: (فَانْزِلْ فِى قَبْرِهَا) ، قَالَ ابْنُ مُبَارَكٍ: قَالَ فُلَيْحٌ أُرَاهُ يَعْنِى: الذَّنْبَ. قوله (صلى الله عليه وسلم) : (يقارف الليلة) أراد الجماع، وليس كما قال فليح أنه الذنب، لأن المقارفة أيضًا عند العرب: المجامعة. قال أبو عبيد: فى حديث عائشة (كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يصبح جنبًا فى رمضان من قراف غير احتلام، ثم يصوم) . قال أبو عبيد: القراف هاهنا: الجماع، وكل شىء خالطته وواقعته فقد قارفته. وقد روى البخارى فى تاريخه ما يشهد لذلك، قال: حدثنا عبد الله بن محمد المسندى، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس، قال: لما ماتت رقية، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يدخل القبر رجل قارف أهله الليلة) ، فلم يدخل عثمان القبر. قال البخارى: لا أدرى ما هذا والنبى (صلى الله عليه وسلم) لم يشهد رقية، وقال الطبرى: روى أنس، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لما نزلت أم كلثوم بنت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى قبرها، قال: (لا ينزل فى قبرها أحد قارف الليلة) . فذكرُ رقية فيه وهم، والله أعلم. ولذلك ذكر البخارى فى هذا الباب حديث أنس، قال: (شهدنا بنت النبى. . . .) ، ولم يذكر فيه رقية، ولم يذكر حديث المسندى فى هذا، وهذا يدل على صواب قول الطبرى، والله أعلم. وذكر البخارى أن أم كلثوم كانت تحت عثمان بن عفان بعد رقية ابنة النبى (صلى الله عليه وسلم) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 وذهب العلماء إلى أن زوج المرأة أولى بإلحادها من الأب والولد، ولا خلاف بينهم أنه يجوز للفاضل غير الولى أن يلحد المرأة إذا عدم الولى، ولما كان النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ولم يجز لأحد التقدم بين يديه فى شىء لقوله تعالى: (لا تقدموا بين يدى الله ورسوله) [الحجرات: 1] لم يكن لعثمان أن يتقدم بين يدى رسول الله فى إلحاد زوجته. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (هل فيكم أحد لم يقارف أهله الليلة؟) فيحتمل أن يستدل على معناه بقوله فى حديث المسندى: (فلم يدخل عثمان القبر) ودل سكوت عثمان وتركه المشاحة فى إلحاد أهله أنه قد كان قارف تلك الليلة بعض خدمه، لأنه لو لم يقارف لقال: أنا لم أقارف فأتولى إلحاد أهلى، بل كان يحتسب خدمته فى ذلك من أزكى أعماله عند الله، وكان أولى من أبى طلحة لو ساواه فى ترك المقارفة. فأراد (صلى الله عليه وسلم) أن يمنعه إلحادها حين لم يمنعه حزنه بموت ابنة رسول الله، وانقطاع صهره منه، عن المقارفة تلك الليلة على طراوة حزنه وحادث مصابه لمن لا عوض منها، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببى ونسبى) . رواه عمر بن الخطاب، وابن عباس، وأبو رافع، والمسور، كلهم عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ذكرها كلها الطبرى. فعاقبه (صلى الله عليه وسلم) بأن حرمه هذه الفضيلة، وكان عثمان كثير الخدم والمال، وفيه فضل عثمان وإيثاره الصدق حتى لم يَدَّعِ تلك الليلة ترك المقارفة، وإن كان عليه بعض الغضاضة فى إلحاد غيره لزوجته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 57 - بَاب الصَّلاةِ عَلَى الشَّهِيدِ / 77 - فيه: جَابِرِ، قَالَ: كَانَ (صلى الله عليه وسلم) يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: (أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ) ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا، قَدَّمَهُ فِى اللَّحْدِ، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ. / 78 - وفيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: (إِنِّى فَرَطٌ لَكُمْ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، وَإِنِّى وَاللَّهِ لأنْظُرُ إِلَى حَوْضِى الآنَ، وَإِنِّى أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأرْضِ، وَإِنِّى وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِى، وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا) . وترجم لحديث جابر بَاب (دَفْنِ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلاثَةِ فِى قَبْرٍ وَاحِدٍ) ، وباب (مَنْ لَمْ يَرَ غَسْلَ الشُّهَدَاءِ) ، وباب (مَنْ يُقَدَّمُ فِى اللَّحْدِ) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فقال مالك: الذى سمعته من أهل العلم والسُّنَّة أن الشهداء لا يغسلون، ولا يصلى على أحد منهم، ويدفنون فى ثيابهم التى قتلوا فيها، وهو قول عطاء، والنخعى، والحكم، والليث، والشافعى، وأحمد. وقال أبو حنيفة، والثورى، والأوزاعى: يصلى عليه ولا يغسل، وهو قول مكحول. وقال عكرمة: لا يغسل الشهيد، لأن الله قد طيبه، ولكن يصلى عليه. وقال سعيد بن المسيب، والحسن البصرى: يغسل الشهيد ويصلى عليه، لأن كل ميت يجنب. وحجة مالك، ومن وافقه حديث جابر أنهم لم يغسلوا ولم يُصلى عليهم، وأيضًا فإن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال فى دم الشهيد: (اللون لون دم، والريح ريح المسك) . وقد روى فى الحديث: (إذا كان يوم القيامة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 وبعث الله العباد، قام الشهداء من قبورهم، ووثبوا على خيولهم مستشفعين إلى الله بذلك) . فوجب ألا تغير أحوالهم أخذًا بالسُّنة التى رواها جابر فى قتلى أُحُد. قال ابن القصار: ويوم أُحُد قتل فيه سبعون نفسًا، فلا يجوز أن تخفى الصلاة عليهم. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (اللون لون دم والريح ريح مسك) نهى عن الصلاة عليه، لأنه ميت لا يغسل فوجب ألا يصلى عليه، دليله السقط الذى لم يستهل، وإذا سقط فرض الطهارة سقط فرض الصلاة، قال الله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون) [آل عمران: 169] وقال (صلى الله عليه وسلم) : (صلوا على موتاكم) . وقد نفى الله عنهم الموت، وأوجب لهم الحياة، فلا تجب الصلاة عليهم. واحتج أبو حنيفة، ومن وافقه بحديث عقبة بن عامر: (أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى على أهل أُحُد بعد ثمانى سنين صلاته على الميت) ، وبما روى أنه صلى على حمزة سبعين صلاة، قالوا: فلو لم تجز الصلاة على الشهداء ما صلى عليهم، روى ذلك من حديث ابن عباس، وابن الزبير، فأما حديث ابن الزبير فرواه أحمد بن عبد الله بن يونس، عن أبى بكر بن عياش، عن يزيد بن أبى زياد، عن مقسم، عن ابن عباس، (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يوضع بين يديه يوم أُحُد عشرة فيصلى عليهم وعلى حمزة، ثم يرفع العشرة، وحمزة موضوع، ثم يوضع عشرة فيصلى عليهم وعلى حمزة معهم، يكبر عليهم سبع تكبيرات، حتى فرغ) . وحديث ابن الزبير ذكره ابن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده. وقال أهل المقالة الأولى: يحتمل أن يكون حديث ابن عباس، وابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 الزبير أنه صلى على قتلى أُحُد على من حمل فعاش، حتى تستعمل الأحاديث، ويجوز أن يكون صلى عليهم أى: دعا لهم، وعلى هذا يتأول حديث عقبة أنه دعا لهم كما يدعى للميت بالمغفرة والرحمة، لأن الصلاة من النبى لأمته هى بمعنى الدعاء لهم، ألا ترى قوله تعالى: (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) [التوبة: 103] أن المراد به الدعاء لهم. والدليل على صحة هذا التأويل حديث ابن إسحاق، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: أخبرنى أبو مويهبة، مولى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: قال لى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إنى قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع) ، فاستغفر لهم ثم انصرف، فقال لى: (إن الله قد خيرنى فى مفاتيح خزائن الأرض، والخلد فيها ثم الجنة، أو لقاء ربى، فاخترت لقاء ربى) . وأصبح رسول الله من ليلته تلك فبدأه وجعه الذى مات فيه، فكأن خروجه إلى البقيع كالمودع للأحياء والأموات، حتى نعيت إليه نفسه، فهذا تفسير حديث ابن عباس، وابن الزبير، وحديث عقبة، وأن الصلاة فيها بمعنى الدعاء والاستغفار، كما دل عليه كتاب الله. وأما صلاته على حمزة فهو خصوص له، لأنه كبر عليه سبع تكبيرت، وهم لا يقولون بأكثر من أربع، وحمزة مخصوص بإعادة الصلاة عليه لو صح ذلك، لإجماع العلماء أنه لا يجوز أن يصلى على قبر لم يصل عليه إلا بحدثان ذلك، وأكثر ما حُدَّ فى ذلك ستة أشهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 وقد عارض حديث ابن عباس، وابن الزبير، ما روى أسامة بن زيد، عن الزهرى، عن ابن عباس، (أن النبى لم يصل على أحد من قتلى أُحُد غير حمزة) . فصار مخصوصًا بذلك، لأنه وجده فى القتلى قد جرح ومُثل به، فقال: (لولا أن تجزع عليه صفية لتركته حتى يحشره الله من بطون الطير والسباع) ، فكفنه فى نمرة إذا خمر رأسه بدت رجلاه، وإذا خمر رجليه بدا رأسه، ولم يصل على أحد غيره، وقال: (أنا شهيد عليكم اليوم) . ويشهد لهذا المعنى حديث جابر، وهذا أولى ما قيل به فى هذا الباب، لأنه أصح من الأحاديث المعارضة له، وقول سعيد بن المسيب، والحسن مخالف للآثار، فلا وجه له. واختلف الفقهاء إذا جرح فى المعركة، ثم عاش بعد ذلك، أو قتل ظلمًا بحديدة، أو غيرها فعاش، فقال مالك: يغسل ويصلى عليه. وبه قال الشافعى. وقال أبو حنيفة: إن قتل ظلمًا فى المصر بحديدة لم يغسل، وإن قتل بغير الحديدة غسل. وحجة مالك ما رواه نافع، عن ابن عمر، أن عمر غُسل وصلى عليه، لأنه عاش بعد طعنته وكان شهيدًا. قال ابن القصار: ولم ينكر هذا أحد من الصحابة. قال: وكذلك جرح علىّ بن أبى طالب، فعاش ثم مات من ذلك، فغسل وصلى عليه، ولم ينكره أحد. قال الطبرى: وفيه من الفقه أن الموت إذا كثر فى موضع بطاعون أو غيره، أو كثر القتل فى معركة حتى تعظم المؤنة فى حفر قبر لكل رجل منهم، أن تدفن الجماعة منهم فى حفرة واحدة، كالذى فعل (صلى الله عليه وسلم) فى جمع مشركى بدر فى قليب واحد، وهم سبعون رجلاً. واختلفوا فى دفن الاثنين والثلاثة فى قبر، فكره ذلك الحسن البصرى، وأجازه غير واحد من أهل العلم، فقالوا: لا بأس أن يدفن الرجل والمرأة فى القبر الواحد، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، غير أن الشافعى وأحمد، قالوا ذلك فى موضع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 الضرورات. وحجتهم حديث جابر المتقدم، وقال: يقدم أسنهم وأكثرهم أخذًا للقرآن، ويقدم الرجل أمام المرأة. قال المهلب: وهذا خطاب للأحياء أن يتعلموا القرآن، ولا يغفلوه حين أكرم الله حملته فى حياتهم وبعد مماتهم. والفَرط: المتقدم. والنمرة: كساء من شعر أو شقة من شعر. عن الطبرى. وقال ابن السكيت: إذا نسج الصوف وجعل له هدب، فهى نمرة وبرد وشملة. 58 - باب الإذْخِرِ وَالْحَشِيشِ فِى الْقَبْرِ / 79 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (حَرَّمَ اللَّهُ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِى وَلا تَحِلَّ لأحَدٍ بَعْدِى، أُحِلَّتْ لِى سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لا يُخْتَلَى خَلاهَا، وَلا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا، إِلا لِمُعَرِّفٍ) ، قَالَ الْعَبَّاسُ: إِلا الإذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا، فَقَالَ: (إِلا الإذْخِرَ) . قال المؤلف: اتفق العلماء على جواز قطع الإذخر خاصة من منبته بمكة، وأن غيره من النبات محرم قطعه، وأما الحشيش فإنه الورق الساقط والعشب المنكسر، ويجوز عند العلماء استعماله، وإنما يحرم قطعه من منبته فقط. وفى هذا الحديث جواز استعمال الإذخر وما جانسه من الحشيش الطيب الرائحة فى قبور الأموات، وأهل مكة يستعملون من الإذخر دريره ويطيبون بها أكفان الموتى، ففهم البخارى أن ما كان من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 النبات فى معنى الإذخر، فهو داخل فى الإباحة، كما أن المسك وما جانسه من الطيب فى الحنوط داخل فى معنى إباحة الكافور للميت، وسيأتى معنى هذا الحديث فى آخر كتاب الحج فى أبواب أحكام الحرم، إن شاء الله تعالى. 59 - باب هَلْ يُخْرَجُ الْمَيِّتُ مِنَ الْقَبْرِ وَاللَّحْدِ لِعِلَّةٍ / 80 - فيه: جَابِر، أَتَى النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَبْدَاللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ، فَأَمَرَ بِهِ، فَأُخْرِجَ، فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَكَانَ كَسَا عَبَّاسًا قَمِيصًا. وَقَالَ أَبُو هَرُيرة: وَكَانَ عَلَى النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَمِيصَانِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبْدِاللَّهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلْبِسْ أَبِى قَمِيصَكَ الَّذِى يَلِى جِسْدَكَ، قَالَ سُفْيَانُ: فَيُرَوْنَ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه الصلاة والسلام، أَلْبَسَ عَبْدَاللَّهِ قَمِيصَهُ مُكَافَأَةً لِمَا صَنَعَ. / 81 - وفيه: جَابِر، لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِى أَبِى مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: مَا أُرَانِى إِلا مَقْتُولا فِى أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ رسول الله، وَإِنِّى لا أَتْرُكُ بَعْدِى أَعَزَّ عَلَىَّ مِنْكَ غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَإِنَّ عَلَىَّ دَيْنًا فَاقْضِ، وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا، فَأَصْبَحْنَا، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ، وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 فِى قَبْره، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِى أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ آخَرِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ. قال المهلب: فى هذا الحديث جواز إخراج الميت بعد ما يدفن إذا كان لذلك معنى، مثل أن ينسى غسله أو ما أشبه ذلك. قال ابن المنذر: اختلف العلماء فى النبش عمن دفن ولم يغسل، فكلهم يجيز إخراجه وغسله، هذا قول مالك، والثورى، والشافعى، إلا أن مالكًا، قال: ما لم يتغير، فى رواية على بن زياد عنه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا وضع فى اللحد وغطى بالتراب، ولم يغسل، لم ينبغ لهم أن ينبشوه من قبره، وهو قول أشهب، والقول الأول أصح، بدليل حديث جابر. ولذلك اختلفوا فيمن دفن بغير صلاة، قال ابن القاسم: يخرج بحدثان ذلك ما لم يتغير حتى يغسل ويصلى عليه. وهو قول سحنون، وقال أشهب: إن ذكروا ذلك قبل أن يهال عليه التراب، أخرج وصلى عليه، وأن أهالوا عليه التراب، فليترك، وإن لم يُصل عليه، وروى ابن نافع، عن مالك فى (المسبوط) : إذا نُسيت الصلاة على الميت حتى يفرغ من دفنه، لا أرى أن ينبشوه لذلك، ولا يصلى على قبره، ولكن يدعون له. ومن كتاب ابن سحنون: وإذا نسوا فى القبر ثوبًا، أو كساءً لرجل، فإنه ينبش ويخرج، وفى العتبية، قال سحنون: ولو ادعى رجل أن الثوب الذى على الكفن له أو كان خاتمًا أو دينارًا، فإن كان ذلك يعرف، أو أقرَّ بِهِ أهل الميت، ولم يَدَّعُوه لهم أو للميت، جعل لهم سبيل إلى إخراج الميت. وفى سماع عيسى عن ابن القاسم: إذا دفن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 فى ثوب ليس له فلينبش لإخراجه لربه، إلا بأن يطول أو يروح الميت فلا أرى لذلك سبيلاً. وفى قول جابر: (نفث عليه من ريقه) حجة على من قال: إن ريق ابن آدم ونخامته نجس، وهو قول يروى عن سلمان الفارسى، والعلماء كلهم على خلافه، والسنن وردت بردِّه، ومعاذ الله أن يكون ريق النبى نجسًا، وينفثه على وجه التبرك به، وهو صلى الله عليه عَلَّمنا النظافة والطهارة، وبه طهرنا الله من الأدناس. وجماعة الفقهاء يقولون بطهارة ريق ابن آدم ونخامته على نص هذا الحديث، وفيه أن الشهداء لا تأكل الأرض لحومهم، ويمكن أن يكون ذلك فى قتلى أُحُد خاصة، ويمكن أن يشركهم فى ذلك غيرهم ممن خصه الله بذلك من خيار خلقه، ومثل هذا الحديث ما روى مالك فى الموطأ، عن عبد الرحمن بن أبى صعصعة، أنه بلغه أن عمرو بن الجموح، وعبد الله بن عمرو الأنصاريين كانا قد حفر السيل قبريهما، وهما ممن استشهد يوم أُحُد، فحفر عنهما ليُغيَّرا من مكانهما، فَوُجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس، وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك، فأميطت يداه عن جرحه، ثم أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين أُحُد وبين يوم حُفر عنهما ست وأربعون سنة. وروى ابن عيينة، عن أبى الزبير، عن جابر، قال: لما أراد معاوية أن يُجرىَ العَيْنَ بأُحُد، نودى بالمدينة: من كان له قتيل فليأت. قال جابر: فأتيناهم فأخرجناهم رطابًا يتثنون، فأصابت المسحاة أصبع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 رجل منهم فانفطرت دمًا. وقال سفيان: بلغنى أنه حمزة ابن عبد المطلب، وهذا الوقت غير الوقت الذى أخرج فيه جابر أباه من قبره. 60 - باب الشَّقِّ وَاللَّحْدِ فِى الْقَبْرِ وسمى اللّحْدِ، لأنه فِى ناحية ملتحدًا معتدلاً، ولو كان مستقيمًا لكان جرفًا. / 82 - فيه: جَابِر، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَجْمَعُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: (أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟) فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا، قَدَّمَهُ فِى اللَّحْدِ، فَقَالَ: (أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاءِ. . . . . .) الحديث. قال عيسى بن دينار: اللحد أحب إلى العلماء، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لُحِدَ له، ونصب على لحده اللبن، ولَحَد (صلى الله عليه وسلم) لابنه إبراهيم ونصب عليه اللبن، ولحد لأبى بكر وعمر، وأوصى عمر أهله: إذا وضعتمونى فى لحدى فأفضوا بخدى إلى الأرض. وأوصى ابن عمر أن يلحد له، واستحب ذلك النخعى، ومالك، وأبو حنيفة، وأصحابه، وإسحاق، وقالوا: هذا الذى اختار الله لنبيه. وقال عيسى بن دينار: اللحد: أن يحفر له تحت الجرف فى حائط قبلة القبر. وفى سماع ابن غانم: اللحد والشق كل واسع، واللحد أحب إلىّ. وقال الشافعى: إن كانت أرضًا شديدة لُحد لهم، وإن كانت رقيقة شق لهم. وقد روى عن الرسول من حديث جرير وغيره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 أنه قال: (اللحد لنا، والشق لغيرنا) ، ولهذا الحديث، والله أعلم، كره الشق. 61 - باب إِذَا أَسْلَمَ الصَّبِىُّ فَمَاتَ هَلْ يُصَلَّى عَلَيْهِ؟ وَهَلْ يُعْرَضُ عَلَى الصَّبِىِّ الإسْلامُ؟ وَقَالَ الْحَسَنُ وَشُرَيْحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ: إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا، فَالْوَلَدُ مَعَ الْمُسْلِمِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ أُمِّهِ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ أَبِيهِ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، وَقَالَ: الإسْلامُ يَعْلُو وَلا يُعْلَى. / 83 - فيه: ابْن عُمَر، قال: انْطَلَقَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى رَهْطٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ، حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، عِنْدَ أُكُمِ بَنِى مَغَالَةَ، وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ الْحُلُمَ، فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لابْنِ صَيَّادٍ: (تَشْهَدُ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ) ؟ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأمِّيِّينَ، فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَتَشْهَدُ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ؟ فَرَفَضَهُ، وَقَالَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ، فَقَالَ لَهُ: (مَاذَا تَرَى؟) قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: يَأْتِينِى صَادِقٌ وَكَاذِبٌ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (خُلِّطَ عَلَيْكَ الأمْرُ) ، ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا) ، فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: هُوَ الدُّخُّ، فَقَالَ: (اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ) ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِى أَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَالَ رسول الله: (إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلا خَيْرَ لَكَ فِى قَتْلِهِ) . وَقَالَ سَالِمٌ، عن ابْنَ عُمَر: انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ النّبِىَ، - عليه السلام -، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَى النَّخْلِ الَّتِى فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ، وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ ابْنُ صَيَّادٍ، فَرَآهُ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ -[يَعْنِى فِى قَطِيفَةٍ] لَهُ - فِيهَا رَمْرَمةٌ، فَرَأَتْ أمُّ ابْنِ صَيّادٍ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَتْ لابْنِ صَيَّادٍ: يَا صَافِ - وَهُوَ اسْمُ ابْنِ صَيَّادٍ - هَذَا مُحَمَّدٌ، فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ) ، وَقَالَ شُعَيْبٌ: رَمْرَمَةٌ فَرَصَهُ. / 84 - وفيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ غُلامٌ يَهُودِىٌّ يَخْدُمُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ الرسول يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: (أَسْلِمْ) ، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ، وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ، فَخَرَجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ يَقُولُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ) . / 85 - وفيه: ابْنَ عَبَّاس، كُنْتُ أَنَا وَأُمِّى مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، أَنَا مِنَ الْوِلْدَانِ، وَأُمِّى مِنَ النِّسَاءِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: يُصَلَّى عَلَى كُلِّ مَوْلُودٍ مُتَوَفًّى، وَإِنْ كَانَ لِغَيَّةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِطْرَةِ الإسْلامِ، يَدَّعِى أَبَوَاهُ الإسْلام، َ أَوْ أَبُوهُ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ عَلَى غَيْرِ الإسْلامِ، إِذَا اسْتَهَلَّ صَارِخًا صُلِّىَ عَلَيْهِ، وَلا يُصَلَّى عَلَى مَنْ لا يَسْتَهِلُّ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سِقْطٌ، وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُحَدِّثُ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ. . . .) الحديث. قال المهلب: يُصلى على الصبى الصغير المولود فى الإسلام، لأنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 كان على دين أبويه، وأما الصغير العجمى، فإنه يعرض عليه الإسلام، لعرض رسول الله على ابن صياد بقوله: (أتشهد أنى رسول الله) ؟ ولعرضه الإسلام على الصبى اليهودى الذى كان يخدمه. وقال ابن القاسم: إذا أسلم الصغير وقد عقل الإسلام، فله حكم المسلمين فى الصلاة عليه، ويباع على النصرانى إن ملكه، لأن مالكًا يقول: لو أسلم وقد عقل الإسلام، ثم بلغ فرجع عنه أجبر عليه. قال أشهب: وإن لم يعقله ثم أجبر الذمى على بيعه، ولا يؤخذ الصبى بإسلامه إن بلغ. وأجمع العلماء فى الطفل الحربى يُسبى ومعه أبواه أن إسلام الأب إسلام له، واختلفوا إذا أسلمت الأم، فذهب مالك إلى أنه على دين أبيه، وحجته إجماع العلماء أنه ما دام مع أبويه لم يلحقه، فحكمه حكم أبويه أبدًا حتى يبلغ، فكذلك إذا سبى لا يغير السباء حكمه حتى يبلغ، فيعبر عن نفسه، وكذلك إن مات لا يصلى عليه، وهو قول الشعبى. وقال أبو حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد: إسلام الأم إسلام للابن، كقول الحسن وشريح، وهو قول ابن وهب صاحب مالك، ويصلى عليه إن مات عندهم. وقال سحنون: إنما يكون إسلام الأم إسلام له إذا لم يكن معه أبوه، وهو على دين أمه. قال عبد الواحد: وقول سحنون يعضده قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فأبواه يهودانه، أو ينصرانه) ، فشرك بينهما فى ذلك، فإذا انفراد أحدهما دخل فى معنى الحديث، وهذا معنى رواية معن عن مالك ومن وافقه. وإنما دعا النبى، - عليه السلام -، اليهودى الذى خدمه إلى الإسلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 بحضرة أبيه، لأن الله تعالى أخذ عليه فرض التبليغ لعباده، ولا يخاف فى الله لومة لائم. واختلفوا إذا لم يكن معه أبواه، ووقع فى المقاسم دونهما، ثم مات فى ملك مشتريه، فقال مالك فى المدونة: لا يصلى عليه إلا أن يجيبه إلى الإسلام بأمر يعرف أنه عفله، وهو المشهور من مذهبه. وروى معن: إذا لم يكن معه أحد من آبائه ولم يبلغ أن يتدين أو يُدْعَى، ونوى سيده الإسلام صلى عليه، وأحكامه أحكام المسلمين فى الدفن فى مقابر المسلمين والموارثة، وهو قول ابن الماجشون، وابن دينار، وأصبغ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، والأوزاعى، والشافعى. واتفق جمهور العلماء على أنه لا يصلى على السقط حتى يستهل، وهو قول مالك والكوفيين، والأوزاعى، والشافعى، وروى عن ابن عمر أنه يصلى عليه وإن لم يستهل، وهو قول أحمد وإسحاق، ذكره ابن المنذر، والصواب قول الجمهور، لأن من لم يستهل لم تصح له حياة، ولا يقال فيه أنه ولد على الفطرة، وإنما سن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الصلاة على من مات ممن تقدمت له حياة، لا من لم تصح له حياة. قال المهلب: وفى حديث ابن صياد من الفقه جواز التجسس على من يخشى منه فساد الدين والدنيا، وهذا الحديث يبين أن قوله تعالى: (ولا تجسسوا) [الحجرات: 12] ليس على العموم، وإنما المراد به عن التجسس على من لم يخش منه القدح فى الدين، ولم يضمر الغل للمسلمين، واستتر بقبائحه، فهذا الذى حاله التوبة والإنابة، وأما من خُشى منه مثل ما خُشى من ابن صياد، أو من كعب بن الأشرف وأشباههما ممن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 كان يضمر الفتك بأهل الإسلام، فجائز التجسس عليه، وإعمال الحيلة فى أمره إذا خُشى منه. وقد ترجم لحديث ابن صياد فى كتاب الجهاد باب (ما يجوز من الاحتيال والحذر على من تخشى معرته) . وفيه من الفقه: أن للإمام أو الرئيس أن يعمل نفسه فى أمور الدين ومصالح المسلمين، وإن كان له من يقوم فى ذلك مقامه. وفيه: أن للإمام أن يهتم بصغار الأمور، ويبحث عنها خشية ما يئول منها من الفساد. قال عبد الواحد: قوله: (إن يكن هو فلن تسلط عليه) ، يعنى إن يكن الدجال فلن تسلط عليه، لأنه لابد أن ينفذ فيه قدر الله. وفيه: أنه يجب التثبت فى أصل التهم، وأن لا تستباح الدماء إلا بيقين، لقوله: (فإن لم يكن هو فلا خير لك فى قتله) ، وقيل: إن للإمام أن يصبر ويعفو إذا جُنى عليه، أو قوبل بما لا ينبغى، لقول ابن صياد للنبى: (أشهد أنك رسول الأميين) ، ولم يعاقبه. وفيه: أن للإمام والرئيس أن يكلم الكاهن، والمنجم على سبيل الاختبار لما عندهم، والعيب لما يَدَّعُونهُ، والإبطال لما ينتحلونه. وقال صاحب (العين) : الدخ، الدخان، وقوله (صلى الله عليه وسلم) لابن صياد: (اخسأ فلن تعدو قدرك) أى لن تعدو الكهانة، وإنما أنت كاهن ودجال، وقال صاحب (العين) : الزمزمة، أصوات العلوج عند الأكل، والزمزمة من الرعد ما لم يفصح. 62 - باب إِذَا قَالَ الْمُشْرِكُ عِنْدَ الْمَوْتِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ / 86 - فيه: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ أَبِى أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لأبِى طَالِبٍ: (أى عَمِّ، قُلْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 بِهَا عِنْدَ اللَّهِ) ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ، آخِرَ مَا كَلَّمَهُم: ْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَمَا وَاللَّهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ. . .) . قال المهلب: إنما تنفع كلمة التوحيد لمن قالها قبل المعاينة للملائكة التى تقبض الأرواح، فحينئذ تنفعه شهادة التوحيد، وهو الذى يدل عليه كتاب الله، قال تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت) [النساء: 17] ، يعنى حضور ملك الموت، وهى المعاينة لقبض روحه، ولا يراهم أحد إلا عند الانتقال من الدنيا إلى دار الآخرة فَعَلِمَ ما انتقل إليه حين أدركه الغرق، بقوله: (آمنت أنه لا إله إلا الذى آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) [يونس: 90] فقيل له: (الآن وقد عصيت قبل) [يونس: 91] وجاء فى التفسير أنه لما عاين ملك الموت، ومن معه من الملائكة أيقن، قال: آمنت أنه لا إله إلا الذى آمنت به بنو إسرائيل. حثا جبريل فى فمه الحمأة ليمنعه استكمال التوحيد حنقًا عليه، ويدل على ذلك قوله: (يوم يأتى بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل) [الأنعام: 158] ، أى لما رأى الآية التى جعلها الله علامة لانقطاع التوبة وقبولها، لم ينفعه ما كان قبل ذلك كما لم ينفع الإيمان بعد رؤية ملك الموت. قال المؤلف: وقد روى عن الرسول أنه قال لعمه عند الموت: (قل لا إله إلا الله، أحاج إليك بها عند الله) ، فإن قال قائل: فأى محاجة يحتاج إليها من وافى ربه بما يدخله به الجنة؟ . فالجواب: أنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 يحتمل وجوهًا فى التأويل: أحدها: أن يكون ظن (صلى الله عليه وسلم) أن عمه اعتقد أن من آمن فى مثل حاله لا ينفعه إيمانه، إذ لم يقارنه عمل سواه من صلاة وصيام وزكاة وحج وشرائط الإسلام كلها، فأعلمه (صلى الله عليه وسلم) أن من قال: لا إله إلا الله، عند موته أنه يدخل فى جملة المؤمنين، وإن تعرى من عمل سواها. ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن يكون أبو طالب قد عاين أمر الآخرة، وأيقن بالموت، وصار فى حالة من لا ينتفع بالإيمان لو آمن، وهو الوقت الذى قال فيه: أنا على ملة عبد المطلب عند خروج نفسه، فرجا له (صلى الله عليه وسلم) إن قال: لا إله إلا الله، وأيقن بنبوته أن يشفع له بذلك، ويحاج له عند الله فى أن يتجاوز عنه، ويتقبل منه إيمانه فى تلك الحال، ويكون ذلك خاصًا لأبى طالب وحده لمكانه من الحماية والمدافعة عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وقد روى مثل هذا المعنى عن ابن عباس. قال المؤلف: ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) قد نفعه وإن كان مات على غير الإسلام، لأنه يكون أخف أهل النار عذابًا، فنفعه له لو شهد بشهادة التوحيد، وإن كان ذلك عند المعاينة، أحرى بأن يكون، ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن أبا طالب كان ممن عاين براهين النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وصدق معجزاته، ولم يشك فى صحة نبوته، وإن كان ممن حملته الأنفة وحمية الجاهلية على تكذيب النبى. وكان سائر المشركين ينظرون إلى رؤسائهم ويتبعون ما يقولون، فاستحق أبو طالب ونظراؤه على ذلك من عظيم الوزر وكبير الإثم أن باءوا بإثمهم على تكذيب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فرجا له (صلى الله عليه وسلم) المحاجة بكلمة الإخلاص عند الله، حتى يسقط عنه إثم العناد والتكذيب لما قد تبين حقيقته وإثم من اقتدى به فى ذلك، وإن كان الإسلام يهدم ما قبله لكن آنسه بقوله: (أحاج لك بها عند الله) لئلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 يتردد فى الإيمان، ولا يتوقف عليه لتماديه على خلاف ما تبين حقيقته، وتورطه فى أنه كان مضلا لغيره. وقيل: إن قوله: (أحاج لك بها عند الله) كقوله: (أشهد لك بها عند الله) لأن الشهادة المرجحة له فى طلب حقه، ولذلك ذكر البخارى هذا الحديث فى هذا الباب بلفظ (الشهادة) لأنه أقرب للتأويل، وذكر قوله: (أحاج لك بها عند الله) فى قصة أبى طالب فى كتاب مبعث النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لاحتمالها التأويل، والله الموفق. 63 - باب الْجَرِيدِة عَلَى الْقَبْرِ وَأَوْصَى بُرَيْدَةُ الأسْلَمِيُّ أَنْ يُجْعَلَ على قَبْرِه جَرِيدَانِ. وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ فُسْطَاطًا عَلَى قَبْرِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، فَقَالَ: انْزِعْهُ يَا غُلامُ، فَإِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ. وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ: رَأَيْتُنِى وَنَحْنُ شُبَّانٌ فِى زَمَنِ عُثْمَانَ، وَإِنَّ أَشَدَّنَا وَثْبَةً الَّذِى يَثِبُ قَبْرَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، حَتَّى يُجَاوِزَهُ. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ: أَخَذَ بِيَدِى خَارِجَةُ، فَأَجْلَسَنِى عَلَى قَبْرٍ، وَأَخْبَرَنِى عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ ابْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: إِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِمَنْ أَحْدَثَ عَلَيْهِ. وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَجْلِسُ عَلَى الْقُبُورِ. / 87 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، مَرَّ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ، فَقَالَ: (إِنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِى كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ) ، ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، ثُمَّ غَرَزَ فِى كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ فَقَالَ: (لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا) . وترجم له باب: (عذاب القبر من الغيبة والبول) . قال المؤلف: إنما خص الجريدتين للغرز على القبر من دون سائر النبات والثمار، والله أعلم، لأنها أطول الثمار بقاءً، فتطول مدة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 التخفيف عنهما، وهى شجرة شبهها (صلى الله عليه وسلم) بالمؤمن، وقيل: إنها خلقت من فضلة طينة آدم، وإنما أوصى بريدة أن يجعل على قبره الجريدتان تأسيًا بالنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وتبركًا بفعله، ورجاء أن يخفف عنه، وقوله: (لعله أن يخفف عنهما) ف (لعل) معناها عند العرب: الترجى والطمع. ومعنى الحديث: الحض على ترك النميمة، والتحرز من البول، والإيمان بعذاب القبر، كما يرحم الله جماعة أهل السّنة، وإنما ترجم له باب (عذاب القبر من الغيبة والبول) ، وفى نص الحديث: (النميمة) فإنه استدل البخارى منه على أن تلك النميمة كان فيها شىء من الغيبة، والنميمة والغيبة محرمتان، وهما فى النهى عنهما سواء. وأما الجلوس على القبور فقد رويت أحاديث فى النهى عن القعود عليها، روى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرنى أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله، قال: سمعت النبى، (صلى الله عليه وسلم) (ينهى أن يقعد على القبور، أو يبنى أو يجصص عليها) . وعن أبى بكرة، وابن مسعود: (لأن أطأ على جمرة نار حتى تطفأ أحب إلىّ من أن أطأ على قبر) . وأخذ النخعى، ومكحول، والحسن، وابن سيرين بهذه الأحاديث، وجعلوها على العموم، وكرهوا المشى على القبور والقعود عليها، وأجاز مالك، والكوفيون الجلوس على القبور، وقالوا: إنما نهى عن القعود عليها للمذاهب، فيما نرى والله أعلم، يريد حاجة الإنسان. واحتج بعضهم بأن على بن أبى طالب كان يتوسد القبور، ويضطجع عليها، وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف، أن زيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 ابن ثابت، قال: (هلم يا ابن أختى أخبرك، إنما نهى رسول الله عن الجلوس على القبر لحدث بول أو غائط) ، فبين زيد فى هذا الحديث الجلوس المنهى عنه فى الآثار الأول ما هو، وروى مثله عن أبى هريرة، ذكره ابن وهب فى موطئه. قال الطحاوى: فعلمنا أن المقصود بالنهى هو الجلوس للبول والغائط لا ما سواهما، وقد تقدم فى كتاب الطهارة من معنى هذا الحديث ما تعلق بالباب، وسيأتى منه أيضًا فى كتاب الأدب، إن شاء الله تعالى. 64 - باب مَوْعِظَةِ الْمُحَدِّثِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَقُعُودِ أَصْحَابِهِ حَوْلَهُ / 88 - فيه: عَلِىٍّ كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَعَدَ، وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ، فَنَكَّسَ، وَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً) ، فَقَالَ رَجُلٌ لرَسُولَ اللَّهِ: أَفَلا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا، وَنَدَعُ الْعَمَلَ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، قَالَ: (أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (الآيَةَ) . قال المؤلف: فيه جواز القعود عند القبور والتحدث عندها بالعلم والمواعظ. قال المهلب: ونَكْتُهُ (صلى الله عليه وسلم) بالمخصرة فى الأرض هو أصل ما أفتى به أهل العلم من تحريك الإصبع فى الصلاة للتشهد، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 ومعنى النكت بالمخصرة هو إشارة إلى المعانى، وتفصيل الكلام وإحضار القلب للفصول، والمعنى، والمخصرة: عصا، وهذا الحديث أصل لأهل السُّنَّة فى أن السعادة والشقاء خلق لله، بخلاف قول القدرية الذين يقولون: إن الشر ليس بخلق لله، وفيه رد على أهل الجبر، لأن المجبر لا يأتى الشئ إلا وهو يكرهه، والتيسير ضد الجبر، ألا ترى قول الرسول: (إن الله تجاوز لى عن أمتى ما استكرهوا عليه) والتيسير هو أن يأتى الإنسان الشىء وهو يحبه، وسيأتى بقية الكلام فى هذا الحديث فى كتاب القدر، إن شاء الله تعالى. 65 - باب مَا جَاءَ فِى قَاتِلِ النَّفْسِ / 89 - فيه: ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ، قال: قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإسْلامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ عُذِّبَ بِهِا فِى نَارِ جَهَنَّمَ) . / 90 - وفيه: جُنْدَب، عن الرسول، قَالَ: (كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بَدَرَنِى عَبْدِى بِنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) . / 91 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الَّذِى يَخْنُقُ نَفْسَهُ، يَخْنُقُهَا فِى النَّارِ، وَالَّذِى يَطْعُنُهَا، يَطْعُنُهَا فِى النَّارِ) . أجمع الفقهاء وأهل السُّنَّة أن من قتل نفسه أنه لا يخرج بذلك عن الإسلام، وأنه يصلى عليه، وإثمه عليه كما قال مالك، ويدفن فى مقابر المسلمين، ولم يكره الصلاة عليه إلا عمر بن عبد العزيز، والأوزاعى فى خاصة أنفسهما، والصواب قول الجماعة، لأن الرسول سن الصلاة على المسلمين، ولم يستثن منهم أحدًا، فيصلى على جميعهم الأخيار والأشرار إلا الشهداء الذين أكرمهم الله بالشهادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 قال المهلب: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (بدرنى عبدى بنفسه، حرمت عليه الجنة) وسائر الأحاديث، فحملها عند العلماء فى وقت دون وقت إن أراد الله أن ينفذ عليه الوعيد، لأن الله فى وعيده للمذنبين بالخيار عند أهل السُّنَّة، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه، فإن عذبه فإنما يعذبه مدة ما ثم يخرجه بإيمانه إلى الجنة، ويرفع عنه الخلود والتأبيد على ما جاء فى نص القرآن وحديث الرسول، فالقرآن قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 48، 116] ، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من قال: لا إله إلا الله، حرمه الله على النار) ، يعنى حرم خلوده على النار. وقوله: (من حلف بملة غير الإسلام كاذبًا فهو كما قال) كاذب لا كافر، ولا يخرج بهذا القول من الإسلام إلى الدين الذى حلف به، لأنه لم يقل ما يعتقده، ولذلك استحق اسم الكذب، فوجب أن يكون كما قال كاذبًا لا كافرًا. قال غيره: ومعنى الحديث النهى عن الحلف بما حلف به من ذلك والزجر عنه، وتقدير الكلام: من حلف بملة غير الإسلام كاذبًا متعمدًا، فهو كما قال، يعنى فهو كاذب حقًا، لأنه حين حلف بذلك ظن أن إثم الكذب واسمه ساقطان عنه لاعتقاده أنه لا حرمة لما حلف به، لكن لما تعمد ترك الصدق فى يمينه، وعدل عن الحق فى ذلك، لزمه اسم الكذب، وإثم الحلف، فهو كاذب كذبتين: كاذب بإظهار تعظيم ما يعتقد خلافه، وكذب بنفيه ما يعلم إثباته أو بإثبات ما يعلم نفيه. فإن ظن ظان أن فى هذا الحديث دليل على إباحة الحلف بملة غير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 الإسلام صادقًا لاشتراطه فى الحديث أن يحلف به كاذبًا، قيل له: ليس كما توهمت، لورود نهى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، عن الحلف بغير الله نهيًا مطلقًا، فاستوى فى ذلك الكاذب والصادق، وفى النهى عنه، وسيتكرر هذا الحديث فى كتاب الأيمان والنذور، وفى كتاب الأدب، ويأتى هناك من الكلام ما يقتضيه التبويب، إن شاء الله تعالى. 66 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّلاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ / 92 - فيه: عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا مَاتَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ بْنُ سَلُولَ دُعِىَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِيُصَلِّىَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَثَبْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُصَلِّى عَلَى ابْنِ أُبَىٍّ، وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا أُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ: (أَخِّرْ عَنِّى يَا عُمَرُ) ، فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ، قَالَ: (إِنِّى خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، لَوْ أَعْلَمُ أَنِّى إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا) ، قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلا يَسِيرًا، حَتَّى نَزَلَتِ الآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةٌ: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا (إِلَى قَوْلِهِ: (وَهُمْ فَاسِقُونَ) [التوبة: 84] ، قَالَ: فَتَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَئِذٍ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قال المؤلف: فرض على جميع المؤمنين، متعين على كل واحد منهم ألا يدعو للمشركين، ولا يُستغفر لهم إذا ماتوا على شركهم لقوله تعالى: (ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين (إلى) الجحيم) [التوبة: 113] ، فإن قيل: إن إبراهيم استغفر لأبيه وهو كافر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 فالجواب: أن الله قد بيَّن عذره فى ذلك، فقال: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) [التوبة: 114] ، فدعا له وهو يرجو إجابته ورجوعه إلى الإيمان) فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه) [التوبة: 114] . ففى هذا من الفقه: أنه جائز أن يُدعى لكل من يرجى من الكفار إنابته بالهداية ما دام حيا، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لما شَمَّتَهُ أحد المنافقين واليهود قال: (يهديكم الله ويصلح بالكم) ، وقد يعمل الرجل بعمل أهل النار، ويختم له بعمل أهل الجنة. وفيه: تصحيح القول بدليل الخطاب، لاستعمال الرسول له، ذلك أن إخبار الله أنه لا يغفر له ولو استغفر له سبعين مرة، يحتمل أنه لو زاد على السبعين أنه يغفر له لكن لما شهد الله أنه كافر بقوله: (ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله) [التوبة: 80] دلت هذه الآية على تغليب أحد الاحتمالين، وهو أنه لا يغفر له لكفره، فلذلك أمسك (صلى الله عليه وسلم) عن الدعاء له. قال الطبرى: وفيه الإبانة عن نهى الله ورسوله عن الصلاة على المنافقين، لاعتقادهم وإن كانوا يظهرون الإسلام اعتصامًا به وحقنًا لدمائهم، فأما القيام على قبورهم فغير محرم على غير رسول الله، بل جائز لوليِّه القيام عليه لإصلاحه ودفنه، وبذلك صح الخبر عن الرسول، وعمل به أهل العلم بعده، فدل ذلك أن القيام على قبره كان مخصوصًا بتحريمه رسول الله. والدليل على صحة ذلك ما حدثنا إسماعيل بن موسى، حدثنا شريك بن عبد الله، عن أبى إسحاق، عن ناجية بن كعب، عن علىّ، قال: لما مات أبو طالب أتيت النبى، فقلت له: إن عمك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 الضال قد هلك، قال: اذهب فواره، ولا تحدثن شيئًا، فأتيته، فأمرنى أن اغتسل، ودعا لى بدعوات ما يسرنى أن لى بها حمر النعم. وروى الثورى، عن الشيبانى، عن سعيد ابن جبير، قال: مات رجل يهودى وله ابن مسلم، فذكر ذلك لابن عباس، قال: كان ينبغى له أن يمشى معه ويدفنه، ويدعو له بالصلاح ما دام حيًا، فإذا مات وكله إلى شأنه، ثم قرأ: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه) [التوبة: 114] الآية. قال النخعى: توفيت أم الحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة، وهى نصرانية، فاتبعها أصحاب رسول الله تكرمة للحارث ولم يصلوا عليها. قال المؤلف: وفى إقدام عمر على مراجعة الرسول فى الصلاة عليه من الفقه: أن الوزير الفاضل الناصح لا حرج عليه أن يخبر سلطانه بما عنده من الرأى، وإن كان مخالفًا لرأيه، وكان عليه فيه بعض الجفاء إذا علم فضل الوزير وثقته وحسن مذهبه، فإنه لا يلزمه اللوم على ما يؤديه اجتهاده إليه، ولا يتوجه إليه سوء الظن، وأن صَبْرَ السلطان على ذلك من تمام الفضل، ألا ترى سكوت النبى عن عمر، وتركه الإنكار عليه، وفى رسول الله أكبر الأسوة. 67 - باب ثَنَاءِ النَّاسِ عَلَى الْمَيِّتِ / 93 - فيه: أَنَس، مَرُّوا بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (وَجَبَتْ) ، ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: (وَجَبَتْ) ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: (هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّة، ُ وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِى الأرْضِ) . / 94 - وفيه: عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ) ، فَقُلْنَا: وَثَلاثَةٌ؟ قَالَ: (وَثَلاثَةٌ) ، فَقُلْنَا: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: (وَاثْنَانِ) ، ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ. قال أبو جعفر الداودى: معنى هذا الحديث عند الفقهاء إذا أثنى عليه أهل الفضل والصدق، لأن الفسقة قد يثنون على الفاسق، فلا يدخلون فى معنى هذا الحديث، والمراد، والله أعلم، إذا كان الثناء بالشرِّ ممن ليس له بعدو، لأنه قد يكون للرجل الصالح العدو، فإذا مات عدوه ذَكَر عند ذلك الرجل الصالح شرًا، فلا يدخل الميت فى معنى هذا، لأن شهادته كانت لا تجوز عليه فى الدنيا، وإن كان عدلاً، للعداوة، والبشرُ غير معصومين. قال عبد الواحد: إن قال قائل: حديث أنس يعارضه قوله (صلى الله عليه وسلم) فى باب ما ينهى عنه من سب الأموات: (لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) . قيل له: حديث أنس هذا يجرى مجرى الغيبة فى الأحياء، فإن كان الرجل أغلب أحواله الخير، وقد تكون منه الفلتة، فالاغتياب له محرم، وإن كان فاسقًا معلنًا فلا غيبة فيه. فكذلك الميت إذا كان أغلب أحواله الخير لم يجز ذكر ما فيه من شر ولا سبه به، وإن كان أغلب أحواله الشر فيباح ذكره منه، وليس ذلك مما نهى عنه من سب الأموات، ويؤيد ذلك ما أجمع عليه أهل العلم من ذكر الكذابين وتجريح المجرَّحين. وفيه وجه آخر: وهو أن حديث: (لا تسبوا الأموات) عام، وسببه ما روى عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (أمسكوا عن ذى قبر) ، فيحتمل أن يكون (صلى الله عليه وسلم) أباح ذكر الميت بما فيه من غالب الشر عند موته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 خاصة، ليتعظ بذلك فساق الأحياء، فإذا صار الميت فى قبره وجب الإمساك عنه لإفضائه إلى ما قدم كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، فسقط التعارض. فإن قيل: فلا حجة فى جواز تجريح المحدثين، لأن الضرورة دعت إلى ذلك حياطة لحديث النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فجاز تخصيصهم للضرورة. قيل له: هو مثل الذى غلب عليه الفسق، فوجب ذكر فسقه تحذيرًا من حاله، وهو من هذا الباب، ومثله، مما لا اعتراض لك فيه، ذكره (صلى الله عليه وسلم) للذى يعمل حسنة وهو مؤمن، فبذلك غفر له، فذكره بقبيح عمله إذا كان الغالب على عمله الشرّ انتفع بخشية الله تعالى. قال المؤلف: فإن قال قائل: فإن حديث أنس مخالف لحديث عمر، لأنه لم يشترط فى الذين أثنوا على الجنازة خيرًا وشرًا عددًا من الناس لا يجزئ أقل منهم، وأحال فى ذلك (صلى الله عليه وسلم) ما يغلب على الرجل بعد موته عند جملة من الناس من ثناء الخير والشر، أنه المحكوم به له فى الآخرة، وقد جاء بيان هذا فى حديث آخر: (إن الله إذا أحب عبدًا أمر الملائكة أن تنادى فى السماء: ألا إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يجعل له القبول فى الأرض، وإذا أبغض عبدًا. . . .) كذلك فهو معنى قوله: (أنتم شهداء الله فى الأرض) لأن المحبة والبغضة من عنده تعالى، ويشهد لصحة هذا قوله تعالى: (وألقيت عليك محبة منى) [طه: 39] . فإن قيل: فهذا المعنى مخالف لحديث عمر، لأنه شرط فيه أربعة شهداء، أو ثلاثة، أو اثنين، وفى الحديث الأول شرط جملة كثيرة من المؤمنين، وإن لم يحصرهم عدد. قيل: ليس كما توهمت، وإنما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 اختلف العددان لاختلاف المعنيين، وذلك أن الثناء قد يكون بالسماع المتصل على الألسنة، فاستحب فى ذلك التواتر والكثرة، والشهادة لا تكون إلا بالمعرفة والعلم بأحوال المشهود له، فناب فى ذلك أربعة شهداء، وذلك على ما يكون من الشهادة، لأن الله جعل فى الزنا أربعة شهداء، فإن قصروا عن ذلك ناب فيه ثلاثة، فإن قصروا عن ذلك ناب فيه اثنان، وذلك أقل ما يجزئ من الشهادة على سائر الحقوق، رحمة من الله لعباده المؤمنين، وتجاوزًا عنهم حين أجرى أموره فى الآخرة على ما أجراه فى الدنيا، وقَبِلَ شهادة رجلين من عباده المؤمنين بعضهم على بعض فى أحكام الآخرة. روى ابن وضاح، قال: حدثنا محمد بن مصفى، حدثنا بقية، قال: حدثنا الضحاك بن حُمرة، عن صالح الأملوكى، عن حميد، عن أنس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (ما من ميت يموت فيشهد له رجلان من جيرته الأدنيين، فيقولان: اللهم لا نعلم إلا خيرًا، إلا قال الله لملائكته: أشهدكم أننى قد قبلت شهادتهم، وغفرت له ما لا يعلمون) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 68 - باب مَا جَاءَ فِى عَذَابِ الْقَبْرِ وَقَوْلُهُ: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ (إلى) الْهُونِ) [الأنعام: 93] . قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: الْهُونُ هُوَ الْهَوَانُ، وَالْهَوْنُ الرِّفْقُ، وَقَوْلُهُ تعالى: (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) [التوبة: 101] ، وَقَوْلُهُ: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (إلى) أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر: 45] . / 95 - فيه: الْبَرَاءِ بْنِ عَازِب، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (إِذَا أُقْعِدَ الْمُؤْمِنُ فِى قَبْرِهِ أُتِىَ ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ () [إبراهيم: 27] . وَقَالَ شُعْبَة: نَزَلَتْ فِى عَذَابِ الْقَبْرِ. / 96 - وفيه: ابْنَ عُمَر، اطَّلَعَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى أَهْلِ الْقَلِيبِ، فَقَالَ: (وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟) فَقِيلَ لَهُ: أتَدْعُو أَمْوَاتًا قَدْ جُيَّفُوا؟ فَقَالَ: (مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لا يُجِيبُونَ) . وقَالَتْ عَائِشَة: إِنَّمَا قَالَ الرسول: (إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الآنَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ) ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) [النمل: 80] . وَقد قَالَتْ عَائِشَة: أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا، فَذَكَرَتْ عَذَابَ الْقَبْرِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (نَعَمْ، عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ) ، فَمَا صَلَّى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صَلاةً إِلا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. / 97 - وفيه: أَسْمَاءَ، قَامَ النّبِىّ خَطِيبًا، فَذَكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ الذِّى يَفْتَتِنُ به الْمَرْءُ. / 98 - وفيه: أَنَس، قَالَ الرَسُول: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِى قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَان، ِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولانِ له: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ. . . .) ؟ الحديث (فَيُضْرَبُ بِمَطَرِقَة مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إلا الثَّقَلَيْنِ) . قال أبو بكر بن مجاهد: أجمع أهل السُّنَّة أن عذاب القبر حق، وأن الناس يُفتنون فى قبورهم بعد أن يُحيوا فيها ويُسألوا فيها، ويثبت الله من أحب تثبيته منهم. وقال أبو عثمان بن الحداد: وإنما أنكر عذاب القبر بشر المريسى والأصم وضرار، واحتجوا بقوله تعالى: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) [الدخان: 56] واحتجوا بمعارضة عائشة لابن عمر. قال القاضى أبو بكر بن الطيب وغيره: قد ورد القرآن بتصديق الأخبار الواردة فى عذاب القبر، قال تعالى: (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا) [غافر: 46] وقد اتفق المسلمون أنه لا غدوة ولا عشى فى الآخرة، وإنما هما فى الدنيا، فهم يعرضون مماتهم على النار قبل يوم القيامة، ويوم القيامة يدخلون أشد العذاب، قال تعالى: (ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) [غافر: 46] ، فإذا جاز أن يكون المكلَّف بعد موته معروضًا على النار غدوا وعشيًا، جاز أن يسمع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 الكلام ويمنع الجواب، لأن اللذة والعذاب تجىء بالإحساس، فإذا كان كذلك وجب اعتقاد رد الحياة فى تلك الأجساد، وسماعهم للكلام، والعقل لا يدفع هذا، ولا يوجب حاجة إلى بلة ورطوبة، وإنما يقتضى حاجتها إلى المحل فقط، فإذا صح رد الحياة إلى أجسامهم مع ما هم عليه من نقص البنية، وتقطع الأوصال، صح أن يوجد فيهم سماع الكلام، والعجز عن رد الجواب. وقد ذكر البخارى فى غزوة بدر بعد قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) ، قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم، توبيخًا ونقمة وحسرة وندمًا. وعلى تأويل قتادة فقهاء الأئمة وجماعة أهل السُّنَّة، وعلى ذلك تأوله عبد الله بن عمر، راوى الحديث عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) . قال القاضى: وليس فى قول عائشة ما يعارض قول ابن عمر، لأنه يمكن (صلى الله عليه وسلم) أن يكون قد قال فى قتلى بدر القولين جميعًا، ولم تحفظ عائشة إلا أحدهما، لأن القولين غير متنافيين، أن ما دعوا الله لا ينفى رد الحياة إلى أجسامهم، وسماعهم للنداء بعد موتهم إذا عادوا أحياء. وقال الطبرى فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون) ، اختلف السلف من العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت جماعة يكثر تعدادهم بالعموم، وقالت: إن الميت يسمع كلام الأحياء، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) لأهل القليب ما قال، وقال: (ما أنتم بأسمع منهم) ، واحتجوا بأحاديث فى معنى قوله فى الميت: (إنه ليسمع قرع نعالهم) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 ذكْرُ من قال يسمعون كلام الأحياء ويتكلمون، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن عوف، حدثنا عوف، عن جلاس، عن أبى هريرة، قال: (إن أعمالكم تعرض على أقربائكم من موتاكم، فإن رأوا خيرًا فرحوا به، وإن رأوا شرًا كرهوه، وإنهم يستخبرون الميت إذا أتاهم من مات بعدهم، حتى إن الرجل ليسأل عن امرأته أتزوجت أم لا؟ وحتى إن الرجل ليسأل عن الرجل، فإذا قيل له: قد مات، قالوا: هيهات ذهب، فإن لم يحسوه عندهم، قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب به إلى أمه الهاوية) . وروى ابن وهب، عن العطاف بن خالد، عن خالته، وكانت من العوابد، أنها كانت تأتى قبور الشهداء، قالت: صليت يومًا عند قبر حمزة بن عبد المطلب، فلما قمت، قلت: السلام عليكم فسمعت أذناى رد السلام يخرج من تحت الأرض، أعرفه كما أعرف أن الله خلقنى، وما فى الوادى داعٍ ولا مجيب، فاقشعرت كُلُّ شعرة منى. وعن عامر بن سعد: أنه كان إذا خرج إلى قبور الشهداء يقول لأصحابه: ألا تسلمون على الشهداء فيردون عليكم. وقال آخرون: معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) ما أنتم بأعلم أنه حق منهم، ورووا ذلك عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وذكروا قول عائشة حين أنكرت على ابن عمر، وقالت: إنما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 قال عليه السلام: إنهم ليعلمون الآن ما كنت أقول لهم الحق. قالوا: فخبر عائشة بين ما قلنا من تأويل قوله (صلى الله عليه وسلم) : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم. أنه يراد به ما أنتم بأعلم لا أنه خبر عن أنهم يسمعون أصوات بنى آدم وكلامهم، قالوا: ولو كانوا يسمعون كلام الناس وهم موتى، لم يكن لقوله: (إنك لا تسمع الموتى) [النمل: 80] ) وما أنت بمسمع من فى القبور) [فاطر: 22] معنى. قال الطبرى: والصواب من القول فى ذلك أن كلا الروايتين عن النبى فى ذلك صحيح لعدالة نقلتها، والواجب الإيمان بها، والإقرار بأن الله يُسمع من يشاء من خلقه بعد موتهم، ما شاء من كلام خلقه، ويُفهم ما يشاء منهم ما يشاء، ويُنعِّم من أحب منهم، ويعذب فى قبره الكافر، ومن استحق العذاب كيف أراد، على ما صحت به الأخبار عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) . وليس فى قوله: (إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من فى القبور) [فاطر: 22] ، حجة فى دفع ما صحت به الآثار من قوله لأصحابه فى أهل القليب: (ما أنتم بأسمع منهم) ، ولا فى إنكار من أنكر ما ثبت من قوله: (إنه ليسمع قرع نعالهم) إذا كان قوله: (وما أنت بمسمع من فى القبور) [فاطر: 22] ، و) إنك لا تسمع الموتى) [النمل: 80] محتملاً من التأويل وجهًا سوى ما تأوله من زعم أن الميت لا يسمع كلام الأحياء، وذلك أن يكون معناه: فإنك لا تسمع الموتى بطاقتك وقدرتك، إذ كان خالق السمع غيرك، ولكن الله هو الذى يُسمعهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 وذلك نظير قوله: (وما أنت بهاد العمى عن ضلاتهم) [النمل: 81] وذلك بالتوفيق والهداية بيد الله دون من سواه، فنفى عن نبيه أن يكون قادرًا أن يسمع الموتى إلا بمشيئة، كما نفى أن يكون قادرًا على هداية الضلال إلا بمشيئته، وإنما أنت نذير، فبلغ ما أُرسلت به. والثانى: أن يكون المعنى: فإنك لا تسمع الموتى إسماعًا ينتفعون به، لأنهم قد انقطعت عنهم الأعمال، وخرجوا من دار العمل إلى دار الجزاء، فلا ينفعهم دعاؤك إياهم إلى الإيمان بالله وبطاعته، فكذلك هؤلاء الذين كتب عليهم ربك أنهم لا يؤمنون، لا يسمعهم دعاؤك إياهم إسماعًا ينتفعون به، لأن الله قد حتم عليهم ألا يؤمنوا، كما حتم على أهل القبور من أهل الكفر أنهم لا ينفعهم بعد كونهم فى القبور عمل، لأن الآخرة ليست بدار امتحان، وإنما هى دار جزاء. وكذلك قوله: (إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من فى القبور) [فاطر: 22] الجهال، يريد أنك لا تقدر على إفهام من جعله الله جاهلاً، ولا تقدر على إسماع من جعله الله أصم عن الهدى، وفى صدر الآية ما يدل على هذا، لأنه قال: (وما يستوى الأعمى والبصير) [فاطر: 19] يعنى بالأعمى: الكافر، والبصير: المؤمن) ولا الظلمات ولا النور) [فاطر: 20] يعنى بالظلمات: الكفر، والنور: الإيمان،) ولا الظل ولا الحرور) [فاطر: 21] يعنى بالظل: الجنة، وبالحرور: النار،) وما يستوى الأحياء ولا الأموات) [فاطر: 22] يعنى بالأحياء: العقلاء، وبالأموات: الجهال، ثم قال: (إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من فى القبور (يعنى: إنك لا تسمع الجهال الذين كأنهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 موتى فى القبور، ولم يرد بالموتى الذين ضربهم مثلاً للجهال شهداء بدر، فيحتج علينا بهم، أولئك أحياء كما نطق التنزيل. وقال أبو عثمان بن الحداد: وليس فى قوله تعالى: (لا يذقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) [الدخان: 56] ما يعارض ما ثبت من عذاب القبر، فقال: (ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون) [آل عمران: 169] الآية، فلما كانت حياة الشهداء قبل محشرهم ليست برادة، لقوله تعالى: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) [الدخان: 56] ومن أنكر حياة الشهداء بعد موتهم قبل محشر الناس، وادعى أن قوله تعالى: (أحياء عند ربهم يرزقون) [آل عمران: 169] يوم القيامة أبطل ما اقتضاه قوله: (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) [آل عمران: 169] لأن الشهداء وغيرهم من جميع الناس يتوافون يوم القيامة، ويستحيل فيمن وافاه غيره أن يقال فى الذى وافاه أنه سيلحقه، ويقال فيه بأنه خلفه. قال غيره: والأخبار فى عذاب القبر صحيحة متواترة لا يصح عليها التواطؤ، وإن لم يصح مثلها لم يصح شىء من أمر الدين. واختلف أهل التأويل فى قوله تعالى: (سنعذبهم مرتين) [التوبة: 101] ، قال الحسن، وابن جريج: عذاب الدنيا وعذاب القبر، وقال مجاهد: القتل والسباء، وأما قوله: (فاليوم تجزون عذاب الهون) [الأحقاف: 20] فى الآخرة. وقال غيره: لما بعثوا وصاروا إلى النار قالت الملائكة: اليوم تجزون عذاب الهون، قال: الهوان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 69 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ / 99 - فيه: عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِب، قَالَ: خَرَجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَقَدْ وَجَبَتِ الشَّمْسُ، فَسَمِعَ صَوْتًا، فَقَالَ: (يَهُودُ تُعَذَّبُ فِى قُبُورِهَا) . / 100 - وفيه: ابْنَةُ خَالِدِ أم سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. / 101 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَدْعُو: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ) . قال المؤلف: هذه الآثار تشهد للآثار التى فى الباب قبل هذا، أن عذاب القبر حق على ما ذهب إليه أهل السُّنَّة، ألا ترى الرسول استعاذ بالله منه، وقد عصمه الله وطهره، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فينبغى لكل من علم أنه غير معصوم ولا مطهر أن يكثر التعوذ مما استعاذ منه نبيه، ففى أكرم الأكرمين أسوة. فإن قيل: فإذا أخبر الله نبيه أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما وجه استعاذته (صلى الله عليه وسلم) من شىء قد علم أنه قد أعيذ منه؟ . فالجواب: أن فى استعاذته (صلى الله عليه وسلم) من كل ما استعاذ منه إظهارًا للافتقار إلى الله، وإقرارًا بالنعم، واعترافًا بما يتجدد من شكره عليها ما يكون كفًا لها ألا ترى أنه كان يصلى حتى تتفطر قدماه فيقال له: يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيقول: (أفلا أكون عبدًا شكورًا) . فمن عظمت عليه نعم الله وجب عليه أن يتلقاها بعظيم الشكر، لاسيما أنبياءه وصفوته من خلقه الذين اختارهم، وخشيةُ العباد لله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 على قدر علمهم به. وفى استعاذته مما أُعيذ منه تعليم لأمته، وتنبيه لهم على الاقتداء به واتباع سُنته وامتثال طريقته، والله أعلم. 70 - باب الْمَيِّتِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ / 102 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . قال بعض أهل بلدنا: معنى العرض فى هذا الحديث الإخبار بأن الله موضعُ أعمالكم، والجزاء لها عند الله، وأريد بالتكرير بالغداة والعشى تذكارهم بذلك، ولسنا نشك أن الأجساد بعد الموت والمساءلة هى فى الذهاب وأكل التراب لها والفناء، ولا يعرض شىء على فانٍ، فَبَانَ أن العرض الذى يدوم إلى يوم القيامة إنما هو على الأرواح خاصة، وذلك أن الأرواح لا تفنى، وأنها باقية إلى أن يصير العباد إلى الجنة أو النار. وقال القاضى ابن الطيب: اتفق المسلمون أنه لا غدو ولا عشى فى الآخرة، وإنما هو فى الدنيا، فهم معروضون بعد مماتهم على النار، وقيل: يوم القيامة، ويوم القيامة يدخلون أشد العذاب، فمن عرض عليه النار غدوًا وعشيًا أحرى أن يسمع الكلام. قال غيره: واستدل بهذا الحديث من ذهب إلى أن الأرواح على أفنية القبور، وهو أصح ما ذهب إليه فى ذلك، لأن الأحاديث بذلك أثبت من غيرها. قال الداودى: ومما يدل على حياة الروح والنفس، وأنهما لا يفنيان قوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها (إلى) مسمى) [الزمر: 42] ، والإمساك لا يقع على الفانى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 71 - باب كَلامِ الْمَيِّتِ عَلَى الْجَنَازَةِ / 103 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا وُضِعَتِ الْجِنَازَةُ، فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً، قَالَتْ: قَدِّمُونِى، قَدِّمُونِى، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ، قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ تَذْهَبُونَ بِهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَىْءٍ إِلا الإنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإنْسَانُ لَصَعِقَ) . قال المؤلف: فى هذا الحديث دليل أن روح الميت تتكلم بعد مفارقته لجسده، وقبل دخوله فى قبره، والكلام لا يكون إلا من الروح، وقد جاءت آثار تدل على معرفة الميت من يحمله ويدخله فى قبره، وروى الطبرى، قال: حدثنا محمد بن يزيد الأدمى، حدثنا أبو عامر، حدثنا عبد الملك بن الحسن الحارثى، حدثنا سعيد بن عمرو بن سليمان الزرقى، قال: سمعت رجلاً اسمه معاوية، أو ابن معاوية، قال: سمعت من أبى سعيد الخدرى، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (إن الميت ليعرف من يحمله ومن يغسله ومن يدليه فى قبره) . وحدثنا محمد بن يزيد، حدثنا محمد بن عثمان بن صفوان، حدثنا حميد الأعرج، عن مجاهد، قال: إذا مات الميت فملك قابض نفسه، فما من شىء إلا وهو يراه عند غسله، وعند حمله حتى يصل إلى قبره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 قال عبد الواحد: إن قال قائل: كيف ترجم البخارى باب (كلام الميت على الجنازة) وأدخل حديثًا يدل أن الجنازة: الميت؟ قيل: إنما ترجم ذلك لمعرفته باللغة، قال صاحب العين: الجنَازة، بالفتح: الميت، والجنِازة، بالكسر: خشب السرير الذى يحمل عليه الميت، فإنما أراد كلام الميت على النعش، وبالله التوفيق. 72 - باب مَا قِيلَ فِى أَوْلادِ الْمُسْلِمِينَ وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، كَانَ لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّارِ، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ) . / 104 - وفيه: أَنَس، قَالَ: قَالَ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنَ النَّاسِ مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ ثَلاثَةٌ، لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ) . / 105 - وفيه: الْبَرَاء، قَالَ رسُول اللَّه لَمَّا تُوُفِّىَ إِبْرَاهِيمُ: (إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِى الْجَنَّةِ) . وقال بعض العلماء: الثلاثة داخلة فى حيز الكثير، وقد يصاب المؤمن فيكون فى إيمانه من القوة ما يصبر للمصيبة، ولا يصبر لتردادها عليه، فلذلك صار من تكررت عليه المصائب فَصَبَر، أوْلَى بجزيل الثواب، والولد من أجل ما يسر به الإنسان لقد يرضى أن يفديه بنفسه، هذا هو المعهود فى الناس والبهائم، فلذلك قصد رسول الله إلى أعلى المصائب والحض على الصبر عليها. وقد روى عنه أنه قال: (لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جُنَّة من النار) ، ومعنى الحِسْبَةِ: الصبر لما ينزل به، والاستسلام لقضاء الله عليه، فإذا طابت نفسه على الرضا عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 الله فى فعله، استكمل جزيل الأجر، وقد جاء أنه ليس شىء من الأعمال يبلغ مبلغ الرضا عن الله فى جميع النوازل، وهذا معنى قوله: (رضى الله عنهم ورضوا عنه) [المائدة: 119] يريد رضى أعمالهم، ورضوا عنه بما أجرى عليهم من قضائه، وما أجزل لهم من عطائه. وقوله: (لم يبلغوا الحنث) يريد لم يبلغوا أن تجرى عليهم الأقلام بالأعمال، والحنث: الذنب العظيم. وقوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أنس: (أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم) ، هو دليل قاطع أن أولاد المسلمين فى الجنة، لأنه لا يجوز أن يرحم الله الآباء من أجل من ليس بمرحوم، ويشهد لصحة هذا قوله (صلى الله عليه وسلم) فى ابنه إبراهيم: (إن له مرضعًا فى الجنة) ، وعلى هذا القول جمهور علماء المسلمين أن أطفال المسلمين فى الجنة إلا المجبرة، فإنهم عندهم فى المشيئة، وهو قول مجهول مردود بإجماع الحجة الذين لا يجوز عليهم الغلط، ولا يسوغ مخالفتهم. 73 - باب أولاد المشركين / 106 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، وأَبُو هُرَيْرَةَ، أن النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، سُئِلَ عَنْ أَوْلادِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: (اللَّهُ إِذْ خَلَقَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ) . / 107 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 74 - بَاب / 108 - فيه: سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا صَلَّى صَلاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟) فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا، فَيَقُولُ: (مَا شَاءَ اللَّهُ) ، فَسَأَلَنَا يَوْمًا، فَقَالَ: (هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا؟) قُلْنَا: لا، قَالَ: (لَكِنِّى رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِى، فَأَخَذَا بِيَدِى، فَأَخْرَجَانِى إِلَى الأرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ - قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُوسَى: كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ يدخله فِى شِدْقِهِ - حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا، فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالا: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ، أَوْ صَخْرَةٍ، فَيَشْدَخُ بِهِ رَأْسَهُ، فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ، فَلا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ، وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ، وَعَادَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالا: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ، أَعْلاهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ، يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا، فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَوا أَنْ يَخْرُجُوا، فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالا: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ، فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهَرِ - قَالَ يَزِيدُ وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ: وَعَلَى شَطِّ النَّهَرِ - رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِى فِى النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِى فِيهِ، فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ، رَمَى فِى فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيَرْجِعُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 كَمَا كَانَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالا: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِى أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ، وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنَ الشَّجَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا، فَصَعِدَا بِى فِى الشَّجَرَةِ، وَأَدْخَلانِى دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ، ثُمَّ أَخْرَجَانِى مِنْهَا، فَصَعِدَا بِى الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلانِى دَارًا هِىَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ، فِيهَا شُيُوخٌ وَشَبَابٌ، قُلْتُ: طَوَّفْتُمَانِى اللَّيْلَةَ، فَأَخْبِرَانِى عَمَّا رَأَيْتُ، قَالا: نَعَمْ، أَمَّا الَّذِى رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ، فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَ، فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِى رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ، فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ، وَلَمْ يَعْمَلْ بما فِيهِ بِالنَّهَارِ، يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِى الثَّقْبِ فَهُمُ الزُّنَاةُ، وَالَّذِى رَأَيْتَهُ فِى النَّهَرِ آكِلُوا الرِّبَا، وَالشَّيْخُ فِى أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ أَوْلادُ النَّاسِ، وَالَّذِى يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ، وَالدَّارُ الأولَى الَّتِى دَخَلْتَها دَارُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ، وَهَذَا مِيكَائِيلُ، فَارْفَعْ رَأْسَكَ، فَرَفَعْتُ رَأْسِى، فَإِذَا فَوْقِى مِثْلُ السَّحَابِ، قَالا: ذَاكَ مَنْزِلُكَ، قُلْتُ: دَعَانِى أَدْخُلْ مَنْزِلِى، قَالا: إِنَّهُ بَقِىَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ، فَلَوِ اسْتَكْمَلْتَ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ) . قال بعض العلماء: جهل قوم معنى الفطرة فى هذا الحديث، وقالوا: إنها الإسلام، فتأولوا فى قوله: (فطرت الله التى فطر الناس عليها) [الروم: 30] يعنى دين الإسلام، روى هذا عن أبى هريرة وعكرمة، والحسن، وإبراهيم، والضحاك، وقتادة، والزهرى، وقال جماعة من العلماء وأهل اللغة: الفطرة فى هذا الحديث: الخلقة التى خلق عليها المولود المضطرة إلى الإفداء يريد كأنه قال - عليه السلام -: كل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة، يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التى لا تصل بخلقتها إلى معرفة، واحتجوا على أن الفطرة: الخلقة بقوله تعالى: (فاطر السموات والأرض) [الأنعام: 14] يعنى خالقهن، وبقوله: (وما لى لا أعبد الذى فطرنى) [يس: 22] أى خلقنى، وقال: المراد بقوله: (فطرت الله التى فطر الناس عليها) [الروم: 30] الخلقة، بدليل قوله: (لا تبديل لخلق الله) [الروم: 30] يعنى لا تبديل لخلقته عما خلقه عليه. وقد ثبت عن الرسول قال: (لما خلق الله آدم مسح ظهره بيمينه، وكلتا يديه يمين، ثم قال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح الأخرى، وقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون) ، فلما صح عندنا هذا الحديث مع تصديق الله له بقوله: (وإذ أخذ ربك من بنى آدم (إلى) بلى) [الأعراف: 172] علمنا أن أخذه لهم من ظهر آدم إنما كان للإشهاد عليهم، وكان هذا الأخذ هو الاختراع الأول فى إخراجهم من العدم إلى الوجود، ثم ردهم فى ظهور آبائهم على ما جاء فى الخبر. فبان أن هذه الفطرة هى الخلقة الأولى التى فطر الناس عليها لا تبديل لها، وقد جاء فى الأخبار أنه حين أشهدهم على أنفسهم أو جميعهم على أنفسهم بالعبودية ولله تعالى بالربوبية، لكنه كان إقرار أصحاب اليمين بألسنتهم، وقلوبهم ليتم علم الله بهم، ومراده فيهم، وإقرار الآخرين بألسنتهم دون قلوبهم خذلانًا من الله ليتم مراده، وعلمه فيهم أنهم من أهل النار. فإذا صاروا فى بطون أمهاتهم ظهر فيهم بعض علم الله السابق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 فيسأل الملكُ الله عن خلقه: الأنثى والذكر، والسعادة والشقاوة، والرزق والأجل، فيكتب ذلك فى بطن أمه، فبان أن الفطرة التى يولد عليها هى الخلقة الأولى التى سبقت له، التى لا يجوز تبديلها، فإن كان فى الفطرة الأولى مؤمنًا ولد مؤمنًا، وإن كان فيها كافرًا ولد كافرًا على ما سبق له فى علم الله، يصدق ذلك قوله تعالى: (لا تبديل لخلق الله) [الروم: 30] لكن لا يظهر عليه شىء من ذلك فى حال ولادته، وإنما يظهر عليه إذا ظهر عمله بالقول والجوارح. فإن قيل: فما معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فأبواه يهودانه، أو ينصرانه. . .) الحديث، فينبغى أن يكون سالمًا من اليهودية، أو النصرانية حين تلده أمه، ألا ترى قوله: (كما تنتج الإبل من بهيمة جمعاء، هل ترى فيها جدعاء) . قيل له: فى قوله: (كل مولود يولد على الفطرة) بيان أن الفطرة الإيمان العام، وإنما فيه أنه يولد على تلك الخلقة التى لم يظهر منها إيمان ولا كفر، لكن لما حملهم آباؤهم على دينهم ظهر منهم ما حملوهم عليه من يهودية أو نصرانية، ثم أراد الله إمضاء ما علمه وقدره فى كل واحد منهم بما أجرى له فى بُدِّ الأمر من كفر، أو إيمان، ختم لهم به. يدل على ذلك حديث ابن مسعود أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع، أو قيد ذراع، فيسبق عليه الكتاب الأول فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) . وقال فى أهل النار مثل ذلك. فبان أن الكتاب الأول هو المعمول عليه الذى لا يجوز تبديله، ولو كانت الفطرة: الإسلام لما جاز أن يكون أحدٌ كافرًا لقوله تعالى: (لا تبديل لخلق الله) [الروم: 30] لأنه لا يجوز أن يكفر من خلقه الله للإيمان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 وقد اختلف العلماء فى أطفال المشركين، فقال أكثرهم: هم فى المشيئة، وتأولوا فى قوله تعالى: (إلا أصحاب اليمين) [المدثر: 39] ، قال: هم أطفال المؤمنين، وقيل: هم أصحاب الملائكة، وقال آخرون: حكم الأطفال حكم آبائهم فى الدنيا والآخرة، وهم مؤمنون بإيمانهم، وكافرون بكفرهم، واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) فى أطفال المشركين يصابون فى الحرب: (هم من آبائهم) . وقال آخرون: أولاد الكفار يمتحنون فى الآخرة. وقال آخرون: أولاد المشركين فى الجنة مع أولاد المسلمين، واحتجوا بحديث سمرة ابن جندب، ذكره البخارى فى كتاب التعبير: (وأما الرجل الطويل الذى فى الروضة فإنه إبراهيم، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة، قال بعض المسلمين: يا رسول الله، فأولاد المشركين؟ فقال رسول الله: وأولاد المشركين) . وهذه الحجة قاطعة، وهذه الرواية يفسرها ما جاء فى حديث هذا الباب أن الشيخ إبراهيم والصبيان حوله أولاد الناس، لأن هذا اللفظ يقتضى عمومه لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم، وهذا القول أصح ما فى هذا الباب من طريق الآثار وصحيح الاعتبار. فإن قيل: فإذا صح هذا القول فى أطفال المشركين، فما معنى قوله: (الله أعلم بما كانوا عاملين؟) وهذا يعارض حديث سمرة الذى بيَّن فيه حكمهم، أنهم فى الجنة مع أولاد المسلمين. قيل: هذا يحتمل وجوهًا من التأويل: أحدها: أن يكون قوله: (الله أعلم بما كانوا عاملين) ، قيل: أن يعلمه الله أنهم فى الجنة مع أولاد المسلمين، لأنه لم يكن ينطق عن الهوى، وإنما ينطق عن الوحى. ويحتمل قوله: (الله أعلم بما كانوا عاملين) أى على أى دين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 كان يميتهم لو عاشوا فبلغوا العمل، فأما إذ عدم منهم العمل، فهم فى رحمة الله التى ينالها من لا ذنب له. وقيل: قوله: (الله أعلم بما كانوا عاملين) مجمل يفسره قوله: (وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم) [الأعراف: 172] الآية، فهذا إقرار عام يدخل فيه أولاد المشركين والمسلمين، فمن مات منهم قبل بلوغ الحنث ممن أقر الإقرار أولاد الناس كلهم، فهو على إقراره المتقدم لا يقضى له بغيره، لأنه لم يدخل عليه ما ينقضه إلى أن يبلغ الحنث، فسقطت المعارضة بين الآثار، فهذه الوجوه المحتملة. وأما من قال: حكمهم حكم آبائهم، فهو مردود بقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) [الأنعام: 164] وإنما حكم لهم بحكمهم فى الدنيا لا فى أحكام الآخرة، أى أنهم إن أصيبوا فى التبييت والغارة لا قود فيهم ولا دية، وقد نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن قتل النساء والصبيان فى الحرب. وأما من قال: إنهم يمتحنون فى الآخرة، فهو قول لا يصح، لأن الآثار الواردة بذلك ضعيفة لا تقوم بها حجة، والآخرة دار جزاء ليست دار عمل وابتلاء. وقوله: (كما تناتج الإبل من بهيمة جمعاء) مجتمعة الخلق صحيحة (هل تحس فيها من جدعاء) يقول: هل ترى فيها من جدع؟ أى نقصان حين تنتج، وإنما يصيبها الجدع والنقصان بعد ذلك، فكذلك يُهودُ هؤلاء أبناءهم وينصرونهم بعد أن كانوا على الفطرة كما أن المنتوج من الإبل لولا أن هؤلاء قطعوا أذنه لكان صحيحًا، وذلك كله بقدر الله. وقوله: (بيده كلوب) والكلاب: خشبة فى رأسها عُقَّافَة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 وقوله: (تدهده) يقال: دهدهت الحجر، ودهديته إذا دحرجته، أدهدهه وأدهديه دهدهة ودهاهًا ودهدًا. 75 - باب مَوْتِ يَوْمِ الاثْنَيْنِ / 109 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِى بَكْرٍ الصديق، فَقَالَ: فِى كَمْ كَفَّنْتُمُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَتْ: فِى ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلا عِمَامَةٌ، فَقَالَ لَهَا: فِى أَىِّ يَوْمٍ تُوُفِّىَ؟ قَالَتْ: يَوْمَ الاثْنَيْنِ، قَالَ: فَأَىُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالَتْ: يَوْمُ الإثْنَيْنِ، قَالَ: أَرْجُو فِيمَا بَيْنِى وَبَيْنَ اللَّيْلِ، فَنَظَرَ إِلَى ثَوْبٍ كَانَ يُمَرَّضُ فِيهِ، بِهِ رَدْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ، فَقَالَ: اغْسِلُوا ثَوْبِى هَذَا، وَزِيدُوا عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ، وَكَفِّنُونِى فِيهما، قُلْتُ: إِنَّ هَذَا خَلَقٌ، قَالَ: إِنَّ الْحَىَّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ مِنَ الْمَيِّتِ، إِنَّمَا هُوَ لِلْمُهْلَةِ، فَلَمْ يُتَوَفَّ حَتَّى أَمْسَى مِنْ لَيْلَةِ الثُّلاثَاءِ، وَدُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ. قال المؤلف: إنما سأل أبو بكر الصديق ابنته عن أى يوم توفى فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) طمعًا أن يوافق ذلك اليوم تبركًا به، وقديمًا أحب الناس التبرك بأثواب الصالحين، وموافقتهم فى المحيا والممات، رغبة فى الخير، وحرصًا عليه، كفعل ابن عمر فى كثير من حركات النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وآثاره التى ليست بسنن، فكان يقف فى الموضع الذى وقف النبى ويدور بناقته فى المكان الذى أدار فيه النبى ناقته، وهذا كله وإن لم يوجب فضلاً، فإن ابن عمر إنما فعل ذلك محبة فى النبى، ومحافظة على اقتفاء آثاره، ومن اقتدى به (صلى الله عليه وسلم) فيما لا يلزم من حركاته كان أحرص على الاقتداء به فيما يلزم اتباعه فيه. وقد اتفق أهل السُّنَّة أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ولد يوم الاثنين، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 وأنزل عليه يوم الاثنين، وبعث يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وتوفى يوم الاثنين، وكان يصوم يوم الاثنين والخميس، وذكر مالك فى الموطأ، عن أبى هريرة، أنه قال: (تعرض أعمال الناس كل جمعة مرتين: يوم الاثنين والخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبدًا كانت بينه وبين أخيه شحناء) ، فهذه فضيلة يوم الاثنين والخميس. وقد روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فيمن مات يوم الجمعة فضيلة، ذكرها ابن أبى الدنيا، قال: حدثنا أحمد بن الفرج الحمصى، قال: حدثنا بقية بن الوليد، حدثنا معاوية ابن سعيد، عن أبى قبيل، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: سمعت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يقول: (من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقاه الله فتان القبر) . وروى ابن وهب، عن الليث بن سعد، عن أبى عثمان الوليد بن الوليد، أن أبا عبيدة بن عقبة، قال: (من مات يوم الجمعة أمن فتنة القبر) ، وقال: إنى ذكرته للقاسم بن محمد، فقال: صدق أبو عبيدة. وقوله: (ردع من زعفران) أى لطخ، قال أبو على: يقال: بدا من الزعفران ردعه أى ملتطخه. قال أبو عبيدة: وقوله: (الحى أحوج إلى الجديد) خلاف قول من يقول: يتزاورون فى أكفانهم، فيجب تحسينها، ألا تراه يقول: (فإنما هو للمهلة) ويشهد لذلك قول حذيفة حين أتى بكفنه ريطتين، فقال: لا تغالوا بكفنى، الحى أحوج إلى الجديد من الميت، أى لا ألبث إلا يسيرًا حتى أبدل منهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 خيرًا منهما، أو شرًا منهما، ومنه قول ابن الحنفية: ليس للميت من الكفن شىء، وإنما هو تكرمة للحى. وأما من خالف هذا ورأى تحسين الأكفان، فروى عن عمر بن الخطاب، أنه قال: أحسنوا أكفان موتاكم، فإنهم يبعثون فيها يوم القيامة. وعن معاذ بن جبل مثله، وأوصى ابن مسعود أن يكفن فى حلة بمائتى درهم. وروى روح، عن زكريا بن إسحاق، قال: حدثنا أبو الزبير، عن جابر، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا ولى أحدكم أخاه فليحسن كفنه) . قال ابن المنذر: وبحديث جابر قال الحسن وابن سيرين، وكان إسحاق يقول: يغالى بالكفن إذا كان موسرًا، وإن كان فقيرًا فلا يغال به. وقوله: (إنما هو للمهلة) قال أبو عبيد: المهل فى هذا الحديث: الصديد والقيح، والمهل فى غير هذا: كل فلز أذيب كالذهب والفضة والنحاس. وقال أبو عمرو: المهل فى حديث أبى بكر الصديق: القيح، وفى غيره: دُرْدِىّ الزيت. وقال الأصمعى: حدثنى رجل، وكان فصيحًا، أن أبا بكر قال: إنما هو للمهلة والتراب. وقال بعضهم: بكسر الميم يقال للمهلة. وقال ابن دريد: فى هذا الحديث: (إنما هو للمهلة) قال: المهلة: صديد الميت، زعموا، والمهلة: ضرب من القطران، والمهلة: ما سلخت من الحرة من رماد أو غيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 76 - باب مَوْتِ الْفَجْأَةِ بَغْتَةِ / 110 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ رَجُلا قَالَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ أُمِّى افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ) . قال المؤلف: الافتلات عند العرب: المباغتة، يقول: ماتت بغتة، وإنما هو مأخوذ من الفلتة. وروى وكيع عن عبد الله بن الوليد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن عائشة، قالت: سألت رسول الله عن موت الفجأة، قال: (راحة على المؤمن، وأسف على الفاجر) والأسف: الغضب، ويحتمل أن يكون ذلك، والله أعلم، لما فى موت الفجأة من خوف حرمان الوصية، وترك الإعداد للمعاد، والاغترار الكاذبة، والتسويف بالتوبة. وقد روى من حديث يزيد الرقاشى، عن أنس بن مالك، قال: كنا نمشى مع الرسول فجاء رجل، فقال: يا رسول الله، مات فلان، فقال: (أليس كان معنا آنفًا) ؟ قالوا: بلى، قال: (سبحان الله، كأنه أخذه على غصب، المحروم من حرم وصيته) . ذكر هذين الحديثين ابن أبى الدنيا، قال: حدثنا إبراهيم بن إسحاق، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا يزيد بن كعب الأزدى، قال: حدثنا ابن كريز، عن أنس بن مالك، قال: من أشراط الساعة حفز الموت، قيل: يا أبا حمزة، ما حفز الموت؟ قال: موت الفجأة. وقوله: (فهل لها من أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم) هو كقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ينقطع عمل ابن آدم بعد موته إلا من ثلاث: صدقة تجرى بعده، أو علم علمه يعمل به، أو ابن صالح يدعو له) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 77 - باب مَا جَاءَ فِى قَبْرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ / 111 - فيه: عَائِشَةَ، أَنْ الرَسُول كَانَ يتفقد فِى مَرَضِهِ: (أَيْنَ أَنَا الْيَوْمَ؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا) ، اسْتِبْطَاءً لِيَوْمِ عَائِشَةَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمِى قَبَضَهُ اللَّهُ بَيْنَ سَحْرِى وَنَحْرِى، وَدُفِنَ فِى بَيْتِى. وَقَالَتْ عَائِشَة: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) فِى مَرَضِهِ الَّذِى توفى فيه: (لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، لَوْلا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ غَيْرَ أَنَّهُ خَشِىَأَنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا) . وَقَالَ سُفْيَانَ التَّمَّارِ: أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مُسَنَّمًا. وَقَالَ عُرْوَةَ: لَمَّا سَقَطَ عَلَيْهِمُ الْحَائِطُ فِى زَمَانِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخَذُوا فِى بِنَائِهِ، فَبَدَتْ لَهُمْ قَدَمٌ، فَفَزِعُوا، وَظَنُّوا أَنَّهَا قَدَمُ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَمَا وَجَدُوا أَحَدًا يَعْلَمُ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ لَهُمْ عُرْوَةُ: لا وَاللَّهِ مَا هِىَ قَدَمُ النَّبِىُّ مَا هِىَ إِلا قَدَمُ عُمَرَ. وأوصت عَائِشَةَ ابْن الزُّبَيْر: لا تَدْفِنِّى مَعَهُمْ، وَادْفِنِّى مَعَ صَوَاحِبِى بِالْبَقِيعِ، لا أُزَكَّى بِهِ أَبَدًا. / 112 - وفيه: عُمَر، أنه قَالَ لابنه عَبْدَ اللَّه: اذْهَبْ إِلَى عَائِشَةَ، أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَقُلْ: يَقْرَأُ عُمَرُ عَلَيْكِ السَّلامَ، ثُمَّ سَلْهَا أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَىَّ، قَالَتْ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِى فَلأوثِرَنَّهُ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِى، فَلَمَّا أَقْبَلَ قَالَ لَهُ: مَا لَدَيْكَ؟ قَالَ: أَذِنَتْ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: مَا كَانَ شَىْءٌ أَهَمَّ إِلَىَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَضْجَعِ، فَإِذَا قُبِضْتُ، فَاحْمِلُونِى، ثُمَّ سَلِّمُوا، ثُمَّ قُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَإِنْ أَذِنَتْ لِى فَادْفِنُونِى، وَإِلا فَرُدُّونِى إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، إِنِّى لا أَعْلَمُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأمْرِ مِنْ هَؤُلاءِ النَّفَرِ الَّذِينَ تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَمَنِ اسْتَخْلَفُوا بَعْدِى، فَهُوَ الْخَلِيفَةُ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، فَسَمَّى عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَسَعْدَ بْنَ أَبِى وَقَّاصٍ، وَوَلَجَ عَلَيْهِ شَابٌّ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 الْمُؤْمِنِينَ، بِبُشْرَى اللَّهِ، كَانَ لَكَ مِنَ الْقَدَمِ فِى الإسْلامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ اسْتُخْلِفْتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ الشَّهَادَةُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ، فَقَالَ: لَيْتَنِى يَا ابْنَ أَخِى، وَذَلِكَ كَفَافًا لا عَلَىَّ وَلا لِى، أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِى بِالْمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ خَيْرًا، أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَأَنْ يَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالأنْصَارِ خَيْرًا: (الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ (أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيُعْفَى عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ، وَذِمَّةِ رَسُولِهِ، أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَأَنْ لا يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ. قال المؤلف: غرض البخارى فى هذا الحديث، والله أعلم، أن يبين فضل أبى بكر وعمر بما لا يشركهما فيه أحد، وذلك أنهما كانا وزيرى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى حياته، وعادا ضجيعيه بعد مماته، فضيلة خصهما الله بها، وكرامة حباهما بها، لم تحصل لأحد، ألا ترى وصية عائشة إلى ابن الزبير أن لا يدفنها معهم خشية أن تزكى بذلك، وهذا من تواضعها وإقرارها بالحق لأهله وإيثارها به على نفسها من هو أفضل منها، ولم تر أن تُزَكَّى بدفنها مع الرسول، ورأت عمر بن الخطاب لذلك أهلاً. وإنما استأذنها عمر فى ذلك ورغب إليها فيه، لأن الموضع كان بيتها، وكان لها فيه حق، وكان لها أن تؤثر به نفسها لذلك، فآثرت به عمر، وقد كانت عائشة رأت رؤيا دلتها على ما فعلت حين رأت ثلاثة أقمار سقطن فى حجرها، فقصتها على أبى بكر الصديق، فلما توفى رسول الله، ودفن فى بيتها قال أبو بكر: هذا أحد أقمارك، وهو خيرها. فيه من الفقه: الحرص على مجاورة الموتى الصالحين فى القبور طمعًا أن تنزل عليهم رحمة فتصيب جيرانهم، أو رغبة أن ينالهم دعاء من يزورهم فى قبورهم من الصالحين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 وقول عمر: (فإذا قبضت فاحملونى، ثم قل: يستأذن عمر) ، ففبه من الفقه: أن من وُعِدَ أنه يجوز له الرجوع فيها، ولا يقضى عليه بالوفاء بها، لأن عمر لو علم أنه لا يجوز لعائشة الرجوع فى عدتها، لما قال ذلك، وسيأتى فى كتاب الهبة ما يلزم من العدة وما لا يلزم منها، واختلاف الناس فيها، إن شاء الله. وفيه من الفقه: أنه من بعث رسولاً فى حاجة مهمة أن له أن يسأل الرسول قبل وصوله إليه، وقبل إيراده الرسالة عليه، ولا يُعدُّ ذلك من قلة الصبر، ولا يُذُّم فاعله بل هو من الحرص على الخير، لقوله لابنه وهو مُقبلٌ: ما لديك. وفيه: أن الخليفة مباح له أن لا يستخلف على المسلمين غيره، لأن رسول الله لم يستخلف أحدًا، وأن للإمام أن يترك الأمر شورى بين الأمة إذا علم أن فى الناس بعده من يحسن الاختيار للأمة. وفيه: إنصاف عمر وإقراره بفضل أصحابه. وفيه: أن المدح فى الوجه بالحق لا يُذم المادح به، لأن عمر لم ينه الأنصارى حين ذكر فضائله، فبان بهذا أن المدح فى الوجه المنهى عنه إنما هو المدح بالباطل. وفيه: أن الرجل الفاضل ينبغى له أن يخاف على نفسه ولا يثق بعمله، ويكون الغالب عليه الخشية، ويصغر نفسه، لقوله: ليتنى تخلصت من ذلك كفافًا، وقد سئلت عائشة عن قول الله تعالى: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) [المؤمنون: 60] ، فقالت: نعم، الذين يعملون الأعمال الصالحة ويخافون ألا تتقبل منهم، وعلى هذا مضى خيار السلف، كانوا من عبادة ربهم فى الغاية القصوى، ويعدُّون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 أنفسهم فى الغاية السفلى خوفًا على أنفسهم، ويستقلون لربهم ما يستكثره أهل الاغترار. فقد ثبت عن عمر أنه تناول تبنة من الأرض، فقال: يا ليتنى هذه التبنة، يا ليتنى لم أك شيئًا، يا ليت أمى لم تلدنى، يا ليتنى كنت نسيًا منسيًا، وقال: لو كانت لى الدنيا لافتديت بها من النار ولم أرها. وقال قتادة: قال أبو بكر الصديق: وددت أنى كنت خضرة تأكلنى الدواب. وقالت عائشة عند موتها: وددت أنى كنت نسيًا منسيًا. وقال أبو عبيدة: وددت أنى كبش يذبحنى أهلى يأكلون لحمى ويحسون مرقى. وقال عمران بن حصين: وددت أنى رماد على أكمة تسفينى الرياح فى يوم عاصف. ذكر ذلك كله الطبرى، وسيأتى فى كتاب الزهد والرقائق، باب (الخوف من الله) زيادة فى هذا المعنى، إن شاء الله. وفيه: أن الرجل الفاضل والعالم ينبغى له نصح الخليفة، وأن يوصيه بالعدل وحسن السيرة فيمن ولاه الله رقابهم من الأمة، وأن يحضه على مراعاة أمور المسلمين وتفقد أحوالهم، وأن يعرف الحق لأهله. وفيه من الفقه: أن الرجل الفاضل ينبغى أن [. . . . . .] . وفى استبطاء النبى (صلى الله عليه وسلم) يوم عائشة من الفقه: أنه يجوز للرجل الفاضل الميل بالمحبة إلى بعض أهله أكثر من بعض، وأنه لا إثم عليه فى ذلك إذا عدل بينهن فى القسمة والنفقة. وقول سفيان: أنه رأى قبر النبى (صلى الله عليه وسلم) مسنمًا، فقد روى ذلك عن غيره. قال الطحاوى: وقد قال إبراهيم النخعى: أخبرنى من رأى قبر النبى (صلى الله عليه وسلم) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 وصاحبيه مسنمة ناشزة من الأرض عليها مرمر أبيض. وقال الليث: حدثنى يزيد بن أبى حبيب أنه يستحب أن يسنم القبر، ولا يرفع، ولا يكون عليه تراب كثير. وهو قول الكوفيين والثورى أن القبور تسنم، وإن رفع فلا بأس. وقال ابن حبيب مثله. وقال طاوس: كان يعجبهم أن يرفع القبر شيئًا حتى يعلم أنه قبر. وقال الشافعى: تسطح القبور ولا تبنى ولا ترفع، تكون على وجه الأرض نحوًا من شبر، قال: وبلغنا أن النبى (صلى الله عليه وسلم) سطح قبر ابنه إبراهيم، وأن مقبرة المهاجرين والأنصار مسطحة قبورهم. وقال أبو مجلز: تسوية القبور من السُّنة. واحتج أيضًا بحديث القاسم بن محمد، وأنه رأى قبر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وصاحبيه لاطية بالأرض مسطوحة بالبطحاء، وقد بَيَّنَت عائشة العِلَّة فى البناء على قبره وتحظيره وذلك خشية أن يتخذ مسجدًا. 78 - باب مَا يُنْهَى عنه مِنْ سَبِّ الأمْوَاتِ / 113 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَسُبُّوا الأمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا) . قال المؤلف: هذا الحديث مثل قول عائشة: كفوا عن ذى قبر. قال بعض العلماء: معناه من أهل الإيمان، وقد ذكرت عائشة فى هذا الحديث علة الإمساك عن ذى قبر، وهو قولها: فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا، يعنى إلى ما عملوه من حسن أو قبيح، وقد أحصاه الله ونسوه، وقد ختم الله لأهل المعاصى من المؤمنين بخاتمة حسنة تخفى عن الناس، فمن سبهم فقد أثم، وقد جاء أنه لا يجب القطع على أحد بجنة ولا نار، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) فى الميت الذى شهد له الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 بالجنة: (والله ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل بى) . فلهذا وجب الإمساك عن الموتى، والله أعلم. قال عبد الواحد: إن قيل: قد ذكر الله عز وجل، فلتات خطايا الأنبياء فى كتابه وهم أموات، وجعلها قراءة تتلى. قيل: لا معارضة لك بذلك؛ لأن الله تعالى إنما ذكر خطاياهم موعظة لخلقه، ليرى المذنبين أنه قد عاتب أنبياءه وأصفياءه على الفلتة من الذنوب، ليحذر الناس المعاصى وليعلموا أنهم أحق بالعقاب من الأنبياء ليزدجروا، وأيضًا فإن لوم تلك الذنوب قد سقط عن الأنبياء بإعلام الله لنا فى كتابه بتوبتهم منها، وغفرانه إياها لهم، وأيضًا فإنه تعالى جعل عقابهم على تلك الفلتات فى الدنيا رحمة لهم، ليلقوه مطهرين من تلك الذنوب، وموتانا بخلاف ذلك لا نعلم ما أفضوا إليه، فلذلك نهينا عن ذكرهم بذنوبهم، وقد تقدم فى باب (ثناء الناس على الميت) إشباع القول فيمن يجب ذكره بذنبه، ومن يجب الإمساك عنه، وبالله التوفيق. 79 - باب ذِكْرِ شِرَارِ الْمَوْتَى / 114 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، قَالَ أَبُو لَهَبٍ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، فَنَزَلَتْ: (تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ) [المسد: 1] . قال المؤلف: ذكر شرار الموتى من أهل الشرك خاصة جائز، لأنهم لا شك أنه مقطوع عليهم بالخلود فى النار، فذكر شرارهم أيسر من حالهم التى صاروا إليها، مع أن فى الإعلان بقبيح أفعالهم مقبحًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 لأحوالهم وذمًا لهم، لينتهى الأحياء عن مثل أفعالهم ويحذروها، جَنَّبنا الله أفعال الكفار، وأجارنا من النار. قال عبد الواحد: عجبًا من البخارى فى تخريجه لهذا الحديث فى هذا الباب، وإن كان تبويبه له يدل على أنه أراد به العموم فى شرار المؤمنين والكافرين، وأظنه نسى الحديث الذى أورده فى باب (ثناء الناس على الميت) فكان أولى بهذا، وهو حديث أنس: (أنهم مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرًا، فقال: وجبت. . . .) الحديث، فترك النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، نهيهم عن ثناء الشر، ثم أخبر أنه بذلك الثناء الشر وجبت له النار، وقال: (أنتم شهداء الله فى الأرض) ، فدل ذلك أن للناس أن يذكروا الميت بما فيه من شر إذا كان شره مشهورًا، وكان مما لا غيبة فيه لشهرة شره، وقد تقدم فى باب (ثناء الناس على الميت) الكلام فى الجمع بين هذا الحديث وبين قوله: (لا تسبوا الأموات) ، وبالله التوفيق. وقال صاحب (العين) : تب الإنسان: ضعف وخسر، قال الراجز: أحسن بها من صفقة لم تستقل تبت يدا صافقها ماذا فعل وتب: هلك، وفى القرآن: (وما كيد الكافرين إلا فى تباب) [غافر: 37] ، وتَبَّ الإنسان: شاخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 صفحة فارغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 الجزء الثاني من كتاب شرح البخاري تأليف الشيخ الإمام العالم الفاضل أبي الحسن علي ابن خلف بن عبد الملك بن بطال يعرف بابن اللحام من أهل قرطبة رضي الله عنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 صفحة فارغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 بسم الله الرحمن الرحيم وَبِهِ تَوْفِيِقى وَعَلَيهِ أَتَوكْل - كِتَاب الزَّكَاةِ - وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) [البقرة: 43] . وقال ابن عباس: حدثنى أبو سفيان بن حرب فذكر حديث النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (يأمر بالصلاة، والزكاة، والصلة، والعفاف) . / 1 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: (ادْعُوهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِى أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَتُرَدُّ فِى فُقَرَائِهِمْ) . / 2 - وفيه: أَبِو أَيُّوبَ، أَنَّ رَجُلا قَالَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَخْبِرْنِى بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 الْجَنَّةَ؟ قَالَ: (مَا لَهُ، مَا لَهُ) ، وَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَرَبٌ مَا لَهُ، تَعْبُدُ اللَّهَ، وَلا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ) . / 3 - وفيه: أَبِو هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: دُلَّنِى عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، قَالَ: (تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّى الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ) ، قَالَ: وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا) . / 4 - وفيه: ابْنَ عَبَّاسٍ، قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: مُرْنَا بِشَىْءٍ نَأْخُذُهُ عَنْكَ، وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا، قَالَ: (آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ: الإيمَانِ بِاللَّهِ، وَشَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ. . .) الحديث. / 5 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ، لَمَّا تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّى مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ؟) فَقَالَ: وَاللَّهِ لأقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلا أَنْ رأيت أن الله قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 قال المؤلف: فرض الله تعالى الزكاة، بقوله: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) [البقرة: 43] وهذه الآية تشهد لصحة هذه الأحاديث. والزكاة الركن الثالث من أركان الإسلام الخمسة، قال عليه الصلاة والسلام: (بنى الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت) فهذه دعائم الإسلام وقواعده، لا يتم إسلام من جحد واحدة منها ألا ترى فهم أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، لهذا المعنى وقوله: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال) وأجمع العلماء على أن مانع الزكاة تؤخذ من ماله قهرًا، وإن نصب الحرب دونها قوتل اقتداءً بأبى بكر الصديق، رضى الله عنه، فى أهل الردة. وكانت الردة على ثلاثة أنواع: قوم كفروا وعادوا إلى ما كانوا عليه من عبادة الأوثان، وقوم آمنوا بمسيلمة وهم أهل اليمامة، وطائفة منعوا الزكاة وقالوا: ما رجعنا عن ديننا، ولكن شححنا على أموالنا، فرأى أبو بكر، رضى الله عنه، قتال الجميع، ووافقه على ذلك جميع الصحابة بعد أن خالفه عمر فى ذلك، ثم بان له صواب قوله، فرجع إليه، فسبى أبو بكر، رضى اله عنه، نساءهم، وأموالهم اجتهادًا منه، فلما ولى عمر، رضى الله عنه، بعده، رأى أن يرد ذراريهم ونساءهم إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 عشائرهم، وفداهم، وأطلق سبيلهم، وذلك أيضًا بمحضر الصحابة من غير نكير، والذى رد منهم عمر لم يأب أحد منهم الإسلام، وعذر أبا بكر فى اجتهاده، وهذا أصل فى أن كل مجتهد مصيب. وقال بعض العلماء: حكم أبو بكر فى أهل الردة بالسبى، وأخذ المال وجعلهم كالناقضين، وحكم فيهم عمر بحكم المرتدين، فرد النساء والصغار من الرق إلى عشائرهم كذرية من ارتد فله حكم الإسلام إلا من تمادى بعد بلوغه، والذين ردهم عمر لم يأب أحد منهم الإسلام، وعلى هذا الفقهاء، وبه قال ربيعة الرأى، وابن الماجشون، وابن القاسم، وذهب أصبغ بن الفرج إلى فعل أبى بكر، رضى الله عنه، أنهم كالناقضين، وتأويل أبى بكر مستنبط من قوله تعالى، فى الكفار: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) [التوبة: 5] فجعل من لم يلتزم ذلك كله كافرًا يحل دمه وأهله وماله، ولذلك قال: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) . وقال أبو جعفر الداودى: قال أبو هريرة: والله الذى لا إله إلا هو، لولا أبو بكر ما عبد الله، قيل له: اتق الله يا أبا هريرة، فكرر اليمين، وقال: لما توفى رسول الله ارتدت العرب، وكثرت أطماع الناس فى المدينة وأرادته الصحابة على إمساكه بجيش الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 أسامة، والكف عمن منع الزكاة، فقال: والله لو لم يتبعنى أحد لجاهدتهم بنفسى حتى يعز الله دينه أو تنفرد سالفتى. فاشتد عزم الصحابة حينئذ، وقمع الله أهل المطامع عما أرادوه. قال المؤلف: وهذا كله يشهد لتقدم أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، فى العلم ورسوخه فيه، وأن مكانه من العلم ونصرة الإسلام لا يوازيه فيه أحد، ألا ترى رجوع جماعة الصحابة إلى رأيه فى قتال أهل الردة، ولا يجوز عليهم اتباعه تقليدًا له دون تبيين الحق لهم، وذلك أنه احتج عليهم أن الزكاة قرينة الصلاة، وأنها من حق المال، وأن من جحد فريضة فقد كفر، ولم يعصم دمه ولا ماله، وأنه لا يعصم ذلك إلا بالوفاء بشرائع الإسلام، ولذلك قال عمر رضى الله عنه: (فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبى بكر للقتال فعرفت أنه الحق) ، أى عرفت أنه على الحق بما بينه أبو بكر من استدلاله على ذلك، فبان لعمر وللجماعة الحق فى قوله، فلذلك اتبعوه. وأما قوله: (لو منعونى عناقًا) فإنما خرج كلامه على التقليل و [. . . .] لأن العناق عند أهل اللغة: الجدية إذا قويت على الرعى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 قبل أن يأتى عليها حول، ولا تؤخذ فى الصدقة عند أكثر أهل العلم، ولو كانت عناقًا كلها. ومن روى (عقالاً) فاختلف أهل اللغة فى تأويله، فقال أبو عبيد: العقال: صدقة عام. وقال ابن الكلبى: كان معاوية قد بعث عمرو بن عتبة ابن أخيه مصدقًا، فجار عليهم، فقال: سعى عقالا فلم يترك لنا سبدًا فكيف لو قد سعى عمرو عقالين قال أبو عبيد: فهذا كلام العرب، وقد قيل: هو عقال الناقة، وكان الواقدى يزعم أن هذا رأى مالك بن أنس، وابن أبى ذئب. قال أبو عبيد: والأول أشبه عندنا بالمعنى، والشواهد فى كلام العرب عليه أكثر، وقد روى ابن وهب، عن مالك أن العقال: الفريضة من الإبل. قال أبو سليمان الخطابى: قد خولف أبو عبيد فى هذا التفسير. وذهب غير واحد من العلماء إلى تفسيره على غير هذا الوجه، أنكر العبدى ما ذهب إليه أبو عبيد، وقال: إنما يضرب المثل فى هذا بالأقل فما فوقه، كما يقول الرجل للرجل إذا منعه الكثير من المال: لا أعطيك ولا درهمًا منه. وليس بالسائغ أن يقول: لا أعطيك ولا مائة ألف. وقال: ليس بسائغ فى كلامهم أن العقال صدقة عام. والبيت الذى احتج به ليس بالبيت الذى يحتج به، قال: وأيضًا فإن العرب لم تقل له: لا أعطيك إلا عامًا واحدًا. وإنما منعوا الصدقات على الأبد، فكيف يقول العقال الذى منعوه: صدقة عام، وهم يتأولون أنهم كانوا مأمورين بأدائها إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) دون القائم بعده؟ . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 وسمعت ابن عائشة يقول: العقال: الحبل. وذلك أن الصدقة كانت إذا هبط بها إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عُقِلَ بكُلِّ عقال بعيران، ولذلك سمى الحبل الذى يقرن به بين البعير: القرن، بفتح الراء، والقرن أيضًا: البعير المقرون إلى آخر. وفيه قول آخر، قاله النضر بن شميل، قال: العرب تقول: أفرضت إبلكم: إذا وجبت فيها الفريضة وأشنقت، والشنق أن يكون فى خمس من الإبل شاة، وفى عشر شاتان إلى خمس وعشرين، فإذا وجبت فيها ابنة مخاض فهى العقال. وهذا يشبه رواية ابن وهب. وفيه قول آخر، قاله أبو سعيد الضرير، قال: العقال: كل ما آخذ من الأصناف من الإبل، والبقر، والغنم، والثمار التى يؤخذ منها العشر، ونصف العشر، فهذا كله عقال فى صنفه، وسمى عقالاً: لأن المؤدى إليه قد عقل عنه طلبة السلاطين وتبعته، وعقل عنه الإثم الذى يطلبه الله به إذا منع الزكاة، ولذلك سميت العاقلة التى تؤدى دية الخطأ، لأنها إذا فعلت عقلت عن وليها تبعة أولياء المقتول. وفيه قول آخر، قاله المبرد، قال: إذا أخذ المصدق من الصدقة ما فيها، ولم يأخذ ثمنها قالوا: أخذ عقالاً، فإذا أخذ الثمن، قالوا: أخذ نقدًا. وأنشد: أتانا أبو الخطاب يضرب طبله فرد ولم يأخذ عقالاً ولا نقدًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 وفى أكثر الروايات: (لو منعونى عناقًا) وهو مشاكل لما ذهب إليه العبدى فى معنى العقال، وفى رواية أخرى ذكرها ابن الأعرابى: (والله لو منعونى جديًا أذوط لقاتلتهم عليه) ، قال: والذوط: الصغير الفك والذقن. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) لمعاذ: (ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله فرض عليهم الصلاة، والزكاة. . .) إلى آخر الحديث، فإنما أمره أن يدعو إلى الشهادة من لم يكن أسلم من أهل الكتاب، وقد جاء هذا بينًا فى حديث معاذ فى باب: لا تؤخذ كرائم أموال الناس بعد هذا فى الصدقة: (أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال لمعاذ: إنك تأتى أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات) ، وقد تقدم معنى قول الرجل: (والله لا أزيد على هذا) فى كتاب الإيمان، فأغنى عن إعادته، وقد تقدم فيه معنى حديث وفد عبد القيس أيضًا. وقوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أبى أيوب: (أرب ما له) ، فإنه يروى بكسر الراء، وفتح الباء، ويروى: (أرَبٌ ما له) بفتح الراء وضم الباء وتنوينها، وفسر ابن قتيبة الرواية بكسر الراء وفتح الباء، فقال: هو من الأراب مأخوذ، والأراب: الأعضاء، واحدها: أرب، ومنه قيل: قطعته أربًا أربًا، أى عضوًا عضوًا، قال: ومعنى قوله: (أرب ما له) أى سقطت أعضاؤه وأصيبت، وهى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 كلمة مقولة لا يراد بها إذا قيلت وقوع الأمر، كقولهم: عقرى حلقى، أى عقرها الله وحلقها، أى أصابها بوجع فى حلقها، وكقولهم: قاتله الله، وتربت يداك، وأشباه هذا كثير. ومن رواه (أرَبٌ ما له) فمعناه نحو معنى قوله: فى حديث سعد بن الأخرم حين أخذ بزمام ناقته (صلى الله عليه وسلم) بعرفة، وهو يريد أن يسأله، فصاح به الناس من أصحابه، فقال: (دعوه، فأربٌ ما جاء به، فقال: يا رسول الله، دلنى على عمل يقربنى من الجنة، ويباعدنى من النار، فقال: إن كنت أوجزت فى الخطبة، فقد أعظمت وأطولت، فقال: تعبد الله، ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحب للناس ما تحب أن يؤتى إليك، وما كرهت أن يؤتى إليك فدع الناس منه، خل عن زمام الناقة) . رواه الأعمش، عن شمر، عن المغيرة بن سعد بن الأخرم، عن أبيه، أو عن عمه، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ويمكن أن تكون هذه القصة هى التى روى أبو أيوب فى حديثه، لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يكرر قوله: (ما له ما له) إلا أنه أنكر عليه حبسه زمام ناقته أو غير ذلك مما لم يكن له فعله، والله أعلم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 وفسر الطبرى قوله: (فأرب ما جاء به) ، وقال معناه: فحاجة ما جاءت به، والأرب: الحاجة، و (ما) التى فى قوله: (ما جاء به) صلة فى الكلام، كما قال تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم) [النساء: 155] ، والمعنى فأرب جاء به. قال المؤلف: وعلى هذا التقدير تكون (ما) التى فى حديث أبى أيوب فى قوله: (أربٌ ما له) زائدة، كأنه قال: أرب له، هذا أحسن من قول ابن قتيبة. قال عبد الواحد: وقوله فى حديث ابن أخرم: (إن كنت أوجزت فى الخطبة) ولم تكن هناك خطبة، فإن العرب تسمى كل كلام وسؤال: خطبة، لأنه مشتق من الخطاب. قال المهلب: وقوله فى حديث أبى أيوب: (وتصل الرحم) بعد الصلاة والزكاة، يدل أن السائل كان محتاجًا إلى التنبيه على ذلك، لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان يقدم تعريف أمته بما هم إليه أحوج. - باب الْبَيْعَةِ عَلَى إِيتَاءِ الزَّكَاةِ وقوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) [التوبة: 11] / 6 - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 فيه: جَرِيرُ، بَايَعنا النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى إِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. قال المؤلف: هذا الباب فى معنى الذى قبله، وقد أخبر الله تعالى فى هذه الآية أن الأخوة فى الدين إنما تستحق بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ودل ذلك أنه من لم يقمها فليس بأخ فى الدين، وفى هذه الآية حجة لأبى بكر الصديق، رضى الله عنه، فى قتاله لأهل الردة حين منعوا الزكاة، وقد أجمع العلماء فى الرجل يقضى عليه القاضى بحق لغيره فيمتنع من أدائه أن واجبًا على القاضى أن يأخذه من ماله، فإن نصب الحرب دونه وامتنع، قاتله حتى يأخذه منه، فإن أتى القاتل على نفسه فشر قتيل، فحق الله الذى أوجبه للمساكين أولى بذلك وذكر النصح لكل مسلم فى البيعة مع الصلاة والزكاة يدل على حاجة جرير وقومه إلى ذلك، وكان جرير رئيس قومه. 3 - باب إِثْمِ مَانِعِ الزَّكَاةِ وَقَوله تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ (إلى قوله: (فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) [التوبة: 34 - 35] . / 7 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَة، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (تَأْتِى الإبِلُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، إِذَا هُوَ لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَأْتِى الْغَنَمُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، إِذَا لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا، تَطَؤُهُ بِأَظْلافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا) ، قَالَ: (وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ تُحْلَبَ عَلَى الْمَاءِ) ، قَالَ: (وَلا يَأْتِى أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشَاةٍ يَحْمِلُهَا عَلَى رَقَبَتِهِ لَهَا ثُغَاءٌ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ، وَلا يَأْتِى بِبَعِيرٍ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ لَهُ رُغَاءٌ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ) . / 8 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ - يَعْنِى بِشِدْقَيْهِ - ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلا النّبِىّ: (لا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) [آل عمران: 180] الآيَةَ) . قال المؤلف: تأول العلماء أن قوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة) [التوبة: 34] الآية، وعيد لمن منع الزماة، ومن أدى زكاة ماله فليس بداخل فى هذه الآية. قال المهلب: فى هذه الآية فرض زكاة الذهب، ولم ينقل عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فرض زكاة الذهب من طريق الخبر كما نقل عنه زكاة الفضة، وهو قوله: (فى الرِّقة ربع العشر، وليس فيما دون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 خمس أواق من الورق صدقة) ، إلا أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته) يدخل فى عمومه الذهب والفضة بالدليل، وإنما لم ترو زكاة الذهب من طريق النص عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، والله أعلم، لكثرة الدراهم بأيديهم، وأن بها كان تجارتهم، ولقلة الذهب عندهم، وكان صرف الدينار حينئذ عشرة دراهم، فعدل المسلمون بخمس أواق من الفضة عشرين مثقالاً، وجعلوه نصاب زكاة الذهب وتواتر العمل به وعليه جماعة العلماء أن الذهب إذا كانت عشرين مثقالاً وقيمتها مائتا درهم أن فيها الزكاة نصف دينار إلا ما اختلف فيه عن الحسن أنه قال: ليس فيما دون أربعين دينارًا زكاة وهو شذوذ لا يلتفت إليه. وذهبت طائفة إلى أن الذهب إذا بلغت قيمتها مائتى درهم ففيها ربع العشر، وإن كان أقل من عشرين مثقالاً، وهذا قول عطاء وطاوس والزهرى. واختلفوا فى تأويل قوله (صلى الله عليه وسلم) فى الإبل: (ومن حقها أن تحلب على الماء) فذهبت طائفة إلى أن فى المال حقًا سوى الزكاة. وقال أبو هريرة: (حق الإبل أن تنحر السمينة، وتمنح الغزيرة، وتقعد الظهر، ويضرب الفحل، ويسقى اللبن، وتأولوا فى قوله تعالى: (والذين فى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) [المعارج: 24، 25] ، فقالوا: مثل فك العانى، وإطعام الجائع الذى يخاف ذهاب نفسه، والمواساة فى المسغبة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 والعسرة. وهو قول الحسن البصرى، والشعبى، وعطاء، وطاوس، وتأول مسروق فى قوله تعالى: (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة (قال: هو الرجل يرزقه الله المال، فيمنع قرابته صلته، فيجعل حية طوقها، وأكثر العلماء على أن ذلك كله فى الزكاة المفروضة، ولا حق عندهم فى المال سوى الزكاة، وتأولوا قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ومن حقها أن تحلب على الماء) ، أن ذلك حق فى كرم المواساة، وشريف الأخلاق لا أن ذلك فرض، والحجة لهم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من كان له مال، فلم يؤد زكاته مثل له. . .) والزكاة لا يفهم منها إلا زكاة الفرض، وقد بين النبى (صلى الله عليه وسلم) قوله: (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة (أنه جاء فى مانع الزكاة، وفى هذا الحديث خلاف تأويل مسروق، وقد انتزع ابن مسعود بهذه الآية فى مانع الزكاة أيضًا. قال إسماعيل بن إسحاق: الحق المفترض هو الموصوف المحدود، وقد تحدث أمور لا تحدّ ولا يحدّ لها وقت فتجب بها المواساة للضرورة التى تنزل من ضيف مضطر، أو جائع يعلم أنه مضطر، أو غاز مثله أو ميت ليس له من يواريه فيجب حينئذ على من يمكنه المواساة التى يزول بها حد الضرورة. والشجاع: الحية الذى يقوم على ذنبه، وربما بلغ رأس الفارس، والزبيبتان نقطتان منتفختان فى شدقيه كالرغوة، يقال: إنهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 يبرزان حين يهج ويغضب. وقيل: إنهما سوداوان على عينيه، وهى علامة الحية الذكر المؤذى. وقيل: الأقرع الذى أبيض رأسه من كثرة السم. وقوله: (لها يعار) قال صاحب الأفعال: اليعار: صوت المعزى، وقد يعرت تيعر، واليعر: الجدى، واليعور: الشاة التى تبول على حالبها وتَبْعَرُ فيفسد اللبن. وثغت الشاة تثغو ثغاءٌ، ورغاء البعير رُغاءً: صاح. 4 - باب مَا أُدِّىَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ لِقَوْلِ الرسول: (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ / 9 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنه قَالَ له أَعْرَابِىٌّ: أَخْبِرْنِى عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) [التوبة: 34] قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا، فَوَيْلٌ لَهُ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرًا لِلأمْوَالِ. / 10 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ) . / 11 - وفيه: زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ، فَإِذَا أَنَا بِأَبِى ذَرٍّ، فَقُلْتُ: مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلكَ هَذَا؟ قَالَ: كُنْتُ بِالشَّأْمِ فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِى هذه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 الآية: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ (قَالَ مُعَاوِيَةُ: نَزَلَتْ فِى أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقُلْتُ: نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ، فَكَانَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ فِى ذَاكَ، وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ يَشْكُونِى، فَكَتَبَ إِلَىَّ عُثْمَانُ أَنِ اقْدَمِ الْمَدِينَةَ، فَقَدِمْتُهَا فَكَثُرَ عَلَىَّ النَّاسُ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِى قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ، فَكُنْتَ قَرِيبًا، فَذَاكَ [الَّذِى] أَنْزَلَنِى هَذَا الْمَنْزِلَ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَىَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ. / 12 - وفيه: الأحْنَفِ، قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى مَلإٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الشَّعَرِ وَالثِّيَابِ وَالْهَيْئَةِ، حَتَّى قَامَ عَلَيْهِمْ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: بَشِّرِ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِمْ فِى نَارِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْىِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ، فيَتَزَلْزَلُ، ثُمَّ وَلَّى، فَجَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ، وَتَبِعْتُهُ وَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، وَلا أَدْرِى مَنْ هُوَ، قُلْتُ: لا أُرَى الْقَوْمَ إِلا قَدْ كَرِهُوا مقالتك، قَالَ: إِنَّهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا، قَالَ لِى خَلِيلِى رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (يَا أَبَا ذَرٍّ، أَتُبْصِرُ أُحُدًا؟) قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ مَا بَقِىَ مِنَ النَّهَارِ، وَأَنَا أُرَى أَنَّ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يُرْسِلُنِى فِى حَاجَةٍ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (مَا أُحِبُّ أَنَّ لِى مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلا ثَلاثَةَ دَنَانِيرَ) ، وَإِنَّ هَؤُلاءِ لا يَعْقِلُونَ، إِنَّمَا يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا، لا وَاللَّهِ لا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا، وَلا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ. قال الطبرى: الكنز فى كلام العرب كل شىء مجموع بعضه إلى بعض فى بطن الأرض كان أو على ظهرها، ولذلك تقول العرب للشىء المجتمع: مكتنز لانضمام بعضه إلى بعض، ومنه قول الهُذلى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 لا دَرَّ دَرِّىَ إن أطعمت نازلكم قِرْفَ الحَتِىِّ وعندى البُرُّ مكنوز الحتى: سويق المقل. واختلف السلف فى معنى الكنز، فقال بعضهم: هو كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤد زكاته، وقالوا: معنى قوله تعالى: (ولا ينفقونها فى سبيل الله) [التوبة: 34] لا يؤدون زكاتها، وهذا قول عمر، وابن عمر، وابن عباس، وعبيد بن عمير، وجماعة. وقال آخرون: الكنز ما زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز، وإن أديت زكاته. رواه جعدة بن هبيرة، عن على بن أبى طالب، قال: أربعة آلاف فما دونها نفقة، وما كان أكثر من ذلك فهو كنز، وقال غيره: الكنز ما فضل عن حاجة صاحبه إليه. وهذا مذهب أبى ذر. روى أن نصل سيف أبى هريرة كان من فضة فنهاه عنه أبو ذر، قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها) . واتفق أئمة الفتوى على قول عُمر، وابن عمر، وابن عباس، واحتج له الطبرى بنحو ما نزع به البخارى، فقال: الدليل على أن كل ما رأيت زكاته فليس بكنز إيجاب الله تعالى على لسان رسوله فى خمس أواق ربع عشرها، فإذا كان ذلك فرض الله تعالى على لسان رسوله، فمعلوم أن الكثير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 من المال، وإن بلغ ألوفًا إذا أديت زكاته فليس بكنز، ولا يحرم على صاحبه اكتنازه، لأنه لم يتوعد الله عليه بالعقاب، وإنما توعد الله بالعقاب على كل مال لم تؤد زكاته، وليس فى القرآن بيان كم ذلك القدر من الذهب والفضة الذى إذا جمع بعضه إلى بعض استحق جامعة الوعيد، فكان معلومًا أن بيان ذلك إنما يؤخذ من وقف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو ما بيناه أنه المال الذى لم يؤد حق الله منه من الزكاة دون غيره من المال. قال غيره: وإنما كتب معاوية إلى عثمان يشكو أبا ذر، لأنه كان كثير الاعتراض عليه والمنازعة له، وكان وقع فى جيشه تشتيت من ميل بعضهم إلى قول أبى ذر، فلذلك أقدمه عثمان إلى المدينة، إذ خشى الفتنة فى الشام ببقائه، لأنه كان رجلاً شديدًا لا يخاف فى الله لومة لائم. قال المهلب: وكان هذا توقيرًا من معاوية لأبى ذر حين كتب إلى السلطان الأعلى يستجلبه، وصانه معاوية من أن يخرجه فتكون عليه وصمة. وقد ذكر الطبرى: أنه حين كثر الناس عليه بالمدينة يسألونه عن سبب خروجه من الشام، خشى عثمان من التشتيت بالمدينة ما خشيه معاوية بالشام، فقال له: تنح قريبًا. فقال: إنى والله لن أدع ما كنت أقوله فسار إلى الربذة، وبينها وبين المدينة ثلاثة أيام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 وفى هذا من الفقه: أنه جائز للإنسان الأخذ بالشدة فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإن أدى ذلك إلى فراق وطنه. وفيه: أنه جائز للإمام أن يخرج من توقع ببقائه وقوع فتنة بين الناس. وفيه: ترك الخروج على الأئمة، والانقياد لهم، وإن كان الصواب فى خلافهم. وفيه: جواز الاختلاف والاجتهاد فى الآراء، ألا ترى أن عثمان ومن كان بحضرته من الصحابة لم يردوا أبا ذر عن مذهبه، ولا قالوا له: إنه لا يجوز لك اعتقاد قولك، لأن أبا ذر نزع بحديث النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، واستشهد به، وذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما أحب أن لى مثل أُحُدٍ ذهبًا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير) ، وكذلك حين أنكر على أبى هريرة نصل سيفه استشهد على ذلك بقوله، (صلى الله عليه وسلم) : (من ترك صفراء، أو بيضاء كوى بها) . وهذا حجة فى أن الاختلاف فى العلم باق إلى يوم القيامة، لا يرتفع إلا بإجماع. وقد روى ابن أبى شيبة، عن محمد بن بشر، حدثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن عبد الله بن الأقنع الباهلى، عن الأحنف بن قيس، قال: كنت جالسًا فى مسجد المدينة فأقبل رجل لا تراه حلقة إلا فروا منه حتى انتهى إلى الحلقة التى كنت فيها، فثبتُّ وفروا، فقلت: على ما يفر الناس منك؟ قال: إنى أنهاهم عن الكنوز، قلت: إن أعطياتنا قد ارتفعت وكثرت فتخاف علينا منها؟ قال: أما اليوم فلا، ولكنها توشك أن تكون أثمان دينكم، فدعوهم وإياها. وقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 المهلب: وفى قوله: (بشر الكانزين برضف) وجوب مبادرة إخراج الزكاة عند حولها والتحذير من تأخيرها. وقوله: (فنظرت إلى الشمس ما بقى من النهار) فهو مثل لتعجيل الزكاة، يريد ما أحب أن أحبس ما أوجبه الله وحَلَّ وقته بقدر ما بقى من النهار. والرضف: الحجارة المحماة. والنغض: الغضروف من الكتف. الخطابى: نغض الكتف: فرغه، وسمى نغضا، لأنه ينغض من الإنسان إذا أسرع، أى يتحرك. ومنه يقال: نغض الرجل رأسه، إذا حركه. ومنه قوله تعالى: (فسينغضون إليك رءوسهم (] الإسراء: 51] . 5 - باب إِنْفَاقِ الْمَالِ فِى حَقِّهِ / 13 - فيه: ابْنِ مَسْعُود، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لا حَسَدَ إِلا فِى اثْنَتَيْنِ رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِى الْحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا) . قال بعض أهل العلم: إنفاق المال فى حقه ينقسم ثلاثة أقسام: فالأول أن ينفق على نفسه، وأهله، ومن تلزمه نفقته غير مقتر عما يجب لهم، ولا مسرف فى ذلك، كما قال تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 ) والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا) [الفرقان: 67] ، وهذه النفقة أفضل من الصدقة، ومن جميع النفقات، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تضعها فِى فىّ امرأتك) . وقسم ثان: وهو أداء الزكاة، وإخراج حق الله تعالى لمن وجب له. وقد قيل: من أدى الزكاة فقد سقط عنه اسم البخل. وقسم ثالث: وهو صلة الأهل البعداء ومواساة الصديق، وإطعام الجائع، وصدقة التطوع كلها فهذه نفقة مندوب إليها مأجور عليها، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الساعى على الأرملة واليتيم كالمجاهد فى سبيل الله) . فمن أنفق فى هذه الوجوه الثلاثة فقد وضع المال فى موضعه، وأنفقه فى حقه، ووجب حسده، وكذلك من آتاه الله حكمته فعلمها فهو وارث منزلة النبوة، لأنه يموت ويبقى له أجر من علّمه، وعمل بعلمه إلى يوم القيامة، فينبغى لكل مؤمن أن يحسد من هذه حاله، والله يؤتى فضله من يشاء. 6 - باب الرِّيَاءِ فِى الصَّدَقَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى) [البقرة: 264] الآية. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (صَلْدًا (لَيْسَ عَلَيْهِ شَىْءٌ. والرياء يبطل الصدقة وجميع الأعمال، لأن المرائى إنما يعمل من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 أجل الناس ليحمدوه على عمله، فلم يحمده الله تعالى حين رضى بحمد الناس عوضًا عن حمد الله وثوابه، وراقب الناس دون ربه، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) عن الله عز وجل: (من عمل عملاً أشرك فيه معى غيرى فهو له، وأنا أغنى الشركاء عن الشرك) . وجاء فى الحديث أن الرياء الشرك الأصغر. وكذلك المن والأذى يبطلان الصدقة، لأن المنان بها لم يتق الله فيها، ولا أخلصها لوجهه تعالى، ولا ينفع عمل بغير نية، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنما الأعمال بالنيات وإنما لامرئ ما نوى) ، وكذلك المؤذى لمن تصدق عليه يبطل إثمُ الأذى أجرَ الصدقة، وقد نهى الله تعالى عن انتهار السائل، فما فوق ذلك من الأذى أَدْخَلُ فى النهى، والله أعلم. قال عبد الواحد: كان ينبغى للبخارى، رحمه الله، أن يخرج فى هذا الباب قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجرت عليها. . .) الحديث. فهو يشبه التبويب، لأن من ابتغى وجه الله يسلم من الرياء، وابتغاء غير وجه الله هو عين الرياء. 7 - باب لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ وَلا يَقْبَلُ إِلا مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى) [البقرة: 263] الآية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 استدلال البخارى بهذه الآية صحيح وذلك أنه لما كان حرمانُ السائل، والقولُ المعروف والاستغفار له خيرًا من صدقة يتبعها أذى، صح وثبت أن الصدقة إذا كانت من غلول أنها غير متقبلة، لأن الأذى للمسلمين فى الغلول أشد عند الله من أذى المتصدق عليه وحده. قال عبد الواحد: كان ينبغى للبخارى أن يخرج فى هذا الباب قوله تعالى: (أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) [البقرة: 267] فهو أليق بالترجمة، والحديثُ الذى خرجه فى الباب بعد هذا وهو قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من تصدق بصدقة من كسب طيب. . . .) يصلح فيه. 8 - باب الصَّدَقَةِ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ) [البقرة: 276] الآية. / 14 - فيه: أَبُو هُرَيْرَة، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ - وَلا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلا الطَّيِّبَ - فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِا، كَمَا يُرَبِّى أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، أو فصيله، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ) . قوله تعالى: (ويربى الصدقات (يعنى يضعف أجرها لربها وينميها، ألا ترى قوله - عليه السلام -: (ثم يربيها كما يربى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 أحدكم فلوه، أو فصيله) ، ولما كان الربا قد أخبر الله أنه يمحقه، لأنه حرام دلت الآية أن الصدقة التى تربو وتتقبل لا تكون إلا من غير جنس الممحوق، وذلك الحلال، وقد بين ذلك (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (ولا يقبل الله إلا الطيب) . وقال ابن الأنبارى: الزكاة فى اللغة أصلها الزيادة، سميت بذلك لأنها تزيد فى المال الذى يخرج منه. يقال: زكا الشىء زكاة، إذا زاد، والزكا بالقصر معناه: زوجان ذكر وأنثى، أو شيئان مصطحبان يجريان مجرى الذكر والأنثى، والمراد بذكر اليمين فى هذا الحديث: التحفى بالصدقة، والرضا عنها، والحض عليها، والله تعالى لا يوصف بالجوارح فيكون له يمين وشمال. قال أبو بكر بن فورك: المراد بوصف الله تعالى باليمين أنه لما وصف باليدين، ويد الجارحة تكون إحداهما يمينًا، والأخرى شمالاً، واليسرى تنقص أبدًا فى الغالب عن اليمين فى القوة، والبطش عرفنا النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بقوله: (وكلتا يديه يمين) كمال صفة الله تعالى أنه لا نقص فيها، وأن ما وصف به من اليدين ليس كما يوصف به ذو الجارحة التى تنقص مياسره عن ميامنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 9 - باب الصَّدَقَةِ قَبْلَ الرَّدِّ / 15 - فيه: حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (تَصَدَّقُوا فَإِنَّهُ يَأْتِى عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِى الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَلا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا، فيَقُولُ الرَّجُلُ: لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالأمْسِ لَقَبِلْتُهَا، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلا حَاجَةَ لِى بِهَا) . / 16 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ، فَيَفِيضَ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَحَتَّى يَعْرِضَهُ فَيَقُولَ الَّذِى يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ: لا أَرَبَ لِى فيه) . / 17 - وفيه: عَدِىَّ بْنَ حَاتِمٍ يَقُولُ: كُنْتُ عِنْدَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَجَاءَهُ رَجُلانِ أَحَدُهُمَا يَشْكُو الْعَيْلَةَ، وَالآخَرُ يَشْكُو قَطْعَ السَّبِيلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَمَّا قَطْعُ السَّبِيلِ، فَإِنَّهُ لا يَأْتِى عَلَيْكَ إِلا قَلِيلٌ حَتَّى تَخْرُجَ الْعِيرُ إِلَى مَكَّةَ بِغَيْرِ خَفِيرٍ، وَأَمَّا الْعَيْلَةُ، فَإِنَّ السَّاعَةَ لا تَقُومُ حَتَّى يَطُوفَ أَحَدُكُمْ بِصَدَقَتِهِ فلا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا مِنْهُ، ثُمَّ لَيَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ وَلا تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ: أَلَمْ أُوتِكَ مَالاً، فَلَيَقُولَنَّ: بَلَى، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ: أَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ رَسُولاً؟ فَلَيَقُولَنَّ: بَلَى، فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلا يَرَى إِلا النَّارَ، ثُمَّ يَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ فَلا يَرَى إِلا النَّارَ، فَلْيَتَّقِيَنَّ أَحَدُكُمُ النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ) . / 18 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ، فلا يَجِدُ من يقبلها، وَيُرَى الرَّجُلُ الْوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 ففى هذا الباب: الحض على الصدقة، والترغيب فيها ما وُجِد أهلها المستحقون لها، خشية أن يأتى الزمان الذى لا يوجد فيه من يأخذ الصدقة، وهو زمان كثرة المال وفيضه، قرب الساعة. وفى قوله: (فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة) حض على القليل من الصدقة. وقوله: (فإن لم يجد فبكلمة طيبة) حض أيضًا على أن لا يحقر شيئًا من الخير بالقول والفعل، وإن قَلَّ ذلك، وإذا كانت الكلمة الطيبة يتقى بها النار، فالكلمة الخبيثة يستوجب بها النار. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (يرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يَلُذْنَ به من قلة الرجال، وكثرة النساء) ، فهذا والله أعلم يكون عند ظهور الفتن، وكثرة القتل فى الناس، وهذا كله من أشراط الساعة. قال المهلب: وقوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث عدى: (ليقفن أحدكم بين يدى الله ليس بينه وبينه حجاب) ، فإنما هذا على جهة التمثيل ليفهم الخطاب لأن الله تعالى لا يحيط به شىء، ولا يحجبه حجاب، تعالى الله عن ذلك، وإنما يستتر تعالى عن أبصارنا بما وضع فينا من الحجب، والضعف عن الإدراك لنوره فى الدنيا، فإذا كان فى الآخرة، وكشف تلك الحجب عن أبصارنا فقواها حتى تدرك معاينة ذاته كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 وقوله: (حتى يهم رب المال من يقبل صدقته) ، قال صاحب العين: يقال: أهمنى الأمر مثل أغمنى، وهمنى هما: رابنى. وقوله: (بغير خفير) فالخفير: المجير، والخفارة: الذمة. - باب اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ وَالْقَلِيلِ مِنَ الصَّدَقَةِ ) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ (إلى قوله: (فيها مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) [البقرة: 265، 266] / 19 - فيه: أَبُو مَسْعُود، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَىْءٍ كَثِيرٍ، فَقَالُوا: مُرَائِى، وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ، فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا، فَنَزَلَتْ: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِى الصَّدَقَاتِ) [التوبة: 79] . قَالَ أَبُو مَسْعُود: كَانَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أَحَدُنَا إِلَى السُّوقِ، فَيُحَامِلُ، فَيُصِيبُ الْمُدَّ، وَإِنَّ لِبَعْضِهِمُ الْيَوْمَ لَمِائَةَ أَلْفٍ. / 20 - وفيه: عَدِىَّ، سَمِعْتُ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَقُولُ: (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) . / 21 - وفيه: عَائِشَةَ، دَخَلَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَيْنَا، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: (مَنِ ابْتُلِىَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَىْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ) . قال المؤلف: قوله: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) حض على الصدقة بالقليل، وقد تصدقت عائشة بتمرة، وتصدقت بحبة عنب، وقالت: كم فيها من مثاقيل الذر. ومثله قوله (صلى الله عليه وسلم) لأبى تميمة الهجيمى: (لا تحقرن شيئًا من المعروف ولو أن تضع من دلوك فى إناء المستقى) . وفى حديث أبى مسعود ما كان عليه السلف من التواضع، والحرص على الخير واستعمالهم أنفسهم فى المهن والخدمة رغبةً منهم فى الوقوف عند حدود الله، والاقتداء بكتابه، وكانوا لا يتعلمون شيئًا من القرآن إلا للعمل به، فكانوا يحملون على ظهورهم للناس ويتصدقون بالثمن لعدم المال عندهم حينئذ، وقوله: (نحامل) يعنى نحمل لغيرنا، ونحامل وزنه، تفاعل، والمفاعلة لا تكون إلا من اثنين كالمبايعة والمعاملة، ألا ترى أنه حين نزلت) يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدى نجواكم صدقة) [المجادلة: 12] شق عليهم العمل بها، فنسخت عنهم بقوله: (فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) [المجادلة: 13] . وقال على بن أبى طالب: إن فى كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلى، ولا يعمل بها أحد بعدى، كان لى دينار فصرفته، فكنت إذا ناجيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تصدقت بدرهم حتى نفذ، ثم نسخت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 وفى حديث عائشة أن النفقة على البنات، والسعى عليهن من أفضل أعمال البر، وأن ذلك ينجى من النار. - باب فَضْلِ صَدَقَةِ الصَّحِيحِ الشَّحِيحِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعَ فِيهِ وَلا خُلَّةَ) [البقرة: 254] ) وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون: 10] . / 22 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: (أَنْ تَصَدَّقَ، وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الْفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) ، قُلْتَ: لِفُلانٍ كَذَا وَلِفُلانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ. فيه: أن أعمال البر كلما صعبت كان أجرها أعظم، لأن الصحيح الشحيح إذا خشى الفقر، وأمل الغنى صعبت عليه النفقة، وسول له الشيطان طول العمر، وحلول الفقر به، فمن تصدق فى هذه الحال، فهو مؤثر لثواب الله على هوى نفسه، وأما إذا تصدق عند خروج نفسه فيخشى عليه الضرار بميراثه والجوار فى فعله، ولذلك قال ميمون بن مهران حين قيل له: إن رقية امرأة هشام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 ماتت، وأعتقت كل مملوك لها، فقال ميمون: يعصون الله فى أموالهم مرتين، يبخلون بها، وهى فى أيديهم، فإذا صارت لغيرهم أسرفوا فيها. - بَاب / 23 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قُلْنَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَيُّنَا أَسْرَعُ لُحُوقًا بك؟ قَالَ: (أَطْوَلُكُنَّ يَدًا) ، فَأَخَذُوا قَصَبَةً يَذْرَعُونَهَا، فَكَانَتْ سَوْدَةُ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا، فَعَلِمْنَا بَعْدُ أَنَّمَا كَانَتْ طُولَ يَدِهَا الصَّدَقَةُ، وَكَانَتْ أَسْرَعَنَا لُحُوقًا بِهِ، وَكَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ. هذا الحديث سقط منه ذكر زينب، لأنه لا خلاف بين أهل الأثر والسير أن زينب أول من مات من أزواج النبى، (صلى الله عليه وسلم) . وروى ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، عن عبد الرحمن بن أبزى، قال: صليت مع عمر بن الخطاب على أم المؤمنين زينب بنت جحش، وكانت أول نساء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) توفيت بعده. وروى ابن أبى خيثمة، قال: حدثنا معاوية بن عمرو، قال: حدثنا المسعودى، قال: حدثنا القاسم بن معن، قال: كانت زينب بنت جحش أول نساء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لحوقًا به. وروى مسلم فى كتابه حديث عائشة على خلاف ما ذكره البخارى، فقال: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا الفضل بن موسى السينانى، قال: حدثنا طلحة بن يحيى بن طلحة، عن عائشة أم المؤمنين، قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 (أسرعكن لحاقًا بى أطولكن يدًا) ، قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يدًا، فكانت أطولنا يدًا زينب، لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق. وذكر مسلم الحديث الطويل الذى فيه إرسال أزواج النبى لفاطمة إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) يسألنه العدل فى بنت أبى قحافة، قالت عائشة: فأرسل أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) زينب، وهى التى كانت تسامينى منهن فى المنزلة عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولم أر امرأة قط خيرًا فى الدين من زينب وأتقى لله، وأصدق حديثًا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالاً لنفسها فى العمل الذى تتصدق به، وتتقرب به إلى الله عز وجل. وقال المهلب: اليد فى هذا الحديث: الإنعام والإفضال، وفيه: أن الحكم للمعانى لا للألفاظ، بخلاف قول أهل الظاهر، ألا ترى أن أزواج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، سبق إليهن أنه أراد طول اليد التى هى الجارحة، فلما لم تتوف سودة التى كانت أطولهن يد الجارحة، وتوفيت زينب قبلهن علمن أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يرد طول العضو، وإنما أراد بذلك كثرة الصدقة، لأن زينب هى التى كانت تحب الصدقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 - باب صَدَقَةِ الْعَلانِيَة ) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) [البقرة: 274] اختلف العلماء فى المعنى الذى نزلت فيه هذه الآية، فروى مجاهد عن ابن عباس، أنها نزلت فى على بن أبى طالب، كانت معه أربعة دراهم، فأنفق بالليل درهمًا، وبالنهار درهمًا، وسرًا درهمًا، وعلانية درهمًا. وقال الأوزاعى: نزلت فى الذين يرتبطون الخيل خاصة فى سبيل الله، ينفقون عليها بالليل والنهار. وروى عن قتادة قول ثالث: أنها نزلت فيمن أنفق ماله فى سبيل الله، لقول الرسول، (صلى الله عليه وسلم) : (إن المكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا، وهكذا عن يمينه، وعن شماله، وقليل ما هم) هؤلاء قوم أنفقوا أموالهم فى سبيل الله الذى افترض وارتضى من غير سرف ولا إملاق، ولا تبذير، ولا فساد. ولا خلاف بين أئمة العلم أن إعلان صدقة الفريضة أفضل من إسرارها، وأن إسرار صدقة النافلة أفضل من إعلانها على ما يأتى ذكره فى الباب بعد هذا، إن شاء الله. - باب صَدَقَةِ السِّرِّ وَقَالَ الرسول، (صلى الله عليه وسلم) : (وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ) . وَقَوْلِهِ: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة: 271] الآيَةَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 عند كافة العلماء أن صدقة السر فى التطوع أفضل من العلانية، وتأولوا قوله، (صلى الله عليه وسلم) : (فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) . أن المراد بذلك صدقة التطوع، وروى عن ابن عباس فى قوله: (إن تبدوا الصدقات فنعما هى) [البقرة: 271] الآية. قال: جعل الله تعالى صدقة التطوع فى السرِّ تفضل علانيتها بسبعين ضعفًا، وجعل صدقة الفرض علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفًا، وكذلك جميع الفرائض، والنوافل فى الأشياء كلها. وقال سفيان: (إن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم (قال: سوى الزكاة، وهذا قول كالإجماع. وقوله: (حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) مثل ضربه فى المبالغة بالاستتار بالصدقة، لقرب الشمال من اليمين، وإنما أراد بذلك أن لو قدر أن لا يعلم من يكون عن شماله من الناس ما تتصدق به يمينه لشدة استتاره، وهذا على المجاز كقوله تعالى: (واسأل القرية) [يوسف: 82] لأن الشمال لا توصف بالعلم. وقوله تعالى: (والله بما تعملون خبير) [البقرة: 271] أى والله بما تعملون فى صدقاتكم من إخفائها وإعلانها، وفى غير ذلك من أموركم ذو خبرة وعلم لا يخفى عليه شىء منه، فهو محيط به مُحْصٍ له على أهله حتى يوفيهم جزاء قليله وكثيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 - باب إِذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِىٍّ وَهُوَ لا يَعْلَمُ / 24 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (قَالَ رَجُلٌ: لأتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِى يَدِ سَارِقٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ، تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ لأتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ زَانِيَةٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ، تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، لأتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِى يَدَيْ غَنِىٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِىٍّ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ، وَعَلَى زَانِيَةٍ، وَعَلَى غَنِىٍّ، فَأُتِىَ، فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ، وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا، وَأَمَّا الْغَنِىُّ فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ) . قال المهلب: قوله فى الحديث: (فأتى فقيل له: أما صدقتك على سارق. . .) إلى آخر الحديث، يعنى أنه أُرى ذلك فى المنام، والرؤيا حق. وقوله: (فلعله أن يستعف عن سرقته) ، فإن لعل من الله على معنى القطع والحتم، ودل ذلك أن صدقة الرجل على السارق والزانية والغنى قد تقبلها الله، لأنها إذا كانت سببًا إلى ما يرضى الله فلا شك فى فضلها وقبولها. واختلف العلماء فى الذى يعطى الفقير من الزكاة على ظاهر فقره ثم تبين غناه، فقال الحسن البصرى: إنها تجزئه. وهو قول أبى حنيفة، ومحمد، قالوا: لأنه قد اجتهد، وأعطى فقيرًا عنده، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 وليس عليه إلا الاجتهاد. وأيضًا فإن الصدقة إذا خرجت من مال المتصدق على نية الصدقة أنها جازية عنه حيث وقعت ممن بسط إليها إذا كان مسلمًا بدليل هذا الحديث قاله المهلب. وقال أبو يوسف، والثورى، والحسن بن حى، والشافعى: لا تجزئه، لأنه لم يضع الصدقة موضعها، وقد أخطأ فى اجتهاده كما أنه لو نسى الماء فى رحله، وتيمم لصلاته لم تجزئه صلاته. واختلف قول ابن القاسم: هل تجزئه أم لا، فقال ابن القصار: وقول مالك يدل على هذا، لأنه نص فى كفارة اليمين إن أطعم الأغنياء أنه لا يجزئه، وإن كان قد اجتهد فالزكاة أَوْلَى. وأما الصدقة على السارق والزانية، فإن العلماء متفقون أنهما إن كانا فقيرين فهما ممن تجوز له الزكاة. - باب إِذَا تَصَدَّقَ عَلَى ابْنِهِ وَهُوَ لا يَشْعُرُ / 25 - فيه: مَعْنَ بْنَ يَزِيدَ، بَايَعْتُ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنَا وَأَبِى وَجَدِّى وَخَطَبَ عَلَىَّ فَأَنْكَحَنِى، وَخَاصَمْتُ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبِى يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا، فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِى الْمَسْجِدِ، فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ، وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ) . اتفق العلماء على أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى الابن، ولا إلى الأب، إذا كانا ممن تلزم المزكى نفقتهما لأنها وقاية لماله، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 ولم يختلفوا أنه يجوز له أن يعطيهما ما شاء من صدقة تطوع أو غيرها. والمراد بهذا الحديث عندهم صدقة التطوع. واختلفوا فى دفع الزكاة إلى سائر القرابات المحتاجين الذين لا تلزم النفقة عليهم، فروى عن ابن عباس أنه يجزئه، وهو قول عطاء، والقاسم، وسعيد بن المسيب، وأبى حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وقالوا: هى لهم صلة وصدقة. وقال ابن المسيب: أولى الناس بزكاة مالى يتيمى ومن كان منى. وروى مطرف عن مالك أنه لا بأس أن يعطى قرابته من زكاته إذا لم يعط من يعول، فقال: رأيت مالكًا يعطى قرابته من زكاته، وهو قول أشهب. وقال الحسن البصرى وطاوس: لا يعطى ذوى قرابته من الزكاة شيئًا. وذكر ابن المواز، عن مالك أنه كره أن يخص قرابته بزكاته، وإن لم تلزمه نفقتهم. قال المهلب: وفيه أن للابن أن يخاصم أباه، وليس بعقوق إذا كان ذلك فى حق، على أن مالكًا قد كره ذلك، ولم يجعله من باب البر. وفيه: أن ما خرج إلى الابن من مال الأب على وجه الصدقة، أو الصلة أو الهبة لله، وحازه الابن أنه لا رجوع للأب فيه، بخلاف الهبة التى للأب أن يعتصرها ولم يكن له أن يقبض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 الصدقة وكل هبة وصدقة وعطية لله تعالى، فليس له أن يقبضها لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (العائد فى صدقته كالكلب يعود فى قيئه) . وسيأتى حكم الرجوع فى الهبات، ثم الاختلاف فى ذلك فى كتاب الهبة، إن شاء الله. - باب الصَّدَقَةِ بِالْيَمِينِ / 26 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِى ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ. . . . . وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ. . . . . . . . . .) الحديث. لما كانت اليمين أفضل من الشمال، وكانت الصدقة يراد بها وجه الله، استحب فيها أن تناول بأشرف الأعضاء، وأفضل الجوارح. وقد تقدم فى باب صدقة السر أن إخفاء النوافل والاستتار بها أفضل عند الله من إظهارها، بخلاف الفرائض. قال عبد الواحد: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) مثل ضربه بالاستتار بالصدقة لقرب الشمال من اليمين، وإنما أراد بذلك أن لو قدر ألا يعلم من يكون عن شماله من الناس ما تصدق به يمينه لشدة استتاره، وهذا على المجاز كقوله تعالى: (واسأل القرية) [يوسف: 82] لأن الشمال لا توصف بالعلم، وبالله التوفيق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 - باب مَنْ أَمَرَ خَادِمَهُ بِالصَّدَقَةِ وَلَمْ يُنَاوِلْ بِنَفْسِهِ وَقَالَ أَبُو مُوسَى، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) : (هُوَ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ) . / 27 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ لا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا) . وترجم له باب (أجر المرأة إذا تصدقت أو أطعمت من بيت زوجها غير مفسدة) . وترجم له باب (أجر الخادم إذا تصدق بأمر صاحبه غير مفسد) وزاد: عن أبى موسى، قال النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (الخازن المسلم الأمين الذى ينفق ما أُمر به كاملاً موفرًا طيبًا نفسه، فيدفعه إلى الذى أُمر له به أحد المصدقين) . قال الله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى) [المائدة: 2] ، فدلت هذه الآية على اشتراك المتعاونين على الخير فى الأجر، وجاء هذا المعنى فى هذه الأحاديث، إلا أنه لا يجوز لأحد أن يتصدق من مال أحد غيره بغير إذنه، لكن لما كانت امرأة الرجل لها حق فى ماله، وكان لها النظر فى بيتها جاز لها الصدقة بما لا يكون إضاعة للمال، ولا إسرافًا، لكن بمقدار العرف والعادة، وما تعلم أنه لا يؤلم زوجها، وتطيب به نفسه. فأخبر (صلى الله عليه وسلم) أنها تؤجر على ذلك، ويؤجر زوجها بما كسب، ويؤجر الخادم الممسك لذلك، وهو الخازن المذكور فى الحديث، إلا أن مقدار أجر كل واحد منهم لا يعلمه إلا الله، غير أن الأظهر أن الكاسب أعظم أجرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 وقوله: باب من أمر خادمه بالصدقة، ولم يناول بنفسه ينفك من قوله فى الحديث: (وللخادم مثل ذلك) ، لأن الخادم لا يجوز أن يتصدق من مال مولاه إلا بما أمره بالصدقة به، بخلاف الزوجة، لأن الخادم ليس له فى متاع مولاه تصرف، ولا حكم، وإنما هو خازن عليه فقط، ألا ترى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، شرط فى الخازن أن يؤدى الذى أمر به موفرًا طيبًا به نفسه، وكذلك يصح له الأجر، لأن من لم تطب نفسه على فعل الخير فلا نية له فيه، لأنه لا عمل إلا بنية، وكذلك إذا نقص المسكين مما أمر له به فقد خانه، فنقص أجره وخشى عليه الإثم. - باب لا صَدَقَةَ إِلا عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَمَنْ تَصَدَّقَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ، أَوْ أَهْلُهُ مُحْتَاجٌ، أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالدَّيْنُ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى مِنَ الصَّدَقَةِ، وَالْعِتْقِ، وَالْهِبَةِ، وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يُتْلِفَ أَمْوَالَ النَّاسِ. قَالَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ إِتْلافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ) ، إِلا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالصَّبْرِ فَيُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ بِهِ خَصَاصَةٌ، كَفِعْلِ أَبِى بَكْرٍ حِينَ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ، وَكَذَلِكَ آثَرَ الأنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ. وَنَهَى رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَيِّعَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِعِلَّةِ الصَّدَقَةِ. وَقَالَ كَعْب: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِى صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُولهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ) ، قُلْتُ: فَإِنِّى أُمْسِكُ سَهْمِى الَّذِى بِخَيْبَرَ. / 28 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) : (خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ) . / 29 - وفيه: حَكِيمِ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ) . وَالْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ. قال بعض أهل العلم: فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول) دليل على أن النفقة على الأهل أفضل من الصدقة، لأن الصدقة تطوع، والنفقة على الأهل فريضة. وقوله: (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) أى لا صدقة إلا بعد إحراز قوته وقوت أهله، لأن الابتداء بالفرائض قبل النوافل أولى، وليس لأحد إتلاف نفسه، وإتلاف أهله بإحياء غيره، وإنما عليه إحياء غيره بعد إحياء نفسه، وأهله، إذ حق نفسه وحق أهله أوجب عليه من حق سائر الناس، ولذلك قال: (وابدأ بمن تعول) ، وقال لكعب: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) . قال الطبرى: فإن قيل: هذا المعنى يعارض فعل أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، حين تصدق بماله كله، وأمضاه النبى (صلى الله عليه وسلم) . قيل: قد اختلف العلماء فيمن تصدق بماله كله فى صحة بدنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 وعقله، فقالت طائفة: ذلك جائز إذا كان فى صحته. واعتلوا بخبر أبى بكر حين تصدق بماله كله، وأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قَبِلَ ذلك ولم ينكره ولا رَدَّهُ، وهو قول مالك، والكوفيين، والشافعى، والجمهور. وقال آخرون: ذلك كله مردود، ولا يجوز شىء منه. رُوى ذلك عن عمر بن الخطاب أنه رد على غيلان بن سلمة نساءه، وكان طلقهن، وقسم ماله على بنيه، فَرَدَّ عمر ذلك كله. وقال آخرون: الجائز من ذلك الثلث، ويرد الثلثان واعتلوا بحديث كعب بن مالك، وأن النبى (صلى الله عليه وسلم) رَدَّ صدقته إلى الثلث. هذا قول مكحول، والأوزاعى. وقال آخرون: كل عطية تزيد على النصف ترد إلى النصف. روى ذلك عن مكحول. قال الطبرى: والصواب فى ذلك عندنا أن صدقة المتصدق بماله كله فى صحة بدنه وعقله جائزة، لإجازة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صدقة أبى بكر بماله كله، وإن كنت لا أرى أن يتصدق بماله كله، ولا يجحف بماله ولا بعياله، وأن يستعمل فى ذلك أدب الله تعالى لنبيه، (صلى الله عليه وسلم) ، بقوله: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملومًا محسورًا) [الإسراء: 29] وأن يجعل من ذلك الثلث كما أمر الرسولُ كعبَ بن مالك وأبا لبابة. وأما إجازته لأبى بكر الصديق، رضى الله عنه، الصدقة بماله كله، فهو إعلام منه أمته أن ذلك جائز غير مذموم وردُّه على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 كعب، وأبى لبابة ما رَدَّ، وأمرهُ لهما بإخراج الثلث إعلامٌ منه بموضع الاستحباب والاختيار، لا حَظْرا منه للصدقة بجميع المال، والدليل على ذلك إجماع الجميع على أن لكل مالك مالا إنفاق جميعه فى حاجاته، وصرفه فيما لا يحرم عليه من شهواته، فمثله إنفاق جميعه فيما فيه القربة إلى الله، إذ إنفاقه فى ذلك أولَى من إنفاقه فى شهواته، ولذاته. قال غيره: وأما قوله: وأما من تصدق وعليه دين، فالدين أحق أن يقضى من الصدقة والعتق والهبة، وهو رد عليه. فهو إجماع من العلماء لا خلاف بينهم فيه. وقوله: إلا أن يكون معروفًا بالصبر، فيؤثر على نفسه. فإنما يرجع هذا الاستثناء إلى قوله: من تصدق وهو محتاج. ولا يرجع إلى قوله: أو عليه دين، للإجماع الذى ذكرنا، ومن بلغ منزلة الإيثار على نفسه، وعلم أنه يصبر على الفقر، ويصبر أهله عليه، فمباح له أن يؤثر على نفسه، ولو كان بهم خصاصة، وجائز له أن يتصدق وهو محتاج، ويأخذ بالشدة كما فعل الأنصار بالمهاجرين، وكما فعل أبو بكر الصديق، رضى الله عنه، وإن عرف أنه لا طاقة له ولا لأهله على مقارعة الفقر والحاجة، فإمساكه لماله أفضل، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) وقوله: (وابدأ بمن تعول) وقد روى عباد بن العوام عن عبد الملك بن عمير، عن عطاء، عن أبى هريرة، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) لفظ الترجمة وهو معنى قوله: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 اليد العليا خير من اليد السفلى) . فيه ندب إلى التعفف عن المسألة، وحض على معالى الأمور، وترك دنيئها، والله يحب معالى الأمور، وفيه: حض على الصدقة أيضًا. لأن العليا يد المتصدق، والسفلى يد السائل، والمعطِى مفضل على المعطَى، والمفضَّل خير من المفضَّل عليه، ولم يُرِدْ (صلى الله عليه وسلم) أن المفضَّل فى الدنيا خير فى الدين، وإنما أراد فى الإفضال والإعطاء. قال الخطابى: وتفسيره فى هذا الحديث: اليد العليا المنفقة، والسفلى السائلة تفسير حسن، وفيه وجه آخر أشبه بمعنى الحديث، وهو أن تكون العليا هى المتعففة، وقد روى ذلك مرفوعًا: حدثونا عن علىِّ بن عبد العزيز، حدثنا عارم، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يخطب يقول: (اليد العليا خير من اليد السفلى، اليد العليا المتعففة) . ورواه ابن المبارك، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اليد العليا المنفقة، واليد السفلى السائلة) . قال أبو داود: ورواه عبد الوارث، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر مثله، ويؤكد هذا ما روى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، عن عروة، وسعيد بن المسيب، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أعطى حكيم بن حزام دون ما أعطى أصحابه، فقال حكيم: ما كنت أظن يا رسول الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 [أن] تقصر بى دون أحد. فزاده حتى رضى، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (اليد العليا خير من اليد السفلى) ، قال: ومنك يا رسول الله؟ قال: (ومنى) ، قال: والذى بعثك بالحق لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا، فلم يقبل عطاء ولا ديوانًا حتى مات. قال أبو سليمان: فلو كانت اليد العليا المعطية، لكان حكيم قد توهم أن يدًا خير من يد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لقوله: (ومنك يا رسول الله) يريد أن التعفف من مسألتك كهو من مسألة غيرك، فقال (صلى الله عليه وسلم) : (نعم) ، فكان بعد ذلك لا يقبل العطاء من أحد. وروى فى وجه ثالث عن الحسن، قال: اليد العليا المعطية، واليد السفلى المانعة. قال المؤلف: وحديث عروة وسعيد مرسل، والمسند أقطع فى الحجة عند التنازع. - بَاب الْمَنَّانِ بِمَا أَعْطَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى (الآيَةَ [البقرة: 262] ذكر أهل التفسير أن هذه الآية نزلت فى الذى يعطى ماله المجاهدين فى سبيل الله معونة لهم على جهاد العدو، ثم يمن عليهم بأنه قد صنع إليهم معروفًا إما بلسان أو بفعل، والأذى أن يقول: إنهم لم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 يقوموا بالواجب عليهم فى الجهاد. وشبه ذلك من القول، ومن أخرج شيئًا لله لم ينبغ أن يمن به على أحد، لأن ثوابه على الله تعالى. وروى أبو ذر، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنان الذى لا يعطى شيئًا إلا منهُ، والمنفقة سلعته بالحلف، والمسبل إزاره) . ذكره مسلم من حديث سفيان، عن الأعمش، عن سليمان ابن مسهر، عن خراشة بن الحر، عن أبى ذر. - باب مَنْ أَحَبَّ تَعْجِيلَ الصَّدَقَةِ مِنْ يَوْمِهَا / 30 - فيه: عُقْبَةَ بْن الْحَارِثِ، أن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى الْعَصْرَ فَأَسْرَعَ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ، فَقُلْتُ - أَوْ قِيلَ لَهُ - فَقَالَ: (كُنْتُ خَلَّفْتُ فِى الْبَيْتِ تِبْرًا مِنَ الصَّدَقَةِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُبَيِّتَهُ فَقَسَمْتُهُ) . فى هذا الحديث: حض وندب على تعجيل الصدقات وأفعال البر كلها إذا وجبت، وإنما عجل (صلى الله عليه وسلم) تلك الصدقة، لأنه خشى أن يكون محتاجًا من وجب له حق فى ذلك التبر فيحبس عنه حقه تلك الليلة، وكان بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا فبين لأمته، ليقتدوا به (صلى الله عليه وسلم) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 - باب التَّحْرِيضِ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالشَّفَاعَةِ فِيهَا / 31 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، قَالَ: خَرَجَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ عِيدٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُصَلِّ قَبْلُ وَلا بَعْدُ، ثُمَّ مَالَ عَلَى النِّسَاءِ، وَبِلالٌ مَعَهُ، فَوَعَظَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِى الْقُلْبَ وَالْخُرْصَ. / 32 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: (اشْفَعُوا، تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ) . / 33 - وفيه: أَسْمَاءَ، قَالَتْ: قَالَ لِىَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُوكِى، فَيُوكَى الله عَلَيْكِ ولا تُحْصِى فَيُحْصِىَ اللَّهُ عَلَيْكِ) . وترجم لحديث أسماء باب (الصَّدَقَةِ فِيمَا اسْتَطَاعَ) ، وزاد فى آخره: (ارْضَخِى مَا اسْتَطَعْتِ) . قال المؤلف: الشفاعة فى الصدقة وسائر أفعال البر، مرغب فيها، مندوب إليها، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اشفعوا تؤجروا) ، فندب أمته إلى السعى فى حوائج الناس، وشرط الأجر على ذلك، ودَلَّ قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ويقضى الله على لسان نبيه ما شاء) أن الساعى مأجور على كل حال، وإن خاب سعيه ولم تنجح طلبته، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (الله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه) . وقد احتج أبو حنيفة والثورى بحديث ابن عباس، فأوجبوا الزكاة فى الحلى للباس، وقال مالك: لا زكاة فى الحلى، وهو مذهب ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأنس، وعائشة، وأسماء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 قال ابن القصار، والمهلب: ولا حجة فى حديث ابن عباس لمن أوجب الزكاة فى الحلى، لأنه (صلى الله عليه وسلم) إنما حَضَّهُنَّ على صدقة التطوع لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (تصدقن ولو من حليكن) ، ولو كان ذلك واجبًا، لما قال: (ولو من حليكن) . قال عبد الواحد: ومما يَرُدُّ قول أبى حنيفة أن لو كان ذلك من باب الزكاة لأعطينه بوزن ومقدار، فدل أنه تطوع. قال أبو عبيد: الحلى الذى يكون زينة النساء ومتاعًا هو كالأثاث، وليس كالرقة التى وردت السنة بأخذ ربع العشر منها. والرقة عند العرب الورق ذات السكة السائرة بين الناس، وعلى هذا جرى العمل بالمدينة لا خلاف عندهم أنه لا زكاة فيه، وذكر مالك، عن عائشة، أنها كانت تحلى بنات أخيها يتامى كن فى حجرها بالحلى فلا تخرج منه الزكاة، وكان يفعله ابن عمر. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أسماء: (لا توكى فيوكى الله عليك) ، فإنما سألته عن الصدقة، وقالت له: يا رسول الله، ما لى إلا ما يُدخل علىّ الزبير، أفأتصدق؟ قال: (تصدقى ولا توكى فيوكى الله عليك) . وروى حماد بن سلمة، عن أيوب، عن ابن أبى مليكة، أن عائشة قالت لخادمها: ما أعطيت السائل؟ فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تحصى فيحصى الله عليك) ، ومعنى قوله: (لا توكى فيوكى الله عليك) ، أى لا توكى مالك عن الصدقة، فلا تتصدقى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 خشية نفاده، فيوكى الله عليك، أى يمنعك كما منعت السائل. دَلَّ هذا الحديث أنَّ الصدقة قد تنمى المال، وتكون سببًا إلى البركة والزيادة فيه، وأن من شح ولم يتصدق، فإن الله يوكى عليه، ويمنعه من البركة فى ماله والنماء فيه. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ارضخى ما استطعت) ، أى تصدقى ما استطعت. والعرب تقول: رضخ له من ماله رضخًا، أى أعطاه قليلاً من كثير، عن صاحب الأفعال، وقال صاحب العين: القُلْبُ من الأسورة ما كان قلدًا واحدًا. والقُلْب: الحية البيضاء، والخرص حلقة فى الأذن، عن غيره. - باب الصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ / 34 - فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قول رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْفِتْنَةِ؟ قُلْتُ: أَنَا أَحْفَظُهُ كَمَا قَالَ، قَالَ: إِنَّكَ عَلَيْهِ لَجَرِىءٌ، فَكَيْفَ قَالَ؟ قُلْتُ: (فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْمَعْرُوفُ) . قَالَ سُلَيْمَانُ: قَدْ كَانَ يَقُولُ: (الصَّلاةُ وَالصَّدَقَةُ، وَالأمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ) الحديث. قوله: (فتنة الرجل فى أهله وولده وجاره) يريد ما يفتتن به من صغار الذنوب التى تكفرها الصلاة والصدقة وما جاء منه، وسأشبع القول فى تفسير هذا الحديث فى كتاب الصيام، فى باب الصوم كفارة، إن شاء الله تعالى. قال المهلب: وفيه: ضرب الأمثال فى العلم. وفيه: حجة لما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 يتكلم به أهل العلم من قطع الذرائع، ويعبرون عنه بغلق الباب وبفتحه كما عبر عنه حذيفة وعمر، وأن ذلك من المتعارف من الكلام. وفيه: أنه قد يكون عند الصغير من العلم ما ليس عند العالم المبرز. وفيه: أن العلم قد يرمز به رمزًا ليفهم المرموز له دون غيره، لأنه ليس كل العلم تجب إباحته إلى من ليس بمتفهم له، ولا عالم بمعناه. وفيه: أن الكلام فى الحدثان مباح إذا كان فى ذلك أثر عن النبوة، وما سوى ذلك ممنوع، لأنه لا يصدق منه إلا أقل من عشر العشر، وذلك الجزء إنما هو على غلبة الظن، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنى فيزيد إليها أكثر من مائة كذبة) . - باب مَنْ تَصَدَّقَ فِى الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ / 35 - فيه: حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ، أَوْ عَتَاقَةٍ، أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ، فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ) . قال بعض أهل العلم: معنى هذا الحديث: أن كل مشرك أسلم أنه يكتب له أجر كل خير عمله قبل إسلامه، ولا يكتب عليه بشىء من سيئاته، لأن الإسلام يهدم ما قبله من الشرك، وإنما كتب له الخير، لأنه إنما أراد به وجه الله، لأنهم كانوا مقرين بالله إلا أن علمهم كان مردودًا عليهم لو ماتوا على شركهم، فلما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 أسلموا تفضل الله عليهم، فكتب لهم الحسنات، ومحا عنهم السيئات، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بمحمد) . ومما يدل على صحة ذلك ما رواه عبد الله بن وهب، قال: حدثنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبى سعيد الخدرى، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه، كتب الله كل حسنة كان زلفها، ومحا عنه كل سيئة كان زلفها، وكان عمله بَعْدُ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله) . قال المهلب: ولعل حكيمًا لو مات على جاهليته أن يكون ممن يخفف عنه من عذاب النار، كما جاء فى أبى طالب أنه أخف أهل النار عذابًا، ومثل ذلك ما روى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، أن أبا لهب أعتق جارية يقال لها: ثويبة، وكانت قد أرضعت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فرأى أبا لهب بعضُ أهله فى النوم، فسأله فقال: ما وجدت بعدكم من راحة غير أنى سقيت فى هذه، وأشار إلى النقرة التى تحت إبهامه، بعتقى ثويبة) . وسيأتى فى كتاب العتق فى باب عتق المشرك، اختلاف أهل العلم فى عتق المشرك، إن شاء الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (إلى) لِلْعُسْرَى) [الليل: 5 - 10] / 36 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا) . قال المؤلف: معنى هذا الحديث: الحض على الإنفاق فى الواجبات، كالنفقة على الأهل وصلة الرحم، ويدخل فيه صدقة التطوع، والفرض، ومعلوم أن دعاء الملائكة مجاب، بدليل قوله: (فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) ومصداق الحديث قوله تعالى: (وما أنفقتم من شىء فهو يخلفه) [سبأ: 39] يعنى ما أنفقتم فى طاعة الله، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ابن آدم، أنفق أُنفق عليك) . واختلف العلماء فى تأويل هذه الآية، فقال ابن عباس: قوله: (وصدق بالحسنى) [الليل: 6] صدق بالخلف من الله تعالى. وقال الضحاك: صدق بلا إله إلا الله. وروى عن ابن عباس أيضًا. وقال مجاهد: صدق بالجنة. وقال قتادة: صدق بموعود الله على نفسه، فعمل به. قال ابن الأدفوى: وأشبه الأقوال عندى قول من قال: وصدق بالخلف من الله تعالى لنفقته، يدل على ذلك قوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى (فكان أولى المعانى به أن يكون عقيبه الخبر بتصديقه بوعد الله بالخلف، ويؤيد ما قلناه حديث أبى هريرة، وقول الملائكة: (اللهم أعط منفقًا خلفًا، وأعط ممسكًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 تلفًا) ، وأنزل الله تعالى فى القرآن) فأما من أعطى واتقى (الآية. وقال ابن إسحاق: نزلت هذه الآية فى أبى بكر الصديق، روى أنه اشترى تسعة كانوا فى أيدى المشركين لله، فأنزل الله هذه الآية. وروى أنها نزلت فى رجل ابتاع نخلة كانت على حائط أيتام، فكان يمنعهم أكل ما سقط منها، فابتاعها رجل منه، وتصدق بها عليهم. وقوله تعالى: (فسنيسره لليسرى) [الليل: 7] يريد الحالة اليسرى، وهى العمل بما يرضاه الله تعالى منه فى الدنيا ليوجب له به الجنة فى الآخرة. وقالوا فى قوله تعالى: (وكذب بالحسنى) [الليل: 9] وكذب بالخلف، عن ابن عباس، وروى عنه أيضًا: كذب بلا إله إلا الله. وقال قتادة: كذب بموعود الله تعالى. وقال مجاهد: (وكذب بالحسنى (الجنة) فسنيسره للعسرى (أى للعمل بالمعاصى. ودلت هذه الآية أن الله تعالى الموفق للأعمال الحسنة والسيئة، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل السعادة، وأما أهل الشقاء فييسرون لعمل الشقاء، ثم قرأ: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى) [الليل: 5، 6] الآية) . وقال الضحاك: العسرى: النار. فإن قيل: التيسير إنما يكون للحسنى فكيف جاء للعسرى؟ . فالجواب: أنه مثل قوله تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم) [آل عمران: 21] أى أن ذلك يقوم لهم مقام البشارة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 وأنشد سيبويه: تحية بينهم ضرب وجيع وقال الفراء: إذا اجتمع خير وشر، فوقع للخير تيسير، جاز أن يقع للشر مثله. - باب مَثَلِ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ / 37 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا الْمُنْفِقُ، فَلا يُنْفِقُ إِلا سَبَغَتْ، أَوْ وَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ، حَتَّى تُخْفِىَ بَنَانَهُ، وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ، فَلا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلا لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُوَ يُوَسِّعُهَا، وَلا تَتَّسِعُ) . قال المهلب: فيه أن الله تعالى ينمى مال المتصدق، ويستره ببركة نفقته بالنماء فى ماله، ألا ترى ضربه (صلى الله عليه وسلم) المثل بالجبتين، فإن المنفق يستره الله بنفقته من قرنه إلى قدمه، وجميع عوراته بالفعل فى الدنيا وبالأجر فى الآخرة، فماله لا يشتد عليه، وأما البخيل فيظن أن ستره فى إمساك ماله، فمالُه لا يمتد عليه فلا يستر من عوراته شيئًا حتى تبدو للناس فيبقى منكشفًا كمن يلبس جبة تبلغ إلى ثدييه، ولا تجاوز قلبه الذى يأمره بالإمساك، فهو يفتضح فى الدنيا، ويؤزر فى الآخرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 - باب صَدَقَةِ الْكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ (الآية [البقرة: 267] . قال المؤلف: روى عن ابن عباس فى قوله: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم (قال: من أطيب أموالكم وأنفسها. وقال على بن أبى طالب: من الذهب والفضة. وقال مجاهد: من التجارة الحلال. وقال عبيدة السلمانى: سألت على بن أبى طالب عن هذه الآية، فقال: نزلت فى الزكاة المفروضة، كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية، فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه الردئ، فأنزل الله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) [البقرة: 267] وروى هذا القول عن قتادة، والحسن، وعطاء، ومجاهد. وقال آخرون: معنى قوله: (ولا تيمموا الخبيث (من الحرام) منه تنفقون (وتدعوا أن تنفقوا الحلال الطيب. هذا قول ابن زيد، والتأويل هو قول الصحابة والعلماء. - باب عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ / 38 - فيه: أَبُو موسى، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ) ، فَقَالُوا: يَا رسول اللَّهِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: (يَعْمَلُ بِيَدِهِ، فَيَنْفَعُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ) ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: (يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ) ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: (فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ، وَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ) . محمل هذا الحديث عند الفقهاء على الحض والندب على الصدقة، وأفعال الخير كلها، وهو مثل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (على كل سلامى من الناس صدقة) ، أى أنهم مندوبون إلى ذلك، فإن قيل: كيف يكون إمساكه عن الشر صدقة؟ قيل: إذا أمسك شره عن غيره، فكأنه قد تصدق عليه بالسلامة منه، وإن كان شرًا لا يعدو نفسه، فقد تصدق على نفسه بأن منعها من الإثم. - باب قَدْرُ كَمْ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَمَنْ أَعْطَى شَاةً / 39 - فيه: أُمّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: بُعِثَ إِلَى نُسَيْبَةَ الأنْصَارِيَّةِ بِشَاةٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى عَائِشَةَ مِنْهَا، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (عِنْدَكُمْ شَىْءٌ) ، فَقُلْتُ: لا، إِلا مَا أَرْسَلَتْ بِهِ نُسَيْبَةُ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ، فَقَالَ: (هَاتِ، فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا) . اختلف العلماء فى قدر ما يجوز أن يعطى الإنسان من الزكاة، فذكر ابن القصار عن مالك أنه قال: يُعطى الفقير من الزكاة قدر كفايته وكفاية عياله، ولم يبين مقدار ذلك لمدة معلومة. وعندى أنه يجوز أن يعطيه ما يغنيه حتى يجب عليه ما يزكى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 قال المهلب: قد بين المدة فى رواية على، وابن نافع فى المجموعة، قال مالك: يُعطى الفقير قوت سنته، ثم يزيده للكسوة بقدر ما يرى من حاجته. وقال أبو حنيفة: أكره أن يعطى إنسان واحد من الزكاة مائتى درهم، فإن أعطيته أجزأك. وقال المغيرة: لا بأس أن يعطيه من الزكاة أقل مما تجب فيه الزكاة، ولا يعطى ما تجب فيه الزكاة. وقال الثورى، وأحمد بن حنبل: لا يعطى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين درهمًا إلا أن يكون غارمًا. وقال الشافعى: يعطى من الزكاة حتى يغنى، ويزول عنه اسم المسكنة، ولا بأس أن يعطى الفقير الألف، وأكثر من ذلك، لأنه لا تجب عليه الزكاة إلا بمرور الحول. وهو قول أبى ثور. وقال ابن حبيب: لا بأس أن يعطى من زكاة غنمه للرجل شاة ولأهل البيت الشاتين، والثلاث، وإذا كثرت الحاجة فلا بأس أن يجمع النفر فى الشاة. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (هات فقد بلغت محلها) أى قد صارت حلالاً بانتقالها من باب الصدقة إلى باب الهدية، وهو مثل قوله فى لحم بريرة الذى أهدته لعائشة: (هو عليها صدقة، ولنا هدية) . وقد ترجم لهذا الحديث بعد هذا باب إذا تحولت الصدقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 30 - باب زَكَاةِ الْوَرِقِ / 40 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَة ذَوْدٍ مِنَ الإبِلِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرَقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ. . .) الحديث. قال أبو عبيد: الأوقية اسم لوزن مبلغه أربعون درهمًا كيلاً. ولم يجز أن تكون الأوقية على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) مجهولة القدر، ثم توجب الزكاة فيها، ولا يعلم مقدار وزنها. قال: وكانت الدراهم غير معلومة إلى زمن عبد الملك بن مروان، فجمعها وجعل كل عشرة دراهم وزن سبعة مثاقيل. وقوله: (كانت الدراهم غير معلومة) يريد لم يكن عليها نقش، وإنما كانت قطع فضة غير مضروبة ودراهم من ضرب الروم، فكره عبد الملك ضرب الروم وردَّها إلى ضرب الإسلام. فى قوله: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة) فائدتان: إحداهما: نفى الزكاة عما دون خمس أواق. والثانية: إيجابها فى ذلك المقدار، وما زاد عليه بحسابه هذا يوجبه ظاهر الحديث، لعدم النص على العفو فيما بعد الخمس الأواق حتى يبلغ مقدارًا ما، فلما عدم النص فى ذلك وجب القول بإيجابها فى القليل والكثير. روى هذا القول عن على بن أبى طالب، وابن عمر، وهذا قول النخعى، وعمر بن عبد العزيز، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 وابن أبى ليلى، ومالك، والليث، والثورى، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وقالت طائفة: لا شىء فيما زاد على الخمس الأواق حتى تبلغ الزيادة أربعين درهمًا، فإذا بلغتها كان فيها درهم. روى هذا القول عن عمر بن الخطاب، رواه الليث، عن يحيى بن أيوب، عن حميد، عن ابن عمر، وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن البصرى، وطاوس، وعطاء، والشعبى، ومكحول، وابن شهاب، وإليه ذهب أبو حنيفة. قال ابن القصار: واحتجوا بما رواه عبادة بن نُسى عن معاذ بن جبل، أن رسول الله، (صلى الله عليه وسلم) ، أمره حين بعثه إلى اليمن أن لا يأخذ من الكسور شيئًا، إذا بلغ الورق مائتى درهم، أخذ منه خمسة دراهم، ولا يأخذ مما زاد حتى تبلغ أربعين. قال الطبرى: وعلتُهم من طريق النظر القياس على أوقاص البقر، وما بين الفريضتين فى الإبل والغنم أنه لا شىء فى ذلك، فالواجب أن يكون كذلك كل مال وجبت فيه الصدقة أن لا يكون بين الفريضتين غير الفرض الأول. واحتج أهل المقالة الأولى بأن قالوا: إن عبادة بن نُسى لم يسمع من معاذ شيئًا، وراويه: أبو العطوف وهو متروك الحديث، فلا تجوز الحجة به، وعلتهم من طريق النظر القياس على الحبوب والثمار وأن الذهب والفضة معينان مستخرجان من الأرض بكلفة ومؤنة، ولا خلاف بين الجميع أن ما زاد على خمسة أوسق من الحب، وما توصل إليه بمثل ذلك من التمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 والزبيب، فيه من الصدقة بحساب ذلك، فالواجب قياسًا أن يكون مثله كل ما وجبت فيه الصدقة مما استخرج من الأرض بكلفة ومؤنة، وهذا القول هو الصواب. قال ابن القصار: ونقول: إن الأموال تختلف بعد إخراج النصاب الأول، فما كان إخراج الزكاة من زيادته لا يشق ويمكن أن يخرج منفصلاً لم يجعل له عفو فيما زاد على النصاب، وما لا يمكن إخراج الحق منه منفصلاً، أو فى وجوب الحق فيه مشقة، لأنه يؤدى إلى الإضرار وسوء المشاركة، ولم يمكن استخلاص حق الفقراء منه إلا بهذه المشقة أُخِّرَ حتى يمكن أخذه منفصلاً، فجعل له نصاب آخر بعد الأول، وأما الدراهم والدنانير والحبوب، فيمكن الأخذ من القليل والكثير منها من غير ضرر للشركة، لاحتمال التجزئة والتبعيض، فاختلف حكمها، وحكم المواشى من هذا الوجه، وقياسهم فاسد، فيما روى عن أبى حنيفة، فى خمسين من البقر مسُنِّة وربع. 31 - باب الْعَرْضِ فِى الزَّكَاةِ قَالَ طَاوُسٌ: قَالَ مُعَاذٌ لأهْلِ الْيَمَنِ: ائْتُونِى بِعَرْضٍ ثِيَابٍ خَمِيصٍ، أَوْ لَبِيسٍ فِى الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لأصْحَابِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (وَأَمَّا خَالِدٌ، فَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) . وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ) ، فَلَمْ يَسْتَثْنِ صَدَقَةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 الْفَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِى خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا، فَلَمْ يَخُصَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنَ الْعُرُوضِ. / 41 - فيه: ثُمَامَةُ، عن أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ (صلى الله عليه وسلم) : (وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا، وَعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَيْسَ مَعَهُ شَىْءٌ) . / 42 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أن النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، خرج إِلى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بالصدقة. . . . .) الحديث. اختلف العلماء فى أخذ العروض والقيم فى الزكاة، فقال مالك والشافعى: لا يجوز ذلك. وجوزه أبو حنيفة، واحتج أصحابه بما ذكر البخارى من أخذ معاذ للعروض فى الزكاة، وبحديث أنس عن أبى بكر، وقال: وكان معاذ ينقل الصدقات إلى المدينة، فيتولى رسول الله قسمتها، فإن كانت هذه الصدقة نقلها إلى المدينة فى حياة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقسمها بين فقراء المدينة، فلا محالة أنه قد أقره على جواز أخذ البدل فى الزكوات، لأنه قد علم (صلى الله عليه وسلم) أن الزكوات ليس فيها ما هو من جنس الثياب، وأنها لا تؤخذ إلا على وجه البدل، فصار إقراره له على فعله دلالة على الجواز، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 وإن كان بعد موته فقد وضعها أبو بكر بحضرة الصحابة فى مواضعها مع علمهم أن الثياب لا تجب فى الزكاة، فصار ذلك إقرارًا منهم على جواز أخذ القيم، فتحصل للمسألة اتفاق بين الصحابة، قالوا: وكذلك أمره (صلى الله عليه وسلم) بإخراج بنت لبون، عن بنت مخاض، ويزيد المصدق عشرين درهمًا أو شاتين، وهذا على طريق القيمة، قالوا: وإذا جاز أن يخرج عن خمس من الإبل شاة وهو من غير الجنس، جاز أن يخرج دينارًا عن الشاة. واحتجوا بما روى عن عمر بن الخطاب، أنه كان يأخذ العروض فى الزكاة ويجعلها فى صنف واحد من الناس، ذكره عبد الرزاق، عن الثورى، عن ليث، عن رجل حدثه عن عمر، ولهذا المذهب احتج البخارى، على كثرة مخالفته لأبى حنيفة، لكن اتباع الأحاديث قاده إلى موافقته. وقول البخارى: فجعلت المرأة تلقى خرصها وسخابها فلم يخص الذهب والفضة من العروض. وموضع الحجة منه أن السخاب ليست من فضة ولا ذهب. قال ابن دريد: السخاب: قلادة من قرنفل أو غيره، والجمع: سُخُب. ومن حلى النساء: الوَقْف، وهو من عاج وذَبْل، ما لم يكن من فضة ولا ذهب، فهو من العروض. فأراد البخارى أنه (صلى الله عليه وسلم) أخذ ذلك كله، وسيأتى شىء من هذا المعنى فى باب من بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده. واحتج المخالفون لهذا المذهب بأن قالوا: حديث معاذ خاص له لحاجة علمها بالمدينة، رأى أن المصلحة فى ذلك، وقامت الدلالة على أن غيره لا يجوز له أخذها، قالوا: وكذلك أخذ عمر العروض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 على وجه التطوع لا على صدقة الفريضة، وقالوا فى حديث أنس: أنه لم يعمل به أهل المدينة، ولا أمر أبو بكر ولا عمر به السعاة، فوجب تركه لمعنى علموه. واحتج بحديث معاذ من أجاز نقل الصدقة إلى بلد آخر غير البلد الذى جُبيت فيه وستأتى هذه المسألة بعد هذا فى باب (أخذ الصدقة من الأغنياء وترد فى الفقراء) ، إن شاء الله. ووقع فى هذا الباب فى قول معاذ: ائتونى بعرض ثياب خميص بالصاد، والصواب فيه بالسين، كذلك فسره أبو عبيد، وأهل اللغة. قال صاحب العين: الخميس والمخموس: ثوب طوله خمسة أذرع. وذكره أبو عبيد، عن الأصمعى، وقال: عن أبى عمرو الشيبانى إنما قيل له: خميس، لأن أول من أمر بعمله ملك من ملوك اليمن يقال له: الخمس. فنسب إليه، واستشهد بقول أعشى بن قيس يصف نبات الأرض: يوما تَراها كشِبْه أَرْدِيِةَ ال خِمْسِ ويومًا أَدِيمها نَغِلا وقال الطبرى: فى قولهم: (مخموس) يدل أنه مما جاء مجىء ما يصرف من الأشياء التى أصلها مفعول إلى فعيل مثل جريج أصله: مجروح، وقتيل أصله: مقتول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 32 - باب لا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ وَيُذْكَرُ عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) مِثْلَهُ. / 43 - فيه: ثُمَامَةُ، أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، كَتَبَ لَهُ الَّتِى فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَلا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ) . واختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقال مالك فى الموطأ: تفسير قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يجمع بين متفرق) وهو أن يكون النفر الثلاثة لكل واحد منهم أربعون شاة، قد وجب على كل واحد منهم فى غنمه الصدقة، فإذا أظلهم المصدق جمعوها لئلا يكون عليهم فيها إلا شاة واحدة، فنهوا عن ذلك، وتفسير قوله: (ولا يفرق بين مجتمع) أن الخليطين يكون لكل واحد منهم مائة شاةٍ وشاةٌ، فيكون عليهما فيها ثلاث شياه، فإذا أظَلَّهُما المُصَدِّق، فرقا غنمهما، فلم يكن على كل واحد منهما إلا شاة فنهوا عن ذلك. فقيل: لا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وإنما يعنى بذلك أصحاب المواشى. وهو قول الثورى، وكذلك قال الأوزاعى: هو خطاب لرب المال، وذلك أن يفترق الخلطاء عند قدوم المصدق، يريدون به بخس الصدقة. قال: ويصلح أن يراد به الساعى يجمع بين مفترق ليأخذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 منهم أكثر مما عليهم اعتداء، وهو قول الشافعى، وأبى ثور، قالا: المراد به رب المال والساعى، فإذا كان لرجل مائة وعشرون شاة، فلا يفرقها أربعين أربعين، ليأخذ ثلاث شياه منها، لأن فيها مجتمعة شاة واحدة، فنهى الساعى عن ذلك. (ولا يجمع بين متفرق) رجل له مائة شاة وشاة، وآخر له مثلها، فإذا تركا على افتراقهما، كان فيها شاتان، وإذا جمعا كان فيها ثلاث شياه، وكذلك أصحاب الماشية يكون لرجلين أربعون شاة، فإذا جاء المصدق فَرَّقَاها على نفسين أو ثلاثة، فلا يكون فيها شىء، ولو تركت كان فيها شاة، أو يكون لثلاثة أربعون أربعون فإذا جاء المصدق جمعوها فتصير لواحد، فيأخذ منها شاة، فهذا لا يحل لرب المال، ولا للساعى. قال الشافعى: والخشية: خشية الساعى أن تقل الصدقة، وخشية رب المال أن تكثر الصدقة، وليس واحد منهما أولى بالخشية من الآخر، فأمر أن يقر كل على حاله إن كان مجتمعًا صَدَّق مجتمعًا، وإن كان مفترقًا صَدَّق مفترقًا. وقال أبو حنيفة: معنى قوله: (لا يجمع بين متفرق) أن يكون بين الرجلين أربعون شاة، فإن جمعاها صارت فيها شاة واحدة، ولو فرقاها عشرين عشرين لم يكن فيها شىء. قالوا: ولو كانا شريكين متفاوضين لم يجمع بين أغنامهما. قال: ومعنى قوله: (لا يفرق بين مجتمع) أن يكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 للرجل مائة وعشرون شاة، ففيها شاة واحدة، فإن فرقها المصدق فجعلها أربعين أربعين ففيهما ثلاث شياه، فنهى عن ذلك. وقال أبو يوسف: معنى قوله: (لا يجمع بين متفرق) أن يكون للرجل ثمانون شاة، فإذا جاء المصدق، قال: هى بينى وبين إخوتى لكل واحد منا عشرون فلا زكاة فيها، أو يكون له أربعون ولإخوته أربعون أربعون، فيقول: هذه كلها لى، وليس فيها إلا شاة واحدة، فهذه خشية الصدقة، لأن الذى يؤخذ منه يخشى الصدقة. قال: ويكون وجه آخر أن يجىء المصدق إلى ثلاثة إخوة، لواحد منهم عشرون ومائة شاة فعليه شاة فيقول: هذه بينكم، لكل واحد أربعون فأنا آخذ منها ثلاث شياه لكل أربعين شاة، أو يكون لهم جميعًا أربعون شاة، فلا يكون عليهم زكاة، فيقول المصدق: هذه لواحد منكم فأنا آخذ منها شاة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: الخلطاء فى الصدقة كغير الخلطاء، لا يجب على كل واحد منهما فيما يملك إلا مثل الذى يجب عليه لو لم يكن خليطًا كالذهب والفضة والزرع، ولا يغير سنة الزكاة خلط أرباب المواشى بعضها ببعض. قال الطبرى وغيره: وما تأوله أبو حنيفة وأصحابه تسقط معه فائدة الحديث، لأن نهيه (صلى الله عليه وسلم) أن يجمع بين مفترق ويفرق بين مجتمع، إنما أراد به: لا يجمع أرباب المواشى ولا المصدق بين المواشى المفترقة بإفراق الأرباب، ولا يفرقوا بين المواشى المجتمعة بخلط أربابها بينها، وأراد (صلى الله عليه وسلم) إقرار الأموال المفترقة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 والمختلطة على ما كانت عليه قبل لحوق الساعى، ولا يتحيل بإسقاط صدقة بتفريق ولا جمع، ولو كان تفريقها مثل جمعها فى الحكم ما أفاد ذلك فائدة ولا نهى عنه، وإنما نهى عن أمر لو فعله كانت فيه فائدة قبل النهى عنه، ولولا أن ذلك معناه لما كان لتراجع الخليطين بالتسوية بينهما معنى معقول، لأنهما إذا كانا يصدقان وهما خليطان صدقة المفردين لم يجب لأحدهما قبل صاحبه بسبب ما أخذ منه من الصدقة تباعة ولا تراجع، فلا يجوز أن يخاطب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمته خطابًا لا يفيدهم معنى. وفى أمره (صلى الله عليه وسلم) الخليطين بالتراجع بينهما بالسوية صحة القول بأن صدقة الخلطة صدقة الواحد، ولولا ذلك ما انتفعا بالخلطة. قال ابن القصار: وقوله: (يتراجعان بينهما) يقتضى أن يكونا اثنين، وهذا لا يجىء على مذهب أبى حنيفة بوجه. قال الخطابى: قوله: (التى فرض رسول الله) معناه: قدرها وبينها، وأصل الفرض: القطع، ومنه أخذ فرض النفقات، وهو بيان مقدارها، وكذلك فرض المهر. قال الله تعالى: (أو تفرضوا لهن فريضة) [البقرة: 236] ، ومثله فرض الجند، وهو ما يقطع لهم من العطاء. قال: وإنما تأولناه على فرض التقدير دون فرض الإيجاب والإلزام؛ لأن فرض الزكاة قد لزم بالكتاب فوقعت به الكفاية، وإنما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيها ما هو بيان لها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 33 - باب مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ قَالَ طَاوُسٌ وَعَطَاءٌ: إِذَا عَلِمَ الْخَلِيطَانِ أَمْوَالَهُمَا فَلا يُجْمَعُ مَالُهُمَا. وَقَالَ سُفْيَانُ: لا يَجِبُ حَتَّى يَتِمَّ لِهَذَا أَرْبَعُونَ شَاةً، وَلِهَذَا أَرْبَعُونَ شَاةً. / 44 - فيه: قَالَ ثُمَامَة، عن أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ الَّتِى فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ) . قال ابن أبى زيد: قال بعض العلماء من أصحابنا: الخليط فى الغنم الذى لا يشارك صاحبه فى الرقاب ويخالطه فى الاجتماع والتعاون، والشريك المشارك فى الرقاب، فكل شريك خليط، وليس كل خليط شريكًا. قال الله تعالى فى الخلطاء من غير شركة: (وإن كثيرًا من الخلطاء ليبغى بعضهم على بعض) [ص: 24] الآية. وفى أول القصة: (إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة) [ص: 23] . ومن المجموعة، وكتاب ابن المواز وغيره عن مالك: الخليط الذى غنمه من غنم صاحبه، والذى لا يعرف غنمه هو الشريك، وله حكم الخليط فى الزكاة. وقال الشافعى: الذى لا أشك فيه أن الخليطين الشريكان إذا لم يقتسما الماشية. قال ابن المنذر: وأما قول طاوس وعطاء: (إذا علم الخليطان مالهما فلا يجمع مالهما) ، فهى غفلة منهما، إذ غير جائز أن يتراجعا بالسوية والمال بينهما لا يَعرف أحدُهما ماله من مال صاحبه. واختلفوا فى ما يوجب الخلطة، فقال مالك: إذا كان الراعى واحدًا والفحل واحدًا والمراح واحدًا فهم خلطاء، وإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 افترقوا فى المبيت والحلاب، قال ابن القصار: فذكر مالك ثلاثة أوصاف، وقال مالك فى كتاب ابن المواز: إذا كان الفحل واحدًا، والراعى واحدًا، والمراح واحدًا فهم خلطاء. وإن كان بعض هذه يجزئ من بعض. قال أشهب: ما لم يفترقا فى الأكثر. وقاله ابن القاسم. قال ابن القصار: وكان الأبهرى يقول: إن اجتمع وصفان أيهما كان صحت الخلطة. وحكى عن بعض شيوخه أنه كان يراعى وصفًا واحدًا وهو الراعى، قال: لأنه كالإمام الذى يتميز به حكم الجماعة من حكم الانفراد. وقال أشهب فى المجموعة: لا تكون خلطة بوصف واحد. وعند الشافعى: لا يكونان خليطين إلا بأربعة أوصاف: المسرح، والمبيت، والحوض، والفحل، فمتى أخل بشرط من هذا لم تكن خلطة، وزكى كل واحد زكاة نفسه. قال ابن القصار: والصحيح عندى أن الخلطة تصح بشرطين، ولكن يراعى فيها أكثر ما يدخل الرفق والترفيه على الخليطين، وإذا كان الراعى واحدًا ترفها فى الأجرة، فليس من يرعى لواحد كمن يرعى لاثنين، وإذا كان الفحل واحدًا فكذلك، وإذا كان السقى من حوض، أو بئر يحتاج إلى من يعالجه فكذلك، ففى الغالب أن الأغنام إذا خرجت إلى المسرح لا تكاد تخلو من الاجتماع فى وصف ما، فإذا زاد عليه وصف آخر فيه رفق، وترفيه حصلت الخلطة. وعند أبى حنيفة وأصحابه أن الخلطة لا تغير حكم الانفراد فلم تراع أوصافها، وإنما دفع أبو حنيفة الخلطة، والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 السلام: (ليس فيما دون خمس ذود صدقة) ، وقوله: (ولا فيما دون أربعين من الغنم شىء) ورأوا أن الخلطة تغير هذا الأصل، فلم يقولوا بها، ولم يراع مالك مرور الحول كله على الخلطاء، فإذا خالطه قبل حلول الحول بشهر، أو بشهرين فهو عنده خليط. والشافعى يراعى مرور الحول كله عليهما. قال ابن القصار: وعلة مالك أن الرفاهية بالخلطة قد حصلت، ونقصان الزكاة وزيادتها يعتبر بآخر الحول. وقبل ذلك لم يكن من أهل الزكاة. وقال مالك: فى الخليطين لا يزكيان وكاة الواحد حتى يكون لكل واحد منهما نصاب، فحينئذ يترادان على كثرة الغنم وقلتها، فإن كان لأحدهما دون النصاب لم يؤخذ منه شىء، ولم يرجع عليه صاحبه بشىء. وهو قول الثورى، والكوفيين، وأبى ثور. وقال الليث، والشافعى، وأحمد: عليهما الزكاة، ولو لم يكن لكل واحد منهما نصاب. واحتج الشافعى فقال: لما لم أعلم خلافًا إذا كان ثلاثة خلطاء لهم مائة وعشرون شاة أن عليهم فيها شاة واحدة وأنهم يصدقون صدقة الواحد فنقصوا المساكين شاتين من مال الخلطاء، لو تفرق كل واحد منهم لم يجز إلا أن يقال: لو كانت أربعون بين ثلاثة رجال كان عليهم شاة، لأنه لما غيرت الخلطة أصل الفريضة فوجب فى الأربعين ثلث شاة وجب أن يغير النصاب، فيكون النصاب بينهم نصاب الواحد كما تكون زكاة الواحد، قال: وبهذا أقول فى الزرع أيضًا، فلو أن حائطًا كان حبسًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 على مائة إنسان لم يخرج إلا عشرة أوسق أخذت منه صدقة كصدقة الواحد، واحتج مالك بقوله: (ليس فيما دون خمس ذود صدقة) وقول عمر فى سائمة الغنم: (إذا بلغت أربعين ففيها شاة) . قال الطبرى: فغير جائز أن يوجب فيما نفى النبى أن تكون فيه الصدقة صدقة، لأن ذلك لو جاز جاز لآخر أن يبطل الصدقة فيما أوجبها فيه فأبطلنا الصدقة فيما أبطلها فيه (صلى الله عليه وسلم) ، وجعلنا حكم الخليطين حكم الواحد فيما لم تبطل فيه الصدقة، وإنما الخليطان اللذان عناهما النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، من كان فى غنمه ما تجب فيه الزكاة. قال مالك فى كتاب ابن المواز: وإنما يتراد الخليطان بقدر العدد لا بقدر ما يلزم الواحد فى الانفراد، ولولا ذلك ما انتفعا بالخلطة. قال غيره: وذلك أن يكون لأحدهما أربعون شاة وللآخر ثمانون، فعلى صاحب الثمانين ثلثا شاة، وعلى صاحب الأربعين ثلث شاة، ولو كان لأحدهما خمسون وللآخر أربعون، لكان على صاحب الخمسين خمسة أتساع شاة، وعلى الآخر أربعة أتساعها. 34 - باب زَكَاةِ الإبِلِ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) . / 45 - فيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: (وَيْحَكَ، إِنَّ شَأْنَهَا شَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ تُؤَدِّى صَدَقَتَهَا؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 قال المهلب: كان هذا القول منه (صلى الله عليه وسلم) قبل فتح مكة، لأنه لو كان بعده لقال له: لا هجرة بعد الفتح، ولكنه (صلى الله عليه وسلم) علم أن الأعراب قلما تصبر على المدينة لشدتها ولأوائها ووبائها، ألا ترى قلة صبر الأعرابى الذى استقاله بيعته حين مسته حُمّى المدينة، فقال للذى سأله عن الهجرة: إذا أديت الزكاة، التى هى أكبر شىء على الأعراب، ثم منحت منها وجبتها يوم ردها من ينتظرها من المساكين، فقد أديت المعروف، من حقوقها فرضًا وفضلاً، فاعمل من وراء البحار، فهو أقل لفتنتك كما افتتن المستقيل للبيعة، لأنه قد شرط عليه ما يخشى من منع العرب الزكاة التى بها افتتنوا بعد النبى، (صلى الله عليه وسلم) . وقد ذكر البخارى هذا الحديث فى كتاب الهبات فى باب المنحة، فقال فيه: (فهل تمنح منها؟ قال: نعم، قال: فهل تحلبها يوم وردها؟ فقال: نعم) . وقال بعض العلماء: كانت الهجرة على غير أهل مكة من الرغائب ولم تكن فرضًا. والدليل على ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) للذى سأله عن الهجرة: (إن شأنها لشديد، فهل لك من إبل) ؟ ولم يوجب عليه الهجرة. قال أبو عبيد فى كتاب الأموال: كانت الهجرة على أهل الحاضرة، ولم تكن على أهل البادية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 وسيأتى شىء من الكلام فى الهجرة فى باب لا هجرة بعد الفتح فى كتاب الجهاد، إن شاء الله تعالى. قال الخطابى: قوله: (لن يَتِرَك) يعنى لن ينقصك، يقال: وتره يتره ترة، قال تعالى: (ولن يتركم أعمالكم) [محمد: 35] ومثله: (لا يلتكم من أعمالكم شيئًا) [الحجرات: 14] يعنى لن ينقصكم. وفيه لغتان: ألت يألت ألتًا، ولات يليت ليتًا، عن اليزيدى. 35 - باب مَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتةُ بِنْتِ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ / 46 - فيه: ثُمَامَةُ، عن أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنَ الإبِلِ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ، وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ الْحِقَّةُ، وَعِنْدَهُ الْجَذَعَةُ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجَذَعَةُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إِلا بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ لَبُونٍ، وَيُعْطِى شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عنده صَدَقَة بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَيُعْطِى مَعَهَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ) . قال المؤلف: أما قوله: (من بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده) ، فلم يأت ذكره فى هذا الحديث، وذكر فى باب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 العرض فى الزكاة، وهذه غفلة من البخارى، رحمه الله، قال فيه: (ومن بلغت صدقته ابنة مخاض، وليست عنده، وعند ابنة لبون، فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهمًا أو شاتين، فإن لم يكن عنده ابنة مخاض، وعنده ابن لبون، فإنه يقبل منه، وليس معه شىء) . قال ابن المنذر: اختلف العلماء فى المال الذى لا توجد فيه السن التى تجب، ويوجد دونها أو فوقها، فكان النخعى يقول بظاهر هذا الحديث: إذا أخذ سنًا فوق سن رد عليهم عشرين درهمًا، أو شاتين، وإذا أخذ سنًا دون سن ردوا عليه عشرين درهمًا أو شاتين. وهو قول الشافعى، وأبى ثور. وفيها قول ثان، روى عن على بن أبى طالب: أن يرد عشرة دراهم أو شاتين. وهو قول الثورى. وفيها قول ثالث: وهو أن تؤخذ قيمة السن التى تجب عليه. وهو قول مكحول، والأوزاعى. وفيها قول رابع: قال أبو حنيفة: تؤخذ قيمة السن الذى وجب عليه، وإن شاء أخذ الفضل منها ورد عليهم فيه دراهم، وإن شاء أخذ دونها، وأخذ الفضل دراهم، ولم يعين عشرين درهمًا ولا غيرها وجوز أخذ ابن اللبون مع وجود بنت المخاض إذا كانت قيمتهما واحدة. وقال مالك: على رب المال أن يبتاع للمصدق السن التى تجب عليه ولا ضير فى أن يعطيه بنت مخاض عن بنت لبون، ويزيد ثمنًا، أو يعطى بنت لبون عن بنت مخاض، ويأخذ ثمنًا. وقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 ابن القاسم فى المجموعة: لا ينبغى أن يعطى أفضل، ويأخذ ثمنًا، أو أدنى ويؤدى ثمنًا، فإن ترك أجزأه. وقال ابن المواز: قال ابن القاسم، عن مالك فيمن عليه شاة فى خمس ذود فدفع فيها دراهم، قال: لولا خوفى أن يدخل فيه الظلم لم أر به بأسًا، ثم رجع فقال: لا يدفع إلا شاة، فإن دفع دراهم أجزأه، وبه أخذ ابن القاسم، وقاله سحنون. قال أشهب فيمن أدى قيمة صدقته أو أجبره المصدق على ذلك: أنه يجزئه إذا تعجله، للخلاف فيه. وحجة مالك فى منعه أخذ القيم فى الزكاة أنه من ابتياع الصدقة عنده. قال ابن القصار: أخذ مالك فى ذلك بكتاب عمر بن الخطاب فى الصدقة، وفيه: (فى خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين: بنت مخاض، فإن لم توجد فابن لبون ذكر، وفيما فوق ذلك إلى خمس وأربعين: ابنة لبون، وفيما فوق ذلك إلى ستين: حقة طروقة الفحل، وفيما فوق ذلك إلى خمس وسبعين: جذعة، وفيما فوق ذلك إلى تسعين: ابنتا لبون، وفيما فوق ذلك إلى عشرين ومائة: حقتان طروقتا الفحل، فإن زاد على ذلك ففى كل أربعين: ابنة لبون، وفى كل خمسين حقة) . ولم يأخذ مالك بحديث أنس، عن أبى بكر، ولا وجد العمل عليه بالمدينة، وأخذ بكتاب عمر فى الصدقة، وهو معروف مشهور عندهم بالمدينة. قال عبد الواحد: ومن منع أخذ القيم فى الزكاة فاحتج بأن ذلك من ابتياع الصدقة فليست بحجة، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قد أجاز للمعرى ابتياع عريته، وهى صدقة تَمْر إلى الجداد، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 فاجتمع فى هذا إجازة ابتياع الصدقة وبيع التمر بالتمر نسيئة إذ لم يكن بد من ذلك للضرر الداخل على المعرى، فكذلك أخذ القيم جائز، وهى أخف من العرية لضرورة استهلاك حق المساكين فى ماله. وقال المهلب: إذا لم يجد السن، وأخذ غيرها، وجعل معها شاتين أو عشرين درهمًا، فليس ذلك من ابتياع الصدقة، لأن الصدقة لم تتعين فيبتاعها، وإنما هى معدومة مستهلكة، فعليه قيمة المستهلك فى إبله من جنس إبله أو غير جنسها، ألا ترى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أوجب فى خمس من الإبل شاة وليست من جنسها، وقال فى الخليطين: فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، والتراجع لا يكون إلا بالتقويم وأخذ العوض. وقال الطبرى: لما جعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، للمصدق إذا وجبت فى الإبل سن، ولم يجدها ووجد دونها أن يأخذ ما وجد ويلزمه دراهم أو غيرها، وإن وجد عنده فوق السن أن يأخذها، ويرد عليه قيمة ذلك دراهم أو غنمًا، وهذا لا شك أخذ عوض وبدل من الواجب على رب المال، وإنه إن لم يكن بيعًا وشراء فنظير للبيع والشراء، وذلك لأن البيع إنما هو إزالة ملك مالك إلى غيره بعوض، فكذلك المعطى ابنة مخاض وعشرين درهمًا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 أو شاتين مكان ابنة لبون لا شك أنه يعتاض بدراهمه فضل ما بين ابنة مخاض، وابنة لبون، التى هى صدقة ماله، وأكثر العلماء على القول بحديث أنس، أو بعضه، ولم أجد من خالفه كله غير مالك ابن أنس. 36 - باب زَكَاةِ الْغَنَمِ / 47 - فيه: ثُمَامَةُ، عن أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ: (بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِى فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالَّتِى أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ، فَمَنْ سُئِلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا، فَلْيُعْطِهَا، وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلا يُعْطِ، فِى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الإبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنَ الْغَنَمِ مِنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، إِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلاثِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلاثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ، فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، فَفِيهَا جَذَعَةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ - يَعْنِى سِتًّا وَسَبْعِينَ إِلَى تِسْعِينَ - فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِى كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلا أَرْبَعٌ مِنَ الإبِلِ، فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ، إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنَ الإبِلِ، فَفِيهَا شَاةٌ، وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 سَائِمَتِهَا، إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ شَاتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إِلَى ثَلاثِ مِائَةٍ، فَفِيهَا ثَلاثُ شِيَاهٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلاثِ مِائَةٍ، فَفِى كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ، إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، وَفِى الرِّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ إِلا تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَىْءٌ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا) . قال المهلب: قوله فى الحديث: (فما دونها من الغنم) يريد أن من الغنم يصير أخذ الزكاة إلى أربع وعشرين، وليس فى شىء من زكاة الإبل خلاف بين العلماء إلا فى قوله: (فإذا زادت واحدة على عشرين ومائة) ، فإن مالكًا اختلفت الرواية عنه، فروى عنه ابن القاسم، وابن عبد الحكم أن الساعى بالخيار بين أن يأخذ ثلاث بنات لبون، أو يأخذ حقتين على ما يراه صلاحًا للفقراء، وهو قول مطرف، وابن أبى حازم، وابن دينار، وأصبغ، وقال ابن القاسم: فيها ثلاث بنات لبون، ولا يخير الساعى، إلا أن تبلغ ثلاثين ومائة، فيكون فيها حقة، وابنتا لبون. وهذا قول الزهرى، والأوزاعى، والشافعى، وأبى ثور. وروى عبد الملك، وأشهب، وابن نافع، عن مالك أن الفريضة لا تتغير عن الحقتين بزيادة واحدة حتى تزيد عشرًا فيكون فيها بنتا لبون وحقة، وهو مذهب أحمد، قال عبد الملك عن مالك: إنما يعنى بقوله فى الحديث فيما زاد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 على عشرين ومائة، يريد زيادة تحيل الأسنان، ولا تزول عن الحقتين إلى ثلاثين ومائة. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثورى: إذا زادت الإبل على عشرين ومائة استؤنفت الفريضة، فيكون فى خمس شاة، وفى عشر شاتان، فإذا صارت مائة وأربعين من الإبل ففيها حقتان وأربع شياه، فإذا بلغت مائة وخمسة وأربعين ففيها حقتان، وبنت مخاض كما كان فى ابتداء الإبل، فإذا بلغت مائة وخمسين ففيها ثلاث حقاق، فإذا زادت استأنفت الفرائض كما استأنفت فى أولها. وأما وجه قول مالك فى أن الساعى بالخيار، فلأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لما قال: (فإذا زادت الإبل على عشرين ومائة، ففى كل خمسين حقة) كان فى المائة حقتان بإجماع، فللمصدق أخذها من رب الماشية إذا كانت الزيادة على ذلك قبل أن تبلغ خمسًا وعشرين لا شىء فيها بإجماع، وله أيضًا أن يأخذ ثلاث بنات لبون لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإذا زادت على عشرين ومائة، ففى كل أربعين بنت لبون، وفى كل خمسين حقة) كان فى المائة حقتان، فله إذا كان ذلك أن يتخير أفضل المنزلتين لأهل الحاجة. قاله الطبرى. قال غيره: ووجه قول ابن شهاب الذى اختاره ابن القاسم، فلأن أصل العبادات لما كانت مبنية على الاحتياط، وكان اسم الزيادة يقع على الواحد كان من الاحتياط للزكاة أن يتغير الحكم فى العشرين ومائة إذا زادت واحدة فتنتقل عن حكم الحقتين إلى حكم الثلاث بنات لبون، وهذا أحوط، ويعضده رواية الزهرى، عن سالم، عن أبيه، قال: إذا زادت واحدة ففيها ثلاث بنات لبون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 وكذلك فى كتاب الصدقات لعمرو بن حزم، وقول مالك أقيس، لأن الواحدة من الإبل لا تغير حكم الزكاة فى الأحوال التى تقع زكاتها منها، وإنما هو لغو، ولو غيرت حكمها، ونقلتها من حال إلى حال لوجب أن تؤخذ الزكاة من الواحدة الزائدة كما تؤخذ من العشرين ومائة، فيكون فى كل أربعين وثلث ابنه لبون، ولا يؤخذ من ستين ومائة أربع بنات لبون، لأنها لا تبلغ أربعين وثلثًا، فلما أجمعوا أن هذا لا يجوز دل أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ففى كل أربعين بنت لبون، وفى كل خمسين حقة) إنما أراد الزيادة التى تجمع بحلولها فى المال الحقة وبنات اللبون، لا ما سواها. قال ابن القصار: ووجه رواية عبد الملك عن مالك ما رواه محمد بن عبد الرحمن الأنصارى، أن عمر بن عبد العزيز طلب كتاب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وكتاب عمر فى الصدقة، وفيه: (فإذا بلغت عشرين ومائة فليس فيما زاد فيها مما دون العشرة شىء حتى تبلغ ثلاثين ومائة، ففيها بنتا لبون وحقة إلى أن تبلغ أربعين ومائة، ففيها حقتان وبنت لبون) . فهذا الخبر مفسر، وفى خبر أنس زيادة مبهمة ومحتملة للواحدة والعشر، ولا ينتقل عن الحقتين إلا بدليل، وفى زيادة العشر تنتقل بيقين، لأن فى ظاهر الخبر ذكر السنين لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فى كل خمسين حقة، وفى كل أربعين بنت لبون) ، فيحتاج إلى فريضة تجمع الأمرين جميعًا. وقال الطبرى: اختلفت الأخبار فى ذلك، فروى ما يوافق كل طائفة فمن شاء أخذ بقول من شاء منهم. قال ابن القصار: أما قول أبى حنيفة أن الفريضة تستأنف، فهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 خلاف حديث أنس عن أبى بكر، وهو المعول عليه فى هذا الباب، وفيه: (فإذا زادت على عشرين ومائة ففى كل أربعين بنت لبون، وفى كل خمسين حقة) ولم يخص زيادة من زيادة، ولا ذكر استئناف الغنم، وكذلك فى رواية الزهرى عن سالم، عن أبيه، وفى كتاب عمر بن الخطاب، وهذه جملة الأخبار المعمول عليها، وهى مخالفة لقول أبى حنيفة، قال: وأما صدقة الغنم، فلا شىء فيها حتى تبلغ أربعين إلى عشرين ومائة، ففيها شاة، وفيما فوق ذلك إلى مائتين شاتان، وهذا إجماع، وإذا زادت واحدة على مائتين ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإذا زادت على ثلاثمائة ففى كل مائة شاة، وهذا قول مالك، وأبى حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وجماعة أهل الأثر، وهو قول على، وابن مسعود، وروى عن النخعى أنه قال: إذا كانت الغنم ثلاثمائة وشاة، ففيها أربع شياه، وإذا كانت أربع مائة شاة، ففيها خمس شياه، وبه قال الحسن بن صالح، وهذا القول مخالف للآثار المرفوعة فى ذلك، فلا وجه له. وأجمعوا على أن الزكاة فى السائمة من الإبل والبقر والغنم. والسائمة: هى الراعية، واحتج مالك على ذلك بقول الله تعالى: (ومن شجر فيه تسيمون) [النحل: 10] يقول: فيه ترعون. واختلفوا فى العوامل، فقال مالك والليث: فى العوامل والمعلوفة الزكاة كهى فى السوائم، وهو قول مكحول، وعمر بن عبد العزيز، والزهرى، وروى عن على ومعاذ أنه لا زكاة فيها، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وعلة قائل هذه المقالة القياس على إجماع الجميع ألا صدقة فى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 العروض التى هى لغير التجارة، لأن أهلها اتخذوها للزينة والجمال لا لطلب الربح فيها بالتجارة، فكذلك حكم عوامل المواشى مثلها لا صدقة فيها، وإنما تجب الصدقة فيما يتخذ منها للنتاج والنسل وارتفع عن أهلها مئونة علفها بالسوم. وفى حديث أنس: (فى سائمة الغنم الصدقة) ، وكذلك فى كتاب عمر بن الخطاب فى (الموطأ) ، فدليله أن غير السائمة لا شىء فيها، فكذلك سائمة الإبل والبقر. قال ابن القصار: والحجة لمالك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فى كل خمس ذود من الإبل شاة) ، ولم يخص سائمة من عاملة، وكذلك قال فى الغنم فى كتاب عمرو بن حزم فى الصدقة: (فى كل أربعين شاة) ولم يخص، وأيضًا فإن العوامل سائمة فى طبعها وخلقتها، وسواء رعت، أو أمسكت عن الرعى، السوم صفة لازمة لها، كما يقال: ما جاءنى من إنسان ناطق، والنطق من حد الإنسان اللازم له سواء سكت أو نطق، قال: وأيضًا فإن المؤنة التى تلزم فى المعلوفة لا مدخل لها فى إسقاط الزكاة أصلاً، وإنما لها مدخل فى التخفيف والتثقيل، كالعشر ونصف العشر فى زكاة الحرث، فإذا لم يدخل التخفيف فى العوامل لأجل المؤنة بقيت الزكاة على ما كانت عليه، لأن النماء موجود فى السائمة من الدر والنسل والوبر والحمل على ظهورها، وقد قال يحيى بن سعيد وربيعة: لم تزل إبل الكراء تزكى عندنا بالمدينة. فإن قيل: إن عاصم بن ضمرة قد روى عن الحارث، عن على أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 النبى، - عليه السلام -، قال: (ليس فى العوامل شىء) ، ومن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قيل: عاصم والحارث ضعيفان، وعمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، مرسل، وأصحاب الشافعى لا يقولون بالمراسيل. وقال الخطابى: وقوله: (ومن سئل فوقها فلا يعط) يتأول على وجهين: أحدهما ألا يعطى الزيادة، والآخر ألا يعطى شيئًا من الصدقة، لأنه إذا طلب فوق الواجب كان خائنًا، فإذا ظهرت خيانته سقطت طاعته. قال المؤلف: وقوله: (وفى الرقة ربع العشر، فإن لم يكن إلا تسعين ومائة، فليس فيها شىء) يعنى تسعين ومائة درهم، لأن نصاب الورق الذى تجب فيه الزكاة خمس أواق، وهو مائتا درهم، لأن الأوقية أربعون درهمًا، وقد تقدم بيان ذلك. 37 - باب لا تُؤْخَذُ فِى الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلا ذَاتُ عَوَارٍ وَلا تَيْسٌ إِلا مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ / 48 - فيه: ثُمَامَة، عن أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ الصَّدَقَةَ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ (صلى الله عليه وسلم) : (وَلا يُخْرَجُ فِى الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ، وَلا ذَاتُ عَوَارٍ، وَلا تَيْسٌ إِلا مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 عامة الفقهاء على العمل بهذا الحديث، ويذهبون إلى أن المأخوذ فى الصدقات العدل كما قال عمر بن الخطاب، وذلك عدل بين غثاء المال وخياره، قال مالك فى المجموعة: والتيس من ذوات العوار وهو دون الفحل. وقوله: (إلا أن يشاء المصدق) فمعناه عند مالك والشافعى: أن تكون الهرمة، وذوات العوار، والتيس خيرًا للمساكين فى سمنها، أو ثمنها من التى أخرج إليه صاحب الغنم، فأخذ ذلك باجتهاده، والعَوار بفتح العين: العيب كله، والعُوار بضم العين: ذهاب العين الواحدة. وقال الطبرى: جعل النبى المشيئة إلى المصدق فى أخذ ذلك وتركه، فالواجب عليه أن يعمل بما فيه الصلاح لأهل الصدقة ورب الماشية بما يكون عدلاً للفريقين، فيأخذ ذلك إذا كان فى تركه، وتكليف رب الماشية غيرها مضرة عليه، وذلك أن تكون الغنم كلها هرمة، أو جرباء، أو تيوسًا، ويكون فى تكليفه صاحبها غيرها مضرة عليه، فيأخذ منها أو يترك أخذ ذلك إذا كانت الماشية فتية سليمة إناثًا كلها أو أكثرها، فيأخذ منها السليمة من العيوب، وذلك عدل، إن شاء الله، على الفريقين. قال المؤلف: وقد اختلف قول مالك إذا كانت عجافًا كلها أو معيبة أو جرباء أو تيوسًا، فقال فى المدونة: لا يأخذ منها ويلزم صاحبها أن يأتى بما يجوز صحيحة غير معيبة. وذكر ابن المواز أن عثمان بن الحكم سأل مالكًا عن الساعى يجدها عجافًا كلها؟ قال: يأخذ منها ولو كانت ذات عوار كلها، أو تيوسًا فليأت بغيرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 وروى ابن وهب عن مالك، قال: لا تؤخر الصدقة، وإن عجفت الغنم، قال سحنون، وهو قول المخزومى، وابن الماجشون، ومطرف، وذكر ابن المنذر، عن أبى يوسف، ومحمد بن الحسن، والشافعى: إذا كانت جرباء كلها أخذ منها، قال الشافعى: لأنى إذا كلفتُهُ صحيحة فقد أوجبتُ عليه أكثر مما وجب عليه، ولم توضع الصدقة إلا رفقًا بالمساكين من حيث لا يضر بأرباب الأموال. وروى عن أبى حنيفة فى المعيبة أنها تؤخذ. وقد اختلف أهل العلم فيما عدا ما ذكر فى هذا الحديث مما لا يجوز للمصدق أخذه، فروى عن عمر بن الخطاب أنه قال للساعى: عُدّ عليهم البهيمة، حتى تعد السخلة يحملها الراعى على يده ولا يأخذها. وهو قول مالك فى المدونة. وجماعة من العلماء لا يجوزون أخذ السخال وذوات العيوب والهرمة ما وجدوا فى الغنم الثنية والجذعة، وسأذكر اختلافهم فى ذلك فى الباب بعد هذا، إن شاء الله، وقال أبو عبيد: غرا الإبل السخال الصغر، واحدها: غرى. قال غيره: هو ولد الضائنة إذا وضعته أمه ذكرًا كان أو أنثى، وهو بَهْمَة وبهم أيضًا. 38 - باب أَخْذِ الْعَنَاقِ فِى الصَّدَقَةِ / 49 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِى عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا، قَالَ عُمَرُ: فَمَا هُوَ إِلا أَنْ رَأَيْتُ أَنَّ اللَّهَ شَرَحَ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ بِالْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 قال أهل اللغة: العناق: ولد الماعز إذا أتى عليه أربعة أشهر وفصل عن أمه وقوى على الرعى فهو جدى، والأنثى: عناق، والجمع: عنوق وعنق، فإذا أتى عليه الحول فالذكر تيس، والأنثى عنز، ثم يكون التيس جذعًا فى السنة الثانية، ثم ثنيا فى الثالثة. وقال أشهب وابن نافع: الجذع فى الضأن والمعز ابن سنة، وهو الذى يجوز فى الصدقة. وعلى هذا جماعة العلماء إلا النخعى والحسن، والكوفيين، فإنهم قالوا: لا تؤخذ الجذعة فى الصدقة. واختلف أهل العلم فى أخذ العناق فى الصدقة والسخال والبهم إذا كانت الغنم كذلك كلها، أو كانت الإبل فصلانًا والبقر عجولاً كلها. قال مالك: عليه فى الغنم شاة جذعة، أو ثنية، وعليه فى الإبل والبقر ما فى الكبار منها. وهو قول زفر، وأبى ثور. وقال أبو يوسف، والأوزاعى، والشافعى، وإسحاق: يؤخذ منها إذا كانت صغارًا من كل صنف واحد منها. وقال أبو حنيفة، والثورى، ومحمد: لا شىء فى الفصلان، ولا فى العجول، ولا فى صغار الغنم لا منها، ولا من غيرها، ذكره ابن المنذر، وذكر عنهم خلافه فقال: كان أبو حنيفة، وأصحابه، والثورى، ويعقوب، ومحمد، والشافعى، وأحمد بن حنبل، يقولون: فى أربعين عجلاً مسنة. وعلى هذا القول هم موافقون لقول مالك. قال ابن القصار: والحجة لمالك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 كل أربعين شاة شاة) ، والشاة: اسم يختص بالكبير فى غالب العرف، فدل أن الواجب فيها شاة لا سخلة، وأيضًا قول عمر بن الخطاب: اعدد عليهم بالسخلة، ولا تأخذها منهم. وهذا يدل أنها تُعَدَّ، كانت أمهاتها باقية، أو قد عدمت. ومن الحجة لأبى حنيفة فى قوله للذى لم يوجب فى الصغار شيئًا: إذ لم يجز أخذ السخلة من أربعين شاة، كذلك لا يؤخذ من أربعين سخلة شىء فيقال له: هذا لا يلزم لأننا لا نأخذ سخلة من الكبار ولا من الصغار، وإنما نأخذ السن المجعول، فكما نأخذ شاة من أربعين كبارًا، كذلك نأخذ شاة من أربعين صغارًا. فإن احتج من أجاز أخذ الصغار إذا كانت صغارًا كلها بقول الصديق: (والله لو منعونى عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله) ، فدل أنها تؤخذ فى الصدقة، قيل: تأويل قوله: (يؤدونها) أى يؤدون عنها ما يجوز أداؤه ويشهد لصحة هذا قول عمر: (اعدد عليهم السخلة ولا تأخذها) ، وإنما خرج قول الصديق على التقليل و [. . . . . .] ، ألا ترى أنه روى: (لو منعونى عقالاً) وقد اختلف فى تفسيره على ما تقدم فى أول كتاب الزكاة. ومذهب مالك أن نصاب الغنم يكمل بأولادها كربح المال سواء، وذلك مخالف عنده لما أفاد منها بشراء أو هبة، أو ميراث لا يكمل منه النصاب، ويستأنف به حولاً، وإن كان عنده نصاب، ثم استفاد بغير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 ولادة زكاة مع النصاب، وهو قول أبى حنيفة، وقال الشافعى: لا يضم نتاج الماشية إلا إلى النصاب، ولا يكمل به النصاب. 39 - باب لا تُؤْخَذُ كَرَائِمُ أَمْوَالِ النَّاسِ فِى الصَّدَقَةِ / 50 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ: (إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ، تؤخذ من أغنيائِهِم وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ) . وقد تقدم القول فى هذا الحديث فى أول كتاب الزكاة، وقد احتج أصحاب الشافعى لمذهبه فى أن السخال يؤخذ منها ما يؤخذ فى الكبار بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (وتوق كرائم أموال الناس) ، قال: فإذا لم يملك كريم مال فلا يكلف سواه. قال ابن القصار: ويقال له: وكذلك أيضًا نهى عن أخذ الدون، وكلف الوسط، وليس إذا كلف الوسط كلف كريم ماله، ألا ترى أنا نرفه رب المال إذا كانت غنمه كرامًا كلها رُبَّى مواخض ولوابن، وشاة اللحم، والفحل، فلا نأخذ منها، فكذلك نرفه الفقراء بأن لا نأخذ الصغيرة، ونأخذ السن المجعول، وهذا هو العدل بينهم وبين أرباب المواشى، كما قال عمر، رضى الله عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 40 - باب لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَة / 51 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الإبِلِ صَدَقَةٌ) . قال ابن قتيبة: ذهب قوم إلى أن الذود جمل واحد، وإلى أنه جمع، والذى عندى أن الذود ما بين الثلاث إلى العشر، وهو أول اسم جماعات الإبل، ولو كان الذود واحدًا ما جاز أن يقال: خمس ذود، كما لا يقال: خمس ثوب، وخمس درهم، ولكان الوجه أن يقال: خمسة أذواد و: خمسة أثواب. وقال أبو حاتم السجستانى: قالوا تاركين لقياس الجميع: ثلاث ذود لثلاث من الإبل، وأربع ذود، كما قالوا: ثلاثمائة وأربعمائة إلى تسعمائة والقياس ثلاث مئين، أو مئات. وقد قالوا: أذواد كثيرة فى العشر، ولا يكادون يقولون: ثلاث مئين، والفقهاء يقولون: الذود جمل واحد، ولا يعرف ذلك أهل اللغة وقد سمى الله الزكاة صدقة، فقال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) [التوبة: 103] . وأجمع أهل العلم على أن ما دون خمس ذود من الإبل لا صدقة فيها، وأن فى خمس من الإبل شاة، وفى عشر شاتان، وفى خمس عشرة ثلاث شباه، وفى عشرين أربع شياه، وفى خمس عشرين بنت مخاض، وهذا أول نصاب يؤخذ فيه من الإبل على ما جاء فى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 كتاب أبى بكر عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى الصدقة، وقد تقدم فى زكاة الورق، وستأتى صدقة الحبوب والطعام فى موضعها، إن شاء الله. 41 - باب زَكَاةِ الْبَقَرِ وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لأعْرِفَنَّ مَا جَاءَ اللَّهَ رَجُلٌ بِبَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ) . / 52 - فيه: أَبُو ذَرٍّ، انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، أَوْ وَالَّذِى لا إِلَهَ غَيْرُهُ، أَوْ كَمَا حَلَفَ، مَا مِنْ رَجُلٍ تَكُونُ لَهُ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ لا يُؤَدِّى حَقَّهَا إِلا أُتِىَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا تَكُونُ وَأَسْمَنَهُ تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، كُلَّمَا جَازَتْ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولاهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ) . فى هذا الحديث دليل على وجوب زكاة البقر، وسائر الأنعام من أجل الوعيد الذى جاء فيمن لم يؤد زكاتها. أما مقدار نصاب زكاة البقر، ومقدار ما يؤخذ منها فهو فى حديث معاذ بن جبل، وهو متصل مسند من رواية معمر والثورى، عن الأعمش، عن أبى وائل، عن مسروق، عن معاذ بن جبل، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بعثه إلى اليمن، فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعًا، ومن كل أربعين مسنة) ، وكذلك فى كتاب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لعمرو بن حزم، وفى كتاب الصدقات لأبى بكر، وعمر، وعلى ذلك مضى الخلفاء، وعليه عامة الفقهاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 قال ابن المنذر: ولا أعلم الناس يختلفون فيه اليوم، وفى ذلك شذوذ لا يلتفت إليه، روى عن ابن المسيب، والزهرى، وأبى قلابة فى كل خمس من البقر شاة، وفى عشر شاتان، وفى خمس عشرة ثلاث شياه، وفى عشرين أربع شياه، وفى خمس وعشرين بقرة إلى خمس وسبعين، فإذا جاوزت فبقرتان إلى عشرين ومائة، فإذا جاوزت ففى كل أربعين بقرة بقرة. وروى عن أبى قلابة أنه قال: فى كل خمس شاة إلى أن تبلغ ثلاثين، فإذا بلغت ثلاثين ففيها تبيع، واعتل قائلوا هذه المقالة بحديث لا أصل له رواه حبيب بن حبيب، عن عمرو بن هرم، أنه فى كتاب عمرو بن حزم، وحجتهم من طريق النظر أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قد عدلها بالإبل، إذ جعل الواحدة منها تجزئ عن سبعة فى الهدايا والضحايا كما تجزئ الإبل، فإذا كانت تعادلها فزكاتها زكاة الإبل. قالوا: وخبر معاذ منسوخ بكتاب النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى عماله الذى رواه عمرو بن هرم. قال الطبرى: وحديث عمرو بن هرم واه غير متصل، ولا يجوز الاحتجاج بمثله فى الدين والمعروف فى كتاب النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الصدقة لآل عمرو بن حزم خلاف ذلك، وجماعة الفقهاء على أنه لا شىء فيما زاد على الأربعين حتى تبلغ ستين، فإذا بلغت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 ستين ففيها تبيعان، فإذا بلغت سبعين ففيها تبيع ومسنة، وبهذا قال أبو يوسف، ومحمد، وسئل أبو حنيفة، فقال: ما زاد على الأربعين من البقر فبحسابه، ففى خمسة وأربعين مسنة وثُمُن، وفى خمسين مسنة وربع، وعلى هذا كل ما زاد أقل أو كثر، هذا هو المشهور عن أبى حنيفة، وقد روى أسد بن عمرو، عن أبى حنيفة مثل قول الجماعة، ولا نقول إلا قولهم، لأنهم الحجة على من خالفهم، وفى حديث معاذ أنه قال: (لم يأمرنى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى الأوقاص بشىء . 42 - باب فضل الزَّكَاةِ عَلَى الأقَارِبِ وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَهُ أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَالصَّدَقَةِ) . / 53 - فيه: أَنَس، كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا نْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِى إِلَىَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، فَقَالَ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّى أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِى الأقْرَبِينَ) ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِى أَقَارِبِهِ وَبَنِى عَمِّهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 / 54 - وفيه: أَبُو سَعِيد، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى أَضْحًى، أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَوَعَظَ النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ، فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ، جَاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، تَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ، فقَالَتْ: يَا رسول اللَّه، إِنَّكَ أَمَرْتَ الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ، وَكَانَ عِنْدِى حُلِىٌّ لِى، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ) . قال المؤلف: من روى مال رايح بالياء فمعناه: يروح عليه أجره كلما أطعمت الثمار، ومن روى رابح بالباء، فمعناه: ذو ربح، وذلك أن صاحبه وضعه موضح الربح يوم القيامة، وقال الخطابى: وقوله: رابح، أى ذو ربح، كقولك: ناصب، أى ذو نصب. قال النابغة: كِلينى لهَمٍّ يا أميمةَ نَاصِبِ والرايح: القريب المسافة، الذى يروح خيره، ولا يعزب نفعه. وقوله: (بخ) كلمة إعجاب، وقد تخفف وتثقل، فإذا كررت فالاختيار أن تنون الأول وتسكن الثانى، وهكذا هو فى كل كلام مثنى، كقولهم: صهٍ صهْ، وطابٍ طابْ، ونحوهما، وقال الأحمر: فى بخ أربع لغات: الجزم، والخفض، والتشديد، والتخفيف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 وقوله: (وإن أحب أموالى إلى بيرحاء) فيه من الفقه: حب الرجل الصالح للمال، وقد قال أبو بكر لعائشة: ما أحد أحب إلى غنى منك، ولا أعز على فقرًا منك. وفيه: إباحة دخول أجنة الإخوان، والشرب من مائها، والأكل من ثمارها بغير إذنهم إذا علم أن أَنْفُسَ أصحابها تطيب بذلك، وكان مما لا يتشاح فيه. قال المهلب: وفيه أن الصدقة إذا كانت جزلة أن صاحبها يمدح بها ويغبط لقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (بخ، ذلك مال رابح) فسلاه (صلى الله عليه وسلم) بما يناله من ربح الآخرة، وما عوضه الله فيها عما عجله فى الدنيا الفانية. وفيه: أن ما فوته الرجل من حميم ماله، وغبيط عقاره عن ورثته بالصدقة أنه يستحب له أن يرده إلى أقاربه غير الورثة، لئلا يفقد أهله نفع ما خوله الله، عز وجل، وفى كتاب الله ما يؤيد هذا، قال تعالى: (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) [النساء: 8] فثبت بهذا المعنى أن الصدقة على الأقارب وضعفاء الأهلين أفضل منها على سائر الناس إذا كانت صدقة تطوع، ودل على ذلك حديث زينب امرأة ابن مسعود. وقوله (صلى الله عليه وسلم) لها: (لك أجران: أجر القرابة والصدقة) وقال لميمونة حين أعتقت جارية لها: (أما إنك لو أعطيتها لأخوالك كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 أعظم لأجرك) واستعمل الفقهاء الصدقة الفريضة فى غير الأقارب لئلا يصرفوها فى ما يجرى بين الأهلين من الحقوق والصلات والمرافق، لأنهم إذا جعلوا الصدقة الفريضة فى هذا المعتاد بين الأهلين، فكأنهم لم يخرجوها من أموالهم إلا لانتفاعهم بها، وتوقير تلك الصلات بها، فإذا زال هذا المعنى جازت الزكاة للأقارب الذين لا تلزمهم نفقتهم. وقد تقدم اختلاف العلماء فى الزكاة على الأقارب فى باب إذا تصدق على ابنه وهو لا يشعر فأغنى عن إعادته، ولم يختلف العلماء أن قوله: (فى أقاربه وبنى عمه) أنهم أقارب أبى طلحة لا أقارب النبى (صلى الله عليه وسلم) . وقد روى ذلك الثقات، حدثنا بعض مشايخنا، قال: حدثنا أبو عمرو الباجى، قال: حدثنا أبى، قال: حدثنا محمد بن فطيس، حدثنا إبراهيم بن مرزوق، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصارى، حدثنا أبى، حدثنا ثمامة بن عبد الله، عن أنس أنه قال: (كانت لأبى طلحة أرض فجعلها لله، فأتى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقال له: (اجعلها فى أقاربك، فجعلها لحسان، وأُبى بن كعب، قال أنس: وكانا أقرب إليه منى) . وفيه: استعمال عموم اللفظ، ألا ترى إلى فهم الصحابة لذلك، وأنهم لم يتوقفوا حتى يتبين لهم بآية أخرى، أو بسنة مبينة لمراد الله تعالى فى الشىء الذى يجب أن ينفقه عباده، لأنهم يحبون أشياء كثيرة، فبدر كل واحد منهم إلى نفقة أحب أمواله إليه، فتصدق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 أبو طلحة بحائطه، وكذلك فعل زيد بن حارثة، وروى ابن عيينة، عن ابن المنكدر، قال: (لما نزلت: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) [آل عمران: 92] ، قال زيد: اللهم إنك تعلم أنه ليس لى مال أحب إلىّ من فرسى هذه، وكان له فرس، فجاء به إلى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: هذا فى سبيل الله. فقال لأسامة بن زيد: (اقبضها منه) ، فكأن زيدًا وجد فى نفسه من ذلك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله قد قبلها منك) . وفعل مثل ذلك ابن عمر، روى أنه كانت له جارية جميلة كان يحبها فأعتقها لهذه الآية، ثم اتبعتها نفسه، فأراد أن يتزوجها فمنعه بنوه، فكان بعد ذلك يقرب بنيها من غيره لمكانها من نفسه، روى الثورى أن أم ولد الربيع بن خثيم، قالت: كان إذا جاءنا السائل يقول لى: يا فلانة، أعط السائل سكرًا؛ فإن الربيع يحب السكر. قال سفيان: يتأول) لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون (، وفى هذا الحديث فقه من معانى الصدقات والهبات، سيأتى فى موضعه، إن شاء الله. 43 - باب لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِى فَرَسِهِ صَدَقَةٌ / 55 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِى فَرَسِهِ وَغُلامِهِ صَدَقَةٌ) . وترجم له باب (لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِى عَبْدِهِ صَدَقَةٌ) ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فيه: (فِى عَبْدِهِ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 اتفق جمهور العلماء على أنه لا زكاة فى الخيل، روى ذلك عن على بن أبى طالب، وابن عمر، وهو قول الشعبى، والنخعى، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن البصرى، والحكم، والثورى، ومالك، والأوزاعى، والليث، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، وخالف الجماعة أبو حنيفة وزفر، فقالا: فى كل فرس دينار إذا كانت سائمة، وإن شاء قومها، وأعطى من كل مائتى درهم خمسة دراهم. ومن حجتهما ما رواه جويرية، عن مالك، عن الزهرى، أن السائب بن يزيد أخبره، قال: لقد رأيت أبى يقوّم الخيل، ثم يدفع صدقتها إلى عمر. واحتجوا بحديث أبى هريرة، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذكر الخيل، فقال: (هى لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما التى هى له ستر فالرجل يتخذها تكرمًا وتجملاً، ولم ينس حق الله فى ظهورها وبطونها فى عسرها ويسرها) . رواه سهيل، عن أبيه، عن أبى هريرة. فاحتج عليهم أهل المقالة الأولى، فقالوا: لا حجة لكم فى رواية جويرية، لأن عمر لم يأخذ ذلك منهم على أنه واجب عليهم، وقد بين السبب فى ذلك ما رواه مالك فى الموطأ أن أهل الشام، قالوا لأبى عبيدة بن الجراح: خذ من خيلنا ورقيقنا صدقة فأبى ذلك، ثم كتب إلى عمر بن الخطاب بذلك فأبى، ثم كلموه أيضًا، فكتب إلى عمر بذلك، فكتب إليه عمر: إن أَحَبُّوا فخذها منهم، وارددها عليهم، وارزق رقيقهم، وفى إباء عمر، وأبى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 484 عبيدة من أخذ الزكاة منهم دليل واضح أنه لا زكاة فيها، ولو كانت واجبة ما امتنعًا من أخذ مال أوجبه الله تعالى لأهله ووضعه فيهم. وروى معمر عن أبى إسحاق أنه قال: لما ألحوا على أبى عبيدة وألح أبو عبيدة على عمر، قال: هذا شىء لم يفعله اللذان كانا قبلى، ولكن انتظروا حتى أشاور المسلمين، فشاور عمر الصحابة فى ذلك، فقال له على بن أبى طالب: لا بأس بذلك إن لم تصر بعدك جزية يؤخذون بها، فأخذها لبذلهم لها، وطوعهم بها، لا بوجوبها عليهم. قال الطحاوى: فدل هذا الحديث أن ما أخذ عمر منهم لم يكن زكاة، ألا ترى قوله: إن للذين كانا قبلى، يعنى رسول الله، وأبا بكر، لم يأخذا من الخيل صدقة، ولم ينكر على عمر ما قال من ذلك أحد من أصحاب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ودل قول علىّ لعمر: لا بأس بذلك إن لم تصر بعدك جزية يؤخذون بها، أن عمر إنما أخذ ذلك لسؤالهم إياه، وأن لهم منع ذلك متى أحبوا، ثم سلك عمر بالعبيد فى ذلك مسلك الخيل، ولم يدل ذلك أن العبيد الذين لغير التجارة يجب فيهم الصدقة، وإنما كان ذلك على التبرع من مواليهم بإعطاء ذلك، والأمة مجمعة أنه لا زكاة فى العبيد غير زكاة الفطر إذا كانوا للقِنْيَةِ، فإن كانوا للتجارة فالزكاة فى أثمانهم، ويلزم تقويمهم كسائر العروض التى للتجارة. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ولم ينس حق الله فى ظهورها) ، فإنه يجوز أن يكون ذلك الحق حقًا سوى الزكاة، فإنه روى ذلك عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : حدثنا ربيع المؤذن، حدثنا أسد، حدثنا شريك بن عبد الله، عن أبى حمزة، عن عامر، عن فاطمة بنت قيس، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه قال: (فى المال حق سوى الزكاة) ، وتلا: (ليس البر أن تولوا وجوهكم) [البقرة: 177] إلى آخر الآية، فلما رأينا المال قد جعل الله فيه حقًا سوى الزكاة، احتمل أن يكون ذلك الحق هو الذى فى الخيل أيضًا، وحجة أخرى أن الزكاة فى الحديث الذى روى عن أبى هريرة إنما هو فى الخيل المرتبطة لا فى الخيل السائمة، وحجة أخرى أنا رأينا رسول الله ذكر الإبل السائمة أيضًا، فقال: (فيها حق أيضًا، فسئل عن ذلك الحق ما هو؟ فقال: إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنيحة سمينها) . حدثنا بذلك إبراهيم بن مرزوق، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا سفيان، عن أبى الزبير، عن جابر، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) . فلما كانت الإبل فيها حق سوى الزكاة احتمل أن يكون كذلك فى الخيل، وحديث أبى هريرة أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: (ليس على المسلم فى عبده ولا فرسه صدقة) الحجة القاطعة فى ذلك. فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار، وأما وجهه من طريق النظر، فإنا رأينا الذين يوجبون فيها الزكاة لا يوجبونها حتى تكون ذكورًا وإناثًا، ويلتمس صاحبها نسلها، ولا تجب الزكاة فى ذكورها خاصة، ولا فى إناثها خاصة، وكانت الزكوات المتفق عليها فى المواشى السائمة تجب فى الإبل والبقر والغنم ذكورًا كانت كلها أو إناثًا، فلما استوى حكم الذكور فى ذلك خاصة، وحكم الإناث خاصة، وحكم الذكور والإناث، وكانت الذكور من الخيل خاصة، والإناث منها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 خاصة، لا تجب فيها زكاة كان كذلك فى النظر الذكور منها والإناث إذا اجتمعت لا تجب فيها زكاة. وقال الطحاوى، والطبرى: والنظر أن الخيل فى معنى البغال والحمير التى قد أجمع الجميع ألا صدقة فيها، ورد المختلف فيه إلى المتفق عليه إذا اتفقا فى المعنى أولى. 44 - باب الصَّدَقَةِ عَلَى الْيَتَامَى / 56 - فيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فَقَالَ: (إِنّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِى مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا) ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَيَأْتِى الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَسَكَتَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ تُكَلِّمُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَلا يُكَلِّمُكَ؟ فَرَأَيْنَا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَمَسَحَ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ، فَقَالَ: (أَيْنَ السَّائِلُ) ؟ فَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ، فَقَالَ: (إِنَّهُ لا يَأْتِى الْخَيْرُ بِالشَّرِّ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حِنْطًا، أَوْ يُلِمُّ إِلا آكِلَةَ الْخَضْرَاءِ، أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ، فَثَلَطَتْ، وَبَالَتْ، وَرَتَعَتْ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ مَا أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ - أَوْ كَمَا قَالَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) - وَإِنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَالَّذِى يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . قال المهلب: احتج قوم بهذا الحديث فى تفضيل الفقر على الغنى، وليس كما تأولوه، بل هو حجة عليهم، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يخش عليهم ما يفتح عليهم من زهرة الدنيا إلا إذا ضيعوا ما أمرهم الله به من إنفاقه فى حقه، وإذا كسبوه من غير وجهه. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يأتى الخير بالشر) يعنى المال إذا كسب من وجهه وفعل به ما أمرهم الله، ثم ضرب لهم مثلاً بقوله: (وإن مما ينبت الربيع يقتلُ أو يُلِمُّ) يعنى أن الاستكثار من المال والخروج من حد الاقتصاد فيه ضار، كما أن الاستكثار من المأكل مسقم، ضرب هذا مثلاً للحريص على جمع المال، المانع له من حقه، والربيع تنبت فيه أحرار الشعب التى تَحْلَوْلَيْهَا الماشية فتستكثر منها حتى تنتفخ بطونها فتهلك. وقوله: (أو يلم) يعنى يقرب من الهلاك، يقال: ألم الشىء: قرب، والرحضاء: عرق الحمى، وقد رحض ورحضت الثوب: غسلته، وقوله: (إلا آكلة الخضر) يعنى التى تخرج مما جمعت منه ورعت ما ينفعها إخراجه من البراز والبول، فهذا لا يقتلها ما رعت، فضرب هذا (صلى الله عليه وسلم) مثلاً لمن تصدق، وأخرج من ماله ما ينفعه إخراجه مما لو أمسكه لضره إثمه كما يضر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 التى رعت لو أمسكت البول والغائط ولم تخرجه، وبين هذا المعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى المال: (فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين وابن السبيل) ، وفى هذا تفضيل للمال. وقال الخطابى: الخضر ليس من أحرار البقول التى تسكثر منها الماشية فتنهكه أكلا، ولكن من الجنبة التى ترعاها بعد هيج الشعب ويبسه، وأكثر ما رأيت العرب تقول: الخضر لما اخضر من الكلأ الذى لم يصفر، والماشية من الإبل ترتع منه سنًا سنًا، فلا تستكثر منه فلا تحبط بطونها عليه، وقد ذكره طرفة، وبين أنه ينبت فى الصيف فقال: كبَنَات المَخْرِ يَمْأَدْنَ إذا أَنْبَتَ الصيف عَسَالِيجَ الخَضِرْ والخضر من كلأ الصيف، وليس من أحرار بقول الربيع، والنعم لا تستوبله، ولا تحبط بطونها عليه، وأما قوله: (وإن هذا المال خضرة) ، فإن العرب تسمى الشىء الحسن المشرق خضرًا تشبيهًا بالنبات الأخضر الغض، قال تعالى: (فأخرجنا منه خضرًا) [الأنعام: 99] ومنه قولهم: اختضر الرجل، إذا مات شابًا، لأنه يؤخذ فى وقت الحسن والإشراق، يقول: إن المال يعجب الناظرين إليه، ويحلو فى أعينهم، فيدعوهم حسنه إلى الاستكثار منه، فإذا فعلوا ذلك تضرروا به كالماشية إذا استكثرت فى المرعى ثلطت والثلط: السلح الرقيق. قال ابن الأنبارى: قوله - عليه السلام -: (إن هذا المال خضرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 حلوة) يدل أن المال يؤنث، وقال غيره: ليس بتأنيث، لأن قوله: (خضرة حلوة) لم يأت على الصفة، وإنما أتى على التمثيل والتشبيه، كأنه قال: إن هذا المال كالبقلة الخضرة الحلوة، ونقول: إن هذا السجود حسنة، والسجود مذكر، فكأنه قال: السجود فعلة حسنة. قال المهلب: وفيه: جواز ضرب الأمثال فى الحكمة، وإن كان لفظها بالبراز والبول والكلام الوضيع، وفيه: جواز اعتراض التلميذ على العالم فى الأشياء المجملة حتى يفسر له ما يبين معناها، وفيه: دليل على أن الاعتراض إذا لم يكن موضعه بيّنًا أنه منكر على المعترض به، ألا تراهم أنكروا على السائل، وقالوا له: تكلم النبى، ولا يكلمك؟ إلا أن قوله: (أين السائل) ؟ فكأنه حمده، يدل أن من سأل العالم وباحثه عما ينتفع به، ويفيد حكمه أنه محمود من فعله. وفيه: أن للعالم إذا سئل أن يمطل بالجواب حتى يتيقن أو يطلع المسألة عند من فوقه من العلماء، كما فعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى سكوته عنه حتى استطلعها من قبل الوحى، وفيه: أن المكتسب للمال من غير حله غير مبارك له فيه، لقوله: (كالذى يأكل ولا يشبع) لأن الله تعالى قد رفع عنه البركة، وألقى فى قلوب آكليه ومكتسبيه الفاقة، وقلة القناعة، ويشهد لهذا قوله تعالى: (يمحق الله الربا ويربى الصدقات) [البقرة: 276] فالمحق أبدًا فى المال المكتسب من غير الواجب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 قوله: (يكون شهيدًا عليه يوم القيامة) يعنى، والله أعلم، أنه يمثل له ماله شجاعًا أقرع، ويأتيه فى صورة تشهد عليه بالخيانة، لأنه آية معجزة، ولا أكبر شهادة من المعجزات، وفيه: أن للعالم أن يحذر من يجالسه من فتنة المال وغيره، وينبههم على مواضع الخوف من الافتتان به، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (إن مما أخشى عليكم) فوصف لهم ما يخاف عليهم، ثم عرفهم بمداواة تلك الفتنة، وهى إطعام المسكين واليتيم وابن السبيل، وقد جاء عن النبى أن الصدقة على اليتيم تذهب قساوة القلب، وسأذكره فى باب فضل من يعول يتيمًا، فى كتاب الأدب، إن شاء الله. 45 - باب الزَّكَاةِ عَلَى الزَّوْجِ وَالأيْتَامِ فِى الْحَجْرِ قَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . / 57 - فيه: زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْن مسعود، أنها كَانَتْ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِاللَّهِ وَأَيْتَامٍ فِى حَجْرِهَا، فَقَالَتْ لِعَبْدِاللَّهِ: سَلْ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَيَجْزِى عَنِّى أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ، وَعَلَى أَيْتَامٍ فِى حَجْرِى مِنَ الصَّدَقَةِ؟ فَقَالَ: سَلِى أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنَ الأنْصَارِ عَلَى الْبَابِ حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِى، فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلالٌ، فَقُلْنَا: سَلِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) : أَيَجْزِى عَنِّى أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِى، وَأَيْتَامٍ لِى فِى حَجْرِى؟ قَالَ: (نَعَمْ، لَهَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 491 / 58 - وفيه: أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِىَ أَجْرٌ أَنْ أُنْفِقَ عَلَى بَنِى أَبِى سَلَمَةَ، إِنَّمَا هُمْ بَنِىَّ، فَقَالَ: (أَنْفِقِى عَلَيْهِمْ، فَلَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ) . قال ابن المنذر: أجمع العلماء أن الرجل لا يعطى زوجته من الزكاة، لأن نفقتها تجب عليه، وهى غنية بغناه، واختلفوا فى المرأة هل تعطى زوجها من الزكاة؟ فأجاز ذلك أبو يوسف، ومحمد، والشافعى، وأبو ثور، وأبو عبيد، وجوزه أشهب إذا لم يرجع إليها شىء من ذلك، ولا جعلته وقاية لمالها فيما يلزم نفسها من مواساته، وتأدية حقه، فإن رجع إليها شىء من ذلك لم يجزئها. وقال مالك: لا تعطى المرأة زوجها من زكاة مالها. وهو قول أبى حنيفة. واحتج من جوز ذلك بحديث زينب امرأة ابن مسعود، وقالوا: جائز أن تعطيه من الزكاة، لأنه داخل فى جملة الفقراء الذين تحل لهم الصدقة، وأيضًا فإن كل من لا يلزم الإنسان نفقته فجائز أن يضع فيه الزكاة، والمرأة لا يلزمها النفقة على زوجها، ولا على بنيه قال المهلب: والدليل على أن المرأة لا تلزمها النفقة على بنيها قوله تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) [البقرة: 233] . قال الطحاوى: واحتج عليهم أهل المقالة الثانية، فقالوا: إن تلك الصدقة التى فى حديث زينب إنما كانت من غير الزكاة، وقد بين ذلك ما رواه الليث عن هشام بن عروة، عن أبيه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 492 عن عبيد الله بن عبد الله، عن رائطة بنت عبد الله امرأة عبد الله بن مسعود، وكانت امرأة صناع وليس لعبد الله بن مسعود مال، فكانت تنفق عليه، وعلى ولده منها، فقالت: لقد شغلتنى والله أنت وولدك عن الصدقة، فما أستطيع أن أتصدق معكم بشىء، فسألت رسول الله هى وهو، فقالت: يا رسول الله، إنى امرأة ذات صنعة، أبيع منها، وليس لزوجى ولا لولدى شىء، فشغلونى فلا أتصدق، فهل لى فيهم أجر؟ فقال: (لك فى ذلك أجر ما أنفقت عليهم، فأنفقى عليهم) . قال الطحاوى: ففى هذا الحديث أن تلك الصدقة لم تكن زكاة، ورائطة هذه هى زينب امرأة عبد الله، لا نعلم أن عبد الله كانت له امرأة غيرها فى زمن رسول الله، فكانت تنفق عليه وعلى ولده من عمل يدها، وقد أجمعوا أنه لا يجوز أن تنفق على ولدها من زكاتها، فلما كان ما أنفقت على ولدها ليس من الزكاة، فكذلك ما أنفقت على زوجها ليس من الزكاة، وقد روى أبو هريرة عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، مثل ذلك، حدثنا فهد، حدثنا على بن معبد، حدثنا إسماعيل بن أبى كثير الأنصارى، عن عمر بن نبيه الكعبى، عن المقبرى، عن أبى هريرة، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) انصرف من صلاة الصبح يومًا، فأتى على النساء فى المسجد، فقال: (يا معشر النساء، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب بعقول ذوى الألباب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 منكن، إنى رأيتكن أكثر أهل النار، فتقربن إلى الله ما استطعتن) . وكان فى النساء امرأة ابن مسعود، فانصرفت إلى ابن مسعود، فأخبرته بما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وأخذت حليًا لها، فقال ابن مسعود: أين تذهبين بهذا الحلى؟ فقالت: أتقرب به إلى الله وإلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، لعل الله أن لا يجعلنى من أهل النار. قال: هلمى ويلك، تصدقى به عَلىَّ وعلى ولدى. فقالت: لا والله حتى أذهب به إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فذهبت به فسألته، فقال: (تصدقى به عليه، وعلى بنيه، فإنهم له موضع) . فبين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه أراد بقوله: (تصدقى) صدقة التطوع التى تكفر بها الذنوب، لأنه أمرها بالصدقة بكل الحلى، وذلك من التطوع لا من الزكاة، لأن الزكاة لا توجب الصدقة بكل المال، وإنما توجب الصدقة بجزء منه، وهذا دليل على فساد تأويل أبى يوسف، ومن ذهب مذهبه فقد بطل بما ذكرنا أن يكون فى حديث زينب ما يدل أن المرأة تعطى زوجها من زكاة مالها إذا كان فقيرًا. 46 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ) [التوبة: 60] وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُعْتِقُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَيُعْطِى فِى الْحَجِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنِ اشْتَرَى أَبَاهُ مِنَ الزَّكَاةِ جَازَ وَيُعْطِى فِى الْمُجَاهِدِينَ، وَالَّذِى لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ تَلا: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ) [التوبة: 60] الآيَةَ، فِى أَيِّهَا أَعْطَيْتَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 494 أَجْزَأَتْ. وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ خَالِدًا احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) ، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى لاسٍ حَمَلَنَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ لِلْحَجِّ. / 59 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالصَّدَقَةِ، فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْبُدَهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَعَمُّ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَهِىَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، وَمِثْلُهَا مَعَهَا) . اختلف أهل العلم فى تأويل قوله تعالى: (وفى الرقاب (قال ابن عباس: يجوز أن يشترى من الصدقة رقابا فيعتقهم، وهو قول الحسن ومالك فى المدونة، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وقال مالك: لا يشترى إلا مؤمنًا ويكون ولاؤهم لجماعة المسلمين، قال: ولا يعطيها المكاتبين، لأن المكاتب عبد ما بقى عليه درهم، فربما عجز فصار عبدًا، وقال أبو حنيفة، والليث، والشافعى: لا يجزئ أن يعتق من الزكاة رقبة كاملة، ومعنى قول الله تعالى: (وفى الرقاب (هم المكاتبون، وهو قول النخعى، وروى ابن القاسم ومطرف، عن مالك لا بأس أن يُعطى المكاتب ما تتم به كتابته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 495 واحتج المخالفون لمالك بأن كل صنف أعطاهم الله الصدقة على سبيل التمليك، فكذلك الرقاب يجب أن يكون المراد به من تملك الصدقة، والعبد لا يملك الصدقة وأيضًا، فإن الله ذكر الأصناف الثمانية، وجمع بين كل صنفين متقاربين فى المعنى، فجمع بين الفقراء والمساكين، وجمع بين العاملين والمؤلفة قلوبهم، لأنهما يستعان بهما إما فى جباية الصدقة، وإما فى معاونة المسلمين، وجمع بين ابن السبيل وسبيل الله، لتقاربهما فى المعنى وهو قطع المسافة، وجمع بين الرقاب والغارمين، فأخذ المكاتب لغرم كتابته كأخذ الغارمين للديون. قال ابن القصار: والحجة لمالك عموم قوله تعالى: (وفى الرقاب (وإطلاق الرقاب يقتضى عتق الرقاب فى كل موضع أطلق ذكرها، مثل كفارة الظهار، قال تعالى فيها: (فتحرير رقبة (وكذلك فى اليمين، ولم يرد بذلك المكاتبين، وإنما أراد العبيد، ولو أراد المكاتبين لكان يكفى بذكر الغارمين، لأن المكاتب غارم، فهو داخل فيهم، وشراء العبد أولاً أولى من المكاتب، لأن المكاتب قد حصل له سبب العتق بمكاتبة سيده له، والعبد لم يحصل له سبب عتق، وأيضًا فلو أعطينا المكاتب، فإن تم عتقه كان الولاء لسيده فيحصل له المال والولاء، وإذا اشترينا عبدًا فأعتقناه كان ولاؤه للمسلمين، فكان أولى وأليق بظاهر الآية. قال غيره: وأما قول الحسن: إن اشترى أباه من الزكاة جاز، فينبغى أن يجوز على أصل مالك، لأنه يجيز عتق الرقاب من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 الزكاة، إلا أنه يكرهه لما فيه من انتفاعه بالثناء عليه بأنه ابن حر، ولا يجوز عند أبى حنيفة والشافعى. واختلفوا فى قوله تعالى: (وفى سبيل الله (فقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعى، وأبو ثور، وإسحاق: هم الغزاة، إلا أن أبا حنيفة وأصحابه، قالوا: لا يعطى الغازى إلا أن يكون محتاجًا، وقال مالك والشافعى: يعطى وإن كان غنيًا. وقال ابن عباس، وابن عمر: (فى سبيل الله (الحجاج، ولا بأس أن يأخذوا من الزكاة. وقال محمد بن الحسن: من أوصى بثلث ماله فى سبيل الله، فللوصى أن يجعله فى الحاج المنقطع به. واحتج بأن رجلاً وقف ناقة له فى سبيل الله، فأرادت امرأته أن تحج وتركبها، فسألت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: (اركبيها، فإن الحج من سبيل الله) فدل أن سبل الله كلها داخلة فى عموم اللفظ، رواه شعبة عن إبراهيم بن مهاجر، عن أبى بكر بن عبد الرحمن، قال: أرسل مروان إلى أم معقل يسألها عن هذا الحديث، وإلى هذا ذهب البخارى، ولذلك ذكر حديث أبى لاس: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، حملهم على إبل الصدقة للحج. وتأول قوله: إن خالدًا قد احتبس أدراعه وأعبده فى سبيل الله) أنه يجوز أن يدخل فيه كل سبل الله: الحج، والجهاد، وغيره، وذكر قول الحسن أنه أجاز أن يعتق أباه من الزكاة، ويعطى فى المجاهدين والذى لم يحج، وتلا: (إنما الصدقات) [التوبة: 60] الآية، قال: فى أيها أعطيت أجزأت. قال ابن القصار: وحجة من قال هم الغزاة، أن كل موضع ذكر فيه سبيل الله، فالمراد منه الغزو والجهاد، قال الله تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 497 ) الذين يقاتلون فى سبيله صفا) [الصف: 4] وقال: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله) [التوبة: 20] ، فكذلك آية الصدقات. وقال أبو عبيد: لا أعلم أحدًا أفتى بأن تصرف الزكاة إلى الحج، وقال ابن المنذر: لا يعطى منها فى الحج، لأن الله قد بيّن من يعطاها، إلا أن يثبت حديث أبى لاس، فإن ثبت وجب القول به فى مثل ما جاء الحديث خاصة، رواه ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن عمر بن الحكم بن ثوبان، عن أبى لاس الخزاعى. وأما قول أبى حنيفة: لا يعطى المجاهد من الزكاة إلا أن يكون محتاجًا، فهو خلاف ظاهر الكتاب والسنة، فأما الكتاب فقوله تعالى: (وفى سبيل الله (فإذا غزا الغنى فأعطى كان ذلك فى سبيل الله، وأما السنة فروى عبد الرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبى سعيد الخدرى، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تحل الصدقة لغنى إلا لخمسة: لعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز فى سبيل الله، أو مسكين تُصُدِّقَ عليه منها فأهدى منها للغنى) . قال المهلب: وفى حديث أبى هريرة معان منها: أن ابن جميل كان منافقًا فمنع الزكاة تربصًا، فاستتابه الله عز وجل فى كتابه، فقال: (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرًا لهم) [التوبة: 74] ، فقال: استتابنى ربى. فتاب وصلحت حاله، وأما العباس فإنه كان استدان فى مفاداة نفسه ومفاداة عقيل، فكان من الغارمين الذين لا تلزمهم الصدقة. وقال أبو عبيد فى قوله: (فإنها عليه ومثلها معها) نراه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 498 والله أعلم، أنه كان أخر عنه الصدقة عامين من أجل حاجة العباس، فإنه يجوز للإمام أن يؤخرها على وجه النظر، ثم يأخذها منه بعد، كما أخر عمر بن الخطاب صدقة عام الرمادة، فلما حَيىَ الناس فى العام المقبل أخذ منهم صدقة عامين. وأما الحديث الذى يروى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إنا قد تعجلنا من العباس صدقة عامين) فهو عندى من هذا أيضًا، إنما تعجل منه أنه أوجبها عليه وضمنه إياها، ولو لم يقبضها منه، فكانت دينًا على العباس، ألا ترى قوله: (فإنها عليه، ومثلها معها) ، وقد روى حجية عن على أن العباس سأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يعجل صدقته للمساكين قبل محلها، فأذن له. فيكون معنى قوله فهى عليه صدقة، أى فهى عليه واجبة (فأداها قبل محلها، ومثلها معها) أى قد أداها أيضًا لعام آخر، لأنه قد روى أنها كانت صدقة عامين، وهذا أيضًا معنى رواية من روى (فهى عليه) ، ولم يذكر (صدقة) . وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرنى يزيد بن خالد، أن عمر بن الخطاب، قال للعباس لابّان الزكاة: وأد زكاة مالك، وكان الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، أمره بذلك، فقال: أديتها قبل ذلك. فذكر ذلك عمر للنبى (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: (صدق قد أداها قبل) ، وروى ورقاء، عن أبى الزناد: (فهى علىَّ) فالمعنى أنه (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يؤديها عنه برًا به، لقوله فى الحديث: (أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 499 (وأما خالد فإنه احتبس أدراعه وأعبده فى سبيل الله) ، فحسب له النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ذلك عوضًا من الصدقة التى وجبت عليه وخاصَّهُ بها، هذا على من جعل هذه الصدقة صدقة الفريضة، وقد روى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: حُدِّثت حديثًا عن الأعرج، عن أبى هريرة، أن رسول الله ندب الناس فى الصدقة. وذكر الحديث، فيكون على هذا معنى قوله: (فهى عليه صدقة ومثلها معها) يريد أنه سيتصدق بها وبمثلها، لأنه لا يمتنع من شىء ألزمه إياه من التطوع، بل هو يعده كاللازم. قال ابن القصار: وهذا أليق بالقصة، لأنه قد أمر بصدقة فنكرها، وأما عذر خالد فإنه واضح، لأنه من أخرج أكثر ماله وأوقفه فى سبيل الله، لا تحتمل حاله صدقات التطوع، ويكون ابن جميل شح فى التطوع الذى لا يلزمه، ولا يظن بواحد منهم منع الواجب. وقد احتج من جعل الصدقة فى حديث العباس صدقة الفريضة بهذا الحديث، فأجاز تعجيل الزكاة قبل محلها، وهو قول النخعى، وقتادة، والحسن، وسعيد بن جبير، والزهرى، وأبى حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وخالفهم آخرون، وقالوا: لا يجوز تعجيل الزكاة قبل محلها، روى ذلك عن عائشة، وابن سيرين، وهو قول مالك والليث، وقالوا: هو كالذى يصلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 ويصوم قبل الوقت، وروى ابن القاسم، عن مالك: أنه لا يجوز تعجيلها قبل الحول إلا بيسير، وقال ابن حبيب: قال من لقيت من أصحاب مالك: لا تجزئه إلا فيما قرب مثل الخمسة أيام أو العشرة قبل الحول، وقال ابن القاسم: الشهر قريب على تزحيف وكره ذلك. قال الطبرى: والذى شبه الزكاة بالصيام والصلاة فليس بمشبه، وذلك أنه لا خلاف بين جميع السلف والخلف فى أن الصدقة لو وجبت فى ماشية رجل فهرب بها من المصدق فظهر عليه المصدق، فأخذ زكاتها وربها كاره، أنها تجزئ عنه، ولا خلاف بينهم أنه لو امتنع من أداء صلاة مكتوبة فأخذ بأدائها كرها فصلاها، وهو غير مريد قضائها أنها غير مجزئة عنه، فبان بذلك أن الصلاة مخالفة للزكاة فى تعجيلها إذ كانت الصلاة لا تجزئ من لزمته إلا بعمل ببدنه ونيته متقربًا بها إلى الله تعالى. والعجب ممن زعم فى الزكاة أنها لا تجزئ عمن قدمها قبل محلها، لأنه متطوع بإعطائها والتطوع لا يجزئ عن الفرائض، وليس كما ظن، لأن الذى يعجله لا يعطيه بمعنى الزكاة، وإنما يعطيه من يعطيه دينًا له عليه على أن يحتسبه عند محله زكاة من ماله، وعلى هذا الوجه كان استسلاف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من العباس صدقته قبل وجوبها فى ماله، فإن ظن ظان أنه غير جائز له احتسابها من زكاته بعد وجوبها عليه، كما غير جائز له أن يصلى الظهر قبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 501 وقتها على أن يحتسبها ظهرًا إذا دخل وقتها، وأن يصوم شعبان على أن يحتسبه من رمضان بعد دخول رمضان، فقد أفحش الخطأ، وذلك لأن الصلاة والصيام من الفروض التى على من وجبت عليه عملها ببدنه، وليست كذلك الزكاة، لأن الزكاة حق أوجبها الله لأهل الصدقات، فهم شركاء لأرباب الأموال فيها إذا وجبت لهم، فإذا وصلت إليهم حقوقهم منها فقد برئ أربابها سواء أدوا ذلك بأنفسهم، أو أداه عنهم مؤدٍ بأمرهم، أو أخذه منهم آخذ أباح الله له أخذه لأهل السهمان برضى رب المال كان أخذه أو بغير رضاه، والدليل على ذلك مال المعتوه واليتيم يؤدى عنه وليه الزكاة، فيجزئ عنه. فإن قيل: فإن حديث أبى هريرة كان فى جواز تقديم صدقة التطوع، لأنه قال فى الحديث: (إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر بصدقة) فنكرها. وقال ابن جريج فى الحديث: (إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ندب الناس فى الصدقة) . قيل: قد صح الخبر عن على: أن العباس سأل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى تعجيل صدقته قبل وجوبها عليه، فرخص له فى ذلك. حدثناه أحمد بن منصور، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا إسماعيل بن زكريا، عن حجاج بن دينار، عن الحكم، عن حجية، عن على، ولا يقال فى التطوع منع إلا من منع صدقة الفريضة. وقد اختلفت الرواية فى قوله: (أدراعه وأعبده) فروت طائفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 502 (أعبده) بالباء، جمع عبد، وروى أبو ذر (أعتده) بالتاء، جمع عتد، وهو الفرس، وفى كتاب مسلم، وأبى داود (أعتاده) بالألف، وهذا شاهد بصحة رواية من روى (أعتده) بالتاء، لأنه لا يقال فى جمع أعبد: أعباد، والمعروف من عادة الناس فى كل زمن تحبيس الخيل والسلاح فى سبيل الله لا تحبيس العبيد، وقال صاحب العين: فرس عتد وعتيد، أى معد للركوب، وكذلك سميت عتيدة الطيب، وقال غيره: الذكر والأنثى فيه سواء، قال سلامة بن جندل: بِكُلِّ مُجَنَّب كالسيد نهدٍ وكُلِّ طُوَالةٍ عتيدٍ نزِاق ومما يدل أنه عَتَد بفتح التاء مجيئه للذكر والأنثى بلفظ واحد، وهذا حكم المصادر. 47 - باب الاسْتِعْفَافِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ / 60 - فيه: أَبُو سَعِيد، أن نَاسًا مِنَ الأنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: (مَا يَكُونُ عِنْدِى مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِىَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ) . / 61 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لأنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِىَ رَجُلاً فَيَسْأَلَهُ، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 503 / 62 - وفيه: حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ، سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَعْطَانِى، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِى، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِى، ثُمَّ قَالَ: (يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِى يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى) ، قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّى أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ، أَنِّى أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الْفَىْءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى تُوُفِّىَ. فى حديث أبى سعيد من الفقه: إعطاء السائل مرتين من مال واحد. وفيه: حجة لمن يعطى الفقير باسم الفقر، وباسم ابن السبيل من مال واحد، كذلك سائر سهام الصدقات وقياسه عندهم الوصايا، يجيزون لمن أوصى له بشى إذا قبضه أن يعطى مع المساكين إن كان ذلك الشىء لا يخرجه عن حد المسكنة، وأبى من ذلك ابن القاسم، وطائفة من الكوفيين. وفيه: ما كان عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الكرم والسخاء والإيثار على نفسه. وفيه: الاعتذار للسائل إذا لم يجد ما يعطيه. وفيه: الحض على الاستغناء عن الناس بالصبر، والتوكل على الله، وانتظار رزق الله، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 504 وأن الصبر أفضل ما أعطيه المؤمن، ولذلك الجزاء عليه غير مقدر، ولا محدود، قال تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) [الزمر: 10] . وفى حديث أبى هريرة: الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها، وأن يمتهن المرء نفسه فى طلب الرزق وإن ركب المشقة فى ذلك، ولا يكون عيالاً على الناس ولا كَلا، وذلك لما يدخل على السائل من الذل فى سؤاله، وفى الرد إذا رد خائبًا، ولما يدخل على المسئول من الضيق فى ماله إن هو أعطى لكل سائل، ولهذا المعنى قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اليد العليا خير من اليد السفلى) ، وكان مالك يرى ترك ما أعطى الرجل على جهة الصدقة أحب إليه من أخذه، وإن لم يسأله. قال المهلب: فى حديث حكيم من الفقه: أن سؤال السلطان الأعلى ليس بعار، وفيه: أن السائل إذا ألحف لا بأس برده وتخييبه وموعظته، وأمره بالتعفف وترك الحرص على الأخذ كما فعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بالأنصار وبحكيم حين ألحفوا فى مسألته مرة بعد أخرى، كلما أعطاهم سألوه، فأنجح الله موعظته ومَحَا بِهَا حرص حكيم، فلم يرزأ أحدًا بعده. وقوله: (فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه) يدل أن القناعة وطلب الكفاية والإجمال فى الطلب مقرون بالبركة، وأن من طلب المال بالشره والحرص، فلم يأخذه من حقه لم يبارك له فيه، وعوقب بأن حرم بركة ما جمع. وفى قوله: (اليد العليا خير من اليد السفلى) فضل المال والغنى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 505 إذا أنفق فى طاعة الله، وفيه: بيان أن لا يسأله الإنسان شيئًا إلا عند الحاجة والضرورة، لأنه إذا كانت يده سفلى مع إباحة المسألة فهو أحرى أن يمتنع من ذلك عند غير الضرورة. وفيه من الفقه: أن من كان له عند أحد حق من تعامل أو غيره، فإنه يجبر على أخذه إذا أبى، فإن كان مما لا يستحقه أن لا يبسط اليد إليه، فلا يجبر على أخذه خلاف قول مالك، وإنما أشهد عمر على إباء حكيم، لأنه خشى سوء التأويل عليه، فأراد أن يبرئ ساحته بالإشهاد عليه. وفيه: أنه لا يستحق أخذ شىء من بيت المال إلا بعد أن يعطيه الإمام إياه، وأما قبل ذلك فليس ذلك مستحق له، ولو كان ذلك مستحقًا لقضى على حكيم بأخذه، وعلى ذلك يدل نص القرآن قال تعالى، حين ذكر قسم الصدقات وفى أى الأصناف تقسم: (كى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) [الحشر: 7] ، فإنما هو لمن أوتيه لا لغيره، وإنما قال العلماء فى أسباب الحقوق فى بيت المال تشددًا على غير المَرْضِىّ من السلاطين ليغلقوا باب الامتداد منهم إلى أموال المسلمين، والتسبب إليها بالباطل، ويدل على ذلك فتيا مالك فيمن سرق من بيت المال أنه يقطع، ومن ربَّ الجارية من الفىء أنه يحد، ولو استحقه فى بيت المال أو فى الفىء شيئًا على الحقيقة قبل إعطاء السلطان له ذلك لكانت شبهة يدرأ عنه الحد بها، وجمهور الأمة على أن للمسلمين حق فى بيت المال والفىء، ويقسمه الإمام على اجتهاده، وسيأتى ذلك فى كتاب الجهاد، إن شاء الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 506 48 - باب مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلا إِشْرَافِ نَفْسٍ / 63 - فيه: عُمَر، قَالَ: كَانَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يُعْطِينِى الْعَطَاءَ، فَأَقُولُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّى، فَقَالَ: (خُذْهُ إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَىْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ، وَلا سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وَمَا لا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ) . قال الطحاوى: ليس معنى هذا الحديث فى الصدقات، وإنما هو فى الأموال التى يقسمها الإمام على أغنياء المسلمين وفقرائهم، فكانت تلك الأموال يعطاها الناس لا من جهة الفقر، ولكن بحقوقهم فيها، فكره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعمر حين أعطاه قوله: (أعطه من هو أفقر إليه منى) لأنه إنما أعطاه لمعنى غير الفقر، ثم قال له: (خذه فتموله) ، هكذا رواه شعيب عن الزهرى، فدل أن ذلك ليس من أموال الصدقات، لأن الفقير لا ينبغى له أن يأخذ من الصدقات ما ينبغى له أن يتخذه مالاً، كان عن مسألة أو غير مسألة، ثم قال: (إذا جاءك من هذا المال) الذى هذا حكمه (فخذه) . قال الطبرى: اختلف العلماء فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) لعمر: (ما جاءك من هذا المال فخذه) بعد إجماعهم على أنه أمر ندب وإرشاد، فقال بعضهم: هو ندب من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لكل من أعطى عطية إلى قبولها كائنًا من كان معطيها، سلطانًا أو عاميًا، صالحًا أو فاسقًا، بعد أن يكون ممن تجوز عطيته. ذكر من قال ذلك: روى عن أبى هريرة أنه قال: (ما أحد يهدى إلى هدية إلا قبلتها، فأما أن أسأل فلا) . وعن أبى الدرداء مثله، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 507 وقبلت عائشة من معاوية، وقال حبيب بن أبى ثابت: رأيت هدايا المختار تأتى ابن عمر، وابن عباس فيقبلانها، وقال عثمان بن عفان: جوائز السلطان لحم ظبى ذكى، وبعث سعيد بن العاص إلى على بن أبى طالب هدايا فقبلها، وقال: خذ ما أعطوك، وأجاز معاوية الحسين بأربعمائة ألف، وسئل أبو جعفر محمد بن على بن حسين عن هدايا السلطان، فقال: إن علمت أنه من غصب أو سحت فلا تقبله، وإن لم تعرف ذلك فاقبله، فإن بريرة تصدق عليها بلحم فأهدته لآل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: (هو عليها صدقة، ولنا هدية) ، وقال: (ما كان من مأثم فهو عليهم، وما كان من مهنأ فهو لك) . وقبلها علقمة، والأسود، والنخعى، والحسن البصرى، والشعبى. وقال آخرون: بل ذلك ندب من النبى (صلى الله عليه وسلم) أمته إلى قبول عطية غير ذى سلطان، فأما السلطان فإن بعضهم كان يقول: حرام قبول عطيته، وبعضهم كرهها. ذكر من قال ذلك: روى أن خالد بن أسيد أعطى مسروقًا ثلاثين ألفًا، فأبى أن يقبلها، فقيل له: لو أخذتها فوصلت بها رحمك، فقال: أرأيت لو أن لصًا نقب بيتًا ما أبالى أخذتها أم أخذت ذلك. ولم يقبل ابن سيرين ولا أبو رزين ولا ابن محيريز من السلطان، وقال هشام بن عروة: بعث إلىّ عبد الله بن الزبير، وإلى أخى بخمسمائة دينار، فقال أخى: ردها فما أكلها أحد وهو غنى عنها إلا أحوجه الله إليها. وقال ابن المنذر: كره جوائز السلطان: محمد بن واسع، والثورى، وابن المبارك، وأحمد ابن حنبل، وجماعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 508 وقال آخرون: بل ذلك ندب إلى قبول هدية السلطان دون غيره. وروى عن عكرمة أنه قال: إنا لا نقبل إلا من الأمراء. قال الطبرى: والصواب عندى أنه ندب منه (صلى الله عليه وسلم) أمته إلى قبول عطية كل معط جائز عطيته، سلطانًا كان أو رعية، وذلك أن الرسول قال لعمر: (ما آتاك الله من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فاقبله) ، فندبه (صلى الله عليه وسلم) إلى قبول كل ما آتاه الله من المال من جميع وجوهه من غير تخصيص وجه من الوجوه دون غيره، سوى ما استثناه (صلى الله عليه وسلم) ، وذلك ما جاء من وجه حرام عليه، فلا يحل له قبوله، كالذى يغصب رجلاً مسلمًا ماله ثم يعطيه بعينه آخر، والذى يُعطاه يعلم غصبه، أو سرقته، أو خيانته، فإن قبله كان واجبًا عليه رده. فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما وصفت من أنه لا يحرم على امرئ قبول عطية أحد يجوز حكمه فى ماله إلا عطية حرم الله قبولها، فما وجه فعل من رد عطايا السلاطين، وامتنع من قبول هدايا الأمراء، وقد ندب (صلى الله عليه وسلم) إلى قبول عطية كل أحد؟ . قيل له: إن من رد من ذلك شيئًا إنما كان على من كان الأغلب من أمره أنه لا يأخذ المال من وجهه، فرأى أن الأسلم لدينه والأبرأ لعرضه ترك قبوله إذ كان الأمر بالقبول غير حتم واجب، وإنما هو ندب إلى قبول ما لا شك فى حله، فإذا كان فيه لبس فالحق ترك قبوله، وما لم يكن حلالاً يقينًا فلم يدخل فى أمره (صلى الله عليه وسلم) عمر بقبوله، فأحله محل الشبهات التى مَنْ وَاقَعَها لم يُؤمَنْ منه مواقعة الحرام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 509 فإن قيل: فما تقول فيمن قبل ممن لم يتبين من أين أخذ المال ولا فيما وضعه؟ . قيل: ذلك ينقسم إلى ثلاثة أقسام: فما علمت يقينًا أنه حلال فلا أستحب رده، وما علمت يقينًا أنه حرام فلا أستحل قبوله وما لم أعلم وجه مصيره ولا سبب وصوله إليه، فذلك ما قد وضع عنى تكلف البحث عن أسبابه، وألزمنى فى الظاهر الحكم بأنه أولى به من غيره، ما لم يستحقه عليه مستحق، كما أحكم بما فى يد أعدل العدول أنه أولى بما فى يده ما لم يستحقه عليه مستحق، فسوى عز وجل بين حكم أفضل خلقه فى ذلك وأفجرهم، فالواجب على التسوية فى قبول عطية كل واحد منهما وردها من جهة ما يحل ويحرم، وإن اختلفا فى أن البر أحق بأن يسر بقبول عطيته من الفاجر. فإن قيل: يجوز على هذا مبايعة من يخالط، ماله الحرام وقبول هداياه؟ . قيل: قد كره ذلك قوم وأجازه آخرون، فممن كرهه: عبد الله بن يزيد، وأبو وائل، والقاسم، وسالم، وروى أنه توفيت مولاة لسالم كانت تبيع الخمر بمصر فترك ميراثها، وكانت تبيع مولاة للقاسم الفضة بالفضة متفاضلة فترك ميراثها أيضًا، وقال مالك: قال عبد الله بن يزيد بن هرمز: إنى لأعجب ممن يرزق الحلال فيرغب فى الربح فيه الشىء اليسير من الحرام فيفسد المال كله، وكره الثورى المال الذى يخالطه الحرام. وأما الذين أجازوا ذلك، فروى عن ابن مسعود أن رجلا سأله فقال: إن لى جارًا لا يتورع من أكل الربا، ولا من أخذ ما لا يصلح، وهو يدعونا إلى طعامه، وتكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 510 لنا الحاجة فنستقرضه؟ فقال: أجبه إلى طعامه واستقرضه، فلك المهنأ وعليه المأثم، وسئل ابن عمر عن أكل طعام من يأكل الربا فأجازه، وسئل النخعى عن الرجل يرث الميراث منه الحلال والحرام، قال: لا يحرم عليه إلا حرام بعينه، وعن سعيد بن جبير أنه مر بالعشارين وفى أيديهم شماريخ، فقال: ناولونا من سحتكم هذا، إنه عليكم حرام ولنا حلال، وأجاز الحسن البصرى أكل طعام العشار والصراف والعامل، وعن مكحول والزهرى، إذا اختلط المال الحلال والحرام فلا بأس به، وإنما يكره من ذلك الشىء يعرف بعينه، وأجاز ذلك ابن أبى ذئب، قال ابن المنذر: واحتج من رخص فى ذلك بأن الله تعالى ذكر اليهود فقال: (سماعون للكذب أكالون للسحت) [المائدة: 42] وقد رهن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) درعه عند يهودى. وقال الطبرى: وفى إباحة الله أخذ الجزية من أهل الكتاب مع علمه بأن أكثر أموالهم أثمان الخمور والخنازير، وهم يتعاملون بالربا، أبين الدلالة على أن من كان من أهل الإسلام بيده مال لا يدرى أمن حرام كسبه أم من حلال، فإنه لا يحرم قبوله لمن أعطيه، وإن كان لا يبالى اكتسبه من غير حله بعد أن لا يعلمه حرامًا بعينه، وبنحو ذلك قالت الأئمة من الصحابة والتابعين، ومن كرهه فإنما ركب فى ذلك طريق الورع، وتجنب الشبهات، والاستبراء لدينه، لأن الحرام لا يكون إلا بينًا غير مشكل، والله الموافق. وقوله: (غير مشرف) يعنى: غير متعرض ولا حريص عليه بشره وطمع، وأصله من قولهم: أشرف فلان على كذا، إذا تطاول له الجزء: 3 ¦ الصفحة: 511 ورماه ببصره، ومنه قيل للمكان المرتفع: شرف، وللشريف من الرجال شريف لا رتفاعه عمن هو دونه بمكارم الأخلاق. قال المهلب: وفى حديث عمر من الفقه أن للإمام أن يعطى الرجل العطاء وغيره أحوج إليه منه، إذا رأى لذلك وجهًا لسابقة أو لخير، أو لغناء عن المسلمين، وفيه أن ما جاء من المال الطيب الحلال من غير مسألة، فإن أخذه خير من تركه إذا كان ممن يجمل الأخذ منه، وفيه أن رد عطاء الإمام ليس من الأدب، لأنه داخل تحت عموم قوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه) [الحشر: 7] فإذا لم يأخذه فكأنه لم يأتمر لله، فكأنه من سوء الأدب. 49 - باب مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا / 64 - فيه: ابْنَ عُمَرَ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِىَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِى وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ) . وَقَالَ: (إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأذُنِ) . قال المهلب: فيه ذم السؤال وتقبيحه، وفهم البخارى، رحمه الله، أن الذى يأتى يوم القيامة لا لحم فى وجهه من كثرة السؤال أنه السائل تكثرًا بغير ضرورة إلى السؤال، ومن سأل تكثرًا فهو غنى لا تحل له الصدقة، فعوقب فى الآخرة. قال عبد الواحد: عوقب فى وجهه بأن جاء لا لحم فيه، فجازاه الله من جنس ذنبه حين بذل وجهه وعنده كفاية. قال المهلب: والمزعة: القطعة من اللحم، فإذا جاء لا لحم فى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 512 وجهه فتؤذيه الشمس فى وجهه أكثر من غيره، ألا ترى قوله فى الحديث: (إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن) فحذر (صلى الله عليه وسلم) من الإلحاف فى المسألة لغير حاجة إليها، وأما من سأل مضطرًا فقيرًا فمباح له المسألة، ويرجى له أن يؤجر عليها إذا لم يجد عنها بدًا، ورضى بما قسم الله لهن ولم يتسخط قدره. قال الخطابى: معنى الحديث أنه يأتى يوم القيامة ذليلا ساقط القدر، لا وجه له عند الله، فهذا التأويل على المجاز، والأول على الحقيقة. وروى شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن زيد بن عقبة الفزارى، عن سمرة بن جندب، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (للسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء ترك إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان، أو فى أمر لا يجد منه بدًا) . 54 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) [البقرة: 273] وَكَمِ الْغِنَى، وَقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَلا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ) ، يقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا) [البقرة: 273] / 65 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِى تَرُدُّهُ الأكْلَةَ وَالأكْلَتَانِ، وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غِنًى وَيَسْتَحْيِى، أَوْ لا يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 513 / 66 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِى يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الَّذِي لا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلا يُفْطَنُ بِهِ، فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ) . / 67 - وفيه: الْمُغِيرَةِ أَنَّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، كَرِهَ لَكُمْ ثَلاثًا، قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ. / 68 - فيه: سَعْدٍ، أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ رَهْطًا، وَأَنَا جَالِسٌ فِيهِمْ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ فِيهِمْ رَجُلا لَمْ يُعْطِهِ، وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَىَّ، فَقُمْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلانٍ؟ وَاللَّهِ إِنِّى لأرَاهُ مُؤْمِنًا، قَالَ: (أَوْ مُسْلِمًا) ، قَالَ: فَسَكَتُّ قَلِيلا، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَعْلَمُ فِيهِ. . الحديث. قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى لأعْطِى الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِى النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ) . / 69 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لأنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، ثُمَّ يَغْدُوَ - أَحْسِبُهُ قَالَ: إِلَى الْجَبَلِ - فَيَحْتَطِبَ، فَيَبِيعَ فَيَأْكُلَ، وَيَتَصَدَّقَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ) . قال المؤلف: قال مجاهد فى قوله تعالى: (للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله) [البقرة: 73] هم فقراء المهاجرين بالمدينة خاصة مع النبى (صلى الله عليه وسلم) ، أمر بالصدقة عليهم، وقيل: حصروا أنفسهم للغزو ومنعهم فرض الجهاد من التصرف، وقيل: إنها كانت الأرض كلها كفرًا بها وحربًا على أهل البلد وكانوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 514 لا يتوجهون جهة إلا لهم فيها عدو، فلا يستطيعون تصرفًا فى البلاد ابتغاء المعاشر فيستغنوا به عن الصدقة رهبة للعدو وخوفًا على أنفسهم. وقوله: (لا يسألون الناس إلحافًا) [البقرة: 273] اختلف المفسرون فى تأويله، فقيل: يسألون ولا يلحفون فى المسألة، وقيل: إنهم لا يسألون الناس أصلا، قال ابن الأدفوى: أى لا يكون منهم سؤال فيكون منهم إلحاف كما قال امرؤ القيس: على لاحبٍ لا يهتدى لمناره أى: ليس له منار يهتدى بها، والدليل على أنهم لا يسألون وصف لله لهم بالتعفف، ولو كانوا أهل مسألة لما كان التعفف من صفتهم. قال المؤلف: ويشهد لهذ التأويل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليس المسكين الذى يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذى لا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس) ، واحتج من أوجب لهم السؤال، ونفى عنهم الإلحاف بقوله فى الحديث الأول: (ولكن المسكين الذى ليس له غنى ويستحى، أو لا يسأل الناس إلحافًا) . قالوا: والمسألة بغير إلحاف مباحة إلى المضطر إليها، يدل على ذلك ما رواه مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من بنى أسد، عن رسول الله قال: (من يسأل الناس وله أوقية أو عدلها، فقد سأل إلحافًا) فدل هذا الحديث أن من لم يكن له أوقية فهو غير ملحف ولا ملوم فى المسألة، ومن لم يكن ملومًا فى مسألته، فهو ممن يليق به اسم التعفف، وليس قول من قال: لو كانوا أهل مسألة لما كان التعفف من صفتهم بصحيح، لأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 515 السؤال المذموم إنما هو لمن كان غنيًا عنه لوجود أوقية أو عدلها. فالحديثان مختلفان فى المعنى لا ختلاف ظاهرهما، فالحديث الأول: نفى فيه الإلحاف، ودل على السؤال، والحديث الثانى: نفى فيه السؤال أصلاً، وانتفى فيه الإلحاف بنفى السؤال، وإنما اختلف الحديثان لا ختلاف أحوال السائلين، لأن الناس يختلفون فى هذا المعنى، فمنهم من يصبر عن السؤال عند الحاجة ويتعفف، ويدافع حاله، وينتظر الفرج من الله تعالى، ومنهم من لا يصبر ويسأل بحسب حاجته وكفايته، ومنهم من يسأل وهو يجد للاستكثار، وهذا هو الملحف الذي لا ينبغى له المسألة، وقد يحتمل أن يكون الحديثنا معناهما واحد فى نفى السؤال أصلا، ويحتمل أن يكونا جميعًا حقيقى المعنى فى إثبات السؤال، ونفى الإلحفاف. فإن قيل: كيف وقد قال فى الحديث الواحد: (لا يقوم فيسأل الناس؟) قيل: فى أكثر أمره وغالب حاله، ويلزم نفسه التعفف عن المسألة حتى تغلبه الحاجة والفقر، ويقع سؤاله فى النادر والشاذ، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا يضع عصاه عن عاتقه) ومعلوم أنه أراد فى بعض الأوقات، وكما قال: (لا تحل الصدقة لغنى ولا لذى مرة سوى) وقد يحل له فى بعض الأوقات، ومن كان سؤاله عند الضرورة وفى النادر، فليس بملحف فى المسألة، واسم التعفف أولى به، لدليل حديث عطاء بن يسار. وقوله: (ليس المسكين الذى ترده اللقمة واللقمتان) يريد ليس المسكين المتكامل أسباب المسكنة، لأنه بمسألته يأتيه الكفاف والزيادة عليه، فيزول عنه اسم المبالغة فى المسكنة، وإنما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 516 المسكين المتكامل أسباب المسكنة من لا يجد غنى ولا يتصدق عليه كقوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب) [البقرة: 177] أى: ليس ذلك غاية البر، لأنه لا يبلغ بر من آمن بالله واليوم الآخر الآية. واختلف أهل اللغة والفقهاء فى الفقير والمسكين، من هو أسوأ حالا منهما؟ فقال ابن السكيت وابن قتيبة: المسكين أسوأ حالا من الفقير، لأن المسكين الذى قد سكن وخشع، والفقير له بعض ما يغنيه واحتجوا بقول الشاعر: أما الفقير الذى كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سَبَدُ فذكر أنه كانت له حلوبة، وجعلها وفقًا لعياله، أى قدر قوتهم، وحكى ابن القصار أنه هذا قول أصحاب مالك وقول أبى حنيفة. وقال طائفة: الفقير أسوأ حالا من المسكين، هذا قول الأصمعى وابن الأنبارى، وهو قو الشافعى، واحتجوا بقوله تعالى: (للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله لا يستطيعون ضربًا فى الأرض) [البقرة: 273] الآية، وبقوله: (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر) [الكهف: 79] فأخبر أن المسكين يملك بعض السفينة. قالوا: والفقر هو استئصال الشىء، يقال: فقرتهم الفاقرة، إذا أصابتهم داهية أهلكتهم، والفقير عند العرب الذى قد انكسر فقار ظهره، ومن صار هكذا فقد حل به الموت، وقد يقال: مسكين لغير الفقير، ولكن لما نقصت حالته عن الكمال فى بعض الأمور كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (مسكين مسكين من لا زوجة له) وقال لقيلة: (يا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 517 مسكينة عليك بالسكينة) قالوا: وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم أحينى مسكينًا، وأمتنى مسكينًا، واحشرنى فى زمرة المساكين) وتعوذ بالله من الفقر، فعلم أنه أسوأ حالا وأشد من المسكنة. وقد قالت طائفة من السلف: الفقير الذى لا يسأل، والمسكين الذى يسأل، روى هذا عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وجابر بن زيد، والزهرى، وروى عن على بن زياد عن مالك أنه قال: الفقير الذى لا غنى له ويتعفف عن المسألة، والمسكين الذى لا غنى له ويسأل. واختلفوا أيضًا كم الغنى الذى لا يجوز لصاحبه أخذ الصدقة، وتحرم عليه المسألة؟ فقال بعضهم: هو بوجود المرء قوت يومه لغدائه وعشائه، وهذا قول بعض المتصوفة الذين زعموا أنه ليس لأحد ادخار شىء لغد، قولهم مردود بما ثبت عن النبى وأصحابه أنهم كانوا يدخرون. وقال آخرون: لا تجوز المسألة إلا عند الضرورة، وأحلوا ذلك محل الميتة للمضطر، وقال آخرون: لا تحل المسألة بكل حال، واحتجوا بما روى عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال لأبى ذر: (لا تسأل الناس شيئًا) وجعلوا ذلك نهيًا عامًا عن كل مسألة، وبما رواه ابن أبى ذئب عن محمد بن قيس، عن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية، عن ثوبان مولى رسول الله أنه قال (صلى الله عليه وسلم) : (من تكفل لى بواحدة تكفلت له بالجنة) ، قال ثوبان: أنا، قال: (لا تسأل الناس شيئًا، فكان سوطه يقع فما يقول لأحد ناولنيه فينزل فيأخذه) . وقال قيس بن عاصم لبنيه: إياكم والمسألة فإنها آخر كسب المرء، فإن أحدًا لن يسأل إلا ترك كسبه. وقالت طائفة: لا يأخذ الصدقة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 518 من له أربعون درهما لقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافًا) ، وممن قال بذلك أبو عبيد روى عن مالك أنه قال: يعطى من له أربعون درهمًا إذا كان له عيال. وقالت طائفة: لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهمًا، هذا قول النخعى، والثورى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بحديث يروى عن ابن مسعود عن النبى بذلك، وعلله يحيى ابن سعيد وشعبة فقالا: يرويه حكيم بن جبير، وهو ضعيف. وقالت طائفة: من ملك مائتى درهم تحرم عليه الصدقة المفروضة. وهذا قول أبى حنيفة وأصحابه، ورواه المغيرة المخزومى عن مالك، وقال المغيرة: لا بأس أن يعطى أقل مما تجب فيه الزكاة ولا يعطى ما تجب فيه الزكاة واحتج أصحاب أبى حنيفة بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها فى فقرائكم) فجعل المأخوذ منه الزكاة غير المردود عليه، ومن معه مائتا درهم تؤخذ منه الزكاة، فلم يجز أن ترد عليه لما فيه من إبطال الفرق بين الجنسين بين الغنى والفقير. قال الطحاوى: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من سأل وله أوقية أو عدلها) منسوخ بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من سأل وله خمس أواق، فقد سأل إلحافًا) فجعل هذا حدًا لمن لا تحل له الصدقة. قال بعض العلماء: وكل من حد من الفقهاء فى الغنى حدًا أو لم يحد، فإنما هو بعد ما لا غنى عنه من دار تحمله ولا تفضل عنه، وخادم هو محتاج إليها، ولا فضل له من مال يتصرف فيه، ومن كان هكذا فأجمع الفقهاء أنه يجوز له أن يأخذ من الصدقة ما يحتاج إليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 519 قال الطبرى: والصواب عندنا فى ذلك أن المسألة مكروهة لكل أحد إلا المضطر يخاف على نفسه التلف بتركها، ومن بلغ حد الخوف على نفسه من الجوع ولا سبيل له إلى ما يرد به رمقه ويقيم به نفسه إلا بالمسألة، فالمسألة عليه فرض واجب، لأنه لا يحل له إتلاف نفسه وهو يجد السبيل إلى إحيائها بما أباح الله له إحياءها به والمسألة مباحة لمن كان ذا فاقة وإن كرهناها له ما وجد عنها مندوحة بما يقيم به رمقه من عيش وإن خاف، وإنما كرهناها له لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (اليد العليا خير من اليد السفلى) ولقوله: (لأن يأخذ أحدكم حبلة فيحتطب خير له من أن يسأل الناس) ولا مأثم عليه إلا على سائل سأل من غنى متكثرًا بها ماله فالمسألة عليه حرام. قال المهلب: وفى حديث سعد من الفقه الشفاعة للرجل من غير أن يسألها ثلاثًا فى الصدقات وغيرها، وفيه النهى عن القطع لأحد من الناس بحقيقة الإيمان، وقد تقدم فى كتاب الإيمان. وفيه: أن العالم يجب أن يدعو الناس إلى ما عنده وإلى الحق والعلم بكل شى حتى بالعطاء، وفيه: أن الحرص على هداية غير المهتدى آكد من الإحسان إلى المهتدى، وفيه أنه قد يعطى من المال أهل النفاق ومن على غير حقيقة الإسلام على وجه التألّف إذا طمع بإسلامه، وفى أحاديث هذا الباب كله الأمر بالتعفف والاستغناء وترك السؤال. وقال المؤلف: وفى دليل قوله: (للفقراء الذين أحصروا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 520 فى سبيل الله) [البقرة: 273] ودليل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب خير له من أن يسأله الناس) بيان ما روى عنه (صلى الله عليه وسلم) من قوله: (لا تحل الصدقة لذى مرة سوى) أن معناه الخصوص؛ لأن قوله تعالى: (للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله لا يستطيعون ضربًا فى الأرض (يدل أنه لو زال عنهم الإحصار لقدروا على الضرب فى الأرض، ودل ذلك على أنهم ذو مرة أقوياء، وقد أباح لهم تعالى أخذ الصدقة بالفقر خاصة، وكذلك قوله: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب) يدل على هذا المعنى؛ لأنه لا يقدر على ذلك إلا ذو المرة السوى، ولم تحرم عليه المسألة. قال الطحاوى: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تحل الصدقة لغنى ولا لذى مرة سوى) رواه سفيان عن سعد بن إبراهيم، عن ريحان بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ورواه أبو بكر ابن عياش، عن أبى حصين، عن سالم بن أبى الجعد، عن أبى هريرة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فذهب قوم إلى الأخذ بهذا الحديث، وقالوا: لا تحل الصدقة لذى مرة سوى، وجعلوه كالغنى. هذا قول الشافعى، وإسحاق، وأبى ثور، وأبى عبيد، ذكره ابن المنذر، وذكر ابن القصار أنه قول عبد الله بن عمرو، راوى الحديث عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . وخالفهم آخرون فقالوا: كل فقير من قوى وزَمِنٍ فالصدقة له حلال، وتأولوا قوله: (لا تحل الصدقة لغنى ولا لذى مرة سوى) لأن معناه الخصوص، هذا قول الطبرى، قال: إنه لا خلاف بين جميع علماء الأمة أن الصدقة المحرمة التى يكون أصلها محبوسًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 521 وغلتها صدقة على الغنى والفقير أنه يجوز للأغنياء أخذها وتملكها، فمعلوم بذلك أن الصدقات التطوع لم تدخل فى هذا الحديث، وإنما عنى بها الصدقات المفروضة للفقراء فى بعض الأحوال، ولذلك أجمعوا على أن غنيا فى بلده لو كان فى سفر فذهبت نفقته، فلم يجد ما يتحمل به إلى بلده أن له أن يأخذ من الصدقة المفروضة ما يتحمل به إلى موضع ماله، فمعلوم بذلك أن الحديث معناه الخصوص، وأنه معنى به من الصدقة المفروضة بعضها لما ذكرناه، ولأن الله قد جعل فى الصدقة المفروضة حقًا لصنوف من الأغنياء وهم المجاهدون فى سبيل الله، والعاملون عليها، وأبناء السبيل الذين لهم ببلدهم غنى، وهم منقطع بهم فى سفرهم، فكذلك ذو المرة السوى فى حال تعذر الكسب عليه، جاز له الصدقة المفروضة، فأما التطوع منها ففى كل الأحوال. وقال الطحاوى: لا تحرم الصدقة بالصحة إذا أراد بها سد فقره، وإنما تحرم عليه إذا أراد بها التكثر والاستغناء، يدل على ذلك ما رواه شعبة عن عبد الملك بن عمير، عن زيد بن عقبة، قال: سمعت سمرة بن جندب، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء تركه، إلا أن يسأل ذا سلطان أو فى أمر لا يجد منه بدًا) قد أباح فى هذا الحديث المسألة فى كل أمر لابد من المسألة فيه، وذلك إباحة المسألة بالحاجة لا بالزمانة. وروى يحيى بن سعيد عن مجالد، عن الشعبى، عن وهب ين خنبش، قال: جاء رجل إلى النبى - عليه السلام -، وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 522 واقف بعرفة فسأله رداءه، فأعطاه إياه، فذهب به ثم قال النبى: (إن المسألة لا تحل إلا من فقر مدقع أو غرم مفظع، ومن سأل الناس ليثرى به، فإنه خموش فى وجهه، ورضف يأكله من جهنم، إن قليل فقليل، وإن كثير فكثير) ، فأخبر (صلى الله عليه وسلم) فى هذا الحديث أن المسألة تحل بالفقر والغرم، ولا يختلف فى ذلك حال الزمن والصحيح. وكانت المسألة التى أباحها النبى (صلى الله عليه وسلم) ، هى للفقر لا لغيره وكان تصحيح الأخبار عندنا يوجب أن من قصد إليه النبى (صلى الله عليه وسلم) ، بقوله: (لا تحل الصدقة لذى مرة سوى) هو غير من استثناه فى هذه الأحاديث، وأن الذى تحرم عليه الصدقة من الأصحاء، هو الذى يريد أن يكثر ماله بالصدقة، حتى تصح هذه الآثار وتتفق معانيها، ولا تتضاد، وتوافق معنى الآية المحكمة، وهى قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) [التوبة: 60] الآية؛ لأن كل من وقع عليه اسم صنف من تلك الأصناف فهو من أهل الصدقة التى جعلها الله لهم فى كتابه وسنة رسوله زمنًا كان أو صحيحًا، وهذا الذى حملنا عليه وجوه هذه الآثار هو قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد. قال المؤلف: وهو قول مالك أيضًا، وروى المغيرة عنه أنه يعطى القوى البدن من الزكاة ولا يمنع لقوة بدنه، من (المجموعة) . 51 - باب خَرصِ التمرِ / 70 - فيه: أَبُو حُمَيْدٍ، غَزَوْنَا مَعَ رَسُولُ اللَّهِ غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَلَمَّا جَاءَ وَادِىَ الْقُرَى إِذَا امْرَأَةٌ فِى حَدِيقَةٍ لَهَا، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) لأصْحَابِهِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 523 (اخْرُصُوا) ، وَخَرَصَ رَسُولُ اللَّهِ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ، فَقَالَ لَهَا: (أَحْصِى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا) ، فَلَمَّا أَتَيْنَا تَبُوكَ، قَالَ: (أَمَا إِنَّهَا سَتَهُبُّ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَلا يَقُومَنَّ أَحَدٌ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ بَعِيرٌ فَلْيَعْقِلْهُ) ، فَعَقَلْنَاهَا وَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَقَامَ رَجُلٌ فَأَلْقَتْهُ بِجَبَلِ طَىِّءٍ، وَأَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَسَاهُ بُرْدًا وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ، فَلَمَّا أَتَى وَادِىَ الْقُرَى، قَالَ لِلْمَرْأَةِ: (كَمْ جَاءَ حَدِيقَتُكِ) ؟ قَالَتْ: عَشَرَةَ أَوْسُقٍ، خَرْصَ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّي مُتَعَجِّلٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَعَجَّلَ مَعِى فَلْيَتَعَجَّلْ) ، فَلَمَّا قَالَ ابْنُ بَكَّارٍ: كَلِمَةً مَعْنَاهَا: أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ: (هَذِهِ طَابَةُ) ، فَلَمَّا رَأَى أُحُدًا، قَالَ: (هَذَا جُبَيْلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الأنْصَارِ) ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: (دُورُ بَنِى النَّجَّارِ، ثُمَّ دُورُ بَنِى عَبْدِالأشْهَلِ، ثُمَّ دُورُ بَنِى سَاعِدَةَ، أَوْ دُورُ بَنِى الْحَارِثِ ابْنِ الْخَزْرَجِ، وَفِي كُلِّ دُورِ الأنْصَارِ، يَعْنِى خَيْرًا) . قال الطحاوى: ذهب قوم إلى أن الثمرة التى يجب فيها العشر تخرص وهى رطب تمرًا فيعلم مقدارها فتسلم إلى أربابها ويملك بذلك حق الله فيها ويكون عليه مثلها مكيلة ذلك تمرًا، وكذلك يفعل بالعنب، واحتجوا بحديث أبى حميد، وفيه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، خرصها وقال لأصحابه: (اخرصوا) ، وأنه بعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر فخرص عليهم النخل أول ما يطيب الثمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 524 قال ابن المنذر: ممن كان يرى الخرص: عمر بن الخطاب، والقاسم بن محمد، والحسن البصرى، وعطاء، والزهرى، ومالك، والشافعى، وأبو ثور، وعامة أهل العلم، وخالف ذلك أبو حنيفة وأصحابه، وقالوا: ليس فى شىء من الآثار المروية بالخرص أن الثمرة كانت رطبًا فى وقت ما خرصت، وكيف يجوز أن تكون رطبًا، فيجعل لصاحبها فيها حق الله بمكيلة ذلك تمرًا يكون عليه نسيئة، وقد نهى رسول الله عن ذلك. قال الطحاوى: ووجه الخرص عندنا إنما أريد بخرص ابن رواحة ليعلم مقدار ما فى أيدى كل قوم من الثمار، فيؤخذ منه بقدره وقت الصرام لا أنهم يملكون شيئًا مما يجب لله ببدل، لا يؤخذ منهم ذلك الوقت، ويدل على ذلك حديث أبى حميد الساعدى، وهو قوله: (فخرصها رسول الله وخرصناها عشرة أوسق، وقال: أحصها حتى نرجع إليك، إن شاء الله) ، فدل هذا أنها لم تملك بخرصهم إياها ما لم تكن مالكة له قبل ذلك، وإنما أرادوا أن يعلموا مقدار ما فى نخلها، ثم يأخذون منها الزكاة وقت الصرام على حسب ما يجب فيها، هذا معنى الخرص عندنا. قالوا: وقد قيل فى الخرص أنه كان فى أول الزمان على ما قال أهل المقالة الأولى من تمليك الخراص أصحاب الثمار حق الله فيها، وهى رطب، ببدل يأخذونه منهم تمرًا، ثم نسخ ذلك بنسخ الربا والمزابنة، قال غيره: وقالوا: إن الخرص لا يوجب العلم والإحاطة، وقد يختلف فهو كالتبخيت والظن اللذين لا يجوز الحكم بهما. قال ابن القصار: وما هرب منه أبو حنيفة من تضمين أرباب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 525 الأموال حق الفقراء، فإن أصحاب مالك، وأصحاب الشافعى لا يضمنون أرباب الأموال، لأن الثمرة لو تلفت بعد الخرص لم يضمنهم شيئًا. قال ابن المنذر: أجمع من يحفظ عنه العلم أن الخارص إذا خرص التمر، ثم أصابته جائحة لا شىء عليه إذا كان ذلك قبل الجداد. قال ابن القصار: لأننا نخرصها حتى يتصرف أصحاب الثمار بالأكل والبيع وغير ذلك إن اختاروا، فحينئذ يضمنون حق الفقراء، لأننا لو منعناهم من التصرف لحقتهم المشقة والضرر، ولو أبحنا لهم التصرف نقص حق الفقراء، فكان الحظ فى خرصها عليهم ليعلم مقدار ما يجب للفقراء، فإن سلمت أخذنا القدر الذى يجب لهم، إلا أن يتصرفوا فيها فحينئذ يضمنون. ومن الحجة لنا أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، نهى عن المزابنة، وأرخص فى العرايا أن تباع بخرصها، فأجاز البيع إذا لم يقصد به المزابنة فى الخرص ليعلم حظ المساكين ويحفظ عليهم وليس ببيع، والخرص أولى أن يجوز، وقد ثبت ذلك عن عائشة، فقالت: (خرص النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لئلا يتلف حق المساكين، وليحصى الزكاة قبل أن تؤكل) ، لأنه لو منع رب المال من الاستمتاع بماله لأدى ذلك الإضرار به، فكان فى الخرص رفق برب المال والفقراء. وأما قولهم: فإن الخرص منسوخ بنسخ الربا، فالجواب: أن بعض آية الربا منسوخة بالخرص ومخصوصة به كما خصت الحوالة من بيع الدين بالدين، والقرض من بيع الذهب والفضة بمثلهما إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 526 أجل، والإقالة والشركة من بيع الطعام قبل قبضه، وكذلك العرية وبيعها من جملة المزابنة حين لم يقصد بها المغابنة والمكايسة، والخرص ليس بربا لأنه لا نبيع شيئًا بأكثر منه، وإنما هو ليعرف حق المساكين، وقد أنفذ الأئمة بعد النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الخراص، وجرى العمل بذلك، فهى سنة معمول بها. وأما قولهم: فإن الخرص ظن، فإن الحكم قد ورد فى الشريعة بغالب الظن كثيرًا مع جواز وقوع الاختلاف فيه، وعدم الإحاطة، ألا ترى أن الحكم بقيم المتلفات إنما هو بالاجتهاد، وكذلك أمور الديانات المستدل عليها من العقليات والشرعيات قد صار أكثرها معرضًا للخلاف ومنازعة العقلاء، ولم يجب مع ذلك بطلان الاستدلال، ولأن اختلاف المستدلين إنما هو لخطأ فى الاستدلال، وكذلك حكم الحاكم قد يجوز مع الخطأ، ولم يجب لذلك بطلان حكمه. وأما خرص العنب فإنما هو بحديث عتاب بن أسيد، رواه عبد الرحمن بن إسحاق، وابن عيينة، عن الزهرى، عن سعيد بن المسيب، مرسل عن عتاب بن أسيد، قال: أمرنى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن أخرص العنب وآخذ زكاته زبيبًا، كما تؤخذ زكاة النخيل تمرًا. وأجمعوا أن الخرص فى أول ما يطيب الثمر ويزهى بصفرة أو حمرة، وكذلك العنب إذا جرى فيه الماء وصلح للأكل، واختلفوا فيما يأكله الرجل من ثمره وزرعه قبل الحصاد والجداد، هل يُحْسب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 527 عليه أم لا؟ فقال مالك، والثورى، وأبو حنيفة، وزفر: يحسب عليه ذلك، وقال الليث، والشافعى: لا يحسب عليه، ويترك له الخارص ما يأكله أهله رطبًا ولا يخرصه، والحجة لهما ما رواه الثورى عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، قال: كان عمر بن الخطاب يأمر الخراص أن يخففوا، وأن يرفعوا عنهم قدر ما يأكلون. قال الشافعى: قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) [الأنعام: 141] يدل أنه لا يحتسب بالمأكول قبل الحصاد، وحمل مالك ومن وافقه قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده (على العموم، أى آتوا حق جميع المأكول والباقى. قال المهلب: فيه من الفقه: أن الإمام يدرب أصحابه ويعلمهم أمور الدنيا كما يعلمهم أمور الآخرة، وفيه: من علامات النبوة، لأنه أخبر (صلى الله عليه وسلم) عن الريح التى هبت قبل كونها، وهذا لا يعلم إلا بالوحى، وفيه: جواز قبول هدايا المشركين، وسيأتى مذاهب العلماء فى ذلك فى كتاب الهبة، إن شاء الله. وقوله: (جبل يحبنا ونحبه) يعنى أهل الجبل، لقوله تعالى: (واسأل القرية التى كنا فيها) [يوسف: 82] يريد أهلها، قال الخطابى: فحمل الكلام على عمومه وحقيقته أولى من حمله على المجاز وتخصيصه من غير دليل، وقد ثبت (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ارتج حراء تحته، فقال: اثبت، فليس عليك إلا نبى أو. . . . . فسكن) . وأخبره اللحم المسموم أنه مسموم، فلم ينكر حب الجبل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 528 52 - باب الْعُشْرِ فِيمَا يُسْقَى مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَالْمَاءِ الْجَارِى وَلَمْ يَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِى الْعَسَلِ شَيْئًا / 71 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ، وَكَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَفَيمَا سُقِىَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ) . قال أبو عبيد: العثرى والعذى ما سقته السماء، وما سقته الأنهار والعيون فهو سيح وغيل، والبعل: ما شرب بعروقه من الأرض من غير سقى سماء ولا غيرها، والنضح ما سقى بالسواقى، وقال غيره: وأجمع العلماء على القول بظاهر هذا الحديث فى المقدار المأخوذ، وذلك العشر فى البعل وفيما سقت العيون والأنهار، لأن المؤنة فيه قليلة، وما سقى بالدلو فنصف العشر فى الحبوب والثمار التى تجب فيها الزكاة على ما نذكره، إن شاء الله، فأما مقدار المأخوذ منه فهو فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) . واتفق جمهور العلماء بالحجاز والعراق والشام على أن التأويل عندهم فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فيما سقت السماء والعيون العشر، وفيما سقى بالنضح نصف العشر) إذا كان الذى سقته السماء خمسة أوسق، وهو مثل قوله: (فى الرقة ربع العشر) مع قوله: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة) ، لأنا نقضى بالخاص على العام، والعام قوله: (فيما سقت السماء العشر) ، وقوله: (وفى الرقة ربع العشر) ، والخاص قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليس فيما دون خمسة أوسق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 529 صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة) هذا قول مالك، والثورى، والأوزاعى، والليث، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وقال النخعى وأبو حنيفة وزفر: الزكاة فى كل ما أخرجت الأرض من قليل ذلك وكثيره العشر، أو نصف العشر، ولم يعتبروا خمسة أوسق فى مقدار المأخوذ منه، وهذا خلاف السنة والعلماء، وقد تناقض أبو حنيفة فى هذه المسألة، لأنه استعمل المجمل والمفسر فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فى الرقة ربع العشر) مع قوله: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة) ولم يستعمله فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فيما سقت السماء العشر) مع قوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) وكان يلزمه القول به. ولا زكاة فى العسل عند مالك والشافعى، وهو مذهب ابن عمر، وقال أبو حنيفة: فيه العشر، وقال ابن المنذر: وليس فى وجوب الزكاة فيه خبر يثبت عن النبى، ولا إجماع، فلا زكاة فيه. 53 - باب لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ / 72 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ فِيمَا أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ، وَلا فِى أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ مِنَ الإبِلِ صَدَقَةٌ، وَلا فِى أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ) . قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ، البخارى: هَذَا تَفْسِيرُ الأوَّلِ؛ لأنه لم يوقت فى الأول، يعنى حديث ابن عمر: (. فيما سقت السماء العشر) ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 530 وبيَّن فى هذا ووقت، فالزيادة مقبولة، والمفسر يقضى على المجمل إذا رواه أهل الثبت، كما روى الفضل بن عباس، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يصل فى الكعبة. وقال بلال: قد (صلى) فأخذ بقول بلال، وترك قول الفضل. قال المؤلف: هذا الذى رواه البخارى عليه أئمة الفتوى بالأمصار، وأن الخمسة الأوسق هو بيان المقدار المأخوذ منه العشر، أو نصف العشر، وشذَّ أبو حنيفة وزفر فى ذلك، وقيل: أنهما خالفا الإجماع، فأوجبا العشر أو نصف العشر فى قليل ما تخرجه الأرض وكثيره، وخالفه صاحباه فى ذلك. وقال ابن القصار: الحجة عليه أن ما طريقه المواساة فى الصدقات يقتضى أوله حدًا ونصابًا كالذهب والفضة والماشية، والنصاب إنما وضع فى المال لمبلغ الحد الذى يحمل المواساة من غير إجحاف لرب المال، ولا تعذر عليه، وخالف أيضًا أبو حنيفة معنى آخر من هذا الحديث، فأوجب العشر أو نصف العشر فى البقول والرياحين والفواكه، وما لا يوسق كالرمان والتفاح والخوخ وشبه ذلك، والجمهور على خلافه لا يوجبون الزكاة إلا فيما يوسق ويقتات ويدخر، قال مالك: السنة عندنا فى الحبوب التى يدخرها الناس ويأكلونها، أن يؤخذ منها العشر، أو نصف العشر إذا بلغ ذلك خمسة أوسق والوسق: ستون صاعًا، والصاع: أربعة أمداد بمد النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وما زاد على خمسة أوسق ففيه الزكاة بحساب ذلك، قال: والحبوب التى فيها الزكاة: الحنطة والشعير، والسلت، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 531 والذرة، والدُّخْن، والأرز، والحمص، والعدس، والجلبان، واللوبيا، والفول، والجلجلان، وما أشبه ذلك من الحبوب التى تصير طعامًا يؤخذ منها الزكاة بعد أن يصير حبًا ويحصد، والناس مصدقون فيما رفعوه من ذلك، ولا زكاة فى البقول والخضر كلها والتوابل. قال ابن القصار: لم ينقل عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أحد بالحجاز أنه أخذ من البقول والفواكه الزكاة، ومعلوم أنها كانت عندهم بالمدينة، وأهل المدينة متفقون على ذلك عاملون به إلى وقتنا هذا ومحال أن يكون فى ذلك زكاة، ولا تؤخذ مع وجود هذه الأشياء عندهم وحاجتهم إليها، ولو أخذ منها مرة واحدة لم يجز أن يذهب عليهم حتى يطبقوا على خلافه إلى هذه الغاية. 54 - باب أَخْذِ صَدَقَةِ التَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ وَهَلْ يُتْرَكُ الصَّبِىُّ فَيَمَسُّ تَمْرَ الصَّدَقَةِ؟ / 73 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُؤْتَى بِالتَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ، فَيَجِىءُ هَذَا بِتَمْرِهِ، وَهَذَا بِتَمْرِهِ، حَتَّى يَصِيرَ عِنْدَهُ كَوْمًا مِنْ تَمْرٍ، فَجَعَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يَلْعَبَانِ بِذَلِكَ التَّمْرِ، فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا تَمْرَةً فَجَعَلَهَا فِى فِيهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَخْرَجَهَا مِنْ فِيهِ، فَقَالَ: (أَوْ مَا عَلِمْتَ أَنَّ آلَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) لا يَأْكُلُونَ الصَّدَقَةَ) . قال بعض أهل العلم: سنة أخذ صدقة التمر عند جداده، لقوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) [الأنعام: 141] ، فإن أخرجها عند محلها فسرقت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 532 أو سقطت فقال مالك وأبو حنيفة: يجزئ عنه، وهو قول الحسن البصرى، وقال الزهرى، والثورى، وأحمد: هو ضامن لها حتى يضعها مواضعها. وقال الشافعى: إن كان بقى له من ماله ما فيه زكاة زَكَّاه، وحجة القول الأول أن إخراجها موكول إليه، وهو مؤتمن على إخراجها، فإذا أخرجها من ماله وجعلت فى يده جعلت يده كيد الساعى، وقد اتفقنا أن يد الساعى يد أمانة، فإذا قبض الزكاة ولم يفرط فى دفعها وتلفت بغير صنعه لم يضمن، فكذلك رب المال، لأن الزكاة ليست متعلقة بذمته، وإنما تجب فى ماله، وإذا أخر إخراج الزكاة، حتى هلكت، فقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعى: إذا أمكن الأداء بعد حلول الحول وفرط حتى هلك المال فعليه الضمان. قال المهلب: وفيه من الفقه: دفع الصدقات إلى السلطان، وفيه: أن المسجد قد ينتفع به فى أمر جماعة المسلمين لغير الصلاة، ألا ترى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جمع فيه الصدقات وجعله مخزنًا لها، وكذلك أمر أن يوضع فيه مال البحرين وأن يبات عليه حتى قسمه فيه، وكذلك كان يقعد فيه للوفود والحكم بين الناس، ومثل ذلك مما هو أبين منه لعب الحبشة بالحراب، وتعلم المثاقفة، وكل ذلك إذا كان شاملاً لجماعة المسلمين، وإذا كان العمل لخاصة الناس فيكره مثل الخياطة والجزارة، وقد كره قوم التأديب فى المسجد، لأنه خاص، ورخص فيه آخرون لما يرجى من نفع تعلم القرآن فيه، وفيه: جواز دخول الأطفال فى المسجد واللعب فيه بغير ما يسقط حرمته إذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 533 كان الأطفال ممن إذا نهوا انتهوا، وفيه: أنه ينبغى أن يجنب الأطفال ما يجنب الكبار من المحرمات، وفيه: أن الأطفال إذا نهوا عن الشىء يجب أن يعرفوا لأى شىء نهوا عنه، ليكبروا على العلم ليأتى عليهم وقت التكليف وهم على علم من الشريعة. وقال الطبرى: وفيه الدليل على أن لأولياء الصغار المعاتبة وتجنيبهم التقدم على ما يجب على الأصحاء البالغين الانزجار عنه، والحول بينهم وبين ما حرم الله على عباده فعله، وذلك أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، استخرج التمرة من الصدقة من فىّ الحسن، وهو طفل لا تلزمه الفرائض، ولم تجر عليه الأقلام، ولا شك أنه لو أكل تمر جميع الصدقات لم تلزمه تبعة عند الله، وإن لزم ماله غرمه، فلم يخله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأكل لا من أجل ما كان يلزمه من ضمن ذلك، ولكن من أجل أنه كان مما حرم الله على أهل التكليف من أهل بيته، فبان بذلك أن الواجب على ولى الطفل والمعتوه إن رآه قد تناول خمرًا يشربها، أو لحم خنزير يأكله، أو مالاً لغيره ليتلفه أن يمنعه من فعله، ويحول بينه وبين ذلك. وفيه: الدليل الواضح على صحة قول القائلين أن على ولى الصغيرة المتوفى عنها زوجها أن يجنبها الطيب والزينة والمبيت عن المسكن الذى تسكنه والنكاح، وجميع ما يجب على البوالغ المعتدات اجتنابه، وخطأ قول من قال: ليس ذلك على الصغيرة اعتلالاً منهم أنها غير متعبدة بشىء من الفرائض، لأن الحسن كان لا تلزمه الفرائض، فلم يكن لإخراج التمرة من فيه معنى إلا من أجل ما كان على النبى من منعه ما على المكلفين الامتناع منه من أجل أنه وليّه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 534 55 - باب مَنْ بَاعَ ثِمَارَهُ أَوْ نَخْلَهُ أَوْ أَرْضَهُ أَوْ زَرْعَهُ وَقَدْ وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ أَوِ الصَّدَقَةُ فَأَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ بَاعَ ثِمَارَهُ وَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الصَّدَقَةُ وَقَوْلُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَبِيعُوا الثَّمَرَةَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا) ، فَلَمْ يَحْظُرِ الْبَيْعَ بَعْدَ الصَّلاحِ عَلَى أَحَدٍ وَلَمْ يَخُصَّ مَنْ وَجَبَت عَلَيْهِ الزَّكَاةُ مِمَّنْ لَمْ تَجِبْ. / 74 - وفيه: ابْن عُمَر، نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا، وَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلاحِهَا، قَالَ: (حَتَّى تَذْهَبَ عَاهَتُها) . / 75 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِىَ قَالَ: ومَا تُزْهِىَ؟ قَالَ: حَتَّى تَحْمَارَّ. اختلف العلماء فى هذه المسألة، فقال مالك: من باع أصل حائطه أو أرضه، وفى ذلك زرع أو ثمر قد بدا صلاحه وحل بيعه، فزكاة ذلك التمر على البائع إلا أن يشترطها على المبتاع، ووجه قوله أن المراعاة فى الزكاة إنما تجب بطيب الثمرة، فإذا باعها ربها وقد طاب أولها فقد باع ماله، وحصة المساكين معه، فيحمل على أنه قد ضمن ذلك ويلزمه. وقال أبو حنيفة: المشترى بالخيار بين إنفاذ البيع ورده، فالعشر مأخوذ من الثمرة من يد المشترى، ويرجع على البائع بقدر ذلك، ووجه قوله فى العشر مأخوذ من الثمرة، لأن سنة الساعى أن يأخذ الزكاة من كل ثمرة يجدها، فوجب الرجوع على البائع بقدر ذلك، كالعيب الذى يرجع بقيمته، وقال الشافعى فى أحد قوليه: إن البيع فاسد، لأنه باع ما يملك وما لا يملك، وهو نصيب المساكين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 535 ففسدت الصفقة، وعلى هذا القول رد البخارى بقوله فى هذا الباب فلم يحظر البيع بعد الصلاح على أحد، ولم يخص من وجبت عليه الزكاة ممن لم تجب، والشافعى منع البيع بعد الصلاح فخالف إباحة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لبيع الثمار إذا بدا صلاحها، واتفق مالك وأبو حنيفة والشافعى أنه إذا باع أصل الثمرة وفيها ثمر لم يبد صلاحه أن البيع جائز، والزكاة على المشترى لقوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) [الأنعام: 141] وأما الذى ورد فيه نهى النبى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها هو بيع الثمرة خاصة دون الأصل، لأنه يخشى عليه أن لا تتم الثمرة، فيذهب مال المشترى فى غير عوض، وإن ابتاع رقبة الثمرة، وإن كان فيها ثمر لم يبد صلاحه، فهو جائز، لأن البيع إنما وقع على الرقبة لا ثمرتها التى لم تظهر بعد، فهذا الفرق بينهما. 56 - باب هَلْ يَشْتَرِى الرَّجُلُ صَدَقَتَهُ؟ وَلا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِىَ صَدَقَهُ غَيْرُهُ لأنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) إِنَّمَا نَهَى الْمُتَصَدِّقَ خَاصَّةً عَنِ الشِّرَاءِ وَلَمْ يَنْهَ غَيْرَهُ / 76 - فيه: ابْنَ عُمَر، أَنَّ عُمَرَ تَصَدَّقَ بِفَرَسٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَوَجَدَهُ يُبَاعُ، فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَاسْتَأْمَرَهُ، فَقَالَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 536 (لا تَعُدْ فِى صَدَقَتِكَ) ، فَبِذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يَتْرُكُ أَنْ يَبْتَاعَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِهِ إِلا جَعَلَهُ صَدَقَةً. وَقَالَ عُمَر: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَضَاعَهُ الَّذِى كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (لا تَشْتَرِهِ، وَلا تَعُدْ فِى صَدَقَتِكَ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِى صَدَقَتهِ كَالْعَائِدِ فِى قَيْئِهِ) . كره أكثر العلماء شراء الرجل صدقته لحديث عمر فى الفرس، وهو قول مالك، والليث، والكوفيين، والشافعى، وسواء عندهم صدقة الفرض أو التطوع، فإن اشترى أحد صدقته لم يفسخ بيعه، والأولى به التنزه عنها، وكذلك قولهم فيما يخرجه المكفر عن كفارة اليمين مثل الصدقة سواء. قال ابن المنذر: ورخص فى شراء الصدقة: الحسن، وعكرمة، وربيعة، والأوزاعى، وقال ابن القصار: قال قوم: لا يجوز لأحد أن يشترى صدقته، ويفسخ البيع، ولم يذكر قائلى ذلك، ويشبه أن يكونوا أهل الظاهر، وحجة من لم يفسخ البيع أن الصدقة راجعة إليه بمعنى غير معنى الصدقة، كما خرج لحم بريرة، وانتقل عن معنى الصدقة المحرمة على النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إلى معنى الهدية المباحة له. قال ابن القصار: وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا تحل الصدقة لغنى إلا لخمسة) وذكر منهم من اشتراها بماله، ولم يفرق بين أن يكون المشترى لها صاحبها أو غيره، ورواه أبو سعيد الخدرى، وقد تقدم فى باب قوله تعالى: (وفى الرقاب) [البقرة: 177] قبل هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 537 وأجمعوا أن من تصدق بصدقة ثم ورثها أنه حلال له، وروى سفيان، عن عبد الله ابن عطاء، عن ابن بريدة، عن أبيه، أن امرأة جاءت إلى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقالت: يا رسول الله، إنى تصدقت على أمى بجارية وإنها ماتت، قال: (وجب أجرك، ورَدَّها عليك الميراث) ، فإن قيل: فلم كرهتم شراءه إياها؟ . قيل: لئلا يحابيه الذى تصدق عليه بها فيصير عائدًا فى بعض صدقته، لأن العادة أن الذى تصدق عليه بها يسامحه إذا باعها، وقد أخبر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى لحم بريرة أنه إذا كانت الجهة التى يأخذ بها الإنسان غير جهة الصدقة جاز ذلك، ومن ملكها بماله لم يأخذها من جهة الصدقة، فدل هذا المعنى أن النهى فى حديث عمر فى الفرس محمول على وجه التنزه لا على التحريم، لأن المتصدق عليه بالفرس لما ملك بيعه من سائر الأجانب، وجب أن يملكه من المتصدق عليه، دليله إن وهب له جاز أن يشتريه الواهب. وقال الطبرى: معنى حديث عمر فى النهى عن شراء صدقة التطوع خاصة، لأنه لا صدقة فى الخيل، فيقال: إن الفرس الذى تصدق به عمر كان من الصدقة الواجبة، وصح أنه لم يكن حبيسًا لأنه لو كان حبيسًا لم يكن ليباع، فعلم أنه كان مما تطوع به عمر. قال غير الطبرى: ولا يكون الحبس إلا لينفق عليه المحبس من ماله، وإذا خرج خارج إلى العدو دفعه إليه مع نفقته، على أن يغزو به ويصرفه إليه، فيكون موقوفًا على مثل ذلك، فهذا لا يجوز بيعه بإجماع، وأما إذا جعله فى سبيل الله وملكه الذى دفعه إليه، فهذا يجوز بيعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 538 قال الطبرى: والدليل على جواز شراء صدقة الفرض وصحة البيع فيها ما ثبت عن الرسول فيمن وجبت عليه سن من الإبل فلم تكن عنده، وكان عنده دونها أو فوقها أن يأخذ ما وجد ويرد دراهم أو غنمًا، إن كان أخذ أفضل من الذى له، وإن كان الذى وجد عنده دون، أن يأخذه ويلزمه دراهم، أو غنمًا وهذا لا شك أخذ عوض وبدل من الواجب على رب المال، وإذا جاز تملك الصدقة بالشراء قبل خروجها من يد المتصدق بعوض، فحكمها بعد القبض كذلك، وبنحو ذلك قال جماعة من العلماء، حدثنا محمد ابن بزيع، حدثنا بشر بن مفضل، عن الأشعث، أن الحسن حدثهم أن عمر بن الخطاب كان لا يكره أن يشترى الرجل صدقته إذا خرجت من يد صاحبها إلى غيره، وهو قول الحسن، وابن سيرين، فأما إن رجعت إلى المتصدق صدقته بميراث، أو هبة من المتصدق عليه، أو غيره فإنه لا يكره له تملكها، ولا يكون عائدًا فى صدقته لحديث بريرة، وسيأتى الكلام فى حديث عمر فى كتاب الجهاد باب إذا حمل على فرس فى سبيل الله فرآها تباع، وفى كتاب الأوقاف، وفى آخر كتاب الهبات على حسب ما يقتضيه التبويب، إن شاء الله. 57 - باب مَا يُذْكَرُ فِى الصَّدَقَةِ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) / 77 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِى فِيهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (كِخْ كِخْ) ، لِيَطْرَحَهَا، ثُمَّ قَالَ: (أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 539 قال المؤلف: اختلف العلماء فى الصدقة المحرمة على آل النبى، فقال الطحاوى: قال أبو يوسف ومحمد: يحرم على بنى هاشم صدقة الفريضة والتطوع، وكره أصبغ بن الفرج لهم فيما بينهم وبين الله أن يأخذوا من التطوع. وقال الطحاوى: اختلف فى ذلك قول أبى حنيفة، فروى عنه مثل هذا القول، وروى عنه أن صدقة الفريضة، وسائر الصدقات حلال لبنى هاشم، وقال مالك: الصدقة المحرمة عليهم هى الزكاة لا التطوع، وذكر الطبرى عن أبى يوسف أنه يحل لبنى هاشم الصدقة بعضهم من بعض، ولا يحل لهم من غيرهم، وذكر الطحاوى أن علة أبى حنيفة فى ذلك أن الصدقات إنما كانت محرمة عليهم من أجل ما جعل لهم فى الخمس من سهم ذوى القربى، فلما انقطع عنهم ذلك ورجع إلى غيرهم بموت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حل بذلك لهم ما كان حرم عليهم. قال المؤلف: فأما أهل المقالة الأولى فإنهم أخذوا بعموم النهى، فكرهوا جميع أنواع الصدقات، ولا يصح تأويلهم، لأن هذه التمرة التى أخرج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، من فى الحسن بن على كان من تمر الصدقة المفروضة التى كان يقسمها النبى، (صلى الله عليه وسلم) . قال الطحاوى: وإنما حرم على بنى هاشم من الصدقات لقرابتهم مثل ما حرم على الأغنياء لأموالهم، فأما الصدقة التى يراد بها طريق الهبات، وإن سميت صدقات فلا تدخل فى التحريم، ألا ترى لو أن رجلاً أوقف داره على غنى أن ذلك جائز، ولا يمنعه ذلك غناه، وحكم ذلك خلاف حكم سائر الصدقات من الزكوات والكفارات، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 540 وكذلك من كان من بنى هاشم فذلك حلال، وقد روى الطبرى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه حرم الصدقة المفروضة على بنى هاشم وهذا نص قاطع، قال الطبرى: وفى إخراج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، التمرة من فى الحسن فساد قول من زعم أن الصدقة المفروضة حلال لآل النبى، وفساد قول من زعم أنها تحرم عليهم من غيرهم، وأنها حلال لبعضهم من بعض، وذلك أن الأخبار وردت أن الصدقة محرمة عليه وعلى أهل بيته، وبذلك نطق القرآن، وذلك لقوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة فى القربى) [الشورى: 23] ، وذلك أنه لو حلت له الصدقة فأخذها منهم، وجد القوم السبيل أن يقولوا: إنما تدعونا إلى ما تدعونا إليه لتأخذ أموالنا وتعطيها إلى أهل بينك ولا تدعونا إلى سبيل الرشاد، ولكنه أمر (صلى الله عليه وسلم) بأخذها من أغنياء كل قبيلة وردها فى فقرائهم، ليعلموا أنه إنما يدعوهم إلى مصلحتهم دون عوض يأخذه منهم، وبذلك بعثت الرسل من قبله، فقال نوح إذ كذبه قومه، وقال هود إذ كذبته عاد، وقال صالح إذ كذبته ثمود: (وما أسألكم عليه من أجر) [الشعراء: 145] وإنما سألوا الأجر من الله تعالى. قال المهلب: وإنما حرمت الصدقة عليه وعلى آله، لأنها أوساخ الناس، ولأن أخذ الصدقة منزلة ذل وضعة، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (اليد العليا خير من اليد السفلى) ، فجعل يد الذى يأخذ السفلى، والأنبياء وآلهم منزهون عن الذل، والضعة، والخضوع، والافتقار إلى غير الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 541 وقد فرض الله عليه وعلى الأنبياء قبله ألا يطلبوا على شىء من الرسالة أجرًا، فلو أخذ الصدقة لكانت كالأجرة، وكذلك لو أخذها الذين تلزمهم صلته لكان ذلك كالواصل إليه، فلذلك حرمها عليهم، قال الطبرى: وأما الذين حظروا على بنى هاشم أخذ الصدقة المفروضة من غيرهم، وأباحوا أخذها من بعضهم لبعض، فإنهم لا القياس فى ذلك أصابوا، ولا خبر الرسول اتبعوا، وذلك أن كل صدقة وزكاة أوساخ الناس، وغسالة ذنوب من أخذت منه هاشمبًا كان أو نبطيًا، ولم يفرق الله ولا رسوله بين شىء منها بافتراق حال المأخوذ ذلك منه، وصاحبهم أشد قولاً منهم، لأنه لزم ظاهر التنزيل، وهو قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) [التوبة: 60] وأنكر الأخبار الواردة بتحريم الصدقة على بنى هاشم، فلا ظاهر التنزيل لزموا، ولا بالخبر عنه (صلى الله عليه وسلم) قالوا. قال المهلب: وفى هذا الحديث أن قليل الصدقة لا يحل لآل محمد بخلاف اللقطة التى لا يحرم منها ما لا قيمة له، لقوله (صلى الله عليه وسلم) فى التمرة الملقاة: (لولا أنى أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها) . قال المؤلف: واختلف العلماء فى آل النبى (صلى الله عليه وسلم) من هم؟ فقال مالك: هم بنو هاشم خاصة. قال ابن حبيب: ولا يدخل فى آل محمد من كان فوق بنى هاشم من بنى عبد مناف، أو بنى قصى، أو غيرهم، وهكذا فسر ابن الماجشون ومطرف، وحكاه الطحاوى عن أبى حنيفة، وذكر عبد الرزاق عن الثورى، عن يزيد بن حيان التيمى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 542 قال: سمعت زيد بن أرقم، وقيل له: من آل محمد الذين لا تحل لهم الصدقة؟ قال: آل على بن أبى طالب، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس، وقال الشافعى: آل محمد بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، أخى هاشم أيضًا ممن لا تحل لهم الصدقة. وقال أصبغ بن الفرج: آل محمد الذين لا تحل لهم الصدقة عشيرته الأقربون، الذين ناداهم حين أنزل عليه: (وأنذر عشيرتك الأقربين) [الشعراء: 214] وهم آل عبد المطلب، وآل هاشم، وآل عبد مناف، وقصى، وقال أصبغ: وقد قيل: قريش كلها. وقوله: (كخ كخ) ، قال أبو على البغدادى: يقال للصبى إذا زجروه عن الشىء يريد أكله. كخ كخ بكسر الكاف مرتين. 58 - باب الصَّدَقَةِ عَلَى مَوَالِي أَزْوَاجِ النَّبِىِّ - عليه السلام - / 78 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، وَجَدَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) شَاةً مَيِّتَةً أُعْطِيَتْهَا مَوْلاةٌ لِمَيْمُونَةَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (هَلا انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا) ، قَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ، قَالَ: (إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا) . / 79 - وفيه: عَائِشَةَ، (أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِىَ بَرِيرَةَ لِلْعِتْقِ، وَأَرَادَ مَوَالِيهَا أَنْ يَشْتَرِطُوا وَلاءَهَا. . . .) الحديث. (وَأُتِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِلَحْمٍ، فَقُلْتُ: هَذَا مَا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ النّبِىّ: هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ) . قال المؤلف: اتفق كافة الفقهاء على أن أزواج النبى، - عليه السلام -، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 543 لا يدخلن فى آله الذين تحرم عليهم الصدقة، فمواليهن أحرى بالصدقة على ما ثبت فى شاة ميمونة ولحم بريرة. وإنما اختلف العلماء فى موالى بنى هاشم خاصة إن كان لهم حكم بنى هاشم فى تحريم الصدقة عليهم أم لا فذهب الكوفيون، والثورى، وابن الماجشون، ومطرف، وابن نافع إلى أن الصدقة محرمة على موالى بنى هاشم كتحريمها على بنى هاشم، واحتجوا بحديث أبى رافع أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (إنا آل محمد لا نأكل الصدقة، وموالى القوم منهم) . وذهب مالك، وابن القاسم، والشافعى، إلى أن موالى بنى هاشم تحل لهم الصدقات وتأولوا قوله (صلى الله عليه وسلم) : (موالى القوم منهم) على الخصوص، قال ابن القاسم: ومثل الحديث الذى جاء (ابن أخت القوم منهم) قال أصبغ: وتفسير مولى القوم منهم يريد فى الحرمة والبر منهم به، كما جاء فى الحديث: (أنت ومالك لأبيك) يريد فى البر والمطاوعة لا فى اللازم ولا فى القضاء. 59 - باب إِذَا تَحَوَّلَتِ الصَّدَقَةُ / 80 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ الأنْصَارِيَّةِ، قَالَتْ: دَخَلَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَ: (هَلْ عِنْدَكُمْ شَىْءٌ) ؟ فَقَالَتْ: لا، إِلا شَىْءٌ بَعَثَتْ بِهِ إِلَيْنَا نُسَيْبَةُ مِنَ الشَّاةِ الَّتِى بَعَثَتْ بِهَا مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: (إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا) . / 81 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أُتِىَ بِلَحْمٍ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ: (هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 544 قال بعض العلماء: لما كانت الصدقة يجوز فيها التصرف للفقير بالبيع والهبة، لصحة ملكه لها، وأهدتها نسيبة وبريرة إلى عائشة، حكم لها بحكم الهبة، وتحولت عن معنى الصدقة بملك المتصدق عليه بها، وانتقلت إلى معنى الهدية الحلال للنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وإنما كان يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، لما فى الهدية من تألف القلوب والدعاء إلى المحبة. وجائز أن يثبت عليها بمثلها وأفضل منها فترتفع المنة والذلة، ولا يجوز ذلك فى الصدقة، فافترق حكمهما لافتراق المعنى فيهما، وقال سحنون: لا بأس أن يشترى الرجل كسور السؤال منهم، واستدل على ذلك بقول الرسول فى لحم بريرة: (هو لها صدقة ولنا هدية) . وقال الطحاوى: فى حديث أم عطية، وحديث بريرة دليل على أنه يجوز للهاشمى أن يستعمل على الصدقة، ويأخذ جعله على ذلك، وقد كان أبو يوسف يكره ذلك إذا كانت جعالتهم منها. قال: لأن الصدقة تخرج من ملك المتصدق إلى غير الأصناف التى سماها الله، فيملك المصدق بعضها، وهى لا تحل له، واحتج بحديث أبى رافع، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعث رجلاً من بنى مخزوم على الصدقة، فقال لأبى رافع: اصحبنى كيما تصيب منها، فقال: لا حتى أستأذن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأتاها فذكر ذلك له، فقال: إن آل محمد لا تحل لهم الصدقة، وموالى القوم من أنفسهم. وخالف أبا يوسف فى ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس أن يجتعل منها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 545 الهاشمى، لأنه إنما يجتعل على عمله، وذلك قد يحل للأغنياء، فلما كان هذا لا يَحْرُمُ على الأغنياء يُحَرِّمُ عليهم غناهم الصدقة، كان ذلك أيضًا فى النظر لا يَحْرُمُ على بنى هاشم الذى يُحَرِّمُ عليهم نسبهم الصدقة. وقال الطحاوى: فلما كان ما تصدق به على بريرة جائزًا للنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أكله، لأنه إنما ملكه بالهدية، جاز أيضًا للهاشمى أن يجتعل من الصدقة، لأنه إنما تملكها بعمله لا بالصدقة، هذا هو النظر عندنا، وهو أصح مما ذهب إليه أبو يوسف. 60 - باب أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنَ الأغْنِيَاءِ وَتُرَدَّ فِى الْفُقَرَاءِ حَيْثُ كَانُوا / 82 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ النّبِى، (صلى الله عليه وسلم) ، لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: (إِنَّكَ سَتَأْتِى قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 546 قال المؤلف: قال الله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها (إلى) وابن السبيل) [التوبة: 60] ، واختلف العلماء فى الصدقات، هل هى مقسومة على من سمى الله تعالى فى هذه الآية؟ فقال مالك، والثورى، وأبو حنيفة، وأصحابه: يجوز أن توضع الصدقة فى صنف واحد من الأصناف المذكورة فى الآية على قدر اجتهاد الإمام، وهو قول عطاء، والنخعى، والحسن البصرى، وقال الشافعى: هى مقسومة على ثمانية أصناف لا يصرف منها سهم عن أهله ما وجدوا، وهو قول عكرمة، وأخذ بظاهر الآية، قال: وأجمعوا لو أن رجلاً أوصى بثلثه لثمانية أصناف لم يجز أن يجعل ذلك فى صنف واحد، فكان ما أمر الله بقسمته على ثمانية أصناف أولى أن لا يجعل فى واحد، ومعنى الآية عند مالك والكوفيين: إعلام من الله تعالى لمن تحل له الصدقة، بدليل إجماع العلماء أن العامل عليها لا يستحق ثمنها، وإنما له بقدر عمالته، فدل ذلك أنها ليست مقسومة على ثمانية أصناف بالسوية، واحتجوا بما روى عن حذيفة، وابن عباس أنهما قالا: إذا وضعتها فى صنف واحد أجزأك، ولا مخالف لهما من الصحابة، فهو كالإجماع، وقال مالك والكوفيون: المؤلفة قلوبهم قد سقطوا ولا مؤلفة اليوم، وليس لأهل الذمة فى بيت المال حق، وقال الشافعى: المؤلفة قلوبهم من دخل فى الإسلام، ولا يعطى مشرك يتألف على الإسلام. واختلفوا فى نقل الصدقة من بلد إلى بلد، فقال الشافعى: لا يجوز نقلها من بلد إلى بلد آخر، وقال مالك: إذا وجد المستحقون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 547 للزكاة فى البلد الذى تؤخذ فيه لم تنقل عنه إلى بلد آخر، وذكر ابن المواز، عن مالك لو أن رجلاً بالشام أنفذ زكاته إلى المدينة كان صوابًا، ولو أنفذها إلى العراق لم أر به بأسًا، وقال أبو حنيفة: يجوز نقلها إلى بلد آخر مع وجود الفقراء فى البلد الذى تؤخذ فيه، وإن كنا نكرهه، واحتج الشافعى بحديث معاذ حين بعث إلى اليمن فأمره أن يأخذ الزكاة من أغنيائهم فيردها فى فقرائهم، فأخبر أنها ترد فى فقراء اليمن إذا أخذت من أغنيائهم. واحتج من أجاز نقلها إلى بلد آخر بما روى عن معاذ أنه قال لأهل اليمن: ائتونى بعرض ثياب خميس، أو لبيس فى الصدقة، فإنها أنفع لأهل المدينة، فأعلمهم أنه ينقلها إلى المدينة، وكان عدى بن حاتم ينقل صدقة قومه إلى أبى بكر بالمدينة، فلم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة. وقوله: (واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) . فيه: أن للإمام أن يعظ من ولاه النظر فى أمور رعيته، ويأمره بالعدل بينهم، ويخوفه عاقبة الظلم، ويحذره وباله، قال الله تعالى: (ألا لعنة الله على الظالمين (ولعنة الله الإبعاد من رحمته. والظلم محرم فى كل أمة، وقد جاء فى الحديث: أن دعوة المظلوم لا ترد وإن كانت من كافر، ومعنى ذلك أن الله تعالى لا يرض ظلم الكافر كما لا يرضى ظلم المؤمن، وأخبر تعالى أنه لا يظلم الناس شيئًا، فدخل فى عموم هذا اللفظ جميع الناس من مؤمن وكافر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 548 61 - باب صَلاةِ الإمَامِ وَدُعَائِهِ لِصَاحِبِ الصَّدَقَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً (إلى قوله: (سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة: 103] / 83 - فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ، قَالَ: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلانٍ) ، فَأَتَاهُ أَبِى بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِى أَوْفَى) . قال أهل الظاهر: إذا أخذ الإمام الصدقة من صاحبها وجب عليه أن يدعو له، وقال جميع الفقهاء: إن ذلك غير واجب، واحتج أهل الظاهر بقوله تعالى: (وصل عليهم) [التوبة: 103] قالوا: والأمر يقتضى الوجوب، والنبى (صلى الله عليه وسلم) قد دعا لآل أبى أوفى، وفعله ممتثل، والاقتداء به واجب. قال ابن القصار: حجة الجماعة أنه لا يخلو أن يكون الأمر إذا لم يدع له أن تجزئه الزكاة أم لا؟ فإن قالوا: لا تجزئه دللنا بقوله تعالى: (وآتوا الزكاة (وهذا قد أعطاها، فإن قالوا: تجزئه، دللنا أن الإمام لا يجب عليه شىء بقوله (صلى الله عليه وسلم) : خذ الصدقة من أغنيائهم وردها فى فقرائهم، ولم يقل: ادع لهم، ولو كان مأمورًا بالدعاء لذكره، ليعلم كما علمنا وجوب الزكاة، ولأمر به السعاة، ولم ينقل أحد أنه أمرهم بذلك. وأما قوله تعالى: (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم (فإنما أراد إذا ماتوا، هكذا يقتضى إطلاق الصلاة فى الشريعة، ولو ثبت أنه أراد الدعاء لكان خصوصًا للنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لقوله: (إن صلاتك سكن لهم (فلا يعلم هذا فى غير النبى، ويجوز أن يحمل على الاستحباب بدليل أن كل حق لله أو للآدميين استوفاه الإمام فلا يجب عليه الدعاء لمن استوفاه منه كالحدود والكفارات والديون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 549 62 - باب مَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ الْعَنْبَرُ بِرِكَازٍ هُوَ شَىْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فِى الْعَنْبَرِ وَاللُّؤْلُؤِ الْخُمُسُ، فَإِنَّمَا جَعَلَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى الرِّكَازِ الْخُمُسَ لَيْسَ فِى الَّذِى يُصَابُ فِى الْمَاءِ. / 84 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَنَّ رَجُلا مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِى إِسْرَائِيلَ بِأَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَخَرَجَ فِى الْبَحْرِ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً، فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ، فَرَمَى بِهَا فِى الْبَحْرِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِى كَانَ أَسْلَفَهُ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ فَأَخَذَهَا لأهْلِهِ حَطَبًا. . . . .) ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، (فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ) . اختلف العلماء فى العنبر واللؤلؤ حين يخرجان من البحر هل فيهما خمس أم لا؟ فجمهور العلماء على ألا شىء فيهما، وأنهما كسائر العروض، وهذا قول أهل المدينة، والكوفيين، والليث، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، وقال أبو يوسف: فى اللؤلؤ والعنبر وكل حلية تخرج من البحر خمس. وهو قول عمر بن عبد العزيز، والحسن البصرى، وابن شهاب. قال ابن القصار: وهذا غلط، لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (وفى الركاز الخمس) فدل أن غير الركاز لا خمس فيه، والبحر لا ينطلق عليه اسم ركاز، واللؤلؤ والعنبر متولدان من حيوان البحر فأشبها السمك والصدف. قال غيره: وحجة أخرى أن الله فرض الزكاة، فقال: (خذ من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 550 أموالهم صدقة} فأخذ الرسول من بعض الأموال دون بعض، فعلمنا أن الله تعالى لم يرد جميع الأموال، فلا سبيل إلى إيجاب زكاة إلا فيما أخذه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ووقف عليه أصحابه. قال المهلب: فى أخذ الرجل الخشبة حطبًا لأهله دليل أن ما يوجد فى البحر من متاع البحر وغيره أنه لا شىء فيه، وهو لمن وجده حتى يستحق ما ليس من متاع البحر من الأموال كالدنانير والثياب وشبه ذلك، فإذا استحق رد إلى مستحقه، وما ليس له طالب ولم تكن له كبير قيمة، وحكم بغلبة الظن بانقطاعه كان لمن وجده ينتفع به، ولا يلزمه فيه تعريف إلا أن يوجد فيه دليل يستدل به على مالكه كاسم رجل معلوم، أو علامة، فيجتهد فيه الفقهاء فى أمر التعريف له. وفيه: أن الله تعالى متكفل بعون من أراد الأمانة ومعينه على ذلك. وفيه: أن الله يجازى على الإرفاق بالمال بحفظه عليهم مع الأجر المدخر لهم فى الآخرة، كما حفظه على المسلف حين رده الله إليه، وهذان فضلان كبيران لأهل المواساة والثقة بالله والحرص على أداء الأمانة. وفيه: دليل على جواز ركوب البحر بأموال الناس والتجارة فيه. 63 - باب فِى الرِّكَازِ الْخُمُسُ وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ إِدْرِيسَ: الرِّكَازُ دِفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ فِى قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الْخُمُسُ، وَلَيْسَ الْمَعْدِنُ بِرِكَازٍ. وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الْمَعْدِنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 551 جُبَارٌ، وَفِى الرِّكَازِ الْخُمُسُ) ، وَأَخَذَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنَ الْمَعَادِنِ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْنِ خَمْسَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا كَانَ مِنْ رِكَازٍ فِى أَرْضِ الْحَرْبِ فَفِيهِ الْخُمُسُ، وَمَا كَانَ مِنْ أَرْضِ السِّلْمِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ وَجَدْتَ اللُّقَطَةَ فِى أَرْضِ الْعَدُوِّ فَعَرِّفْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْعَدُوِّ فَفِيهَا الْخُمُسُ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْمَعْدِنُ رِكَازٌ مِثْلُ دِفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ؛ لأنَّهُ يُقَالُ: أَرْكَزَ الْمَعْدِنُ، إِذَا خَرَجَ مِنْهُ شَىْءٌ، فقَدْ يُقَالُ لِمَنْ وُهِبَ لَهُ الشَىْءٌ أَوْ رَبِحَ رِبْحًا كَثِيرًا أَوْ كَثُرَ ثَمَرُهُ: أَرْكَزْتَ ثُمَّ نَاقَضَ، وَقَالَ: لا بَأْسَ أَنْ يَكْتُمَهُ، وَلا يُؤَدِّىَ الْخُمُسَ. / 85 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِى الرِّكَازِ الْخُمُسُ) . قال ابن حبيب: الركاز دفن الجاهلية خاصة، والكنز دفن الإسلام، فدفن الإسلام فيه التعريف ودفن الجاهلية فيه الخمس فى قليله وكثيره، وباقية لمن وجده سواء كان فى أرض العرب، أو أرض عنوة، أو صلح، قاله مطرف، وابن الماجشون، وابن نافع، وأصبغ، ورواه ابن وهب، عن على بن أبى طالب، وعمر بن عبد العزيز، ومكحول، والليث، وهو قول أبى حنيفة، والشافعى، وروى ابن القاسم عن مالك فى العتبية أنه فرق بين أرض العنوة، والصلح فى ذلك، فقال: من أصابه ببلد العنوة فليس لمن وجده، وفيه الخمس وأربعة أخماسه لمن افتتح تلك البلاد، ولورثتهم إن هلكوا، ويتصدق به عنهم إن لم يعرفوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 552 وقد رد عمر السفطين اللذين وجدا بعد الفتح وسكنى البلاد، قال: وإن كانت أرض فهو كله لهم، لا خمس فيه إذا عرف أنه من أموالهم، وإن عرف أنه ليس من أموال أهل تلك الذمة ولم يرثه عنهم أهل هذه الذمة، فهو لمن وجده وكذلك إن وجده رجل فى دار صلح من صالح عليها، فهو لرب الدار لا شىء فيه، لأن من ملك شيئًا من أرض الصلح ملك ما تحتها. قال سحنون: فإن لم تعرف أعنوة هى الأرض أو صلح، فهو لمن أصابه بعد أن يخمسه، قال الأبهرى: وإنما جعل فى الركاز الخمس، لأنه مال كافر لم يملكه مسلم، فأنزل واجده بمنزلة الغانم مال الكافر، فكان له أربعة أخماسه، واحتج الطحاوى، فقال: لا فرق بين أرض العنوة وأرض الصلح، لأن الغانمين لم يملكوا الركاز كما أن من ملك أرض العرب لا يملك ما فيها من الركاز، وهو للواجد دون المالك بإجماع، فوجب رد ما اختلفوا فيه من أرض الصلح إلى ما أجمعوا عليه من أرض العرب. قال ابن المواز: واختلف قول مالك فيما وجد من دفنهم سوى العين من جوهر وحديد ونحاس ومسك وعنبر، فقال: ليس بركاز، ثم رجع فقال: له حكم الركاز، وأخذ ابن القاسم بالقول الأول أنه ليس بركاز، قال ابن أبى زيد: وهو أبين، لأنه لا خمس إلا فيما أوجف عليه، وإنما أخذ من الذهب والفضة، لأنه الركاز نفسه الذى جاء فيه النص، وقال مطرف، وابن الماجشون، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 553 وابن نافع: إنه ركاز. وبه قال أشهب إلا النحاس، والرصاص، ومن جعل ذلك كل ركازًا شبهه بالغنيمة يؤخذ منها الخمس، سواء كانت عينًا أو عرضًا، واختلفوا فى من وجد ركازًا فى منزل اشتراه، فروى على بن زياد، عن مالك أنه لرب الدار دون من أصابه، وفيه الخمس، وهو قول أبى حنيفة ومحمد، وقال ابن نافع: هم لمن وجده دون صاحب المنزل، وهو قول الثورى، وأبى يوسف. وقال ابن المنذر: لا خلاف بين العلماء أن فى الركاز الخمس، ولا نعلم أحدًا خالف ذلك إلا الحسن البصرى فأوجب فيه الخمس إذا وجد فى أرض الحرب، وأوجب الزكاة فيه إذا وجد فى أرض العرب، قال غيره: وهذا غلط، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (وفى الركاز الخمس) ، وهذا عموم فى كل ركاز سواء كان فى أرض العرب أو غيرها، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يخص أرضًا دون أرض. واختلفوا فى المعدن، فعند مالك، والليث أن المعادن مخالفة للركاز، لأنه لا ينال شىء منها إلا بالعمل، بخلاف الركاز، وفيها الزكاة إذا حصل له نصاب ولا يستأنف له الحول، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، قال مالك: لما كان ما يخرج من المعدن يعتمل وينبت كالزرع، كان مثله فى تعجيل زكاته يوم حصاده، كما قال الله فى الزرع، ولا يسقط الدين زكاة المعدن كالزرع، وما كان فى المعدن من الندرة يؤخذ بغير تعب ولا عمل فهو ركاز، وفيه الخمس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 554 وعند الشافعى فى المعدن الزكاة، إلا أنه اختلف قوله، فقال مرة: الزكاة فى قليله وكثيره، وقال مرة: لا زكاة فيه حتى يبلغ نصابًا، وكذلك اختلف قوله فى الندرة توجد فيه، فمرة قال فيها الخمس، كقول مالك، ومرة قال فيها: الزكاة ربع العشر على كل حال، وذهب أبو حنيفة والثورى، والأوزاعى إلى أن المعدن كالركاز، وفيه الخمس فى قليله وكثيره على ظاهر قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وفى الركاز الخمس) واحتج أبو حنيفة بقول العرب: أركز الرجل إذا أصاب ركازًا، وهو قطع من الذهب تخرج من المعادن، هذا قول صاحب العين. وذكر ابن المنذر، عن الزهرى، وأبى عبيد أن الركاز: المال المدفون والمعدن جميعًا، وفيهما الخمس كقول أبى حنيفة، وهما إمامان فى اللغة ومن حجة مالك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (المعدن جبار، وفى الركاز الخمس) ووجه حجته أنه (صلى الله عليه وسلم) فرق بين المعدن والركاز بواو فاصلة، فصح أن الركاز ليس بمعدن من جهة الاسم، وأنهما مختلفان فى المعنى فدل ذلك أن الخمس فى الركاز لا فى المعدن، وما ألزمه البخارى أبا حنيفة، من قوله: قد يقال لمن وهب له الشىء أو ربح ربحًا كثيرًا، أو كثر ثمره أركزت، فهى حجة قاطعة لأنه لا يدل اشتراك المسميات فى الأسماء على اشتراكهما فى المعانى والأحكام، إلا أن يوجب ذلك ما يوجب التسليم له. وقد أجمعوا على أن من وهب له مال أو أكثر ربحه أو ثمره فإنما يلزمه فى ذلك الزكاة خاصة على سنتها، ولا يلزمه فى شىء منه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 555 الخمس، وإن كان يقال فيه أركز، كما يلزمه فى الركاز الذى هو دفن الجاهلية إذا أصابه، فاختلف الحكم، وإن اتفقت التسمية. ومما يدل على ذلك حديث مالك بن ربيعة (أن رسول الله أقطع بلال بن الحارث معادن القبلية) ولا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة، فلما ثبت أنه لم يؤخذ منها غير الزكاة فى عصر النبى وعصر الصحابة، علم أن الذى يجب فى المعادن هو الزكاة، وأما قول البخارى عن أبى حنيفة، ثم ناقض، فقال: لا بأس أن يكتمه ولا يؤدى الخمس، فهو تعسف منه، وليس بمناقضة، لأن الطحاوى حكى عن أبى حنيفة أنه قال: من وجد ركازًا فلا بأس أن يعطى الخمس للمساكين، وإن كان محتاجًا جاز له أن يأخذه لنفسه، وإنما أراد أبو حنيفة أنه تأول أن له حقًا فى بيت المال، وله نصيب فى الفىء، فذلك جاز أن يأخذ الخمس لنفسه عوضًا من ذلك، لأن أبا حنيفة أسقط الخمس من المعدن بعد ما أوجبه فيه، فتأول عليه البخارى غير ما أراده، وبالله التوفيق. 64 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا) [التوبة: 60] وَمُحَاسَبَةِ الْمُصَدِّقِينَ مَعَ الإمَامِ / 86 - فيه: أَبُو حُمَيْدٍ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلا مِنَ الأسْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِى سُلَيْمٍ، يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ. اتفق العلماء أن العاملين عليها هم السعاة المتولون لقبض الصدقة، واتفقوا أنهم لا يستحقون على قبضها جزءًا منها معلومًا سبعًا أو ثمنًا، وإنما للعامل بقدر عمالته على حسب اجتهاد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 556 الإمام، ودلت هذه الآية على أن لمن شغل بشىء من أعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله ذلك كالولاة والقضاة وشبههم، وسيأتى قول من كره ذلك من السلف فى كتاب الأحكام فى باب رزق الحكام والعاملين عليها، إن شاء الله. قال المهلب: وفى هذا الحديث من الفقه: جواز محاسبة المؤتمن، وأن المحاسبة تصحح أمانته. قال غيره: وهذا الحديث هو أصل فعل عمر بن الخطاب فى مقاسمته العمال، وإنما فعل ذلك لما رأى ما نالوه من كثرة الأرباح، وعلم أن ذلك من أجل سلطانهم، وسلطانهم إنما كان بالمسلمين، فرأى مقاسمة أموالهم نظرًا للمسلمين واقتداء بقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أفلا جلس فى بيت أبيه، وأمه فيرى أيهدى له شىء أم لا) . ومعناه أنه لولا الإمارة لم يهد إليه شىء، وهذا اجتهاد من عمر، وإنما أخذ منهم ما أخذ لبيت مال المسلمين لا لنفسه، وسيأتى فى باب احتيال العامل ليهدى له فى آخر كتاب ترك الحيل زيادة فى هذا المعنى، إن شاء الله، قال المهلب: وفيه من الفقه: أن العالم إذا رأى متأولاً قد أخطأ فى تأويله خطأ يعم الناس ضرره أن يعلم الناس كافة بموضع خطئه، ويعرفهم بالحجة القاطعة لتأويله كما فعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بابن اللتبية فى خطبته للناس. وفيه: جواز توبيخ المخطئ. وفيه: جواز تقديم الأدون إلى الإمارة والأمانة والعمل وثم من هو أعلى منه وأفقه، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قدم ابن اللتبية وثم من صحابته من هو أفضل منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 557 65 - باب اسْتِعْمَالِ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَأَلْبَانِهَا لأبْنَاءِ السَّبِيلِ / 87 - فيه: أَنَس، أَنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ اجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَرَخَّصَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ. . . . . الحديث. قال المؤلف: غرضه فى هذا الباب، والله أعلم، إثبات وضع الصدقات فى صنف واحد ممن ذكر فى آية الصدقة خلافًا للشافعى الذى لا يجوز عنده قسمة الصدقات إلا على ثمانية أسهم، والحجة بهذا الحديث قاطعة، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أفرد أبناء السبيل بالانتفاع بإبل الصدقة وألبانها دون غيرهم، وقد تقدم هذا المعنى، قال صاحب العين: اجتويت الأرض إذا لم توافقك. وقال الطبرى: افتعلت من الجوى، والجوى أصله فساد يكون فى الجوف يقال منه: قد جوى الرجل يجوى جوى شديدًا، فلذلك كره العرنيون المدينة لما أصابهم من الداء فى أجوافهم. وقال ابن قتيبة: اجتويت البلاد، إذا كرهتها وإن كانت موافقة لك فى بدنك استوبأتها إذا لم توافقك فى بدنك، وإن أحببتها، وقول صاحب العين أشبه بهذا الحديث، وسيأتى ما فيه من غريب اللغة بعد هذا. 66 - باب وَسْمِ الإمَامِ إِبِلَ الصَّدَقَةِ بِيَدِهِ / 88 - فيه: أَنَس، قَالَ: غَدَوْتُ إِلَى النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِعَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ، لِيُحَنِّكَهُ، فَوَافَيْتُهُ فِى يَدِهِ الْمِيسَمُ يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ. قال المهلب: فيه من الفقه: أن للإمام أن يتناول أمور المسلمين بنفسه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 558 ويلى أمر الصدقة بيده، وفيه: جواز إيلام الحيوان وبنى آدم، إذا كان فى ذلك منفعة، وكان ألما لا يجحف بهم. قال الطبرى: وقد تظاهرت الأخبار عن الصحابة والتابعين أنهم وسموا البهائم، وروى يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن أبى الزبير، عن جابر، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أنه نهى عن الوسم فى الوجه) . وروى ابن عباس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه لعن من يسم فى الوجه. قال الطبرى: فغير جائز لأحد عرف نهى النبى، (صلى الله عليه وسلم) عن الوسم فى الوجه أن يسم بهيمة فى وجهها، فإن قال: فأى المواضع يجوز الوسم فيه؟ قيل: حيث شاء ربها إذا عدا به وجهها، وإن كان أحب الأماكن أن يسم من الإبل والبغال والحمير جاعرتها، ومن الغنم آذانها، وقد روى شعبة، عن هشام بن زيد، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: غدوت إلى النبى بعبد الله بن أبى طلحة ليحنكه، فإذا النبى يسم غنمًا. قال شعبة: وأكبر علمى أنه قال: فى آذانها، وروى عن عمر بن عبد العزيز أنه وسم الخيل التى حمل عليها فى سبيل الله فى أفخاذها، وروى عنه (صلى الله عليه وسلم) خبر فى إسناده نظر أنه أمر بوسم الإبل فى أفخاذها. قال المهلب: وفيه: أن للإمام أن يتخذ ميسمًا لخيله ولخيل السبيل، ليميز بعضها من بعض، وليس للناس أن يتخذوا مثل خاتمه وميسمه، لينفرد السلطان بعلامة لا يشارك فيها، وفيه: أن الطفل إذا وُلِدَ حَسُنَ أن يُقْصَدَ به أهل الفضل والصلاح ليحنكوه ويدعوا له بالبركة، وتلك كانت عادة الناس بأبنائهم فى زمن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تبركًا بريقه ودعوته ويده - عليه السلام -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 559 67 - باب فَرْضِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَرَأَى أَبُو الْعَالِيَةِ وَعَطَاءٌ وَابْنُ سِيرِينَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فَرِيضَةً / 89 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنه قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالذَّكَرِ وَالأنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ. قال المؤلف: ذهب جماعة الفقهاء إلى أن صدقة الفطر فريضة فرضها رسول الله، وقال مالك: هى داخلة فى جملة قوله تعالى: (وآتوا الزكاة (واختلف أصحابه فى وجوبها، فقال بعضهم: هى فريضة، وقال بعضهم: هى سنة مؤكدة، وذكر ابن المواز، عن أشهب، قال: لا أرى أن تُبدأ الزكاة على العتق المعين، ولا تبدأ إلا على الوصايا، وتُبدأ على زكاة الفطر، لأنها فرض وزكاة الفطر سنة، وزكاة الفطر بعد زكاة الأموال، وقال أبو حنيفة: هى واجبة، وليست بفريضة، وكل فرض عنده واجب، وليس كل واجب فرضًا، بل الفرض آكد من الواجب. قال بعض أهل العراق: هى منسوخة بالزكاة وروى عن قيس بن سعد بن عبادة، أنه قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأمر بها قبل نزول الزكاة، فلما نزلت آية الزكاة لم يأمر بها، ولم ينه عنها، ونحن نفعله) ، وتأول قول ابن عمر: (فرض رسول الله) بمعنى أنه قدر ذلك كما يقال: فرض القاضى النفقة، أى قدرها قالوا: ألا ترى قوله تعالى فى آية الصدقات بعد ذكر الأصناف الثمانية: (فريضة من الله) [التوبة: 60] قالوا: وأهل المدينة وأهل العراق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 560 متفقون على أن قوله تعالى: (فريضة من الله (لا يراد بها الفرض، فكذلك قول ابن عمر. قال عبد الواحد: ومما يدل أنها ليست بفريضة إجماع الأمة على أن الرجل يلزمه الأداء عن زوجته وخادمه وولده الفقراء، وقد أجمعوا أن لا زكاة على الفقراء، فدل هذا أن صدقة الفطر خارجة عن باب الفرض، ومن جعلها خارجة من آية الزكاة، يَرُدُّ قَوْلَهُ حديثه (صلى الله عليه وسلم) : (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم) وصدقة الفطر تجب على غير الأغنياء. واحتج من قال أنها فريضة بظاهر قول ابن عمر: (فرض رسول الله) ، واسم الفرض لا يقع إلا على الواجب، ولا يجوز للراوى أن يعبر بالفرض عن السنة ويترك العبارة التى تختص بالسنة مع علمه بالفرق بينهما إلا والمراد اللزوم. واختلف العلماء فى وجوبها على الفقير، واختلف فى ذلك قول مالك، فقال فى المدونة: تجب زكاة الفطر على من يحل له أخذها، وقد قال قبل ذلك: من له أن يأخذها فلا تجب عليه، وهو قول ابن الماجشون، وأبى حنيفة، وروى عنه أشهب: من لم يكن له شىء فلا شىء عليه، وروى عنه ابن وهب: إن وجد من يسلفه فليستسلف، قال ابن المواز: ليس عليه أن يستسلف، وليس هو ممن تجب عليه، وهو قول ابن حبيب. وفى العتبية عن مالك إذا أدَّى الفقير زكاة الفطر، فلا أرى أن يأخذ منها، ثم رجع فأجازه إن كان محتاجًا، وقال الشافعى: إذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 561 فضل عن قوت المرء وقوت عياله مقدار زكاة الفطر، فعليه أن يؤدى، وهو قول أحمد، وقال أبو حنيفة وأصحابه: ليس على من تحل له صدقة الفطر إخراجها حتى يملك مائتى درهم، واحتج بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها فى فقرائكم) ، وهذا فقير فوجب أن تصرف إليه الزكاة، ولا تؤخذ منه، وقال (صلى الله عليه وسلم) : (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) ، فثبت بهذا نفيها عن الفقير. قال ابن القصار: وحجة القول الأول قول ابن عمر: (فرض رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صدقة الفطر على كل حر وعبد، وذكر وأنثى من المسلمين) ، ولم يخص من له نصاب ممن لا نصاب له، فهو عام. وقال (صلى الله عليه وسلم) : (أغنوهم عن طواف هذا اليوم) والمخاطب غنى بقوت يومه، ولم يفرق بين أن يكون المأمور غنيًا أو فقيرًا، وأيضًا فإن زكاة الفطر حق فى المال لا تزداد بزيادة المال، ولا تفتقر إلى نصابٍ أصله الكفارة. 68 - باب صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى الْعَبْدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ / 90 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ. قال ابن القصار: لم يختلف علماء الأمصار أن على السيد أن يخرج زكاة الفطر عن عبيده المسلمين، وقال أهل الظاهر: إن زكاة الفطر تلزم العبد فى نفسه، وعلى السيد تمكينه من اكتساب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 562 ذلك وإخراجه عن نفسه، واستدلوا بقوله: (على كل حر وعبد) وإلى هذا القول ذهب البخارى فى هذا الباب، والدليل للجماعة قول نافع: فكان ابن عمر يعطى عن الصغير والكبير حتى إن كان ليعطى عن بنَىَّ. فهذا يدل أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (على العبد) إنما معناه على سيد العبد، والخطاب للعبد، والمراد مالكه المحتمل لها عنه، لأن العبد لا يملك شيئًا، ألا ترى أن العبد لا تلزمه زكاة ماله، لأن ملكه غير مستقر، ونفقته واجبة على سيده، وإن كان له مال، فإذا أذن له سيده أن ينفق على نفسه من المال ويزكى زكاة الفطر جاز، لأنه يكون كأن سيده انتزع منه ذلك المقدار، و (على) بمعنى (عن) لغة مشهورة للعرب، قال القحيف: إذا رضيت علىَّ بنو قشير لعمر الله أعجبنى رضاها أى رضيت عنى، وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: لما فرضت على المملوك كان السيد الغارم عنه، لأنه عبد مملوك لا يقدر على شىء، فكذلك إذا جنى كان الغرم على سيده. واختلفوا فى إخراج صدقة الفطر عن العبد الكافر، فقال سعيد بن المسيب والحسن: لا يؤدى إلا عمن صام وصلى. وهو قول مالك، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، وحجتهم قوله فى حديث ابن عمر: (من المسلمين) فدل أن الكفار بخلاف ذلك. وقال آخرون: يجب على السيد أن يخرج عن عبده الكافر، هذا قول عطاء، ومجاهد، والنخعى، وسعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز، وبه قال الثورى، وسائر الكوفيين، وإسحاق، واحتج لهم الطحاوى بأن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من المسلمين) خطاب متوجه معناه إلى السادة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 563 يريد أن من يلزمه إخراج الزكاة عن نفسه، وعن عبده لا يكون إلا مسلمًا، وأما العبد فإنه لم يدخل فى هذا الحديث، لأنه لا يملك شيئًا ولا يفرض عليه شىء، وإنما أريد بالحديث مالك العبد، ألا ترى إجماعهم فى العبد يعتق قبل أن يؤدى عنه مولاه صدقة الفطر أنه لا يلزمه إذا ملك بعد ذلك مالا إخراجها عن نفسه، كما يلزمه إخراج كفارة ما حنث فيه من الأيمان وهو عبد، فإنه لا يكفرها بصيام، ولو لزمته صدقة الفطر لأداها عن نفسه بعد عتقه، وقال ابن المنذر: القول الأول أصح، لأنها طهرة للمسلمين وتزكية، والكافر لا يتزكى، فلا وجه لأدائها عنه، وحجة هذا القول ما رواه أبو داود بإسناده، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين. فدل هذا الحديث أن زكاة الفطر لا تكون إلا عن مسلم، والله أعلم. 69 - باب صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ / - فيه: أَبُو سَعِيد الْخُدْرِىَّ، كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ. لم يختلف العلماء أن الطعام المذكور فى هذا الحديث هو البُّر، واختلفوا فى مكيلته فى صدقة الفطر، فروى عن الحسن البصرى، وأبى العالية، وجابر بن زيد، أنه لا يجزئ من البر إلا صاع، وهو قول مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وروى عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم قالوا: يجزئ من البر نصف صاع، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 564 ولا يجزئ مما ذكر فى الحديث إلا صاع، وهو قول أبى حنيفة، والثورى. قال ابن المنذر: وروى عن أبى بكر وعثمان، ولا يثبت عنهما، وروى عن على بن أبى طالب، وابن عباس، وابن مسعود، وجابر، وأبى هريرة، وابن الزبير، ومعاوية، وأسماء واختلف عن على، وابن عباس، فروى عنهما القولان جميعًا واحتج الكوفيون بقول ابن عمر: فعدل الناس بالتمر والشعير نصف صاع من بر، والناس فى ذلك الزمان كبار الصحابة. وحجة من أوجب صاعًا من بر حديث أبى سعيد، وأنه ذكر فيه صاعًا من طعام وصاعًا من سائر الحبوب، ولم يفصل بين واحد منهما فى المكيلة، فوجب أن لا يتعدى هذا المقدار. قال أشهب: سمعت مالكًا سئل عمن يقول: مدين من بُرّ، فقال: القول ما قال رسول الله: (صاع) ، فذكر له الأحاديث التى تروى عن رسول الله فى المدين من الحنطة فأنكرها. قال ابن القصار: وأيضًا فإن اعتبار القيمة لا وجه له، وذلك أن قيمة التمر والشعير تختلف، ثم لم ينظر إلى ذلك واعتبرت المكيلة ومقدارها، فكذلك البر، وعندنا أن البر والشعير جنس واحد فى تحريم التفاضل بينهما، وجمعهما فى الزكاة لتقاربهما فى المنفعة، ولكونهما قوتًا يستغنى به الفقير عن قوت يومه، فلا ينبغى أن يفترق حكمهما. قال ابن القاسم: ويخرج أهل كل بلد من جل عيشهم، فالتمر عيش أهل المدينة، ولا يخرج أهل مصر إلا البر، إلا أن يغلو سعرهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 565 ويصير جل عيشهم الشعير فيجزئهم، وذكر عبد الرزاق، عن ابن عباس، قال: من أدى زبيبًا قبل منه، ومن أدى تمرًا قبل منه، ومن أدى شعيرًا قبل منه، ومن أدى سلتا قبل منه صاع صاع. 70 - باب الصَّدَقَةِ قَبْلَ الْعِيدِ / 92 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَمَرَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ. وفيه: أَبُو سَعِيد، كُنَّا نُخْرِجُ فِى عَهْدِ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، وَكَانَ طَعَامَنَا الشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ وَالأقِطُ وَالتَّمْرُ. قال أَبُو سَعِيد: فلما جاء معاوية وجاءت السمراء، قال: أرى مدًا من هذا يعدل مدين. قال المؤلف: السنة إخراج زكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة، لأمر النبى بذلك، وروى هذا عن ابن عباس، وابن عمر وعطاء، وهو قول مالك والكوفيين. وقال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز فى قوله: (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) [الأعلى: 14، 15] ، قالا: هى صدقة الفطر. وقال ابن مسعود: من أراد الخروج إلى الصلاة تصدق بشىء، وقال عطاء: الصدقات كلها. وقال ابن عباس: (قد أفلح من تزكى (من الشرك) وذكر اسم ربه (قال: وحد الله سبحانه فصلى الصلوات الخمس، قال عكرمة: (قد أفلح (من قال: لا إله إلا الله. وقول أبى سعيد: كنا نخرج يوم الفطر، هو مجمل يحتمل أن يكون قبل الصلاة، ويحتمل أن يكون بعد الصلاة، وإذا كانت صدقة الفطر لإغناء السؤال عن المسألة ذلك اليوم جاز إخراجها بعد الصلاة؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 566 لأن ذلك كله يوم الفطر وفى المدونة، إن أداها بعد الصلاة فواسع، وقد رخص قوم فى تأخيرها عن يوم الفطر، روى ذلك عن النخعى وابن سيرين، وقال أحمد بن حنبل: أرجو ألا يكون به بأس، وروى عن ابن شهاب أنه لا بأس أن تؤدى زكاة الفطر قبله بيوم أو بيومين أو بعده بيوم أو يومين، وكان يخرجها هو قبل أن يغدو. وقال ابن القاسم فى المدونة: إن أداها قبل الفطر بيوم أو يومين أجزأه، وقال أصبغ: لا بأس أن يخرجها قبل الفطر بيومين أو ثلاثة وتجزئه، قال ابن المواز: ولو هلكت ضمنها، واختلف قول مالك فى وقت وجوب صدقة الفطر، فروى عنه أشهب أنها تجب بغروب الشمس من ليلة الفطر، وبه قال أشهب والشافعى وروى عنه ابن القاسم، وعبد الملك ومطرف أنها تجب بطلوع الفجر من يوم الفطر وبه قالوا وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه. قال ابن القصار: والحجة لرواية أشهب قول ابن عمر: فرض رسول الله صدقة الفطر من رمضان وأول فطر يقع من رمضان هو ليلة العيد، ووجه الرواية الأخرى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (أغنوهم عن المسألة فى هذا اليوم) أمر بأدائها يوم الفطر فدل أنه أول أحوال الوجوب. 71 - باب صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى الْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ وَقَالَ الزُّهْرِىُّ فِى الْمَمْلُوكِينَ لِلتِّجَارَةِ: يُزَكَّى فِى التِّجَارَةِ، وَيُزَكَّى فِى الْفِطْرِ / 93 - فيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ: فَرَضَ النَّبِىُّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ، أَوْ قَالَ: (رَمَضَانَ عَلَى الذَّكَرِ وَالأنْثَى، وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 567 فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ) ، قَالَ نافع: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِى التَّمْرَ، فَأَعْوَزَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنَ التَّمْرِ، فَأَعْطَى شَعِيرًا، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِى عَنِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ حَتَّى إِنْ كَانَ يُعْطِي عَنْ بَنِىَّ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِيهَا الَّذِينَ يَقْبَلُونَهَا، وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ. وترجم له باب صدقة الفطر عن الصغير، قال مالك: أحسن ما سمعت أن الرجل تلزمه زكاة الفطر عمن تلزمه نفقته، ولابد له من أن ينفق عليه، وعن مكاتبه ومدبريه ورقيقه غائبهم وشاهدهم، للتجارة كانوا أو غير تجارة إذا كان مسلمًا، وهو قول جمهور العلماء. وقال أبو حنيفة والثورى: لا تلزمه زكاة الفطر عن عبيد التجارة، وهو قول عطاء والنخعى، وحجة من أوجب الزكاة قوله: (فرض النبى صدقة الفطر على الحر والمملوك) وهو على عمومه فى كل العبيد، لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يخص عبد الخدمة من عبد التجارة، وكذلك خالف أبو حنيفة والثورى الجمهور فقالا: ليس على الزوج أن يؤدى عن زوجته ولا خادمها صدقة الفطر. قال ابن القصار: والحجة للجمهور أن على بمعنى عن فقوله فى الحديث: (على الذكر والأنثى) معناه: عمن يلزم الرجل نفقته، وقد روى عن نافع ستة نفر: عن كل حر وعبد، ويدل على صحة هذا قول نافع: فكان ابن عمر يعطى عن الصغير والكبير، وأيضًا فإن زكاة الفطر تتبع النفقة لإجماعهم أن نفقة الصغير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 568 المعسر على أبيه ففطرته عليه، وإذا أيسر سقطت عنه نفقته وفطرته، ولما وجبت نفقة الزوجة على زوجها وجبت فطرتها عليه. فإن قيل: العبد تجب عليه نفقة امرأته، ولا تلزمه فطرتها، قيل: ليس للعبد أن ينفق عليها من مكاسبه إلا بإذن السيد، فإذا أذن له قلنا له: زك عنها زكاة الفطر، ولست أعرفه منصوصًا، واختلفوا فى الولد الصغير إذا كان موسرًا، فذهب مالك، وأبو حنيفة، والشافعى وأحمد إلى أن نفقته فى ماله، فكذلك زكاة الفطر، وذهب محمد بن الحسن إلى أن نفقته فى ماله، وزكاة الفطر على أبيه، وهذا غلط، لأن كل من لا تلزمه نفقته لا تلزمه عنه زكاة الفطر، دليله الأجنبى والأب إذا كان موسرًا، قوله: (فأعوز أهل المدينة من التمر فأعطى شعيرًا) يدل أنه لا يجوز أن يعطى فى زكاة الفطر إلا من قوته، لأن التمر كان من جل عيشهم بالمدينة، فأعطى شعيرًا حين لم يجد التمر، وقوله: (وكان ابن عمر يعطيها الذين يقبلونها قبل الفطر بيومين) يريد الذين تجتمع عندهم ويتولون تفرقتها صبيحة يوم العيد لأنها السنة، وكان ابن عمر كثير الاتباع ولا يخالف السنة. وروى ابن جريج قال: أخبرنى عبيد الله بن عمر قال: أدركت سالم بن عبد الله وغيره من علمائنا وأشياخنا فلم يكونوا يخرجونها إلا حين يغدون، وقال عكرمة وأبو سلمة: كانوا يخرجون زكاتهم ويأكلون قبل أن يخرجوا إلى المصلى. تم كتاب الزكاة [والحمد لله رب العالمين، يتلوه كتاب الصيام - إن شاء الله] . . . . . . . . . . . . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 569 الجزء الرابع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 بسم الله الرحمن الرحيم - كِتَاب الصَّيامِ - باب وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَقَوْلِ اللَّهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) [البقرة 183] الآية / 1 - فيه: طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِاللَّهِ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، ثَائِرَ الرَّأْسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِى مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنَ الصَّلاةِ؟ قَالَ: (الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، إِلا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا) ، قَالَ: أَخْبِرْنِى مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنَ الصِّيَامِ؟ قَالَ: (شَهْرَ رَمَضَانَ، إِلا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا) ، قَالَ: أَخْبِرْنِى بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنَ الزَّكَاةِ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِشَرَائِعَ الإسْلامِ، قَالَ: وَالَّذِى أَكْرَمَكَ، بالحق لا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا، وَلا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ) . وفيه: ابن عمر: صام النبى عاشوراء وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك، وكان عبد الله بن عمر لا يصومه إلا أن يوافق صومه. وفيه: عائشة: أن قريشًا كانت تصوم عاشوراء فى الجاهلية، ثم أمر رسول الله بصيامه حتى فرض رمضان، وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (من شاء فليصمه، ومن شاء فليفطره) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 وقال المؤلف: قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) [البقرة: 183] ، أى فرض عليكم كما فرض على الذين من قبلكم، والكتاب فى اللغة بمعنى الوجوب والفرض، قال الله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) [البقرة: 178] بمعنى فر ض، وقال ابن عباس فى هذه الآية: كان كتاب الصيام على أصحاب محمد، أن الرجل كان يأكل ويشرب وينكح ما بينه وبين أن يصلى العتمة أو يرقد، فإذا صلى العتمة أو رقد، منع من ذلك إلى مثلها من القابلة، فنسختها هذه الآية: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ) [البقرة: 187] الآية. وروى: أن صرمة بن مالك كان شيخًا كبيرًا جاء إلى أهله وهو صائم، فدعا بعشائه، فقالوا: امهل حتى نجعل لك طعامًا سَخنًا تفطر عليه، فوضع الشيخ رأسه فنام، فجاءوا بطعامه، فقال: قد كنت نمت، فلم يطعم، فبات ليلته يتسلق ظهرًا لبطن، فلما أصبح أتى النبى، عليه السلام، فنزلت هذه الآية: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ) [البقرة: 187] الآية. وجاء عمر بن الخطاب فأراد أهله، فقالت: إنها قد كانت نامت، فظن أنها اعتلت عليه، فواقعها، وفعل مثل ذلك كعب بن مالك، فذكر ذلك للنبى، عليه السلام، فنزلت: (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ (، إلى قوله: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ) [البقرة: 187] ، وقد تقدم الكلام فى قوله: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، وقوله عليه السلام: (أفلح إن تصدق) ، فى كتاب الإيمان، فأغنى عن إعادته هاهنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 قال المهلب: وفيه أن أداء الفرائض يوجب الجنة، وأن عمل السنن والرغائب يوجب الزيادة فى الجنة. قال الطبرى: وأما الآثار فى صيام عاشوراء، فإن أهل العلم اختلفوا فى حكم صومه اليوم، هل هو فى فضله وعيظ ثوابه على مثل ذلك الذى كان عليه قبل أن يفرض رمضان؟ فقالت طائفة: كان ذلك يومًا تصومه اليهود شكرًا لله على أن نجى موسى وبنى إسرائيل من البحر وأغرق فرعون، فصامه رسول الله وأمر بصومه، فلما فرض رمضان لم يأمر بصومه ولم ينه عنه، فمن شاء صامه ومن شاء تركه. وقال آخرون: لم يزل رسول الله يصومه ويحث أمته على صومه حتى مضى بسبيله، عليه السلام، روى هذا عن ابن عباس، قال: ما رأيت رسول الله يومًا يتحرى فضله إلا يوم عاشوراء وشهر رمضان. فإن قيل: فما وجه كراهية ابن عمر صومه؟ . قيل: نظير كراهية من كره صوم رجب، إذ كان شهرًا تعظمه الجاهلية، فكره أن يعظم فى الإسلام ما كان يعظم فى الجاهلية، من غير تحريم صومه على من صامه، ولا مؤيسه من الثواب الذى وعد الله صائمه على لسان رسوله إذا صامه مبتغيًا بصومه ثواب الله، لا مريدًا به إحياء سنة أهل الشرك، وكذلك صوم رجب، وسيأتى بقية القول فى هذا المعنى فى باب صوم عاشوراء بعد هذا إن شاء الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 - باب فَضْلِ الصَّوْمِ / 2 - فيه: أَبِو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبىِّ، عليه السلام: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلا يَرْفُثْ، وَلا يَجْهَلْ، فإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّى صَائِمٌ، مَرَّتَيْنِ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِى، الصِّيَامُ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا) . قوله: (الصيام جنة) ، أى ستر من النار، ومنه قيل للترس: مجن؛ لأن صاحبه يستتر به. وقوله: (فلا يرفث) ، فالرفث هاهنا الفحش والخنا، والجهل ما لا يصلح من القول والفعل، قال الشاعر: فنجهل فوق جهل الجاهلينا ألا لا يجهلن أحد علينا والجهل: السفه. قال المهلب: واختلف أهل العلم فى معنى قوله: (فليقل: إنى صائم) ، فقيل: يقول: إنى صائم، للذى يشاتمه، ليكف عن شتمه، واستدل بعضهم بقول مريم: (إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) [مريم: 26] ، فكان حكم الصيام عند مريم وأهل زمانها أن لا يتكلموا فيه، وكان هذا متعارفًا عندهم. وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أبلغك أنه يؤمر الإنسان إذا دعى إلى طعام أن يقول: إنى صائم؟ قال: سمعنا أبا هريرة يقول: إذا كنت صائمًا، فلا تساب ولا تجهل، فإن جهل عليك فقل: إنى صائم. وروى عن ابن مسعود: إذا دعى أحدكم إلى طعام وهو صائم، فليقل: إنى صائم، وقاله قتادة، والزهرى. وقال طائفة: معنى قوله: (فليقل: إنى صائم) ، أى يذكر نفسه بذلك، ولا يجهر به، ولا يراجع به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 من سبه؛ لأنه إذا تكلم به، فقد أظهر نيته، وربما دخل فيه الرياء، قال ثابت: ومعنى القول هاهنا: العلم. قال الشاعر: خلوت ولكن قل على رقيب إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل ومثله قول مجاهد فى قوله تعالى: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا) [الإنسان: 9] قال: أما إنهم لم يتكلموا به، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى عليهم به؛ ليرغب فى ذلك راغب، وعلى هذا المعنى يدل قوله فى الحديث: (الصيام لى وأنا أجزى به) ، ولا يكون لله خالصًا إلا بانفراده بعلمه دون الناس. وقوله: (الصيام لى وأنا أجزى به) ، فالصيام وجميع الأعمال لله، لكن لما كانت الأعمال الظاهرة يشرك فيها الشطان بالرياء وغيره، وكان الصيام لا يطلع عليه أحد إلا الله، فيثيبه عليه على قدر خلوصه لوجهه، جاز أن يضيفه تعالى إلى نفسه. قال الطبرى: ألا ترى قوله فى الحديث: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلى) ، وكان ابن عيينة يقول فى قوله: (ألا الصوم فإنه لى) ، قال: لأن الصوم هو الصبر، يصبر الإنسان نفسه عن المطعم والمشرب والمنكح، ثم قرأ: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10] وهذا كله إنما يكون فيما خلص لله من الرياء قال عبد الواحد أيضًا قوله عليه السلام عن الله تعالى أنه قال: (من عمل عملا أشرك فيه غيرى فهو له، وأنا أغنى الشركاء عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 الشرك) فجعل عمل الرياء لغيره، وجعل ما خلص من الرياء له تعالى، وقال آخرون: إنما خص الصوم بأن يكون هو الذى يتولى جزاءه، لأن الصوم لا يظهر من ابن آدم بلسان، ولا فعل فتكتبه الحفظة، إنما هو نية فى القلب، وإمساك عن المطعم والمشرب، فيقول: أنا أتولى جزاءه على ما أحب من التضعيف، وليس على كتاب كتب، وهذا القول ذكره أبو عبيد. قال الطبرى: والصواب عندى القول الأول، وأما معنى قوله: (وأنا أجزى به) ، فأنا المنفرد بجزائه على عمله ذلك لى بما لا يعلم كنه مبلغه غيرى، إذ كان غير الصيام من أعمال الطاعة قد علم غيرى بإعلامى إياه أن الحسنة فيها بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. قال المؤلف: وقد روى يحيى بن بكير عن مالك فى هذا الحديث بعد قوله: (الحسنة بعشر أمثالها) ، فقال: (كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فهو لى وأنا أجزى به) . فخص الصيام بالتضعيف على سبعمائة ضعف فى هذا الحديث، وقد نطق التنزيل بتضعيف النفقة فى سبيل الله أيضًا كتضعيف الصيام، فقال عز وجل: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء) [البقرة: 261] وجاء فى ثواب الصبر مثل ذلك وأكثر، فقال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10] فيحتمل والله أعلم أن تكون هاتان الآيتان نزلتا على النبى عليه السلام، بعد ما أعلمه الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 ثواب الصيام، لأنه لا ينطق عن الهوى، والفضائل إنما تدرك من طريق الوحى. وقال عبد الواحد: أما قول من قال: كل عمل تكتبه الحفظة إلا الصيام فإنما هو نية فى القلب، وإمساك عن المطعم والمشرب فلا يكتب فغير صحيح، لأن الحفظة تعلم الإمساك عن الأكل، وهو حقيقة إذا اطعلت على الإمساك عن الأكل فى خلوته فقد علمت صيامه، لأنه ليس يرائى أحد الحفظة، ولا ينتفع بالرياء إلا إذا أكل فى الباطن، فإذا كف عن الأكل فى الباطن وتمادى على ذلك فقد علمت صيامه، وليس أيضًا قول من تأول فى قوله: (إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) [مريم: 26] ، أن مريم كانت صائمة فى ذلك الوقت صواب، بدليل قوله تعالى فى الآية: (وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرِّى عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِى إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) [مريم: 25، 26] ، فأخبر أن ذلك كان بعد أكلها وشربها، ويشهد لذلك أنها كانت نفساء، والنفساء لا تصوم، وإنما معنى قولها: (إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) [مريم: 26] ، أى إمساكًا عن الكلام، والعرب تقول: صام، إذا أمسك عن الكلام، فإن قيل: فكيف نذرت أن تمسك عن الكلام وقد قيل لها: (فَقُولِى (؟ قيل: المراد هاهنا: تقول بالإشارة بدليل قوله بعد هذا: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ) [مريم: 29] الآية، وقال زيد بن أسلم: كانت بنو إسرائيل يصومون من الكلام كما يصومون من الطعام ولا يتكلمون إلا بذكر الله. وقوله: (لخلوت فم الصائم) بضم الخاء، هو مصدر خلف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 فمه يخلف يعنى تغير رائحته فى آخر النهار، لأن الفم يتغير بترك الطعام، قال أبو عبيد: خلف اللبن وغيره: تغير ريحه وطعمه، وقال صاحب العين الخالف: اللحم المتغير الريح، قال الخطابى: فأما الخلوف بفتح الخاء، فهو الذى يعد ثم يخلف، قال النمر بن تولب: جزى الله عنى جمرة ابنة نوفل جزاء خلوف بالخلافة كاذب وقوله: (أطيب عند الله من ريح المسك) ، يريد أزكى عند الله الواحد: ومعنى قوله: (عند الله) يريد فى الآخرة، أى يجازيه يوم القيامة بتطييب نكهته الكريهة فى الدنيا حتنى تكون كريح المسك، والدليل على أنه أراد الآخرة بقوله: (عند الله) قوله تعالى: (وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ) [الحج: 47] يريد أيام الآخرة، ومن هذا الباب قوله عليه السلام فى الشهيد: (أنه يأتى يوم القيامة وجرحه يثعب دمًا اللون لون الدم والريح ريح المكسك) ، فأخبر أنه يجازى الشهيد فى الآخرة بأن يجعل رائحة دمه الكريهة فى الدنيا كريح المسك فى الآخرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 3 - باب الصَّوْمُ كَفَّارَةٌ / 3 - فيه: حُذَيْفَةَ: قَالَ عُمَرُ مَنْ يَحْفَظُ حَدِيث النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فِى الْفِتْنَةِ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِى أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ) ، قَالَ: لَيْسَ أَسْأَلُ عَنْ ذِهِ، إِنَّمَا أَسْأَلُ عَنِ الَّتِى تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ الحديث. الفتنة عند العرب: الابتلاء والاختبار، وهى فى هذا الحديث شدة حب الرجل لأهله، وشغفه بهن، كما روى عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: (رأيت رسول الله يخطب، فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل رسول الله فرفعهما ووضعهما فى حجره، ثم قال: صدق الله) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن: 15] رأيت هذين فلم أصبر، ثم أخذ فقال له: أتدعو الله ألا يرزقك مالا وولدًا فاستعذ بالله من مضلات الفتن. وقال ابن مسعود: لا يقل أحدكم: اللهم إنى أعوذ بك من الفتنة، فليبس أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، لأن الله يقول: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن: 15] فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن. ومن فتنة الأهل أيضًا الإسراف والغلو فى النفقة عليهن، والشغل بأمورهن عن كثير من النوافل، وفتنته فى ماله أن يشتد سروره به حتى يغلب عليه، وهذا مذموم، ألا ترى أن النبى لما نظر إلى علم الخميصة فى الصلاة ردها إلى أبى جهم وقال: (كاد يفتننى) فتبرأ ممال خشى منه الفتنة، وكذلك عرض لأبى طلحة حين كان يصلى فى حائطه فطار دبسى فأعجبه فأتبعه بصره ثم رجع إلى صلاته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 فلم يَدْرِ كَمْ صلى، لقد لحقنى فى مالى هذا فتنة، فجاء إلى النبى فذكر ذلك له فقال: هو صدقة يا رسول الله فضعه حيث شئت، ومن فتنة المال أيضًا ألا يصل منه أقاربه، ويمنع معروفه أجانبه، وفتنته فى جاره أن يكون أكثر مالا منه وحالا، فيتمنى مثل حله، وهو معنى قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) [الفرقان: 20] فهذه الأنواع وما شابهها مما يكون من الصغائر فدونها تكفرها أعمال البر، ومصداق ذلك فى قوله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود: 114] قال أهل التفسير: الحسنات هاهنا: الصلوات الخمس، والسيئات: الصغائر. 4 - باب الرَّيَّانُ لِلصَّائِمِينَ / 4 - فيه: سَهْلٍ قال: قال النَّبِىِّ عليه السلام: (إِنَّ فِى الْجَنَّةِ بَابًا، يُقَالُ: لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لا يَدْخُلُ أَحَدٌ منه غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ، لا يَدْخُلُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا، أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ) . / 5 - وفيه: أَبِو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النبى عليه السلام: (مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، نُودِىَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ) ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلَى مَنْ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأبْوَابِ كُلِّهَا، قَالَ: (نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ) . قال المهلب: إنما أفرد الصائمين بهذا الباب ليسارعوا إلى الرى من عطش الصيام فى الدنيا إكرامًا لهم واختصاصًا، وليكون دخولهم فى الجنة هينًا غير متزاحم عليهم عند أبوابها، كما خص النبى أبا بكر الصديق بباب فى المسجد يقرب منه خروجه إلى الصلاة ولا يزاحمه أحد، وأغلق سائرها إكراهًا له وتفضيلاً. ومعنى قوله: (زوجين) أى شيئين، كدينارين أو ثوبين، وشبه ذلك، والحجة لذلك ما رواه حماد بن سلمة، عن يونس بن عبيد، وحميد، عن الحسن، عن صعصعة بن معاوية، عن أبى ذر، أن النبى عليه السلام، قال: (من أنفق زوجين من ماله ابتدرته حجبة الجنة) ، ثم قال: (بعيرين، شاتين، حمارين، درهمين) ، قال حماد: أحسبه قال: (خفين) . , وروى أسد بن موسى، نا مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن صعصعة، قال: لقيت أبا ذر بالربذة، وهو يسوق بعيرا له عليه مزادتان، قال: سمعت النبى عليه السلام يقول: (ما من مسلم ينفق من كل ماله زوجين فى سبيل الله إلا استقبلته حجبة الجنة كلهم يدعوه إلى ما عنده) ، قلت: زوجين من ماذا؟ قال: إن كان صاحب خيل ففرسين، وإكان صاحب إبل فبعيرين، وإن كان صاحب بقر فبقرتين) ، حتى عد أصناف المال. فإن قال قائل: إن النفقة إنما تسوغ فى باب الجهاد وباب الصدقة، فكيف تكوت فى باب الصلاة والصيام؟ . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 قال عبد الواحد: معنى زوجين أراد نفسه وماله، والله أعلم، قال المؤلف: والعرب تسمى ما يبذله الإنسان من نفسه واجتهاده نفقة فيقول أحدهم فيما تعلم من العلم أو صنعة من سائر الأعمال: أنفقت فى هذا عمرى، وبذلت فيه نفسى، قال حبيب بن أوس، كم بين قوم إنما نفقاتهم مال وقوم ينفقون نفوسًا. قال المهلب: فتكون النفقة على هذا الوجه فى باب الصلاة والصيام من الجسم بإتعابه له، فإن قيل: كيف تكون النفقة فى زوجين، وإنما نجحد الفعل فى هذا الباب نفقة الجسم لا غير؟ فالجواب: أن نفقة المال مقترنة بنفقة الجسم فى ذلك، لأنه لابد للمصلى والصائم من قوت يقيم رمقه، وثوب يستره، وذلك من فروض الصلاة، ويستعين بذلك على طاعة الله تعالى، فقد صار منفقًا لزوجين: لنفسه وماله، وقد تكون النفقة فى باب الصلاة، أن يبنى لله مسجدًا للمصلين، لدلالة قوله: (من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا فى الجنة) ، والنفقة فى الصيام إذا فطر صائمًا فكأنما صام يومًا ويعضده قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة: 184] ، فجعل الإطعام للمسكين عوضًا من صيام يوم، وأبواب الجنة ثمانية، وإنما ذكر منها فى الحديث أربعة. وروى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن من أبواب الجنة أبواب الواطئين) . ذكر إسماعيل بن أبى خالد، عن يونس بن خباب، قال: أخبرت أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (إن للجنة ثمانية أبواب منها: باب للصائمين، وباب للمجاهدين، وباب للمتصدقين، وباب للواطئين، وليس أحد من هذه الأصناف يمر بخزنة الجنة إلا كلهم يدعوه: هلم إلينا يا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 عبد الله) ، ومن أبواب الجنة باب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس. وذكر ابن البراء فى كتاب الروضة، عن أحمد بن حنبل، قال: حدثنا روح، عن أشعث، عن الحسن، قال: إن الله فى الجنة بابًا لا يدخله إلا من عفا عن مظلمة، فقال أحمد لابنه: يا بنى ما خرجت من دار أبى إسحاق حتى أحللته ومن معه إلا رجلين: ابن أبى دؤاد، وعبد الرحمن بن إسحاق فإنهما طلبا دمى، وأنا أهون على الله من أن يُعَذِّبَ فىّ أحدًا، أشهدك أنهم فى حل. ومنها: باب التوبة، روى عن ابن مسعود أنه سأله رجل عن ذنب ألم به، هل له من توبة؟ فأعرض عنه ابن مسعود، ثم التفت فرأى عينيه تذرقان، فقال: إن للجنة ثمانية أبواب كلها تفتح وتغلق إلا باب التوبة فإن عليه ملكًا موكلاً به لا يغلق، فاعمل ولا تيأس. ووجه الإنفاق فى ذلك ما يتقوى به على طاعة الله، ويتحلل من المحارم التى سلفت منه، ويؤدى المظالم إلى أهلها، ويمكن أن يكون الباب الباقى، باب المتوكلين الذين يدخلون الجنة فى سبعين ألفا من باب واحد، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وجوههم كالبدر: الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، ووجه الإنفاق فى ذلك أنهم ينفقون على أنفسهم فى حال المرض المانع لهم من التصرف فى طلب المعاش، صابرين على ما أصابهم، وينفقون على من أصابه ذلك البلاء من غيرهم. ومنها: باب الصابرين لله على المصائب، المحتسبين الذين يقولون عند الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 نزولها: (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) [البقرة: 156] الآية، ومنها: باب الحافظين فروجهم والحافظات المستعفين بالحلال عن الحرام، وغير المتبعين للشهوات، ووجه الإنفاق فى ذلك: الصداق والوليمة والإطعام حتى اللقمة يضعها فى فىِّ امرأته والله أعلم بحقيقة الثلاثة الأبواب. فإن قيل: فإذا جاز أن يسمى استعمال الجسم فى طاعة الله نفقة، فيجوز أن يدخل فى معنى الحديث (من أنفق نفسه فى سبيل الله فاستشهد وأنفق كريم ماله) ؟ قيل: نعم وهو أعظم أجرًا من الأول. ويدل على ذلك ما رواه سفيان، عن الأعمش، عن أبى سفيان، عن جابر، قال: قال رجل: يا رسول الله، أى الجهاد أفضل؟ قال: (أن يعقر جوادك ويهراق دمك) . قال عبد الواحد: فإن قيل: هل يدخل فى ذلك صائم رمضان، والمزكى لماله، ومؤدى الفرائض؟ قيل: المراد بالحديث النوافل وملازمتها والتكثير منها، فذلك الذى يستحق أن يدعى من أبوابها لقوله: (فمن كان من أهل كذا) . قال المهلب: قول أبى بكر: ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، يريد أنه من لم يكن إلا من أهل خصلة واحدة من هذه الخصال، ودعى من باب تلك الخصلة، فإنه لا ضرورة عليه، لأن الغاية المطلوبة دخول الجنة. وقوله: (هل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم) ، يريد أن من كان من أهل الصلاة والجهاد والصيام والصدقة أنه يدعى منها كلها، فلا ضرورة عليه فى دخوله من أى باب شاء، لاستحالة دخوله منها كلها معا، ولا يصح دخوله إلا من باب واحد، ونداؤه منها كامل إنما هو على سبيل الإكرام والتخيير له فى الدخول من أيها شاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 قال عبد الواحد: وفيه أن أعمال البر كلها يجوز أن يقال فيها فى سبيل الله ولا يخص بذلك الجهاد وحده. 5 - باب هَلْ يُقَالُ رَمَضَانُ، أَوْ شَهْرُ رَمَضَانَ ، وَمَنْ رَأَى كُلَّهُ وَاسِعًا وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ) ، وَقَالَ: (لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ) . / 6 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِىّ عليه السلام: (إِذَا جَاء رَمَضَانَ، فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ) . / 7 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِىّ عليه السلام: (إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ) . يعنى هِلالِ رَمَضَانَ. قال ابن النحاس: قال ابن النحاس: كان عطاء ومجاهد يكرهان أن يقال: رمضان، قالا: وإنما نقول ما قال الله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ) [البقرة: 185] ، لأنا لا ندرى لعل رمضان اسم من أسماء الله. قال: وهذا قول ضعيف، لأنا وجدنا النبى، عليه السلام، قال: (رمضان) ، بغير شهر، فقال: (من صام رمضان) ، ولا تقدموا رمضان، والأحاديث كثيرة فى ذلك. وأبواب السماء فى هذا الحديث يراد بها أبواب الجنة بدليل قوله فى الحديث: (وغلقت أبواب جهنم) ، وقد تبين هذا المعنى فى رواية مالك عن عمه أبى سهيل بن مالك، عن أبيه، عن أبى هريرة أنه قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 (رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين) ، وهذا حجة فى أن الجنة فى السماء، وتأول العلماء فى قوله: (فتحت أبواب الجنة وسلسلت الشياطين) ، معنيين. أحدهما: أنهم يسلسلون على الحقيقة، فيقل أذاهم ووسوستهم ولا يكون ذلك منهم كما هو فى غير رمضان، وفتح أبواب الجنة على ظاهر الحديث. والثانى: على المجاز، ويكون المعنى فى فتح أبواب الجنة ما فتح الله على العياد فيه من الأعمال المستوجب بها الجنة من الصلاة والصيام وتلاوة القر آن، وأن الطريق إلى الجنة فى رمضان أسهل والأعمال فيه أٍرع إلى القبول، وكذلك أبواب النار تغلق بما قطع عنهم من المعاصى، وترك الأعمال المستوجب بها النار، ولقلة ما يؤاخذ الله العباد بأعمالهم السيئة، يستنفذ منها ببركة الشهر أقوامًا ويهب المسئ للمحسن، ويتجاوز عن السيئات فهذا معنى الغلق، وكذلك قوله: (سلسلت الشياطين) ، يعنى: أن الله يعصم فيه المسلمين أو أكثرهم فى الأغلب عن المعاصى والميل إلى وسوسة الشياطين وغرورهم، ذكره الداودى والمهلب. واحتج المهلب لقول من جعل المعنى على الحقيقة فقال: ويدل على ذلك ما يذكر من تغليل الشيباطين ومردتهم بدخول أهل المعاصى كلها فى رمضان فى طاعة الله، والتعفف عما كانوا عليه من الشهوات، وذلك دليل بين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 6 - باب مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَنِيَّةً وَقَالَتْ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِىِّ: (يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ . / 8 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السلام: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) . قوله: (إيمانًا) ، يريد تصديقًا بفرضه وبالثواب من الله تعالى، على صيامه وقيامه، وقوله: (احتسابًا) ، يريد بذلك يحتسب الثواب على الله، وينوى بصيامه وجه الله، وهذا الحديث دليل بين أن الأعمال الصالحة لا تزكو ولا تتقبل إلا مع الاحتساب وصدق النيات، كما قال عليه السلام: (الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى) ، وهذا يرد قول زفر، فإنه زعم أنه يجزئ صوم رمضان بغير نية، وقوله مردود بهذه الآثار، وإذا صح أنه لا عمل إلا بنية، صح أنه لا يجزئ صوم رمضان إلا بنية من الليل، كما ذهب إليه الجمهور. وخالف ذلك أبو حنيفة، والأوزاعى، وإسحاق، وقالوا: يجزئه التبييت قبل الزوال، ولا سلف لهم فى ذلك، والنية إنما ينبغى أن تكون متقدمة قبل العمل، وحقيقة التبييت فى اللغة يقتضى زمن الليل، وروى هذا عن ابن عمر، وحفصة، وعائشة، ولا مخالف لهم، وقد تقدم ما للعلماء فى قوله عليه السلام: (الأعمال بالنيات) ، فى آخر كتاب الإيمان، فى باب: ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 7 - باب أَجْوَدُ مَا كَانَ النَّبِىُّ عليه السلام يَكُونُ فِى رَمَضَانَ / 9 - فيه: ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: (كَانَ النَّبِىُّ، عليه السلام، أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِى رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِى رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ النَّبِىُّ، عليه السلام، عليه الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ) . قال المهلب: وامتثل النبى، عليه السلام، فى هذا قول الله تعالى: وأمره بتقديم الصدقة بين يدى نجوى الرسول الذى كان أمر به تعالى عباده، ثم عفا عنهم، لإشفاقهم من ذلك، فامتثل عليه السلام ذلك عند مناجاته جبريل صلى الله عليه وعلى جميع الملائكة، وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب بدء الوحى. قال المهلب: وفيه بركة مجالسة الصالحين، وأن فيها تذكار لفعل الخير، وتنبيها على الازديار من العمل الصالح، ولذلك أمر عليه السلام بمجالسة العلماء، ولزوم حلق الذكر، وشبه الجليس الصالح بالعطار إن لم يصبك من متاعه لم تعدم طيب ريحه. ألا ترى قول لقمان لابنه: يا بنى جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيى القلوب بنور الحكمة، كما يحيى الأرض الميتة بوابل السماء، وقال مرة أخرى: فلعل أن تصضيبهم رحمة فتنالك معهم، فهذه ثمرة مجالسة أهل الفضل ولقائهم. وفيه: بركة أعمال الخير، وأن بعضها يفتح بعضًا، ويعين على بعض، ألا ترى أن بركة الصيام، ولقاء جبريل وعرضه القرآن عليه زاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 فى وجود النبى، عليه السلام، وصدقته حتى كان أجود من الريح المرسله. قال عبد الواحد: ونزول جبريل فى رمضان للتلاوة دليل عظيم لفضل تلاوة القرآن فيه، وهذا أصل تلاوة الناس للقرآن فى كل رمضان، تأسيًا به (صلى الله عليه وسلم) ، ومعنى مدارسة جبريل للنبى، عليه السلام، فيه، لأنه الشهر الذى أنزل فيه القرآن، كما نص الله تعالى. وفيه: أن المؤمن كلما ازداد عملاً صالحًا وفتح له باب من الخير فإنه ينبغى له أن يطلب بابا آخر، وتكون عينه ممتدة فى الخير إلى فوق عمله، ويكون خائفا وجلاً، غير معجب بعمله، طالبًا للارتقاء فى درجات الزيادة. 8 - باب مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فِى الصَّوْمِ / 10 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النِّبِىّ، عليه السلام: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِى أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) . قال المهلب: فيه دليل أن حكم الصيام الإمساك عن الرفث وقول الزور، كما يمسك عن الطعام والشراب، وإن لم يمسك عن ذلك فقد تنقص صيامه وتعرض لسخط ربه وترك قبوله منه. وقال غيره: وليس معناه أن يؤمر بأن يدع صيامه إذا لم يدع قول الزور، وإنما معناه التحذير من قول الزور، وهذا كقوله، عليه السلام: (من باع الخمر فليشقص الخنازير) ، يريد أى يذبحها، ولم يأمره بشقصها، ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم شارب الخمر، فكذلك حذر الصائم من قول الزور والعمل به ليتم أجر صيامه، فإن قيل: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 فما معنى قوله: (فليس لله حاجة) ، والله لا يحتاج إلى شئ؟ قيل معناه: فليس لله إرادة فى صيامه فوضع الحاجة موضع الإرادة. 9 - باب هَلْ يَقُولُ إِنِّى صَائِمٌ إِذَا شُتِمَ / 11 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النبى، عليه السلام: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِى، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلا يَرْفُثْ وَلا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّى امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِىَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ) . قال الداودى: تخصيصه فى هذا الحديث ألا يرفث ولا يجهل، وذلك لا يحل فى غير الصيام، وإنما هو تأكيد لحرمة الصوم عن الرفث والجهل، كما قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون: 1، 2] ، والخشوع فى الصلاة أوكد منه فى غيرها، وقال فى الأشهر الحرم: (فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) [التوبة: 36] ، فأكد حرمة الأشهر الحرم، وجعل الظلم فيها آكد من غيرها، فينبغى للصائم أن يعظم من شهر رمضان ما عظم الله ورسوله، ويعرف ما لزمه من حرمة الصيام. قال غيره: واتفق جمهور العلماء على أن الصائم لا يفطره السب والشتم والغيبة، وإن كان مأمورًا أن ينزه صيامه عن اللفظ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 القبيح، وقال الأوزاعى: إنه يفطر بالسب والغيبة، واحتج بما روى أن الغيبة تفطر الصائم. قال ابن القصار: معناه أنه يصير فى معنى المفطر فى سقوط الأجر لا أنه يفطر فى الحقيقة، كقوله تعالى: (وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا) [الحجرات: 12] ، ومن اغتاب فلم يكن آكلا لحم أخيه ميتًا فى الحقيقة، وإنما يصير فى معناه ويجوز أن يكون فى معنى التغليظ، كما قال: الكذب مجانب للإيمان، فإن قيل: فما معنى قوله: (فليقل إنى صائم) ، والمندوب إليه أن يستتر بعمله ليكثر ثوابه؟ قيل: إذا قال: إنى صائم، ارتدع وعلم أنه إذا اجترأ عليه فى صوم كان أعظم فى الإثم، فليعلم أيضًا أن الصوم يمنع من الرد عليه، ومثل هذا لا يكره إذا كان لعذر، وقيل معناه: أن يقول ذلك لنفسه، وقد تقدم هذا المعنى فى باب: فضل الصوم. - باب الصَّوْمِ لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْعُزْوبَةَ / 12 - فيه: ابن مسعود قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السلام، فَقَالَ: (مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) . قال المؤلف: ندب النبى، عليه السلام، لأمته النكاح، ليكونوا على كمال من أمر دينهم، وصيانة لأنفسهم فى غض أبصارهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 وحفظ فروجهم لما يخشى على من زين الله فى قلبه حب أعظم الشهوات، ثم عليه السلام، أن الناس كلهم لا يجدون طولا إلى النساء، وربما خافوا العنت بفقد النكاح فعوضهم منه ما يدافعون به سورة شهواتهم، وهو الصيام. فإنه وجاء، والوجاء: القطع، يعنى: أنه مقطعة للانتشار وحركة العروق التى تتحرك عند شهوة الجماع، وأصل الوجاء عند العرب أن ترض البيضتان، يقال: وجأ فلان الكبش، وهو كبش موجوء، فإذا سلت البيضتان، فهو الخصى، وفى كتاب العين: وجأت الرجل ضربته. والباءة فى كلام العرب: الجماع، وتجمع بآء، كما تجمع الراءة رآء. - باب قَوْلِ النَّبِىِّ عليه السلام: (إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلالَ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا وَقَالَ عَمَّارٍ: مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ، فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ. / 13 - فيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ عليه السلام: (لا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلالَ، وَلا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ) . / 14 - وقَالَ بْنِ عُمَرَ: قَالَ النبى، عليه السلام: (الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، فَلا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ الْهلالَ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ، فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاثِينَ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 / 15 - وقَالَ أَبَا هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِىُّ، عليه السلام: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمِّىَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ) . ذهب كافة الفقهاء إلى أن معنى قوله عليه السلام: (فاقدروا له) ، مجمل يفسره قوله: (فأكملوا العدة ثلاثين يومًا) ، ولذلك جعل مالك فى الموطأ (فأكملوا العدة ثلاثين يومًا) ، بعد قوله: (فاقدروا له) ، كما صنع البخارى، لأنه مفسر ومبين لمعنى قوله: (فاقدروا له) ، وحكى محمد بن سيرين أن بعض التابعين كان يذهب فى معنى قوله عليه السلام: (فاقدروا له) ، إلى اعتباره بالنجوم، ومنازل القمر، وطريق الحساب، ويقال: إنه مطرف بن الشخير. وقوله عليه السلام: (فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يومًا) ، نص فى أنه عليه السلام لم يرد اعتبار ذلك بالنجوم والمنازل، لأنه لو كلف ذلك أمته لشق عليه، لأنه لا يعرف النجوم والمنازل إلا قليل من الناس، ولم يجعل الله تعالى فى الدين من حرج، وإنما أحال عليه السلام على إكمال ثلاثين يومًا، وهو شىء يستوى فى معرفته الكل، وقد انضاف إلى أمره باعتبار العدد ثلاثين عند عدم الرؤية فعله فى نفسه. فروى عن عائشة أنها قالت: (كان رسول الله يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من سائر الشهور، فإذا رأى هلال رمضان صام، وإن غم عليه عد شعبان ثلاثين يومًا وصام) ، ولو كن هاهنا علم آخر لكان يفعله أو يأمر به. وجمهور الفقهاء على أنه لا يصام رمضان إلا بيقين من خروج الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 شعبان، إما برؤية الهلال أو إكمال شعبان ثلاثين يومًا، وكذلك لا يقضى بخروج رمضان إلا بيقين مثله، لأنه ممكن فى الشهر أن يكون تسعة وعشرين يومًا، فالرؤية تصحح ذلك وتوجب اليقين كإكمال العدة ثلاثين يقينًا، هذا معنى قوله: (فاقدروا له) ، عند العلماء، ولابن عمر فيه تأويل شاذ لم يتابع عليه وسنذكره فى باب نهى النبى عن صيام يوم الشك، إن شاء الله. وقال الطبرى: أما حديث ابن عمر أن النبى، عليه السلام، قال: (الشهر تسع وعشرون ليلة) ، فإن معناه: الشهر الذى نحن فيه والذى قد علمتم إخبارى عنه، لأن الألف واللام إنما تدخلهما العرب فى الأسماء إما لمعهود قد عرفه المخبر والمخبر، وإما للجنس العام من المشهور ومعلوم أن النبى، عليه السلام، لم يقصد بذلك الخبر عن الجنس، لأنه لو كان كذلك لم يقل: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) ، فأحال على الرؤية، ونحن نرى الشهر يكون مرة ثلاثين ومرة تسعة وعشرين فعلم أن قوله: (الشهر تسع وعشرون) ، أن ذلك قد يكون فى بعض الأحوال، وقد جاء هذا عن ابن عمر، عن النبى، عليه السلام، بينا فى قوله: (إنا أمة مية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا، وهكذا يعنى: مرة تسعًا وعشرين، ومرة ثلاثين) . وروى عن عروة، عن عائشة نها أنكرت قول من قال أن النبى، عليه السلام، قال: (الشهر تسع وعشرون) ، وقالت لا والله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 ما قال كذلك، إنما قال حين هجرنا: لأهجرنكم شهرًا، وأقسم على ذلك، فجاءنا حين ذهب تسع وعشرون ليلة، فقلت: يا رسول الله إنك أقسمت شهرًا فقال: (إن الشهر كان تسعًا وعشرين ليلة) . - باب شَهْرَا عِيدٍ لا يَنْقُصَانِ / 16 - فيه: أَبو بَكْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ، عليه السلام: (شَهْرَا عِيدٍ لا يَنْقُصَانِ: رَمَضَانُ، وَذُو الْحَجَّةِ) . اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث على وجهين، فذكر أحمد بن عمرو البزار أن معناه: لا ينقصان جميعًا فى سنة واحدة. قال المهلب: وقد روى زيد بن عقبة، عن سمرة بن جندب، عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (شهرا عيد لا يكونان ثمانية وخمسين يومًا) . والوجه الثانى قال المهلب: معناه: أنه لا ينقص عند الله، تعالى أجر العاملين فيهما، وإن كانا ناقصيبن فى العدد. قال الطحاوى: وقد دفع قوم التأويل الأول بالعيان، قالوا: لأنا قد وجدناهما ينقصان فى أعوام، ويجتمع ذلك فى كل واحد منهما، فدفعوا ذلك بهذا، وبحديث رسول الله أنه قال: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين) ، وبقوله: (إن الشهر قد يكون تسعًا وعشرين ويكون ثلاثين) ، فأخبر أن ذلك جائز فى كل شهر من الشهور، إذ لم يخص بذلك شهرًا من سائر الشهور، فدل على أن شهر رمضان وذى الحجة وما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 سواهما قد يكونان تسعًا وعشرين، وقد يكونان ثلاثين، فثبت بذلك أن معنى قوله: (شهرا عيد لا ينقصان) ، ليس على نقصان العدد، ولكنه على نقصان الأحكام، والوجه عندنا أنهما لا ينقصان، وإن كانا تسعًا وعشرين فهما شهران كاملان، لأن فى أحدهما الصيام، وفى الآخر الحج، والأحكام فى ذلك متكاملة غير ناقصة، ويدل على ذلك قوله عليه السلام: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه) ، فمن صامه ناقصًا أو تاما كان أجره واحدًا. قال المؤلف: فإن قال قائل: إن كان أراد بقوله عليه السلام: (لا ينقصان) : من الأجر والحكم وإن كانا ناقصين فى العدد، فإنا نجد رمضان يصام كله، فيكون مرة تاما ومرة ناقصًا، ونقصانه فى آخره، وذو الحجة إنما يقع الحج فى العشر الأول منه، فلا حرج على أحد فى نقصانه ولا تمامه، لأن العبادة منه فى أوله خاصة. قيل: قد يكون فى أيام الحج من النقصان والإغماء مثل ما يكون فى آخر رمضان، وذلك أنه قد يغمى هلال ذى القعدة ويقع فيه غلط بزيادة يوم أو نقصان يوم، فإذا كان ذلك، وقع وقوف الناس بعرفة مرة اليوم الثامن من ذى الحجة، ومرة اليوم العاشر منه، وقد اختلف العلماء فى ذلك، فقالت طائفة: من وقف بعرفة بخطأ شامل لجميع أهل الموقف فى يوم قبل يوم عرفة أو بعده أنه مجزئ عنه، لأنهما لا ينقصان عند الله من أجر المتعبدين بالاجتهاد، كما لا ينقص أجر رمضان الناقص، وهو قول عطاء، والحسن، وأبى حنيفة، والشافعى. واحتج أصحاب الشافعى على جواز ذلك بصيام من التبست عليه الشهور أنه جائز أن يقع صيامه قبل رمضان أو بعده، قالوا: كما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 يجزئ حج من وقف بعرفة قبل يوم عرفة أو بعده، وروى يحيى بن يحيى، عن ابن القاسم أنهم إن أخطئوا ووقفوا بعد يوم عرفة يوم النحر أنه يجزئهم، وإن قدموا الوقوف يوم التروية لم يجزئهم، وأعادوا الوقوف من الغد، وهذا يخرج على أصل مالك فيمن التبست عليه الشهور فصام رمضان ثم تبين له أنه أوقعه بعد رمضان أنه يجزئه، ولا يجزئه إذا أوقعه قبل رمضان، كمن اجتهد وصلى قبل الوقت أنه لا يجزئه. وقد قال بعض العلماء: إنه لا يقع وقوف الناس اليوم الثامن أصلا، لأنه لا يخلو من أن يكون الوقوف برؤية أو إعماء، فإن كان برؤية وقفوا اليوم التاسع، وإن كان بإغماء وقفوا اليوم العاشر. - باب قَوْلِ النَّبِىِّ عليه السلام: (لا نَكْتُبُ وَلا نَحْسُبُ / 13 - فيه: ابْنَ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِىِّ، عليه السلام: (إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ وَلا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، يَعْنِى مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلاثِينَ) . قال المؤلف: فيه بيان، لقوله عليه السلام: (فاقدروا له) ، أن معناه إكمال العدد ثلاثين يومًا، كما تأول الفقهاء، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 ولا اعتبار فى ذلك بالنجوم والحساب، وهذا الحديث ناسخ لراعاة النجوم بقوانين التعديل، وإنما المعول على الرؤية فى الأهلة التى جعلها الله مواقيت للناس فى الصيام والحج والعدد والديون، وإنما لنا أن ننظر من علم الحساب ما يكون عيانا أو كالعيان، وأما ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون وتكييف الهيئات الغائبة عن الأبصار فقد نهينا عنه، وعن تكلفه. وعلة ذلك أن رسول الله إنما بعث إلى الأميين الذين لا يقرءون الكتاب، ولا يحسبون بالقوانين الغائبة، وإنما يحسبون الموجودات عيانا. - باب لا يَتَقَدَّمُ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أو يَوْمَيْنِ / 18 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ قَالَ: النَّبِىِّ، عليه السلام: (لا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إِلا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ، فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ) . قال المؤلف: ذهبت طائفة إلى أنه لا يجوز أن يصام آخر يوم من شعبان تطوعًا إلا أن يوافق صومًا كان يصومه، وأخذوا بظاهر هذا الحديث، وروى ذلك عن عمر، وعلى، وعمار، وحذيفة، وابن مسعود، ومن التابعين سعيد بن المسيب، والشعبى، والنخعى، والحسن، وابن سيرين، وهو قول الشافعى، وكان ابن عباس، وأبو هريرة يأمران أن يفصل بين شعبان ورمضان بفطر يوم أو يومين، كما استحبوا أن يفصلوا بين صلاة الفريضة والنافلة بكلام أو قيام وتقدم أو تأخر، وقال عكرمة: (من صام يوم الشك فقد عصى الله ورسوله) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 وأجازت طائفة صومه تطوعا، روى عن عائشة، وأسماء أختها أنهما كانتا تصومان يوم الشك، وقالت عائشة: (لئن أصوم آخر يوم من شعبان أحب إلى من أن أفطر يوما من رمضان) ، وهو قول مالك، والأوزاعى، وأبى حنيفة، وأحمد، وإصحاق. قال ابن القصار: وحجة هذا القول أنا إنما نكره صوم يوم الشك قطعًا أن يكون من رمضان أو على وجه المراعاة خوفا أن يكون من رمضان، فليحق بالفرض ما ليس من جنسه، فأما إذا أخلص النية للتطوع، فلم يحصل فيه معنى الشك، فإنما نيته أنه من شعبان، فهو كما يصومه عن نذر أو قضاء رمضان، وإنما النهى عن أن يصومه على أنه إن كان من رمضان فذاك وإلا فهو تطوع. واختلفوا إذا صامه على أنه من رمضان، قال مالك: سمعت أهل العلم ينهون عن أن يصام اليوم الذى يشك فيه من شعبان إذا نوى به رمضان، ويروى أنه من صامه على غير رؤية، ثم جاء الثبت أنه من رمضان أن عليه قضاءه، قال مالك: وعلى هذا الأمر عندنا. وفيه قول آخر، ذكر ابن المنذر، عن عطاء، وعمر بن عبد العزيز، والحسن أنه إذا نوى صومه من الليل على أنه من رمضان ثم علم بالهلال أول النهار أو آخره نه يجزئه، وهو قول الثورى، والأوزاعى، وأبى حنيفة، وأصحابه، وذهب ابن عمر إلى أنه يجوز صيامه إذا حال دون منظر الهلال ليلة ثلاثين من شعبان غيم وسحاب ويجزئهم من رمضان، وإن ثبت بعد ذلك أن شعبان من تسع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 وعشرين وبه قال أحمد بن حنبل: وهو قول شاذ، وهذا صوم يوم الشك، وهو خلاف للحديث فلا معنى له، وقول أهل المدينة أولى لنهيه عليه السلام أن يتقدم صوم رمضان، ولقول عكرمة، وعمار: من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم. - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) [البقرة: 187] الآية / 19 - فيه: الْبَرَاءِ: كَانَ أَصْحَابُ النبى، عليه السلام، إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا، فَحَضَرَ الإفْطَارُ، فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ، لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ كَانَ صَائِمًا، فأَتَى امْرَأَتَهُ، للإفطار، فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ، قَالَتْ: لا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِىَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ، عليه السلام، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ) [البقرة: 187] الآية فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا وَنَزَلَتْ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ) [البقرة: 187] . قال المؤلف: ذكر إسماعيل بن إسحاق، عن زيد بن أسلم، وإبراهيم التينى، فالا: كان المسلمون فى أول الإسلام يفعلون كما يفعل أهل الكتاب، إذا نام أحدهم لم يطعم حتى تكون القابلة، فنسخ الله ذلك، وقال مجاهد: كان رجال من المسلمين يختانون أنفسهم فى ذلك، فعفا الله عنهم، وأحل لهم الأكل والشرب والجماع بعد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 الرقاد، وقبله فى الليل كله، وقال ابن عباس: الرفث، الجماع، وقال: (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [البقرة: 187] الولد، وهو قول مجاهد، والحسن، والضحاك وجماعة، وقال زيد بن أسلم) وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [البقرة: 187] الجماع، وقد روى أبو الجوزاء عن ابن عباس أنه قال: ابتغوا ليلة القدر، قال إسماعيل: وقولهم أنه الجماع، فهو مذهب حسن، لأن الذى كتب لهم يدل على أنه شىء لهم فى خاصة أنفسهم، وأنه شىء قد وجب لهم، فكان المعنى، والله أعلم) فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ) [البقرة: 187] أى: جامعوهن) وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [البقرة: 187] أى: ما أحل الله لكم من ذلك بعد أن كان محضورًا عليكم، فهو شىء أوجب لهم، والولد ليس بشىء أوجب لهم ولا كتب لهم لأنه قد يولد لرجل ولا يولد لآخر. وأما رواية أبى الجوزاء عن ابن عباس فى ليلة القدر فهو مما كتب للمسلمين، وهو شىء لا يدفع، غير أن الكلام قد سيق فى معنى الجماع، والله أعلم. - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ) [البقرة: 187] الآية / 20 - فِيهِ: الْبَرَاءُ عَنِ النَّبِىِّ عليه السلام. قَالَ عَدِىِّ: لَمَّا نَزَلَتْ: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ من الفجر) [البقرة 187] عَمَدْتُ إِلَى عِقَالٍ أبيض، وإلى عقال أَسْوَدَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِى، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِى اللَّيْلِ، فَلا يَسْتَبِينُ لِى، فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فَذَكَرْتُ ذلك لَهُ، فَقَالَ: (إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ) . / 21 - وفيه: سَهْلِ قَالَ: أُنْزِلَتْ) وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ (وَلَمْ يَنْزِلْ: (مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة: 187] وَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ، رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِى رِجْلِهِ الْخَيْطَ الأبْيَضَ وَالْخَيْطَ الأسْوَدَ، وَلا يَزَلْ يَأْكُلُ ويشرب حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ: (مِنَ الْفَجْرِ (فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِى اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. قال المؤلف: قال أبو عبيد: الخيط الأبيض هو الصبح المصدق، والخيط الأسود هو الليل، والخيط هو النور، قال ابن المذر: اختلف العلماء فى الوقت الذى يحرم فيه الطعام والشراب على من يريد الصوم، فذهب مالك، وأبو حنيفة، والشافعى، وأبو ثور إلى أنه يحرم الطعام والشراب عند اعتراض الفجر الآخر فى الأفق، وروى معنى هذا عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وهو قول عطاء، وعوام علماء الأمصار. وفيه قول ثان رويناه، عن أبى بكر الصديق، وعلى، وحذيفة، وابن مسعود وغيرهم، فروينا عن سالم بن عبيد، أن أبا بكر الصديق نظر إلى الفجر مرتين ثم تسحر فى الثالثة، ثم قام فصلى ركعتين، ثم أقام بلال الصلاة، وعن على أنه قال حين صلى الفجر: الآن حين يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وروينا عن حذيفة: أنه لما طلع الفجر تسحر ثم صلى، وروينا عن ابن مسعود مثله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 قال المؤلف: وزاد الطحاوى: فلما صلى حذيفة قال: هكذا فعل رسول الله غير أن الشمس لم تطلع، وروى حماد، عن أبى هريرة أنه سمع النداء والإناء على يده فقال: أحرزتها ورب الكعبة، وقال هشام بن عروة: كان عروة يأمرنا بهذا، يعنى إذا سمع النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضى حاجته منه، ورواه الحسن عن النبى، عليه السلام، مرسلاً. وقال مسروق: لم يكونوا يعدون الفجر فجركم، إنما كانوا يعدون الفجر الذى يملأ الطرق والبيوت، قال ابن المنذر: فتأول بعضهم قوله فى حديث عدى بن حاتم: (إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار) ، قال: فبياض النهار أن ينتشر فى الطرق والسكك، والبيوت، وقت صلاة المسفرين بصلاة الصبح، وذكر إسحاق بن راهويه عن وكيع أنه سمع الأعمش يقول: لولا الشهرة لصليت الغداة ثم تسحرت. قال إسحاق: بعد أن ذكر ما ذكرناه عن أبى بكر وعلى وحذيفة: هؤلاء لم يروا فرقًا بين الأكل وبين الصلاة المكتوبة، رأوا أن تصلى المكتوبة بعد طلوع الفجر المعترض ورأوا الأكل بعد طلوع الفجر المعترض صباحًا حتى يتبين بياض النهار من سواد الليل، ومال إسحاق إلى القول الأول، ثم قال: من غير أن يطعن على هؤلاء الذين تأولوا الرخصة فى الوقت: فمن أكل فى ذلك الوقت فلا قضاء عليه ولا كفارة إذا كان متأولا. واحتج أصحاب مالك للقول الأول فقالوا: الصائم يلزمه اغتراف طرفى النهار، وذلك لا يكون إلا بتقدم شىء وإن قل من السحر، وأخذ شىء من الليل، لأن عليه أن يدخل فى إمساك أول جزء من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 اليوم بيقين، كما أن عليه أن يدخل فى أول رمضان بيقين، والأكل مناف لأول جزء من الإمساك، فينبغى له أن يقدم الإمساك ليتحقق له أنه حصل فى طلوع الفجر ممسكا، ومن أكل حتى يتبين له الفجر ويعلمه فقد حصل أكلا فى أول اليوم. وذكر الطحاوى حديث حذيفة، ولم يذكر حديث أبى بكر، ولا على، ولا فعل أبى هريرة، وابن مسعود، ثم قال: فدل حديث حذيفة على أن أول وقت الصيام طلوع الشمس، وأن ما قيل طلوع الشمس ففى حكم الليل، وهذا يحتمل عندنا أن يكون بعد ما أنزل الله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ) [البقرة: 187] قبل أن ينزل: (مِنَ الْفَجْرِ (على مكا فى حديث سهل، ثم أنزل الله بعد ذلك: (مِنَ الْفَجْرِ (وذهب علم ذلك على حذيفة، وعلمه غيره، فعمل حذيفة بما علم إذ لم يعلم الناسخ، وعلم غيره، الناسخ فصار إليه، ومن علم شيئا أولى ممن لم يعلمه فدل ما ذركناه على أن الدخول فى الصيام من طلوع الفجر، وعلى أن الخروج منه بدخول الليل، ثم كان قوله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ (غاية لم يدخلها فى الصيام. قال المؤلف: فكما لم يدخل أول الليل فى الصيام، فكذلك لا يدخل أول النهار فى الإفطار. واختلفوا فيمن أكل وهو شاك فى طلوع الفجر، فقالت طائفة: الأكل والشرب مباح حتى يتيقن طلوع الفجر الآخر. وروى سفيان، عن أبان، عن أنس بن مالك، عن أبى بكر الصديق قال: (إذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 نظر الرجلان إلى الفجر فقال أحدهما: طلع، وقال الآخر: لم يطلع فليأكلا حتى يتبين لهما) ، وعن ابن عباس قال: أحل الله الأكل والشرب ما شككت. وروى وكيع، عن عمارة بن زاذان، عن مكحول قال: رأيت عمر أخذ دلوا من زمزم ثم قال لرجلين: أطلع الفجر؟ فقال أحدهما: لا، وقال الآخر: نعم فشرب، ومكحول هذا ليس بالشامى، وهو قول عطاء، وأبى حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، كلهم قال: لا قضاء عليه، وليس كمن يأكل، وهو يشك فى غروب الشمس. وقال مالك: من أكل وهو شاك فى الفجر فعليه القضاء. وقال ابن حبيب: والقضاء عنده استحباب، إلا أن يعلم أنه أكل بعد الفجر فيصير واجبًا كمن أفطر وظن أنه قد أمسى ثم ظهرت الشمس، واحتج ابن حبيب لقول من أباح الأكل بالشك قال: هو القياس، لقول الله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ) [البقرة: 187] ، قال ابن الماجشون: وهو العلم به، وليس الشك علمًا به، ولكن الاحتياط أن لا يأكل فى الشك. ومن حجة العراقيين فى سقوط القضاء قالوا: إذا شك فى طلوعه فالأصل بقاء الليل، وقد قال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ (فلم يمنعهم من الأكل حتى يستبين لهم الفجر، قاله الثورى، وهذا قد أكل قبل أن يتبين له، فلا معنى للقضاء. قالوا: ومذهب العلماء البناء على اليقين، ولا يوجب الشىء بالشك، والليل عنده يقينى، فلا يزال إلا بيقين، وبهذا وردت السنة فى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 قوله عليه السلام: (من شك فى صلاته فلم يدر أثلاثًا صلى أم أربعًا، فليبن على اليقين) ، ومن شك هل زالت الشمس لم تلزمه الصلاة. قالوا: وقد اتفقنا أنه إذا أكل يوم الشك أنه لا قضاء عليه إذا لم يتبين أنه من رمضان، ومسألتنا كذلك، وقد أكل فى زمن يجوز أن يكون من الليل، ويجوز أن يكون من النهار، فلم يلتفت إلى التجويز مع استصحاب حكم الليل، كما لم يوجب الإعادة فى يوم الشك مع استصحاب حكم شعبان. قالوا: وهذه المسألة مبنية على أصولنا فيمن تيقن بالطهارة ثم شك فى الحديث. واحتج أصحاب مالك لإيجاب فقالوا: الطعام والشراب يحرم عند اعتراض الفجر الآخر، وصوم رمضان عليه بيقين، ولا يسقط حكم الصوم إلا بيقين، ومن شك هل أكل بعد الفجر أو قبله فليس يتيقن دخوله فى الإمساك، وهو كمن شك فى غروب الشمس فأكل، وكمن شك فى زوال الشمس فلا تجزئه الصلاة، لأن الوقت عليه بيقين، وكذلك لو شك فى دخول رمضان فصام على الشك لم يجزئه عن رمضان، وكذلك لو شك هل كبر للإحترام لم يجزئه، لأن عليه الدخول فى الصلاة بيقين كما يدخل فى وقتها بيقين، كذلك عليه أن يدخل فى أول جزء من اليوم بيقين، كما عليه أن يدخل فى أول رمضان بيقين، أعنى باعتقاد صحيح، قاله ابن القصار. وقد فرق ابن حبيب بين من أكل وهو شاك فى الفجر، وبين من أكل وهو شاك فى غروب الشمس، وسنذكر ذلك فى باب إذا أفطر فى رمضان ثم طلعت عليه الشمس، إن شاء الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 واختلف أصحاب مالك فيمن طلع عليه الفجر، وهو يأكل أو يطأ، فقال ابن القاسم: فليلق ما فى فمه، ولينزل عن امرأته، ولم يفرق بين الأكل والوطء، وقال ابن الماجشون: ليس الأكل كالجماع، لأن إزالته لفرجه جماع بعد الفجر، ولكن لم يبتدئه ولم يتعمده، فعليه القضاء إذا تنحى مكانه، فإن عاد أو خضخض فعليه القضاء والكفار، وهو قول الشافعى. وقال أبو حنيفة والمزنى: لا كفارة عليه، واحتجوا بأنه إذا أولج ثم قال: إن جامعتك فأنت طلق، فلبث فإنه لا حنث عليه ولا مهر، فلم يجعلوا اللبث كالإيلاج فى وجوب المهر والحد، وجعلتم اللبث هاهنا كاٌيلاج فى وجوب الكفار، وفى حديث عدى وسهل أن الحكم للمعانى لا للألفاظ، بخلاف قول أهل الظاهر. وقوله: (فعلموا: إنما يعنى الليل والنهار) ، حجة فى أن النهار من طلوع الفجر، وذكر البخارى فى التفسير زيادة فى حديث عدى بن حاتم، قال: (إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين) ، قال الخطابى: وعريض القفا يفسر على وجهين: أحدهما أن يكون كناية عن العبارة أو سلامة الصدر، يقال للرجل الغبى: إنك لعريض القفا. والوجه الآخر: أن يكون أراد إنك غليظ الرقبة وافر اللحم، لأن من أكل بعد الفجر لم ينهكه الصوم ولم يبن له أثر فيه. - باب قَوْلِ النَّبِىِّ: (لا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلالٍ / 22 - فيه: عَائِشَةَ: أَنَّ بِلالا كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُوا وَاشْرَبُوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ لا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ) ، قَالَ الْقَاسِمُ: (وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ أَذَانِهِمَا إِلا أَنْ يَرْقَى ذَا وَيَنْزِلَ ذَا) . معنى حديث عائشة، ومعنى لفظ الترجمة واحد وإن اختلف اللفظ، ولم يصح عند البخارى عن النبى، عليه السلام، حديث لفظ الترجمة، واستخرج معناه من حديث عائشة، ولفظ الترجمة رواه، وكيع عن أبى هلال، عن سوادة بن حنظلة، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله: (لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال، ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير فى الأفق) ، وقال الترمذى: وهو حديث حسن. قال المهلب: والذى يفهم من اختلاف ألفاظ هذا الحديث أن بلالا كانت رتبته وخطئه أن يؤذن بليل على ما أمره به النبى، عليه السلام، من الوقت، ليرجع القائم وينبه النائم، وليدرك السحور منهم من لم يتسحر، وقد روى هذا كله ابن مسعود عن النبى، عليه السلام، فكانوا يتسحرون بعد أذانه. وقال الطحاوى: فى هذا الحديث قرب أذان ابن أم مكنوم من ذانن بلال الذى كان يؤذنه بالليل. قال الداودى: قوله: لم يكن بين أذانيهما إلا أن ينزل ذا ويرقى ذا، وقد قيل له: أصبحت أصبحت، دليل أن ابن أم مكتوم كان يراعى قرب طلوع الفجر أو طلوعه، لأنه لم يكن يكتفى بأذان بلال فى عمل الوقت، لأن بلالا فيما يدل عليه الحديث كان تختلف أوقاته، وإنما حكى من قال: ينزل ذا ويطلع ذا، ما شاهد فى بعض الأوقات، ولو كان فعله لا يختلف اكتفى به النبى، عليه السلام، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 ولم يقل: (كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) ، ولقال: فإذا فرغ بلال فكفوا، ولكنه جعل أول أذا ابن أم مكتوم علامة للكف، ويحتمل أن يكون لابن أم مكتوم من يراعى له الوقت، ولولا ذلك لكان ربما خفى عنه الوقت، ويبين ذلك ما روى ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سالم قال: كان ابن أم مكتوم ضرير البصر، ولم يكن يؤذن حتى يقول له الناس حين ينظرون إلى فروع الفجر: أذن، وقد روى الطحاوى عن على بن معبد، عن روح، عن شعبة، قال: سمعت خبيب بن عبد الرحمن يحدث عن عمته أنيسة، وكانت قد حجت مع النبى أنها قالت: كان إذا نزل بلال وأراد أن يصعد ابن أم مكتوم تعلقوا به وقالوا: كما أنت حتى نتسحر. - بَاب تعجيل السَّحُورِ / 23 - فيه: سَهْلِ قَالَ: (كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِى أَهْلِى، ثُمَّ تَكُونُ سُرْعَتِى أَنْ أُدْرِكَ السُّجُودَ مَعَ النبى، عليه السلام) . قال المهلب: قوله: تعجيل السحور، إنما يريد تعجيل الأكل فيه، لمراهقتهم بالأكل والشرب لآخر الليل ابتغاء القوة على الصوم، ولبيان علم الصبح بالفجر الأول ولم يحتج أن يجعل له حريم مع العلم عليه، وروى مالك عن عبد الله بن أبى بكر، قال: سمعت أبى يقول: (كنا ننصرف فى رمضان فنستعجل الخدم بالطعام مخافة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 الفجر) ، وكان رسول الله يغلس بالصبح ليتمكن من طول القراءة وترتيلها، ليدرك المتفهم التفهم والتدبر، وليمتثل قول الله فى الترتيل والتدبير، ولو ترجم له باب: تأخير السحور لكان حسنًا. - باب قَدْرِ كَمْ بَيْنَ السَّحُورِ وَصَلاةِ الْفَجْرِ / 24 - فيه: زَيْدِ ابْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: (تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السلام، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاةِ، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الأذَانِ وَالسَّحُورِ؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً) . قال المهلب: هذا يدل على تأخير السحور ليتقوى به على الصوم، وإنما كان يؤخره إلى الفجر الأول الذى هو البياض المعترض فى الأفق، ولذلك جعل الله الفجر الأول حدا للأكل بقدر ما يتم أكله ويطلع الفجر الثانى، ولولا هذا الفجر الأول لصعب ضبط هذا الوقت على الناس، فقيل لهم: إذا رأيتم الفجر الأول فهو نذير بالثانى، وهو بأثره بقدر ما يتعجل الأكل وينهض إلى الصلاة. وفيه: دليل على تقدير الأوقات بأعمال الأبدان، والاستدلال على المغيب بالعادة فى العمل، ألا ترى فى حديث طلوع الشمس من مغربها أنه لا يعرف تلك الليلة التى تطلع من صبيحتها إلا المتهجدون بتقدير الليل بمقدار صلاتهم وقراءتهم المعتادة، والعرب تقدر الأوقات بالأعمال، فيقولون: قدر حلب شاة، وفواق ناقة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 - باب بَرَكَةِ السَّحُورِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ؛ لأنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام، وَأَصْحَابَهُ وَاصَلُوا وَلَمْ يُذْكَرِ السَّحُورُ / 25 - فيه: ابن عمر: أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام، وَاصَلَ فَوَاصَلَ النَّاسُ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَنَهَاهُمْ، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ: (لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّى أَظَلُّ أُطْعَمُ وَأُسْقَى) . / 26 - وفيه: أَنَسَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ، عليه السلام: (تَسَحَّرُوا، فَإِنَّ فِى السَّحُورِ بَرَكَةً) . قال ابن المنذر: أجمع العلماء أن السحور مندوب إليه مستحب، ولا مأثم على من تركه، وحض أمته عليه السلام، عليه ليكون قوة لهم على صيامهم، وروى ابن عباس عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (استعينوا بأكل السحر على صيام النهار، وبقائلة النهار على قيام الليل) ، وقد سماه عليه السلام الغداء المبارك من حديث العرباض بن سارية، وروى عمرو بن العاص عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر) ، ذكر هذه الآثار ابن المنذر. وقول البخارى فى هذه الترجمة أن الرسول وأصحابه واصلوا، ولم يذكر سحوره غفلة منه، لأنه قد خرج فى باب الوصال حديث أبى سعيد أن الرسول قال لأصحابه: (أيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر) ، وفهم من ذلك أنه، عليه السلام، أراد قطع الوصال بالأكل فى السحر فحديث أبى سعيد مفسر يقضى على المجمل الذى لم يذكر فيه سحور، وقد ترجم له البخارى باب: الوصال إلى السحر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 - باب إِذَا نَوَى بِالنَّهَارِ صَوْمًا وَقَالَتْ أُمَّ الدَّرْدَاءِ: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: عِنْدَكُمْ طَعَامٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: لا، قَالَ: إِنِّى صَائِمٌ يَوْمِى هَذَا، وَفَعَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَحُذَيْفَةُ. / 27 - فيه: سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ: أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام، بَعَثَ رَجُلا يُنَادِى فِى النَّاسِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ: (إِنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ، أَوْ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلا يَأْكُلْ) . قال المؤلف: عرض البخارى فى هذا الباب إجازة صوم النافلة بغير تبييت، وذكر ذلك عن بعض الصحابة، وقد روى عن ابن مسعود، وأبى أيوب الأنصارى أيضًا إجازة ذلك، وذكره الطحاوى عن عثمان بن عفان، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، كلهم يجيز أن ينوى النافلة بالنهار، واحتجوا بحديث سلمة بن الأكوع هذا وبحديث عائشة بنت طلحة عن عائشة أن النبى، عليه السلام، كان يدخل على بعض أزواجه فيقول: (هل عنكم من غداء؟ فإذا قالوا: لا، قال: فإنى إذا صائم) ، وقال الكوفيون، والشافعى: يجزئه أن ينوى صوم النافلة بعد الزوال. وذهب مالك، وابن أبى ذئب، والليث، والمزنى إلى أنه لا يصح صيام التطوع إلا بنية من الليل كالفرضسواء، وهو مذهب ابن عمر، وعائشة وحفصة، وحجتهم ما رواه الليث عن يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن أبى بكر، عن الزهرى، عن سالم، عن أبيه، عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 حفصة، عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له) قال النسائى: الصواب فى هذا الحديث أنه موقوف، لأن يحيى بن أيوب ليس بالقوى. واحتج ابن القصار بعموم هذا القول، ولم يفرق بين فريضة ولا نافلة، واحتج أيضًا بقوله: (الأعمال بالنيات) ، وكل جزء من النهار الإمساك فيه عمل، فلا يصح بغير نية فى الشرع، ولنا أن نقيس الصيام على الصلاة، لأنه لم يختلف فرضها ونفلها فى باب النية. قالوا فى حديث سلمة بن الأكوع: إن صوم عاشوراء منسوخ فنسخت شرائطه، فلا يجوز رد غيره إليه، وحديث عائشة رواه طلحة بن يحيى، واضطرب فى إسناده، فرواه عنه طائفة عن مجاهد، عن عائشة، وروته طائفة عنه عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين ومنهم من لا يقول فيه: (إذًا) ويقول: (إنى صائم) . قال ابن القصار: يحتمل أن يكون معناه أن يسألهم عليه السلام عن الغداء ليعلم هل عندهم شىء، وهم يظنون أنه يتغدى، وهو ينوى الصوم ليقول لهم: اجعلوه للإفطار، فتسكن نفسه إليه، فلا يتكلف ما يفطر عليه، فلما قالوا له: (لا) قال: (إنى صائم إذا) ، أى أنى كما كنت، أو إنى بمنزلة الصائم، ويحتمل أن يكون عزم على الفطر لعذر وجده، فلما قيل له: ليس عندنا شىء، تمم الصوم، وقال: إنى صائم كما كنت، وإذا احتمل هذا كله لم تخص الظواهر به، والأصول تشهد لما قلنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 واحتج الكوفيون بحديث سلمة بن الأكوع، وقالوا: هو حجة لنا فى أن كل صوم فرض فى وقت معين فإنه لا يحتاج إلى تبييت من الليل كالنذر المعين، ويجوز أن ينوى له بالنهار قبل الزوال، وكل صوم واجب فى الذمة ولا يتعلق بوقت معين فلابد فيه من النية فى الليل، قالوا: ألا ترى أن النبى، عليه السلام، أمر الناس بيوم عاشوراء بعد ما أصبحوا أن يصوموا، وهو يومئذ عليهم فرض كما صار صوم رمضان بعد ذلك على الناس فرضا، وكان تصحيح هذه الأخبار أن يحمل حديث عاشوراء فى صوم الفرض فى اليوم المعين، لأن عاشوراء فرض فى يوم معين كرمضان فرض فى أيام معينة، فلما كان يجزئ صوم عاشوراء من نوى صومه بعد ما أصبح، كذلك شهر رمضان. وقال الأوزاعى: كقول أبى حنيفة، وذهب مالك، والليث، والشافعى، وأحمد إلى أنه لابد فى صوم الفرض من نية متقدمة فى الليل، واحتج ابن القاصر لهم فقال: إنا لا نسلم استدلال من خالفنا بحديث سلمة بن الأكوع أن صوم عاشوراء كان واجبًا، بدليل قوله فيه: (من أكل فليصم) ، فأمر من كان آكلاً بالإمساك، ولم يأمره بالقضاء، ولو كان واجبًا لأمره بقضائه، وقوله عليه السلام: (نحن أحق بصيامه) ، يدل أنه كان على وجه التطوع حين نسخ برمضان، فزال حكمه، ولو قلنا: إن صومه كان واجبًا، لقلنا: إن صومه إنما وجب فى الوقت الذى أمر به، وقد زال ذلك بزواله، فحصلت النية متقدمة عليه، ولا يقاس عليه وسأتقصى الكلام فى صوم عاشوراء فى بابه بعد هذا، إن شاء الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 - باب الصَّائِمِ يُصْبِحُ جُنُبًا / 28 - فيه: عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ: (أَنْ النَّبىُّ، عليه السلام، كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ، وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ) ، وَقَالَ مَرْوَانُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَتُقَرِّعَنَّ بِهَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَمَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَكَرِهَ ذَلِكَ عَبْدُالرَّحْمَنِ، ثُمَّ قُدِّرَ لَنَا أَنْ نَجْتَمِعَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، وَكَانَتْ لأبِى هُرَيْرَةَ هُنَاكَ أَرْضٌ، فَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ لأبِى هُرَيْرَةَ: إِنِّى ذَاكِرٌ لَكَ أَمْرًا وَلَوْلا مَرْوَانُ أَقْسَمَ عَلَىَّ فِيهِ لَمْ أَذْكُرْهُ لَكَ، فَذَكَرَ قَوْلَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ: كَذَلِكَ حَدَّثَنِى الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، وَهُنَّ أَعْلَمُ، وَقَالَ هَمَّامٌ، وَابْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ: (كَانَ النَّبِىُّ، عليه السلام، يَأْمُرُ بِالْفِطْرِ) وَالأوَّلُ أَسْنَدُ. وأجمع فقهاء الأمصار على الأخذ بحديث عائشة، وأم سلمة فى من أصبح جنبًا أنه يغتسل ويتم صومه، وقال ابن المنذر: وروى عن الحسن البصرى فى أحد قوليه أنه يتم صومه ويقضيه، وعن سالم بن عبد الله مثله، واختلف فيه عن أبى هريرة، فأشهر قوليه عند أهل العلم: أنه لا صوم له، وفيه قول ثالث عن أبى هريرة، قال: إذا علم بجنابته ثم نام حتى يصبح فهو مفطر، وإن لم يعلم حتى يصبح فهو صائم. وروى ذلك عن طاوس، وعروة بن الزبير، وعن النخعى قول رابع: وهو أن ذلك يجزئه فى التطوع، ولا يجزئه فى الفرض، واحتجوا بحديث أبى هريرة أن النبى، عليه السلام، قال: (من أصبح جنبًا أفطر ذلك اليوم) ، ولم يقل أحد به من فقهاء الأمصار غير الحسن بن صالح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 واحتج ربيعة بن أبى عبد الرحمن لجماعة الفقهاء بقوله تعالى: (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة: 187] فأباح لنا الأكل والجماع إلى طلوع الفجر، فوجب أن يقع الغسل بعد طلوع الفجر، ولولا أن الغسل إذا وقع بعد طلوع الفجر أجزأ الصوم لما أباح الجماع إلى وقت طلوعه، ذكره ابن القصار. وقال الطحاوى: وحجة الجماعة حديث عائشة وأم سلمة، وأيضًا فإن أبا هريرة الذى روى حديث الفضل قد رجع عن فتياه إلى قول عائشة وأم سلمة، ورأى ذلك أولى مما حدثه به الفضل عن النبى، عليه السلام، وروى منصور عن مجاهد، عن أبى بكر بن عبد الرحمن، أن أنا هريرة رجع عن ذلك لحديث عائشة، وروى محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة أنه نزع عن ذلك أيضًا. قال الطحاوى: والنظر فى ذلك أنا رأيناهم قد أجمعوا أن صائمًا لو نام نهارًا فأجنب أن ذلك لا يخرجه عن صومه، فأردنا أن ننظر هل يكون حكم الجنابة إذا طرأت على الصوم خلاف حكم الصوم إذا طرأ عليها؟ فرأينا الأشياء التى تمنع من الدخول فى الصوم من الحيض والنفاس إذا طرأ ذلك على الصوم، أو طرأ عليه الصوم فهو سواء، ألا ترى أنه ليس لحائض أن تدخل فى الصوم وهى حائض، وأنها لو دخلت فى الصوم طاهرًا ثم طرأ عليها الحيض فى ذلك اليوم أنها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 بذلك خارجة من الصوم، وكان حكم الجنابة إذا طرأت على الصوم لم تبطله بإجماعهم، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك إذا طرأ عليها الصوم لم تمنع من الدخول فيه. وفى حديث الباب من الفقه أن الشىء إذا نوزع فيه وجب رده إلى من يظن علمه عنده، لأن أزواج النبى أعلم الناس بهذا المعنى، وفيه: أن الحجة القاطعة عند الاختلاف فيما لا نص فيه سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وفيه اعتراف العالم بالحق وإنصافه إذا سمع الحجة، وقد ثبت أن أبا هريرة لم يسمع ذلك من النبى، عليه السلام، ففى رواية الزهرى، عن أبى بكر بن عبد الرحمن، عن أبى هريرة أنه قال: حدثنيه الفضل بن عباس، وفى رواية المقبرى، عن أبى هريرة، قال: حدثنيه ابن عباس، وفى رواية عمر بن أبى بكر بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده، عن أبى هريرة، قال: هن أعلم برسول الله منا حدثنيه أسامة بن زيد. ذكره النسائى. - باب الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ فَرْجُهَا. / 29 - فيه: عَائِشَةَ: (كَانَ النَّبِىُّ، عليه السلام، يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ، وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لإرْبِهِ) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَآرِبُ: حَاجَةٌ، قَالَ طَاوُسٌ: أُولِى الإرْبَةِ: الأحْمَقُ لا حَاجَةَ لَهُ فِى النِّسَاءِ. وقال جابر بن زيد: إن نظر فأمنى يتم صومه. والمباشرة والقبلة للصائم حكمهما واحد، وقال أشهب: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 القبلة أيسر من المباشرة، وقال ابن حبيب: المباشرة والملاعبة، والقبلة، وإدامة النظر، والمحادثة تنقص أجر الصائم، وإن لم تفطره. واختلفوا فى المباشرة، فكرهها قوم من السلف، وروى ابن وهب عن ابن أبى ذئب، أن شعبة مولى ابن عباس حدثه أن ابن عباس كان ينهى الصائم عن القبلة، والمباشرة، قال: وأخبرنى رجال من أهل العلم عن ابن عمر مثله، وروى حماد بن سلمة، عن عائشة أنها كرهت ذلك، وروى مثله عن ابن المسيب، وعطاء، والزهرى، ورخص فيه آخرون، روى عن ابن مسعود أنه كان يباشر امرأته نصف النهار، وهو صائم، وعن سعد بن أبى وقاص مثله، وروى أبو قلابة عن مسروق أنه سأل عائشة: ما يحل للرجل من امرأته وهو صائم؟ قالت: كل شىء إلا الجماع، وكان عكرمة يقول: لا بأس بالمباشرة للصائم، لأن الله أحل له أن يأخذ بيدها وأدنى جسدها ولا يأخذ بأقصاه. قال المهلب: وكل من رخص فى المباشرة للصائم فإنما ذلك بشرط السلام مما يخاف عليه من دواعى اللذة والشهوة، ألا ترى قول عائشة عن النبى، عليه السلام: (وكان أملككم لإربه) . ولهذا المعنى كرهها من كرهها، وروى حماد عن إبراهيم، عن الأسيود: (أنه سأل عائشة عن المباشرة للصائم، فكرهتها، فقلت: بلغنى أن النبى، عليه السلام، كان يباشر وهو صائم، فقالت: أجل، إن رسول الله كان أملك لإربه من الناس أجمعين) . وحماد عن داود، عن سعيد، عن ابن عباس أن رجلا قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 له: إنى تزوجت ابنة عم لى جميلة فبنيت فى رمضان، فهل لى إن قبلتها من سبيل؟ قال: هل تملك نفسك؟ قال: نعم. قال: قبل. قال: فهل لى إلى مباشرتها من سبيل؟ قال: هل تملك نفسك؟ قال: نعم. قال: فباشر. قال: فهل لى أن أضرب بيدى على فرجها من سبيل؟ قال: هل تملك نفسك؟ قال: نعم. قال: فاضرب. وقال مالك فى المختصر: لا أحب للصائم فى فرض أو تطوع أن يباشر أو يقبل، فإن فعل ولم يمذ فلا شىء عليه، فإن أمذى فعليه القضاء، وهو قول مطرف، وابن الماجشون، وأحمد بن حنبل، وقال بعض البغداديين من أصحاب مالك: القضاء فى ذلك عندنا استحباب، وروى عيسى عن ابن القاسم أنه إن أنعظ وإن لم يمذ فإنه يقضى، وأنكره سحنون، وهو خلاف قول مالك، وقال أبو حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأبو ثور: لا شىء عليه إذا أمذى، وهو قول الحسن والشعبى، وحجتهم أن اسم المباشرة ليس على ظاهره، وإنما هو كناية عن الجماع، ولم يختلف العلماء أن قوله تعالى: (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ (يراد به الجماع، فكل مباشرة اختلفوا فيها فالواجب ردها إلى ما أجمعواعليه منها. واختلفوا إذا باشر أو جامع دون الفرج فأمنى، فقال أبو حنيفة والثورى والشافعى: عليه القضاء فقط، لأن الكفارة إنما تجب عندهم بالإيلاج فى الفرج والجماع التام، وقال عطاء: عليه القضاء مع الكفارة، وهو قول الحسن البصرى، وابن شهاب، ومالك، وابن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 المبارك، وأبى ثور، وإسحاق، وحجة هذا القول أنه إذا باشر أو جامع دون الفرج فأنزل فقد حصل المعنى المقصود من الجماع، لأن الإنزال أقصى ما يطلب من الالتذاذ، وهو من جنس الجماع التام فى إفساد الصوم، فقد وجبت فيه الكفارة. - باب الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: إِنْ نَظَرَ فَأَمْنَى يُتِمُّ صَوْمَهُ. / 30 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَيُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ ضَحِكَتْ) . / 31 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: (بَيْنَا أَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، عليه السلام، فِى الْخَمِيلَةِ؛ إِذْ حِضْتُ فَانْسَلَلْتُ، فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِى، فَقَالَ: (مَا لَكِ أَنَفِسْتِ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَخَلْتُ مَعَهُ فِى الْخَمِيلَةِ، وَكَانَتْ هِىَ وَرَسُولُ اللَّهِ يَغْتَسِلانِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ) . قال ابن المنذر: اختلف العلماء فى القبلة للصائم، فرخص فيها جماعة، روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وأبى هريرة، وابن عباس، وعائشة، وبه قال عطاء، والشعبى، والحسن، وهو قول أحمد، وإسحاق، وقال ابن مسعود: إن قبل وهو صائم صام يومًا مكانه، قال الثورى: وهذا لا يؤخذ به، وكره ابن عمر القبلة للصائم، ونهى عنها، وقال عروة: لم أر القبلة للصائم تدعو إلى خير، وذكر الطحاوى عن شعبة، عن عمران بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 مسلم، عن زاذان، عن عمر بن الخطاب قال: لأن أعض على جمرة أحب إلىّ من أن أقبل وأنا صائم، وروى الثورى عن عمران بن مسلم، عن زاذان، عن ابن عمر مثله، وذكر عن سعيد بن المسيب، قال: الذى يقبل امرأته وهو صائم ينقض صومه، وكره مالك القبلة للشيخ والشاب، وأخذ بقول ابن عمر، وأباحتها فرقة للشيخ وحظرتها على الشاب، روى ذلك عن ابن عباس، ورواه مورق عن ابن عمر، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى. قال الطحاوى: فأما ما روى عن ابن مسعود فقد روى عنه خلافه، روى إسرائيل عن طارق، عن حكيم بن جابر، عن ابن مسعود أنه كان يباشر امرأته وهو صائم، وما ذكره من قول سعيد أنه ينقض صومه فإن ما روى عن رسول الله أنه كان يقبل وهو صائم، أولى من قول سعيد، فلو قال قائل: إنما خص به رسول الله، ألا ترى قول عائشة: (وأيكم كان أملك لإربه من رسول الله) قيل: إن قولها هذا إنما هو على أنها لا تأمن عليهم، ولا يأمنون على أنفسهم ما كان رسول الله يأمن على نفسه، لأنه محفوظ، والدليل على أن القبلة عندها لا تفظر الصائك ما قد رويناه عنها أنها قالت: (ربما قبلنى رسول الله وباشرنى وهو صائم، وأما أنتم فلا بأس للشيخ الكبير الضعيف) ، رواه عمرو بن حريث، عن الشعبى، عن مسروق، عنها، أرادت به أنه لا يخاف من إربه، فدل ذلك أن من لم يخف من القبلة شيئًا وأمن على نفسه أنها له مباحة، وقالت مرة أخرى حين سئلت عن القبلة للصائم، فقالت جوابًا لذلك: (كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 رسول الله يقبل وهو صائم) ، فلو كان حكم رسول الله عندها فى ذلك بخلاف حكم غيره من الناس، لما كان ما علمته من فعل رسول الله جوابًا لما سئلت عنه من فعل غيره. ويبين ذلك ما رواه مالك عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: أن رجلا قبل امرأته وهو صائم، فوجد من ذلك وجدًا شديدًا، فأرسل امرأته تسأل له عن ذلك، فدخلت على أم سلمة زوج النبى فذكرت ذلك لها، فأخبرتها أم سلمة أن رسول الله كان يقبل وهو صائم، فرجعت فأخبرت ذلك زوجها، فزاده شرا، وقال: لسنا مثل رسول الله، يحل الله لرسوله ما شاء، ثم رجعت المرأة إلى أم سلمة فوجدت رسول الله فأخبرته، فغضب رسول الله، وقال: والله إنى لأتقاكم لله، وأعلمكم بحدوده) . فدل هذا المعنى استواء حكم رسول الله وسائر الناس فى حكم القبلة إّا لم يكن معها الخوف على ما بعدها مما تدعو إليه، ولهذا المعنى كرهها من كرهها، وقال: لا أراها تدعو إلى خير، يريد إذا لم يأمن على نفسه، ليس لأنها حرام عليه، ولكن لا يأمن إذا فعلها أن تغلبه شهوته فيقع فيما يحرم عليه، فإذا ارتفع هذا المعنى كانت مباحة. وقال أبو حنيفة والثورى والأوزاعى والشافعى: إن من قبل فأمذى فلا قضاء عليه، وإن نظر فأمنى لم ينقض صومه، وإن قبل أو لمس فأمنى أفطر ولا كفارة عليه، لأن الكفارة عندهم لا تجب إلا على من أولج فأنزل، وقال مالك: إن قبل فأنزل فعليه القضاء والكفارة، وكذلك إن نظر فتابع النظر، لأن الإنزال هو المبتغى من الجماع، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 وسواء أكان بإيلاج أو غيره، قال: فإن قبل فأمذى، أو نظر فأمذى فعليه القضاء، ولا كفارة عليه ولا قضاء فى ذلك عند الكوفيين، والأوزاعى، والشافعى على ما تقدم فى الباب قبل هذا. - باب اغْتِسَالِ الصَّائِمِ وَبَلَّ ابْنُ عُمَرَ ثَوْبًا فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ صَائِمٌ، وَدَخَلَ الشَّعْبِىُّ الْحَمَّامَ وَهُوَ صَائِمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لا بَأْسَ أَنْ يَتَطَعَّمَ الْقِدْرَ أَوِ الشَّيْءَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لا بَأْسَ بِالْمَضْمَضَةِ وَالتَّبَرُّدِ لِلصَّائِمِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلْيُصْبِحْ دَهِينًا مُتَرَجِّلا. وَقَالَ أَنَسٌ: إِنَّ لِى أَبْزَنَ أَتَقَحَّمُ فِيهِ وَأَنَا صَائِمٌ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَسْتَاكُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ، قِيلَ لَهُ طَعْمٌ قَالَ: وَالْمَاءُ لَهُ طَعْمٌ، وَأَنْتَ تتمَضْمِضُ بِهِ، وَلَمْ يَرَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ بِالْكُحْلِ لِلصَّائِمِ بَأْسًا. / 32 - فيه: عَائِشَةُ وأُمِّ سَلَمَةَ: (كَانَ النَّبِىُّ، عليه السلام، يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ فِى رَمَضَانَ جنبًا مِنْ غَيْرِ حُلْمٍ، فَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ) . وذكر الطحاوى عن الكوفيين أن الصائم لا يفطره الانغماس فى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 الماء، ولم يذكروا كراهية، وقال الليث والشافعى: لا بأس به، وذكر الطحاوى عن مالك أنه كرهه، وروى ابن القاسم عن مالك فى المجموعة أنه لا بأس أن يغتسل الصائم ويتمضمض من العطش خلاف ما ذكره الطحاوى. وقال الحسن بن حى: يكره الانغماس فيه إذا صب على رأسه وبدنه، ولا يكره أن يستنقع فيه، وحديث عائشة وأم سلمة حجة على من كره ذلك، وروى مالك: عن سمى مولى أبى بكر، عن أبى بكر بن عبد الرحمن، عن بعض أصحاب النبى، عليه السلام: (أن النبى خرج فى رمضان يوم الفتح صائمًا، فلما أتى العرج شق عليه الصيام، فكان يصب على رأسه الماء وهو صائم) . وقال الحسن: رأيت عثمان بن أبى العاص بعرفة وهو صائم يمج الماء ويصب على رأسه. وأما ذوق الطعام للصائم، فقال الكوفيون: إذا لم يدخل حلقه لا يفطره وصومه تام، وهو قول الأوزاعى، وقال مالك: أكرهه ولا يفطره إن لم يدخل حلقه، وهو قول الشافعى، وقال ابن عباس: لا بأس أن تمضغ الصائمة لصبيها الطعام، وهو قول الحسن البصرى، والنخعى، وكره ذلك مالك، والثورى، والكوفيون، وقال الكوفيون: إلا لمن لم تجد بدا من ذلك. وأما الدهن للصائم فاستحبته طائفة، روى عن قتادة أنه قال: يستحب للصائم أن يدهن حتى تذهب عنه غبرة الصوم، وأحازة الكوفيون والشافعى، وقال: لا بأس أن يدهن الصائم شاربه، وممن أجازة الدهن للصائم مطرف: وابن عبد الحكم وأصبغ، ذكره ابن حبيب، وكرهه ابن أبى ليلى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 واختلفوا فى الكحل للصائم، فرخص فيه ابن أبى أوفى، وعطاء، والشعبى، والزهرى، وهو قول أبى حنيفة، والأوزاعى، والليث، والشافعى، وأبى ثور، وحكاه ابن حبيب عن مطرف، وابن عبد الحكم، وأصبغ، وقال ابن الماجشون: لا بأس بالكحل بالإثمد للصائم، وليس ذلك مما يصام منه، ولو كان ذلك لذكروه كما ذكروا فى المحرم، وأما الكحل الذى يعمل بالعقاقير، ويوجد طعمه، ويخرق إلى الجوف فأكرهه، والإثمد لا يوجد طعمه وإن كان ممسكًا، وإنما يوجد من المسك طعم ريحه لا طعم ذوقه. ورخص فى الإثمد قتادة، وقال ابن أبى ليلى وابن شبرمة: إن اكتحل الصائم قضى يومًا مكانه، وكرهه الثورى وأحمد وإسحاق، وفى المدونة: لا يكتحل الصائم، فإن اكتحل بإثمد أو صبر أو غيره فوصل إلى حلقه يقضى يومًا مكانه، وكره قتادة الاكتحال بالصبر، وأجازه عطاء والنخعى، وسيأتى اختلاف العلماء فى السواك الرطب واليابس فى بابه بعد هذا، إن شاء الله، ويأتى اختلافهم فى المضمضة والاستنشاق للصائم إذا دخل الماء إلى حلقه فى بابه بعد هذا إن شاء الله. - باب الصَّائِمِ إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا قَالَ عَطَاءٌ: إِنِ اسْتَنْثَرَ، فَدَخَلَ الْمَاءُ فِى حَلْقِهِ فلا بَأْسَ إِنْ لَمْ يَمْلِكْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ دَخَلَ حَلْقَهُ الذُّبَابُ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: إِنْ جَامَعَ نَاسِيًا فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 / 33 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ، عليه السلام: (إِذَا نَسِىَ فَأَكَلَ وَشَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ) . قال ابن المنذر: اختلف العلماء فى الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا، فقالت طائفة: فلا شىء عليه، روينا هذا القول عن على، وابن عمر، وأبى هريرة، وعطاء، وطاوس، والنخعى، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأبو ثور، وأحمد، وإسحاق واحتجوا بهذا الحديث وقالت طائفة: عليه القضاء، هذا قول ربيعة، ومالك، وسعيد بن عبد العزيز، واحتج له ربيعة فقال: ما نعلم ناسيًا لشىء من حقوق الله إلا وهو عائد له. قال ابن القصار: والأكل مناف للصوم، وقد تقرر أنه لو أكل وعنده أن الفجر لم يطلع، وكان قد طلع إن عليه القضاء، كذلك إذا وقع فى خلاف الصوم، ولا فرق بين أن يظن أنه يأكل قبل الفجر أو يظن أنه يأكل فى يوم من شعبان أو شوال أن عليه القضاء، واحتج مالك لذلك بقول عمر بن الخطاب: الخطب يسير وقد اجتهدنا. قال مالك: ولا شك أن عمر قضى ذلك اليوم، وذكره ابن وهب، قال ابن المنذر: وحجة القول الأولقوله عليه السلام فىلا من أكل أو شرب ناسيًا أنه يتم صومه، وغير جائز أن يأمر من هذه صفته أن يتم صومه فيتمه ويكون غير تام، هذا يستحيل وإذا أتمه فهو صوم تام ولا شىء على من صومه تام. قال المؤلف: فعارض هذا أهل المقالة الثانية وقالوا: أما قوله: (فليتم صومه) ، فمعناه أنه لما كان قبل أكله داخلا فى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 صوم جاز أن يقال له: تتم صومك الذى كنت دخلت فيه، وعليك القضاء، لأنك مفطر قاله ابن القصار، وقال المهلب: معنى قوله (فإن الله أطعمه وسقاه) ، إثبات عذر الناسى وعلة لسقوط الكفارة عنه، وأن النسيان، لا يرفع نية الصوم التى بيتها، فأمره عليه السلام بإتمام العمل على النية، وأسقط عنه الكفارة، لأنه ليس كالمنتهك العامد، ووجب عليه القضاء بنص كتاب الله تعالى وهو قوله: (فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185] ، فإن قيل: إنه لم ينقل فى الحديث القضاء، فلا قضاء عليه، قيل: يجوز ألا يشكل القضاء على السائل أو ذكره، ولم ينقل كما لم ينقل فى حديث الذى وطئ أهله فى رمضان القضاء عليه ولا على امرأته، فلا تعلق لهم بهذا. قال ابن القصار: وليس معكم أن قوله عليه السلام: (فإن الله أطعمه وسقاه) كان فى رمضان، فيحمل الحديث على صوم التطوع، وأنه يكون بذلك مفطرًا، ولا قضاء عليه. وكذلك اختلفوا فيمن جامع ناسيًا فى شهر رمضان، فقالت طائفة: لا شىء عليه. قال ابن المنذر: روينا هذا عن الحسن، ومجاهد، وبه قال الثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وإسحاق، وأبو ثور، وقالت طائفة: عليه القضاء، روينا هذا عن ابن عباس، وعطاء، وهو قول مالك والليث، والأوزاعى، وفيه قول ثالث: وهو أن عليه القضاء والكفارة، وهو قول ابن الماجشون، وأحمد بن حنبل، ورواية ابن نافع عن مالك، واحتج ابن الماجشون بأن الذى قال للنبى، عليه السلام: (وطئت أهلى) لم يذكر عمدًا ولا سهوًا، فالناسى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 والعامد سواء، واختاره ابن حبيب. قال ابن القصار: واستدلاله بهذا على وجوب الكفارة خطأ، لأنه عليه السلام، أوجب عليه الكفارة لعمده، ألا ترى أنه قال له: (هلكت) فلحقه المأثم، والناسى لا يكون هالكًا، لأنه لا مأثم عليه، وهذا خلاف الإجماع فلا يعتد به، وكفارة رمضان إنما تتعلق بالمأثم، بدلالة سقوطها عن الحائض والمسافر والمريض، والناسى أعذر منهم. وقال ابن المنذر: فى قول الرجل للنبى، عليه السلام: (احترقت) ، وترك النبى إنكار ذلك عليه أبين البيان أنه كان عامدًا، لإجماعهم على سقوط المأثم عمن جامع ناسيًا، ويدل على ذلك قول الرسول: (أين المحترق؟) وغير جائز أن توجب السنة على من وطئ ناسيًا مأثمًا، وإجماع الناس على ارتفاع المأثم عنه. وأما الذباب يدخل حلق الصائم، فروى عن ابن عباس أنه لا شىء عليه، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. قال ابن المنذر: ولم يحفظ عن غيرهم خلافهم. قال ابن القصار: سبق الذباب إلى الحلق لا يمكن التحرز منه، وهو كغبار الطريق والدقيق فلم يكلفه. قال ابن المنذر: وهذا يلزم مالكًا حين أوجب على المرأة توطأ مستكرهة القضاء والكفارة ويلزم من أوجب عليها القضاء، ومن أسقط القضاء عمن دخل حلقه الذباب مغلوبًا عليه لزمه أن يقول مثله فى المرأة التى يستكرهها زوجها أو يأتيها وهى نائمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 - باب السِوَاكِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ لِلصَّائِمِ وَيُذْكَرُ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ: (رَأَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السلام، يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ مَا لا أُحْصِى، أَوْ أَعُدُّ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِىِّ: (السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ) . وَقَالَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ: يَبْتَلِعُ رِيقَهُ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِى لأمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ) ، وَيُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ جَابِرٍ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ النَّبِىِّ، عليه السلام، وَلَمْ يَخُصَّ الصَّائِمَ مِنْ غَيْرِهِ. / 34 - وفيه: (عُثْمَانَ أَنَّه تَوَضَّأَ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ ثَلاثًا، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ) الحديث. واختلف العلماء فى السواك للصائم فى كل وقت من النهار، فأجازه الجمهور، قال مالك أنه سمع أهل العلم لا يكرهون السواك للصائم فى أى ساعات النهار شاء غدوة وعشية، ولم يسمع أحدًا من أهل العلم يكره ذلك ولا ينهى عنه، وقد روى ذلك عن عائشة، وابن عمر، وابن عباس، وبه قال النخعى، وابن سيرين، وعروة، والحسن، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وقال عطاء: أكرهه بعد الزوال إلى آخر النهار من أجل الحديث فى خلوف فم الصائم، وهو قول مجاهد، وإليهخ ذهب الشافعى، وأحمد، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 وإسحاق، وأبو ثور، وحجة القول الأول ما نزعه البخارى من قوله عليه السلام: (لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء) ، وهذا يقتضى إباحته فى كل وقت، وعلى كل حال، لأنه لم يخص الصائم من غيره، وهذا احتجاج حسن لا مزيد عليه. واحتج ابن المنذر بهذا الحديث فى إباحة السواك للمحرم، وقال: هو داخل فى عموم هذا الحديث، قال: ولا أعلم أحدًا من أهل العلم منع المحرم من السواك واختلفوا فى السواك بالعود الرطب للصائم، فرخصت فيه طائفة، روى ذلك عن ابن عمر، وإبراهيم، وابن سيرين، وعروة، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأبى ثور، وكرهت طائفة السواك الرطب، روى ذلك عن الشعبى، وقتادة، والحكم، وهو قول مالك، وأحمد، وإسحاق، والحجة لمن أجاز الرطب أمره عليه السلام، بالسواك عند كل وضوء، كما لم يخص الصائم من غيره بالإباحة، كذلك لم يخص السواك الرطب من غيره بالإباحة، فدخل فى عموم الإباحة كل جنس من السواك رطبًا أو يابسًا، ولو افترق حكم الرطب واليابس فى ذلك لبينه عليه السلام، لأن الله فرض عليه البيان لأمته، وحديث عثمان فى الوضوء حجة واضحة فى ذلك وهو انتزاع ابن سيرين حين قال: لا بأس بالسواك الرطب، قيل: له طعم. قال: والماء له طعم، وأنت تتمضمض به، وهذا لا انفكاك منه، لأن الماء أرق من ريق المتسوك وقد أباح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 الله المضمضة بالماء فى الوضوء للصائم، وإنما كرهه من كرهه خشية من ألا يعرف أن يحترس من ازدراد ريقه، قال ابن حبيب: من استاك بالأخضر ومج من فيه ما اجتمع فى فيه، فلا شىء عليه، ولا بأس به للعالم الذى يعرف كيف يتقى ذلك، ومن وصل من ريقه إلى حلقه شىء فعليه القضاء. - باب قَوْلِ النَّبِىِّ عليه السلام: (إِذَا تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرِهِ الْمَاءَ) ، وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الصَّائِمِ وَغَيْرِهِ وَقَالَ الْحَسَنُ: لا بَأْسَ بِالسَّعُوطِ لِلصَّائِمِ، إِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى حَلْقِهِ وَيَكْتَحِلُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ تَمَضْمَضَ ثُمَّ أَفْرَغَ مَا فِى فِيهِ مِنَ الْمَاءِ لا يَضِرُهُ، إِنْ لَمْ يَزْدَرِدْ رِيقَهُ وَمَاذَا بَقِىَ فِى فِيهِ، وَلا يَمْضَغُ الْعِلْكَ فَإِنِ ازْدَرَدَ رِيقَ الْعِلْكِ لا أَقُولُ أَنَّهُ يُفْطِرُ، وَلَكِنْ يُنْهَى عَنْهُ. اختلف العلماء فى الصائم يتمضمض أو يستنشق أو يستنثر فيدخل الماء فى حلقه، فقالت طائفة: صومه تام ولا شىء عليه، هذا قول عطاء وقتادة فى الاستنثار، وبه قال أحمد وإسحاق، وقال الحسن: لا شىء عليه إن مضمض فدخل الماء فى حلقه. وهو قول الأوزاعى، وكان الشافعى يقول: لو أعاد احتياطًا، ولا يلزمه أن يعيد. وقال أبو ثور: لا شىء عليه فى المضمضة والاستنشاق. وإلى هذا ذهب البخارى، وقالت طائفة: يقضى يومًا مكانه. وهذا قول مالك والثورى، وقال أبو حنيفة وأصحابه فى المضمضة: إن كان ذاكرًا لصومه قضى، وإن كان ناسيًا فلا شىء عليه. وفرق آخرون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 بين المضمضة للصلاة المكتوبة والنافلة، فأوجبوا القضاء فى النافلة وأسقطوه فى المكتوبة، روى هذا عن ابن عباس، والنخعى، وابن أبى ليلى، قال ابن القصار: وحجة من أوجب القضاء أنه ليس المضمضة والاستنشاق هما الموصلان الماء إلى جوفه، وإنما توصله المبالغة، والاحتراز منها ممكن فى العادة، وإن لم يبالغ فالمضمضة سبب ذلك أيضًا، وهذا بمنزلة القبيلة إذا حصل معها الإنزال سواء كانت القبلة مباحة أو غير مباحة، لأنه لما كانت القبلة مع الإنزال تفطر، كذلك المضمضة مع الازدراد، وأظن أبا حنيفة إنما فرق بين الذاكر لصومه والناسى على أصله فى كل من أكل ناسيًا فى رمضان أنه لا شىء عليه، وقد تقدم ذلك فى باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا، فأغنى عن إعادته، ولا معنى لقول من فرق بين الوضوء للمكتوبة والنافلة بغير دليل ولا حجة. وأما السعوط للصائم فذهب الثورى، وأبو حنيفة، وأصحابه، والأوزاعى، وإسحاق إلى أنه إذا استعط فعليه القضاء، يعنون إذا احتاج إليه للتداوى، وقال مالك: إذا وصل ذلك إلى فمه لضرورته إلى التداوى به فعليه القضاء. وقال الشافعى: إذا وصل طعم ذلك إلى دماغه عليه القضاء، غير أن أل الشافعى أنه لا كفارة على من أكل عمدًا، قال إسحاق: إن دخل حلقه عليه القضاء والكفارة، قال ابن المنذر: وقال قائل: لا قضاء عليه، وقد روينا عن النخعى روايتين: إحداهما كراهية السعود، والأخرى الرخصة فيه. قال المؤلف: والحجة المتقدمة لمن أوجب القضاء فى المضمضة إذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 أوصل الماء منها إلى الجوف، هى الحجة فى إيجاب القضاء عن السعود إذا وصل ذلك فمه أو جوفه. قال ابن المنذر: وحجة من لم ير القضاء فى ذلك أن القضاء إلزام فرض، ولا يجب ذلك إلا بسنة أو إجماع، وذلك غير موجود، وما حكاه البخارى عن عطاء أنه إن مضمض ثم أفرغ ما فى فيه لم يضره أن يزدرد ريقه وما بقى فى فيه، فلا يوهم هذا أن عطاء يبيح أن يزدرد ما بقى فى فيه من الماء الذى تمضمض به، وإنما أراد أنه إذا مضمض ثم أفرغ ما فى فيه من الماء أنه لا يضره أن يزدرد ريقه خاصة، لأنه لا ماء فى فيه بعد تفريغه له، قال عطاء: وماذا بقى فى فيه؟ هكذا رواه عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عطاء، وأظنه سقط (ذا) للناسخ، والله أعلم. قال ابن المنذر: وأجمعوا أنه لا شىء على الصائم فى ما يزدرده مما يجرى مع الريق مما بين أسنانه من فضل سحور أو غيره مما لا يقدر على إخراجه وطرحه، وكان أبو حنيفة يقول: إذا كان بين أسنانه لحم فأكله متعمدًا فلا قضاء عليه ولا كفارة، وفى قول سائر أهل العلم إما عليه القضاء والكفارة أو القضاء على حسب اختلافهم فيمن أكل عامدًا فى الصيام، قال ابن المنذر: هو بمنزلة الأكل فى الصوم فعليه القضاء. واختلفوا فى مضغ العلك للصائم، فرخصت فيه طائفة، روى ذلك عن عائشة وعطاء، وقال مجاهد: كانت عائشة ترخص فى الغار وحده، وكرهت ذلك طائفة، روى ذلك عن النخعى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 والشعبى، وعطاء، والكوفيين، والشافعى، وأشهب، وأحمد، وإسحاق، إلا أنه لا يفطر ذلك عند الكوفيين والشافعى، وإسحاق، ولم يذكر عنهم ابن المنذر الفرق بين مجه وازدراده، وعند أصحاب مالك إن مجه فلا شىء عليه، وإن ازدرده فقد أفطر. - باب إِذَا جَامَعَ فِى رَمَضَانَ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: (مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلا مَرَضٍ، لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ) . وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِىُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَقَتَادَةُ، وَحَمَّادٌ: يَقْضِى يَوْمًا مَكَانَهُ. / 35 - فيه: عَائِشَةَ: (إِنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىَّ، عليه السلام، فِى رَمَضَانَ، فَقَالَ له إِنَّهُ احْتَرَقَ، قَالَ: (مَا لَكَ) ؟ قَالَ: أَصَبْتُ أَهْلِى فِى رَمَضَانَ، فَأُتِىَ النَّبِىُّ، عليه السلام، بِمِكْتَلٍ يُدْعَى الْعَرَقَ، فَقَالَ: (أَيْنَ الْمُحْتَرِقُ) ؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ: (تَصَدَّقْ بِهَذَا) . اختلف العلماء فيما يجب على الواطىء عامدًا فى نهار من شهر رمضان، فذكر البخارى عن جماعة من التابعين أن على من أفطر القضاء فقط بغير كفارة، قال المؤلف: فنظرت أقوال التابعين الذين ذكرهم البخارى فى صدر هذا الباب فى المصنفات، فلم أر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 قولهم بسقوط الكفارة إلا فى المفطر بالأكل لا فى المجامع، فيحتمل أن يكون عندهم الآكل والمجامع سواء فى سقوط الكفارة، إذ كل ما أفسد الصيام من أكل وشرب أو جماعة فاسم فطر يقع عليه، وفاعله مفطر بذلك من صيامه، وقد قال عليه السلام، فى ثواب الصائم: (قال الله تعالى: يدع طعامه وشرابه، وشهوته من أجلى) ، فدخلت فى ذلك أعظم الشهوات، وهى شهوة الجماع. وذكر عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب: ن كل من أكل فى شهر رمضان عامدًا عليه صيام شهر، وذكر عن ابن سيرين: عليه صيام يوم، وأوجب جمهور الفقهاء على المجامع عامدًا الكفارة والقضاء، هذا قول مالك، وعطاء، والثورى، وأبى حنيفة، وأصحابه، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بإعطاء النبى للمحترق المكتل ليتصدق به، قالوا: فثبت بهذا الخبر الكفارة على المجامع، ولا وجه لقول من لم ير الكفارة فى ذلك لخلافهم السنة الثابتة والجمهور، وقد تقدم فى (باب: من أكل وشرب ناسيًا) ، أن فى قول الرجل: إنه احترق، دليلاً أنه كان عامدًا منتهكًا فى وطئه، لأن الله قد رفع الحرج عن السهو والخطأ، ويؤيد هذا قوله عليه السلام: (أين المحترق؟) فأثبت له حكم العمد بهذا، لأنه لا ينطق عن الهوى. وذكر الطحاوى فى (شرح معانى الآثار) ، قال: ذهب قوم إلى أن من وقع بأهله فى رمضان فعليه أن يتصدق، ولا يجب عليه من الكفارة غير ذلك، واحتجوا بهذا الحديث. ولم يسم القائلين بذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 وحديث أبى هريرة أول منه، لأنه قد كان قبل الذى فى حديث عائشة شىء حفظه أبو هريرة ولم تحفظه عائشة، فهو ألو لما زاد فى الحديث من العتق والصيام، فأما قول البخارى: ويذكر عن أبى هريرة: (من أفطر يومًا من رمضان متعمدًا لم يقضه صيام الدهر) ، فرواه الثورى عن حبيب بن أبى ثابت، عن ابن المطوس، عن أبيه، عن أبى هريرة، عن النبى، عليه السلام، وهو حديث ضعيف لا يحتج بمثله، وقد صضحت الكفارة بأسانيد صحاح، ولا تعارض بمثل هذا الحديث، وقال البخارى فى التاريخ: تفرد أبو المطوس بهذا الحديث، ولا نعرف له غيره، ولا أدرى سمع أبوه من أبى هريرة أم لا، واسمه: يزيد بن المطوس. واختلفوا فيمن أكل عامدًا فى رمضان، فقال مالك: وأبو حنيفة، والثورى، والأوزاعى، وأبو ثور، وإسحاق: عليه ما على المجامع من الكفارة مع القضاء، وهو قول عطاء، والحسن، والزهرى، وقال الشافعى، وأحمد بن حنبل: عليه القضاء دون الكفارة، وهو قول النخعى، وابن سيرين، وقالوا: إن الكفارة إنما وردت فى المجامع خاصة، وليس الآكل مثله بدليل قوله عليه السلام: (من استقاء فعليه القضاء) ، وهو مفطر عمدًا، وكذلك مزدرد الحصى عمدًا عليه القضاء، وحجة من أوجب الكفارة أن الأكل والشرب فى القياس كالجماع سواء، وأن الصوم فى الشريعة الامتناع من الأكل والشرب والجماع، فإذا ثبت فى الشريعة فى وجه واحد منهما حكم فسبيل نظيره فى ذلك الحكم سبيله، لأن المعنى الجامع بينهما انتهاك حرمة الشهر بما يفسد الصوم عمدًا، وذلك أن الأكل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 والجماع كانا محرمين فى ليل الصوم بعد النوم، فنسخ الله ذلك رفقًا بعباده، وأباح الجماع والأكل إلى الفجر، وقال تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ) [البقرة: 187] ، فبقى الأكل والجماع بالنهار محرمين، وأوجب عليه السلام على الواطئ فى رمضان الكفارة، فوجب أن يكون حكم الأكل فى الكفارة مثله، إذ هما فى التحريم سواء. وأما قوله عليه السلام: (من استقاء فعليه القضاء) ، فقد ثبت بقوله: عليه القضاء أنه مفطر، فإن كان استقاء لحاجة دعته إلى ذلك، فهو كالعليل الذى يحتاج إلى شرب الدواء، وهو مفطر غير مأثوم ولا ممنوع، فلا كفارة عليه، وإن كان لغير حاجة فهو منتهك لحركة الصوم، فعليه الكفارة، وقد أوجب عطاء على المستقىء عمدًا لغير عذر القضاء والكفارة، وهو قول أبى ثور، ويدخل على الشافعى التناقض فى قياسه الأكل على القىء، لأنه فرق بين الأكل والقىء فى المكره، فقال: إذا أكره على الأكل فعليه القضاء، وإن أكره على القىء فلا قضاء عليه، فيلزمه أن يفرق فى الصيام بين القىء والأكل والجماع، ولا يجمع بينها. وقد اختلف الفقهاء فى قضاء ذلك اليوم مع الكفارة، قال مالك: عليه قضاء ذلك اليوم مع الكفارة، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، والثورى، وأبى ثور، وأحمد، وإسحاق، وقال الأوزاعى: إن كفر بالعتق أو الإطعام صام يوًا مكان ذلك اليوم الذى أفطر، وإن صام شهرين متتابعين دخل فيهما قضاء ذلك اليوم، وقال الشافعى: يحتمل أن تكون الكفارة بدلا من الصيام، ويحتمل أن يكون الصيام مع الكفارة، وأحب إلى أن يكفر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 ويصوم، وحجة من أوجب صوم اليوم مع الكفارة أن الكفارة عقوبة للذنب الذى ركبه، والقضاء بدل من اليوم الذى أفسده، فكما لا يسقط عن المفسد حجه بالوطء إذا أهدى البدن، فكذلك قضاء اليوم، والله أعلم. واعتل من لم يَرَ مع الكفارة صيام اليوم بأنه ليس فى حديث عائشة ولا خبر أبى هريرة فى نقل الحفاظ ذكر القضاء، وإنما فيهما الكفارة فقط، فيقال له: قد روى عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: (أن أعرابيا جاء ينتف شعره، وقال: يا رسول الله، وقعت على امرأتى فى رمضان، فأمره رسول الله أن يقضى يومًا مكانه) ، وهو من مرسلات سعيد بن المسيب، وهى حجة عند الفقهاء، وكتاب الله يشهد بصحته، وهو قوله تعالى: (فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185] ولا تبرأ الذمة إلا بيقين الأداء وهو قضاء اليوم مع الكفارة. واختلفوا فى مقدار الكفارة، فقال مالك والشافعى: الإطعام فى ذلك مد لكل مسكين بمد النبى، عليه السلام، وقال أبو حنيفة: إن أخرج من البر فنصف صاع لكل مسكين، ومن التمر والشعير صاع، والحجة لمالك أن العرق الذى فى الحديث مبلغه خمسة عشر صاعًا، وذلك ستون مدا. وروى ابن المنذر عن مؤمل بن إسماعيل، حدثنا سفيان، عن منصور، عن الزهرى، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبى هريرة: أن رجلا أتى النبى فقال: يا رسول الله، إنى وقعت على امرأتى فى رمضان؟ فقال: (أعتق رقبة) ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 قال: لا أجد، قال: (صم شهرين متتابعين) ، قال: لا أستطيع، قال: (أطعم ستين مسكينًا) ، قال: لا أجد، فأتى النبى، عليه السلام، بمكتل فيه خمسة عشر صاعًا، قال: (خذ هذا فأطعمه عنك) الحديث. قال ابن المنذر: فقد أمر النبى، عليه السلام، الواقع على أهله فى رمضان بعد أن أعلمه أن الذى يجب على من لا يجد الرقبة إطعام ستين مسكينًا أن يتصدق بخمسه عشر صاعًا من تمر، وذلك مد لكل مسكين، وفى إعطاء الرسول للرجل الصاع ليتصدق به حجة لمالك فى اختياره الإطعام فى كفارة المفطر فى رمضان، لأنه يشبه البدل من الصيام، ألا ترى أن الحامل والمرضع والشيخ الكبير والمفرط فى قضاء رمضان حتى يدخل عليه رمضان آخر لا يؤمر بالإطعام وهذا مأخوذ من قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة: 184] ، وذكر أبو عبيد عن الأصمعى، قال: أصل العرق: السقيفة المنسوجة من الخوص قبل أن يجعل منها زبيل، فسمى الزبيل عرقًا بذلك، زعم الأخفش أنه سمى عرقًا، لأنه يعمل عرقة عرقة ثم تضم، والعرقة الطريقة، ولذلك سميت درة الكتاب عرقة لعرضها واصطفافها، يقال: عرقة وعرق، كما يقال: علقة وعلق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 30 - باب إِذَا جَامَعَ فِى رَمَضَانَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ فَتُصُدِّقَ عَلَيْهِ فَلْيُكَفِّرْ / 36 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ: جَاءَ إِلَى النبى، عليه السلام، رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكْتُ، قَالَ: (مَا لَكَ) ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِى، وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: (فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: (فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَمَكَثَ النَّبِىُّ، عليه السلام، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، أُتِىَ النَّبِىُّ، عليه السلام بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ، قَالَ: (أَيْنَ السَّائِلُ) ؟ فَقَالَ: أَنَا، قَالَ: (خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ) ، قَالَ الرَّجُلُ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِى، فَضَحِكَ النَّبِىُّ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: (أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ) . وترجم له باب: (المجامع فى رمضان هل يطعم أهله من الكفارة إذا كانوا محاويج) ، وفيه: أن الرجل قال للنبى: (إن الأخر وقع على امرأته فى رمضان) . اختلف العلماء فى الواطئ فى رمضان إذا وجب عليه التكفير بالإطعام دون غيره، ولم يجد ما يطعم كالرجل الذى ورد فى هذا الحديث، قال ابن شهاب: إباحة النبى لذلك الرجل أكل الكفارة لعسرته رخصة له وخصوص، وقال: لو أن رجلاً فعل ذلك اليوم لم يكن له بد من التكفير، وزعم الطبرى أن قياس قول أبى حنيفة، والثورى، وأبى ثور أن الكفارة دين عليه لا يسقطها عنه عسرته كسائر الكفارات، وقال عيسى بن دينار: الكفارة على المعسر واجبة، فإذا أيسر أداها، وقال الأوزاعى: الكفارة ساقطة عن ذمته إذا كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 محتاجًا، لأنه لما جاز للمكفر أن يطعم أهله الكفارة علم أنها ساقطة عن ذمته، قيل للأوزاعى: أنسأل فى الكفارة؟ قال: لا، رد رسول الله كفارة المفطر عليه وعلى أهله، فليستغفر الله ولا يعد، ولم ير عليه شيئًا، وهو قول أحمد بن حنبل. وقال الشافعى: يحتمل أن تكون الكفارة دينًا عليه متى أطاقها أداها، وإن كان ذلك ليس فى الخبر، وهو أحب إلينا وأقرب إلى الاحتياط وله احتمالات أخر، هذا الوجه الذى أستحب، سأوردها فى هذا الذى بعد هذا، وأرد فيه قول من جعل الكفارة ساقطة عن المعسر خلاف من ذكرت قوله فى هذا الباب، إن شاء الله. ويحتمل أنه لما كان فى الوقت الذى أصاب فيه أهله ليس ممن يقدر على واحدة من الكفارات، تطوع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأن قال له فى شىء أتى به: (كَفِّر) . فلما ذكر الحاجة ولم يكن الرجل قبضه. قال له: (كله وأطعمه أهلك) ، وجعل التمليك له حينئذ مع القبض، ويحتمل أن يكون لما ملكه وهو محتاج، وكان إنما تجب عليه الكفارة إذا كان عنده فضل، ولم يكن عنده فضل، قال له كله، هو وأهله، لحاجته ويحتمل إذا كان لا يقدر على شىء من الكفارات، وكان لغيره أن يكفر عنه، كان لغيره أن يتصدق عليه وعلى بيته بتلك الكفارة إذا كانوا محتاجين، وتجزئ عنه ويحتمل أن تسقط عنه الكفارة لعدمه، كما سقطت الكفارة عن المغمى عليه إذا كان مغلوبًا. قال المهلب: قوله عليه السلام: (كله) دليل على أنه إذا وجبت على معسر كفارة إطعام، وكان محتاجًا إلى إبقاء رمق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 نفسه وأهله أن يؤثرها بذلك الإطعام، ويكون ذلك مجزئًا عنه على قول من رأى سقوط الكفارة عنه بالعسرة، وعلى مذهب الآخرين يكون فى ذمته إلى الميسرة، ورد ابن القصار على من رأى سقوط الكفارة عنه بالعسرة فقال: أما إباحته عليه السلام للواطئ أكل الكفارة، فلا يمتنع من بقاء حكم الكفارة فى ذمته، لأنه لما أخبر عن حاجته أباح له الانتفاع بما أعطاه، ولم يتعرض لحكم ما فى ذمته، فبقى ذلك بحاله. وقال غيره: فإن احتج محتج فى سقوط الكفارة بقوله عليه السلام: (أطعمه أهلك) . ولم يقل له: وتؤديها إذا أيسرت، لأنها لو كانت واجبة لم يسكت حتى يبين ذلك، قيل له: ولا قال له رسول الله: إنها ساقطة عنك لعسرك بعد أن كان أخبره بوجوبها عليه وكل ما وجب عليه أداؤه فى اليسار لزم الذمة إلى الميسرة. قال المهلب: وفيه أن الصدقة على أهل الفقير واجبة بهذا الحديث واحتج بهذا الحديث من جعل كفارة المفطر فى رمضان مرتبة على ما جاء فى هذا الحديث، أولها بالعتق، فإن لم يجد صام، فإن لم يقدر أطعم، هذا قول أبى حنيفة وأصحابه، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، وفى المدونة قال ابن القاسم: لا يعرف مالك فى الكفارة إلا الإطعام، لا عتقًا ولا صومًا، وقال فى كتاب الظهار: ما للعتق وماله قال تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة: 184] ، قال المؤلف: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 وأمر المحترق بالصدقة، وروى عن مالك أنه مخير بين العتق أو الصيام أو الإطعام، ذكره ابن القصار، والحجة له حديثه عن الزهرى، عن حميد، عن أبى هريرة (أن رجلاً أفطر فى رمضان، فأمره النبى أن يعتق أو يصوم أو يطعم) ، و (أو) موضعها فى كلام العرب للتخيير، ولا توجب الترتيب، ويجوز أن يكون أبو هريرة قد حفظ الفتيا من الرسول فى مرتين فرواه مرة على التخيير، ومرة على الترتيب، ليعلمنا الجواز فى التخيير أو الندب إلى تقديم العتق، ولا يكون أحدهم ناسخًا للآخر. وقال الطحاوى: إنما أمره النبى، عليه السلام، بكل صنف من أصناف الكفارة الثلاثة لما لم يكن واجدًا للصنف الذى ذكر له قبله على ما ثبت فى حديث هذا الباب، وقال بعض العراقيين: القصة واحدة، والراوى واحد وهو الزهرى، وقد نقل التخيير والترتيب، ولا يجوز أن يكون خيره ورتبه، فلابيد من المصير إلى أحد الروايتين، فالمصير إلى الترتيب أولى من وجوه: أحدها: كثرة ناقليها، والثانى: أن من نقل الترتيب فإنما نقل لفظه عليه السلام، ومن نقل التخيير فإنما نقل لفظًا لراوٍ، وإن كانا فى الحجة سواء، وإذا تعارضا كان المصير إلى من نقل لفظه عليه السلام أولى. والثالث: أن من نقل الترتيب نقل الخبر مفسرًا، لأنه قال له: (أعتق، قال: لا أجد، قال: فصم) ، ومن نقل التخيير لم يذكر أنه أمره بالصيام والإطعام بعد أن ذكر الأعرابى عجزه، وهذه زيادة، و الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 الرابع: أن فيه احتياطًا، لأنها إن كانت على التخيير أجزأه إذا رتب، وإن كانت على الترتيب لم يجزئه ما دونه. واختلفوا فى المرأة إذا وطئها طائعة فى رمضان، فقال مالك: عليها مثل ما على الرجل من الكفارة، وهو قول أبى حنيفة، وأبى ثور، وقال الشافعى: تجزئ الكفارة التى كفرها الرجل عنهما، وفيه قول ثالث: أن الكفارة الواحدة تجزئهما إلا الصيام، فإنه عليهما، يصوم كل واحد منهما شهرين متتابعين، وإن أكرهها فالصوم عليه وحده. واختلفوا إذا وطئها مكرهة، فقال مالك: عليهخ كفارتان عنه وعنها، وكذلك إن وطئ أمته كفر كفارتين، وقال أبو حنيفة: عليه كفارة واحدة ولا شىء عليها، وقال الشافعى: ليس عليها كفارة سواء طاوعته أو أكرهها، واحتج بأن النبى إنما أجاب السائل بكفارة واحدة ولم يسأله هل طاوعته أم أكرهها، ولو اختلف الحكم لم يترك النبى تبيين ذلك، وحجة من أوجب عليها الكفارة إن طاوعته القياس على قضاء ذلك اليوم، فلما وجب عليها قضاء ذلك اليوم، وجب عليها الكفارة عنه، وأما وجوب الكفارة عليه عنها إذا أذكرهها، فلأنه سبب إفساد صومها بتعديه الذى أوجب الكفارة عليه عن نفسه،، فوجب أن يكفر عنها، وهذا مبنى على أصولهم إذا أكرهها، وأفسد حجها بالوطء، فعليه أن يحجها من ماله، ويهدى عنها، وكذلك إذا حلق رأس محرم نائم، فإنه ينسك عنه، لأنه أدخل ذلك عليه بتعديه من غير اختيار من المفعول به ذلك، ولا يلزم على هذا الناسى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 والحائض، والمريض وغيرهم من المعذورين إذا أفطروا، لأن السبب أتاهم من قبل الله تعالى، وفى مسألتنا الفطر أتى من قبل الواطئ، والكفارة تتعلق بالذمة، لأن ماله لو تلف لم تسقط. وقوله: (إن الأخر وقع على امرأته) قال ثابت: الأخر على مثال فعل هو الأبعد، وقال بعضهم: الأخير الأبعد، والآخر الغائب، وقال قيس بن عاصم لبنيه: يا بنى، إياكم ومسألة الناس، فإنها آخر كسب المرء يعنى: أرذله وأوسخه. 31 - باب الْحِجَامَةِ وَالْقَيْءِ لِلصَّائِمِ يروى عن أَبَى هُرَيْرَةَ: إِذَا قَاءَ فَلا يُفْطِرُ، إِنَّمَا يُخْرِجُ وَلا يُولِجُ، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُفْطِرُ، وَالأوَّلُ أَصَحُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ: الفطَّرْ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ تَرَكَهُ فَكَانَ يَحْتَجِمُ بِاللَّيْلِ، وَاحْتَجَمَ أَبُو مُوسَى لَيْلا، وَيُذْكَرُ عَنْ سَعْدٍ وَزَيْدِ ابْنِ أَرْقَمَ وَأُمِّ سَلَمَةَ احْتَجَمُوا صِيَامًا، وَقَالَ بُكَيْرٌ عَنْ أُمِّ عَلْقَمَةَ: كُنَّا نَحْتَجِمُ عِنْدَ عَائِشَةَ فَلا تَنْهَى، وَيُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مَرْفُوعًا: (أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ) ، قِيلَ لَهُ: عَنِ النَّبِىِّ، عليه السلام، قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ. / 37 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام، احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ، قِيلَ لأَنَس: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ؟ قَالَ: لا، إِلا مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ) . قال المؤلف: أما قول أبى هريرة: (إذا قاء فلا يفطر) ، فقد روى مرفوعًا من حديث عيسى بن يونس، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله: (من استقاء فعليه القضاء، ومن ذرعه القىء فلا قضاء عليه) ، وهذا الحديث انفرد به عيسى بن يونس، عن هشام بن حسان، وعيسى ثقة، إلا أن أهل الحديث أنكروه عليه، ووهم عندهم فيه، وقال البخارى: لا يعرف إلا من هذا الطريق، ولا أراه محفوظًا وروى معاوية بن سلام عن يحيى بن أبى كثير، قال: أخبرنى عمر بن الحكم بن ثوبان أنه سمع أبا هريرة يقول: إذا قاء أحدكم فلا يفطر، فإنما يخرج ولا يدخل. وهذا عندهم أصح موقوفًا على أبى هريرة. وأجمع الفقهاء أن من ذرعه القىء فلا قضاء عليه، واختلفوا فى من استقاء، فقال مالك، والليث، والثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد: من استقاء عامدًا فعليه القضاء، وعليه الجمهور، روى ذلك عن على، وابن عمر، وأبى هريرة. وقال الأوزاعى وأبو ثور: عليه القضاء والكفارة مثل كفارة الآكل عامدًا فى رمضان، وهو قول عطاء، واحتجوا بحديث الأوزاعى عن يعيش بن الوليد بن هشام أن أباه حدثه قال: حدثنا معدان بن طلحة أن أبا الدرداء حدثه: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قاء فأفطر، قالوا: وإذا كان القيىء يفطر الصائم فعلى من تعمده ما على من تعمد الأكل والشرب والجماع القضاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 والكفارة، وتأول الفقهاء هذا الحديث قالوا: معنى قاء أى استقاء، قال الطحاوى: ويجوز أن يكون قوله: (قاء فأفطر) أى: قاء فضعف فأفطر، وقد يجوز هذا فى اللغة، وقد روى هذا المعنى محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى مرزوق، عن فضالة بن عبيد: أن رسول الله دعا بإناء فشرب، فقيل: يا رسول الله، هذا يوم كنت تصومه، قال: (أجل، إنى قئت فأفطرت) ، وهذا معناه ولكنى قئت فضعفت عن الصيام فأفطرت، وليس فى هذين الحديثين دليلا أن القىء كان مفطرًا له، إنما فيهما أنه قاء فأفطر بعد ذلك. وأما الحجامة للصائم: فجمهور الصحابة والتابعين والفقهاء على أنه لا تفطره، وروى عن على بن أبى طالب أنها تفطر الصائم، وهو قول الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بأحاديث (أفطر الحاجم والمحجوم) ، وقد صحح على بن المدينى، والبخارى منها حديث شداد وثوبان. قال ابن القصار: وحجة الجماعة ما رواه ابن عباس: أن النبى، عليه السلام، احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرم. فإن صح حديثهم، فحديث ابن عباس ناسخ له، لأن فى حديث شداد بن أوس أن النبى، عليه السلام، قال عام الفتح فى رمضان لرجل كان يحتجم: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، والفتح كان فى سنة ثمان، وحجة الوداع سنة عشر، فخبر ابن عباس متأخر ينسخ المتقدم، فإن قيل: لا حجة فى هذا، لأن النبى لم يكن محرمًا إلا وهو مسافر، لأنه خرج إلى مكة وأحرم ودخلها وهو مسافر، وللمسافر أن يفطر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 بالحجامة وغيرها، وهذا سؤال لهم جيد، فنقول: إن الخبر لم ينقل إلا لفائدة، فهذا يقتضى أنه وجد منه كمال الحجامة وهو صائم لم يتحلل من صومه فأفطر بعد ذلك إذ الراوى لم يقل: احتجم فأفطر، وعندكم أن الفطر يقع بأول خروج الدم، ولا يبقى صائمًا إلى أن تتم الحجامة، والخبر يقتضى أن يكون صائمًا فى حال حجامته وبعد الفراغ، والحجامة كالفصاد وهو لا يفطر الصائم، قال الطحاوى: وليس ما رووه من قوله عليه السلام: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، ما يدل أن ذلك الفطر كان لأجل الحجامة، وإنما كان بمعنى آخر كانا يفعلانه، كما يقال: فسق القاسم، ليس بأنه فسق بقيامه، ولكنه فسق بمعنى آخر غير القيام. وروى يزيد بن ربيعة الدمشقى عن أبى الأشعث الصنعانى قال: إنما قال رسول الله: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، لأنهما كانا يغتابان، وليس إفطارهما ذلك كالإفطار بالأكل والشرب والجماع، لكن حبط أجرهما باغتيابهما، فصار بذلك مفطرين، لا أنه إفطار يوجب عليهما القضاء، كما قالوا: الكذب يفطر الصائم، إنما هو بمعنى حبوط الأجر، وقد روى عن جماعة من الصحابة فى ذلك معنى آخر، روى قتادة عن أبى المتوكل الناجى، عن أبى سعيد الخدرى قال: إنما كرهت الحجامة للصائم، من أجل الضعف، وعن ابن عباس، وأنس بن مالك مثله، فدلت هذه الآثار على أن المكروه من أجل الحجامة فى الصيام هو الضعف الذى يصيب الصائم فيفطر من أجله بالأكل والشرب، وقد روى هذا المعنى عن أبى العالية، وأبى قلابة، وسالم، والنخعى، والشعبى، والحسين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 ابن على، وقال القاسم بن محمد فى ما يذكر من قول الناس (أفطر الحاجم والمحجوم) ، فقال: لو أن رجلا حجم يده أو بعض جسده لم يفطره ذلك، قال الطحاوى، وتأويل أبى الأشعث أشبه بالصواب، لأن الضعف لو كان هو المقصود بالنهى لما كان الحاجم داخلا فى ذلك، فإذا كان الحاجم والمحجوم قد جمعا فى ذلك أشبه أن يكون ذلك لمعنى واحد هما فيه سواء، مثل الغيبة التى هما فيها سواء، كما قال أبو الأشعث. وحديث ابن عباس المقنع فى هذا الباب. قال الطحاوى: وأما طريق النظر فرأينا خروج الدم أغلظ أحواله أن يكون حدثًا تنتقض به الطهارة. وقد رأينا الغائط والبول خروجهما حدث تنتقض به الطهارة، ولا ينقض الصيام، فالنظر على ذلك أن يكون الدم كذلك، ورأينا لا يفطره فصد العروق فالحجامة فى النظر كذلك، وبالله التوفيق. 32 - باب الصَّوْمِ فِى السَّفَرِ وَالإفْطَارِ / 38 - فيه: ابْنَ أَبِى أَوْفَى: كُنَّا مَعَ النَبِى، عليه السلام، فِى سَفَرٍ، فَقَالَ لِرَجُلٍ: (انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الشَّمْسُ، قَالَ: (انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي) ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الشَّمْسُ، قَالَ: (انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي) ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الشَّمْسُ، قَالَ: (انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي) ، فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ، فَشَرِبَ، ثُمَّ رَمَى بِيَدِهِ هَاهُنَا، ثُمَّ قَالَ: (إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 / 39 - وفيه: حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو، قَالَ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنى أسرد الصوم أَأَصُومُ فِى السَّفَرِ) ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ، فَقَالَ: (إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ) . قال ابن المنذر: فى هذا الحديث من الفقه تخيير الصائم فى الصيام فى السفر أو الفطر، وفيه دليل أن أمره تعالى للمسافر بعدة من أيام أخر، إنما هو لمن أفطر، لا أن عليه أن يفطر ويقضى، وممن روى عنه تخيير المسافر فى الصيام ابن عباس، وذكر أنس وأبو سعيد ذلك عن أصحاب الرسول، وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، والنخعى، ومجاهد، والأوزاعى، والليث. واختلفوا فى الأفضل من ذلك لمن قدر عليه، فروى عن عثمان بن أبى العاصى، وأنس ابن مالك صاحبى النبى أن الصوم أفضل، وهو قول النخعى، وسعيد بن جبير، والأسود بن يزيد، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وقال مالك، والثورى، والشافعى، وأبو ثور: الصوم أحب إلينا، وروى عن ابن عمر، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والشعبى، أن الفطر أفضل، لأنه رخصة وصدقة تصدق الله بها فيجب قبولها، وهو قول الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وروى عن عمر بن الخطاب، وأبى هريرة، وابن عمر، وابن عباس إن صام فى السفر لم يجزئه، وعليه أن يصوم فى الحضر، وعن عبد الرحمن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 ابن عوف، قال: الصائم فى السفر كالمفطر فى الحضر، وذكر هذا كله ابن المنضر، وبهذا قال أهل الظاهر، وقد صح التخيير فى الصيام فى السفر أو الفطر عن النبى، عليه السلام، من حديث حمزة ابن عمرو، وحديث أنس، وابن عباس، وأبى سعيد الخدرى، وأن النبى، عليه السلام، وأصحابه صاموا مرة فى السفر، وأفطروا أخرى، فلم يعب بعضهم ذلك على بعض، فلا يلتفت إلى من خالف ذلك، لأن الحجة فى السنة. وقوله: (يا رسول الله، الشمس) ، إنما أراد أن نور الشمس باق، وظن أن ذلك يمنعه من الإفطار، فأجابه النبى، عليه السلام، أن ذلك لا يضر إذا أقبل الليل، وسيأتى الكلام فى حديث ابن أبى أوفى فى باب: (متى يحل فطر الصائم) . قوله: (اجدح لى) ، قال أبو عبيد: المُجدّح: الشراب المخوض بالمِجدَح، وقال صاحب (العين) : المجدح: خشبة فى رأسها خشبتان معترضتان. 33 - باب إِذَا صَامَ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ سَافَرَ / 40 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فِى رَمَضَانَ فَصَامَ، حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ أَفْطَرَ، فَأَفْطَرَ النَّاسُ) . وَالْكَدِيدُ: مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ. / 41 - فيه: أَبِو الدَّرْدَاءِ، قَالَ: (خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السلام، فِى بَعْضِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 أَسْفَارِهِ فِى يَوْمٍ حَارٍّ حَتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلا مَا كَانَ مِنَ النَّبِىِّ، عليه السلام، وَابْنِ رَوَاحَةَ) . فى حديث ابن عباس إباحة السفر فى رمضان والفطر فيه، وهو رد لما روى عن على بن أبى طالب أنه قال: (من استهل عليه هلال رمضان مقيمًا صم سافر أنه ليس له أن يفطر لقول الله تعالى: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] . والمعنى عنده: من أدرك رمضان وهو مسافر فعدة من أيام أخر، ومن أدركه حاضرًا فليصمه، وهو قول عبيدة السلمانى وسويد بن غفلة، وأبى مجلز، وهذا القول مردود لسفر النبى، عليه السلام، فى رمضان، وإفطاره فيه فى الكديد، وجمهور الأمة على خلاف هذا القول، لثبوت السنة بالتخيير فى الصيام أو الفطر فى السفر، ولصيامه عليه السلام فى سفره. قال ابن المنذر: وإنما أمر من شهد الشهر كله أن يصوم، ولا يقال لمن شهد بعض الشهر أنه شهد الشهر كله، لأن النبى أنزل عليه الكتاب، وأوجب عليه بيان ما أنزل عليه، سافر فى رمضان وأفطر فى سفره. قال المؤلف: ومعنى حديث أبى الدرداء فى هذا الباب هو أنه عليه السلام كان صائمًا، وابن رواحة، وسائر أصحابه مفطرون، فلو لم يجز الفطر فى رمضان لمن سافر فيه ما ترك النبى أصحابه مفطرين فيه، ولا سوغهم ذلك. وفى حديث ابن عباس وأبى الدرداء رد لقول من قال: إن الصيام فى السفر لا يجزئ، لأن الفطر عزيمة من الله وصدقة، ألا ترى صيامه عليه السلام فى السفر فى اليوم الشديد الحر، وقول أبى الدرداء: (وما فينا صائم إلا النبى، عليه السلام، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 وابن رواحة) فلو كان الفطر عزمة من الله تعالى، لم يتحمل النبى مشقة الصيام فى شدة الحر، وإنما أراد أن يسن لأمته ليقتدوا به، وقد روى على بن معبد، عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم بن مالك، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: (إنما أراد النبى بالفطر فى السفر التيسير عليكم، فمن يسر عليه الصيام فليصم، ومن يسر عليه الفطر فليفطر) . فهذا ابن عباس لم يجعل إفطار النبى فى السفر بعد صيامه فيه ناسخًا للصوم فى السفر، ولكنه جعله على جهة التيسير. 34 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ عليه السلام لِمَنْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ الْحَرُّ: (لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِى السَّفَرِ / 42 - فيه: جَابِرِ: كَانَ النبى (صلى الله عليه وسلم) فِى سَفَرٍ فَرَأَى رَجُلا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: صَائِمٌ، فَقَالَ: (لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِى السَّفَرِ) . احتج محتج من أهل الظاهر بهذا الحديث، وقال: ما لم يكن من البر فهو من الإثم، فدل ذلك أن صوم رمضان لا يجزئ فى السفر. قال الطحاوى: قيل له هذا الحديث خرج لفظه على شخص معين، وهو رجل رآه رسول الله وهو صائم قد ظلل عليه، وهو يجود بنفسه فقال ذلك القول، ومعناه ليس البر أن يبلغ الإنسان بنفسه هذا المبلغ، والله قد رخص فى الفطر، والدليل على صحة هذا التأويل صوم رسول الله فى السفر فى شدة الحر، ولو كان إثمًا لكان رسول الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 أبعد الناس منه، ومعنى قول النبى، عليه السلام: (ليس من البر الصوم فى السفر) . أى ليس هو أبر البر، لأنه قد يكون الإفطار أبر منه إذا كان فى حج أو جهاد ليقوى عليه، وهذا كقوله: (ليس المسكين بالطواف الذى ترده التمرة والتمرتان) ، ومعلوم أن الطواف مسكين، وأنه من أهل الصدقة، وإنما أراد المسكين الشديد المسكنة الذى لا يسأل ولا يتصدق عليه. 35 - باب لَمْ يَعِبْ أَصْحَابُ النَّبِىِّ، عليه السلام، بَعْضُهُمْ على بَعْض فِى الصَّوْمِ وَالإفْطَارِ / 43 - فيه: أَنَسِ، قَالَ: (كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِىِّ فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ) . هذا حجة على من رغم أن الصائم فى السفر لا يجزئه صومه، لأن تركهم لإنكار الصوم والفطر يدل أن ذلك عندهم من المتعارف المشهور الذى تجب الحجة به، ولا حجة مع أحد فى خلاف السنة الثابتة، فقد ثبت أنه عليه السلام صام فى السفر، ولم يعب على من صام، ولا على من أفطر فوجب التسليم له. 36 - باب مَنْ أَفْطَرَ لِيَرَاهُ النَّاسُ / 44 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَرَفَعَهُ إِلَى فيه، لِيُرِيَهُ النَّاسَ، فَأَفْطَرَ حَتَّى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 قَدِمَ مَكَّةَ، وَذَلِكَ فِى رَمَضَانَ، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَدْ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَفْطَرَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ. اختلف العلماء فى الفطر المذكور فى هذا الحديث، فقال قوم: معناه أنه أصبح مفطرًا قد نوى الفطر فى ليلته، وهذا جائز بإجماع العلماء أن يبيت المسافر الفطر إن اختاره، وقال آخرون: معناه أنه أفطر فى نهاره بعد أن قد مضى صدر منه، وأن الصائم جائز له أن يفعل ذلك فى سفره، لأن النبى صنع ذلك رفقًا بأمته، وقد جاء هذا مبينًا فى حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: (أن رسول الله خرج إلى مكة عام الفتح فى رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس وهم مشاة وركبان، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصوم، وإنما ينظرون إلى ما فعلت، فدعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه، وصام بعض، فقيل للنبى، عليه السلام: إن بعضهم قد صام، فقال: (أولئك العصاة) . قال المؤلف: وهذا الحديث يبين معنى الترجمة، وأنه عليه السلام، إنما أفطر ليراه الناس فيقتدوا به ويفطرون، لأن الصيام قد نهكهم وأضر بهم، فأراد الرفق بهم والتيسير عليهم أخذًا بقوله تعالى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185] ، فأخبر تعالى أنه أطلق الإفطار فى السفر إرادة التيسير على عباده، فمن أراد رخصة الله فأفطر فى سفره أو مرضه لم يكن معنفًا، ومن اختار الصوم، وهو يسير عليه فهو له أفضل لصحة الخبر عن النبى أنه صام حين شخص من المدينة متوجهًا إلى مكة حتى بلغ عسفان أو الكديد، وصام معه أصحابه إذ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 كان ذلك يسيرًا عليهم، وأفطر وأمر أصحابه لما دنا من عدوه، فصار الصوم عسيرًا، إذ كان لا يؤمن عليهم الضعف والوهن فى حربهم لو كانوا صيامًا عند لقاء عدوهم، فكان الإفطار حينئذ أولى بهم من الصوم، وأفضل عند الله لما يرجون من القوة على العدو وإعلاء كلمة الدين بالإفطار، قاله الطبرى، وروى شعبة عن عمرو بن دينار، عن عبيد بن عمير: (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر أصحابه يوم فتح مكة، فقال: أفطروا فإنه يوم قتال) . وروى حماد، عن الجريرى، عن أبى نضرة، عن جابر: (أن النبى، عليه السلام، كان فى سفر فأتى على غدير فقال للقوم: (اشربوا) ، فقالوا: يا رسول الله، أنشرب ولا تشرب؟ فقال: (إنى أيسركم، إنى أركب وأنتم مشاة، فشرب وشربوا) . واختلف الفقهاء فى من اختار الصوم فى السرف وأصبح صائمًا ثم أفطر نهارًا من غير عذر، فقال مالك: عليه القضاء والكفارة، لأنه كان مخيرًا فى الصوم والفطر، فلما اختار الصوم لزمه ولم يكن له الفطر، وقد روى عنه أنه لا كفارة عليه، وهو قول أصحابه إلا عبد الملك فإنه قال: إن أفطر بجماع كَفَّر، لأنه لا يقوى بذلك على سفره ولا عذر له، وقال سائر الفقهاء بالحجاز والعراق: أنه لا كفارة عليه، والحجة فى سقوط الكفارة واضحة بحديث ابن عباس وجابر، ومن جهة النظر أيضًا، لأنه متأول غير هاتك لحرمة صومه عند نفسه، وهو مسافر قد دخل فى عموم إباحة الفطر، وقال ابن القابسى: هذا الحديث لم يسمعه ابن عباس من النبى، ولكنه يعد من جملة المسند، لأنه لم يروه إلا عن صاحب، وقد انفرد الصحابة بتسليم هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 المعنى لهم وليس لغيرهم، ويذكر عن أنس أنه قال عن الصحابة: (يروى بعضنا عن بعض، وليس فينا من يكذب) . 37 - باب: قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) [البقرة 184] وقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَسَلَمَةُ بْنُ الأكْوَعِ نَسَخَتْهَا: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (إلى) تَشْكُرُونَ) [البقرة 185] . وَقَالَ ابْنُ أَبِى لَيْلَى: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ: نَزَلَ رَمَضَانُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مَنْ أَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا تَرَكَ الصَّوْمَ مِمَّنْ يُطِيقُهُ، وَرُخِّصَ لَهُمْ فِى ذَلِكَ فَنَسَخَتْهَا: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة: 184] ، فَأُمِرُوا بِالصَّوْمِ. / 45 - فيه: ابْنُ عُمَرَ قَرَأَ: (فِدْيَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ) [البقرة: 184] ، قَالَ: هِىَ مَنْسُوخَةٌ. اختلف العلماء فى تأويل هذه الآية، فروى عن ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد أنهم قرءوها: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ (، قال: الذين يحملونه ولا يطيقونه فدية، فعلى هذا تكون الآية محكمة غير منسوخة يعنى فى الشيخ والحامل والمرضوع، قال أبو عبيد: وهو قول حسن، ولكن الناس ليسوا عليه، لأن الذين ثبت بين اللوحين فى مصاحف أهل الحجاز والشام والعراق) وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ (، ولا تكون الآية على هذا اللفظ إلا منسوخة، روى ذلك عن ابن عباس وسلمة بن الأكوع، وابن عمر، وابن أبى ليلى، وعلقمة، وابن شهاب، فتفرق الناس فى ناسخ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 هذه الآية ومنسوخها على أربع منازل، لكل واحدة منهن حكم سوى حكم الأخرى، فالفرقة الأولى منهم: وهم الأصحاء ففرضهم الصيام لا يجزئهم غيره، لزمهم ذلك بالآية المحكمة، وهى قوله: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] . والثانية: هم مخيرون بين الإفطار والصيام، ثم عليهم القضاء بعد ذلك ولا إطعام عليهم، وهم المسافرون والمرضى بقوله: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 184] . والثالثة: هم الذين لهم الرخصة فى الإطعام ولا قضاء عليهم، وهم الشيوخ الذين لا يطيقون الصيام. والرابعة: هم الذين اختلف العلماء فيهم بين القضاء والإطعام. وبكل ذلك قد جاء تأويل القرآن، وأفتت به الفقهاء، فذهب القاسم، وسالم، وربيعة، ومكحول، ومالك، وأبو ثور إلى أن الشيخ إن استطاع الصوم صام، وإلا فليس عليه شىء لقوله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286] إلا أن مالكًا يستحب له الإطعام عن كل يوم مدا، وحجة هذا القول أن الله تعالى، إنما أوجب الفدية قبل النسخ على المطيقين دون غيرهم، وخيرهم فيه بين أن يصوموا بقوله: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ (ثم نسخ ذلك وألزمهم الصوم حتمًا، وسكت عمن لا يطيق فلم يذكره فى الآية، فصار فرض الصيام زائلاً عنهم كما زال فرض الزكاة والحج عن المعدمين الذين لا يجدون إليها سبيلاً، وأبى ذلك أهل العراق، والثورى، وأوجبوا الفدية على الشيخ، وقالوا: إن الزكاة والحج لا يشبهان الصيام، لأن الكتاب والسنة فرق بينهما، وذلك أن الله تعالى، جعل من الصوم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 بدلا أوجبه على كل من حيل بينه وبين الصيام وهو الفدية، كما جعل التيمم بدلا من الطهور واجبًا على كل من أعوزه الماء، وكما جعل الإيماء بدلا من الركوع والسجود لمن لا يقدر عليهما، ولم يجعل من الزكاة والحج بدلا لمن لا يقدر عليهما، وإلى هذا ذهب الكوفيون، والأوزاعى، والشافعى. وأما الفرقة الرابعة: فالحوامل والمراضع، وفيهن اختلف الناس قديمًا وحديثًا، فقال بعض العلماء: إذا ضعفن عن الصيام وخافت على نفسها وولدها أفطرت وأطعمت عن كل يوم مسكينًا، فإذا فطمت ولدها قضته، وهو قول مجاهد، وبه قال الشافعى وأحمد، وقال آخرون: عليهما الإطعام ولا قضاء، وهو قول ابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن جبير، وقال آخرون: عليهما القضاء ولا إطعام عليهما، وجعلوهما بمنزلة المريض، وهو قول عطاء، والنخعى، والحسن، والزهرى، وربيعة، والأوزاعى، وأبى حنيفة، والثورى، وروى ابن عبد الحكم عن مالك مثله، ذكره ابن القصار، وهو قول أشهب، وفرقة رابعة فرقت بين الحبلى، والمرضع فقال فى الحبلى: هى بمنزلة المريض تفطر وتقضى ولا إطعام عليها، والمرضع تفطر وتطعم وتقضى، هذا قول مالك فى المدونة، وهو قول الليث. قال أبو عبيد: وكل هؤلاء إنما تأولوا قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ (فمن أوجب القضاء والإطعام معًا ذهب إلى أن الله حكم فى تارك الصوم من عذر بحكمين، فجعل الفدية فى آية والقضاء فى أخرى، فلما لم يجد ذكر الحامل والمرضع مسمى فى واحدة منهما جمعهما جميعًا عليهما احتياطًا لهما وأخذًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 بالثقة، وأما الذين رأوا أن يطعما ولا يقضيا فإنهم أرادوا أنهما ليستا من السفر ولا من المرضى الذين فرهم القضاء، ولكنهما ممن كلف الصيام وطوقه وليس بمطيق، فهم من أهل الفدية لا يلزمهم سواها لقوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة: 248] ، وهى قراءة ابن عباس وفتياه، وقد يجوز هذا القول على قراءة من قرأ: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ (أى يطيقونه بجهد ومشقة، ويكون معنى القراءتين واحدًا. قاله غير أبى عبيد. وأما الذين أوجبوا عليهما القضاء بلا طعام ذهبوا إلى أن الحمل والرضاع علتان من العلل، لأنه يخاف فيهما من التلف على الأنفس ما يخاف من المرض، قال أبو عبيد، وقد وجدنا شاهدًا لهذا القول ودليلا عليه، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا أيوب، قال: حدثنى أبو قلابة، عن أنس بن مالك قال: (أتيت النبى، عليه السلام، فى إبل لجار لى، أخذت، فوافقته يأكل فدعانى إلى طعامه فقلت: إنى صائم، قال: ادن أخبرك عن ذلك، إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحامل والمرضع) ، قال أبو عبيد: فقرن رسول الله الحامل والمرضع بالمسافر، وجعلهما معًا فى معنى واحد، فصار حكمهما كحكمه، فهل على المسافر إلا القضاء لا يعدوه إلى غيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 38 - باب مَتَى يُقْضَى قَضَاءُ رَمَضَانَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لا بَأْسَ أَنْ يُفَرَّقَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ فِى صَوْمِ الْعَشْرِ: لا يَصْلُحُ حَتَّى يَبْدَأَ بصوم بِرَمَضَانَ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِذَا فَرَّطَ حَتَّى جَاءَ رَمَضَانُ آخَرُ يَصُومُهُمَا، وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ طَعَامًا، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ مُرْسَلا وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ يُطْعِمُ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ الإطْعَامَ، إِنَّمَا قَالَ: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (. / 46 - فيه: عَائِشَةَ: (كَانَ يَكُونُ عَلَىَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِىَ إِلا فِى شَعْبَانَ) ، قَالَ يَحْيَى: الشُّغْلُ مِنَ النَّبِىِّ، عليه السلام، أَوْ بِالنَّبِىِّ. إنما حمل عائشة على قضاء رمضان فى شعبان الأخذ بالرخصة والتوسعة، لأن ما بين رمضان عامها ورمضان العام المقبل وقت للقضاء، كما أن وقت الصلاة له طرفان، ومثله قوله عليه السلام: (ليس التفريط فى النوم، إنما التفريط فى اليقظة) ، على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى، وأجمع أهل العلم على أن من قضى ما عليه من رمضان فى شعبان بعده أنه مؤد لفرضه غير مفرط. واختلفوا هل يجوز أن يقضى رمضان متفرقًا فقال طائفة: لا يقضيه إلا متتابعًا، روى ذلك عن على بن أبى طالب، وابن عمر، وعائشة، وهو قول الحسن البصرى، والنخعى، وعروة بن الزبير، وهو قول أهل الظاهر، وقالت طائفة: يجوز أن يقضى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 متفرقًا، روى ذلك عن ابن عباس، وأبى هريرة، وأنس بن مالك، ومعاذ، وحذيفة، وهو قول جماعة أئمة الأمصار، قال ابن القصار: وحجة الجماعة ظاهر قوله تعالى: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (ولم يخص، فعلى أى وجه قضاه جاز، هذا مقتضى اللفظ، فإن قيل: فإن عائشة قالت: نزلت) فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (متتابعات، فسقطت متتابعات، قيل: قد أخبرت أنها ساقطة، فلا حكم لها حتى تثبت القراءة، وهذه حجة لنا. واختلفوا فى المسافر والمريض إذا فرطا فى قضاء رمضان حتى جاء رمضان آخر، فروى عن أبى هريرة، وابن عباس أنه يصوم الذى حصل فيه، فإذا خرج قضى ما كان عليه وعليه الفدية، وهو قول عطاء، والقاسم، والزهرى، ومالك، والأوزاعى، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقال أبو حنيفة وأصحابه: ليس عليه إلا القضاء فقط ولا إطعام عليه، وحجة من قال بالإطعام ما حكاه الطحاوى عن يحيى بن أكثم قال: فتشت عن أقاويل الصحابة فى هذه المسألة فوجدت عن ستة منهم قالوا: عليه القضاء والفدية، ولم أجد لهم مخالفًا، فإن قيل: فقد قال عليه السلام للواطئ فى رمضان: (اقض يومًا مكانه) ، ولم يذكر له حَدا، قيل: قد قامت الدلالة على الحَدِّ من تأخير عائشة له إلى شعبان، فعلم أنه الوقت المضيق، فإذا ثبت أن للقضاء وقتًا يؤدى فيه ويفوت، ثبتت الفدية، لأنه يشبه الحج الذى يفوت وقته، ألا ترى أن حجة القضاء إذا دخل وقتها وفاتت وجب الدم، فكذلك إّا فات الصوم وجبت الفدية. واختلفوا فيما يجب عليه إن لم يصح من مرضه حتى دخل رمضان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 المقبل، فقال ابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن جبير: يصوم الثانى ويطعم عن الأول ولا قضاء عليه، وقال الحسن، والنخعى، وطاوس، ومالك، والأوزاعى، وأبو حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق: يصوم الثانى، ويقضى الأول، ولا فدية عليه، لأنه لم يفرط. 39 - باب الْحَائِضِ تَتْرُكُ الصَّوْمَ وَالصَّلاةَ وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: إِنَّ السُّنَنَ وَوُجُوهَ الْحَقِّ لَتَأْتِى كَثِيرًا عَلَى خِلافِ الرَّأْيِ، فَلا يَجِدُ الْمُسْلِمُونَ بُدًّا مِنِ اتِّبَاعِهَا، مِنْ ذَلِكَ: أَنَّ الْحَائِضَ تَقْضِى الصِّيَامَ، وَلا تَقْضِى الصَّلاةَ. / 47 - فيه: أَبِو سَعِيدٍ قَالَ النَّبىُّ، عليه السلام: (أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ، فَذَلِكَ نُقْصَانُ دِينِهَا) . قال المهلب: هذا الحديث أصل لترك الحائض الصوم والصلاة، وفيه من الفقه أن للمريض ترك الصيام، وإن كان فيه بعض القوة إذا كان يدخل عليه المشقة والخوف، ألا ترى أن الحائض ليست تضعف عن الصيام ضعفًا واحدًا، وإنما يشق عليها بعض المشقة من أجل نزف دمها، وضعف النفس عند خروج الدم معلوم ذلك من عادة اليسير فغلبت على كل النساء، وفى جميع الأحوال، رحمةً من الله، ورعفًا لقليل الحرج وكثيره، وأمرت بإعادة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 الصيام من قول الله تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا (ونزف الدم مرض) فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (، ولم تؤمر بإعادة الصلاة، لأنها أكبر الفرائض وأكثرها ترددًا، ولما يلزم من المحافظة على وضوئها والقيام إليها، وإحضار النية للمناجاة، كما شهد الله تعالى لذلك بقوله: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة: 45] ، وهى التى حطها الله فى أصل الفرض من خمسين إلأى خمس، فلو أمرت بإعادة الصلوات لتضاعف عليها الفرض، إذ المرأة نصف دهرها أو نحوه حائض، فكان الناس يصلون صلاة واحدة وتصلى هى فى كل صلاة صلاتين، فتختلف أحوال النساء والرجال، والله أعلم. واختلفوا فى المرأة تطهر من حيضتها فى بعض النهار، والمسافر يقدم، والمريض يبرأ، فقال أبو حنيفة والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق: يلزمهم كلهم الإمساك بقية النهار، وإن قدم المسافر مفطرًا فلا يطأ زوجته لتعظيم حرمة الشهر، وقال مالك، والشافعى، وأبو ثور: يأكلون بقية يومهم، وللمسافر المفطر يقدم أن يطأ زوجته إذا وجدها قد طهرت من حيضتها، واحتج الأولون بقوله عليه السلام، يوم عاشوراء: (من أكل فليمسك بقية نهاره) . فأمرهم بالإمساك مع الفطر، وهذا المعنى موجود فى الإقامة الطارئة فى بعض النهار قال ابن القصار: والحجة لمالك، والشافعى قوله تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 184] ، وهؤلاء قد أفطروا فحكم الإفطار لهم باق، والفطر رخصة للمسافر، ومن تمام الرخصة ألا يجب عليه أكثر من يوم، فلو أمرناه أن يمسك بعد ذلك ثم يصوم يومًا آخر مكانه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 كنا قد منعناه من الرخصة، وأوجبنا عليه فى ترك اليوم أكثر من يوم والله إنما قال: (فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (، وكذلك الحائض كان يلزمها أكثر من يوم، وإنما يلزم الصيام من يصح منه الصيام الذى لا يجب معه قضاء، وأما صوم يوم عاشوراء فإنما لزمهم صومه من الوقت الذى خوطبوا فيه، ولم يجب عليهم الابتداء، لأنهم لم يعلموا ذلك إلا وقت قيل لهم، وأيضًا فإنهم متطوعون، وأمره بالإمساك لهم كان مستحبًا، فلا يلزم الاعتراض به. 40 - باب مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ صَامَ عَنْهُ ثَلاثُونَ رَجُلا يَوْمًا وَاحِدًا جَازَ. / 48 - وفيه: عَائِشَةَ أَنَّ النبى، عليه السلام، قَالَ: (مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوم صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ) . / 49 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السلام، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّى مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى) . وروى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (أن امرأة جاءت إلى النبى، عليه السلام، فَقَالتْ: إِنَّ أُخْتِى مَاتَتْ) . وقَالَ أيضًا: (إِنَّ أُمِّى مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ) . قَالَ أيضًا: (إنَّ أُمِّى مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا) . اختلف العلماء فيمن عليه صوم من شهر رمضان فمات قبل أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 يقضيه، فقالت طائفة: جائز أن يصام عن الميت، وهو قول طاوس، والحسن، والزهرى، وقتادة، وبه قال أبو ثور، وأهل الظاهر، واحتجوا بهذه الأحاديث التى ذكرها البخارى. وقال أحمد بن حنبل: يصوم عنه وليّه فى النذر، ويطعم عنه فى قضاء رمضان، وذكر ابن وهب عن الليث أنه يصوم عنه وليه فى النذر، وقال ابن عمر، وابن عباس، وعائشة: لا يصوم أحدٌ عن أحدٍ، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وحجة هؤلاء أن ابن عباس لم يخالف بفتواه ما رواه إلا لنسخٍ علمه، وكذلك روى عبد العزيز بن رفيع، عن عمرة، عن عائشة أنها قالت: (يطعم عنه فى قضاء رمضان ولا يصام عنه) ولهذا قال أحمد بن حنبل: إن معنى حديث ابن عباس فى النذر دون قضاء رمضان من أجل فتيا ابن عباس، وقد ذكر ذلك البخارى فى بعض طرق الحديث فى هذا الباب، وقال أبو داود فى حديث عائشة: معناه فى النذر. قال ابن القصار: ومعنى الأحاديث التى احتجوا بها عندنا أن يفعل عنه وليه ما يقوم مقام الصيام، وهو الإطعام، ويستحب لهم فيصيرون كأنهم صاموا عنه. قال المهلب: ولو جاز أن يقضى عمل البدن عن ميت قد فاته لجاز أن يصلى الناس عن الناس، ويؤمنون عنهم ولو كان سائغًا لكان رسول الله أحرص الناس أن يؤمن عن عمه أبى طالب لحرصه على إدخاله فى الإسلام، والإيمان من عمل القلب، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 والقلب عضو من أعضاء البدن اللازم لها الأعمال، وقد أجمعت الأمة على أنه لا يؤمن أحد عن أحد، ولا يصلى أحد عن أحد. واختلفوا فى الصوم والحج، فيجب أن يرد حكم ما اختلف فيه إلى ما اتفق عليه، قال ابن القصار: ولما لم يجز الصيام عن الشيخ الكبير فى حياته كان بعد الموت أولى من أن لا يجوز، وذهب الكوفيون والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور إلى أنه واجب أن يطعم عنه من رأس ماله وإن لم يوص، إلا أبا حنيفة فإنه قال: يُسْقِطُ عنه ذلك الموت، وقال مالك: الإطعام غير واجب على الورثة إلا أن يوصى بذلك إليهم فيكون فى ثلثه، فإن قال من أوجب الإطعام أن النبى، عليه السلام، شبهه بالدين قيل: هو حجة لنا، لأنه قال: (أفأقضيه عنها؟) ونحن نقول: قضاؤه أن يطعم عن كل يوم مسكينًا. وقوله: (أرأيت لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟) ، إنما سأله هل كنت تفعل ذلك تطوعًا، لأنه لا يجب عليه أن يقضى دين أمه إذا لم يكنه لها تركة. 41 - باب مَتَى يَحِلُّ فِطْرُ الصَّائِمِ وَأَفْطَرَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ حِينَ غَابَ قُرْصُ الشَّمْسِ. / 50 - فيه: عُمَرَ، قَالَ: قَالَ عليه السلام: (إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ) . / 51 - وفيه: ابْنِ أَبِى أَوْفَى: كُنَّا مَعَ النبى فِى سَفَرٍ، وَهُوَ صَائِمٌ فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، قَالَ لِبَعْضِ الْقَوْمِ: (يَا فُلانُ، قُمْ فَاجْدَحْ لَنَا) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 لَوْ أَمْسَيْتَ، قَالَها ثلاثًا، فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ، فَشَرِبَ ثُمَّ قَالَ: (إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ) . وترجم لحديث ابن أبى أوفى قال: يفطر بما تيسر بالماء وغيره. وقال المؤلف: أجمع العلماء أنه إذا غربت الشمس فقد حل فطر الصائم، وذلك آخر النهار وأول أوقات الليل، قال الطبرى: إن قال قائل: قوله: (فقد أفطر الصائم) أَعَزْمٌ من النبى على الصائم أن يفطر عند إقبال الليل أم ندب؟ قيل: هو عزم عليه أن يكون معتقدًا أنه مفطر وأن وقت صومه قد انقضى، غير عزم عليه أن يأكل أو يشرب. فإن قال قائل: وما الدليل على ذلك؟ قيل: إجماع الجميع من أهل العلم على أن المرء قد يكون مفطرًا بترك العزم على الصوم من الليل مع تركه نية الصوم نهاره أجمع، وإن لم يأكل ولم يشرب، وكان معلومًا بذلك أن اعتقاد المعتقد بعد انقضاء وقت الصوم للإفطار وترك الصوم. وإن لم يفعل شيئًا مما أبيح للمفطر فعله، موجب له اسم المفطر، إذا كان ذلك كذلك، وكان الجميع مجمعين على أن الأكل والشرب غير فرض على الصائم فى ذلك الوقت مع إجماعهم أن وقت الصوم قد انقضى بمجىء الليل وإدبار النهار، كان بينا أن معنى أمره بالإفطار فى تلك الحال إنما هو أمر عزم منه على ما وصفنا. فإن قيل: فإذا كان كما ذكرت من أنه معنى به العزم على اعتقاد الإفطار وترك العزم على الصوم، فما أنت قائل فى ما روى عنه عليه السلام أنه كان يواصل؟ قيل: كان وصاله من السحر إلى السحر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 ولعله كان ذلك توخيًا منه للنشاط على قيام الليل، فإنه كان إذا دخل العشر شد مئزره، ورفع فراشه، لأن الطعام مثقل للبدن، مفتر عن الصلاة، مجتلب للنوم، فكان يؤخر الإصابة من الطعام إلى السحر، إذ كان الله قد أعطاه من القوة على تأخير ذلك إلى ذلك الوقت والصبر عنه ما لم يعط غيره من أمته، وقد بين لهم ذلك بقوله: (إنى لست كهيئتكم إنى أظل يطعمنى ربى ويسقينى) . فأما الصوم ليلاً فلا معنى له، لأنه غير وقت للصوم، لقوله: (إذا غربت الشمس فقد أفطر الصائم) ، أى حل وقت فطره على ما تقدم، وسيأتى فى باب (الوصال) من فعله من السلف، ومن كرهه، وتمام الكلام فيه، إن شاء الله. قال المؤلف: وقوله عليه السلام: (فاجدح لنا، قال: يا رسول الله لو أمسيت، ثلاثًا) ، فيه من الفقه أن الناس سراع إلى إنكار ما يجهلون، كما فعل خادم النبى، عليه السلام، حين توقف عن إنقاذ أمره لما جهله من الدليل الذى علمه النبى، عليه السلام، وفيه أن الجاهل بالشىء ينبغى أن يسمح له فيه المرة والثانية، وتكون الثالثة فاصلة بينه وبين معلمه، كما فعل النبى، عليه السلام، حين دعا عليه بالويل لكثرة التغيير، وكذلك فعل الخضر بموسى فى الثالثة قال له: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ) [الكهف: 78] ، وذلك كان شرط موسى لنفسه بقوله: (إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى) [الكهف: 76] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 42 - باب تَعْجِيلِ الإفْطَارِ / 52 - فيه: سَهْلِ، قَالَ عليه السلام: (لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ) . / 53 - وفيه: ابْنِ أَبِى أَوْفَى، قَالَ: (كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ، عليه السلام، فِى سَفَرٍ، فَصَامَ حَتَّى أَمْسَى، قَالَ لِرَجُلٍ: (انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي) ، قَالَ: لَوِ انْتَظَرْتَ حَتَّى نُمْسِيَ، قَالَ: (فانْزِلْ فَاجْدَحْ لِى، إِذَا رَأَيْتَ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ) . قال المهلب: إنما حض عليه السلام على تعجيل الفطر لئلا يزاد فى النهار ساعة من الليل، فيكون ذلك زيادة فى فروض الله، ولأن ذلك أرفق بالصائم وأقوى له على الصيام، وقد روى محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله: (لا يزال الدين ظاهرًا ما عجل الناس الفطر لأن اليهود يؤخرون) . وقال عمرو بن ميمون الأودى: كان أصحاب محمد أسرع الناس فطرًا، وأبطأهم سحورًا. وقال سعيد بن المسيب: كتب عمر إلى أمراء الأجناد: لا تكونوا مسبوقين بفطركم، ولا منتظرين لصلاتكم اشتباك النجوم، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج، قال: (سمعت عروة بن عياض يخبر عبد العزيز بن عبد الله أنه يؤمر أن يفطر قبل أن يصلى ولو على حسوة) . وروى أيضًا عبد الرزاق عن صاحب له، عن عوف، عن أبى رجاء قال: (كنت أشهد ابن عباس عند الفطر فى رمضان، فكان يوضع له طعامه، ثم يأمر مراقبًا يراقب الشمس، فإذا قال: قد وجبت، قال: كلوا، ثم قال: كنا نفطر قبل الصلاة) ، وليس ما رواه مالك فى الموطأ، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن: (أن عمر وعثمان كانا يصليان المغرب حين ينظران إلى الليل الأسود قبل أن يفطرا، ويفطران بعد الصلاة) ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 بمخالف لما روى من تعجيل الفطر، لأنهما إنما كانا يراعيان أمر الصلاة، وكانا يعجلان الفطر بعدها من غير كثرة تنقل، لما جاء من تعجيل الفطر، ذكره الداودى. 43 - باب إِذَا أَفْطَرَ فِى رَمَضَانَ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ / 54 - فيه: أَسْمَاءَ، قَالَتْ: (أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ رسول الله يَوْمَ غَيْمٍ، ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ) ، قِيلَ لِهِشَامٍ بن عروة: فَأُمِرُوا بِالْقَضَاءِ؟ قَالَ: بُدَّ مِنْ القَضَاءٍ؟ وَقَالَ مَعْمَرٌ: سَمِعْتُ هِشَامًا، لا أَدْرِى أَقَضَوْا أَمْ لا. جمهور العلماء يقولون بالقضاء فى هذه المسألة، وقد روى ذلك عن عمر بن الخطاب من رواية أهل الحجاز وأهل العراق، فأما رواية أهل الحجاز، فروى ابن جريج، عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: (أفطر الناس فى شهر رمضان فى يوم غيم ثم طلعت الشمس، فقال عمر: الخطب يسير وقد اجتهدنا، نقضى يومًا) ، هكذا قال ابن جريج عن زيد بن أسلم، عن أبيه، وهو متصل. ورواية مالك فى الموطأ عن زيد بن أسلم، عن أخيه أن عمر. وهى مرسلة، لأن خالد ابن أسلم أخا زيد لم يدرك عمر، وأما رواية أهل العراق، فروى الثورى، عن جبلة بن سحيم بن حنظلة، عن أبيه أنه شهد عمر، فذكر القصة، وقال: (يا هؤلاء، من كان أفطر فإن قضاء يوم يسير) ، وجاء رواية أخرى عن عمر أنه قال: (لا قضاء عليه) . روى معمر، عن الأعمش، عن زيد بن أسلم قال: ' أفطر الناس في زمن عمر، فطلعت، فطلعت الشمس فشق ذلك على) الناس فقالوا: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 نقضي هذا اليوم؟ [فقال عمر] : ولم نقضي؟ والله ما تجانفنا الإثم '. والرواية الأولى أولى بالصواب، وقد روى القضاء عن ابن عباس ومعاوية، وهو قول عطاء، ومجاهد، والزهرى، ومالك، والثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، وقال الحسن البصرى: لا قضاء عليه كالناسى، وهو قول إسحاق وأهل الظاهر. وحجة من أوجب القضاء إجماع العلماء أنه لو غم هلال رمضان فأفطروا، ثم قامت البينة برؤية الهلال أن عليهم القضاء بعد إتمام صيام يومهم، وقال المهلب: ومن حجتهم أيضًا قول الله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ) [البقرة: 187] ، ومن أفطر ثم طلعت الشمس فلم يتم الصيام إلى الليل كما أمره الله فعليه القضاء من أيام أخر بنص كتاب الله. قال ابن القصار: يحتمل ما روى عن عمر أنه قال: (لا نقضى، والله ما تجانفنا الإثم) ، أن يكون ترك القضاء إذا لم يعلم ووقع الفطر على الشك، وتكون الرواية عنه بثبوت القضاء إذا وقع الفطر فى النهار بغير شك. قال المؤلف: وقد ذكرنا فى مسألة الذى يأكل وهو يشك فى الفجر من جعله بمنزلة من أكل وهو يشك فى غروب الشمس، ومن فرق بين ذلك فى باب قوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) [البقرة: 187] الآية، وفرق ابن حبيب بين من أكل وهو يشك فى الفجر وبين من أكل وهو يشك فى غروب الشمس، وأوجب القضاء للشاك فى غروب الشمس، واحتج بأن الأصل بقاء النهار، فلا يأكل حتى يوقن بالغروب، والأصل فى الفجر بقاء الليل، فلا يمسك عن الأكل حتى يوقن بالنهار، وبهذا قال المخالفون لمالك فى هذا الباب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 44 - باب صَوْمِ الصِّبْيَانِ وَقَالَ عُمَرُ لِنَشْوَانٍ فِى رَمَضَانَ: وَيْلَكَ، صِبْيَانُنَا صِيَامٌ، فَضَرَبَهُ. / 55 - فيه: الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ، قَالَتْ: أَرْسَلَ النَّبِىُّ، عليه السلام، غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأنْصَارِ: (مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ، قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإفْطَارِ) . أجمع العلماء أنه لا تلزم العبادات والفرائض إلا عند البلوغ، إلا أن كثيرًا من العلماء استحبوا أن يدرب الصبيان على الصيام والعبادات رجاء بركتها لهم، وليعتادوها، وتسهل عليهم إذا لزمتهم، قال المهلب: وفى هذا الحديث من الفقه أن من حمل صبيا على طاعة الله ودربه على التزام شرائعه فإنه مأجور بذلك، وأن المشقة التى تلزم الصبيان فى ذلك غير محاسب بها من حملهم عليها. قال ابن المنذر: واختلفوا فى الوقت الذى يؤمر فيه الصبيان بالصيام، فكان الحسن، وابن سيرين، وعروة، وعطاء، والزهرى، وقتادة، والشافعى يقولون: يؤمر به إذا أطاقه، وقال الأوزاعى: إذا أطاق صوم ثلاثة أيام تباعًا لا يخور فيهن ولا يضعف حمل على صوم رمضان، واحتج بحديث ابن أبى لبيبة عن أبيه، عن جده، عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (إذا صام الغلام ثلاثة أيام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 متتابعة فقد وجب عليه صيام شهر رمضان) ، وقال إسحاق: إذا بلغ ثنتى عشرة سنة أحببت له أن يتكلف الصيام للعادة، وقال ابن الماجشون: إذا أطاقوا الصيام ألزموه، فإن أفطروا لغير عذر ولا علة فعليهم القضاء. وقال أشهب: يستحب لهم إذا أطاقوه. 45 - باب الْوِصَالِ وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ فِى اللَّيْلِ صِيَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة 187] وَنَهَى النَّبِىُّ، عليه السلام، رَحْمَةً لَهُمْ وَإِبْقَاءً عَلَيْهِمْ، وَمَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ . / 56 - فيه: أَنَسٍ: قَالَ عليه السلام: (لا تُوَاصِلُوا، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ، إِنِّى أُطْعَمُ وَأُسْقَى) ، أَوْ إِنِّى أَبِيتُ أُطْعَمُ وَأُسْقَى. / 57 - وفيه: أَبو سَعِيدٍ: قَالَ عليه السلام: (لا تُوَاصِلُوا، فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ، فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ. . .) الحديث. وترجم له باب الوصال إلى السحر، اختلف العلماء فى تأويل أحاديث الوصال، فقال قائلون: إنما هى رسول الله عن الوصال رحمة لأمته وإبقاء عليهم، فمن قدر عليه فلا حرج، لأنه لله تعالى، يدع طعامه وشرابه، وقد واصل جماعة من السلف، ذكر الطبرى بإسناده عن ابن الزبير أنه كان يواصل سبعة أيام حتى تيبس أمعاؤه، فإذا كان اليوم السابع أتى بسمن و [. . . . . . .] فتحساه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 حتى يفتق الأمعاء، وعن عبد الرحمن بن أبى نعم أنه كان لا يفطر فى رمضان كله إلا مرتين، وحكى مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير: (أنه كان يواصل ليلة ست عشرة وليلة سبع عشرة من رمضان، لا يفرق بينهما، فقيل له: ماذا تجده يقوتك فى وصالك؟ قال: السمن أشربه، أجده يبل عروقى، فأما الماء فإنه يخرج من جسدى) . وأجاز ابن وهب، وأحمد بن حنبل، وإسحاق الوصال من سحر إلأى سحر، واحتجوا بحديث أبى سعيد أن النبى، عليه السلام، قال: (لا تواوصلوا، وأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر) . فأذن فى ذلك لمن أطاقه من أمته على النحو الذى يجوز، وذلك تأخير الأكل إلى السحر، ونهى عنه من كان له غير مطيق بقوله: (فاكلفوا من العمل ما تطيقون) بعد أن بين لهم أنه قد أعطى من القوة على الوصال ما لم يعط غيره بقوله: (إنى لست كهيئتكم، إنى أبيت يطعمنى ربى ويسقينى) . فأما الصوم ليلا فلا معنى له، لأن ذلك غير وقت للصوم، كما شعبان غير وقت لصوم شهر رمضان، وكذلك لا معنى لتأخير الأكل إلى السحر لمن كان صائمًا فى رمضان إذا لم يكن تأخيره ذلك طلبًا للنشاط على قيام الليل، لأن فاعل ذلك إن لم يفعله لما ذكرناه فإنه مجيع نفسه فى غير ما فيه لله رضا، فلا معنى لتركه الأكل بعد مغيب الشمس لقوله عليه السلام: (إذا غربت الشمس فقد أفطر الصائم) ، وكره مالك، والثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وجماعة الوصال على كل حال لمن قدر عليه، ولم يجيزوه لأحد، واحتجوا أنه عليه السلام نهى عنه وقال: (إذا نهيتكم عن شىء فانتهوا) . قالوا: ولما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 قال: (لست كهيئتكم) ، أعلمهم أن الوصال لا يجوز لغيره، واحتجوا بقوله عليه السلام: (إذا غربت الشمس فقد أفطر الصائم) . قالوا: فهذا يدل أن الوصال للنبى، عليه السلام، خصوص، وأن المواصل لا ينتفع بوصاله، لأن الليل ليس موضعًا للصوم بدليل هذا الحديث، وبقوله: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] . قال الطبرى: وأما ما روى عن بعض الصحابة وغيرهم من تركهم الأكل الأيام ذوات العدد ليلاً ونهارًا، فإن ذلك كان منهم على أنحاء شتى، فمنهم من كان ذلك منه لقدرته عليه، فيصرف فطره، إذ لم يكن يمنعه تركه من أداء فرائض الله الواجبة عليه إلى أهل الفقر والحاجة، طلب ثواب الله وابتغاء وجهه، مثل ما روى عن الحسن أنه قال: لقد أدركنا أقوامًا، وصحبنا طوائف، إن أحدهم يمسى وما عنده من العشاء إلا قدر ما يكفيه، ولو شاء لأتى عليه، فيقول: ما أنا بآكله حتى أجعل لله منه، ومنهم من كان يفعله استغناء عنه إذا كانت نفسه قد مرنت عليه واعتادته، كما حدثنى أبو كريب عن أبى بكر بن عياش، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمى قال: ربما لبثت ثلاثين يومًا ما أطعم من غير صوم إلا الحبة، وما يمنعنى ذلك من حوائجى، قال الأعمش: وكان إبراهيم التيمى يمكث شهرين لا يأكل، ولكنه كان يشرب شربة نبيذ، ومنهم من كان يفعله منعًا لنفسه شهوتها ما لم تَدْعُهُ إلأيه الضرورة، ولا خاف العجز عن أداء الواجب لله عليه، إرادة منه قهرها، وحملها على الأفضل، كالذى روينا عن مجاهد أنه قال: (لو أكلت كل ما أشتهى ما سويت حشفة) . فما روى عن السلف أنهم كانوا يواصلون الأيام الكثيرة فإنه على بعض هذه الوجوه التى ذكرت، لا أنه كان يصوم الليل، أو على أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 كان يرى أن تركه الأكل والشرب فيه كصوم النهار ولو كان ذلك صومًا، كان لمن شاء أن يفرد الليل بالصوم دون النهار، والنهار دون الليل ويقرنهما إذا شاء، وفى إجماع من تقدم وتأخر ممن أجاز الوصال، وممن كرهه، على أن إفراد الليل بالصوم إذا لم يتقدمه صوم نهار تلك الليلة غير جائز، أَدَلُّ الدليل على أن صومه غير جائز، وإن كان تقدمه صوم نهار تلك الليلة. وقوله: (إنى أبيت أطعم وأسقى) ، فيه تأويلان: أحدهما: على ظاهر الحديث يطعمه الله ويسقيه. والثانى: على الاستعارة. والمعنى أن الله تعالى، يرزقه قوة على الصيام كقوة من أكل وشرب، والدليل على صحة هذا القول الآخر أنه لو أطعم وأسقى على الحقيقة لم يكن مواصلاً، ولكان مفطرًا. 46 - باب التَّنْكِيلِ لِمَنْ أَكْثَرَ الْوِصَالَ رَوَاهُ أَنَسٌ عَنِ النَّبِىِّ، عليه السلام. / 58 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنِ الْوِصَالِ فِى الصَّوْمِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (وَأَيُّكُمْ مِثْلِى، إِنِّى أَبِيتُ يُطْعِمُنِى رَبِّى وَيَسْقِينِ) ، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ، وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلالَ، فَقَالَ: (لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ) ، كَالتَّنْكِيلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا. قال المهلب: لما نهاهم عليه السلام عن الوصال فلم ينتهوا، بين لهم أنه مخصوص بالقوة بقوله: (إنى لست كهيئتكم) ، لأن الله يطعمه ويسقيه، فأرادوا تحمل المشقة فى الاستنان به، والاقتداء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 به، فواصل بهم كالمنكل لهم على تركهم ما أمرهم به من الرخصة، فبان بهذا أن الوصال ليس بحرام، لأنه لو كان حرامًا ما واصل بهم، ولا أتى معهم الحرام الذى نهاهم عنه. 47 - باب مَنْ أَقْسَمَ عَلَى أَخِيهِ لِيُفْطِرَ فِى التَّطَوُّعِ وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ قَضَاءً إِذَا كَانَ أَوْفَقَ لَهُ / 59 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، قَالَ: آخَى النَّبِىُّ، عليه السلام، بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِى الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِى النساء فِى الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ فَإِنِّى صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا، قَالَ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِى حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِىَّ، عليه السلام، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: (صَدَقَ سَلْمَانُ) . اختلف العلماء فيمن دخل فى صلاة أو صيام تطوع فقطعه عامدًا، فروى عن على بن أبى طالب، وابن عباس، وجابر بن عبد الله نه لا قضاء عليه، وبه قال الثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بحديث أبى جحيفة وقالوا: ألا ترى سلمان لما أمر بالفطر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 جوزه النبى، عليه السلام، وجعله أفقه منه، واحتج ابن عباس لذلك فقال: (مثل ذلك كمثل رجل طاف سبعًا ثم قطعه فلم يوفه، فله ما احتسب، أو صلى ركعة ثم انصرف ولم يصل أخرى، فله ما احتسب، أو ذهب بمال يتصدق به فرجع ولم يتصدق، أو تصدق ببعضه وأمسك بعضًا) ، فكره ابن عمر ذلك وقال: (المفطر متعمدًا فى صوم التطوع ذلك اللاعب بدينه) ، وكره النخعى، والحسن البصرى، ومكحول الفطر فى التطوع، وقالوا: يقضيه، وذكر ابن القصار عن مالك أمنه من أفطر فى التطوع لغير عذر فعليه القضاء، وإن أفطره لعذر فلا قضاء عليه، وقال أ [وحنيفة وأصحابه: عليه القضاء وإن أفطر لعذر. واحتج مالك لمذهبه بما رواه فى (الموطأ) ، عن ابن شهاب أن عائشة، وحفصة زوجى النبى، عليه السلام، أصبحتا صائمتين متطوعتين، فأهدى لهما طعام، فأفطرتا عليه، فدخل عليهما رسول الله فأخبرتاه بذلك فقال رسول الله: (اقضيا مكانه يومًا آخر) . فكان معنى هذا الحديث عند مالك أنهما أفطرتا بغير عذر، فلذلك أمرهما بالقضاء، ومن حجته أيضًا قوله تعالى: (وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [محمد: 33] ، ومن أفطر متعمدًا بعد دخوله فى الصوم فقد أبطل عمله، وقوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) [البقرة: 196] ، وأجمع المسلمون أن المفسد لحجة التطوع وعمرته أن عليه القضاء، فالقياس على هذا الإجماع يوجب القضاء على مفسد صومه عامدًا، فإن قيل: فقد روى عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (اقضيا إن شئتما يومًا مكانه) قيل: لا يصح، ولو صح لكان معناه أنهما أفطرتا لعذر، فقال لهما: (اقضيا إن شئتما) . وأفطرتا فى حال أخرى لغير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 عذر، فأمرهما بالقضاء حتى لا تتنافى الأحاديث، عن ابن القصار. ومن حجة أبى حنيفة ظاهر حديث مالك أن النبى، عليه السلام، قال لعائشة وحفصة: (اقضيا يومًا مكانه) ، ولم يشترط ذلك لعذر ولا غيره، فدل أنه موجب للقضاء فى جميع الأحوال. قال الطحاوى: والنظر فى ذلك أنا رأينا أشياء تجب على العباد بإيجابهم لها على أنفسهم، منها الصلاة والصدقة والحج والعمرة والصيام، فكان من أوجب شيئًا من ذلك على نفسه فقال: لله علىّ كذا، وجب الوفاء عليه بذلك، وكان من دخل فى حج أو عمرة تطوعًا ثم أراد الخروج منهما لم يكن له ذلك، وكان بدخوله فيهما فى حكم من قال: لله علىّ حج أو عمرة، فعليه الوفاء بهما، وإن خرج منهما بعذر أو بغير عذر فعليه قضاؤهما، والصلاة والصيام فى النظر كذلك. قال المهلب: وفى حديث أبى جحيفة حُجة لمالك أن من أفطر لعذر أنه لا قضاء عليه، لأن فطر أبى الدرداء إنما كان لوجه من أوجه الاجتهاد فى السنة وسلوك السبيل الوسطى، ولم يكن إفطاره منتهكًا ولا متهاونًا فيجب عليه القضاء، وإنما يجب القضاء على من أفطر متهاونًا بحرمة الصيام لغير عذر ولا وجه من أوجه الصواب. ألا ترى أن ابن عمر لم يجد ما يصفه به إلا أن قال: ذلك المتلاعب بدينه، فإذا لم يكن متلاعبًا وكان لإفطاره وجه لم يكن عليه قضاء، وفيه النهى عن التعمق والغلو فى العبادة. واحتج الشافعى على من احتج عليه بالإجماع فى الحج التطوع والعمرة أنه ليس لأحد الخروج منهما، ومن خرج منهما قضاهما، فإن الصيام قياس على ذلك، فقال: الفرق بين ذلك أن من أفسد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 صلاته أو صيامه أو طوافه كان عاصيًا لو تمادى فى ذلك فاسدًا، وهو فى الحج مأمور بالتمادى فيه فاسدًا، ولا يجوز له الخروج منه حتى يتمه على فساده، ثم يقضيه، وليس كذلك الصوم والصلاة. 48 - باب صَوْمِ شَعْبَانَ / 60 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: (كَانَ عليه السلام، يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لا يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ النبى اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِى شَعْبَانَ) . وَقَالَتْ أيضًا: (لَمْ يَكُنِ النَّبِىُّ، عليه السلام، يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، وَكَانَ يَقُولُ: خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا. . .) الحديث. قال المهلب: فيه من الفقه أن أعمال التطوع ليست منوطة بأوقات معلومة، وإنما هى على قدر الإرادة لها والنشاط فيها، وقد روى فى بعض الحديث أن هذا الصيام الذى كان يصوم فى شعبان كان لأنه عليه السلام يلتزم صوم ثلاثة أيام من كل شهر كما قال لعبد الله بن عمرو، لأن الحسنة بعشر أمثالها، فذلك صيام الدهر فكان يلتزم ذلك، فربما شغل عن الصيام أشهرًا فيجمع ذلك كله فى شعبان ليدركه قبل صيام الفرض، وفيه وجه آخر، ذكر الطحاوى، وابن أبى شيبة من حديث يزيد بن هارون، عن صدقة بن موسى، عن ثابت، عن أنس، قال: سئل رسول الله أى الصوم أفضل؟ قال: (صوم شعبان تعظيمًا لرمضان) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 وفيه وجه آخر، ذكر الطحاوى من حديث ابن مهدى، قال: حدثنا ثابت بن قيس أبو الغصن، عن أبى سعيد المقبرى، عن أسامة بن زيد، قال: كان رسول الله يصوم يومين من كل جمعة لا يدعهما: يوم الاثنين والخمس، فقال عليه السلام: (هذان يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، فأحب أن يعرض عملى وأنا صائم) ، قال: وما رأيت رسول الله يصوم من شهر ما يصوم من شعبان، فسألته عن ذلك. فقال: (هو شهر ترفع فيه الأعمال لرب العالمين، فأحب أن يرفع عملى وأنا صائم) . وقول عائشة فى حديث يحيى عن أبى سلمة بأنه كان يصوم شعبان كله، فليس على ظاهره وعمومه، والمراد أكثره لا جميعه، وقد جاء ذلك عنها مفسرًا، روى ابن وهب عن أسامة بن زيد، قال: حدثنى محمد بن إبراهيم، عن أبى سلمة، قال: (سألت عائشة عن صيام رسول الله فقالت كان يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وكان يصوم شعبان، أو عامة شعبان) . وروى عبد الرزاق عن ابن عيينة، عن ابن أبى لبيد، عن أبى سلمة، قال: سألت عائشة عن صيام رسول الله. . .) فذكرت الحديث، وقالت: (ما رأيت رسول الله أكثر صيامًا منه فى شعبان، فإنه كان يصومه كله إلا قليلاً) . وهذه الآثار تشهد لصحتها رواية أبى النضر عن أبى سلمة، عن عائشة: (أنه ما استكمل صيام شهر قط إلا رمضان) ، ومنها حديث ابن عباس الذى فى الباب بعد هذا، فهى أولى من رواية يحيى عن أبى سلمة. وقوله: (فإن الله لا يمل حتى تملوا) ، فإن الله تعالى لا يجوز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 عليه الملل، ولا هو من صفاته، وإنما سمى المجازاة باسم الفعل، وهذا هو أعلى طبقات الكلام، وقد تقدم بيان هذا بزيادة فيه فى كتاب الإيمان فى باب: أحب الدين إلى الله أدومه، وفى آخر كتاب الصلاة فى باب: ما يكره من التشديد فى العبادة. 49 - باب مَا يُذْكَرُ مِنْ صَوْمِ النَّبِىِّ، عليه السلام، وَإِفْطَارِهِ / 61 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: (مَا صَامَ النَّبِىُّ، عليه السلام، شَهْرًا كَامِلا قَطُّ غَيْرَ رَمَضَانَ، وَيَصُومُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: لا وَاللَّهِ لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى يَقُولَ: لا وَاللَّهِ لا يَصُومُ) . / 62 - وفيه: أَنَس: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَلا يَصُومَ مِنْهُ، وَيَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أَلا يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ لا تَشَاءُ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلا رَأَيْتَهُ، وَلا نَائِمًا إِلا رَأَيْتَهُ. . .) الحديث. قال المهلب: فى هذه الأحاديث من الفقه أن النوافل ليس لها أوقات معلومة، وإنما يراعى فيها وقت النشاط لها والحرص عليها. وفيه أن النبى، عليه السلام، لم يلزم سرد الصيام الدهر كله، ولا سرد الصلاة الليل كله، رفقًا بنفسه وأمته لئلا يقتدى به فى ذلك فيجحف، وإن كان قد أُعطى عليه السلام من القوة فى أمر الله ما لو التزم الصعب منه لم ينقطع عنه فركب من العبادة الطريقة الوسطى، فصام وأفطر، وقام ونام، وبهذا أوصى عبد الله بن عمرو حين أراد التشديد على نفسه فى العبادة فقال: (إنك لا تستطيع ذلك، فصم وأفطر، وقم ونم) ، فكان إذ كبر يقول: يا ليتنى قبلت رخصة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 وقوله: (ما مست حريرة ألين من كف رسول الله) . فهذا يدل على كمال فضائل رسول الله خَلْقًا وخُلقًا، وأما طيب رائحته فإنما طيبها الله لمباشرته الملائكة ومناجاته لهم، وقول ابن عباس: (إن النبى، عليه السلام، ما صام شهرًا كاملا قط غير رمضان) ، يشهد لحديث أبى النضر عن أبى سلمة، عن عائشة بالصحة، وهما مبيِّنان لرواية يحيى بن أبى كثير عن أبى سلمة، عن عائشة (أنه عليه السلام كان يصوم شعبان كله) ، أن المراد بذلك أكثره على ما جاء فى حديث محمد بن إبراهيم، وابن أبى لبيد جميعًا عن أبى سلمة المذكورين فى الباب قبل هذا. 50 - باب حَقِّ الضَّيْفِ فِى الصَّوْمِ / 63 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: (دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ. . .) فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلىَ قوله: (إِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. . .) إِلى آخره. وقد جاء عن النبى، عليه السلام، إكرام الضيف وبره، وذلك من سنن المرسلين، ألا ترى ما صنع إبراهيم بضيفه حين جاءهم بعجل سمين، وقال عليه السلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) ، ومن إكرام الضيف أن تأكل معه، ولا توحشه بأن يأكل وحده، وهو معنى قوله عليه السلام: (إن لضيفك عليك حقًا) ، يريد أن تطعمه أفضل ما عندك، وتأكل معه، ألا ترى أن أبا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 الدرداء كان صائمًا فزاره سلمان، فلما قرب إلأيه الطعام قال: لا آكل حتى تأكل، فأفطر أبو الدرداء من أجله وأكل معه. والزور: الضيف، والرجل يأتيه زائرًا الواحد والاثنان والثلاثة. والمذكر والمؤنث فى ذلك بلفظ واحد، يقال: هذا رجل زور، ورجلان زور، وقوم زور، فيوحد فى كل موضع، لأنه مصدر وضع موضع الأسماء، مثل ذلك هم قوم صوم وفطر وعدل فى أن المذكر والمؤنث بلفظ واحد. 51 - باب حَقِّ الْجِسْمِ فِى الصَّوْمِ / 64 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرِو، قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ: (يَا عَبْدَاللَّهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَلا تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَإِذَّا ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ) ، فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَىَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أَجِدُ قُوَّةً، قَالَ: (فَصُمْ صِيَامَ أَخْىِ دَاوُدَ، وَلا تَزِدْ عَلَيْهِ) ، قُلْتُ: وَمَا صِيَامُ دَاوُدَ نَبِىِّ اللَّهِ؟ قَالَ: (نِصْفَ الدَّهْرِ) ، فَكَانَ عَبْدُاللَّهِ يَقُولُ: بَعْدَ مَا كَبِرَ: يَا لَيْتَنِى قَبِلْتُ رُخْصَةَ رسول الله) . قال المهلب: وحق الجسم أن يترك فيه من القوة ما يستديم به العمل، لأنه إذا أجهد نفسه قطعها عن العبادة وفترت، وقد جاء فى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 الحديث (أن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى) ، وقال عليه السلام: (أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإِنْ قَلَّ) ، وقال: (اكلفوا من العمل ما تطيقون) ، فنهى عليه السلام عن التعمق فى العبادة وإجهاد النفس فى العمل خشية الانقطاع، ومتى دخل أحد فى شىء من العبادة لم يصلح له الانصراف عنها. وقد ذم الله من فعل ذلك بقوله: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا) [الحديد: 27] الآية، فوبخهم على ترك التمادى فيما دخلوا فيه، ولهذا قال عبد الله بن عمرو حين ضعف عن القيام بما كان التزمه: (ليتنى قبلت رخصة رسول الله) . 52 - باب صَوْمِ الدَّهْرِ / 65 - فيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو: أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ أَنِّى أَقُولُ: وَاللَّهِ لأصُومَنَّ النَّهَارَ، وَلأقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ، فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى، قَالَ: (فَإِنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ) ، قُلْتُ: فَإِنِّى أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: (فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ) ، قُلْتُ: إِنِّى أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: (فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ) ، فَقُلْتُ: إِنِّى أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ عليه السلام: (لا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 قال المهلب: فيه من الفقه أن التألى على الله فى أمر لا يجد منه سعة ولا إلى غيره سبيلاً منهى عنه، كما نهى النبى، عليه السلام، عبد الله بن عمرو عن ما تألى فيه من قيام الليل وصيام النهار، وكذلك من حلف ألا يتزوج ولا يأكل ولا يشرب، فهذا كله غير لازم عند أهل العلم لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) [التحريم: 1] وللذى حلف ألا ينكح أن ينكح، وكذلك سائر المحرجات الشاملة مباح له إتيان ما حلف عليه وعليه كفارة اليمين بالله. وفيه: أن التعمق فى العبادة والإجهاد للنفس مكروه لقلة صبر الشر على التزامها لا سيما فى الصيام الذى هو إضعاف للجسم، وقد رخص الله فيه فى السفر، لإدخال الضعف على من تكلف مشقة الحل والترحال، فكيف إذا انضاف ذلك إلى من كلفه الله قتال أعدائه الكافرين حتى تكون كلمة الله هى العليا، ألا ترى أن النبى، عليه السلام، قال ذلك فى هذا الحديث عن داود: (وكان لا يفر إذا لاقى) ، فإنه أبقى لنفسه قوة، لئلا تضعف نفسه عند المدافعة واللقاء. وقد كره قوم من السلف صوم الدهر، روى ذلك عن عمر، وابن مسعود، وأبى ذر، وسلمان، وعن مسروق، وابن أبى ليلى، وعبد الله بن شداد، وعمرو بن ميمون، واعتلوا بقوله عليه السلام فى صيام داود: (لا أفضل من ذلك) . وقوله: (لا صام من صام الأبد، مرتين) ، وقالوا: إنما نهى عن صيام الأبد لما فى ذلك من الإضرار بالنفس، والحمل عليها، ومنعها من الغذاء الذى هو قوامها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 وقوتها على ما هو أفضل من الصوم كالصلاة النافلة وقراءة القرآن والجهاد وقضاء حق الزور والضعيف، وقد أخبر عليه السلام بقوله فى صوم داود: (وكان لا يفر إذا لاقى) ، أن من فضل صومه على غيره إنما كان من أجل أنه كان لا يضعف عن القيام بالأعمال التى هى الأفضل من الصوم، وذلك ثبوته لحرب أعداء الله عند التقاء الزحوف، وتركه الفرار منهم، فكان عليه السلاك إذ قضى بصوم داود بالفضل على غيره من معانى الصيام قد بين أن كل من كان صومه لا يورثه ضعفًا عن أداء فرائض الله، وعن ما هو أفضل من صومه، وذلك من نفل الأعمال، وهو صحيح الجسم، فغير مكروه له صومه ذلك. وكل من أضعفه صومه النفل عن أداء شىء من فرائض الله فغير جائز له صومه، بل هو محظور عليه، فإن لم يضعفه عن الفرائض، وأضعفه عما هو أفضل منه من النوافل فإن صومه مكروه، وإن كان غير آثم، وكان ابن مسعود يقل الصوم فقيل له فى ذلك، فقال: إنى إذا صمت ضعفت عن الصلاة، والصلاة أحب إلى من الصوم، وكان أبو طلحة لا يكاد يصوم على عهد النبى من أجل الغزو، فلما توفى النبى، عليه السلام، ما رأيته يفطر إلا يوم فطر أو أضحى، وقد سرد ابن عمر الصيام قبل موته بسنتين، وسرد الصيام أيضًا أبو الدرداء، وأبو أمامة الباهلى، وعبد الله بن عمرو، وحمزة بن عمرو، وعائشة، وأم سلمة زوجا النبى، وأسماء بنت أبى بكر، وعبد الله وعروة ابنا الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وابن سيرين، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 وقالوا: من أفطر الأيام التبى نهى رسول الله عن صيامها، فليس بداخل فى ما نهى عنه من صوم الدهر، وقال مالك فى (المجموعة) : لا بأس بصيام الدهر إذا أفطر يوم الفطر، ويوم النحر، وأيام منى، وقد قيل: إن رسول الله إنما قال إذ سئل عن صوم الدهر: (لا صام ولا أفطر) ، لمن صام حتى هلك من صومه، حدثنى بذلك يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، عن خالد الحذاء، عن أبى قلابة: أن امرأة صامت حتى ماتت فقال النبى، عليه السلام: (لا صامت ولا أفطرت) ، ومن صام حتى بلغ به الصوم هذا الحد فلا شك أنه بصومه ذلك آثم، قاله الطبرى. 53 - باب حَقِّ الأهْلِ فِى الصَّوْمِ / 66 - فيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو: بَلَغَ النَّبِىَّ أَنِّى أَسْرُدُ الصَّوْمَ، وَأُصَلِّى اللَّيْلَ، فَقَالَ: (صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِعَيْنِيْكَ عَلَيْكَ حَظًّا، وَلِنَفْسِكَ وَأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَظًّا) ، قُلْت: إِنِّى لأقْوَى لِذَلِكَ، يَا رَسُولُ الله، قَالَ: (فَصُمْ صِيَامَ دَاوُدَ، وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلا يَفِرُّ إِذَا لاقَى) ، قَالَ: مَنْ لِى بِهَذِهِ يَا رَسُولُ اللَّهِ. وَقَالَ: (لا صَامَ مَنْ صَامَ الأبَدَ مَرَّتَيْنِ) . وترجم له باب: (صوم يوم وإفطار يوم) ، وباب: (صوم نبى الله داود) . حق الأهل أن يبقى فى نفسه قوة يمكنه معها جماعها، فإنه حق يجب للمرأة المطالبة به لزوجها عند بعض أهل العلم، كما لها المطالبة بالنفقة عليها، فإن عجز عن واحدة منهما طلقت عليه بعد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 الأجل فى ذلك، هذا قول أبى ثور، وحكاه عن أهل الأثر، ذكره ابن المنذر وجماعة الفقهاء على خلافه فى الطلاق إذا عجز عن الوطء، وسيأتى الكلام فى أحكام ذلك فى موضعه من كتاب النكاح، إن شاء الله. 54 - باب صِيَامِ الأَيَّامِ الْبِيضِ ثَلاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ / 67 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أَوْصَانِى النبى، عليه السلام، بِثَلاثٍ: (صِيَامِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَىِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ) . قال المؤلف: ليس فى حديث أبى هريرة أن الثلاثة الأيام التى أوصاه بها من كل شهر هى الأيام البيض كما ترجم به البخارى، وهى موجودة فى حديث آخر، روى الطبرى، قال: حدثنا مخلد بن الحسن، حدثنا عبيد الله بن عمرو الرقى، عن زيد بن أبى أنيسة، عن أبى إسحاق السبيعى، عن جرير بن عبد الله البجلى، عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، أيام البيض: صبيحة ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة) ، وروى شعبة، عن أنس بن سيرين، عن عبد الملك بن المنهال، عن أبيه، قال: (أمرنى النبى، عليه السلام، بالأيام البيض، وقال: هو صوم الشهر) . وروى من حديث عمر، وأبى ذر عن النبى، عليه السلام: أنه قال لأعرابى ذكر له أنه صائم قال: (أين أنت عن العزِّ البيض: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 رواه ابن عيينة عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن موسى بن طلحة، عن رجل من بنى تميم يقال له: ابن الحَوْتكيّة عن عمرو، وأبى ذر. وممن كان يصوم الأيام البيض من السلف: عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وأ [وذر، ومن التابعين الحسن البصرى، والنخعى، وسئل الحسن البصرى لم صام الناس الأيام البيض وأعرابى يسمع، فقال الأعرابى: لأنه لا يكون الكسوف إلآ فيها، ويحب الله ألا تكون فى السماء آية إلا كانت فى الأرض عبادة. قال الطبرى: فاختار هؤلاء صيام هذه الأيام البيض لهذه الآثار، واختار قوم من السلف صيام ثلاثة أيام من كل شهر غير معيَّنة على ظاهر حديث أ [ى هريرة المذكور فى هذا الباب، وروى معمر عن الجريرى، عن أبى العلاء بن الشخير أن أعرابيا سمع النبى، عليه السلام، قال: (صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن كثيرًا من وغر الصدر) . قال مجاهد: وغر الصدر: هو غشه. وممن كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ويأمر بهن: على بن أبى طالب، ومعاذ بن جبل، وأبو ذر، وأبو هريرة، وكان بعض السلف يختار الثلاثة من أول الشهر، وهو الحسن البصرى، وكان بعضهم يختار الاثنين والخميس، وهى أم سلمة زوج النبى، عليه السلام، وقالت إنه أمرها بذلك، وكان بعضهم يختار السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الذى يليه الثلاثاء والأربعاء والخميس، ومن الشهر الذى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 يليه كذلك، وهى عائشة أم المؤمنين، ومنهم من كان يصوم آخر الشهر، وهو النخعى ويقول: هو كفارة لما مضى، فأما الذين اختاروا صوم الاثنين والخميس فلحديث أم سلمة وأخبار أخر رويت عن النبى، عليه السلام، أن الأعمال تعرض على الله فى الاثنين والخميس، فأحبوا أن تعرض أعمالهم على الله وهم صيام، وأما الذين اختاروا ما اختارت عائشة فلئلا يكون يوم من أيام السنة إلا قد صامه، وأما الذين اختاروا ذلك من أول الشهر فلما رواه شيبان عن عاصم بن بهدلة، عن زر عن عبد الله بن مسعود، قال: (كان النبى، عليه السلام، يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام) . قال الطبرى: والصواب عندى فى ذلك أن جميع الأخبار عن النبى، عليه السلام، صحاح، ولكن لما صح عنه أنه اختار لمن أراد صوم الثلاثة الأيام من كل شهر الأيام البيض، فالصواب اختيار ما اختار عليه السلام، وإن كان غير محظور عليه أن يجعل صوم ذلك ما شاء من أيام الشهر، إذ كان ذلك نفلا لا فرضًا. فإن قيل: أو ليس قد قلت أن النبى، عليه السلام، كان يصوم الاثنين والخميس، ويصوم الثلاثة من غرة الشهر؟ . قيل: نعم، ولا يدل على أن الذى اختار للأعرابى من أيام البيض ليس كما اختار وأن ذلك من فعله دليل على أن أمره للأعرابى ليس بالواجب، وإنما هو أمر ندب وإرشاد، وأن لمن أراد من أمته صوم ثلاثة أيام من كل شهر تخير ما أحب من أيام الشهر، فيجعل صومه فيما اختار من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 ذلك كما كان الرسول يفعله، فيصوم مرة الأيام البيض، ومرة غرة الهلال، ومرة الاثنين والخميس، إذ كان لأمته الاستنان به فيما لم يعلمهم أنه له خاص دونهم، روى ابن القاسم عن مالك فى العتبية أنه كره تعمد صوم الأيام البيض، وقال: ما هذا ببلدنا، وقال: الأيام كلها لله، وكره أن يجعل على نفسه صوم يوم يؤقته أو شهر، قال عنه ابن وهب: فإنه لعظيم أن يجعل على نفسه صوم يوم يؤقته أو شهر كالفرض، ولكن يصوم إذا شاء، ويفطر إذا شاء. قال ابن حبيب: وبلغنى أن صوم مالك بن أنس أول يوم من الشهر واليوم العاشر واليوم العشرون. 55 - باب مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَمْ يُفْطِرْ عِنْدَهُمْ / 68 - فيه: أَنَسٍ: دَخَلَ النَّبِىُّ، عليه السلام، عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ، فَقَالَ: (أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ فِى سِقَائِهِ، وَتَمْرَكُمْ فِى وِعَائِهِ، فَإِنِّى صَائِمٌ) ، ثُمَّ قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ، فَصَلَّى غَيْرَ الْمَكْتُوبَةِ، فَدَعَا لأمِّ سُلَيْمٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهَا، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِى خُوَيْصَّةً، قَالَ: (مَا هِيَ) ؟ قَالَتْ: خَادِمُكَ أَنَسٌ، فَمَا تَرَكَ خَيْرَ آخِرَةٍ وَلا دُنْيَا إِلا دَعَا لِى بِهِ، قَالَ: (اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مَالاً وَوَلَدًا وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ) ، فَإِنِّى لَمِنْ أَكْثَرِ الأنْصَارِ مَالا، وَحَدَّثَتْنِى ابْنَتِى أُمَيْنَةُ أَنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِى مَقْدَمَ الحَجَّاجٍ الْبَصْرَةَ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ. فى هذا الحديث حجة لمالك والكوفيين أن الصائم المتطوع لا ينبغى له أن يفطر بغير عذر ولا سبب موجب للإفطار، وليس هذا الحديث بمعارض لإفطار أبى الدرداء حين زاره سلمان وامتنع من الأكل إن لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 يأكل معه، وهذه توجب الإفطار، لأن للضيف حقا كما قال عليه السلام. قال المهلب: وفيه أن الصائم إذا دعى إلى طعام فليدع لأهله بالبركة يؤنسهم بذلك ويسرهم، وفيه وجوب الإخبار عن نعم الله عند الإنسان والإعلان بمواهبه، وأن لا يجحد نعمه، وبذلك أمر الله، تعالى، فى كتابه فقال: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى: 11] ، وفيه أن تصغير اسم الرجل على معنى التعطف له، والترحم عليه، والمودة له، لا ينقصه ولا يحطه، وفيه دليل على جواز رد الهدية والطعام المبذول إذا لم يكن فى ذلك سوء أدب على باذله ومُهْديه، ولا نقيصة عليه، ويخص الطعام من ذلاك أنه إذا لم يعلم من الناس حاجة فحينئذ يجمل رده، وإذا علم منهم حاجة فلا يرده ويبذله لأهله، كما فعل عليه السلام بأم سليم فى غير هذا الحديث حين بعث هو وأبو طلحة أنسًا إلأيها لتعد الطعام لرسول الله وأصحابه. 56 - باب الصَّوْمِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ / 69 - فيه: عِمْرَانَ قَالَ النَّبِىِّ، عليه السلام: (يَا فُلانٍ، أَمَا صُمْتَ سَرَرَ هَذَا الشَّهْرِ) ؟ قَالَ: أَظُنُّهُ، قَالَ: يَعْنِى رَمَضَانَ، قَالَ الرَّجُلُ: لا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَإِذَا أَفْطَرْتَ، فَصُمْ يَوْمَيْنِ) ، لَمْ يَقُلِ الصَّلْتُ: أَظُنُّهُ يَعْنِى رَمَضَانَ. وَقَالَ ثَابِتٌ: عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عِمْرَانَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السلام: (مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ) . قال أبو عبيد: السرار آخر الشهر إذا استسر الهلال، قال ابن قتيبة: ربما استسر القمر ليلة أو ليلتين، قال: ويقال: سرر الشهر وسراره وسره، وسرار أجود، قال الخطابى: وفيه لغات يقال: سَرَرُ الشهر وسَرَارُهُ وسِرُّهُ. قال الطبرى: فالذين اختاروا صيام الثلاثة الأيام من آخر الشهر فإنهم تأولوا أن يكون ذلك كفارة لما مضى من ذنوبهم، ويجوز أن يكون معنى قوله: (سرر هذا الشهر) أى من وسطه، لأنها الأيام الغر التى كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأمر بصيامها، وسرارة كل شىء وسطه وأفضله. قال ذو الرمة يصف حمارًا: كأنه عن سرار الأرض محجوم يريد عن وسطها، وهو موضع الكلأ منها، وقال ابن السكيت: سرار الأرض أكرمه وأفضله، وقال الخطابى: قد كان بعض أهل العلم يقول إن سؤاله عليه السلام فى هذا الحديث سؤال زجر وإنكار، لأنه قد نهى أن يستقبل الشهر بيوم أو يومين، ويشبه أن يكون هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 الرجل قد كان أوجبهما على نفسه فاستحب له الوفاء بهما، وأن يجعل قضاؤهما فى شوال. 57 - بَاب صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَإِذَا أَصْبَحَ صَائِمًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ، يَعْنِى إِذَا لَمْ يَصُمْ قَبْلَهُ، وَلا يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ بَعْدَهُ. / 70 - فيه: جَابِر، نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. / 71 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَقُولُ: (لا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ) . / 72 - وفيه: أَبُو أَيُّوبَ دَخَلَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَلَى جُوَيْرِيَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهِىَ صَائِمَةٌ، فَقَالَ: (أَصُمْتِ أَمْسِ) ؟ قَالَتْ: لا، قَالَ: (تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِى غَدًا) ؟ قَالَتْ: لا، قَالَ: (فَأَفْطِرِى) ، فَأَمَرَهَا فَأَفْطَرَتْ. اختلف العلماء فى صيام يوم الجمعة، فنهت طائفة عن صومه إلا أن يصام قبله أو بعده على ما جاء فى هذه الآثار، روى هذا القول عن أبى هريرة وسلمان، وروى عن أبى ذر، وعلى بن أبى طالب أنهما قالا: إنه يوم عيد وطعام وشراب، فلا ينبغى صيامه، وهذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 قول ابن سيرين والزهرى، وبه قال أحمد وإسحاق، ومنهم من قال: يفطر ليقوى على الصلاة فى ذلك اليوم، وروى ذلك عن النخعى، كما قال ابن عمر: لا صيام يوم عرفة بعرفة من أجل الدعاء، وأجازت طائفة صيامه، روى عن ابن عباس أنه كان يصوم يوم الجمعة ويواظب عليه، وقال مالك: لم أسمع أحدًا من أهل العلم والفقه ممن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه كان يتحراه، وقيل: إنه ابن المنكدر. وقال الشافعى: لا يبين لى أنه نهى عن صيام يوم الجمعة إلا على الاختيار، وقد روى عن ابن مسعود أنه قال: (ما رأيت النبى عليه السلام يفطر يوم الجمعة) رواه شيبان عن عاصم، عن زر، عن عبد الله. ورواه شعبة عن عاصم فلم يرفعه، فهى علة فيه. وروى ليث ابن أبى سليم، عن عمير بن أبى عمير، عن ابن عمر أنه قال: (ما رأيت رسول الله مفطرًا يوم الجمعة قط) وليث ضعيف، وأحاديث النهى أصح. وأكثر الفقهاء على الأخذ بأحاديث الإباحة؛ لأن الصوم عمل بر، فوجب ألا يمنع عنه بدليل لا معارض له. قال المهلب: ويحتمل أن يكون نهيه عن صيام يوم الجمعة والله أعلم خشية أن يستمر الناس الناس على صومه فيفرض عليهم، كما خشى من صلاة الليل، فقطعه لذلك، وخشى أن يلتزم الناس من تعظيم يوم الجمعة ما التزمه اليهود والنصارى فى يوم السبت والأحد من ترك العمل والتعظيم، فأمر بإفطاره، ورأى أن قطع الذرائع أعظم أجرًا من إتمام ما نوى صومه لله. وذكر الطحاوى قال: روى ابن وهب عن معاوية بن صالح، عن أبى بشر، عن عامر ابن لدين الأشعرى أنه سأل أبا هريرة عن صيام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 يوم الجمعة فقال: على الخبير وقعت، سمعت رسول الله يقول: إن يوم الجمعة عيدكم، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده) . فكره رسول الله أن يقصد إليه بعينه بصوم للتفرقة بينه وبين شهر رمضان وسائر الأيام؛ لأن فريضة الله فى رمضان بعينه وليس كذلك سائر الأيام والله أعلم. 58 - باب هَلْ يَخُصُّ مِنَ الأيَّامِ شَيْئًا / 73 - وفيه: عَلْقَمَةَ، قُلْتُ لِعَائِشَةَ: هَلْ كَانَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، يَخْصُّ مِنَ الأيَّامِ شَيْئًا؟ قَالَتْ: لا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُطِيقُ. معناه: أنه كان لا يخص شيئًا من الأيام دائمًا ولا راتبًا، إلا إنه قد عنه عليه السلام أنه كان أكثر صيامه فى شعبان، وقد حض عليه السلام على صيام الاثنين والخميس، ذكره عبد الرزاق وغيره، لكن كان صيامه عليه السلام على حسب نشاطه، فربما وافق الأيام التى رغب فيها، وربما لم يوافقها، وقد روى الطحاوى عن على بن شيبة، حدثنا روح، حدثنا شعبة قال: حدثنا يزيد الرشك، عن معاذة، عن عائشة (أنها سئلت أكان رسول الله يصوم ثلاثة أيام من كل شهر؟ قالت: نعم، فقيل لها من أيِّه؟ قالت: ما كان يبالى من أى الشهر صامها) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 59 - باب صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ / 74 - فيه: أُمِّ الْفَضْلِ أَنَّ النَّاسَ تَمَارَوْا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِى صَوْمِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ، فَشَرِبَهُ. / 75 - وفيه: مَيْمُونَةَ، أَنَّ النَّاسَ شَكُّوا فِى صِيَامِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ عَرَفَةَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِحِلابٍ، وَهُوَ وَاقِفٌ فِى الْمَوْقِفِ، فَشَرِبَ مِنْهُ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ. قال ابن المنذر: ثبت أن النبى عليه السلام أفطر يوم عرفة، وروى عنه أن صوم عرفة يكفر سنتين، رواه الثورى عن منصور، عن مجاهد، عن حرملة بن إياس الشيبانى، عن أبى قتادة: (أن رسول الله سئل عن صيام يوم عرفة فقال: (يكفر سنتين: سنة ماضية، وسنة مستأخرة) ، ورواه شعبة عن غيلان بن جرير، عن عبد الله بن معبد الزِّمَّانى، عن أبى قتادة. واختلفوا فى صوم يوم عرفة بعرفة فقال ابن عمر: لم يصمه النبى عليه السلام ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، وأنا لا أصومه. وقال ابن عباس يوم عرفة: لا يصحبنا أحد يريد الصيام، فإنه يوم تكبير وأكل وشرب، واختار مالك، وأبو حنيفة، والثورى الفطر، وقال عطاء: من أفطر يوم عرفة ليتقوى به على الذكر كان له مثل أجر الصائم، وكان ابن الزبير وعائشة يصومان يوم عرفة، وكان الحسن يعجبه صوم يوم عرفة، ويأمر به الحاج، وقال: رأيت عثمان بعرفة فى يوم شديد الحر وهو صائم وهم يروحون عنه، وكان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 أسامة بن زيد، وعورة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وسعيد بن جبير يصومون بعرفة، وقال قتادة: لا بأس بذلك إذا لم يضعف عن الدعاء، وقال الشافعى: أحب صيام يوم عرفة لغير الحاج، فأما من حج فأحب أن يفطر ليقوى به على الدعاء، وقال عطاء: أصومه فى الشتاء، ولا أصومه فى الصيف. قال الطبرى: وإنما أفطر عليه السلام بعرفة ليدل على أن الاختيار فى ذلك الموضع للحاج الإفطار دون الصوم؛ كيلا يضعف عن الدعاء، وقضاء ما لزمه من مناسك الحج، وكذلك من كره صومه من السلف فإنما كان لما بيناه من إيثرهم الأفضل من نفل الأعمال على ما دونه، وإبقاء على نفسه ليتقوى بالإفطار على الاجتهاد فى العبادة، ومن آثر صومه أراد أن يفوز بثواب صومه لقوله عليه السلام: (للجنة باب يدعى الريان، لا يدخل منه إلا الصائمون) . وقال المهلب: فى شربه عليه السلام اللبن يوم عرفة أن العيان أقطع الحجج وأنه فوق الخبر، وقد قال عليه السلام: (ليس الخبر كالمعاينة) . وفيه أن الأكل والشرب فى المحافل مباح إذا كان لتبيين معنَّى، أَوْ دَعَت إليه ضرورة، كما فعل يوم الكديد إذا علم بما يريد بيانه من سنته عليه السلام، وفيه جواز قبول الهدية من النساء، ولم يسألها إن كان من مالها أو من مال زوجها، إذا كان هذا المقدار لا يتشاح الناس فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 60 - باب صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ / 76 - فيه: عُمَر بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: هَذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ صِيَامِهِمَا، يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَالْيَوْمُ الآخَرُ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ. / 77 - وفيه: أَبُو سَعِيد، نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ. قال الطبرى: إن قال قائل: إنك تكره صوم اليوم الذى يشك فيه أنه من رمضان، وصوم أيام التشريق نحو الذى تكره من صوم هذين اليومين، ويروى عن النبى عليه السلام من النهى عن صيامها نظير روايتك عنه النهى عن صومهما، ثم تجيز صوم أيام التشريق قضاءً من واجب، وتبيح صوم الشك تطوعًا، فما بال يوم الفطر والأضحى خالفا حكم ذلك، وهل اتفق حكم جميع ذلك كما اتفق النهى عن صوم جميعها. قيل: لم نخالف بين حكم شىء من ذلك إلا لمخالفة الله تعالى بين ذلك، وذلك أن الأمة مجمعة وارثة عن نبيها أن صوم اليومين غير جائز تطوعًا ولا فريضة، وهما يوما عيد، وصحت الأخبار عن النبى عليه السلام أنه كان يصوم شعبان فوصله برمضان، وقيام الحجة بأن لم يجد من المتمتعين هديًا صوم أيام منى، فذلك الدليل الثابت على افتراق أحكام ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 61 - باب الصَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ / 78 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو سَعِيد، نَهَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَنْ صِيَامَيْنِ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ. وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: رَجُلٌ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا، قَالَ: أَظُنُّهُ: قَالَ: الاثْنَيْنِ، فَوَافَقَ ذَلِكَ يَوْمَ عِيدٍ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَمَرَ اللَّهُ بِوَفَاءِ النَّذْرِ، وَنَهَى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عَنْ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ. قد تقدم أن الأمة مجمعة على أنه لا يجوز صيام يوم الفطر والنحر، ولو نذر ناذر صيام يوم بعينه فوافق ذلك يوم فطر أو أضحى، فأجمعوا أنه لا يصومها. واختلفوا فى قضائهما، فروى عن مالك فى ذلك ثلاثة أقوال، روى ابن وهب عنه أنه لا يقضيهما، وروى ابن القاسم، وابن وهب عنه أنه يقضيهما إلا أن يكون نوى ألا يقضيهما، وبه قال الأوزاعى، وروينا عنه أنه لا يقضيهما إلا أن يكون نوى أن يصومهما، قال ابن القاسم: وقوله: لا قضاء عليه إلا أن ينوى أن يقضيه، أحب إلى، وقال أبو حنيفة وصاحباه: يقضيهما، واختلف قول الشافعى، فمرة قال: يقضيهما، ومرة قال: لا يقضيهما، قال غيره: والقياس ألا قضاء فى ذلك؛ لأنه من نذر صوم يوم بعينه أنه لا يخلو أن يدخل فيه صوم يوم الفطر والأضحى أو لا يدخل، فإن دخل فى نذره فلا يلزمه؛ لأن من قصد إلى نذر صومه لم يلزمه، ونذره باطل، وإن لم يدخل فى نذره فهو أبعد من أن يجب عليه قضاؤه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 62 - باب صوم أَيَّامِ التَّشْرِيقِ / 79 - فيه: عَائِشَةُ، أنها كانت تَصُومُ أَيَّامَ مِنًى، وَكَانَ أَبُوهَا يَصُومُهَا. / 80 - وفيه: عَائِشَةَ، وابْن عُمَرَ: الصِّيَامُ لِمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا وَلَمْ يَصُمْ، صَامَ أَيَّامَ مِنًى. قال المؤلف: أيام التشريق هى أيام منى، وهى الأيام المعدودات، وهى الحادى عشر والثانى عشر والثالث عشر من ذى الحجة. قال ابن المنذر: واختلف العلماء فى صيامها، فروى عن ابن الزبير أنه كان يصومها، وعن الأسود بن يزيد مثله، وقال أنس: كان أبو طلحة قل ما رأيته يفطر إلا يوم فطر أو أضحى، وكذلك كان ابن سيرين يصوم الدهر غير هذين اليومين، وكان مالك والشافعى يكرهان صوم أيام التشريق إلا للمتمتع الذى لا يجد الهدى، فيصوم هذه الثلاثة الأيام؛ لأنها فى الحج إذا لم يصمها فى العشر على ما جاء عن عائشة وابن عمر، وروى ذلك عن عبيد ابن عمير وعروة، وهو قول الأوزاعى وإسحاق، ذكره ابن المنذر. وذكر الطحاوى أن هؤلاء أباحوا صيام أيام التشريق للمتمتع والقارن والمحصر إذا لم يجد هديًا ولم يكونوا صاموا قبل ذلك، ومنعوا منها من سواهم، وخالفهم آخرون فقالوا: ليس هؤلاء ولا لغيرهم من الناس أن صوموا هذه الأيام عن شىء من ذلك، ولا عن كفارة، ولا فى تطوع؛ لنهى النبى عليه السلام عن ذلك، ولكن على المتمتع والقارن الهدى لتمتعهما وقرانهما، وهدى آخر؛ لأنهما حلا بغير صوم، هذا قول الكوفيين، وهو أحد قولى الشافعى، وذكر ابن المنذر عن على بن أبى طالب أن المتمتع إذا لم يجد الهدى، ولم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 يصم الثلاثة الأيام فى العشر، يصومها بعد أيام التشريق، وهو قول الحسن وعطاء، واحتج الكوفيون بما روى إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبى وقاص، عن أبيه، عن جده قال: (أمرنى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن أنادى أيام منى أنها أيام أكل وشرب، ولا صوم فيها) يعنى أيام التشريق، وروته عائشة، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن حذافة، وأبو هريرة كلهم عن النبى عليه السلام فلما تواترت هذه الآثار بالنهى عن صيام أيام التشريق، وكان نهيه عن ذلك بمنى والحاج مقيمون بها، وفيهم المتمتعون والقارنون ولم يستثن منهم أحدًا، دخل فى ذلك المتمتعون والقارنون وغيرهم، قال ابن القصار: ومن حجة مالك قوله تعالى: (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ) [البقرة: 196] ، ولا خلاف بين العلماء أن هذه الآية نزلت يوم التروية، وهو الثامن من ذى الحجة، فعلم أنه أباح لهم صومها، وأنهم صاموا فيها؛ لأن الذى بقى من العشر الثامن والتاسع، والثامن الذى نزلت فيه الآية لا يصح صومه؛ لأنه يحتاج إلى تبييت من الليل، والعاشر يوم النحر، والإجماع أنه لا يصام، فعلم أنهم صاموا بعد ذلك. وقول ابن عمر وعائشة: (لم يرخص فى أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدى) يرفع الإشكال فى ذلك، قال المهلب: ومن حجة مالك أيضًا قول عمر بن الخطاب فى يوم الفطر والنحر: (هذان يومان نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن صيامهما: يوم فطركم من صيامكم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 والآخر يوم تاكلون فيه من نسككم) ، فخص اليومين بالنهى، وبقيت أيام التشريق مباحة، فأما قوله عليه السلام: (فإنها أيام أكل وشرب) فإنما يختص بذلك من لم يكن عليه صوم واجب، فعلى هذا تتفق الأحاديث، وفى إباحة صيامها للمتمتع حجة لمالك فيما ترجح قوله فيه فيمن يبتدئ صوم الظهار فى ذى القعدة، وقال: عسى أن يجزئه إن نسى أو غفل إذا أفطر يوم النحر وصام أيام التشريق، ثم وصل اليوم الذى أفطره، رجوت أن يجزئه، ويبتدئه أحب إلى، وإنما قال ذلك؛ لأن صوم المتمع صوم واجب، وإنما ينهى عن صيامها من ليس عليه صوم واجب، وقال غير واحد عن مالك: إن اليوم الرابع لم يختلف قوله فيه، ولا يصام تطوعًا، وقال ابن المنذر: مذهب ابن عمر فى صيام هذه الثلاثة الأيام من حين يحرم بالحج وآخرها يوم عرفة، وهذا معنى قول البخارى عن ابن عمر: (الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج إلى يوم عرفة) . قال ابن المنذر: وجماعة الفقهاء لا يختلفون فى جواز صيامها بعد الإجرام بالحج، إلا عطاء فإنه قال: إن صامهن حلالاً أجزأه، وهو قول أحمد بن حنبل، قال أبو بكر: لا يجب الصوم على المتمتع إلا بعد الإحرام، فمن صام قبل ذلك كان تطوعًا، ولا يجزئه عن فرضه، وفى قوله تعالى: (فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ) [البقرة: 296] أبين البيان أنه لا يجزئه صيامها فى غير الحج، وهذا يرد أيضًا ما روى عن على والحسن وعطاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 63 - باب صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَإِذَا أصبح وَلم ينو الصيام ثُمَّ صام / 81 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يَوْمَ عَاشُورَاءَ: (إِنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ فطر) . / 82 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَمَرَ بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ. وَقَالَ مُعَاوِيَةَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ النَّبِىّ، عليه السَّلام، يَقُولُ: (هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يَكْتُبِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، وَأَنَا صَائِمٌ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ) . / 83 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَدِمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، الْمَدِينَةَ، فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: (مَا هَذَا) ؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِى إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ: (فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ) . وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلا هَذَا الْيَوْمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ، يَعْنِى شَهْرَ رَمَضَانَ. / 84 - وفيه: سَلَمَةَ، قَالَ: أَمَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، رَجُلا مِنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِى النَّاسِ: (أَنَّ مَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ، فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 اختلفت الآثار فى صوم يوم عاشوراء، فدل حديث عائشة على أن صومه كان واجبًا قبل أن يفرض رمضان، ودل أيضًا أن صومه قد رد إلى التطوع بعد أن كان فرضًا، ودل حديث سلمة أيضًا على وجوبه. قال الطحاوى: وفى أمر النبى عليه السلام إياهم بصومه بعد أن أصبحوا دليل على أن من كان فى يوم عليه صومه بعينه، ولم يكن نوى صومه من الليل أنه يجوز أن ينوى صومه بعد ما أصبح إذا كان ذلك قبل الزوال. قال المؤلف: قد تقدمت هذه المسألة والخلاف فيها فى باب (إذا نوى بالنهار صومًا) . قال الطحاوى: ورويت عن الرسول آثار أخر دليل على أن صومه اختيار لا فرض، منها: حديث ابن عباس وذلك أنه أخبر بالعلة التى من أجلها صامه النبى عليه السلام وأنه إنما صامه شكرًا لله فى إظهاره موسى على فرعون، فدل ذلك على الاختيار لا على الفرض، وعلى مثل ذلك دل حديث ابن عمر ومعاوية. واختلفت الآثار أى يوم هو يوم عاشوراء، فروى فى حديث الحكم بن الأعرج أنه سأل ابن عباس عنه فقال: (إذا أصبحت من تاسعه فأصبح صائمًا، قلت: كذلك كان يصوم النبى عليه السلام؟ قال: نعم) . قال المؤلف: وهذا يدل أنه عنده اليوم التاسع، وقد بين ذلك حماد ابن سلمة، عن على بن زيد، عن عمار ابن أبى عمار، عن ابن عباس قال: هو اليوم التاسع. قال الطحاوى: وقد جاء فى حديث الحكم بن الأعرج أنه اليوم العاشر، ذكر عبد الرزاق، عن إسماعيل بن عبد الله، أخبرنى يونس بن عبيد، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 عن الحكم بن الأعرج، عن ابن عباس قال: (إذا أصبحت فعد تسعًا وعشرين يومًا، ثم أصبح صائمًا فهو يوم عاشوراء، يعنى عد من بعد يوم النحر) وكذلك قال الحسن البصرى، وسعيد ابن المسيب: هو اليوم العاشر. وقالت طائفة: يصوم التاسع والعاشر، روى ذلك عن ابن عباس وأبى رافع أصحاب أبى هريرة، وابن سيرين، وهو قول الشافعى وأحمد وإسحاق، هذا قول ابن المنذر، وقال صاحب العين: عاشوراء اليوم العاشر من المحرم، وقيل هو التاسع، قال الطحاوى: وقد روى ابن أبى ذئب عن القاسم بن عباس، عن عبد الله بن عمير، عن ابن عباس، عن النبى عليه السلام أنه قال: (لئن عشت للعام القابل لأصومن يوم التاسع، عاشوراء) . وقال ابن أبى ذئب مرة فى حديثه (لأصومن عاشوراء، يوم التاسع) خلاف قوله: (لأصومن يوم التاسع) ؛ لأن قوله: (لأصومن عاشوراء، يوم التاسع) إخبار منه أنه يكون ذلك اليوم يوم عاشوراء، وقوله: (لأصومن التاسع) يحتمل لأصومنه مع العاشر لئلا أقصد بصومى إلى يوم عاشوراء بعينه كما تفعل اليهود، ولكنى أخلطه بغيره فأكون قد صمته بخلاف ما تصومه اليهود، وقد روى عن ابن عباس ما دل على هذا المعنى، روى ابن جريح عن عطاء، عن ابن عباس قال: (خالفوا اليهود، صوموا يوم التاسع والعاشر) فدل ذلك على أن ابن عباس صرف تأويل قوله: (لأصومن يوم التاسع) إلى ما صرفناه إليه، وقد جاء ذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، روى ابن أبى ليلى عن داود بن على، عن أبيه، عن جده ابن عباس، عن النبى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 عليه السلام فى صوم يوم عاشوراء: (صوموه وصوموا قبله يومًا أو بعده، ولا تشبهوا باليهود) فثبت بهذا الحديث أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أراد بصوم يوم التاسع أن يدخل صوم يوم عاشوراء فى غيره من الصيام حتى لا يكون مقصودًا بعينه كما جاء عنه فى صيام يوم الجمعة، روى سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله ابن عمرو قال: (دخل النبى عليه السلام على جويرية يوم جمعة وهى صائمة، فقال لها: (أصمت أمس؟) قالت: لا، قال: (وتصومين غدًا؟) قالت: لا، قال: (فأفطرى إذًا) قال الطحاوى: ووجه كراهيته إفراد هذه الأيام بالصيام التفرقة بين شهر رمضان وبين سائر ما يصوم الناس غيره؛ لأن شهر رمضان مقصود إليه بعينه لفرضه بعينه، وغيره من الشهور ليس كذلك، وبهذا كان يأخذ ابن عمر فكان لا يصوم عاشوراء إلا أن يوافق صومه. وقال الطبرى: كراهية ابن عمر لصيامه نظير كراهية من كره صوم رجب إذ كان شهر تعظمه الجاهلية، فكره أن يعظم فى الإسلام ما كان يعظمه أهل الجاهلية من غير تحريم صومه إذا ابتغى بصومه ثواب الله عز وجل لا مريدًا به إحياء سنة أهل الشرك. وقد جاء فى فضل يوم عاشوراء ما روى شعبة عن غيلان بن جرير، عن عبد الله بن معبد، عن أبى قتادة، عن النبى عليه السلام قال فى صوم يوم عاشوراء: (إنى أحتسب على الله أن يكفر السنة التى قبله) ، وكان يصومه من السلف: على بن أبى طالب، وأبو موسى، وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، وابن عباس، وأمر بصومه أبو بكر وعمر. فإن قيل: فقد رخص فى صيام أيام بعينها مقصودة بالصوم، وهى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 الأيام البيض، فهذا دليل أنه لا بأس بالقصد بالصوم إلى يوم بعينه. قال الطحاوى: قيل له: إنه قد قيل إن الأيام البيض إنما أمر بصومها؛ لأن الكسوف يكون فيها، ولا يكون فى غيرها، وقد أمر بالتقرب إلى الله بالصلاة والعتاق وغير ذلك من أعمال البر عند الكسوف، فأمر بصيام هذه الأيام، ليكون ذلك برًا مفعولاً بعقب الكسوف، فذلك صيام غير مقصود به إلى يوم لعلته فى نفسه، ولكنه مقصود به فى وقت شكره لله لعرض كان فيه، فلا بأس بذلك، فكذلك صيام يوم الجمعة إذا صامه رجل لعارض من كسوف شمس أو قمر أو شكر الله لمعنى فلا بأس بذلك وإن لم يصم قبله يومًا ولا بعده يومًا. وعاشوراء وزنه: فاعولا، وهو من أبنية المؤنث، وهو صفة لليلة، واليوم مضاف إليها، وعلى ما حكاه الخليل أنه اليوم التاسع يكون عاشوراء صفة لليوم، فيقال: سوم عاشوراء، وينبغى ألا يضاف إلى اليوم؛ لأن فيه إضافة الشىء إلى نفسه، ومن جعل عاشوراء صفة لليلة فهو أصح فى اللغة، وهو قول من يرى أنه اليوم العاشر، وقال الداودى: قول معاوية: (أين علماؤكم؟) . يدل أنه سمع شيئًا أنكره، إما أن سمع قول من لا يرى بصومه فضلاً، أو سمع قول من يقول إنه فرض، فذكر ما روى فيه. وليوم عاشوراء فضائل منها: ما ذكر فى الحديث أن الله فرق فيه البحر لموسى بن عمران، وغرق فرعون وجنوده، ومنها ما روى معمر عن قتادة قال: ركب نوح فى السفينة فى رجب فى عشر بقين منه، ونزل من السفينة يوم عاشوراء. وقال عكرمة: هو يوم تاب الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 فيه على آدم. وقال ابن حبيب: وفيه أخرج يوسف من الجب، وفيه نَجَّى الله يونس من بطن الحوت، وفيه تاب الله على قوم يونس، وفيه ولد عيسى بن مريم، وفيه تكسى الكعبة البيت الحرام فى كل عام. وروى شعبة، عن أبى الزبير، عن جابر، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من وسع على نفسه وأهله يوم عاشوراء، وسع الله عليه سائر السنة) قال جابر وأبو الزبير وشعبة: جربناه فوجدناه كذلك، وقاله يحيى بن سعيد وابن عيينة أيضًا. 64 - باب فَضْلِ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ / 85 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ لِرَمَضَانَ: (مَنْ قَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَتُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالأمْرُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَ الأمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِى خِلافَةِ أَبِى بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ. / 86 - وفيه: ابْن عَبْدٍالْقَارِىِّ، خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ لَيْلَةً فِى رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّى الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّى الرَّجُلُ فَيُصَلِّى بِصَلاتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّى أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، ثُمَّ عَزَمَ، فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاةِ قَارِئِهِمْ، قَالَ عُمَرُ: نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَالَّتِى يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنِ الَّتِى يَقُومُونَ، يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 / 87 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، خَرَجَ لَيْلَةً مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَصَلَّى فِى الْمَسْجِدِ، وَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلاتِهِ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا، فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ، فَصَلَّى فَصَلَّوْا مَعَهُ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا، فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَصَلَّى فَصَلَّوْا بِصَلاتِهِ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ حَتَّى خَرَجَ لِصَلاةِ الصُّبْحِ، فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَىَّ مَكَانُكُمْ، وَلَكِنِّى خَشِيتُ أَنْ تُفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا) ، فَتُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالأمْرُ عَلَى ذَلِكَ. / 88 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: لم يكن رسُولُ اللَّهِ يَزِيدُ فِى رَمَضَانَ وَلا فِى غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّى أَرْبَعًا، فَلا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ أَرْبَعًا، ثُمَّ ثَلاثًا. . . الحديث. قوله: (من قام رمضان إيمانًا) يعنى مصدقًا بما وعد الله من الثواب عليه، وقوله: (احتسابًا) يعنى يفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى. وفى جمع عمر الناس على قارئ واحد دليل على نظر الإمام لرعيته فى جمع كلمتهم وصلاح دينهم، قال المهلب: وفيه أن اجتهاد الإمام ورأيه فى السنن مسموع منه مؤتمر له فيه، كما ائتمر الصحابة لعمر فى جمعهم على قارئ واحد؛ لأن طاعتهم لاجتهاده واستنباطه طاعة لله تعالى لقوله: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83] ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 وفيه جواز الاجتماع لصلاة النوافل، وفيه أن الجماعة المتفقة فى عمل الطاعة مرجو بركتها، إذ دعاء كل واحد منهم يشمل جماعتهم، فلذلك صارت صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، فيجب أن تكون النافلة كذلك، وفيه أن قيام رمضان سنة لأن عمر لم يسن منه إلا ما كان رسول الله يحبه، وقد أخبر عليه السلام بالعلة التى منعته من الخروج إليهم، وهى خشية أن يفترض عليهم، وكان بالمؤمنين رحيمًا، فلما أمن عمر أن تفترض عليهم فى زمانه لانقطاع الوحى؛ أقام هذه السنة وأحياها، وذلك سنَةَ أربع عشرة من الهجرة فى صدر خلافته. قال المهلب: وفيه أن الأعمال إذا تركت لعلة، وزالت العلة أنه لا بأس بأعادة العمل، كما أمر عمر صلاة الليل فى رمضان بالجماعة، وفيه أنه يجب أن يؤم القوم أقرؤهم، فلذلك قال عمر: أُبَى أقرؤنا، فلذلك قدمه عمر، وهذا على الاختيار إذا أمكن؛ لأن عمر قدم أيضًا تميمًا الدارى، ومعلوم أن كثيرًا من الصحابة أقرأ منه، فدل هذا أن قوله عليه السلام: (يؤم القوم أقرؤهم) إنما هو على الاختيار، قول عمر: (نعم البدعة) فالبدعة اختراع ما لم يكن قبل، فما خالف السنة فهو بدعة ضلالة، وما وافقها فهو بدعة هُدى، وقد سئل ابن عمر عن صلاة الضحى فقال: بدعة، ونعم البدعة. وقوله: (والتى ينامون عنها أفضل) يعنى القيام آخر الليل لحديث التنزل واستجابة الرب تعالى فى ذلك الوقت لمن دعاه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 وقد تقدم معنى قوله عليه السلام: (خشيت أن يفترض عليكم) فى باب (تحريض الرسول على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب) فى آخر كتاب الصلاة، فأغنى عن إعادته، وكذلك تقدم فى باب (قيام النبى بالليل فى رمضان وغيره) واختلافهم فى عدد القيام فى رمضان، ونذكر منه هنا طرفًا لم يمض هناك، وهو أن قول عائشة: (لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يزيد فى رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة) . فهذه الرواية مطابقة لما روى مالك عن محمد ابن يوسف، عن السائب بن يزيد قال: أمر عمر، رضى الله عنه، أبىَّ بن كعب وتميمًا الدارى أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة. وقال الداودى وغيره: وليست رواية مالك عن السائب بمعارضة برواية من روى عن السائب ثلاثًا وعشرين ركعة، ولا ما روى مالك عن يزيد ابن رومان قال: (كان الناس يقومون فى رمضان بثلاث وعشرين ركعة) معارضة لروايته عن السائب؛ لأن عمر جعل الناس يقومون فى أول أمره بإحدى عشرة ركعة كما فعل النبى عليه السلام وكانوا يقرؤن بالمئين ويطولون القراءة، ثم زاد عمر بعد ذلك فجعلها ثلاثًا وعشرين ركعة على ما رواه يزيد بن رومان، وبهذا قال الثورى، والكوفيون، والشافعى، وأحمد، فكان الأمر على ذلك إلى زمن معاوية، فشق على الناس طول القيام لطول القراءة، فخففوا القراءة وكثروا من الركوع، وكانوا يصلون تسعًا وثلاثين ركعة، فالوتر منها ثلاث ركعات، فاستقر الأمر على ذلك وتواطأ عليه الناس، وبهذا قال مالك، فليس ما جاء من اختلاف أحاديث قيام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 رمضان يتناقض، وإنما ذلك فى زمان بعد زمان، والله الموفق، وقد تقدم اختلافهم فى تأويل قولها: (يصلى أربعًا ثم أربعًا) فى أبواب صلاة الليل فى كتاب الصلاة، وأن ذلك مرتب على قوله: (صلاة الليل مثنى مثنى) ، وأنه سلم من الأربع، والرد على من أنكر ذلك، وكذلك تقدم فى باب (تحريض النبى على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب) اختلافهم فى صلاة رمضان، هل هى أفضل فى البيت أو مع الإمام؟ وقوله: (فإذا الناس أوزاع) قال صاحب (العين) : أوزاع الناس: ضروبهم منهم، والتوزيع: القسمة. 65 - باب فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر: 1] إلى آخر السورة. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: مَا كَانَ فِى الْقُرْآنِ: (وَمَا أَدْرَاكَ (فَقَدْ أَعْلَمَهُ، وَمَا قَالَ: (وَمَا يُدْرِيكَ (فَإِنَّهُ لَمْ يُعْلِمْهُ. / 89 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. . .) الحديث. قال ابن المنذر: معنى قوله: (إيمانًا) يعنى: تصديقًا أن الله فرض عليه الصوم، واحتسابًا لثواب الله عليه، وقد تقدم هذا المعنى. وقوله: (غفر له ما تقدم من ذنبه) قول عام يُرجى لمن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 فعل ما ذكره فى الحديث أن يغفر له جميع الذنوب: صغيرها وكبيرها؛ لأنه لم يستثن ذنبًا دون ذنب، وفى الخبر أن القيام فى ليلة القدر أرجى منه فى غيرها من الليالى. وقوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ (روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: نزل القرآن جملة واحدة فى ليلة القدر فى شهر رمضان إلى السماء الدنيا، فجعل فى بيت العزة، ثم نزل على النبى (صلى الله عليه وسلم) فى عشرين سنة. وقال ابن عباس أيضًا: أنزل الله القرآن جملة واحدة فى ليلة القدر إلى السماء الدنيا، فكان يمواقع النجوم، فكان الله ينزله على رسوله بعضه فى إثر بعض، فقالوا: (لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً) [الفرقان: 32] . وذكر ابن وهب، عن مسلمة بن على، عن عروة قال: (ذكر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أربعة من بنى إسرائيل فقال: اعبدوا الله ولم يعصوه طرفة عين، فذكر أيوب، وزكريا، وحزقيل، ويوشع بن نون، فعجب أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) من ذلك، فأتاه جبريل فقال: يا محمد، عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوا الله طرفة عين، فقد أنزل الله عليك خيرًا من ذلك، ثم قال: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ (هذا أفضل مما عجبت منه أنت وأمتك، فَسُرَّ بذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والناس معه) . قال مالك: وبلغنى عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: من شهد العشاء ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها. وقال ابن عباس: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان: 4] قال: يكتب فى أم الكتاب فى ليلة القدر ما يكون من السنة إلى السنة. وقال مجاهد: ليلة القدر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 ليلة الحكم. وقال غيره: كأنه تقدر فيها الأشياء. وقال قتادة: (سَلاَمٌ هِىَ (قال: خير هى) حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (. 66 - باب الْتِمَسوا لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِى السَّبْعِ الأوَاخِرِ / 90 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ رِجَالا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِى الْمَنَامِ فِى السَّبْعِ الأوَاخِرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِى السَّبْعِ الأوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا، فَلْيَتَحَرَّهَا فِى السَّبْعِ الأوَاخِرِ) . / 91 - وفيه: أَبُو سَعِيد، اعْتَكَفْنَا مَعَ رسُولُ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) الْعَشْرَ الأوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ، فَخَرَجَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ فَخَطَبَنَا، وَقَالَ: (إِنِّى أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، أَوْ نُسِّيتُهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ فِى الْوَتْرِ، وَإِنِّى رَأَيْتُ أَنِّى أَسْجُدُ فِى مَاءٍ وَطِينٍ، فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَلْيَرْجِعْ) ، فَرَجَعْنَا، وَمَا نَرَى فِى السَّمَاءِ قَزَعَةً، فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ، فَمَطَرَتْ حَتَّى سَالَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَسْجُدُ فِى الْمَاءِ وَالطِّينِ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِى جَبْهَتِهِ. قوله فى حديث ابن عمر: (فمن كان متحريها فليتحراها فى السبع الأواخر) يريد فى ذلك العام الذى تواطأت فيه الرؤيا على ذلك، وهى ليلة ثلاث وعشرين؛ لأنه قال فى حديث أبى سعيد: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 (فالتمسوها فى العشر الأواخر فى الوتر، وإنى رأيت أنى أسجد فى ماء وطين فمطرنا فى ليلة إحدى وعشرين) ، وكانت ليلة القدر فى حديث أبى سعيد فى ذلك العام فى غير السبع الأواخر. قال الطحاوى: وعلى هذا التأويل لا تتضاد الأخبار، وفى حديث أبى سعيد زيادة معنى أنها تكون فى الوتر، وقد جاء فى حديث عبد الله بن أنيس أنه عليه السلام قال: (التمسوها الليلة) ، وكانت ليلة ثلاث وعشرين، فقال رجل: هذا أول ثمان، فقال: بل أول سبع؛ لأن الشهر لا يتم) فثبت بهذا أنها فى السبع الأواخر، وأنه قصد ليلة ثلاث وعشرين؛ لأن ذلك الشهر كان ناقصًا، فدل هذا أنها قد تكون فى غيرها من السنين بخلاف ذلك. قال المؤلف: وقد روى الثورى عن عاصم بن أبى النجود، عن زر بن حبيش قال: (قلت لأبى بن كعب: أخبرنى عن ليلة القدر؛ فإن ابن مسعود قال: من يقم الحول يصبها. فقال: يرحمه الله، لقد علم أنها فى رمضان، ولكن عمى على الناس لئلا يتكلوا، والذى أنزل الكتاب على محمد، إنها فى رمضان، وإنها ليلة سبع وعشرين) . قال المهلب: ومن ذهب إلى قول ابن مسعود وتأول منه أنها فى سائر السنة فلا دليل له إلا الظن من دوران الزمان بالزيادة والنقصان فى الأهلة، وذلك ظن فاسد؛ لأنه محال أن يكون تعليقها بليلة فى غير شهر رمضان كما لم يعلق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 صيامها بأيام معلومة تدور فى العام كله بالزيادة والنقصان فى الأهلة فيكون صوم رمضان فى غير رمضان، فكذلك لا يجب أن تكون ليلة القدر فى غير رمضان. قال الطحاوى: وفى كتاب الله ما يدل أنها فى شهر رمضان خاصة، وهو قول: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان: 3، 4] ، فأخبر تعالى أن الليلة التى يفرق فيها كل أمر حكيم هى ليلة القدر، وهى الليلة التى أنزل الله فيها القرآن فقال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِىَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة: 185] فثبت بذلك أن تلك الليلة فى شهر رمضان. والقزع: قطع من سحاب دقاق، عن صاحب العين، وقوله: (من كان متحريها) يعنى: من كان قاصدًا لها، يقال: تحريت الشئ، إذا قصدته وتعمدته، وقوله: (إنى أرى رؤياكم قد تواطت) فإن المحدثين يرونه كذلك، وإنما هو تواطأت بالهمز من قوله تعالى: (لِّيُوَاطِؤُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ) [التوبة: 37] ، ومن قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْءًا) [المزمل: 6] ، ولكنه يجوز فى كلام كثير من العرب حذف الهمز، ومعنى (تواطت) : اتفقت واجتمعت على شىء واحد، والتوطئة: التلبين يقال: وطأت لفلان هذا الأمر، إذا سهلته ولينته. 67 - باب تَحَرِّى لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِى الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الأوَاخِرِ فِى رَمَضَانَ / 92 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ، عليه السَّلام: (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِى الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 / 93 - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ، وَقَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، فَابْتَغُوهَا فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ، وَابْتَغُوهَا فِى كُلِّ وِتْرٍ، وَقَدْ رَأَيْتُنِى أَسْجُدُ فِى مَاءٍ وَطِينٍ) ، فَاسْتَهَلَّتِ السَّمَاءُ فِى تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَأَمْطَرَتْ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ فِى مُصَلَّى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَبَصُرَتْ عَيْنِى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ انْصَرَفَ مِنَ الصُّبْحِ وَوَجْهُهُ مُمْتَلِئٌ طِينًا وَمَاءً. / 94 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (الْتَمِسُوهَا فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِى تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِى سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِى خَامِسَةٍ تَبْقَى) . وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أيضًا: (هِىَ فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ، فِى تِسْعٍ يَمْضِينَ، أَوْ فِى سَبْعٍ يَبْقَيْنَ) . وَقَالَ: ابْنِ عَبَّاس: الْتَمِسُوا فِى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. قال الطبرى: اختلف الصحابة والتابعون لهم بإحسان فى تحديد ليلة القدر بعينها، مع اختلافهم عن النبى عليه السلام حدها، قال ابن مسعود: هى ليلة عشرة من رمضان. وقال على وابن مسعود وزيد بن ثابت: هى ليلة تسع عشرة. وقال بعضهم: ليلة إحدى وعشرين على حديث أبى سعيد، روى ذلك أيضًا عن على وابن مسعود، وقال آخرون: ليلة ثلاث وعشرين على حديث ابن عمر، وابن عباس. وروى ذلك عن ابن عباس وعائشة وبلال، وقاله مكحول، وقال ابن عباس وبلال: هى ليلة أربع وعشرين، وهو قول الحسن وقتادة، وأحسب الذين قالوا هذه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 المقالة ذهبوا إلى قوله عليه السلام: (التمسوها لسبع بقين) أن السابعة هى أول الليالى السبع البواقى، وهى ليلة أربع وعشرين إذا كان الشهر كاملاً، وقال على، وابن عباس، وأبى بن الكعب، ومعاوية: هى ليلة سبع وعشرين. وروى عن بن عمر أنه قال: هى فى رمضان كله، وروى عبد الله بن بريدة عن معاوية، عن النبى عليه السلام (أنها آخر ليلة) . وقال أيوب عن أبى قلابة: إنها تجول فى ليالى العشر كلها. قال الطبرى: والآثار المروية فى ذلك عن النبى عليه السلام صحاح، وهى متفقة غير مختلفة، وذلك أن جميعها ينبئ عنه عليه السلام أنها فى العشر الأواخر، وغير منكر أن تتجول فى كل سنة فى ليلة من ليالى العشر كما قال أبو قلابة، وكان معلومًا أنه عليه السلام إنما قال فى كل ليلة من الليالى التى أمر أصحابه بطلبتها فيها أنها كانت عنده فى ذلك العام فى تلك اليلة، فالصواب أنها فى شهر رمضان دون شهور السنة؛ لإجماع الجميع وراثة عن النبى عليه السلام أنه قال: (هى فى العشر الأواخر فى وتر منها) ثم لا حد فى ذلك خاص لليلة بعينها لا يعدوها إلى غيرها؛ لأن ذلك لو كان محصورًا على ليلة بعينها لكان أولى الناس بمعرفتها النبى عليه السلام مع جده فى أمرها ليعرفها أمته، فلم يعرفهم منها إلا الدلالة عليها أنها ليلة طلقة، لا حارة ولا باردة، وأن الشمس تطلع فى صبيحتها بيضاء لا شعاع لها، ولأن فى دلالته أمته عليها بالآيات دون توقيفه على ليلة بعينها دليل واضح على كذب من زعم أنها تظهر فى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 تلك اليلة للعيون ما لا يظهر فى سائر السنة من سقوط الأشجار إلى الأرض، ثم رجوعها قائمة إلى أماكنها؛ إذ لو كان ذلك حقا، لم يخفف عن بصر من يقوم ليال السنة كلها، فكيف ليالى شهر رمضان، وأما الذى خصت به هذه الليلة من دون سائر الليالى فإنها خير من ألف شهر، يعنى بذلك أن عملاً فيها بما يرضى الله ويحبه من صلاة ودعاء وشبهه خير من عمل فى ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وأنه يستجاب فيها الدعاء ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، وقال مالك فى قوله عليه السلام: (التمسوها فى تاسعة تبقى) هى ليلة إحدى وعشرين و (سابعة تبقى) ليلة ثلاث وعشرين، و (خامسة تبقى) ليلة خمس وعشرين. قال المؤلف: وإنما يصح معناه وتوافق ليلة القدر وترًا من الليالى على ما ذكر فى الحديث إذا كان الشهر ناقصًا، فأما إن كان كاملاً فإنها لا تكون إلا فى شفع فتكون التاسعة الباقية ليلة ثنتين وعشرين، والخامسة الباقية ليلة ست وعشرين، والسابعة الباقية ليلة أربع وعشرين على ما ذكره البخارى عن ابن عباس، فلا تصادف واحدة منهن وترا، وهذا يدل على انتقال ليلة القدر كل سنة فى العشر الأواخر من وتر إلى شفع، ومن شفع إلى وتر؛ لأن النبى عليه السلام لم يأمر أمته بالتماسها فى شهر كامل دون ناقص، بل أطلق على طلبها فى جميع شهور رمضان التى قد رتبها الله مرة على التمام، ومرة على النقصان، فثبت انتقالها فى العشر الأواخر كلها ما قاله أبو قلابة. وقول ابن عباس فى حديثه: (هى فى تسع يمضين أو فى سبع يبقين) هو شك منه أو من غيره فى أى اللفظين قال عليه السلام، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 ودل قوله فى الحديث الآخر: (فى سابعة تبقى) أن الصحيح من لفظ الشك قوله: (فى سبع يبقين) على طريقة العرب فى التأريخ إذا جازوا نصف الشهر فإنما يؤرخوا بالباقى منه لا بالماضى، ولهذا المنى عدوا تاسعة تبقى ليلة إحدى وعشرين، ولم يعدوها ليلة تسع وعشرين، وعدوا سابعة تبقى ليلة أربع وعشرين، ولم يعدوها ليلة سبع وعشرين لما لم يأخذوا العدد من أول العشر، وإنما كان يكون ذلك لو قال عليه السلام: (فى تاسعة تمضى) ولما قال عليه السلام: (التمسوها فى التاسعة والخامسة) وكان كلامًا مجملاً يحتمل معانى، وخشى عليه السلام التباس معناه على أمته، بَيَّن الوجه المراد منه فقال: (فى تاسعة تبقى، وفى سابعة تبقى، وفى خامسة تبقى) ليزول الإشكال فى ذلك والله أعلم. وقوله: (فوكف المسجد) قال صاحب الأفعال: يقال: وكف المطر والدمع والبيت وكوفًا ووكيفا ووكفانًا: سال. 68 - باب رَفْعِ مَعْرِفَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِتَلاحِى النَّاسِ / 98 - وفيه: عُبَادَةَ، خَرَجَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاحَى رَجُلانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: (خَرَجْتُ لأخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاحَى فُلانٌ وَفُلانٌ، فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا فِى التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ) . وقوله: (فرفعت) يعنى رفع علمها عنه بسبب تلاحى الرجلين، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 فحرموا به بركة ليلة القدر، والتلاحى: التجادل والتخاصم، يقال: تلاحى فلان وفلان تلاحيًا، ولاحى فلان فلانًا ملاحاة ولحاءً بالمد، وهذا يدل أن الملاحاة والخلاف يصرف فضائل كثير من الدين، ويحرم أجرًا عظيمًا؛ لأن الله تعالى لم يرد التفرق من عباده، وإنما أراد الاعتصام بحبله، وجعل الرحمة مقرونة بالاعتصام بالجماعة لقوله تعالى: (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ) [هود: 118، 119] ، وروى عن الرسول وجه آخر فى رفع معرفتها، روى ابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، أن رسول الله قال: (أريت ليلة القدر، ثم أيقظنى بعض أهلى فنسيتها، فالتمسوها فى العشر الغوابر) . قال الطحاوى: وهذا خلاف حديث عبادة، إلا أنه قد يجوز أن يكون ذلك كان فى عامين، فرأى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى أحدهما ما ذكره عنه أبو هريرة قبل كون الليلة التى هى ليلة القدر، وذلك لا ينفى أن يكون فيما بعد ذلك العام فيما قبل ذلك من الشهر، ويكون ما ذكره عبادة على أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقف على ليلة القدر بعينها، ثم خرج ليخبرهم بها فرفعت، ثم أمر بالتماسها فيما بعد ذلك العام فى التاسعة والسابعة والخامسة، وذلك كله على التحرى لا على اليقين، فدل ذلك على انتقالها. وقوله: (عسى أن يكون خيرًا لكم) يريد أن البحث عنها والطلب لها بكثير من العمل، هو خير من هذه الجهة، والغوابر: البواقى فى آخر الشهر، ومنه قوله تعالى: (إِلاَّ عَجُوزًا فِى الْغَابِرِينَ) [الشعراء: 171] يعنى الباقين الذين أتت عليهم الأزمنة، وقد تجعله العرب بمعنى الماضى أحيانًا، وهو من الأضداد، عن الطبرى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 69 - باب الْعَمَلِ فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ / 96 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: (كَانَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الأواخر شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ) . إنما فعل ذلك عليه السلام؛ لأنه أخبر أن ليلة القدر فى العشر الأواخر، فَسَنَّ لأمته الأخذ بالأحوط فى طلبها فى العشر كله لئلا تفوت، إذ يمكن أن يكون الشهر ناقصًا وأن يكون كاملا، فمن أحيا ليال العشر كلها لم يفته منها شفع ولا وتر، ولو أعلم الله عباده أن فى ليالى السنة كلها مثل هذه الليلة لوجب عليهم أن يحيوا الليالى كلها فى طلبها، فذلك يسير فى جنب طلب غفرانه، والنجاة من عذابه، فرفق تعالى بعباده وجعل هذه الليلة الشريفة موجودة فى عشر ليال؛ ليدركها أهل الضعف وأهل الفتور فى العمل مَنا من الله ورحمة. وقال سفيان الثورى: قوله: (شد مئزره) فى هذا الحديث يعنى: لم يقرب النساء، وفى قوله: (أيقظ أهله) من الفقه أن للرجل أن يحض أهله على عمل النوافل، ويأمرهم بغير الفرائض من أعمال البر، ويحملهم عليها. كمل (كتاب الصيام) بحمد الله وحسن عونه وتأييده، وصلى الله على محمد رسوله، خير خلقه، وصفوة عبيده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 بسم الله الرحمن الرحيم - كِتَاب الاعْتِكَافِ - بَاب الاعْتِكَافِ فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ الاعْتِكَافِ فِى الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِى الْمَسَاجِدِ) [البقرة: 187] الآية. / 1 - فيه: ابْن عُمَرَ، وعَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، زادت عائشة: حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ. / 2 - وفيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، كَانَ يَعْتَكِفُ فِى الْعَشْرِ الأوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ، فَاعْتَكَفَ عَامًا حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهِىَ اللَّيْلَةُ الَّتِى يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنِ اعْتِكَافِهِ، قَالَ: (مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِى فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الأوَاخِرَ، وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَقَدْ رَأَيْتُنِى أَسْجُدُ فِى مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ، وَالْتَمِسُوهَا فِى كُلِّ وِتْرٍ. . .) الحديث. العكوف فى اللغة: اللزوم للشىء والمقام عليه، وقال عطاء: قال يعلى بن أمية: إنى لأمكث فى المسجد الساعة، وما أمكث إلا لأعتكف. قال عطاء: وهو اعتكاف ما مكث فيه، وإن جلس فى المسجد احتساب الخير فهو معتكف وإلا فلا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 وأجمع العلماء أن الاعتكاف لا يكون إلا فى المساجد لقوله تعالى: (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِى الْمَسَاجِدِ) [البقرة: 187] . وقال حذيفة: لا اعتكاف إلا فى مسجد مكة أو المدينة أو بيت المقدس. وقال سعيد بن المسيب: لا اعتكاف إلا فى مسجد نبى، وذهب هؤلاء إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد، وهو ما بناه نبى؛ لأن الآية نزلت على النبى عليه السلام وهو معتكف فى مسجده، فكان القصد والإشارة إلى نوع تلك المساجد مما بناه نبى، وذهبت طائفة إلى أنه لا اعتكاف إلا فى مسجد تجمع فيه الجمعة، روى هذا القول عن على، وابن مسعود، وعروة، وعطاء، والحسن، وابن شهاب، وهو قول مالك فى (المدونة) ، قال: أما من تلزمه الجمعة فلا يعتكف إلا فى الجامع، قال: وأقل الاعتكاف عشرة أيام، وروى عنه ابن القاسم فى العتبية: لا بأس بالاعتكاف يومًا أو يومين، وقد روى أن أقله يوم وليلة، وقال فى المدونة: لا أرى أن يعتكف أقل من عشرة أيام، فإن نذر دونها لزمه. وقالت طائفة: الاعتكاف فى كل مسجد جائز، روى ذلك عن النخعى، وأبى سلمة والشعبى، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وهو قول مالك فى (الموطأ) ، قال: لا أراه كره الاعتكاف فى المساجد التى لا يجمع فيها، إلا كراهية أن يخرج المعتكف من مسجده الذى اعتكف فيه إلى الجمعة، فإن كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 مسجدًا لا يجمع فيه، ولا يجب على صاحبه إتيان الجمعة فى مسجد سواه، فلا أرى بأسًا بالاعتكاف فيه؛ لأن الله تعالى قال: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِى الْمَسَاجِدِ) [البقرة: 187] فعم المساجد كلها ولم يخص منها شيئًا، ونحوه قال الشافعى: المسجد الجامع أحب إلى، وإن اعتكف فى غيره فمن الجمعة إلى الجمعة. قال المهلب: وقول أبى سعيد فى هذا الحديث: (حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين، وهى الليلة التى يخرج من صبيحتها من اعتكافه) فليس معارضًا لما روى فى حديث أبى سعيد (أن النبى عليه السلام خرج صبيحة عشرين فخطبهم) والمعنى واحد، وذلك أنه قد روى جماعة هذا الحديث وقالوا فيه: وهى الليلة التى يخرج فيها من اعتكافه. وهذا هو الصحيح؛ لأن يوم عشرين معتكف فيه، وبه تتم العشرة الأيام؛ لأنه دخل فى أول الليل فيخرج فى أوله، فيكون معنى قوله: (فى ليلة إحدى وعشرين، وهى الليلة التى يخرج من صبيحتها) يريد الصبيحة التى قبل ليلة إحدى وعشرين، وأضافها إلى الليلة كما تضاف أيضًا الصبيحة التى بعدها إلى الليلة، وكل متصل بشىء فهو مضاف إليه، سواء كان فيه أو بعده، وإن كانت العادة فى نسبة الصبيحة إلى الليلة التى قبلها؛ لتقديم الليل على النهار، فإن نسبة الشىء إلى ما بعده جائز بدليل قوله تعالى: (لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) [النازعات: 46] فنسب الضحى إلى ما بعده، ويبين ذلك رواية من روى عن أبى سعيد (فخرجنا صبيحة عشرين) فلا إشكال فى هذا بعد بيان أبى سعيد أنها صبيحة عشرين وبعد قول من روى: (فى ليلة إحدى وعشرين، وهى الليلة التى يخرج فيها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 من الاعتكاف) ، وسيأتى حكم خروج المعتكف فى بابه إن شاء الله. وقوله: (وكان المسجد على عريش) قال صاحب (العين) : العريش شبه الهودج، وعريش البيت سقفه، وقال الداودى: كان الجريد قد بسط فوق الجذوع بلا طين، فكان المطر يسقط داخل المسجد، وكان عليه السلام قال لبنى النجار: (ثامنونى بحائطكم هذا. فقالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. فأخرج قبور المشركين، وقطع النخل التى كانت فيه، فجعل منها سوارى وجذوعًا وألقى الجريد عليها، فقيل له بعد ذلك: يا رسول الله، ألا تبنيه؟ قال: بل عريش كعريش موسى) . - باب الْحَائِضِ تُرَجِّلُ الْمُعْتَكِفِ / 3 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُصْغِى إِلَىَّ رَأْسَهُ، وَهُوَ مُجَاوِرٌ فِى الْمَسْجِدِ، فَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ. قولها: (كان يصغى إلى رأسه) يعنى أنه كان يدخل رأسه وكتفيه إل الحجرة فترجله، لئلا يخرج من المسجد ما وجد المقام فيه؛ لأن الحائض لا تدخل المسجد، وقد ترجم له باب (المعتكف يدخل رأسه البيت للغسل) ، وقال فيه: (كانت عائشة ترجل النبى عليه السلام وهى حائض، وهو معتكف فى المسجد، وهى فى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 حجرتها يناولها رأسه) ، وفيه جواز ترجيل رأس المعتكف، وفى ذلك دليل على أن اليدين من المرأة ليستا بعورة، ولو كانتا عروة ما باشرته بهما فى اعتكافه، ويشهد لذلك أن المرأة تُنْهى عن لبس القفارين فى الإحرام، وتؤمر بستر ما عدا وجهها وكفيها، وهكذا حكمهما فى الصلاة، وفيه من الفقه أن الحائض طاهر إلا موضع النجاسة منها، والجوار والاعتكاف سواء عند مالك، حكمهما واحد إلا من جاور نهارًا بمكة، وانقلب ليلاً إلى أهله فلا صوم فيه، وله أن يطأ أهله، قال: وجوار مكة أمر يتقرب به إلى الله كالرباط والصيام. وقال عمرو بن دينار: الاعتكاف والجوار واحد. وقال عطاء: هما مختلفان، كانت بيوت النبى عليه السلام فى المسجد، فلما اعتكف فى شهر رمضان خرج من بيوته إلى بطن المسجد فاعتكف فيه، والجوار بخلاف ذلك إن شاء الله جاور بباب المسجد أو فى جوفه إن شاء. وقال مجاهد: الحرم كله مسجد يعتكف فى أيه شاء، وإن شاء فى منزله، إلا أنه لا يصلى إلا فى جماعة. 3 - باب لا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلا لِحَاجَةٍ / 4 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَيُدْخِلُ عَلَىَّ رَأْسَهُ، وَهُوَ فِى الْمَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 لا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلا لِحَاجَةٍ إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا. قولها: (وكان يدخل البيت إلا لحاجة) تريد الغائط والبول، وهكذا فسره الزهرى وهو راوى الحديث، ورواه مالك عن ابن شهاب، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة وقال فيه: (وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان) . وقال أبو داود: لم يتابع أحد مالكًا فى هذا الحديث على ذكره عمرة، واضطرب فيه أصحاب ابن شهاب، فقالت طائفة عنه عن عروة، عن عائشة وكذلك رواه ابن مهدى عن مالك، وقالت طائفة: عن عروة وعمرة جميعًا عن عائشة. وكذلك رواه ابن وهب عن مالك، وأكثر الرواة عن مالك عن عروة، عن عمرة، فخطؤه فى ذكر عمرة. قال المؤلف: ولهذه العلة والله أعلم لم يدخل البخارى حديث مالك، وإن كان فيه زيادة تفسير، لكنه ترجم للحديث بتلك الزيادة إذ كان ذلك عنده معنى الحديث. وقولها: (وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان) يدل أن المعتكف لا يشتغل بغير ملازمة المسجد للصلوات وتلاوة القرن وذكر الله، ولا يخرج إلا لما له إليه حاجة، وفى معنى ترجيل رأس رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جواز استعمال الإنسان كل ما فيه صلاح بدنه من الغذاء وغيره، ومن جهة النظر أن المعتكف ناذر جاعل على نفسه المقام فى المسجد لطاعة الله، فواجب عليه الوفاء بذلك، وألا يشتغل عنه بما يلهيه، ولا يخرج إلا لضرورة كالمرض البيّن، والحيض فى النساء، وهذا فى معنى خروجه لحاجة الإنسان. واختلفوا فى خروجه لما سوى ذلك، فروى عن النخعى والحسن البصرى وابن جبير أن له أن يشهد الجمعة، ويعود المرضى، ويتبع الجنائز، وذكر ابن الجهم عن مالك أنه يخرج إلى الجمعة، ويتم اعتكافه فى الجامع. وقال عبد الملك: إن خرج إلى الجمعة فسد اعتكافه. ومنعت طائفة خروجه لعيادة المريض والجنائز، وهو قول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 عطاء، وعروة، والزهرى، ومالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وأبى ثور. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يخرج المعتكف إلا إلى الجمعة، والبول والغائط خاصة. وقال مالك: إن خرج المعتكف لعذر ضرورة مثل أن يموت أبوه أو ابنه، ولا يكون له من يقوم به، فإنه يبتدئ اعتكافه، والذين منعوا خروجه لغير حاجة الإنسان أسعد باتباع الحديث. قال ابن المنذر: قولها: (وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان) فيه دلالة على منع المعتكف من العشاء فى بيته، والخروج من موضعه إلا لحاجة الإنسان لبول أو لغائط، قال ابن المنذر: واختلفوا فى ذلك، فكان الحسن وقتادة يقولان: له أن يشترط العشاء فى منزله. وبه قال أحمد بن حنبل، وقال الشافعى: إن كان المعتكف فى بيته فلا شىء عليه. وقال أبو مجلز: ليس له ذلك، وهو يشبه مذهب المدنين، وبه نقول؛ لأنه موافق للسنة، وذلك قول عائشة: (وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان) . وفى العتبية لابن القاسم عن مالك فى الرجل يأتيه الطعام من منزله ليأكله فى المسجد، قال: أرجو أن يكون خفيفًا، قال ابن المنذر: وفيه دليل على أن من حلف لا يدخل دارًا، فأدخل بعض بدنه أنه غير حانث؛ لأن المعتكف ممنوع من الخروج من المسجد، ففى إدخاله رأسه لترجله عائشة دليل على إباحة ذلك، وعلى إباحة غسل المعتكف رأسه، ولو أراد المعتكف حلق رأسه فأخرجه إلى الحلاق ليحلقه، كان ذلك عندى فى معنى هذا، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 4 - باب غَسْلِ الْمُعْتَكِفِ / 5 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يُبَاشِرُنِى، وَأَنَا حَائِضٌ، وَكَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَأَغْسِلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ. غسل رأس المعتكف جائز كترجيله على نص هذا الحديث، وغسل جسده فى معنى غسله رأسه، ولا أعلم فى ذلك خلافًا، وروى ابن وهب عن مالك قال: لا بأس أن يخرج إلى غسل الجمعة إلى الموضع الذى يتوضأ فيه، ولا بأس أن يخرج يغتسل للحر يصيبه. وقولها: (كان يباشرنى وأنا حائض) تريد غير معتكفٍ؛ لأن المعتكف لا تجوز به المباشرة لقوله تعالى: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِى الْمَسَاجِدِ) [البقرة: 187] ، وإنما ذكرت المباشرة فى هذا الحديث لتدل على جواز غسلها لرأسه وهى حائض، ويدل على طهارة بدن الحائض. 5 - باب الاعْتِكَافِ لَيْلا / 6 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، قَالَ: كُنْتُ نَذَرْتُ فِى الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ قَالَ: (فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ) . وترجم له باب: (إذا نذر فى الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم) ، وباب: (من أجاز الاعتكاف بغير صيام) ، فقياس قوله أن يجيزه ليلا، وسيأتى اختلاف العلماء فى ذلك فى بابه إن شاء الله. وقال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 مالك: من نذر اعتكاف ليلة لزمه يوم وليلة. وقال سحنون: لا شىء عليه إن نذر اعتكاف ليلة؛ لأنه لا صيام فى الليل، قال: ومن نذر اعتكاف يوم لزمه يوم وليلة، ويدخل اعتكافه قبل غروب الشمس من ليلته، وإن دخل قبل الفجر لم يُجْزِهِ، وإن أضاف إليه الليلة المستقبلة. وقوله عليه السلام: (أوف بنذرك) محمول عند الفقهاء على الحض والندب لا على الوجوب؛ بدلالة أن الإسلام يهدم ما قبله، وقد حمل الطبرى قوله عليه السلام: (أوف بنذرك) على الوجوب وقال: إنما أمر النبى عليه السلام عمر بالوفاء فى الإسلام بنذر كان نذره فى الجاهلية إذ كان ذلك لله برا فى الإسلام، فالواجب أن يكون نظيره كل نذر نذره فى حال كفره مما هو طاعة فى الإسلام أن عليه الوفاء لله به فى حال إسلامه قياسًا على أمره عليه السلام عمر أن يفى بنذره الذى كان نذره فى الجاهلية فى حال إسلامه، وسيأتى فى (كتاب الأيمان والنذور) من حمل ذلك على الوجوب، ومن حمله على الندب من العلماء، وبيان أقوالهم، إن شاء الله. قال المهلب: وفيه دليل على تأكيد الوفاء بالوعد؛ ألا ترى أنه أمره بالوفاء به وقد خرج من حال الجاهلية إلى حالة الإسلام، وإن كان عند الفقهاء أن ما كان فى الجاهلية من أيمان وطلاق وجميع العقود، فإن الإسلام يهدمها، ويسقط حرمتها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 6 - باب اعْتِكَافِ النِّسَاءِ / 7 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يَعْتَكِفُ فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَكُنْتُ أَضْرِبُ لَهُ خِبَاءً فَيُصَلِّى الصُّبْحَ، ثُمَّ يَدْخُلُهُ، فَاسْتَأْذَنَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَضْرِبَ خِبَاءً، فَأَذِنَتْ لَهَا، فَضَرَبَتْ خِبَاءً فَلَمَّا رَأَتْهُ زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ، ضَرَبَتْ خِبَاءً آخَرَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) رَأَى الأخْبِيَةَ، فَقَالَ: (مَا هَذَا) ؟ فَأُخْبِرَ، فَقَالَ، عليه السَّلام: (أَالْبِرَّ تَقُولُونَ بِهِنَّ) ؟ فَتَرَكَ الاعْتِكَافَ ذَلِكَ الشَّهْرَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ. اختلف العلماء فى اعتكاف النساء، فقال مالك: تعتكف المرأة فى مسجد الجماعة، ولا يعجبه أن تعتكف فى مسجد بيتها. وقال الشافعى: تعتكف المرأة والعبد والمسافر حيث شاءوا؛ لأنه لا جمعة عليهم. وقال الكوفيون: لا تعتكف المرأة إلا فى مسجد بيتها، ولا تعتكف فى مسجد الجماعة، وذلك مكروه. واحتجوا بأن النبى عليه السلام نقض اعتكافه إذ تبعه نساؤه، وهذا إنكار منه عليهن، قالوا: وقد قال عليه السلام: (صلاة المرأة فى بيتها أفضل) فإذا منعت المرأة من المكتوبة فى المسجد مع وجوبها، فلأن تكون ممنوعة من اعتكاف هو نفل أولى، ولما كانت صلاة الرجل فى المسجد أفضلً، كان اعتكافه فيه أفضل. قال ابن القصار: وحجة مالك أن النبى عليه السلام لما أراد الاعتكاف أذن لعائشة وحفصة فى ذلك، وقد جاء هذا مبينًا فى باب: (من أراد أن يعتكف ثم بدا له أن يخرج) ، ولو كان المسجد غير موضع اعتكافهن لما أباح ذلك لهن معه، ولا يجوز أن يظن به عليه السلام أنه نقض اعتكافه، ولكنه أخره تطييبًا لقلوبهن لئلا يحصل معتكفًا وهن غير معتكفات، وإنما فعل ذلك لأنه كره أن يكن مع الرجال فى مسجده عليه السلام؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 لأنه موضع الاجتماع، والوفود ترد عليه فيه، وهذا كما يستحب لهن أن يتعمدن الطواف فى الأوقاف الخالية، وكما يكره للشابات منهن الخروج للجمع والعياد، فإذا أردن أن يصلين الجمع لم يجز إلا فى الجامع مع الرجال. وقال ابن المنذر: فى هذا الحديث إباحة اعتكاف النساء؛ لأنه عليه السلام أذن لعائشة وحفصة فى ذلك. وفيه: دليل أن المرأة إذا أرادت اعتكافًا لم تعتكف حتى تستأذن زوجها، ويدل على أن الأفضل والأعلى للنساء لزوم منازلهن، وترك الاعتكاف مع إباحته لهن؛ لأن ردهن ومنعهن منه يدل على أن لزوم منازلهن أفضل من الاعتكاف. 7 - باب الأخْبِيَةِ فِى الْمَسْجِدِ / 8 - وذكر حديث عَمْرَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِى أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ، إِذَا أَخْبِيَةٌ: خِبَاءُ عَائِشَةَ، وَخِبَاءُ حَفْصَةَ، وَخِبَاءُ زَيْنَبَ. . . الحديث. قال المهلب: فيه من الفقه أن المعتكف يجب أن يجعل لنفسه فى المسجد مكانًا لمبيته، بحيث لا يضيق على المسلمين، كما فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى الصحن إذا ضرب فيه خباءه، وفيه من الفقه أن المعتكف إذا أراد أن ينام فى المسجد أن يتنحى عن الناس؛ خوف أن يكون منه ما يؤذيهم من آفات البشر. وقال ابن المنذر: وفيه دليل على إباحة ضرب الأخبية فى المسجد للمعتكفين. وقال مالك فى المجموعة: وليعتكف فى عجز المسجد ورحابه، فذلك الشأن فيه. وقال الخطابى: وقوله: (آلبر تقولون بهن؟) معناه: آلبر تظنون بهن؟ قال الشاعر: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 متى تقول القُلُصَ الرواسما يلحقن أم عاصم وعاصمًا أى: متى تظن القُلُص يلحقهما، ولذلك نصب القلص، قال الفراء: والعرب تجعل ما بعد القول مرفوعًا على الحكاية فتقول: عبد الله ذاهب، وقلت: إنك قائم، هذا فى جميع القول إلا فى أتقول وحدها فى حروف الاستفهام، فإنهم ينزلونها منزلة أتظن، فيقولون: أتقول إنك خارج، ومتى تقول: إن عبد الله منطلق وأنشد: أما الرحيل فدون بعد غد فمتى تقول الدار تجمعنا بنصب الدار كأنه يقول: فمتى تظن الدار تجمعنا، وأجاز سيبويه الرفع فى قوله: الدار تجمعنا على الحكاية. 8 - باب هَلْ يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ لِحَوَائِجِهِ إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ / 9 - فيه: صَفِيَّةَ، أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) تَزُورُهُ فِى اعْتِكَافِهِ فِى الْمَسْجِدِ فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، مَعَهَا يَقْلِبُهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلانِ مِنَ الأنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِىَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ) ، فَقَالا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ، عليه السَّلام: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّى خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِى قُلُوبِكُمَا شَيْئًا) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 وترجم له باب: (زيارة المرأة زوجها فى اعتكافه) ، وذكر أن بيت صفية كان فى دار أسامة خارج المسجد، فخرج النبى عليه السلام معها. لا خلاف فى جواز خروج المعتكف فيما لا غنى به عنه، وإنما اختلفوا فى المعتكف يدخل لحاجته تحت سقف، فأجاز ذلك الزهرى، ومالك، وأبو حنيفة، والشافعى، وروى عن ابن عمر، والنخعى، وعطاء أنه لا يدخل تحت سقف، وهو قول إسحاق، وقال الثورى والحسن بن حيى: إن دخل بيتًا غير المسجد بطل اعتكافه، إلا أن يكون ممره فيه. وكذلك اختلفوا فى اشتغاله بالأمور المباحة، فقال مالك فى الموطأ: لا يأتى المعتكف حاجة ولا يخرج لها، ولا يعين أحدًا عليها، ولا يشتغل بتجارة، ولا بأس أن يأمر أهله ببيع ماله وصلاح ضيعته. وقال أبو حنيفة والشافعى: له أن يتحدث ويبيع ويشترى فى المسجد، ويتشاغل بما لا يأثم فيه، وليس عليه صمت. وقال مالك: لا يشترى إلا ما لا غنى له عنه من طعامه إذا لم يكن له من يكفيه. وكره مالك والليث للمؤذن الصعود على المنارة قالا: ولا يصعد على ظهر المسجد، وأجاز ذلك أبو حنيفة والشافعى، قالا: ولو كانت المنارة خارج المسجد. وكذلك اختلفوا فى حضوره مجالس العلم، فرخص فى ذلك كثير من العلماء، روى ذلك عن عطاء والأوزاعى والليث والشافعى. وقال مالك: لا يشتغل فى مجالس العلم، وكره أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 يكتب العلم. وقال ابن المنذر: طلب العلم من أفضل العمال بعد أداء الفرائض لانتشار الجهل ونقصان العلم، وذلك إذا أراد اللهَ به طَالبُهُ، وعمل البر لا ينافى الاعتكاف. وقال غيره: مجالس العلم شاغلة له عن اعتكافه، ومالك أسعد بأصله؛ لأنهم يوافقونه فى أن المعتكف لا يعود مريضًا ولا يشهد جنازة، وذلك من عمل البر، واحتج الطحاوى على جواز اشتغال المعتكف بالمباح من الأفعال بشغله عليه السلام فى اعتكافه بمحادثة صفية ومشيه معها إلى باب المسجد. قال المهلب: وفيه من الفقه أنه لا بأس بزيارة أهل المعتكف له فى اعتكافه، وفيه أنه لا بأس أن يعمل فى اعتكافه بعض العمل الذى ليس من الاعتكاف من تشييع قاصد، وبر زائر، وإكرام مفتقر، وما كان فى معناه مما لا ينقطع به عن اعتكافه. 9 - باب الاعْتِكَافِ وَخَروجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) صَبِيحَةَ عِشْرِينَ / 10 - فيه: أَبُو سَعِيد، اعْتَكَفْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، الْعَشْرَ الأوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ، قَالَ: فَخَرَجْنَا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ، قَالَ: فَخَطَبَنَا النَّبِىّ، عليه السَّلام، صَبِيحَةَ عِشْرِينَ، فَقَالَ: (إِنِّى أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ. . .) الحديث. قد تقدم فى أول (كتاب الاعتكاف) أن قول أبى سعيد فى هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 الحديث: (فخرجنا صبيحة عشرين) أنه بيان للرواية التى فيها (حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين، وهى الليلة التى يخرج من صبيحتها من اعتكافه) أنه يريد الصبيحة التى قبل ليلة إحدى وعشرين، إذ قد يجوز إضافة الشىء إلى ما قبله وما بعده، وسيأتى حكم خروج المعتكف فى بابه بعد إن شاء الله. - باب اعْتِكَافِ الْمُسْتَحَاضَةِ / 11 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتِ: اعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ مُسْتَحَاضَةٌ، فَكَانَتْ تَرَى الْحُمْرَةَ وَالصُّفْرَةَ، فَرُبَّمَا وَضَعْنَا الطَّسْتَ تَحْتَهَا، وَهِىَ تُصَلِّى. حكم المستحاضة كحكم الطاهر، ولا خلاف بين العلماء فى جواز اعتكافها، وفيه أنه لا بأس أن تعتكف مع الرجل زوجته إذا كان لها موضع تستتر فيه، وأما المعتكفة تحيض، فقال الزهرى، وربيعة، ومالك، والأوزاعى، وأبو حنيفة، والشافعى: تخرج إلى دارها، فإذا طهرت فلترجع ثم تبنى على ما مضى من اعتكافها، وقال أبو قلابة: تضرب خباءها على باب المسجد إذا حاضت. - باب هَلْ يَدْرَأُ الْمُعْتَكِفُ عَنْ نَفْسِهِ / 12 - فيه: صَفِيَّةَ أنها أَتَتِ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَلَمَّا رَجَعَتْ مَشَى مَعَهَا، فَأَبْصَرَهُ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَلَمَّا أَبْصَرَهُ دَعَاهُ، فَقَالَ: (تَعَالَ، هِىَ صَفِيَّةُ، وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: هَذِهِ صَفِيَّةُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّم) . قُلْتُ لِسُفْيَانَ: أَتَتْهُ لَيْلا؟ قَالَ: وَهَلْ هُوَ إِلا لَيْلٌ؟ . قال المهلب: فيه من الفقه تجنب مواضه التهم، وأن الإنسان إذا خشى أن يسبق إليه بظن سوء أن يكشف معنى ذلك الظن، ويبرئ نفسه من نزغات الشيطان الذى يوسوس بالشر فى القلوب، وإنما خشى عليه السلام أن يحدث على الرجل من سوء الظن فتنة، وربما زاغ بها فيأثم أو يرتد، وإن كان النبى عليه السلام منزهًا عند المؤمنين من مواضع التهم، ففى قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إنها صفية) السنة الحسنة لأمته، أن يتمثلوا فعله ذلك فى البعد عن التهم ومواقف الريب، وكما جاز أن يدرأ المعتكف عن نفسه بالقول، كذلك يجوز أن يدرأ عن نفسه بالفعل من يريد أذاه، وليس المعتكف أكثر من المصلى، وقد أبيح له أن يدرأ عن نفسه فى صلاته من يمر بين يديه فكذلك المعتكف. - باب مَنْ خَرَجَ مِنِ اعْتِكَافِهِ عِنْدَ الصُّبْحِ / 13 - فيه: أَبُو سَعِيد، اعْتَكَفْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، الْعَشْرَ الأوْسَطَ، فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ نَقَلْنَا مَتَاعَنَا، فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى مُعْتَكَفِهِ، فَإِنِّى رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ. . .) الحديث. قال المهلب: ترجم البخارى لما سبق من ظاهر الأحاديث فى خروج المعتكف فى صبيحة عشرين، وبين لك أن الذى يظنه الناس من ظاهر الحديث من خروجه صبيحة عشرين، أنه ليس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 بخروج من الاعتكاف، وإنما خو خروج بالمتاع الذى كانوا يبيتون فيه، ويأكلون ويشربون فيه، إذ لا حاجة لهم بشىء من ذلك فى يوم عشرين الذى به ينقضى اعتكافهم للعشر الأوسط، فإذا انقضى اليوم بمغيب الشمس خرجوا ليلة إحدى وعشرين إلى بيوتهم خفافًا من أثقالهم، وقد بين ذلك أبو سعيد بقوله: (فلما كان صبيحة عشرين نقلنا متاعنا) ولم يقل: خرجنا من اعتكافنا، فأخبر الله تعالى نبيه أن الذى تطلب أمامك، فقال: (من كان اعتكف معى فليعتكف العشر الأواخر فإنى أُريت هذه الليلة. .) الحديث. قال غيره: وأجمع العلماء أنه من اعتكف العشر الأول أو الأوسط أنه يخرج إذا غابت الشمس من آخر يوم من اعتكافه، وفى إجماعهم على ذلك ما يوهن رواية من روى فى ليلة إحدى وعشرين أنه يخرج من صبحها أو فى صبيحتها، وأن الصواب رواية من روى يخرج فيها من اعتكافه، يعنى بعد الغروب، وإجماعهم يقضى على ما اختلفوا فيه من الخروج لمن اعتكف العشر الأواخر. قال النخعى: كانوا يستحبون للمعتكف أن يبيت ليلة الفطر حتى يكون غدوه منه إلى العيد، وهو قول أبى قلابة وأبى مجلز، وبه قال مالك، وحكاه عن أهل الفضل، وهو قول أحمد بن حنبل، وذكر ابن وهب عن الليث، عن عقيل، أن ابن شهاب كان لا يرى بأسًا أن ينصرف المعتكف إلى أهله إذا غابت الشمس ليلة الفطر، وهو قول الليث، والأوزاعى، والشافعى، وروى ابن القاسم عن مالك فى العتبية: إن خرج من معتكفه ليلة الفطر أنه لا شىء عليه، وهذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 هو الصحيح؛ لأن ليلة العيد ويم العيد ليس بموضع اعتكاف، والعشر يزول بزوال الشمس، والعشر يزول بزوال الشهر، والشهر ينقضى بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان، فدل هذا أن قول مالك الأول أنه استحباب ليتصل له نسك بنسك، لا أنه واجب. - باب الاعْتِكَافِ فِى شَوَّالٍ / 14 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، يَعْتَكِفُ فِى كُلِّ رَمَضَانٍ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ دَخَلَ مَكَانَهُ الَّذِى اعْتَكَفَ فِيهِ، قَالَ: فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ أَنْ تَعْتَكِفَ، فَأَذِنَ لَهَا فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً، فَسَمِعَتْ بِهَا حَفْصَةُ فَضَرَبَتْ قُبَّةً، فَسَمِعَتْ زَيْنَبُ بِهَا فَضَرَبَتْ قُبَّةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْغَدَاةِ رآها، فأمر بنزعها، فَلَمْ يَعْتَكِفْ فِى رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِى آخِرِ الْعَشْرِ مِنْ شَوَّالٍ. قال المؤلف: الاعتكاف فى شوال وسائر السنة مباح لمن أراده. وقال المهلب: هذا الحديث الذى جاء بدخول المعتكف إلى اعتكافه إذا صلى الصبح يوهم أنه كان يدخل ذلك الحين الاعتكاف، وليس ذلك على ما يوهم ظاهره؛ لأنه عليه السلام إنما كان يدخل الخباء الذى يضرب له لينظر كيف ترتيب مكان نومه ومصلاه وحوائجه، ثم يخرج فى حوائجه، فإذا صلى المغرب دخل معتكفه، ولا يمكن أن يدخل بنية الاعتكاف ثم ينصرف عنه؛ لأنه لا يحل قطع الاعتكاف البتة بعد أن يدخل فيه، ولا يجوز أيضًا أن يقطع اعتكاف غيره لا سيما وقد كان عليه السلام أذن لعائشة وحفصة فى ذلك، ودليل آخر وهو أنه إن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 كان دخل للاعتكاف بعد صلاة الصبح فقد دخل فى بعض النهار، ولا يجزئه ذلك من اعتكافه حتى يثبت أنه دخل الخباء قبل انصداع الفجر بنية الاعتكاف، وذلك معدوم فى الروايات. وقال غيره: ويمكن أن يكون دخوله صبيحة عشرين متطوعًا بذلك، وكان اعتكافه كله تطوعًا، ومن زاد فى التطوع فهو أفضل، وإنما يقع التحريم فى النذر، ولو أن امرأ نذر اعتكاف العشر الأواخر ما لزمه أن يدخل إلا ليلة إحدى وعشرين عند الغروب، ويخرج صبيحة ثلاثين عند الغروب. واتفق مالك، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد أن المعتكف إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر أنه لا يدخل إلا عند غروب الشمس، وهو قول النخعى، وقال الأوزاعى بظاهر الحديث يصلى الصبح ثم يقوم إلى معتكفه، وما ذكرناه فى هذا الباب يرد قوله. واختلفوا إذا نذره يومًا أو أيامًا، فقال مالك: يدخل قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم، وقال الشافعى: إذا أراد اعتكاف يوم دخل قبل طلوع الفجر، وخرج بعد غروب الشمس، خلاف قوله فى الشهر. وقال أبو ثور: إذا أراد أن يعتكف عشرة أيام دخل فى اعتكافه قبل طلوع الفجر، واليومُ والشهرُ عندهم سواء، ذهب هؤلاء إلى أن الليل لا يدخل فى الاعتكاف إلا أن يتقدمه اعتكاف النهار، وليس الليل بموضع للاعتكاف فلا يصح الابتداء به، وذهب الأولون إلى أن النهار تبع لليل على كل حال، فلذلك بدءوا بالليل، وهذا هو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 الصحيح فى هذه المسألة؛ لأن المعروف عند جميع الأمة تقدم الليل للنهار بكون الأهلة مواقيت للناس فى الشهور والعدد وغير ذلك، فأول الشهر ليلة، فكذلك كل عدد من الأيام وإن قل فإن أوله ليلة، ولا حجة لمن خالف هذا والله أعلم. - باب مَنْ لَمْ يَرَ عَلَيْهِ صَوْمًا إِذَا اعْتَكَفَ / 15 - فيه: ابْن عُمَرَ، أن عُمَر، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى نَذَرْتُ فِى الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (أَوْفِ نَذْرَكَ فَاعْتَكَفَ لَيْلَةً) . قال المؤلف: احتج بهذا الحديث من أجاز الاعتكاف بغير صوم، وروى ذلك عن على وابن مسعود قالا: إن شاء صام المعتكف، وإن شاء لم يصم. وقالت طائفة: الصوم لا يجب على المعتكف فرضًا؛ لأن الله لم يوجبه فى كتابه ولا رسوله، فلا يجب على المعتكف الصوم إلا أن يوجبه نذرًا، فيجب الوفاء بالنذر، وممن قال بهذا القول: الحسن البصرى، وإليه ذهب الشافعى وأبو ثور والمزنى، واحتج المزنى بهذا الحديث وقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمره أن يوفى بنذره، وليس الليل موضع صيام، وأيضًا فإن رمضان لا يجوز أن ينوى به رمضان وغيره معًا، وذهبت طائفة إلى أن الاعتكاف من شرطه الصوم، روى ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وبه قال القاسم وعروة وابن شهاب، وهو قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، والأوزاعى، واحتج مالك فى الموطأ بقول القاسم ونافع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 قالا: لا اعتكاف إلا بصوم لقول الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ (إلى) الْمَسَاجِدِ) [البقرة: 187] فإنما ذكر الله الاعتكاف مع الصيام، قال مالك: وعلى ذلك الأمر عندنا، واحتج أهل المقالة الأولى فقالوا: لو كان الاعتكاف لا يصح إلا بصوم؛ لم يكن لنهيه تعهالى عن المباشرة لأجل الاعتكاف معنى. قال ابن القصار: فالجواب أن الله تعالى لما ذكر الوطء فى أول الآية وعلق حظره بالصوم فى النهار، عطف عليه حكم الاعتكاف، وذكر حظر الوطء معه؛ لأنه قد يصح فى وقت لا يصح فيه الصوم وهو زمن الليل. ولو وطئ ليلا فسد اعتكافه فهذه فائدة ذكره للوطء بعد تقدم ذكره، وأما احتجاجهم بأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لعمر فى الليلة: (أوف بنذرك) . فالمعنى أنه أراد ليلة بيومها، وقد يعبر عن اليوم بالليلة كما قال تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ) [الأعراف: 142] فأراد تعالى الليالى بأيامها، وقد روى عمرو بن دينار عن ابن عمر: (أن عمر قال للنبى عليه السلام بالجعرانة: إنى نذرت أن أعتكف يومًا وليلة) . فهذا أصل الحديث، فنقل بعض الرواة ذكر الليلة وحدها، ويجوز للراوى نقل بعض ما سمع. - باب الاعْتِكَافِ فِى الْعَشْرِ الأوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ / 16 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ، عليه السَّلام، يَعْتَكِفُ فِى كُلِّ شهر رَمَضَانٍ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِى قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 يحتمل أن يكون إنما ضاعف اعتكافه فى العام الذى قبض فيه من أجل أنه علم بانقضاء أجله، فأراد أن يستكثر من عمل الخير؛ ليسن لأمته الاجتهاد فى العمل إذا بلغوا انقضاء العمر ليلقوا الله على خير أحوالهم. وقد روى ابن المنذر حديثًا دل على غير هذا المعنى قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا ثابت، عن أبى رافع، عن أبى بن كعب (أن النبى عليه السلام كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فسافر عامًا فلم يعتكف، فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين ليلة) . وقوله: (كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يعتكف فى كل رمضان) فهذا يدل على أن الاعتكاف من السنن المؤكدة؛ لأنه مما واظب عليه النبى عليه السلام فينبغى للمؤمنين الاقتداء فى ذلك بنبيهم، وذكر ابن المنذر عن ابن شهاب أنه كان يقول: عجبًا للمسلمين تركوا الاعتكاف، وإن النبى عليه السلام لم يتركه منذ دخل المدينة كل عام فى العشر الأواخر حتى قبضه الله. وروى ابن نافع عن مالك قال: ما زلت أفكر فى ترك الصحابة الاعتكاف، وقد اعتكف النبى حتى قبضه الله تعالى وهم أتبع الناس بآثاره، حتى أخذ بنفسى أنه كالوصال المنهى عنه، وأراهم إنما تركوه لشدته، وأن ليله ونهاره سواء، قال مالك: ولم يبلغنى أن أحدًا من السلف اعتكف إلا أبو بكر بن عبد الرحمن. واسمه المغيرة، وهو ابن أخى أبى جهل، وهو أحد فقهاء تابعى المدينة. قال ابن المنذر: روينا عن عطاء الخرسانى أنه قال: كان يقال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 مثل المعتكف كمثل عبد ألقى نفسه بين يدى ربه ثم قال: رب لا أبرح حتى تغفر لى، رب لا أبرح حتى ترحمنى. - باب مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَخْرُجَ / 17 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، ذَكَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الأوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ، فَأَذِنَ لَهَا، وَسَأَلَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَسْتَأْذِنَ لَهَا، فَفَعَلَتْ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ زَيْنَبُ أَمَرَتْ بِبِنَاءٍ فَبُنِىَ لَهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا صَلَّى انْصَرَفَ إِلَى بِنَائِهِ فَبَصُرَ بِالأبْنِيَةِ، فَقَالَ: (مَا هَذَا) ؟ قَالُوا: بِنَاءُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ، فَقَالَ، عليه السَّلام: (أَالْبِرَّ أَرَدْنَ بِهَذَا؟ مَا أَنَا بِمُعْتَكِفٍ) ، فَرَجَعَ، فَلَمَّا أَفْطَرَ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ. قال المؤلف: يحتمل أن يكون النبى عليه السلام قد كان شرع فى الاعتكاف ودخل فيه، فلذلك قضاه لقول عائشة: (إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان إذا صلى انصرف إلى بنائه) . فإن كان هذا فيكون قضاؤه واجبًا عليه. وأهل العلم متفقون أنه لا يجب قضاء الاعتكاف إلا على من نواه وشرع فى عمله ثم قطعه لعذر، ويحتمل أن يكون عليه السلام لم يكن شرع فى الاعتكاف ولا بدأ به، وإنما كان انصرافه إلى بنائه بعد صلاة الصبح مطلعًا لأموره، والنظر فى إصلاحها غير معتقد الدخول فى الاعتكاف، ومن كان هكذا فله أن يرجع عن إمضاء نيته لأمر يراه، وقد قال العلماء: إن من نوى اعتكافًا فله تركه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 قبل أن يدخل فيه، وعلى هذا الوجه تأوله البخارى، وترجم له باب من أراد أن يعتكف ثم بدا له أن يخرج، وعلى هذا يكون قضاؤه له تطوعًا. قال المهلب: وفيه من الفقه أن من نوى شيئًا من الطاعات، ولم يبدأ بَعْدُ بالعمل فيه أن له تركه إن شاء تركًا واحدًا، وإن شاء تركًا مؤخرًا إلى وقت غيره، وقال غيره: واعتكافه عليه السلام وإن كان تطوعًا فغير نكير أن يكون قضاه فى شوال من أجل أنه كان قد نوى أن يعلمه وإن لم يدخل فيه؛ لأنه كان أوفى الناس بما عاهد عليه، ذكر سنيد قال: حدثنا معتمر بن سليمان، عن كهمس، عن معبد ابن ثابت فى قوله تعالى: (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ) [التوبة: 75] الآية. قال: إنما هو شىء نووه فى أنفسهم ولم يتكلموا به، ألم تسمع إلى قوله فى الآية: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) [التوبة: 78] . قال المهلب: فى قوله عليه السلام: (آلبر ترون بهن) من الفقه أن من عُلم منه الرياء فى شىء من الطاعات فلا بأس أن يُقطع عليه فيه ومنعه منه، ألا ترى قوله عليه السلام: (آلبر ترون بهن) . يعنى أنهن إنما أردن الحظوة والمنزلة منه عليه السلام، فلذلك قطع عليهن ما أردنه وأخر ما أراده لنفسه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 وفيه من الفقه: أن للرجل منع زوجته وأمته وعبده من الاعتكاف فى الابتداء، كما منع نساءه الذين ضربوا الأبنية، وهو قول مالك والكوفيين والشافعى. واختلفوا إذا أذن لهم فى ذلك فقال مالك: لا يمنعهم، وقال الكوفيون: لا يمنع زوجته إن أذن لها، ويمنع عبده إن أذن له، وقال الشافعى: له منعهما جميعًا، وقال ابن شعبان كقول الشافعى: له أن يمنعهما جميعًا، وأن أذن لهما ما لم يدخلا فيه، وهذا الحديث يدل على صحة هذا القول؛ لأن النبى عليه السلام قد كان أذن لعائشة وحفصة فى الاعتكاف ثم منعهما منه حين رأى ذلك، وفيه من الفقه: أنه قد يستر عن الضرائر تفصيل بعضهن على بعض ولو بترك طاعة لله تستدرلاك بعد حين. تم كتاب الاعتكاف والحمد لله رب العالمين يتلوه كتاب الحج إن شاء الله والله المعين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 بسم الله الرحمن الرحيم - كِتَاب الْحَجِّ وُجُوبِ الْحَجِّ وَفَضْلِهِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97] . / 1 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْن عباس رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِى الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِى شَيْخًا كَبِيرًا لا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: (نَعَمْ) ، وَذَلِكَ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ. أجمع العلماء على أن على المرء فى عمره حجة واحدة، حجة الإسلام إذا كان مستطيعًا. واختلفوا فى الاستطاعة، فذهبت طائفة إلى أن من قدر على الوصول إلى البيت ببدنه فقد لزمه فرض الحج وإن لم يجد راحلة، وهو بمنزلة من يجد الراحلة ولا يقدر على المشى، وهو قول ابن الزبير وعكرمة والضحاك، وبه قال مالك، وذهب الحسن البصرى ومجاهد وسعيد بن جبير إلى أن الاستطاعة: الزاد والراحلة، وبه قال أبو حنيفة والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 قال المهلب: فى هذا الحديث أن الاستطاعة لا تكون الزاد والراحلة؛ ألا ترى أن ما اعتذرت به هذه المرأة عن أبيها ليس بزاد ولا راحلة، وإنما كان ضعف جسمه، فثبت أن الاستطاعة شائعة كيفما وقعت وتمكنت. قال ابن القصار: والاستطاعة فى لسان العرب القدرة، فإن جعلناها فى كل قادر جاز، سواء قدر ببدنه، أو ببدنه وماله، أو بماله، إلا أن تقوم دلالة. وإن قلنا: إن حقيقة الاستطاعة أن تكون صفة قائمة فى المستطيع كالقدرة والكلام والقيام والقعود، فينبغى أن تكون الاستطاعة صفة فيه تختصه وهذا لا يكون إلا لمن هو مستطيع ببدنه دون ماله. فإن احتجوا بما روى عن الرسول أنه قال: (السبيل: الزاد والراحلة) فإن ابن معين وغيره قالوا: روايه إبراهيم الخوزى، وهو ضعيف. وقال ابن المنذر: لا يثبت الحديث الذى فيه ذكر الزاد والراحلة، وليس بمتصل، والآية عامة ليست مجملة ولا تفتقر إلى بيان، فكأنه تعالى كلف كل مستطيع على أى وجه قدر بمال أو ببدن، والدليل على ذلك قوله عليه السلام: (لا تحل الصدقة لغنى، ولا لذى مرة سوى) فجعل صحة الجسم مساوية للغنى، فسقط قول من اعتبر الراحلة. وقال إسماعيل بن إسحاق: لو أن رجلا كان فى موضع يمكنه المشى إلى الحج، وهو لا يملك راحلة لوجب عليه الحج؛ لأنه مستطيع إليه سبيلا. وما روى عن السلف فى ذلك أن السبيل: الزاد والراحلة: فإنما أرادوا التغليظ على من ملك هذا المقدار ولم يحج؛ لأنهم ذكروا أقل الأملاك التى يبلغ بها الإنسان إلى الحج، فإن قيل: فإنها عبادة تتعلق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 بقطع مسافة بعيدة فوجبت فيها الراحلة، أصله الجهاد، قيل: لا فرق بينهما، وعندنا أن من تعين عليه فرض الجهاد وهو قادر ببدنه على المشى، فليست الراحلة شرطًا فى وجوبه عليه؛ لأنه منكسر بالهجرة، وسيأتى بعض معانى هذا الحديث فى باب: الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة من هذا الكتاب إن شاء الله. قال المهلب: وفيه من الفقه جواز الارتداف لسادة الناس ورؤسائهم، ولا سيما فى الحج لتزاحم الناس، ومشقة الرجالة، ولأن الراكب فيه أفضل، ولا خلاف بين العلماء فى جواز ركوب نفسين على دابة إذا أطاقت الدابة ذلك، وفى نظر الفضل إلى المرأة مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من شهوات النساء، وفيه أن على العالم أن يغير من المنكر ما يمكنه إذا رآه، وسيأتى بقية القول فى قصة الفضل بن عباس فى كتاب الاستئذان فى باب قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) [النور: 27] . وذكر ابن المنذر قال: حدثنا محمد بن إسماعيل الصايغ، حدثنا عفان، حدثنا سكين بن عبد العزيز قال: حدثنى أبى قال: سمعت ابن عباس يقول: (كان الفضل رديف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم عرفة، فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن، فقال: يا ابن أخى هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له) . وقال عكرمة والضحاك ومجاهد فى قوله تعالى: (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97] قالوا: من كفر بالله واليوم الآخر. وقال الحسن: من كفر بالحج فلم يره واجبًا، وقال سعيد بن جبير: قال عمر بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 الخطاب: لو أن الناس تركوا الحج لقاتلتهم عليه كما نقاتلهم على الصلاة والزكاة. - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج: 27] ) فِجَاجًا (: الطُّرُقُ الْوَاسِعَة . / 2 - فيه: ابْن عُمَرَ، رَأَيْتُ النَّبِىّ، عليه السَّلام، يَرْكَبُ رَاحِلَتَهُ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ يُهِلُّ حَتَّى تَسْتَوِىَ بِهِ قَائِمَةً. / 3 - وفيه: جَابِر، أَنَّ إِهْلالَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ. ورَوَاهُ أَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ. ذكر ابن المنذر عن ابن عباس فى هذه الآية: هم المشاة والركبان على كل ضامر من الإبل، وروى محمد بن كعب عن ابن عباس قال: ما فاتنى شىء أشد علىَّ إلا أن أكون حججت ماشيًا؛ لأن الله تعالى يقول: (يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) [الحج: 27] فبدأ بالرجال قبل الركبان، وذكر إسماعيل بن إسحاق عن مجاهد قال: أهبط آدم بالهند، فحج على قدميه البيت أربعين حجة، وعن ابن أبى نجيح، عن مجاهد أن إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام، حجا ماشيين، وحج النبى عليه السلام راكبًا، ولذلك ذكر حديث ابن عمر وجابر فى هذا الباب، وذلك كله مباح، وقد قال تعالى: (وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ) [الحج: 30] . قال ابن القصار: فى قوله: (يَأْتُوكَ رِجَالاً (دليل قاطع لمالك أن الراحلة ليست من شرط السبيل، والمخالفون يزعمون أن الحج لا يجب على الرجالة، وهذا خلاف الآية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 واختلفوا فى تأويل قوله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) [الحج: 28] فروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد أنها التجارة، وزاد مجاهد: وما يرضاه الله من أمر الدنيا والآخرة، وقال أبو جعفر: هى المغفرة، واختاره إسماعيل بن إسحاق، وسيأتى الاختلاف فى بدء إهلال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد هذا فى موضعه إن شاء الله. 3 - باب الْحَجِّ عَلَى الرَّحْلِ وقالت عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، بَعَثَ مَعَهَا أَخَاهَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، فَأَعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، وَحَمَلَهَا عَلَى قَتَبٍ. / 4 - وَقَالَ عُمَرُ: شُدُّوا الرِّحَالَ فِى الْحَجِّ، فَإِنَّهُ أَحَدُ الْجِهَادَيْنِ. وَحَجَّ أَنَسٌ عَلَى رَحْلٍ، وَلَمْ يَكُنْ شَحِيحًا، وَحَدَّثَ أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، حَجَّ عَلَى رَحْلٍ، وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ. / 5 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْتَمَرْتُمْ وَلَمْ أَعْتَمِرْ، فَقَالَ: (يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، اذْهَبْ بِأُخْتِكَ، فَأَعْمِرْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ) ، فَأَحْقَبَهَا عَلَى نَاقَةٍ، فَاعْتَمَرَتْ. فى هذا الباب: فضل الحج على الرواحل، قال ابن المنذر: اختلف العلماء هل المشى فى الحج أفضل أو الركوب، فقال مالك: الركوب أحب إلىَّ من المشى، وبه قال الشافعى؛ لأن النبى عليه السلام حج راكبًا، ولفضل النفقة فى الحج، ولأنه إذا كان مستريحًا كان أقوى له على الدعاء والابتهال والتضرع، وروى عبد الله بن بريدة عن أبيه، أن النبى عليه السلام قال: (النفقة فى الحج كالنفقة فى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 سبيل الله سبعمائة ضعف) . وكان حسين بن على يمشى فى الحج، وفعل ذلك ابن جريج والثورى، وقال إسحاق: المشى أفضل، وهو محجوج بفعل النبى عليه السلام. 4 - باب فَضْلِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ / 6 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، سُئِلَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَىُّ الأعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (جِهَادٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (حَجٌّ مَبْرُورٌ) . / 7 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: (لا، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ) . / 8 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ، عليه السَّلام: (مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) . قال المؤلف: إنما جعل الجهاد فى هذا الحديث أفضل من الحج؛ لأن ذلك كان فى أول الإسلام وقلَّته، وكان الجهاد فرضًا متعينًا على كل أحد، فأما إذ ظهر الإسلام وفشا، وصار الجهاد من فروض الكفاية على من قام به، فالحج حينئذ أفضل؛ ألا ترى قوله لعائشة: (إن أفضل جهادكن الحج) لما لم يكنّ من أهل القتال والجهاد للمشركين، فإن حّلَّ العدو ببلدة واحتيج إلى دفعه، وكان له ظهور وقوة وخيف منه؛ توجه فرض الجهاد على العيان، وكان أفضل من الحج والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 وقال المهلب: وقوله: (لكن أفضل الجهاد حج مبرور) . يفسر قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) [الأحزاب: 33] أنه ليس على الفرض لملازمة البيوت، كما زعم من أراد تنقص عائشة فى خروجها إلى العراق للإصلاح بين المسلمين، وهذا الحديث يخرج الآية عما تأولوها؛ لأنه قال: (لكن أفضل الجهاد حج مبرور) فدل هذا أن لهن جهادًا غير جهاد الحج، والحج أفضل منه. فإن قيل: إن النساء لا يحل لهن الجهاد، قيل: قد قالت حفصة: (قدمت علينا امرأة غزت مع النبى عليه السلام ست غزوات، وقالت: كنا نداوى الكلمى، ونقوم على المرضى، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا أراد الغزو أسهم بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها غزا بها) . 5 - بَاب فَرْضِ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ / 9 - فيه: زَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ أَتَى عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ فِى مَنْزِلِهِ، وَلَهُ فُسْطَاطٌ وَسُرَادِقٌ، فَسَأَلْتُهُ مِنْ أَيْنَ يَجُوزُ أَنْ أَعْتَمِرَ؟ قَالَ: فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لأهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَلأهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ. أجمع أئمة الفتوى أن المواقيت فى الحج والعمرة سنة واجبة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 وقالوا: هى توسعة ورخصة يتمتع المرء يحلها حتى يبلغها، ولا أعلم أحدًا قال: إن المواقيت من فروض الحج. وقول ابن عمر: (فرضها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) يريد وَقَّتَها وَبَّيَنها، وهذا الباب رد على عطاء والنخعى والحسن، فإنهم زعموا أنه لا شىء على من ترك الميقات ولم يُحْرم وهو يريد الحج والعمرة، وهذا شذوذ من القول، وقال مالك وأبو حنيفة والشافعى: إنه يرجع من مكة إلى الميقات، واختلفوا إذا رجع هل عليه دم أم لا؟ فقال مالك، ورواية عن الثورى: لا يسقط عنه الدم برجوعه إليه محرمًا، وهو قول ابن المبارك. وقال أبو حنيفة: إن رجع إليه فلبى فلا دم عليه، وإن لم يلب فعليه الدم، وقال الثورى وأبو يوسف ومحمد والشافعى: لا دم عليه إذا رجع إل الميقات بعد إحرامه على كل وجه. 6 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197] / 10 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلا يَتَزَوَّدُونَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى (. قال المهلب: فيه من الفقه أن ترك سؤال الناس من التقوى؛ ألا ترى أن الله مدح قومًا فقال: (لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) [البقرة: 273] ، وكذلك معنى قوله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197] أى تزودوا فلا تؤذوا الناس بسؤالكم إياهم، واتقوا الإثم فى أذاهم بذلك. وفيه: أن التوكل لا يكون مع السؤال، وإنما التوكل على الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 دون استعانة بأحد فى شئ، ويبين ذلك قوله عليه السلام: (يدخل الجنة سبعون ألفًا بغير حساب، وهم الذين لا يسترقون، ولا يكتتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون) . فهذه أسباب التوكل وصفاته. وقال الطحاوى: لما كان التزود فيه ترك المسألة النهى عنها فى غير الحج، وكانت حرامًا على الأغنياء قبل الحج؛ كانت فى الحج أوكد حرمة، وقال سعيد بن جبير فى قوله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا (قال: الكعك والسويق، وليس هذا من سعيد على أن هذه الأصناف من الأزواد هى التى أبيحت فى الحج دون ما سواها، ولكنه على إفهام السائل أن المراد هو الزاد الذى هو قوام الأبدان، لا على التزود من الأعمال، ثم أتبع ذلك بقوله: (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى (فكان هذا والله أعلم أن من التقوى ترك التعرض لحال من الأحوال التى يخرج أهلها إلى المسألة المحرمة عليهم. 7 - باب مُهَلِّ أَهْلِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ / 11 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، إِنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَقَّتَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ، وَلأهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلأهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ، فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ. وترجم له باب: (مهل أهل الشام) ، وباب: (مهل من كان دون المواقيت) ، وباب: (مهل أهل اليمن) . قال ابن المنذر: والعلماء متفقون على أن مهل مكة للحج من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 مكة، كما وقت لهم النبى عليه السلام فاللازم على ظاهر هذا الخبر أن لا يخرج أهل مكة عن بيوت مكة إلا محرمين، وسنتهم ألا طواف ولا سعى عليهم، وإنما ذلك على من يقدم مكة من غير أهلها. قال ابن المنذر: يجمع هذا الحديث أبوابًا من السنن، منها: أن هذه المواقيت لكل من أتى عليها من غير اهلها، فإذا جاء المدنى من الشام على طريق الساحل أحرم من الجحفة، وإذا أتى اليمانى على ذى الحليفة احرم منها، وإذا أتى النجدى من تهامة أحرم من يلملم، وكل من مر بميقات بلدة احرم منه، ومنها: أن ميقات كل مَنْ منزله دون الميقات مما يلى مكة مِنْ منزله ذلك. ومنها: أن أهل مكة ميقاتهم مكة، ومنها: أن هذه المواقيت إنما يلزم منها ومن يريد حجا أو عمرة، ولا يلزم الإحرام منها من لا يريد الحج والعمرة، ولو مر مدنى بذى الحليفة ولا يريد حجا ولا عمرة فسار حتى قرب من الحرم أراد الحج والعمرة فإنه يحرم من حيث حضرته نية الحج أو العمرة، ولا يجب عليه ما وجب على من مر بميقاته وهو يريد الحج والعمرة ولم يحرم منه، واحرم من وراء ذلك مما يلى مكة. وعلى هذا عامة العلماء إلا أحمد وإسحاق فإنهما قالا: يرجع إلى ذى الحليفة ويحرم، والقول الأول أبين؛ لدلالة حديث ابن عباس على ذلك؛ ولأن ابن عمر أحرم من الفرع، وهو بعد الميقات، وهو راوى حديث المواقيت، ومحال أن يتعدى ذلك مع علمه به ويوجب على نفسه دمًا، هذا ما لا يظنه عالم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 وقال الشافعى: يحمل فعل ابن عمر أنه مر بميقاته لا يريد إحرامًا، ثم بدا له أو جاء إلى الفرع من مكة أو غيرها، ثم بدا له فى الإحرام. واختلفوا إذا مر بذى الحليفة وهو يريد الحج والعمرة ولم يحرم منها، وأحرم من الجحفة، فقال مالك: عليه دم، وهو قول الليث والثورى والشافعى، واختلف فى ذلك أصحاب مالك، فمنهم من أوجب الدم، ومنهم من لم يوجبه، ورخص فى ذلك الكوفيون والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وقالوا: لا شىء عليه. وروى عن عائشة انها كانت إذا أرادت العمرة أحرمت من الجحفة، وإن أرادت الحج أحرمت من ذى الحليفة. قال ابن المواز: ويدل امر النبى عليه السلام عائشة أن تخرج من الحرم وتحرم بعمرة، على أن مكة ليست بميقات يحرم منها للعمرة، فبان بهذا أن معنى قوله عليه السلام فى حديث ابن عباس: (حتى أهل مكة يهلون من مكة) أنه أراد الإحرام بالحج فقط، دون الإحرام بالعمرة؛ إذ لو كان على ظاهر الحديث لكان ميقات أهل مكة للحج والعمرة مكة، كما كان لأهل المواقيت ولمن دونها مما يلى الحرم الإحرام من مواقيتهم، فلما امر عائشة أن تحرم من التنعيم دل أن إهلال أهل مكة من مكة إنما هو بالحج دون العمرة. قال غيره: وأئمة الفتيا متفقون على أن المكى إذا أراد العمرة أنه لابد له من الخروج إلى الحِلِّ يهل منه؛ لأنه لابد له فى عمرته من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 الجمع بين الحل والحرم، وليس ذلك على الحاج المكى؛ لأنه خارج فى حجه إلى عرفات، وهى الحل، وشذ ابن الماجشون فى مسألة من هذا الباب فقال: لا يقرن المكى من مكة قياسًا على المعتمر، وخالفه مالك وجميع أصحابه فقالوا: إنه يقرن من مكة؛ لأنه خارج فى حجه إلى الحل عرفات، وقد ذكر ابن المواز عن مالك أنه لا يقرن المكى إلا بمكة؛ لأنه خارج فى حجه من الحل، كقول ابن الماجشون. فإن اعتمر من مكة ولم يخرج إلى الحل للإحرام حتى طاف وسعى، ففيها قولان: أحدهما: أن عليه دمًا لترك الميقات، وعمرته تامة، وهذا قول الكوفيين وأبى ثور، وأحد قول الشافعى، والقول الثانى: أن ذلك لا يجزئه حتى يخرج من الحرم ثم يطوف ويسعى، ويقصر أو يحلق، ولا شىء عليه، ولو كان حلق أهراق دمًا، هذا قول الشافعى الآخر، وهو قول مالك وأصحابه. قال مالك: وما رأيت أحدًا أحرم بعمرة من الحرم، ولا يحرم أحد بعمرة من مكة، ولا تصح العمرة عند جميع العلماء إلا فى الحل المكى أو غيره. قال ابن المنذر: وهذا أشبه. وحكى الثورى عن عطاء أنه من أهل بعمرة أنه لا شىء عليه، قال سفيان: ونحن نقول: إذا أهل بها لزمته ويخرج إلى الميقات، وقال ابن المنذر: المحرم بعمرة من مكة تارك لميقاته، فعليه أن يخرج من الحرم ليكون قد رجع إلى ميقاته، كما نأمر من جاز ميقاته أن يرجع ما لم يطف بالبيت، فإن لم يخرج إلى الحل حتى يفرغ من نسكه فعليه دم، كما يكون ذلك على من ترك ميقاته حتى فرغ من نسكه، وأما إذا كان منزل الرجل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 بين مكة والمواقيت، فجمهور الفقهاء قائلون بحديث ابن عباس أنه يحجرم من موضعه بالحج، وهو ميقاته، وإن لم يحرم منه فهو كمن ترك ميقاته، فعليه أن يرجع، فإن لم يفعل فعليه دم، قال مجاهد: ميقاته من مكة. وهذا خلاف قوله عليه السلام: (ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ) قال ابن المنذر: وفى حديث ابن عباس إثباته عليه السلام يلملم ميقاتًا لأهل اليمن؛ لأن ابن عمر قال: (ويزعمون أن النبى عليه السلام قال: وهل أعل اليمن من يلملم) فأسنده ابن عباس. 8 - باب مِيقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلا يُهِلُّوا قَبْلَ ذِى الْحُلَيْفَةِ / 12 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّأْمِ مِنَ الْجُحْفَةِ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ) . قَالَ عَبْدُاللَّهِ: وَبَلَغَنِى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ) . وترجم له باب: (مهل أهل نجد) . قال ابن المنذر: أمر النبى عليه السلام أهل المدينة وأهل الشام وأهل نجد واليمن أن يهلوا من المواضع التى حَدَّها، وأحرم عليه السلام من الميقات الذى بينه لأهل المدينة، وترك أن يحرم من منزله، وعمل بذلك أصحابه وعوام أهل العلم، وغير جائز أن يكون فعل أعلى من فعله، أو عمل أفضل من عمله، ولقد سئل مالك عن هذه المسألة فتلا قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) [النور: 63] الآية. وقد أجمع أهل العلم على أنه من أحرم قبل أن يأتى الميقات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 أنه محرم، غير أن طائفة من السلف كرهت ذلك، واستحبه آخرون، فممن رأى ذلك ابن عمر أحرم من إيلياء، وسئل على وابن مسعود عن قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] فقالا: أن تحرم من دوبرة أهلك. وأجاز ذلك علقمة والأسود، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والشافعى. وكره الإحرام قبل المواقيت عمر بن الخطاب، وأنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة، وأنكر عثمان بن عفان على عبد الله بن عامر إحرامه قبل الميقات، وهو قول عطاء، والحسن، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وقال أحمد: المواقيت أفضل؛ لأنها سنة النبى عليه السلام قال إسماعيل القاضى: وإنما كرهوا ذلك والله أعلم لئلا يضيق المرء على نفسه ما وسع الله عليه، وأن يتعرض لما لا يؤمن أن يحدث فى إحرامه، وكلهم ألزمه الإحرام فإنه زاد ولم ينقص. قال الطحاوى: وأخذ قوم بحديث ابن عمر وابن عباس، وذهبوا إلى أن أهل البعراق لا ميقات لهم فى الإحرام كميقات سائر أهل البلدان؛ وإنما يلهون من حيث مروا عليه من هذه المواقيت المؤقتة فى حديث ابن عباس وابن عمر. قال المؤلف: وسأذكر فى الباب بعد هذا اختلاف الناس فى ميقات أهل العراق إن شاء الله. 9 - باب ذَاتُ عِرْقٍ لأهْلِ الْعِرَاقِ / 13 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ، أَتَوْا عُمَرَ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَدَّ لأهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ ذلك عَلَيْنَا، قَالَ: (فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ، فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ) . اختلف العلماء فى ميقات أهل العراق، فقال مالك والكوفيون، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: ميقاتهم ذات عرق، وقالت طائفة: ميقاتهم العقيق، روى ذلك عن أنس بن مالك، واستحبه الشافعى. قال ابن المنذر: والإحرام من العقيق أفضل، ومن ذات عرق يجزئ، وكان القاسم بن عبد الرحمن، وخصيف يحرمان من الربذة، وهو قول الحسن بن صالح، ولولا سنة عمر لكان هذا أشبه بالنظر؛ لأن المعنى عندهم فى ذات عرق أنه بإزاء قرن، والربذة بإزاء ذى الحليفة، غير أن عمر لما سن ذات عرق وتبعه عليه من حج من أهل العراق، فمر بذلك العمل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والتابعين وعوام أهل العلم إلى اليوم كان أولى بالاتباع. واختلفوا فيمن وَقَّتَ لهم ذات عرق، فقالت طائفة: وقته عمر بن الخطاب، واحتجوا بهذا الحديث، وهو قول ابن عباس وابن عمر وعطاء، وقال آخرون: بل وقت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لهم العقيق وذات عرق، كما وقت لأهل الشام بالجحفة، والشام كلها يومئذ دار كفر كما كانت العراق، فوقت المواقيت لأهل النواحى؛ لأنه علم أنه سيفتح الله على أمته الشام والعراق وغيرها من البلاد لقوله عليه السلام: (وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها) . واحتجوا بما رواه أبو داود قال: حدثنا هشام بن بهرام، حدثنا المعافى، حدثنا أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة قالت: (وَقَّت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأهل العراق ذات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 عرق) . وهو قول جابر بن عبد الله، وروى الثورى عن يزيد بن أبى زياد، عن محمد بن على، عن ابن عباس قال: (وقت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأهل المشرق العقيق) . وهذا اختلاف، قال ابن المنذر: ولا يثبت فى ذلك عن الرسول سنة. قال المهلب: وفى قول عمر: (فانظروا حذوها من طريقكم) إباحة القياس على السنن المعروفة الحكم بالتشبيه والتمثيل، يدل على ذلك ما رواه عبد العزيز بن أبى رواد، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: لما وقت قرن لأهل نجد، قال عمر: قيسوا من نحو العراق كنحو قرن. فاختلفوا فى القياس، فقال بعضهم: ذات عرق، وقال بعضهم: بطن العقيق، قال ابن عمر: فقاس الناس ذلك. والناس حينئذ هم علماء الصحابة الذين هم حجة على من خالفهم. وقولهم لعمر: (وهو جَوْر عن طريقنا) يعنون هو منحرف ومنعدل عنه، ومنه قوله تعالى: (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ) [النحل: 9] يعنى غير قاصد. قال الراجز: فجار عن نهج الطريق القاصد ومنه جار السلطان إذا عدل فى حكمه عن الحق إلى الباطل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 - بَاب الصلاة بذِى الْحُلَيْفَةِ / 14 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَصَلَّى بِهَا. وَكَانَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. الصلاة بذى الحليفة ليست من سنن الحج، وإنما هو موضع الإهلال لأهل المدينة، وقد أرى النبى عليه السلام فى النوم وهو يعرس فيها قيل له: إنك ببطحاء مباركة، فلذلك كان عليه السلام يصلى فيها تبركًا بها، ويجعلها عند رجوعه من مكة موضع مبيته ليبكر منها إلى المدينة، ويدخلها فى صدر النهار والله أعلم. - باب خُرُوجِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، عَلَى طَرِيقِ الشَّجَرَةِ / 15 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، كَانَ يَخْرُجُ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ، وَيَدْخُلُ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُصَلِّى فِى مسْجِدِ الشَّجَرَةِ، وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِى الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِى، وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ. وقال المؤلف: ليس خروجه على طريق الشجرة ورجوعه من طريق المعرس من سنن الحج. قال المهلب: وإنما فعل ذلك والله أعلم ليكثر عدد المسلمين فى أعين المنافقين وأهل الشرك كما فعل فى العيدين، ومبيته عليه السلام بذى الحليفة عند رجوعه من الحج على قرب من الوطن لتتقدم أخبار القادمين على أهليهم، فتأخذ المرأة على نفسها، وهو فى معنى كراهيته عليه السلام للرجل أن يطرق أهله ليلا من سفره والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ عليه السَّلام: (الْعَقِيقُ وَادٍ مُبَارَكٌ / 16 - فيه: عُمَرَ، سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، بِوَادِى الْعَقِيقِ يَقُولُ: (أَتَانِى اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّى، فَقَالَ: صَلِّ فِى هَذَا الْوَادِى الْمُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةً فِى حَجَّةٍ) . / 17 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أنّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، رُئِىَ وَهُوَ فِى مُعَرَّسٍ بِذِى الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِى، قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ، وَقَدْ أَنَاخَ بِنَا سَالِمٌ، يَتَوَخَّى بِالْمُنَاخِ الَّذِى كَانَ عَبْدُاللَّهِ يُنِيخُ، يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ أَسْفَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ الَّذِى بِبَطْنِ الْوَادِى، بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ وَسَطٌ مِنْ ذَلِكَ. قال المهلب: بهذه الرؤيا حكم النبى عليه السلام بنسخ ما كان فى الجاهلية من تحريم العمرة فى أشهر الحج؛ لأن رؤيا الأنبياء وحى، فأمر أصحابه الذين أهلوا بالحج من ذى الحليفة ممن لم يكن معه هدى أن يفسخوه فى عمرة، فعظم ذلك عليهم لبقائه هو على حجه من أجل ما كان ساق من الهدى، وما كان استشعره من التلبيد لرأسه، وفيه أن السنن والفرائض قد يخبر عنها بخبر واحد فيما اتفقا فيه، وإن كان حكمها يختلف فى غيره، فلما كان الإحرام بالحج والعمرة واحدًا أخبر الله عنها فى هذه الرؤيا بذلك فقال: (عمرة فى حجة) أى إحرامكم تدخل فيه العمرة والحجة متتاليًا ومفترقًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 قال ابن القصار: وقد احتج الكوفيون للقِران أنه أفضل من الإفراد، وأنه الذى أمر به النبى عليه السلام أن نفعله بقوله عليه السلام: (وقل عمرة فى حجة) . فالجواب أنه يحتمل أن يريد أحد أمرين: إما أن يحرم بالعمرة إذا فرغ من حجته قبل أن يرجع إلى منزله، فكأنه قال: إذا خرجت وحججت فقل: لبيك بعمرة، وتكون فى حجتك التى تحج فيها. قال المؤلف: ويؤيد هذا التأويل ما رواه البخارى فى هذا الحديث فى كتاب الاعتصام (وقل: عمرة وحجة) ففصل بينهما بالواو. قال ابن القصار: ويحتمل أن يريد أن أفعال العمرة هى بعض أفعال الحج، فكأنه أوقع أفعال العمرة فى فعل هو بعض أفعال الحج، وقال غيره: معناه: (قل: عمرة فى حجة) أى قل ذلك لأصحابك، أى أعلمهم أن القِران جائز، وأنه من سنن الحج. قال الطبرى: وهذا نظير قوله عليه السلام: (دخلت العمرة فى الحج إلى يوم القيامة) . قال: ومعنى قوله عليه السلام: (أتانى آت من ربى فقال: صل فى هذا الوادى المبارك) . فهو إعلام منه عليه السلام بفضل المكان لا إيجاب الصلاة فيه؛ لأن الأمة مجمعة أن الصلاة بوادى العقيق غير فرض، فبان بهذا أن أمره عليه السلام بالصلاة فيه نظير حثه لأمته على الصلاة فى مسجده ومسجد قباء والله الموفق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 - باب غَسْلِ الْخَلُوقِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنَ الثِّيَابِ / 18 - فيه: يَعْلَى أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: أَرِنِى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ يُوحَى إِلَيْهِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِالْجِعْرَانَةِ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِى رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ، فَسَكَتَ، عليه السَّلام، سَاعَةً، فَجَاءَهُ الْوَحْىُ، فَأَشَارَ عُمَرُ إِلَى يَعْلَى، فَجَاءَ يَعْلَى، وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ، فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُحْمَرُّ الْوَجْهِ وَهُوَ يَغِطُّ، ثُمَّ سُرِّىَ عَنْهُ، فَقَالَ: (أَيْنَ الَّذِى سَأَلَ عَنِ الْعُمْرَةِ) ؟ فَأُتِىَ بِرَجُلٍ، فَقَالَ: (اغْسِلِ الطِّيبَ الَّذِى بِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَانْزِعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَاصْنَعْ فِى عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِى حَجَّتِكَ) ، قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَرَادَ الإنْقَاءَ حِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَغْسِلَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. كان هذا الحديث بالجعرانة فى منصراف النبى عليه السلام من غزوة حنين، وفى ذلك الموضع قسم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غنائم حنين، وقال الطحاوى: ذهب قوم إلى هذا الحديث، فكرهوا التطيب عند الإحرام، وهو قول عمر، وعثمان، وابن عمر، وعثمان بن أبى العاص، وعطاء، والزهرى، ومالك، ومحمد بن الحسن، وخالفهم فى ذلك آخرون، فأجازوا الطيب عند الإحرام. قال المؤلف: وسأذكرهم فى الباب بعد هذا إن شاء الله، وقالوا: لا حجة فى حديث يعلى لمن خالفنا؛ لأن ذلك الطيب الذى كان على الرجل إنما كان صفرة خلوق، وذلك مكروه للرجال فى حال الإحلال والإحرام، وإنما نبيح من الطيب عند الإحرام ما هو حلال فى حال الإحلال، وقد بيَّن ذلك ما رواه همام عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه، عن النبى عليه السلام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 أنه قال له: (اغسل عنك أثر الخلوق أو الصفرة) فأمره بغسله لما ثبت من نهيه عليه السلام أن يتزعفر الرجل فى حال الإحلال والإحرام؛ لأنه من طيب النساء، لا لأنه طيب تطيب به بعد الإحرام، وليس فى ذلك دليل على حكم من أراد الإحرام: هل له أن يتطيب بطيب يبقى عليه بعد الإحرام أم لا؟ قالوا: وقد ثبت عن عائشة أنها كانت تطيب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عند إحرامه بأطيب ما تجد. قال المؤلف: وسيأتى الجواب عن حديث عائشة لمن لم يجز الطيب عند الإحرام فى الباب بعد هذا إن شاء الله. واحتج الطحاوى لمحمد بن الحسن فى رد هذا التأويل المتقدم. فقال: الحجة لمنع الطيب عند الإحرام من طريق النظر أن الإحرام يمنع من لبس الثياب كلها، ويمنع من الطيب، ومن قتل الصيد وإمساكه، فلما أجمعوا أن الرجل إذا لبس قميصًا قبل أن يحرم ثم أحرم وهو عليه؛ أنه يؤمر بنزعه، وإن لم ينزعه وتركه بعد إحرامه كان كمن لبسه بعد إحرامه لبسًا مستقبلا، وتجب عليه الفدية، وكذلك لو اصطاد وهو حلال فأمسكه بيده ثم أحرم أمر بتخليته، وإلا كان كابتداء الصيد فى إحرامه، فلما صح ما ذكرناه وكان التطيب محرمًا على المحرم بعد إحرامه كحرمة هذه الأشياء، كان ثبوت الطيب عليه بعد إحرامه، وإن كان قد تطيب به قبل إحرامه كتطيبه به بعد إحرامه قياسًا ونظرًا، وبه يأخذ الطحاوى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 قال المؤلف: وأما قول من أباح الطيب قبل الإحرام أن الخلوق والصفوة نهى عن الرجال فى حال الإحلال والإحرام، فليس كذلك عند من منع الطيب للإحرام، وإن نهى النبى عليه السلام أن يتزعفر الرجل إنما هو محمول عند أهل المدينة على أن المراد به حال الإحرام فقط، وأنه مباح فى الإحلال، ولهم فى ذلك حجج سأذكرها فى كتاب اللباس والزينة عند نهيه عليه السلام أن يتزعفر الرجل إن شاء الله. قال المهلب: وفيه من الفقه أن السنن قد تكون بوحى من الله كما كان غسل الطيب فى هذا الحديث بالوحى، ولم يقل أحد أنه فرض، وفيه وجوب التثبت للعالم فيما يسئل عنه، وإن لم يعرفه سأل من فوقه كما فعل النبى عليه السلام، وفيه أن غسل الطيب عند الإحرام ينبغى أن يبالغ فى إزالته؛ ألا ترى أنه أمره بغسله ثلاث مرات. وقوله: (اصنع فى عمرتك ما تصنع فى حجتك) : يعنى اجتنب فى عمرتك كل ما تجتنب فى حجتك؛ ألا ترى قول ابن عمر: ما أمرُهما إلا واحد. يعنى فى الإحرام والحرمة، وكذلك كل ما يستحسن من الدعاء والتلبية فى الحج فهو مستحسن فى العمرة. قال ابن المنذر: وقد احتج بعض من أسقط الفدية عمن جهل، فلبس فى إحرامه ما ليس له لبسه، وجعل الناسى فى معناه، بحديث الجبة؛ لأن النبى عليه السلام أمره بنزعها ولم يأمره بالفدية، وهو قول عطاء، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقال مالك: من ابتاع خفين فجربهما فى رجليه، فإن كان شيئًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 خفيفًا فلا شىء عليه، وإن تركهما حتى منعه ذلك من حر أو برد أو مطر افتدى، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن غطى المحرم وجهه ورأسه متعمدًا أو ناسيًا يومًا إلى الليل فعليه دم، وإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة يتصدق بها. - باب الطِّيبِ عِنْدَ الإحْرَامِ وَمَا يَلْبَسُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ وَيَتَرَجَّلَ وَيَدَّهِنَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَشَمُّ الْمُحْرِمُ الرَّيْحَانَ، وَيَنْظُرُ فِى الْمِرْآةِ، وَيَتَدَاوَى بِمَا يَأْكُلُ الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَتَخَتَّمُ وَيَلْبَسُ الْهِمْيَانَ. وَطَافَ ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَدْ حَزَمَ عَلَى بَطْنِهِ بِثَوْبٍ، وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ بِالتُّبَّانِ بَأْسًا لِلَّذِينَ يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا. / 19 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنَّهُ كَانَ يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ، قَالَ سعيد بن جبير: فَذَكَرْتُهُ لإبْرَاهِيمَ، فقَالَ: مَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ: حَدَّثَنِى الأسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِى مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُحْرِمٌ. / 20 - فيه: عَائِشَةَ، كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لإحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ. أجاز الطيب قبل الإحرام من الصحابة: سعد بن أبى وقاص، وابن عباس، وأبو سعيد الخدرى، وابن الزبير، وعائشة، وأم حبيبة، ومن التابعين: عروة، والقاسم بن محمد، والشعبى، والنخعى، وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واحتجوا بحديث عائشة أنها كانت تطيب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لإحرامه قبل أن يحرم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 واعتل الذين لم يجيزوا الطيب للإحرام، الذين ذكرتهم فى الباب قبل هذا، بأن قالوا: يحتمل أن يكون عليه السلام مخصوصًا بالطيب؛ لأنه أملك لإربه من سائر أمته، وأن الطيب إنما مُنِعَ فى الإحرام؛ لأنه داعية إلى الجماع ويذكر النساء، فكان أملك لإربه، فلذلك تطيب، قاله ابن القصار والمهلب، وزاد المهلب معنى آخر أنه خص عليه السلام بالطيب عند الإحرام لمباشرته الملائكة بالوحى وغيره. واعتل الطحاوى فى دفع حديث عائشة بما رواه شعبة وسفيان ومسعر، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه قال: (سألت ابن عمر عن الطيب عند الإحرام فقال: لأن أطلى بقطران أحب إلى من أن أصبح محرمًا ينضح منى ريح الطيب، قال: فدخلت على عائشة فأخبرتها بقول ابن عمر فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، طيبت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فطاف على نسائه ثم أصبح محرمًا) . قال: فقد بان بهذا الحديث أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) طاف على نسائه بعد التطيب، وإذا طاف على نسائه اغتسل لا محالة، فكان بين إحرامه وتطييبه غسل، قال: فكأن عائشة إنما أرادت بهذا الحديث الاحتجاج على من كره أن يوجد من المحرم بعد إحرامه ريح الطيب كما كره ذلك ابن عمر، وأما بقاء نفس الطيب على بدن المحرم بعدما أحرم فإن كان إنما تطيب به قبل الإحرام فلا، فَتَفَهَّمْ هذا الحديث فإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 معناه معنى لطيف. فإن قيل: قد قالت عائشة: (كنت أرى وبيص الطيب فى مفارق رسول الله بعدما أحرم) ، والوبيص عند العرب: البريق، قيل: يجوز أن يكون ذلك وقد غسله، وهكذا الطيب ربما غسله الرجل عن وجهه فيذهب ويبقى وبيصه. وأما الطيب للحل بعد رمى جمرة العقبة، فرخص فيه ابن عباس، وابن الزبير، وعائشة، والنخعى، وخارجة ابن زيد، وهو قول الكوفيين، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور على ظاهر حديث عائشة، وكرهه سالم، وهو قول مالك. قيل لابن القاسم: فإن فعل أَفَتَرَى عليه الفدية؟ قال: لا أرى عليه شيئًا لما جاء فى ذلك، رواها أبو ثابت عنه. وقال ابن المنذر: أجمع عوام العلماء أن للمحرم أن يأكل الزيت والسمن والشيرج، وأن له أن يستعمل ذلك فى جميع بدنه سوى رأسه ولحيته، فإن استعمله فى رأسه ولحيته افتدى. وأجمعوا أن الطيب لا يجوز له استعماله فى بدنه، ففرقوا بين الطيب والزيت فى هذا الوجه، فقياس هذا أن يكون المحرم ممنوعًا من استعمال الطيب فى رأسه كما منع فى بدنه، وأن يجب له استعمال السمن والزيت فى رأسه كما أبيح له فى بدنه، وكلهم أوجب فى دهن البنفسج الفدية إلا الشافعى فإنه قال: ليس بطيب، وإنما يستعمل للمنفعة. وأجمع عوام العلماء على أن للمحرم أن يعقد الهيمان على وسطه، روى ذلك عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والقاسم، وعطاء، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 وطاوس، والنخعى، وهو قول مالك والكووفيين والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، غير إسحاق فقال: لا يعقده، ولكن يدخل السيور بعضها فى بعض، وسئلت عائشة عن المنطقة، فقالت: أوثق عليك نفقتك، وقال ابن علية: قد أجمعوا أن للمحرم أن يعقد الهيمان والإزار على وسطه، والمنطقة كذلك. وقول إسحاق لا يعد خلافًا ولا حَظَّ له فى النظر؛ لأن الأصل النهى عن لباس المخيط، وليس هذا مثله، فارتفع أن يكون له حكمه. واختلفوا فى الرداء الذى يلتحف به على مئزره، فكان مالك لا يرى عقده، وتلزمه الفدية إن انتفع به، ونهى عنه ابن عمر، وعطاء، وعروة، ورخص فيه سعيد بن المسيب، وكرهه الكوفيون وأبو ثور وقالوا: لا شىء عليه إن فعل، وحكى عن مالك أنه رخص للعامل أن يحزم الثوب على بطنه، وكرهه لغيره. وأجاز شم الريحان للمحرم سوى ابن عباس: الحسن، ومجاهد، وهو قول إسحاق، وكرهه مالك والكوفيون قالوا: لا شىء عليه إن شمه، وكرهه الشافعى وأبو ثور، وأوجبوا عليه الفدية. وأجاز جمهور العلماء النظر فى المرآة، وكان أبو هريرة يفعله، وقال مالك: لا يفعل ذلك إلا من ضرورة. قال المؤلف: وقول النخعى لسعيد بن جبير: (ما تصنع بقوله) فيه حجة أن المَفْزَعَ فى النوازل إلى السنن، وإنها مستغنية عن آراء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 الرجال، وفيها المقنع والحجة البالغة، وأن ممن نزع بها عند الإختلاف فقد أفلح وغلب خصمه. - باب مَنْ أَهَلَّ مُلَبِّدًا / 21 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يُهِلُّ مُلَبِّدًا. التلبيد عند الإحرام مستحب، فمن شاء فعله، ومن شاء تركه، ون لبد فعليه الحلاق؛ لأن النبى عليه السلام حلق، وستأتى أقوال العلماء فى هذه المسألة بعد هذا إن شاء الله. وقال ابن قتيبة: الملبد الذى لبد رأسه بلزوق يجعله فيه. - باب الإهْلالِ عِنْدَ مَسْجِدِ ذِى الْحُلَيْفَةِ / 22 - فيه: ابْن عُمَرَ، مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ، يَعْنِى مَسْجِدَ ذِى الْحُلَيْفَةِ. اختلف العلماء فى المواضع الذى أحرم منه رسول الله، فقال قوم: إنه أهل من مسجد ذى الحليفة، وقال آخرون: لم يهل إلا من بعد أن استوت به راحلته بعد خروجه من المسجد، روى ذلك عن ابن عمر أيضًا، وعن أنس، وابن عباس، وجابر، وقال آخرون: بل أحرم حين أطل على البيداء. قال الطحاوى: وقد قال من خالفهم: قد يجوز أن يكون عليه السلام أحرم منها، لا لأنه قصد أن يكون إحرامه منها أفضل فى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 الإحرام منها على الإحرام مما سواها، وقد رأيناه فعل فى حجته أشياء فى مواضع لا لفضلها، كنزوله عليه السلام بالمحصب من منى، لم يكن ذلك لأنه سنة، ولكن لمعنى آخر، فلما حصب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ولم يكن ذلك لأنه سنة، فكذلك أحرم حين صار على البيداء، لا لأن ذلك سنة، وقد أنكر قوم أن يكون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحرم من البيداء، روى مالك عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه أنه قال: (بيداؤكم هذه التى تكذبون على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيها، ما أهل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا من مسجد ذى الحليفة، قالوا: وإنما كان ذلك بعدما ركب راحلته) . واحتجوا بما رواه أبى ذئب عن الزهرى، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبى عليه السلام: (أنه كان يهل إذا استوت به راحلته قائمة) . وكان ابن عمر يفعله، قالوا: وينبغى أن يكون ذلك بعدما تنبعث به راحلته، واحتجوا بما رواه مالك عن سعيد المقبرى، عن عبيد بن جريج، عن ابن عمر قال: (لم أر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يهل حتى تنبعث به راحلته) . فلما اختلفوا فى ذلك أردنا أن ننظر من أين جاء اختلافهم، فذكر ابن إسحاق قال: حدثنى خصيف، عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: عجبت لاختلاف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى إهلاله فى حجته، فقال: إنى لأعلم الناس بذلك، خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حاجا، فلما صلى فى مسجد ذى الحليفة أهل بالحج، فسمع ذلك قوم فحفظوا عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أَهَلَّ، وأدرك ذلك منه أقوام لم يشهدوه فى المرة الأولى؛ لأن الناس قد كانوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 يأتون أرسالاً، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل، ثم مضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلما وقف على شرف البيداء أَهَلَّ، وأدرك ذلك منه أقوام لم يشهدوه فى المرتين فنقل كل واحد منهم ما سمع، فإنما كان إهلال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى مصلاه حين فرغ من صلاته) . فبين ابن عباس الوجه الذى منه جاء اختلافهم وأن إهلال النبى (صلى الله عليه وسلم) الذى ابتدأ الحج به كان فى مصلاه، فينبغى لمن أراد الإحرام أن يصلى ركعتين ثم يحرم فى دبرهما كما فعل النبى عليه السلام، وهو قول جمهور العلماء. قال ابن المنذر: وإن أحرم من غير صلاة تتقدم إحرامه أجزأه لأمر النبى عليه السلام أسماء بنت عميس وهى نفساء بالاغتسال والإحرام، والنفساء غير طاهر، ومحال أن تصلى فى تلك الحال، وقد أخبر عليه السلام أنه لا تقبل صلاة بغير طهور، وسأذكر فى باب: (من أهل حين استوت به راحلته) وجهًا آخر غير ما قاله ابن عباس فى معنى اختلاف الروايات فى ابتداء إهلال النبى عليه السلام عن سعد بن أبى وقاص إن شاء الله. - باب مَا لا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ / 23 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَلْبَسُ الْقُمُصَ، وَلا الْعَمَائِمَ، وَلا السَّرَاوِيلاتِ، وَلا الْبَرَانِسَ، وَلا الْخِفَافَ، إِلا أَحَدٌ لا يَجِدُ نَعْلَيْنِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ وَرْسٌ) . كل ما ذكر فى هذا الحديث فمجمع عليه أنه لا يلبسه المحرم، ويدخل فى عنى ما ذكر من القمص والسراويلات المخيط كله، فلا يجوز لباس شىء منه عند جميع الأمة. وأجمعوا أن المراد بالخطاب المذكور فى اللباس فى هذا الحديث الرجال دون النساء، أنه لا بأس بلباس المخيط والخفاف للنساء، وأجمعوا أن إحرام الرجل فى رأسه، وأنه ليس له أن يغطيه لنهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن لبس البرانس والعمائم، وعند مالك إحرام الرجل فى رأسه ووجهه، واختلفوا فى تخمير وجهه، وسنذكره بعد هذا إن شاء الله، ونذكر اختلافهم فى من لبس خفين غير مقطوعين وهو غير واجد للنعلين، أو من لبسهما مقطوعين وهو واجد للنعلين فى آخر كتاب الحج إن شاء الله. وأجمعت الأمة على أن المحرم لا يلبس ثوبًا مسه ورس أو زعفران، والورس: نبات باليمن صبغه بين الحمرة والصفرة ورائحته طيبة، فإن غسل ذلك الثوب حتى يذهب منه ريح الروس أو الزعفران فلا بأس به عند جميعهم، وكرهه مالك للمحرم إلا أن لا يجد غيره. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: قوله: (ولا تلبسوا شيئًا مسه زعفران أو روس) دليل أن قول عائشة: (طيبت رسول الله لإحرامه) خصوص له؛ لأنه تطيب ونهى عن الطيب فى هذا الحديث، وإنما اختص بذلك؛ لأن الطيب من دواعى الجماع، وهو أملك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 لإربه، كما نهى المحرم عن النكاح، وعقد هو نكاح ميمونة وهو محرم؛ لأنه أملك لإربه. - باب الرُّكُوبِ وَالارْتِدَافِ فِى الْحَجِّ / 24 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ أُسَامَةَ كَانَ رِدْفَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنَ الْمزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، قَالَ: فَكِلاهُمَا، قَالَ: لَمْ يَزَلِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُلَبِّى حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ. قال المهلب: فيه أن الحج راكبًا أفضل منه على الرجلة، وقد تقدم هذا القول، ومن خالفه فى باب الحج على الرَّحْل، وفيه ارتداف العالم من يخدمه، وفيه التواضع بالإرداف للرجل الكبير والسلطان الجليل، وقد تقدم هذا المعنى فى أول كتاب الحج، وسيأتى ذكر قطع التلبية فى موضعه إن شاء الله. - باب مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ وَالأرْدِيَةِ وَالأزُرِ وَلَبِسَتْ عَائِشَةُ الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَةَ، وَقَالَتْ: لا تَلَثَّمْ، وَلا تَتَنقب، وَلا تَلْبَسْ ثَوْبًا بِوَرْسٍ، أوْ زَعْفَرَانٍ. وَقَالَ جَابِرٌ: لا أَرَى الْمُعَصْفَرَ طِيبًا، وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ بَأْسًا بِالْحُلِىِّ، وَالثَّوْبِ الأسْوَدِ، وَالْمُوَرَّدِ، وَالْخُفِّ لِلْمَرْأَةِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لا بَأْسَ أَنْ يُبْدِلَ ثِيَابَهُ. / 25 - فيه: ابْن عَبَّاس، انْطَلَقَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، مِنَ الْمَدِينَةِ بَعْدَ مَا تَرَجَّلَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 وَادَّهَنَ، وَلَبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الأرْدِيَةِ وَالأزُرِ تُلْبَسُ إِلا الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِى تَرْدَعُ عَلَى الْجِلْدِ، فَأَصْبَحَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَقَلَّدَ بَدَنَتَهُ، وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ فَقَدِمَ مَكَّةَ لأرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِى الْحَجَّةِ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ أَجْلِ بُدْنِهِ؛ لأنَّهُ قَلَّدَهَا، ثُمَّ نَزَلَ بِأَعْلَى مَكَّةَ عِنْدَ الْحَجُونِ، وَهُوَ مُهِلٌّ بِالْحَجِّ، وَلَمْ يَقْرَبِ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يُقَصِّرُوا مِنْ رُءُوسِهِمْ، ثُمَّ يَحِلُّوا، وَذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بَدَنَةٌ قَلَّدَهَا، وَمَنْ كَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ فَهِىَ لَهُ حَلالٌ وَالطِّيبُ وَالثِّيَابُ. قال المهلب: أجمع المسلمون أن المحرم لا يلبس إلا الأرز والأردية وما ليس بمخيط، لأن لبس المخيط من الترفه، فأراد الله عز وجل أن يأتوه شعثًا غبرًا آثار الذلة والخشوع، فلذلك نهى عليه السلام المحرم أن يلبس ثوبًا مصبوغًا بورس أو زعفران؛ لأن ذلك طيب، ولا خلاف بين العلماء أن لبس المحرم ذلك لا يجوز. واختلفوا فى الثوب المعصفر للمحرم، فأجازه جابر، وابن عمر، وعائشة، وأسماء بنت أبى بكر، وهو قول القاسم وعطاء وربيعة. وقال مالك: العصفر ليس بطيب، وكرهه للمحرم؛ لأنه ينتفض على جلده، فإن فعل فقد أساء ولا فدية عليه، وهو قول الشافعى، وقال أبو ثور: إنما كرهنا المعصفر؛ لأن النبى عليه السلام نهى عنه، لا أنه طيب، وكره عمر بن الخطاب لباس الثياب المصبغة. وقال أبو حنيفة والثورى: العصفر طيب وفيه الفدية، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 وقال ابن المنذر: إنما نهى عن المصبغة فى الإحرام تأديبًا، ولئلا يلبسه من يقتدى به، فيغتر به الجاهل ولا يميز بينه وبين الثوب المزعفر، فيكون ذريعة للجهال إلى لبس ما نهى عنه المحرم من الورس والزعفران. والدليل على ذلك: أن عمر رأى على طلحة بن عبيد الله ثوبًا مصبوغًا فقال له: ما هذا يا طلحة؟ قال: يا أمير المؤمنين إنما هو مدر، فقال عمر: (إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم، لو أن رجلا جاهلا رأى هذا الثوب قال: رأيت طلحة يلبس المصبغة فى الإحرام) . وإن كان أراد به التحريم فقد خالفه غيره من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والصواب عند اختلافهم أن ينظر إلى أَوْلاهم قولا فيقال به، وإطلاق ذلك أولى من تحريمه؛ لأن الأشياء كانت على الإباحة قبل الإحرام، فلا يجب التحريم إلا بيقين، وقد روينا أن عمر لما أنكر على عقيل لبسه الموردتين، وأنكر على عبد الله بن جعفر ثوبين مضرجين قال على لعمر: دعنا منك، فإنه ليس أحد يعلمنا السنة، قال عمر: صدقت. قال ابن المنذر: ورخصت عائشة فى الحلى للمحرمة، وهو قول أبى حنيفة وأحمد، وكره ذلك عطاء، والثورى، وأبو ثور، وأجمع العلماء أن المرأة تلبس المخيط كله والخُمُر والخفاف، وأن إحرامها فى وجهها، وأن لها أن تغطى رأسها وتستر شعرها، وتسدل الثوب على وجهها سدلا خفيفًا تستتر به عن نظر الرجال، ولم يجيزوا لها تغطية وجهها إلا ما روى عن فاطمة بنت المنذر. قالت: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبى بكر. قال ابن المنذر: على أن يكون كنحو ما روى عن عائشة قالت: (كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ونحن محرمات، فإذا مر بنا ركب سدلنا الثوب من قبل رءوسنا، فإذا جاوزنا رفعناه) . ولا يكون ذلك خلافًا، وثبت كراهية النقاب عن سعد، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة، ولا نعلم أحدًا من أصحاب النبى عليه السلام رخص فيه، وكان ابن عمر ينهى عن القفازين، وهو قول النخعى. وقال مالك: إن لبست البرقع والقفازين افتدت كفدية الرجل؛ لأن إحرام المرأة عنده فى وجهها ويديها، وكرهت عائشة اللثام والنقاب للمرأة، وأباحت لها القفازين، وهو قول عطاء. واختلفوا فى تخمير وجه المحرم، فقال ابن عمر: لا يخمر وجهه. وكرهه مالك ومحمد ابن الحسن، قيل لابن القاسم: أترى عليه الفدية؟ قال: لا أرى عليه فدية لما جاء عن عثمان. وقال فى المدونة فى موضع آخر: إن غطى وجهه ونزعه مكانه فلا شىء عليه، وإن لم ينزعه حتى انتفع افتدى وكذلك المرأة إلا إذا أرادت سترًا. وروى عن ابن عباس، وابن الزبير، وزيد بن ثابت، وسعد بن أبى وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وجابر أنهم أجازوا للمحرم تغطية وجهه خلاف ابن عمر، وبه قال الثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وهذا يخرج على أن يكون إحرام الرجل عندهم فى رأسه خاصة لا فى وجهه. قال المهلب: فى حديث ابن عباس إفراد النبى عليه السلام للحج، وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدى، والبقاء على الإحرام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 الأول لمن كان معه هدى؛ لأن من قلد هديه فلابد من أن يوقعه موقعه بعرفة لقوله تعالى: (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ) [البقرة: 196] ، وسيأتى معنى ذلك فى بابه إن شاء الله. قال المؤلف: من روى فى هذا الحديث (التى تردع على الجلد) بالعين فهو معنى معروف. تقول العرب: ارتدع وتردع: التطخ بالطيب، والردع أثر الطيب، وردع به الطيب: إذا التزق بجلده ويده منه (ردعة) ، ومن رواه (تردغ) بالغين المنقوطة فهو من قولهم: أردغت الأرض: كثرت رداغها، وهى مناقع المياه، ومثله أرزغت الأرض بالزاى: كثرت رزاغها، جمع رزغة كالردغة، ذكره صاحب كتاب الأفعال وذكر أردغ وأرزغ فى باب أفعل خاصة. - باب مَنْ بَاتَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ حَتَّى أَصْبَحَ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام . / 26 - فيه: أَنَس، صَلَّى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِالْمَدِينَةِ الظَّهْرَ أَرْبَعًا، وَبِذِى الْحُلَيْفَةِ الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ أَهَلَّ. قال المؤلف: ليسس مبيته عليه السلام بذى الحليفة عند خروجه من المدينة من سنن الحج، وإنما هو من جهة الرفق بأمته ليلحق به من تأخر عنه فى السير، ويدركه من لم يمكنه الخروج معه. قال المهلب: وفيه تقصير الصلاة بنية السفر، وإن لم يبلغ إلى موضع المشقة منه؛ لأنه قصر بذى الحليفة، وهو حجة لمالك ومن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 وافقه أن المسافر إذا خرج عن بيوت المصر لزمه تقصير الصلاة، وفيه أن سنة افهلال أن يكون بعد صلاة، وكان ابن عمر يحرم فى دبر صلاة مكتوبة، وهو قول ابن عباس، واستحب ذلك عطاء، والثورى، وطاوس، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واستحب مالك أن يكون بإثر صلاة نافلة، فإن كان فى وقت لا يتنفل فيه كوقت الصبح أو العصر أجزأه أن يكون بإثر الفريضة، قال ابن المنذر: وإن أحرم ولم يكن صلى أجزأه، وقد تقدمت حجة هذه المقالة فى باب الإهلال عند مسجد ذى الحليفة. - باب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالإهْلالِ / 27 - فيه: أَنَس، صَلَّى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا. قال الطبرى: الإهلال رفع الصوت بالتلبية، ومنه استهلال المولود، وهو صياحه إذا سقط من بطن أمه، ومنه قوله تعالى: (وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) [البقرة: 173] يعنى ما رفع به الصوت عند ذبحه للآلهة، وكل رافع صوته بشىء فهو يهل به، ومنه استهلال المطر والدمع، وهو صوت وقعه بالأرض، ويقال: أهل القوم الهلال، إذا رأوه. وأرى أن ذلك إنما هو من الإهلال الذى هو الصوت؛ لأنه كان يرفع عند رؤيته الأصوات إما بدعاء أو غيره، وأوجب أهل الظاهر رفع الصوت بالإهلال، وخالفهم فى ذلك، وهو عندهم مستحب. فروى عن ابن عباس أنه كان يرفع صوته بالتلبية ويقول: هى زينة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 الحج، وكان ابن عمر يرفع بها صوته، وقال أبو حازم: كان أصحاب النبى عليه السلام لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم من التلبية. وبه قال أبو حنيفة والثورى والشافعى. واختلف الرواية عن مالك فروى ابن القاسم عنه أنه لا ترفع الأصوات بالتلبية إلا فى المسجد الحرام ومسجد منى، وزاد فى الموطأ: ولا يرفع صوته فى مساجد الجماعات، وروى ابن نافع عنه أنه يرفع صوته فى المساجد التى بين مكة والمدينة. واحتج إسماعيل للقولين فقال: وجه القول الأول أن مساجد الجماعات إنما بنيت للصلاة خاصة، فكره رفع الصوت فيها، وليس كذلك المسجد الحرام ومسجد منى؛ لأن المسجد الحرام جعل للحاج وغيره، وكان المبلى إنما يقصد إليه فكان له فيه من الخصوص ما ليس فى غيره، ومسجد منى فهو للحاج خاصة، ووجه رواية ابن نافع أن المساجد التى بين مكة والمدينة إنما جعلت للمجتازين، وأكثرهم المحرمون فهم من النحو الذى وصفنا. وأجمعوا أن المرأة لا ترفع صوتها بالتلبية، وإنما عليها أن تُسمع نفسها. قال المهلب: وقول أنس: (وسمعتهم يصرخون بهما) إنما سمع الذين قرنوا خاصة لثبوت الإفراد، وليس فى حديث أنس أنه سمع الرسول (صلى الله عليه وسلم) يصرخ بالحج والعمرة، وإنما أخبر ذلك عن قوم فعلوه، وقد يمكن أن يسمع قومًا يصرخون بحج وقومًا يصرخون بعمرة، وقد روى أنس عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما يرد روايته هذه، وهو قوله عليه السلام: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 (لولا أن معى الهدى لأحللت) . وسيأتى بيان ذلك فى باب التمتع والقران والإفراد بالحج بعد هذا إن شاء الله. وفيه: رد قول أهل الظاهر فى إجازتهم تقصير الصلاة فى مقدار ما بين المدينة وذى الحليفة وفى أقل من ذلك؛ لأنه إنما قصر الصلاة بذى الحليفة؛ لأنه كان خارجًا إلى مكة فلذلك قصر العصر بذى الحليفة، بدليل قوله: (وسمعتهم يصرخون بهما جميعًا) يعنى بالحج والعمرة، وبين المدينة وذى الحليفة ستة أميال. - باب التَّلْبِيَةِ / 28 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ) . وعن عائشة مثله. قال المهلب: معنى التلبية، إجابة دعوة إبراهيم بالحج إذ أمره الله بالأذان به، وهو من المواعيد المنتجزة؛ لأن تعالى وعده أن يأتوه رجالا وعلى كل ضامر، وروى عن ابن عباس أنه قال: (لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له: أذن فى الناس بالحج، قال: يا رب، وما يبلغ صوتى؟ قال: أذن وعلىَّ البلاغ، فنادى إبراهيم: أيها الناس، كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فسمعه من بين السماء والأرض، ألا ترى الناس يجيئون من أقطار الأرض يلبون) . وقال أهل اللغة: معنى لبيك لبيك: إجابة بعد إجابة، من قولهم: ألب بالمكان، إذا أقام به، فكأنه قال: أنا مقيم على طاعتك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 وإرادتك، وكذلك قولهم: سعديك، أى إسعادًا لك بعد إسعاد، أى أنا مساعد لك ومتابع لإرادتك. واختلف العلماء بتأويل القرآن فى قوله تعالى: (فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) [البقرة: 197] فقال ابن عباس وعكرمة وعطاء وطاوس: الفرض الإهلال، وهو التلبية. قال ابن مسعود وابن الزبير: الفرض: الإحرام. وعند الثورى وأبى حنيفة أن التلبية ركن من أركان الحج، ولا تنوب النية عنها، كالدخول فى الصلاة لا يصح إلا بالنية والتكبير جميعًا، إلا أن أبا حنيفة ينوب عنده سائر الذكر عن التلبية كالتكبير والتسبيح والتهليل، كما يقول فى الإحرام بالصلاة. وعند مالك والشافعى النية فى الإحرام تجزئه عن الكلام، وكان مالك يرى على من ترك التلبية الدم، ولا يراه الشافعى، والحجة لمالك أن التلبية نسك، ومن ترك من نسكه شيئًا أهراق دمًا، وقال إسماعيل بن إسحاق: ليس الإهلال للإحرام بمنزلة التكبير للصلاة؛ لأن الرجل لا يكون داخلا فى الصلاة إلا بالتكبير، ويكون داخلا فى الإحرام بالتلبية وغيرها من الأعمال التى يوجب بها الإحرام على نفسه، مثل أن يقول: قد أحرمت بالعمرة أو الحج أو يشعر البدن، وهو يريد بذلك الإحرام، أو يتوجه نحو البيت وهو يريد بذلك الإحرام، فيكون بذلك كله محرمًا. وأجمع العلماء على القول بهذه التلبية، واختلفوا فى الزيادة عليها، فذكر ابن القصار عن الشافعى قال: الأفضل الاقتصار على تلبية رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا أن يزيد عليها شيئين: (لبيك إله الحق) لأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 أبا هريرة رواه عن النبى عليه السلام. والثانى: أن يقول إذا رأى شيئًا فأعجبه: (لبيك إن العيش عيش الآخرة) . كما فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين رأى الناس يزدحمون فى الطواف، وإذا زاد هذين كان كمن اقتصر على تلبية رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، واحتج بأن سعد بن أبى وقاص سمع رجلا يقول: (لبيك ذا المعارج) ، فقال: ما كنا نقول هذا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وقال مالك: إن اقتصر على تلبية رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فحسن، وإن زاد عليها فحسن، وهو قول أبى حنيفة والثورى وأحمد وأبى ثور، وقالوا: يزيد عليها ما شاء، واحتجوا بما رواه مالك عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يزيد فيها: (لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل) . وروى القطان عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: (أهل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . .) . فذكر مثل الحديث ابن عمر فى التلبية قال: (والناس يزيدون لبيك ذا المعارج ونحوه من الكلام، والنبى عليه السلام يسمع فلا يقول لهم شيئًا) ، وأن عمر كان يقول بعد التلبية: لبيك ذا النعماء والفضل والثناء الحسن، لبيك مرهوبًا منك ومرغوبًا إليك. وكان أنس يقول فى تلبيته: لبيك حقا حقًا ورقا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 - باب التَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ قَبْلَ الإهْلالِ عِنْدَ الرُّكُوبِ عَلَى الدَّابَّةِ / 29 - فيه: أَنَس، قَالَ: صَلَّى النَّبِىّ، عليه السَّلام، وَنَحْنُ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ، حَمِدَ اللَّهَ وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ، ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهِمَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَ النَّاسَ فَحَلُّوا، حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ، قَالَ: وَنَحَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بَدَنَاتٍ بِيَدِهِ قِيَامًا، وَذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ. قال المؤلف: غرض البخارى بهذه الترجمة والله أعلم الرد على أبى حنيفة فى قوله: إن من سبح أو كبر أو هلل أجزأه من إهلاله، فأثبت البخارى أن التسبيح والتحميد من النبى عليه السلام إنما كان قبل الإهلال؛ لقوله فى الحديث بعد أن سبح وكبر: (ثم أهل بالحج) . ويمكن أن يكون فعل تكبيره وتحميده عليه السلام عند ركوبه أخذًا بقول الله تعالى: (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) [الزخرف: 13] ويمكن أن يكون يعلمنا عليه السلام جواز الذكر والدعاء مع الإهلال، وأن الزيادة عليه مستحبة بخلاف قول الشافعى. قال المهلب: وقوله: (ثم أهل بحج وعمرة) فقد رد عليه ابن عمر هذا القول وقال: كان أنس حينئذ يدخل على النساء وهن متكشفات، ينسب إليه الصغر وقلة الضبط حين نسب إلى النبى عليه السلام الإهلال بالقِران. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 قال المؤلف: ومما يدل على قلة ضبط أنس للقصة قوله فى الحديث: (فلما قدمنا أمر الناس فحلوا حتى إذا كان يوم التروية أهلوا بالحج) . وهذا لا معنى له، ولا يفهم إن كان النبى عليه السلام وأصحابه قارنين كما زعم أنس؛ لأن الأمة متفقة على أن القارن لا يجوز له الإحلال حتى يفرغ من عمل الحج كله كان معه هدى أو لم يكن، فلذلك أنكر عليه ابن عمر، وإنما حل من كان أفرد الحج وفسخه فى عمرة ثم تمتع. والأملح: الأبيض الذى يشوبه شىء من سواد، من كتاب العين. - باب مَنْ أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ / 30 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَهَلَّ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً. قال الطبرى: روى ابن إسحاق عن أبى الزناد، عن عائشة ابنة سعد بن أبى وقاص قالت: قال سعد: (كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا أخذ طريق الفرع أهل حين استقلت به راحلته، وإذا أخذ طريق أحد أهل إذا علا على شرف البيداء) . قال الطبرى: جعل الله ذا الحليفة ميقاتًا لهل المدينة، ومن مر بها من سائر الناس، فسوى فى جواز الإحرام من أى مكان أحرم منها: من المسجد، أو من فنائه بعدما استقلت به راحلته، أو قبل أن تنهض به قائمة بعدما علا على شرف البيداء، أو قبل، ما لم يجاوز ذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 الحليفة، إذ كل ذلك قد روى عن النبى أنه فعله، وليس شىء من ذلك بخلاف لغيره، وقد يمكن أن يكون فعل ذلك عليه السلام فى عمرته التى اعتمر، إذ ذلك كله ميقات، وممكن أن يكون ذلك على ما قاله ابن عباس، وقد ذكرناه فى باب الإهلال من عند مسجد ذى الحليفة. - باب الإهْلالِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ الْغَدَاةِ بذِى الْحُلَيْفَةِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا صَلَّى بِالْغَدَاةِ بِذِى الْحُلَيْفَةِ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَرُحِلَتْ، ثُمَّ رَكِبَ، فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا، ثُمَّ يُلَبِّى حَتَّى يَبْلُغَ الْحَرَمَ، ثُمَّ يُمْسِكُ حَتَّى إِذَا جَاءَ ذَا طُوًى بَاتَ بِهِ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ اغْتَسَلَ، وَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَعَلَ ذَلِكَ. / 31 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى مَكَّةَ ادَّهَنَ بِدُهْنٍ، لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، ثُمَّ يَأْتِى مَسْجِدَ ذِى الْحُلَيْفَةِ، فَيُصَلِّى، ثُمَّ يَرْكَبُ، فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً أَحْرَمَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَفْعَلُ. قال المهلب: أما تلبية ابن عمر إذا ركب راحلته فأراد به غجابة لقوله تعالى: (وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) [الحج: 27] . وأما استقباله القبلة لتلبيته فلاستقبال دعوة إبراهيم لمكة، فلذلك يلبى الداعى أبدًا بعد أن يستقبل بالوجه؛ لأنه لا يصلح أن يولى المجيب ظهره من يدعوه ثم يلبيه؛ بل يستقبله بالتلبية فى موضعه الذى دعا منه. وقوله: (ثم يلبى حتى يبلغ الحرم) فمعلوم من مذهبه أنه كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 لا يلبى فى طوافه، وكره مالك التلبية فى الطواف، وقال ابن عيينة: ما رأيت أحدًا يُقتدى به يلبى حول البيت إلا عطاء بن السائب، وسيأتى من أجاز ذلك ومن كرهه فى باب الاغتسال عند دخول مكة إن شاء الله، وإنما كان يدهن بغير طيب ليمنع بذلك الدواب والقمل. - باب التَّلْبِيَةِ إِذَا انْحَدَرَ فِى الْوَادِى / 32 - فيه: ابْن عَبَّاس، ذَكَرُوا الدَّجَّالَ، أَنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: (أَمَّا مُوسَى كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذِ انْحَدَرَ فِى الْوَادِى يُلَبِّى) . قال المهلب: أما قوله فى هذا الحديث: (أما موسى) فهو وهم من الرواة والله أعلم لأنه لم يأت خبر ولا أثر عن موسى أنه حى، وأنه سيحج، وإنما أتى ذلك عن عيسى، عليهما السلام، فاختلط على الراوى فجعل فعل عيسى لموسى، وذلك على رواية من روى (إذا انحدر) لأنه إخبار عما يكون، وأما من روى إذا انحدر يحكى عما مضى، فيصح عن موسى أن يراه النبى عليه السلام فى منام، أو يوحى إليه بذلك والله أعلم وفيه من الفقه أن التلبية فى بطن المسيل من سنن المرسلين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 - باب كَيْفَ تُهِلُّ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ؟ أَهَلَّ: تَكَلَّمَ بِهِ، وَاسْتَهْلَلْنَا وَأَهْلَلْنَا الْهِلالَ: كُلُّهُ مِنَ الظُّهُورِ، وَاسْتَهَلَّ الْمَطَرُ: خَرَجَ مِنَ السَّحَابِ،) وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) [المائدة: 3] وَهُوَ مِنِ اسْتِهْلالِ الصَّبِىِّ. / 33 - فيه: عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ لا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا) ، فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَة، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (انْقُضِى رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِى، وَأَهِلِّى بِالْحَجِّ، وَدَعِى الْعُمْرَة) ، فَفَعَلْتُ فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ، أَرْسَلَنِى رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) مَعَ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، فَاعْتَمَرْتُ، فَقَالَ: (هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ. . .) ، الحديث. قال المهلب: قولها: (فأهللنا بعمرة) يعارضه رواية عمرة عن عائشة أنها قالت: (خرجنا لخمس بقين من ذى القعدة، ولا نرى إلا أنه الحج) . وقال أبو نعيم فى حديث (مهلين بالحج، قالت عَمرة: فلما دنونا من مكة قال النبى عليه السلام لأصحابه: (من لم يكن معه هدى فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدى فلا) والتوفيق بين الحديثين أن يكون معنى قولها: (فاهللنا بعمرة) تريد حين دنونا من مكة حين أمر النبى عليه السلام من لم يسق الهدى بفسخ الحج فى العمرة، فأهلوا بها، وبينت عمرة عن عائشة ابتداء القصة من اولها، وعروة إنما ذكر ما آل إليه أمرهم حين دنوا من مكة وفسخوا الحج فى العمرة، إلا من كان ساق الهدى من المفردين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 فإنه مضى على إحرامه من أجل هديه، ولم يفسخه فى عمرة لقول الله: (لاَ تُحِلُّوا شَعَآئِرَ اللهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْىَ) [المائدة: 2] . وقولها: (فقدمت مكة وأنا حائض، ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة) . فلا خلاف بين العلماء أن الحائض لا تطوف بالبيت، ولا تسعى بين الصفا والمروة؛ لأن السعى بينهما موصول بالطواف، والطواف موصول بالصلاة، ولا تجوز صلاة بغير طهارة. وقوله عليه السلام: (انقضى رأسك وامتشطى، وأَهلِّى بالحج ودعى العمرة) احتج به الكوفيون فقالوا: إن المعتمرة إذا حاضت قبل الطواف، وضاق عليها وقت الحج رفضت عمرتها وألقتها واستهلت بالحج، وعليها لرفض عمرتها دم، ثم تقضى عمرة بعد، قالوا: وقوله: (انقضى رأسك وامتشطى) دليل على رفض العمرة؛ لأن القارنة لا تمتشط ولا تنفض رأسها، فجاوبهم مخالفوهم بأن ابن وهب روى عن مالك أنه قال: حديث عروة عن عائشة ليس عليه العمل عندنا قديمًا ولا حديثًا وأظنه وهمًا. يعنى ليس عليه العمل فى رفض الدعوة؛ لأن الله تعالى أمر بإتمام الحج والعمرة لمن دخل فيهما، وقال: (وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [محمد: 33] ورفضها قبل إتمامها هو إبطالها. قال ابن القصار: وكذلك لو احرمت بالحج ثم حاضت قبل الطواف لم ترفضه، فكذلك العمرة، بعلة أنه نسك يجب المضى فى فاسده فلا يجوز تركِه قبل إتمامه مع القدرة عليه. والذى عليه العمل عند مالك، والأوزاعى، والشافعى، وأبى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 ثور فى المعتمرة تحيض قبل أن تطوف بالبيت وتخشى فوات عرفة وهى حائض، أنها تهل بالحج وتكون كمن قرن بين الحج والعمرة ابتداءَ، وعليها دم القران، ولا يعرفون رفض العمرة ولا رفض الحج لأحد دخل فيهما أو فى أحدهما، قالوا: وكذلك المعتمر يخاف فوات عرفة قبل أن يطوف، لا يكون إهلاله رفضًا للعمرة؛ بل يكون قارنًا لإدخاله الحج على العمرة. ودفعوا حديث عروة عن عائشة بضروب من الاعتلال منها: أن القاسم والأسود وعمرة رووا عن عائشة ما دل أنها كانت محرمة بحج، فكيف يجوز أن يقال لها: دعى العمرة، وقال إسماعيل بن إسحاق: رواية عروة غلط؛ لأن الثلاثة خالفوه، وقال غيره: أقل الأحوال فى ذلك سقوط الاحتجاج بما صح فيه التعارض والرجوع إلى قوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] . وأجمعوا فى غير الخائف لفوت عرفة أنه لا يحل له رفض العمرة، فكذلك من خاف فوات عرفة؛ لأنه يمكنه إدخال الحج على العمرة ويكون قارنًا، فلا وجه لرفض العمرة فى شىء من النظر. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: ولو ثبت قوله عليه السلام: (دعى العمرة) لكان له تأويل سائغ، فيكون معنى قوله: (أهلى بالحج) أنه الذى أنت فيه، أى استديمى ما أنت عليه ودعى العمرة التى أردت أن يفسخ حجك فيها؛ لأنها إنما طهرت بمنى، وقد رهقها الوقوف بعرفة، وهذا أصل فى المراهق أن له تأخير طواف الورود، ومما يوهن رواية عروة ما رواه حماد بن زيد عن هشام بن عروة، عن أبيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 قال: حدثنى غير واحد أن النبى عليه السلام قال لها: (دعى عمرتك) فدل أن عروة لم يسمعه من عائشة، ولو ثبت قوله: (انقضى رأسك وامتشطى) لما نافى ذلك إحرامها ولجبرته بالفدية كما أمر عليه السلام كعب بن عجرة بالحلق والفدية لما بلغ به أذى القمل، فيكون أمره لها بنقضها رأسها وامتشاطها لضرورة كانت بها مع الفدية، هذا سائغ ومحتمل فلا تعارض به الأصول، وقد يمكن أن يكون أمرها بغسل رأسها وإن كانت حائضًا لا يجب عليها غسله ولا نقضه لغسل الإهلال بالحج؛ لأن من سنة الحائض والنفساء أن يغتسلا عند الميقات والإهلال بالحج، كما امر عليه السلام أسماء بنت عميس حين ولدت محمد بن أبى بكر بالبيداء بالاغتسال والإهلال، ولو أمر عليه السلام عائشة بنقض رأسها والاغتسال لوجوب الغسل عليها، لكانت قد طهرت فتطوف للعمرة التى قد تركت. وقوله عليه السلام لها: (غير ألا تطوفى بالبيت) يدل أنها لم تنقض رأسها إلا لمرض كان بها أو لإهلال كما ذكرنا. - باب مَنْ أَهَلَّ فِى زَمَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام كَإِهْلالِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام . / 34 - فيه: جَابِر، أَمَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَلِيًّا أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ، وَذَكَرَ قَوْلَ سُرَاقَةَ. وَقَالَ، عليه السَّلام: (بِمَا أَهْلَلْتَ يَا عَلِىُّ؟) قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ نبِى اللَّه، قَالَ: (فَأَهْدِ، وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ) . / 35 - وفيه: مَرْوَانَ الأصْفَرَ، عَنْ أَنَس، قَدِمَ عَلِىٌّ عَلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 مِنَ الْيَمَنِ، فَقَالَ: (بِمَا أَهْلَلْتَ) ؟ قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (لَوْلا أَنَّ مَعِى الْهَدْىَ لأحْلَلْتُ) . / 36 - وفيه: أَبُو مُوسَى، بَعَثَنِى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، إِلَى قَوْمٍ بِالْيَمَنِ فَجِئْتُ، وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ: (بِمَا أَهْلَلْتَ) ؟ قُلْتُ: أَهْلَلْتُ كَإِهْلالِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْىٍ) ؟ قُلْتُ: لا، فَأَمَرَنِى فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَمَرَنِى فَأَحْلَلْتُ فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِى فَمَشَطَتْنِى، أَوْ غَسَلَتْ رَأْسِى، فَقَدِمَ عُمَرُ، فَقَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ، قَالَ تَعَالَى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة: 196] وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْىَ. قصة علىّ وحديث أبى موسى لم يقل بهما مالك ولا الكوفيون، وقال بهما الشافعى، فذهب إلى أن الحج ينعقد بإحرام من غير تعيين إفراد أو قران أو تمتع، وله عنده أن يمضى فى ذلك الإحرام ثم يجعله أى وجه شاء من الأوجه الثلاثة، وله عنده أيضًا أن ينقله من وجه إلى وجه، إلا أن يكون قارنًا فليس له أن ينقض إحرامه؛ لأنه يخرج مما أوجب على نفسه من الحج والعمرة، واحتج فى ذلك بقوله عليه السلام لعلى: (بم أهللت؟ قال: بإهلال كإهلال النبى (صلى الله عليه وسلم)) فأخبره عليه السلام بما أهلَّ به، وهو قوله: (إنى سقت الهدى) . واحتج الطبرى فقال: والدليل على صحة هذا أن أبا موسى لما أهل لم يعلم بما أهل به النبى عليه السلام فى وقت ابتدائه الإهلال؛ لأنه كان باليمن عام حج النبى عليه السلام بالناس، فلما بلغه خروج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالناس للحج خرج من اليمن حتى قدم على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلبى من ميقات أهل اليمن وقال: لبيك بإهلال كإهلال النبى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 عليه السلام ولَّبى بمثل تلبيته على بن أبى طالب، وكان أقبل معه من اليمن، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أبا موسى أن يجعل إحرامه عمرة إذ لم يكن ساق معه هديًا، وأخذ مالك وأبو حنيفة بظاهر قوله عليه السلام: (الأعمال بالنيات) . وقالوا: لابد أن ينوى المحرم حجا أو عمرة عند دخوله فيه، وقالوا: إذا نوى بحجته التطوع وعليه حجة الإسلام أنه لا يجزئه عنها، وبه قال الثورى، وإسحاق، وقال الشافعى: بجزئه من حجة الإسلام وتعود النافلة فرضًا لمن لم يؤد فرضه فى الحج خاصة، كما يعود الإحرام بالحج قبل وقته، وإن نوى به الفريضة تطوعًا. فيقال: له: قد أجمعوا أن من صلى قبل الزوال أربعًا إن نوى بها الظهر أنه لا يجزئه، وهى تطوع، فكذلك الحج. قال المهلب: وحديث مروان الأصفر عن أنس موافق لرأى الجماعة فى إفراد النبى عليه السلام ويرد وهم أنس أن النبى عليه السلام قرن، واتفاقه مع الجماعة أولى بالاتباع مما انفرد به وخالفهم فيه، وقال أبو عبد الله أخوه: فتسويغ النبى عليه السلام الإحلال لنفسه لولا الهدى يدل أنه كان منفردًا الحج غير قارن؛ لأنه لا يجوز للقارن الإحلال كان معه هدى أو لم يكن حتى يفرغ من عمل الحج. فإن قيل: كيف قال عليه السلام: (لولا أنى سقت الهدى لأحللت) وهو مفرد، والمفرد لا يجوز له اليوم الإحلال كان معه هدى أو لمن يكن؟ فالجواب: أن قوله: (لأحللت) : أى لفسخت الحج فى العمرة؛ لأن الفسخ كان مباحًا حينئذ لمن لا هدى له، فجاز لهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 الإحلال ووطء النساء قبل الشروع فى عمل العمرة فى وقت فسخهم الحج، فأما من كان معه هدى فلم يكن يفسخ لقوله تعالى: (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ) [البقرة: 196] . قال المهلب: وقول أبى موسى: (فقدم عمر) يعنى إذ حج بالناس فى خلافته فقال: (إن نأخذ بكتاب الله فإنه أمر بالتمام) يعنى أن من أهل بشىء فليتم ما بدأ فيه ولا يفسخه، وإن نأخذ بسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فإنه لم يفسخ ما كان أَهَلَّ به أولا من الحج من أجل الهدى تعظيمًا لحرمات الله، وإنما أباح عليه السلام الفسخ ردا لقول الجاهلية: إن العمرة فى الحج من أفجر الفجور. - باب قوله تَعَالَى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِى الْحَجِّ) [البقرة: 197] ، وَقَوْلِهِ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [البقرة: 189] . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَشْهُرُ الْحَجِّ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِى الْحَجَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لا يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِلا فِى أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَكَرِهَ عُثْمَانُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أَوْ كَرْمَانَ. / 37 - فيه: الْقَاسِمَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فِى أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَيَالِىَ الْحَجِّ وَحُرُمِ الْحَجِّ، فَنَزَلْنَا بِسَرِفَ، قَالَتْ: فَخَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: (مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَعَهُ هَدْىٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْىُ فَلا) ، قَالَتْ: فَالآخِذُ بِهَا وَالتَّارِكُ لَهَا مِنْ أَصْحَابِهِ، قَالَتْ: فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَرِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَكَانُوا أَهْلَ قُوَّةٍ، وَكَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 مَعَهُمُ الْهَدْىُ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْعُمْرَةِ، قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَأَنَا أَبْكِى، فَقَالَ: (مَا يُبْكِيكِ يَا هَنْتَاهُ) ؟ قُلْتُ: سَمِعْتُ قَوْلَكَ لأصْحَابِكَ فَمُنِعْتُ الْعُمْرَةَ، قَالَ: (وَمَا شَأْنُكِ) ؟ قُلْتُ: لا أُصَلِّى، قَالَ: (فَلا يَضِيرُكِ إِنَّمَا أَنْتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ، كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكِ مَا كَتَبَ عَلَيْهِنَّ، فَكُونِى فِى حَجَّتِكِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَكِيهَا) ، قَالَتْ: فَخَرَجْنَا فِى حَجَّتِهِ حَتَّى قَدِمْنَا مِنًى، فَطَهَرْتُ، ثُمَّ خَرَجْتُ مِنْ مِنًى، فَأَفَضْتُ بِالْبَيْتِ، قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجَتْ مَعَهُ فِى النَّفْرِ الآخِرِ حَتَّى نَزَلَ الْمُحَصَّبَ، وَنَزَلْنَا مَعَهُ، فَدَعَا عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ أَبِى بَكْرٍ، فَقَالَ: (اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنَ الْحَرَمِ، فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ افْرُغَا، ثُمَّ ائْتِيَا هَاهُنَا، فَإِنِّى أَنْظُرُكُمَا حَتَّى تَأْتِيَانِى) ، قَالَتْ: فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ، وَفَرَغْتُ مِنَ الطَّوَافِ، ثُمَّ جِئْتُهُ بِسَحَرَ، فَقَالَ: (هَلْ فَرَغْتُمْ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَآذَنَ بِالرَّحِيلِ فِى أَصْحَابِهِ، فَارْتَحَلَ النَّاسُ فَمَرَّ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ. قال ابن المنذر: اختلف العلماء فى معنى قوله: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ) [البقرة: 197] فقالت طائفة: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذى الحجة، وهو قول ابن مسعود، وابن عباس، وابن الزبير، وروى عن الشعبى، والنخعى، وعطاء، والثورى، وأبى حنيفة، والأوزاعى، الشافعى، وأبى ثور. قال ابن القصار: وقد روى مثله عن مالك، والمشهور عن مالك أنها ثلاثة: شوال وذو القعدة وذو الحجة كله. قال ابن المنذر: واختلف عن ابن عباس وابن عمر فى ذلك، فروى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 عنهما كما قال ابن مسعود، وروى عنهما كقول مالك، وكان الفَرَّاء يقول: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ) [البقرة: 197] قال: الأشهر رفع ومعناه: وقت الحج أشهر معلومات، وقال غيره: تاويله أن الحج فى أشهر معلومات. واختلف العلماء فى من أحرم بالحج فى غير أشهر الحج. فقال ابن عباس: لا ينبغى لأحد أن يهل بالحج فى غير أشهر الحج لقول الله تعالى: (فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) [محمد: 33] وهو قول جابر بن عبد الله، وقال الشافعى وأبو ثور: لا ينعقد إحرامه بالحج؛ لكنه ينعقد بعمرة، وهو مذهب عطاء وطاوس، وبه قال الأوزاعى وأحمد وإسحاق، واحتجوا بقوله: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ) [البقرة: 197] وقالوا: لو انعقد الإحرام فى غيرها لم يكن لتخصيصها فائدة، واحتجوا أيضًا بقول عائشة: (خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى أشهر الحج وليالى الحج وحرم الحج) . وقال آخرون: من أحرم فى غير أشهر الحج لزمه، روى هذا عن النخعى، وهو قول أهل المدينة والثورى والكوفيين، إلا أن المستحب عند مالك ألا يحرم فى غير أشهر الحج، فإن فعل لزمه، وهو حرام حتى يحج. وقالوا: إِنَّ ذِكْرَ اللهِ فى الحج: الأشهر المعلومات، إنما معناه عندهم عل التوسعة والرفق بالناس، وافعلام بالوقت الذى فيه يتأدى الحج، فأخبرهم تعالى بما يقرب من ذلك الوقت، وبيَّن ذلك بقوله عليه السلام: (الحج عرفات) وبنحره يوم النحر، ورميه الجمار فى ذلك اليوم وما بعده، فمن ضيق على نفسه وأحرم بالحج قبل أشهر الحج فهو فى معنى من أحرم بالحج من بلده قبل الميقات، ويعضد هذا قوله تعالى: (وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [محمد: 33] وقوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) [البقرة: 196] ولم يخص محرمًا من محرم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 قال ابن القصار: ولا يمتنع أن يجعل الله الأشهر كلها وقتًا لجواز الإحرام فيها، ويجعل شهور الحج وقت الاختيار، وهذا سائغ فى الشريعة. قال المهلب: وقول عائشة: (نزلنا بسرف) فإنما ذكرت المآل؛ لأن سرف هو أول حدود مكة، ولم تذكر ما كانوا أحرموا به ميقات ذى الحليفة؛ ولأن فى الحديث دليل على ما كانوا أحرموا به أولا؛ لأنه قال: (من لم يكن معه هدى فليجعلها عمرة) . وهذا يدل أنها كانت حجة مفردة، ولو كانت قرنًا لقال: فليجعلهما عمرة، وإنما أمر بالفسخ من أفرد، لا من قرن ولا من أهل بعمرة، لأنهم أمرهم كلهم أن يجعلوها عمرة ليتمتعوا بالعمرة إلى الحج. وقولها: (حتى قدمنا مِنىً فطهرت) تريد ثانى يوم النحر؛ لأن أيام منى ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وسيأتى اختلاف الناس فى الرفث والفسوق فى الجزء الثانى من الحج إن شاء الله. وقوله: (يا هنتاه) هى كلمة يكنى بها عن اسم الإنسان يقال للمرأة: يا هنتاه، أى يا مرأة، وللرجل يا هناه، أى يا رجل، ولا يستعمل فى غير النداء، ذكره سيبويه وقال: هو مثل قولهم: يا غدار ويا لكاع ويا فساق، ولا يستعمل ذلك إلا فى النداء خاصة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 30 - باب التَّمَتُّعِ وَالإقْرَانِ وَالإفْرَادِ بِالْحَجِّ وَفَسْخِ الْحَجِّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْىٌ / 38 - فيه: الأسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) وَلا نُرَى إِلا أَنَّهُ الْحَجُّ، فَلَمَّا قَدِمْنَا تَطَوَّفْنَا بِالْبَيْتِ، فَأَمَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْىَ أَنْ يَحِلَّ، فَحَلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ، وَنِسَاؤُهُ لَمْ يَسُقْنَ فَأَحْلَلْنَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحِضْتُ، فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ، قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَرْجِعُ النَّاسُ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ، قَالَ: (وَمَا طُفْتِ لَيَالِىَ قَدِمْنَا مَكَّةَ) ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: (فَاذْهَبِى مَعَ أَخِيكِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهِلِّى بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ مَوْعِدُكِ كَذَا وَكَذَا) ، قَالَتْ صَفِيَّةُ: مَا أُرَانِى إِلا حَابِسَتَهُمْ، قَالَ: (عَقْرَى حَلْقَى أَوَ مَا طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ) ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: (لا بَأْسَ، انْفِرِى) . / 39 - وفيه: عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، [وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ] ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالْحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، لَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ. / 40 - وفيه: مَرْوَانَ، قَالَ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا، وَعُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا رَأَى عَلِىٌّ أَهَلَّ بِهِمَا، لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، قَالَ: مَا كُنْتُ لأدَعَ سُنَّةَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، لِقَوْلِ أَحَدٍ. / 41 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِى أَشْهُرِ الْحَجِّ أَفْجَرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 الْفُجُورِ فِى الأرْضِ، وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا، وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرَا الدَّبَرْ، وَعَفَا الأثَرْ، وَانْسَلَخَ صَفَرْ، حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ، قَدِمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: (حِلٌّ كُلُّهُ) . / 42 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَأَمَرَهُ بِالْحِلِّ. / 43 - وفيه: حَفْصَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قَالَ: (إِنِّى لَبَّدْتُ رَأْسِى، وَقَلَّدْتُ هَدْيِى، فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ) . / 44 - وفيه: أَبُو جَمْرَةَ نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ الضُّبَعِىُّ، قَالَ: تَمَتَّعْتُ، فَنَهَانِى نَاسٌ، فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَأَمَرَنِى، فَرَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ، كَأَنَّ رَجُلا يَقُولُ لِى: حَجٌّ مَبْرُورٌ وَعُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: سُنَّةَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: لِى أَقِمْ عِنْدِى، فَأَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِى، قَالَ شُعْبَةُ: فَقُلْتُ: لِمَ؟ فَقَالَ: لِلرُّؤْيَا الَّتِى رَأَيْتُ. / 45 - وفيه: أَبُو شِهَابٍ عبد ربه بْن نافع، قَدِمْتُ مُتَمَتِّعًا مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ، فَدَخَلْنَا قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِثَلاثَةِ أَيَّامٍ، فَقَالَ لِى أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: تَصِيرُ حَجَّتُكَ الآنَ مَكِّيَّةً، فَدَخَلْتُ عَلَى عَطَاءٍ أَسْتَفْتِيهِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِى جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ، أَنَّهُ حَجَّ مَعَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ، وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، فَقَالَ لَهُمْ: (أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِطَوَافِ الْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 وَالْمَرْوَةِ، وَقَصِّرُوا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَلالا حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ، وَاجْعَلُوا الَّتِى قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً) ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ؟ فَقَالَ: (افْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ، فَلَوْلا أَنِّى سُقْتُ الْهَدْىَ لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِى أَمَرْتُكُمْ، وَلَكِنْ لا يَحِلُّ مِنِّى حَرَامٌ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ) ، فَفَعَلُوا. قال المهلب: أشكلت أحاديث الحج على الأئمة صعب تخليصها ونفى التعارض عنها، وكل ركب فى توجيهها غير مذهب صاحبه، واختلفوا فى الإفراد والتمتع والقران أيها أفضل، وفى الذى كان به النبى عليه السلام محرمًا من ذلك. فذهبت طائفة إلى أن إفراد الحج أفضل، هذا قول مالك وعبد العزيز ابن أبى سلمة والأوزاعى وعبيد الله بن الحسن، وهو أحد قولى الشافعى، وبه قال أبو ثور، وممن روى أن النبى عليه السلام أفرد الحج جابر وابن عباس وعائشة، وبهذا عمل أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعائشة، وابن مسعود بعد النبى عليه السلام. وقال أبو حنيفة والثورى: القران أفضل، وبه عمل النبى عليه السلام واحتجوا بحديث أنس أن النبى عليه السلام لما استوت به راحلته على البيداء أهل بحج وعمرة، وهو مذهب على بن أبى طالب، وطائفة من أهل الحديث، واختاره الطبى، وقال أحمد ابن حنبل: لا شك أن الرسول كان قارنًا، قال: والتمتع أحب إلى، لقول النبى عليه السلام: (لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 سقت الهدى، ولجعلتها عمرة) . وقال آخرون: التمتع أفضل، وهو قول ابن عمر وابن عباس وابن الزبير، وبه قال عطاء، وهو أحد قولى الشافعى، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، واحتجوا بحديث ابن عمر أن النبى عليه السلام تمتع فى حجة الوداع، وبقول حفصة: ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك. قال المؤلف: وأما ما جاء من اختلاف ألفاظ حديث عائشة مما يوهم القران والتمتع فليس ذلك بموهن الإفراد؛ لأن رواة حديث الحج عنها: الأسود، وعَمرة، والقاسم، وعروة، فأما الأسود وعَمرة فقالا عنها: (خرجنا لا نرى إلا الحج) ، وقال أبو نعيم فى حديثه: (مهلين بالحج) . وقال القاسم عنها: (خرجنا فى أشهر الحج وليالى الحج وحرم الحج) . وفى رواية مالك فى الموطأ عن القاسم، عن عروة، عن عائشة: (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أفرد الحج) ، وكذلك صرح عروة عنها أنه عليه السلام أفرد الحج، ويشهد لصحة روايتها بالإفراد أن جابرًا وابن عباس رويا الإفراد عن النبى عليه السلام، فوجب رد ما خالف الإفراد من حديث عائشة إلى معنى الإفراد لتواتر الرواية به عن النبى عليه السلام. قال الطحاوى: وقد روى عبد العزيز بن عبد الله، وحماد بن سلمة، ومالك بن أنس، وعمرو بن الحارث، ومحمد بن مسلم الطائفى عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة فى إحرامها الذى كانت مع النبى عليه السلام فيه أنه كان حجة، وأنها قدمت مكة على النبى (صلى الله عليه وسلم) على ذلك، وزاد عمرو وابن أبى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 سلمة، وحماد بن سلمة، ومحمد بن مسلم على مالك (أن النبى عليه السلام وأصحابه كانوا أيضًا فى حجة حتى قدموا مكة فأمرهم أن يجعلوها عمرة) . وكذلك فى رواية عمرة والأسود موافقة القاسم عن عائشة بالإفراد. وقولها: (لا نرى إلا الحج) إنما هو على معنى لا نعرف إلا الحج؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون العمرة فى أشهر الحج، فخرجوا محرمين بالذى لا يعرفون غيره، قال: والأشبه عندى أن يكون إحرام النبى عليه السلام كان بالحج خاصة لا بالحج والعمرة؛ لأنه قد أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة، ولا يجوز أن يكون أمرهم بذلك وهم فى حرمة عمرة أخرى؛ لأنهم يرجعون بذلك إلى أن يصيروا فى حرمة عمرتين، وقد أجمع المسلمون على المنع من ذلك، ومحال عندنا أن يجمعوا على خلاف ما كان من أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ما لم يكن مخصوصًا به، وما لم ينسخ بعد فعله إياه. قال المهلب: وقد أشكل حديث عائشة على أئمة الفتوى، فمنهم من أوقف الاضطراب فيه عليها، ومنهم من جعل ذلك من قبيل ضبط الرواة عنها، ومعناه يصح إن شاء الله بترتيبه على موطنه ووقت إخبارها عنه فى المواقيت التى ابتدأ الإحرام منها، ثم أعقب حين دنا من مكة بما أمر من لم يسق الهدى بالفسخ. فأما حديث الأسود عن عائشة فإنها ذكرت فيه البداءة وأنها أهلت بحجة مفردة بذى الحليفة، وأهل الناس كذلك، ثم لما دنوا من مكة أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) من لم يكن ساق الهدى أن يجعلها عمرة، إذ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 أوحى الله إليه بتجويز الاعتمار فى أشهر الحج فسخة منه تعالى لهذه الأمة ورحمة لهم بإسقاط أحد السفرين عنهم، وأمر من لم يكن معه هدى بالإحلال بعمرة؛ ليرى أمته جوازها، ويعرفهم بنعمة الله عليهم عيانًا وعملا بحضرة النبى عليه السلام. وفى حديث عروة عن عائشة ذكرت أنهم كانوا فى إهلالهم على ضروبٍ: مِنْ مُهلٍّ بحج، ومن مُهلٍّ بعمرة، وجامع بينهما، فأخبرت عمال آل أمر المحرمين، واختصرت ما أهلوا به فى ابتداء إحرامهم، ولم تأت بالحديث على تمامه كما جاء فى حديث عمرة عنها، فإنها ذكرت إحرامهم فى الموطنين، ولذلك قال القاسم: أتتك بالحديث على وجهه. يريد أنها ذكرت الابتداء بالإحرام والانتهاء إلى مكة، وأول حدودها (سرف) ، وما أمر به من الفسخ بعمرة. قال الطحاوى: ودل حديث عروة أنهم عرفوا العمرة فى أشهر الحج بما عرفهم به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وأمرهم به بعد قدومه مكة. قال المؤلف: واحتج من قال بالإفراد بقول مالك: إذا جاء عن النبى عليه السلام حديثان مختلفان وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر، فإن فى ذلك دلالة على أن الحق فى ما عملا به. وقال الزهرى: بلغنا أن عمر بن الخطاب قال فى قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] ، قال: من تمامها أن تفرد كل واحدة من الأخرى. وقال ابن حبيب: أخبرنى ابن الماجشون قال: حدثنى الثقات من علماء المدينة وغيرهم أن أول ما أقيم للناس الحج سنة ثمان مرجع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من حنين، فاستخلف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على مكة عتاب بن أسيد فأفرد الحج، ثم حج أبو بكر بالناس سنة تسع فأفرد الحج، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 ثم قبض رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاستخلف أبو بكر فأفرد الحج خلافته سنتين، ثم ولى عمر بن الخطاب فلم يشك أحد أن عمر أفرد الحج عشر سنين، وولى عثمان فأفرد الحج اثنتى عشرة سنة. قال ابن الماجشون: وحدثنى ابن أبى حازم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر أن عليا أفرد الحج، وأفرد ابن عمر ثلاثين سنة متوالية، ما تمتع ولا قرن إلا عامًا واحدًا، وأفردت عائشة كل عام حتى توفيت، قال ابن الماجشون: فعلمنا أن الإفراد هو الذى فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كاليقين؛ لأنا نعلم بفعل أصحابه بعده، وهم بطانته، أنهم لا يتركون ما فعل، وهكذا قال لى المدنيون والمصريون من أصحاب مالك. وأما نهى عثمان عن المتعة والقران وإهلال على بهما، فإن عثمان اختار ما أخذ به النبى عليه السلام فى خاصة نفسه وما أخذ به أبو بكر وعمر، ورأى أن الإفراد أفضل عنده من القران والتمتع. والقران عند جماعة من العلماء من معنى التمتع لاتفاقهما فى المعنى، وذلك أن القارن يتمتع بسقوط سفره الثانى من بلده كما يصنع المتمتع الذى يحل من عمرته، وكذلك يتفقان فى الهدى والصوم لمن لم يجد هديًا عند أكثر العلماء. قال المهلب: وأما قول من اختار القران؛ لأنه الذى فعل النبى عليه السلام فإنه يفسد من وجهين: أحدهما: توهين قول أنس بما رواه مروان الأصفر عن أنس نفسه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لِعَلىٍّ: (لولا أن معى الهدى لأحللت) فبان بهذا أن النبى عليه السلام لم يكن قارنًا؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 لأن القارن لا يجوز له الإحلال، كان معه هدى أو لم يكن، وهذا إجماع. والوجه الآخر: أن التمتع والقران رخصتان، والإفراد أصل، ومحال أن تكون الرخصة أفضل من الأصل؛ لأن الدم الذى يدخل فى التمتع والقران جبران، وهو يجب لإسقاط أحد السفرين أو لترك شىء من الميقات؛ لأنه لو لم يقرن وأتى بكل واحدة منهما مفردة بعد ألا تكون العمرة فعلت فى شهور الحج، وأتى بكل واحدة من ميقاتها، لما وجب عليه دم. وقد أَنْكَر القرانَ على أنسٍ: عائشةُ وابنُ عمر وجعلاه من وهمه، وقالا: كان أنس يدخل على النساء وهن منكشفات يصفانه بصغر السن وقلة الضبط لما خالف فيه الجماعة، هذا قول المهلب، قال: وأما حجة من قال بالتمتع وأن النبى عليه السلام كان متمتعًا بحديث ابن عمر، فهى مردودة بما رواه البخارى فى حديث ابن عمر مما يرد به على نفسه، وهو حديث مسدد، قال: حدثنا بشر ابن المفضل، حدثنا حميد الطويل، حدثنا بكر أنه ذكر لابن عمر أن أنسًا حدثهم (أن النبى عليه السلام أهل بعمرة وحجة، فقال ابن عمر: أهل الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالحج وأهللنا به، فلما قدمنا مكة قال النبى عليه السلام: من لم يكن معه الهدى فليجعلها عمرة، وكان معه النبى عليه السلام هدى. . .) . وذكر الحديث. ذكره البخارى فى المغازى فى باب: (بعثه عليا وخالد بن الوليد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 إلى اليمن قبل حجة الوداع) ، وأيضًا قوله فى حديث عائشة: (لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما سقت الهدى، ولجعلتها عمرة) وهذا نص قاطع أنه عليه السلام لم يهل بعمرة، وليس فى قوله: (لو استقبلت من أمرى ما استدبرت، ما سقت الهدى، ولجعلتها عمرة) دليل أن التمتع أفض من القران كما زعم أحمد بن حنبل، وإنما قال ذلك من أجل ما كَبُرَ عليهم مخالفة فعله لفعلهم حين بقى على إحرامه ولم يحل معهم حين أمرهم بفسخ الحج والإحلال وإصابة النساء، فشق ذلك عليهم وقالوا: لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس، أمرنا أن نحل إلى نسائنا فنأتى عرفة تقطر مذاكرنا المنى، فآنستهم النبى عليه السلام وقال لهم: (قد علمتم أنى أصدقكم لله وأبركم، ولولا هدبى لتحللت كما تحلون) فسكنوا إلى قوله وطابت نفوسهم، وسأذكر ما روى عن عروة، عن عائشة مما يوهم أن النبى عليه السلام تمتع، فى باب: من ساق الهدى معه إن شاء الله وأبين الشبهة فيه. وأما قول أهل مكة لأبى شهاب حين قدم مكة متمتعًا: تصير حجتك الآن مكية، فمعنى ذلك أنه ينشئ حجة من مكة إذا فرغ من تمتعه كما ينشئ أهل مكة الحج من مكة؛ لأنها ميقاتهم للحج؛ لأن غير أهل مكة إن أحلوا من العمرة فى أشهر الحج، وأنشئوا الحج من عامهم دون أن يرجعوا إلى أُفُقِهم أو أُفُقٍ مثل أُفُقهِم فى البعد، فعليهم فى ترك ذلك الدم. ولو خرج إلى الميقات بعد تمام العمرة ليهل بالحج منه لم يسقط ذلك عنه الدم عند مالك وأصحابه إلا أن يكون الميقات أُفُقه أو مثل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 أُفقه، وأما حديث حفصة وقولها: (ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك) فإنه يوهم أنه عليه السلام أهل بعمرة وأنه تمتع؛ لأن الإحلال كان لمن تمتع، فهو توهم فاسد، وذكر (عمرتك) فى هذا الحديث وتركها سواء؛ لأن المأمورين بالحل هم المحرمون بالحج ليفسخوه فى عمرة، ويستحيل أن يأمر بذلك المحرمين بعمرة؛ لأن المعتمر يحل بالطواف والسعى والحلاق، لا شك فى ذلك عندهم، وقد اعتمروا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عُمَرًا، وعرفوا حكم العمرة فى الشريعة، فلم يكن يعرفهم بشىء فى علمهم، بل عرفهم بما أحل الله لهم فى عامهم ذلك من فسخ الحج فى عمرة لما أنكروه من جواز العمرة فى زمن الحج. وللعلماء فى قول حفصة: (ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك؟) ضروب من التاويل، فقال بعضهم: إنما قالت له ذلك لأنها ظنت أنه عليه السلام كان فسخ حجه فى عمرة كما أمر بذلك من لا هدى معه من أصحابه وهم الأكثر، فذكر لها عليه السلام العلة المانعة من الفسخ، وهى سوقه للهدى، فبان أن الأمر ليس كما ظننته. وقيل: معناه ما شأن الناس حلوا من إحرامهم، ولم تحل أنت من إحرامك الذى ابتدأته معهم بنية واحدة، بدليل قوله: (لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما سقت الهدى، ولجعلتها عمرة) . فعلم بهذا أنه لم يحرم بعمرة، هذا قول ابن القصار. وقيل: معناه: لِمَ لَمْ تحل من حجك بعمرة كما أمرت أصحابك؟ وقالوا: قد تأتى (من) بمعنى (الباء) ، كما قال تعالى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 ) يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد: 11] أى بأمر الله، تريد لم تحل أنت بعمرة من إحرامك الذى جئت به مفردًا فى حجتك. وأما قول ابن عباس لأبى جمرة فى المتعة: هى السنة، فمعنى ذلك أن كل ما فى أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بفعله فهو سنة، وكذلك معنى قول على لعثمان فى القران: ما كنت لأدع سنة النبى عليه السلام لقول أحد، يعنى: سنته التى أمر بها؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) فعل فى خاصته غيرها وهو الإفراد. وأما فسخ الحج فى عمرة فهو فى حديث عائشة وابن عباس وجابر وغيرهم، فالجمهور على تركه، وأنه لا يجوز فعله بعد النبى عليه السلام وليس لأحد دخل فى حجة أن يخرج منها إلا بتمامها، ولا يحله منها شىء قبل يوم النحر من طواف ولا غيره، وإنما أمر به أصحابه ليفسخ ما كان عليه أهل الجاهلية من تحريم العمرة فى أشهر الحج؛ لأنه خشى عليه السلام حلول أجله قبل حجة أخرى فيجعلها عمرة فى أشهر الحج. فلما لم يتسع له العمر بما استدل عليه من كتاب الله ومن قرب أجله، أمرهم بالفسخ وأحل لهم ما كانت الجاهلية تحرمه من ذلك، وقد قال أبو ذر: ما كان لأحد بعده أن يحرم بالحج ثم يفسخه فى عمرة. رواه الأعمش عن إبراهيم التيمى، عن أبيه، عن أبى ذر، ورواه الليث عن المرقع بن صيفى الأسدى، عن أبى ذر، وروى ذلك عن عثمان بن عفان، رواه أبو عوانة عن معاوية بن إسحاق، عن إبراهيم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 التيمى، عن أبيه، عن عثمان، عن عمر بن الخطاب أنه قال: (إن الله تعالى كان يخص نبيه بما شاء، وإنه قد مات فأتموا الحج والعمرة لله تعالى) . وقال جابر: (المتعتان فعلناهما على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، نهى عمر عنهما فلن نعود إليهما) يعنى: فسخ الحج ومتعة النساء. وروى ربيعة بن عبد الرحمن عن الحارث بن بلال بن الحارث المزنى، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أفسخ الحج لنا خاصة أم لمن بعدنا؟ قال (صلى الله عليه وسلم) : (بل لنا خاصة) . قال الطحاوى: ولا يجوز للصحابة أن يقولوا هذا بآرائهم، وإنما قالوه من جهة ما وقفوا عليه؛ لأنهم لا يجوز لهم ترك ما فعلوه مع النبى عليه السلام من الفسخ إلا بتوقيف منه إياهم على الخصوصية بذلك، ومنع من سواهم منه، فثبت أن الناس جميعًا بعدهم ممنوعون من الخروج من الحج إلا بتمامه إلا أن يُصَدُّوا. ووجه ذلك من طريق النظر أنه من أحرم بعمرة فطاف لها وسهى أنه قد فرغ منها، وله أن يحلق ويحل، هذا إذا لم يكن ساق هديًا، ورأيناه إذا ساق الهدى لمتعته، فطاف لعمرته وسعى لم يحل حتى جاء يوم النحر فيحل منها ومن حجته إحلالاً واحدًا، فكان الهدى الذى ساقه لمتعته التى لا يكون عليه فيها هدى إلا بأن يحج؛ يمنعه من أن يحل بالطواف إلا يوم النحر؛ لأن عقد إحرامه هكذا؛ كان أن يدخل فى عمرة فيتمها، فلا يحل منها حتى يحرم بحجة ثم يحل منها ومن العمرة التى قدمها قبلهما معًا. وكانت العمرة لو أحرم بها منفردة حل منها بعد فراغه منها إذا حلق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 ولم ينتظر يوم النحر، وكان إذا ساق الهدى لحجه يحرم بها بعد فراغه من تلك العمرة بقى على إحرامه إلى يوم النحر، فلما كان الهدى الذى هو من سبب الحج يمنعه الإحلال بالطواف بالبيت قبل يوم النحر، كان دخوله فى الحج أحرى أن يمنعه من ذلك إلى يوم النحر. قال المؤلف: ولم يُجِزْ فسخ الحج أحد من الصحابة إلا ابن عباس، وتابعه أحمد بن حنبل وأهل الظاهر، وهو شذوذ من القول، والجمهور الذين لا يجوز عليهم تحريف التاويل هم الحجة التى يلزم اتباعها. قال المهلب: فى حديث عائشة الأول فى قولها: (فلما قدمنا تطوفنا بالبيت) تفسير لقول من قال فى العمرة: (صنعناها مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) يعنى: أنه عليه السلام صنعها أمرًا لا فعلاً؛ لأنه معلوم أن عائشة لم تطف لأنها كانت حائضًا، وإنما حكت عمن طاف. وقوله: (ما طفتِ ليالى قدمنا مكة) يعنى لم تُحِلِّى من حجتك بعمرة كما حل الناس بالطواف بالبيت والسعى، قالت: (لا، فأمر أخاها فأعمرها إذ لم تعتمر قبل) . وقول صفية: (ما أرانى إلا حابستهم) أى حتى أطهر من حيضتى وأطوف طواف الوداع؛ لأنها قد كانت طافت طواف الإفاضة المفترض وهى طاهر، قال مالك: والمرأة إذا حاضت بعد الإفاضة فلتنصرف إلى بلدها، فإنه قد بلغنا فى ذلك رخصة من النبى (صلى الله عليه وسلم) للحائض، يعنى حديث صفية، وستأتى مذاهب العلماء فى من ترك طواف الوداع فى باب: إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت إن شاء الله. قال المهلب: وأما قوله فى حديث ابن عباس: (كانوا يجعلون المحرم صفر) فهو النسئ الذى قال الله تعالى يحلون الشهر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 الحرام أعنى المحرم، ويحرمون الحلال: صفر، أى يؤخرون حرمة الحرام إلى الحلال صفر. قوله: (فتعاظم ذلك) أى تعاظم مخالفة العادة التى كانوا عليها من تأخيرالعمرة عن أشهر الحج، فسألوه عن الإحلال فقالوا: (أى الحل؟) إحلال الطيب والمخيط كما يحل مَنْ رمى جمرة العقبة وطاف للإفاضة أم غيره، فأخبرهم أنه الحل كله بإصابة النساء. وقول أبى موسى: (قدمت على النبى عليه السلام فأمره بالحل) يريد أنه أمره بالفسخ لما لم يكن معه هدى، كما أمر أصحابه الذين لا هدى لهم، وأما أبو جمرة فإنه خشى من التمتع حبوط الأجر ونقصان الثواب للجمع بينهما فى سفر واحد وإحرام واحد، وكان الذين أمروه بالإفراد إنما أمروه بفعل النبى عليه السلام فى خاصة نفسه لينفرد الحج وحده، ويخلص عمله من الاشتراك فيه، فأراه الله الرؤيا ليعرفه أن حجه مبرور وعمرته متقلبة فى حال الاشتراك، ولذلك قال له ابن عباس: (أقم عندى) ليقص على الناس هذه الرؤيا المثبتة لحل التمتع، وفى هذا دليل أن الرؤيا الصادقة شاهد على أمور اليقظة. وفى قوله: (أجعل لك سهمًا من مالى) أن العالم يجوز له أخذ الأجرة على العلم والله أعلم. وقوله: (عَقْرى حَلْقى) دعاء عليها، وقد اختلف فى معناه، فقيل: معناه: عقرها الله وأصابها بوجع فى حلقها، وقيل: هو من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 حلق الرأس، وسأذكر أقوال أهل اللغة فى هذه الكلمة وأتقصاه فى كتاب الدب فإنه بوب لها بابًا إن شاء الله. 31 - باب مَنْ لَبَّى بِالْحَجِّ وَسَمَّاهُ / 46 - فيه: جَابِر، قَدِمْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، وَنَحْنُ نَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ، لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً. / 47 - وفيه: عِمْرَان، تَمَتَّعْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ. قال المؤلف: السنة لمن أراد الحج أن ينويه ويسميه عند التلبية به، وكذلك فى التمتع والقران، وعلى هذا جمهور الفقهاء؛ لقوله عليه السلام: (الأعمال بالنيات) وهذا الباب خلاف على الشافعى، فإنه يجيز أن ينعقد الحج بإحرام من غير تعيين إفراد أو قران أو تمتع، وقد تقدم هذا مستقصى فى باب: من أهل فى زمن النبى عليه السلام كإهلال النبى. ومعنى حديث عمران فى هذا الباب كمعنى حديث جابر فى التلبية بالحج والتسمية له، ووجه ذلك أن عمران لم يكن ليقدم على القول عن نفسه وعن أصحابه أنهم تمتعوا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا وأنهم قد أسمع بعضهم بعضًا تلبيتهم للحج وتسميتهم له، ولولا ما تقدم لهم قبل تمتعهم من تسمية الحج والإهلال به لم يعلم عمران إن كانوا قصدوا مكة بحج أو عمرة، إذ عملهما واحد إلى موضع الفسخ، والفسخ لم يكن حينئذ إلا للمفردين بالحج، وهو الذين تمتعوا بالعمرة ثم حلوا ثم أحرموا بالحج، فدل هذا كله على أنه لابد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 من تعيين الحج أو العمرة عند الإهلال، وإن كان ذلك مفتقرًا إلى النية عند الدخول فيه. قال المهلب: وقول عمران: (تمتعنا على عهد النبى عليه السلام ونزل القرآن) فإنه يريد أن التمتع والقران معمول به على عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم ينسخه شئ، ونزل القرآن بإباحة العمرة فى أشهر الحج فى قوله تعالى: (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ) [البقرة: 196] وقوله: (قال رجل برأيه ما شاء) يعنى: من تركه والأخذ به، وأن الرأى بعد النبى عليه السلام باختيار الإفراد لا ينسخ ما سَنَّهُ من التمتع والقرانِ. 32 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [البقرة: 196] / 48 - فيه: ابْن عَبَّاسٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ، فَقَالَ: أَهَلَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ وَأَزْوَاجُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَهْلَلْنَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (اجْعَلُوا إِهْلالَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً إِلا مَنْ قَلَّدَ الْهَدْىَ) ، فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ، وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ، وَقَالَ: (مَنْ قَلَّدَ الْهَدْىَ، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لَهُ: (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ () ، ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَإِذَا فَرَغْنَا مِنَ الْمَنَاسِكِ جِئْنَا فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّنَا وَعَلَيْنَا الْهَدْىُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ (إِلَى أَمْصَارِكُمُ، الشَّاةُ تَجْزِى، فَجَمَعُوا نُسُكَيْنِ فِى عَامٍ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ فِى كِتَابِهِ وَسَنَّهُ نَبِيُّهُ، وَأَبَاحَهُ لِلنَّاسِ غَيْرَ أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 ) ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (وَأَشْهُرُ الْحَجِّ الَّتِى ذَكَرَ اللَّهُ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحَجَّةِ، فَمَنْ تَمَتَّعَ فِى هَذِهِ الأشْهُرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ أَوْ صَوْمٌ، وَالرَّفَثُ: الْجِمَاعُ، وَالْفُسُوقُ: الْمَعَاصِى، وَالْجِدَالُ: الْمِرَاءُ. اختلف العلماء: فى حاضرى المسجد الحرام مَنْ هُمْ؟ فذهب طاوس ومجاهد إلى أنهم أهل الحرم، وقالت طائفة: هم أهل مكة بعينها، روى هذا عن نافع مولى ابن عمر، وعن عبد الرحمن الأعرج، وهو قول مالك، قال: هم أهل مكة، ذى طوى وشبهها، وأما أهل منى وعرفة والمناهل مثل قديد وعسفان ومَرُّ الظهران فعليهم الدم. وذهب أبو حنيفة إلى أنهم أهل المواقيت فمن دونهم إلى مكة، وقال مكحول: من كان منزله دون المواقيت إلى مكة فهو من حاضرى المسجد الحرام، وأما أهل المواقيت فهم كسائر أهل الآفاق، روى هذا عن عطاء، وبه قال الشافعى بالعراق، وقال الشافعى: من كان من الحرم على مسافة لا يقصر فى مثلها الصلاة، فهو من حاضرى المسجد الحرام. قال الطحاوى: ولما اختلفوا فى ذلك نظرنا فوجدنا أصحابنا الكوفيين يقولون: لكل من كان من حاضرى المسجد الحرام دخول مكة بغير إحرام، إذ كانوا قد جعلوا المكان الذى هم من أهله كمكة، واحتجوا فيه بما روى مالك عن نافع، عن ابن عمر: (أنه أقبل من مكة حتى إذا كان بقديد بلغه خبر من المدينة، فرجع فدخل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 مكة حلالا) ؛ فدل هذا على أن أهل قديد كأهل مكة، وقد روى عن ابن عباس خلاف هذا، وروى عنه عطاء أنه كان يقول: لا يدخل أحد مكة إلا محرمًا، وقال ابن عباس: (لا عمرة على المكى إلا أن يخرج من الحرم فلا يدخله إلا حرامًا وإن خرج قريبًا من مكة) ، فهذا ابن عباس قد منع الناس جميعًا من دخول مكة بغير إحرام، فدل هذا أن من كان غير أهل مكة فهو عنده مخالف لحكم أهل مكة، ويدل على صحة هذا المعنى قوله عليه السلام: (إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، ولم تحل لأحد قبلى، ولم تحل لى إلا ساعة من نهار) . أو لا ترى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قصد بالحرمة إلى مكة دون ما سواها، فدل ذلك أن سائر الناس سوى أهلها فى حرمة دخولهم إياها سواء، فثبت بذلك قول ابن عباس، وفى ثبوت ذلك ما يجب به أن حاضرى المسجد الحرام هم أهل مكة خاصة، كما قال نافع والأعرج، لا كما قال أبو حنيفة وأصحابه. قال إسماعيل بن إسحاق: ومن الحجة لمالك أن حاضرى المسجد الحرام أهل القرية التى فيها المسجد الحرام خاصة، وليس أهل الحرم كذلك؛ لأنه لو كان كذلك لما جاز لأهل مكة إذا أرادوا سفرًا أن يقصروا الصلاة حتى يخرجوا عن الحرم كله، فلما جاز لهم قصر الصلاة إذا خرجوا عن بيوت مكة، دل ذلك على أن حاضرى المسجد الحرام هم اهل مكة دون الحرم، قاله الأبهرى. قال إسماعيل: وأما قول من قال: من كان أهله دون المواقيت، فإن المواقيت ليس من هذا الباب فى شئ؛ لأنها لم تجعل للناس؛ لأنها حاضرة المسجد؛ ألا ترى أن بعض المواقيت بينها وبين مكة مسيرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 ثمان ليال، وبين بعضها وبين مكة مسيرة ليلتين، فيكون من كان دون ذى الحليفة إلى مكة من حاضرى المسجد الحرام وبينه وبين مكة ثمان ليال، ومن كان منزله من وراء قرن مما يلى نجد ألا يكون من حاضرى المسجد الحرام، وإنما بينه وبين مكة مسيرة ليلتين وبعض أخرى، وإنما الحاضر للشىء من كان معه، فكيف يجعل من هو أبعد حاضرًا ومن هو أقرب ليس بحاضرٍ؟ ودليل آخر: وهو قوله تعالى: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح: 25] فهذا يدل أنه المسجد الحرام نفسه، وإنما صد المشركون النبى (صلى الله عليه وسلم) عن المسجد وعن البيت، فأما الحرم فقد كان غير ممنوع منه؛ لأن الحديبية تلى الحرم، وهذا قاطع لطاوس ومجاهد. قال المؤلف: وأما قول ابن عباس فى التمتع: (فإن الله أنزله فى كتابه وسنة نبيه، وأباحه للناس غير أهل مكة) فإن مذهبه أن أهل مكة لا متعة لهم، وذلك والله أعلم لأن العمرة لابد فى الإحرام بها من الخروج إلى الحل، ومن كان من أهل مكة فهى داره لا يمكنه الخروج منها، وهى ميقاته فى الإحرام بالحج، وقد صرح بذلك ابن عباس فقال: (يا أهل مكة، لا متعة لكم، إنما يجعل أحدكم بينه وبين مكة بطن واد، ويُهِلُّ) . وهذا مذهب أبى حنيفة وأصحابه، قالوا: ليس لأهل مكة تمتع ولا قران، فإن فعلوا فعليهم الدم، وأوجب ابن الماجشون الدم للقران ولم يوجبه للتمتع، واعتل ابن الماجشون بأن القارن قارن من حيثما حج، والمتمتع إنما هو المعتمر من بلده فى أشهر الحج المقيم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 بمكة حتى يحج، ومن كان أهلها فهى داره لا يمكنه الخروج منها إلى غير داره، وقد وضع الله ذلك عنه، ولم يذكر القارن. قال ابن القصار: وهذا خطأ؛ لأنه إذا جاز التمتع لأهل مكة فقد جاز لهم القران؛ لأنه لا فرق بينهما، واحتج أبو حنيفة بأن الاستثناء عنده فى الآية راجع إلى الجملة لا إلى الدم، قال: ولو رجع إلى الدم لقال: (ذلك على من لم يكن أهله) ، وقول القائل: إن لفلان كذا يفيد نفى الإيجاب عليه، ولهذا لا يقال: له الصلاة والصوم، وإنما يقال: عليه الصلاة والصوم. قال ابن القصار محتجا لمالك: قوله تعالى: (فَمَن تَمَتَّعَ (لفظ يقتضى إباحة التمتع، ثم علق عليه حكمًا وهو الهدى، ثم استثنى فى آخرها أهل مكة، والاستثناء إذا وقع بعد فعل قد علق عليه حكم انصَرف إلى الحكم المعلق على الفعل لا إلى الفعل نفسه، فأهل مكة وغيرهم فى إباحة التمتع الذى هو الفعل سواء، والفرق بينهم فى الاستثناء يعود إلى الدم؛ لأنه الحكم المعلق على التمتع، وهذا بمنزلة قوله عليه السلام: (من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن دخل منزله فهو آمن) فلو وصله بقوله: ذلك لمن لم يكن من أهل القينتين أو لغير ابن خطل لم يكن ذلك الاستثناء عائدًا إلا إلى الأمر، لا إلى الدخول، ولا يكون سائر الناس ممنوعين من دخول منازلهم ومنزل أبى سفيان، بل إن دخلوا فلهم الأمان كلهم إلا ابن خطل والقينتين ومن استثنى معهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 وقوله: (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ (لو تجرد من تمامه لم يعد كقوله: زيد لا يفيد بانفراده حتى يخبر عنه بقائم أو قاعد أو غيره، فكذلك قوله: (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ (لا يفيد شيئًا حتى يخبر عن حكمه، قوله: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ (هو الحكم الذى به تتم الفائدة. والفوائد إنما هى فى الأحكام المعلقة على أفعال العباد لا على أسمائهم، ومثله: (فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ) [الحجر: 30، 31] معناه: فإنه لم يسجد فلم تكن الفائدة فى الاستثناء راجعة إلا إلى نفى السجود الذى به يتم الكلام. قال غيره: فإنما أوجب الله الدم على المتمتع غير المكى؛ لأنه كان عليه أن يأتى مُحْرمًا بالحج من داره فى سفر، وبالعمرة فى سفر ثان، فلما تمتع بإسقاط أحد السفرين أوجب الله عليه الهدى، فكذلك القارن هو فى معنى المتمتع لإسقاط أحد السفرين، ودلت الآية على أن أهل مكة بخلاف هذا المعنى؛ لأن إهلالهم بالحج خاصة من مكة، ولا خروج لهم إلى الحل للإهلال إلا بالعمرة خاصة، فإذا فعلوا ذلك لم يُسْقِطُوا سفرًا لزمهم فلا دم عليهم، ففارقوا سائر أهل الآفاق فى هذا، وقد تقدم اختلافهم فيمن أحرم من مكة بالعمرة ولم يخرج إلى الحل للإحرام فى باب: مهل أهل مكة للحج والعمرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 33 - باب الاغْتِسَالِ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ / 49 - فيه: ابْنُ عُمَرَ، أنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ [أَدْنَى] الْحَرَمِ أَمْسَكَ عَنِ التَّلْبِيَةِ، ثُمَّ يَبِيتُ بِذِى طِوًى، ثُمَّ يُصَلِّى بِهِ الصُّبْحَ، وَيَغْتَسِلُ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. قال ابن المنذر: الاغتسال لدخول مكة مستحب عند جميع العلماء، إلا أنه ليس فى تركه عامدًا عندهم فدية، وقال أكثرهم: الوضوء يجزئ منه، وكان ابن عمر يتوضأ أحيانًا ويغتسل أحيانًا، وروى ابن نافع عن مالك أنه استحب الأخذ بقول ابن عمر فى الغسل للإهلال بذى الحليفة، وبذى طوى لدخول مكة، وعند الرواح إلى عرفة. قال: ولو تركه تارك من عذر لم أر عليه شيئًا، وقال ابن القاسم عن مالك: إن اغتسل بالمدينة وهو يريد الإحرام ثم مضى من فوره إلى ذى الحليفة فأحرم، فإِنَّ غسله يجزئ عنه، قال: وإن اغتسل بالمدينة غدوة وأقام إلى العشى ثم راح إلى ذى الحليفة فلا يجزئه، وأوجبه أهل الظاهر فرضًا على من أراد أن يحرم وإن كان طاهرًا، والأمة على خلافهم، وروى عن الحسن: إذا نسى الغسل للإحرام يغتسل إذا ذكر، واختلف فيه عن عطاء، فقال مرة: يكفى منه الوضوء، وقال مرة غير ذلك. قال المهلب: وإنما أمسك ابن عمر عن التلبية فى أول الحرم؛ لأنه تأول أنه قد بلغ إلى الموضع الذى دعى إليه، ورأى أن يكبر الله ويعظمه ويسبحه؛ إذ قد سقط عنه معنى التلبية بالبلوغ، وكره مالك التلبية حول البيت، وقال ابن عيينة: ما رأيت أحدًا يُقْتَدى به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 يلبى حول البيت إلا عطاء بن السائب. وروى عن سالم أنه كان يلبى فى طوافه، وبه قال ربيعة والشافعى وأحمد وإسحاق، فَكُل وَاسِعٌ. 34 - باب دُخُولِ مَكَّةَ نَهَارًا ولَيْلا / 50 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: بَاتَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِذِى طُوًى حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ. ذو طوى بضم الطاء: موضع بمكة، مقصور، وذو طوى بفتح الطاء: موضع باليمن، ممدود، قاله بعض أهل اللغة، وليس دخوله عليه السلام مكة إذا أصبح بأمر لازم لا يجوز تركه، ودخولها فى كل وقت واسع. 35 - باب مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ مَكَّةَ / 51 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَدْخُلُ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا، وَيَخْرُجُ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى. 36 - باب مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ؟ / 52 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِى بِالْبَطْحَاءِ، وَخَرَجَ مِنَ كَدَاءِ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى. / 53 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، لَمَّا جَاءَ إِلَى دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ أَعْلاهَا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا. وقالت مرة: دَخَلَ، عليه السَّلام، مِنْ كَدَاءٍ، وَخَرَجَ مِنْ كُدًا مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ. وَكَانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ عَلَى كِلْتَيْهِمَا، وَأَكْثَرُ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ، وَكَانَتْ أَقْرَبَهُمَا إِلَى مَنْزِلِهِ. قال المهلب: أما دخوله عليه السلام مرة من أعلى مكة ومرة من أسفلها، فإنما فعله ليعلم الناس السعة فى ذلك، وأن ما يمكن لهم منه فمجزئ عنهم والله أعلم ألا ترى أن عروة كان يفعل ذلك، وإذا فتحت الكاف من كَدَاء مددت، وإذا ضممتها قصرت، وقد قيل: كدى بالضم هو أعلى مكة، وقيل: بل كداء بفتح الكاف أعلى مكة، وهو أصح. 37 - باب فَضْلِ مَكَّةَ وَبُنْيَانِهَا وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا (إلى قوله: (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة: 125 - 128] . / 54 - فيه: جَابِر، لَمَّا بُنِيَتِ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَعَبَّاسٌ يَنْقُلانِ الْحِجَارَةَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِىِّ، عليه السَّلام: اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ، فَخَرَّ إِلَى الأرْضِ، وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: (أَرِنِى إِزَارِى، فَشَدَّهُ عَلَيْهِ) . / 55 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ لَهَا: (أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَلى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ) ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: (لَوْلا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ) ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَا أُرَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) تَرَكَ اسْتِلامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلا أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ. / 56 - وفيه: عَائِشَةَ، سَأَلْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، عَنِ الْجَدْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: (نَعَمْ) ، قُلْتُ: فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِى الْبَيْتِ؟ قَالَ: (إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ) ، قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: (فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا، وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا، وَلَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ، فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِى الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأرْضِ) . / 57 - وقالت: قال عليه السَّلام: (لأمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالأرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ) . فَذَلِكَ الَّذِى حَمَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى هَدْمِهِ. قَالَ يَزِيدُ: وَشَهِدْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَهُ وَبَنَاهُ وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ حِجَارَةً كَأَسْنِمَةِ الإبِلِ. قَالَ جَرِيرٌ: فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ مَوْضِعُهُ؟ قَالَ: أُرِيكَهُ الآنَ، فَدَخَلْتُ مَعَهُ الْحِجْرَ، فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ، فَقَالَ: هَاهُنَا، قَالَ جَرِيرٌ: فَحَزَرْتُ مِنَ الْحِجْرِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوَهَا. قال المؤلف: قد ذكر الله فضل مكة فى غير موضع من كتابه، ومن أعظم فضلها أنه تعالى فرض على عباده حجها، وألزمهم قصدها، ولم يقبل من أحد إلا باستقبالها، وهى قبلة أهل دينه أحياءً وأمواتًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 وفى حديث عائشة معرفة بنيان قريش الكعبة، وقد بناها إبراهيم عليه السلام قبل ذلك، وقيل: إن آدم خط البيت قبل إبراهيم، وقد نقل فيه النبى عليه السلام الحجارة مع عمه العباس وقريش فى الجاهلية. وذكر أهل السير أن قريشًا لما بنت الكعبة وبلغت موضع الركن اختصمت فى الركن، أى القبائل يلى رفعه، فقالوا: تعالوا نحكم أول رجل يطلع علينا، فطلع النبى عليه السلام فحكموه وسموه الأمين، وكان ذلك الوقت ابن خمس وثلاثين سنة فيما ذكر ابن إسحاق، فأمر بالركن فوضع فى ثوب، ثم أَمَر سَيِّدَ كُلِّ قبيلةٍ فأعطاه ناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن فوضعه عليه السلام بيده، فعجبت قريش من سداد رأيه. وكان الذى أشار بتحكيم أول رجل يطلع عليهم أبو أمية ابن المغيرة، والد أم سلمة زوج النبى عليه السلام، وكان عامئذٍ أسَنَّ قريش كلها، وقد ذكر الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه إنما امتنع من رده على قواعد إبراهيم خشية إنكار قريش لذلك. وفى هذا من الفقه أنه يجب اجتناب ما يُسْرِعُ الناس إلى إنكاره وإن كان صوابًا، وقد روى أن هارون الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بناه الحجاج من الكعبة، وأن يرده إلى بنيان ابن الزبير، فقال له: ناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحد منهم إلا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس. وفى الحديث دليل أن الحجر من البيت، وإذا كان ذلك فإدخاله واجب فى الطواف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 واختلف العلماء فيمن سلك الحجر فى طوافه، فكان عطاء، ومالك، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور يقولون: يقضى ما طاف قبل أن يسلك فيه، ولا يعتد بما طاف فى الحجر، وقال أبو حنيفة: إن كان بمكة قضى ما بقى عليه، وإن رجع إلى بلده فعليه دم، واحتج المهلب وأخوه لهذا القول فقالا: إنما عليه أن يطوف بما بنى من البيت؛ لأن الحكم للبنيان لا للبقعة، لقوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29] أشار إلى البناء، والبقعة دون البناء لا تسمى بيتًا، والنبى عليه السلام إنما طاف بالبيت ولم يكن على الحجر علامة، وإنما علمها عمر إرادة استكمال البيت. ذكر ذلك عبيد الله بن أبى يزيد وعمرو بن دينار فى باب بنيان الكعبة فى آخر مناقب الصحابة فى هذا الديوان، قالا: (لم يكن حول البيت حائط، إنما كانوا يصلون حول البيت، حتى كان عمر فبنى حوله حائطًا جَدْرُهُ قصير، فبناه ابن الزبير) وكذلك كان الطواف قبل تحجير عمر حول البيت الذى قصرته قريش عن القواعد كما قال تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ) [الحج: 26] ، والطواف فرضه البيت المبنى ولو كان ذراعًا منه، وقد حج الناس من زمن النبى عليه السلام إلى زمن عمر فلم يؤمر أحد بالرجوع من بلده إلى استكمال. وقد قال مالك: من حلف لا يدخل دار فلان، فهدمت فدخلها أنه لا يحنث، فهذا يدل أن الدار والبيت إنما يخص بالبنيان لا بالبقعة. قال المهلب: ومعنى قول عبيد الله بن أبى يزيد وعمرو: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 (ولم يكن حول البيت حائط) أى حائط يحجر الحجر من سائر المسجد حتى حجره عمر بالبنيان، ولم يبنه على الجَدْر الذى كان علامة أساس إبراهيم عليه السلام بل زاد ووسع قطعًا للشك أن الجَدْر هو آخر قواعد إبراهيم، فلما لم يكن عند عمر أن ذلك الجدر هو آخر قواعد البيت التى رفعها إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام، على يقين، ونقلِ كافة، مع معرفته أن قريشًا كانت قد هدمت البيت وبنته على غير القواعد، خشى أن يكون الجدر من بنيان قريش القديم، فزاد فى الفسحة استبراء للشك، ووسع الحجر حتى صار الجدر فى داخل التحجير، وقد بان هذا فى حديث جرير وهو قوله: (فحزرت من الحجر ستة أذرع أو نحوها) . والحائط الذى بناه عمر حول الحجر ليس بحائط مرتفع، وهو من ناحية الحجر نحو ذراعين، ومن الجرف خارجه نحو أربعة أذرع إلى صدر الواقف من خارجه، ولم يكن الجدر الذى ظهر من أساس إبراهيم مرتفعًا، إنما كان علامة كالنجم والهدف لا بنيانًا. قال ابن القصار: والحجة لقول مالك إخبار الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن البيت قصر به عن قواعد إبراهيم ولم يتم عليها، فمن طاف فى الحجر حصل طائفًا ببعضه؛ لأن البيت ما خطه آدم وبناه إبراهيم، وقد قال عمر وابنه عبد الله: لولا أن الحجر من البيت ما طيف به. قال ابن عباس: الحجر من البيت، قال تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (، ورأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) طاف من وراء الحجر، فدل أنه إجماع، ومن لم يستوف الطواف بالبيت وجب ألا يجزئه، كما لو فتح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 بابا فى البيت فطاف وخرج منه، والباء عند سيبويه فى قوله تعالى: (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (للامتزاج والاختلاط لا للتبعيض، وسيأتى ذكر استلام الأركان فى موضعه إن شاء الله. والجَدْر: واحد الجدور، وهى الحواجز التى بين السواقى التى تمسك الماء، وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال: سمعت الوليد بن عطاء يحدث عن الحارث ابن عبد الله بن أبى ربيعة، عن عائشة، أن النبى عليه السلام قال لها: (وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟ قالت: لا، قال: تعززًا لئلا يدخلها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا كرهوا أن يدخلها يدعوه يرتقى حتى إذا كاد أن يدخلها دفعوه فسقط) . 38 - باب فَضْلِ الْحَرَمِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ (الآية [النمل: 91] ، وَقَوْلِهِ: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا (الآية [القصص: 57] . / 58 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: (إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلا مَنْ عَرَّفَهَا) . فيه: التصريح بتحريم الله تعالى مكة والحرم وتخصيصها بذلك من بين البلاد، قال القاضى أبو بكر بن الطيب: وقد اعترض تحريمَ الله لمكة وأنه جعلها حرمًا آمنًا قوم من أهل البدع وقالوا: قد قُتل خلق بالحرم والبيت من الأفاضل كعبد الله بن الزبير ومن جرى مجراه، وهو تكذيب للخبر، زعموا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 قال القاضى: ولا تعلق لهم بذلك؛ لأن هذا القول خرج مخرج الخبر، والمراد به الأمر بأمان من دخل البيت وألا يقتل، ولم يرد الإخبار عن أن كل داخل إليه آمن، فعلى مثل هذا خرج قول الرسول عليه السلام: (من ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل الكعبة ودخل دار أبى سفيان فهو آمن) . إنما قصد الأمر بأمان من ألقى سلاحه ودخل فى هذه المواضع، ولم يرد بذلك الخبر، ومثل هذا قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ) [البقرة: 228] يعنى بذلك الأمر لهن بالتربص دون الخبر عن تربص كل مطلقة؛ لأنها قد تعصى الله ولا تتربص، فكذلك قال: (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 97] ، أى أَمِّنُوا من دخله. وهو على صفة من يجب أن يُؤَمَّنَ، فمن لم يفعل ذلك عصى الله تعالى وخالف، ومتى جعل هذا القول أمرًا بطل تمويههم، وقد يجوز أن يكون أراد تعالى: ومن دخله كان آمنًا يوم الفتح وقت قوله عليه السلام: (من ألقى سلاحه فهو آمن ومن دخل دار أبى سفيان كان آمنًا، ومن اعتصم بالكعبة كان آمنًا) فلا يناقض عدم الأمن فى غير ذلك الوقت وجوده فيه، فيكون قوله أن من دخل البلد الحرام كان آمنًا فى بعض الأوقات دون بعضها، وسيأتى فى باب: (لا يحل القتال بمكة) من كتاب الحج زيادة فى بيان هذا المعنى والله الموفق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 39 - بَاب تَوريثِ دُورِ مكةَ وبَيِعها وشِرائها وأنَّ الناسَ فِى المسجدِ الحَرامِ سواء خاصَّة، لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) [الحج: 25] . / 59 - فيه: أُسَامَةَ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ فِى دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ: (وَهَلْ تَرَكَ عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ) ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ، هُوَ وَطَالِبٌ، وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلا عَلِىٌّ شَيْئًا لأنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: لا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ. وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانُوا يَتَأَوَّلُونَ قَوْلَ اللَّهِ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (الآيَةَ [الأنفال: 72] . اختلف السلف فى تأويل قوله تعالى: (سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) [الحج: 25] فروى عن عطاء أنه قال: الناس فى البيت سواء ليس أحد أحق به من أحد، وروى نحوه عن ابن عباس، وقال مجاهد: أهل مكة وغيرهم فى المنازل سواء. قال الطحاوى: وقد اختلف العلماء فى بيعها وكرائها، فذكر عن عطاء ومجاهد أنه لا يحل بيع أرض مكة ولا كرائها، وهو قول أبى حنيفة والثورى ومحمد، وكره مالك بيعها وكراءها. وخالفهم آخرون فقالوا: لا بأس ببيع أرضها وإجازتها، وجعلوها كسائر البلدان، هذا قول أبى يوسف، وذكر ابن المنذر عن الشافعى وطاوس إباحة الكرى، وكان أحمد بن حنبل يتوقى الكراء فى الموسم، ولا يرى بأسًا بالشراء، واحتج بأن عمر اشترى دار السجن بأربعة آلاف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 قال الطحاوى: واحتج من أجاز بيعها وكراءها بحديث أسامة؛ لأنه ذكر فيه ميراث عقيل وطالب لما تركه أبو طالب فيها من رباع ودور، قال الشافعى: فأضاف الملك إليه وإلى من ابتاعها منه. قال الطحاوى: واعتبرنا ذلك فرأينا المسجد الحرام الذى كل الناس فيه سواء لا يجوز لأحد أن يبتنى فيه بناء، ولا يحتجز منه موضعًا، وكذلك حكم جميع المواضع التى لا يقع لأحد فيها ملك وجميع الناس فيها سواء؛ ألا ترى أن عرفة لو أراد رجل أن يبتنى فى المكان الذى يقف الناس فيه منها بناء لم يكن له ذلك، وكذلك نى لو أراد أن يبتنى فيها دارًا كان من ذلك ممنوعًا. وكذلك جاء الأثر عن النبى عليه السلام روى إبراهيم بن مهاجر عن يوسف بن ماهك، عن أمه، عن عائشة أنها قالت: (يا رسول الله، ألا تتخذ لك بمنى شيئًا تستظل فيه؟ قال: (يا عائشة، إنها مُناخ لمن سبق) وكانت أم يوسف بن ماهك تخدم عائشة فسألت مكان عائشة بعدما توفى النبى عليه السلام أن تعطيها إياه فقالت لها عائشة: لا أحل لك ولا لأحد من أهل بيتى أن يستحل هذا المكان) ، تعنى مِنىً، فهذا حكم المواضع التى الناس فيها سواء ولا ملك لأحد عليها. ورأينا مكة على غير ذلك، قد أجيز البناء فيها، وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم دخلها: (من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن) . فأثبت لهم أملاكهم، فلما كانت مما يغلق عليه الأبواب ومما يبنى فيها المنازل كانت صفتها صفة المواضع التى تجرى عليها الأملاك وتقع فيها المواريث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 وقال غيره: ألا ترى أن عمر اشترى دار السجن من صفوان، ومحال أن يشترى منه ما لا يجوز له ملكه، وقد ثبت عن الصحابة أنهم كانت لهم الدور بمكة، منهم أبو بكر الصديق، والزبير بن العوام، وحكيم بن حزام، وعمرو بن العاص، وصفوان بن أمية وغيرهم، وتبايع أهل مكة لدورهم قديمًا أشهر من أن يخفى. واحتج الذين كرهوا بيع دور مكة وكراءها بحديث علقمة بن نضلة قال: (توفى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبو بكر وعمر وما ترعى رباع مكة إلا السوائب) . وبما رواه نافع، عن ابن عمر أن عمر كان ينهى أن تغلق دور مكة فى زمن الحاج. وقال إسماعيل بن إسحاق: وما تأول مجاهد فى الآية فظاهر القرآن يدل على أنه المسجد الذى يكون فيه النسك والصلاة، لا سائر دور مكة، قال الله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [الحج: 25] أى: ويصدون عن المسجد الحرام، فدل ذلك كله على أن الذى كان المشركون يفعلونه هو التملك على المسجد الحرام وادعاؤهم أنهم أربابه وولائه، وأنهم منعوا منه ومن أرادوا ظلمًا، وأن الناس كلهم فيه سواء، فأما المنازل والدور فلم تزل لأهل مكة غير أن المواساة تجب إذ كانت الضرورة، ولعل عمر فعل ذلك على طريق المواساة عند الحاجة والله أعلم. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وحديث أسامة حجة فى أن من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 خرج من بلده مسلمًا وبقى أهله وولده فى دار الكفر ثم غزا مع المسلمين بلده؛ أن أهله وماله وولده على حكم البلد كما كانت دار النبى عليه السلام على حكم البلد وملكه، ولم ير نفسه أحق بها، وهذا قول مالك فى (المدونة) ، وبه قال الليث، وسيأتى اختلاف العلماء فى هذه المسألة فى كتاب الجهاد فى باب: (إذا غنم المشركون مال المسلم ثم وجده المسلم) إن شاء الله، وبيان مذاهبهم فيها، وفى حديث أسامة أن المسلم لا يرث الكافر، وسيأتى بيان ذلك أيضًا فى كتاب الفرائض إن شاء الله. 40 - بَاب نُزُولِ النَّبِىِّ عليه السَّلام مَكَّةَ / 60 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، حِينَ أَرَادَ قُدُومَ مَكَّةَ وَهُوَ بِمِنًى الغَدِ مِن يَوْمَ النَّحْرِ: (مَنْزِلُنَا غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِى كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ) . يَعْنِى ذَلِكَ الْمُحَصَّبَ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَكِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِى هَاشِمٍ، وَبَنِى عَبْدِالْمُطَّلِبِ، أَوْ بَنِى الْمُطَّلِبِ، أَنْ لا يُنَاكِحُوهُمْ وَلا يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا إِلَيْهِمُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: بَنِى الْمُطَّلِبِ أَشْبَهُ. قال المؤلف: قد فسر ابن عباس أن نزول النبى عليه السلام بالمحصب لم يكن سنة، وقال: المحصب ليس بشئ، فإنما هو منزل نزله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليكون أسمح لخروجه، يعنى: إلى المدينة. وذكر أهل السير أنهم بقوا ثلاث سنين فى الشِّعب وكان المشركون كتبوا صحيفة لبنى هاشم وبنى المطلب بالتبرؤ منهم، وألا يقبلوا منهم صلحاَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 أبدًا، ولا يدخلوا إليهم طعامًا، وعلقوا الصحيفة فى الكعبة، فاشتد عليهم البلاء فى الشِّعب. وكان قوم من قصى ممن ولدتهم بنو هاشم قد أجمعوا على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة، فبعث الله عند ذلك الأرضة على الصحيفة، فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق لهم، ولم تترك فيها اسمًا من أسماء الله عز وجل إلا لحسته وبقى ما كان فيها من شرك أو ظلم أو قطيعة رحم، فأطلع الله رسوله على ذلك، فذكر ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأبى طالب فقال أبو طالب: لا والثواقب ما كذبتنى، فانطلق فى عصابة من بنى عبد المطلب حتى أتوا المسجد وهم خائفون لقريش، فلما رأتهم قريش أنكروهم، وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) برمته إليهم. فقال أبو طالب: جرت بيننا وبينكم أمور لم نذكرها لكم، فائتوا بصحيفتكم التى فيها مواثيقكم فلعله أن يكون بيننا صلح، وإنما قال ذلك أبو طالب خشية أن ينظروا فى الصحيفة قبل أن يأتوا بها، فأتوا بها معجبين لا يشكون أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يدفع إليهم. فلما وضعوها قال أبو طالب: إنما أتيناكم فى أمر هو نصف بيننا وبينكم، إن ابن أخى لم يكذبنى، إن هذه الصحيفة قد بعث الله عليها دابة لم تترك فيها اسمًا لله إلا لحسته، وتركت فيها غدركم وظلمكم لنا، فإن كان الحديث كما يقول فلا والله لا نسلمه حتى نموت، وإن كان باطلا دفعنا إليكم صاحبكم فقتلتم أو استحييتم، فقالوا: رضينا، ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق عليه السلام قد أخبر بالحق، قالوا: هذا سحر ابن أخيك، وزادهم ذلك بغيًا وعدوانًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 قال ابن شهاب: فلما أفسد الله صحيفة مكرهم خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ورهطه، فعاشوا وخالطوا الناس، ثم أذن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالهجرة إلى المدينة، وكان الذى كتب الصحيفة منصور بن عكرمة بن هاشم بن عبد العزى، وذكر أنه شلت يده بعد ذلك، عن ابن إسحاق. قال الخطابى: الخيف: ما انحدر عن الجبل، وارتفع عن المسيل، وبه سمى مسجد الخيف. 41 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ (الآيات [إبراهيم: 35 - 37] وقوله: (جَعلَ اللهُ الكعبةَ البيتَ الحَرامَ قِيامًا للناسِ (الآية [المائدة: 97] . / 61 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ) . / 62 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانُوا يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ، وَكَانَ يَوْمًا تُسْتَرُ فِيهِ الْكَعْبَةُ، فَلَمَّا فَرَضَ اللَّهُ رَمَضَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ شَاءَ أَنْ يَصُومَهُ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَتْرُكْهُ) . / 63 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (لَيُحَجَّنَّ الْبَيْتُ وَلَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) . وروى شُعْبَةَ، عن قَتَادَة: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لا يُحَجَّ الْبَيْتُ) ، وَالأوَّلُ أَكْثَرُ. اختلف السلف فى تأويل قوله تعالى: (قِيامًا للناسِ ( الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 فقال سعيد بن جبير: قوامًا لدينهم وعصمة لهم، وقال عطاء: (قِيامًا للناسِ (: لو تركوه عامًا لم يُنظروا أن يهلكوا. وأما حديث عائشة فهو مصدق للآية، ومعناه: أن المشركين كانوا يعظمون الكعبة قديمًا بالستور والكسوة ويقومون إليها كما يفعل المسلمون، وأما حديث أبى هريرة أن ذا السويقتين يخرب الكعبة، فهو مبين لقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) [إبراهيم: 53] أن معناه الخصوص، وأن الله تعالى جعلها حرمًا آمنًا غير وقت تخريب ذى السويقتين لها؛ لأن ذلك لا يكون إلا باستباحته حرمتها وتغلبه عليها، ثم تعود حرمتها ويعود الحج إليها كما أخبر الله نبيه وخليله إبراهيم فقال له: (وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج: 27] فهذا شرط الله لا ينخرم ولا يحول، وإن كان فى خلاله وقت يكون فيه خوف فلا يدوم ولابد من ارتفاعه ورجوع حرمتها وأمنها وحج العباد إليها، كما كان قبل إجابته لدعوة إبراهيم خليله، يدل على ذلك حديث أبى سعيد الخدرى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (ليحججن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج) . وعلى هذا التأويل لا تتضاد الآثار ولا معنى الآية، ولو صح ما ذكره قتادة لكان ذلك وقتًا من الدهر، ويحتمل أن يكون ذلك وقت تخريب ذى السويقين لها بدليل حديث أبى سعيد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 42 - باب كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ / 64 - فيه: عُمَرَ، أنَّهُ جَلَس عَلَى الْكُرْسِىِّ فِى الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلا بَيْضَاءَ إِلا قَسَمْتُهُ، قُلْتُ: إِنَّ صَاحِبَيْكَ لَمْ يَفْعَلا، قَالَ: هُمَا الْمَرْءَانِ أَقْتَدِى بِهِمَا. قال ابن جريج: زعم بعض علمائنا أن أول من كسا الكعبة إسماعيل، عليه السلام. قال ابن جريج: وبلغنى أن تُبَّعًا أول من كساها، ولم تزل الملوك فى كل زمان يكسونها بالثياب الرفيعة، ويقومون بما تحتاج إليه من المؤنة تبركًا بذلك، فرأى عمر أن ما فيها من الذهب والفضة لا تحتاج إليه الكعبة لكثرته، فأراد أن يصرفه فى منافع المسلمين نظرًا لهم وحيطة عليهم، فلما أخبره شيبة بأن النبى (صلى الله عليه وسلم) وأبا بكر لم يتعرضا لذلك وتركاه أمسك وصوب فعلهما، وإنما ترك ذلك والله أعلم لأن ما جعل فى الكعبة وسبل لها يجرى مجرى الأوقاف، ولا يجوز تغيير الأوقاف عن وجوهها ولا صرفها عن طرقها، وفى ذلك أيضًا تعظيم للإسلام وحرمانه، وترهيب على العدو، وقد روى ابن عيينة عن عمرو، وعن الحسن قال: قال عمر ابن الخطاب: (لو أخذنا ما فى هذا البيت، يعنى الكعبة، فقسماه، فقال له أبىّ بن كعب: والله ما ذلك لك، قال: ولم؟ قال: لأن الله بين موضع كل مال، وأقره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . قال: صدقت) . فإن قال قائل: ما وجه ترجمة هذا الباب بباب كسوة الكعبة ولا ذكر فيه لكسوة؟ قيل له: معنى الترجمة صحيح، ووجهها أنه معلوم أن الملوك فى كل زمان كانوا يتفاخرون بكسوة الكعبة برفيع الثياب المنسوجة بالذهب وغيره، كما يتفاخرون بتسبيل الأموال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 إليها، فأراك البخارى أن عمر لما رأى قسمة الذهب والفضة الموقفين بهما على أهل الحاجة صوابًا، كان حكم الكسوة حكم المال، تجوز قسمتها، بل ما فضل من كسوتها أولى بالقسمة على أهل الحاجة من قسمة المال، إذ قد يكون نفقة المال فيما تحتاج إليه الكعبة فى إصلاح ما يهى منها، وفى [. . . . . .] وأجرة قيم، والكسوة لا تدعو إليها ضرورة وبكفى منها بعضها. وفى هذا حجة لمن قال: إنه يجوز صرف ما فضل فى سبيل من سبل الله فى سبيل آخر من سبل الله إذا كان ذلك صوابًا، وفى فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) وفعل أبى بكر حجة لمن رأى إبقاء الأموال على ما سبلت عليه، وترك تغييرها عما جعلت له، وفى قوله: (هما المرآن أقتدى بهما) من الفقه ترك خلاف كبار الأئمة وفضل الاقتداء بهما، وأن ذلك فعل السلف. 43 - باب هَدْمِ الْكَعْبَةِ / 65 - فيه: عَائِشَةُ: قَالَ عليه السَّلام: (يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَيُخْسَفُ بِهِمْ) . / 66 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (كَأَنِّى بِهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَ، يَقْلَعُهَا حَجَرًا حَجَرًا) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 / 67 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ، عليه السَّلام: (يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ) . فى هذه الآثار إخبار عما يكون من الحدثان والأشراط، وذلك يكون فى أوقات مختلفة، فحديث عائشة أن الجيش الذى يغزو الكعبة يخسف بهم هو فى وقت غير وقت هدم ذى السويقتين لها، ويمكن أن يكون هدمه لها عند اقتراب الساعة والله أعلم، ولا يدل ذلك أن الحج ينقطع؛ فقد أخبر عليه السلام أن البيت يحج بعد خروج يأجوج ومأجوج، وأن عيسى ابن مريم يحج ويعتمر بعد ذلك، وقال صاحب العين: الفحج: تباعد ما بين أوساط الساقين، والنعت: أفحج. 44 - باب مَا ذُكِرَ فِى الْحَجَرِ الأسْوَدِ / 68 - فيه: عُمَرَ، أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ الأسْوَدِ، فَقَبَّلَهُ، فَقَالَ: إِنِّى أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ، وَلَوْلا أَنِّى رَأَيْتُ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ. قال الطبرى: إنما قال ذلك عمر والله أعلم؛ لأن الناس كانوا حديث عهد بعبادة الأصنام، فخشى عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر هو مثل ما كانت العرب تفعله فى الجاهلية، فأراد عمر أن يعلم أن استلامه لا يقصد به إلا تعظيم الله تعالى والوقوف عند أمر نبيه عليه السلام إذ ذلك من شعائر الحج التى أمر الله بتعظيمها، وأن استلامه مخالف لفعل أهل الجاهلية فى عبادتهم الأصنام؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنها تقربهم إلى الله زلفى، فنبه عمر على مجانبة هذا الإعتقاد، وأنه لا ينبغى أن يعبد إلا من يملك الضر والنفع، وهو الله تعالى. وقال المهلب: حديث عمر هذا يرد قول من قال: إن الحجر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 يمين الله فى الأرض، يصافح بها عباده، ومعاذ الله أن يكون لله جارحة مجسمة بائنة عن ذاته، وإنما شرع النبى عليه السلام تقبيله على ما كانت شريعة إبراهيم عليه مع أن معناه التذلل لله والخضوع، والائتمار لما امر به على لسان نبى من أنبيائه، وليعلم عيانًا ومشاهدة طاعة من أطاع أمره، وعصيان من أبى من امتثاله، وهى شبيهة بقصة إبليس فيما أمر به من السجود لآدم اختبارًا له. وروى عن ابن عباس أن استلام الحجر مبايعة الله عز وجل. وقال مالك فى المجموعة: إذا استقبل الركن حمد الله وكبر. وقيل: أيرفع يديه عنده؟ قال: ما سمعت، ولا عند رؤية البيت. وقال مكحول: كان عليه السلام إذا رأى البيت رفع يديه وقال: اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا ومهابة، وزد من شَرَفِهِ وكَرَمِهِ مَنْ حج إليه واعتمر تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا، ويقال عند استلام الركن: بسم الله، والله أكبر، اللهم إيمانًا بك وتصديقًا بما جاء به محمد نبيك. 45 - باب إِغْلاقِ الْبَيْتِ وَيُصَلِّى فِى أَىِّ نَوَاحِى الْبَيْتِ شَاءَ / 69 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِلالٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْبَيْتَ، فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا فَتَحُوا كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ، فَلَقِيتُ بِلالا فَسَأَلْتُهُ هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: نَعَمْ، بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ. قال المؤلف: قال الشافعى: من صلى فى جوف الكعبة مستقبلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 حائطًا من حيطانها فصلاته جائزة، فإن صلى نحو الباب والباب مفتوح فصلاته باطل؛ لأنه لم يستقبل شيئًا منها، فكأنه استدل على ذلك بغلق النبى عليه السلام الباب عل نفسه حين صلى، فيقال له: لم يغلق النبى (صلى الله عليه وسلم) على نفسه الباب حين صلى فى الكعبة إلا لئلا يكثر الناس عليه فيه فيصلوا بصلاته، ويكون ذلك عندهم من مناسك الحج، كما فعل النبى عليه السلام فى صلاة الليل حين لم يخرج إليهم خشية أن يكتب عليهم، ولو كان غلق الباب من أجل أنه لا تجوز الصلاة فى البيت نحو الباب وهو مفتوح لبيَّنه عليه السلام لأمته؛ لأنه قد علم أنهم لابد لهم من دخول البيت والصلاة فيه، فلا معنى لقول الشافعى. قال ابن القصار: ويقال: إنه من صلى فى جوفها نحو الباب وهو مفتوح فقد استقبل بعض أرض الكعبة واستدبر الباقى منها، فكان يجب أن تجزئه عنده؛ لأنه لو انهدمت حيطان الكعبة صلى فى أرضها وأجزأه ذلك عنده. 46 - باب الصَّلاةِ فِى الْكَعْبَةِ / 70 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ مَشَى قِبَلَ الْوَجْهِ حِينَ يَدْخُلها، وَيَجْعَلُ الْبَابَ قِبَلَ الظَّهْرِ، يَمْشِى حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ الَّذِى قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيبًا مِنْ ثَلاثِ أَذْرُعٍ، فَيُصَلِّى يَتَوَخَّى الْمَكَانَ الَّذِى أَخْبَرَهُ بِلالٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى فِيهِ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَأْسٌ أَنْ يُصَلِّىَ فِى أَىِّ نَوَاحِى الْبَيْتِ شَاءَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 وقد تقدمت مذاهب العلماء فى الصلاة فى الكعبة فى أبواب القبلة فى كتاب الصلاة فى باب قوله تعالى: (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة: 125] فأغنى عن إعادته. وقال ابن المنذر: اختلف بلال وأسامة فى صلاة النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الكعبة، فحكم أهل العلم لبلال على أسامة؛ لأنه شاهد، وأسامة نافٍ غيرُ شاهد، وكذلك الفضل أيضًا نافٍ، والشاهد أولى من النافى؛ لأن الشاهد يحكى فعلا حفظه، والنافى غير حافظ لشىء يؤديه، وقد روينا حديثًا هو كالدليل فى هذا الباب على أن أسامة كان يغيب عن النبى عليه السلام فيحتمل أن يكون صلى فى غيبته. حدثنا على بن عبد العزيز، حدثنا عاصم بن على قال: حدثنى ابن أبى ذئب، عن عبد الرحمن بن مهران، عن عمير مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد قال: (رأى النبى عليه السلام صورًا فى الكعبة، قال: فكنت آتية بماء فى الدلو ويضرب به الصور، وقال: قاتل الله قومًا يصورون ما لا يخلقون) . وروى موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله أن عائشة كانت تقول: (عجبًا لمن يدخل فى الكعبة كيف يرفع رأسه إعظامًا لله وإجلالاً، دخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الكعبة فما خلف بصره موضع سجوده) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 47 - باب مَنْ لَمْ يَدْخُلِ الْكَعْبَةَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَحُجُّ كَثِيرًا وَلا يَدْخُلُ. / 71 - فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَهُ مَنْ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْكَعْبَةَ؟ قَالَ: لا. ليس دخول الكعبة من مناسك الحج؛ ألا ترى أن النبى عليه السلام لم يدخلها حين اعتمر، فمن دخلها فهو حسن، ومن لم يدخلها فلا شىء عليه، وروى عن ابن عباس أنه قال: دخول الكعبة ليس من نسككم. 48 - باب مَنْ كَبَّرَ فِى نَوَاحِى الْكَعْبَةِ / 72 - فيه: ابْن عَبَّاس، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَمَّا قَدِمَ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الآلِهَةُ، فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ، فَأَخْرَجُوا صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فِى أَيْدِيهِمَا الأزْلامُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطُّ، فَدَخَلَ الْبَيْتَ فَكَبَّرَ فِى نَوَاحِيهِ، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ) . قد تقدم فى باب الصلاة فى الكعبة، وفى كتاب الصلاة أن الناس تركوا رواية ابن عباس وأسامة، وأخذوا بقول بلال: (أنه عليه السلام صلى فى الكعبة) وقد روى عن ابن عباس فى هذه المسألة أنه قال: فترك الناس قولى، وأخذوا بقول بلال. فهذا يدل على أن العمل على الحكم للمثبت وترك النافى، وعليه جمهور الفقهاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 وفى هذا الحديث من الفقه: أنه يجب على العالم والرجل الفاضل اجتناب مواضع الباطل، وأن لا يشهد مجالس الزور، وينزه نفسه عن ذلك. قال الطبرى: وفيه من الفقه الإبانة عن كراهة دخول النبى (صلى الله عليه وسلم) بيتًا فيه صورة، وذلك لأن الآلهة التى كانت فى البيت يومئذ إنما كانت تماثيل وصورًا، وقد تظاهرت الأخبار عنه عليه السلام أنه كان يكره دخول بيت فيه صورة، فإن قال قائل: الإحرام دخول البيت الذى فيه التماثيل والصور؟ قيل: لا، ولكنه مكروه، وسأتقصى الكلام فى ذلك فى كتاب اللباس والزينة فى باب: من كره القعود على الصور، وفى باب: لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة إن شاء الله. قال الطبرى: والأزلام جمع زلم، ويقال: زلم، وهى قداح كانت الجاهلية يتخذونها يكتبون على بعضها: نهانى ربى، وعلى بعضها: أمرنى ربى، وعلى بعضها: نعم، وعلى بعضها: لا، فإذا أراد أحدهم سفرًا أو غير ذلك، دفعوها إلى بعضهم حتى يقبضها، فإن خرج القدح الذى عليه أمرنى ربى مضى، وإن خرج الذى مكتوب نهانى ربى كَفَّ عن الذى أراد من العمل. والاستقسام: الاستفعال من قسم الرزق والحاجات، وذلك طلب أحَدِهم بالأزلام على ما قسم له فى حاجته التى يلتمسها من نجاح أو حرمان، فأبطل الله ذلك من فعلهم وأخبر أنه فسق، وإنما جعله فسقًا؛ لأنهم كانوا يستقسمون عند آلهتهم التى يعبدونها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 ويقولون: يا إلهنا، أخرج الحق فى ذلك، ثم يعلمون بما خرج فيه، فكان ذلك كفرًا بالله، لإضافتهم ما يكون من ذلك من صواب أو خطأ إلى أنه من قسم آلهتهم، فأخبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن إبراهيم وإسماعيل أنهما لم يكونا يستقسمان بالأزلام، وإنما كانا يفوضان أمرهما إلى الله الذى لا يخفى عليه علم ما كان وما هو كائن؛ لأن الآلهة لا تضر ولا تنفع. 49 - باب كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الرَّمَلِ؟ / 73 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ، وَقَدْ وَهَنَهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام أَنْ يَرْمُلُوا الأشْوَاطَ الثَّلاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأشْوَاطَ كُلَّهَا إِلا الإبْقَاءُ عَلَيْهِمْ. ذكر ابن أبى شيبة قال: حدثنا عبد الأعلى، عن الجريرى، عن أبى الطفيل قال: قلت لابن عباس: (ألا تحدثنى عن الرمل، فإن قومك زعموا أنه سنة، قال: صدقوا وكذبوا، قلت: ما صدقوا وكذبوا؟ قال: قدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مكة فقال أهل مكة: إن محمدًا وأصحابه لا يستطعون أن يطوفوا من الهزل، وأهل مكة ناس حُسَّد، فبلغ ذلك النبى عليه السلام فاشتد عليه فقال: أَرُوهُمُ اليومَ منكم ما يكرهون، قال: فرمل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه الثلاثة الأشواط، ومشوا الأربعة) . وروى فطر عن أبى الطفيل، عن ابن عباس (فكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يرمل من الحجر الأسود إلى الركن اليمانى، فإذا توارى عنهم مشى) . ففى هذا الحديث أن الرمل كان من أَجْلِهم، لا لأنه سنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 قال المهلب: وفيه من الفقه أن إظهار القوة للعدو فى الجسام والعدة والسلاح، ومفارقة الهدوء والوقار فى ذلك من السنة، كما أمر النبى عليه السلام بالخب فى الثلاثة الأشواط، ومثله إباحته عليه السلام للحبشة اللعب فى المسجد بالحراب لهذا المعنى، والمسجد ليس بموضع لعب، بل هو موضع وقار وخشوع لله تعالى، لكن لما كان من باب القوة والعدة والرهبة على المنافقين وأهل الكتاب المجاورين لهم أباحه فى المسجد؛ لأنه أمر من امر جماعة المسلمين، والمسجد الجماعة المسلمين، وقال صاحب الأفعال: رمل رملا: أسرع فى المشى، وقال صاحب العين: الرمل: ضرب من المشى، والشوط: جرى مرة إلى الغاية، والجمع أشواط، وقال الطبرى: يقال: شاط يشوط شوطًا، إذا عدا غَلْوَةً بعيدة. 50 - باب اسْتِلامِ الْحَجَرِ الأسْوَدِ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ وَيَرْمُلُ ثَلاثًا / 74 - فيه: ابْن عُمَرَ، رَأَيْتُ النَّبِىّ، عليه السَّلام، حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الأسْوَدَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلاثَةَ أشواط مِنَ السَّبْعِ. سنة الطواف أن يبدأ الداخل مكة بالحجر الأسود فيقبله إن استطاع، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 أو يمسحه بيمينه ويقبلها بعد أن يضعها عليه، فإن لم يقدر قام بحذائه فكبر ثم أخذ فى طوافه، ثم مضى على يمينه على باب الكعبة إلى الركن الذى لا يستلم، ثم إلى الذى يليه مثله، ثم إلى الركن الثالث، وهو اليمانى الذى يستلم، ثم إلى الركن الأسود، وهذه طوفة واحدة، يفعل ذلك ثلاثة أطواف يرمل فيها، ثم أربعة لا يرمل فيها، وهذا إجماع من العلماء أنه من فعل هذا فقد فعل ما ينبغى، فإن لم يطف كما وصفنا، وجعل البيت عن يمينه ومضى من الركن الأسود على يساره فقد نكس طوافه، ولم يجزئه عند مالك والشافعى وأبى ثور، وعليه أن يرجع من بلاده ويطوف؛ لأنه كمن لم يطف، لخلافه سنة النبى عليه السلام فى طوافه، ومن خالفه فَفِعْلُه رد، والمردود غير مقبول. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يعيد الطواف ما كان بمكة، فإذا بلغ الكوفة أو أبعد كان عليه دم ويجزئه، واحتجوا بقوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29] . قالوا: ولم يفرق بين طواف منكوس أو غيره، فوجب أن يجزئه، والخب: ضرب من العَدْو، يقال: خبت الدابة تخب خبا، إذا أسرعت المشى وراوحت بين قدميها، وكذلك تقول العرب للخيل إذا وصفتها بسرعة السير: مراوحة بين أيديها، فأما إذا رفعت أيديها معًا ووضعتها كذلك فذلك التقرين لا الخَبَب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 51 - باب الرَّمَلِ فِى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ / 75 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، سَعَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، ثَلاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَمَشَى أَرْبَعَةً فِى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. / 76 - وفيه: عُمَرَ، أنه قَالَ لِلرُّكْنِ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ، وَلَوْلا أَنِّى رَأَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ، فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ قَالَ: فَمَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: شَىْءٌ صَنَعَهُ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) فَلا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ. / 77 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: مَا تَرَكْتُ اسْتِلامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ فِى شِدَّةٍ وَلا رَخَاءٍ مُنْذُ رَأَيْتُ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يَسْتَلِمُهُمَا، قُلْتُ لِنَافِعٍ: أَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمْشِى بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ؟ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَمْشِى، لِيَكُونَ أَيْسَرَ لاسْتِلامِهِ. واختلف أهل العلم فى الرمل هل هو سنة لا يجب تركها فى الحج والعمرة أو لا؟ فروى عن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن عمر أن الرمل سنة لكل قادم مكة فى الثلاثة الأطواف الول، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وقال آخرون: ليس الرمل سنة، ومن شاء فعله، ومن شاء تركه، روى ذلك عن ابن عباس، وعطاء، وطاوس، والحسن، والقاسم، وسالم. واختلفوا فيما يجب على من تركه، فروى عن ابن عباس وهو المشهور عنه أنه لا شىء عليه، وبه قال عطاء، ورواه ابن وهب عن مالك، وهو قول أبى حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 وقال الحسن البصرى: عليه دم، وهو قول الثورى، ورواه معن عن مالك، وقال ابن القاسم: رجع عن ذلك مالك، وذكر ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وابن القاسم أن عليه الدم فى قليل ذلك وكثيره، واحتج بقول ابن عباس: من ترك من نسكه شيئًا فعليه دم. وهذا الاستدلال خطأ؛ لأن الأَشْهَر عن ابن عباس أن من شاء رمل، ومن شاء لم يرمل، ومذهبه أن من ترك الرمل فلا شىء عليه. وقال الطبرى: قد ثبت أن النبى عليه السلام رمل ولا مشرك يومئذ بمكة يرائى بالرمل، فكان معلومًا أنه من مناسك الحج، غير أنا لا نرى على من تركه عامدًا ولا ساهيًا قضاء ولا فدية؛ لأن من تركه فليس بتارك لعمل، وإنما هو تارك منه لهيئة وصفة، كالتلبية التى من سنة النبى عليه السلام فيها العج ورفع الصوت، فإن خفض الصوت بها كان غير مضيع للتلبية ولا تاركها، وإنما ضيع صفة من صفاتها، ولا يلزمه بترك العج ورفع الصوت قضاء ولا فدية. وأجمعوا أنه لا رَمَل على النساء فى طوافهن بالبيت ولا هرولة فى سعيهن بين الصفا والمروة، وكذلك أجمعوا أنه لا رمل على من أحرم بالحج من مكة من غير أهلها؛ لأنهم رملوا فى حين دخولهم مكة حين طافوا للقدوم. واختلفوا فى اهل مكة هل عليهم رمل؟ فكان ابن عمر لا يراه عليهم، واستحبه مالك والشافعى للمكى. وعلة من لم ير الرمل للمكى أنه من سنة القادم، وليس المكى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 بقادم، وعلة من استحبه للمكى فى طواف الإفاضة؛ لأنه طواف ينوب عن طواف القدوم وطواف الإفاضة، فاستحب له الرمل ليأتى بِسُنَّة هى فى أحد الطوافين، فتتم له السُّنَّةُ فى ذلك، كما أنه يسعى بين الصفا والمروة فى طواف الإفاضة، وغير المكى لا يسعى بين الصفا والمروة إلا مع طواف الدخول. 52 - باب اسْتِلامِ الرُّكْنِ بِالْمِحْجَنِ / 78 - فيه: ابْن عَبَّاس، طَافَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ. يحتمل أن يكون استلامه الركن بمحجنه لشكوى كان به، وقد روى ذلك أبو داود فى مصنفه، وروى فى ذلك وجه آخر، وروى الطبرى من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة قالت: (طاف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حول البيت على بعير يستلم الركن بمحجنه، كراهية أن يصرف الناس عنه) . فترك الرسول (صلى الله عليه وسلم) استلامه بيده إما لشكواه، وإما كراهة أن يُضَيِّق على الطائفين ويزاحمهم ببعيره، فيؤذيهم بذلك، أو لهما جميعًا، فركب راحلته وأشار بالمحجن، وقد روى فى ذلك وجه ثالث سأذكره فى باب: التكبير عند الركن إن شاء الله. قال المهلب: واستلام الرسول (صلى الله عليه وسلم) الركن بمحجنه يدل على أن استلام الركن ليس بفرض، وإنما هو سنة من النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ ألا ترى قول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 عمر: (لولا أنى رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبلك ما قبلتك) ، وسيأتى الطواف على الدابة بعد هذا فى موضعه إن شاء الله. وقال أبو عبيد: قال الأصمعى: المحجن: العصا المعوجة الرأس. وقال صاحب العين: هى عصا يجتذب بها العامل ما نأى عنه من [. . . . . .] معوجة الرأس. قال الطبرى: ومنه قولهم: احتجن فلان كذا، إذا أخذه، وأصله إمالته إلى نفسه، كالمحجن الذى أُميل طرفه إلى معظَمِهِ وعُطِفَ عَلَيْهِ. قال الطبرى: وقوله: (يستلم) يعنى: يصيب السَّلام، والسلام هو الحجر، وإنما يستلم يستفعل منه، فمعنى الكلام: طاف النبى (صلى الله عليه وسلم) على راحلته يومئ بالمحجن الذى معه إلى الحجر الأسود حتى يصيبه ويكبر، ثم يقبل من محجنه الموضع الذى أصاب الحجر منه. 53 - باب مَنْ لَمْ يَسْتَلِمْ إِلا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ / 79 - فيه: جَابر بْن زيد، قَالَ: وَمَنْ يَتَّقِى شَيْئًا مِنَ الْبَيْتِ؟ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الأرْكَانَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ لا يُسْتَلَمُ هَذَانِ الرُّكْنَانِ، فَقَالَ: لَيْسَ شَىْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُورًا، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَسْتَلِمُهُنَّ كُلَّهُنَّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 / 80 - وفيه: ابْن عُمَرَ، لَمْ أَرَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَسْتَلِمُ مِنَ الْبَيْتِ إِلا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ. قال الطحاوى: إنما لم يستلم النبى (صلى الله عليه وسلم) إلا الركنين اليمانيين، لأنهما مبنيان على منتهى البيت مما يليهما، والآخران ليسا كذلك؛ لأن الحجر وراءهما وهو من البيت، وذلك أن قريشًا قصرت بهم النفقة عن قواعد إبراهيم فتركت منه فى الحجر ستة أذرع، وقد أجمعوا أن ما بين الركنين اليمانيين لا يستلم؛ لأنه ليس من قواعد إبراهيم، فكان يجئ فى النظر أن يكون كذلك الركنان الآخران لا يستلمان؛ لأنهما ليسا من قواعد إبراهيم، فليسا بركنين لبيت. قال الطحاوى: وقد نزع ابن عمر بمثل ما نزعنا به فى ذلك، وذلك لأنه لما أخبرت عائشة بقول النبى (صلى الله عليه وسلم) لها: (ألم ترى أن قومك حين بَنَوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم قالت: قلت: يا رسول الله، ألا تردها على قواعد إبراهيم. .) وذكر الحديث، قال ابن عمر: لو كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ما أرى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر، إلا أن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم. وجمهور العلماء على استلام الركنين اليمانين، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقد روى عن أنس وجابر ومعاوية وابن الزبير وعروة أنهم كانوا يستلمون الأركان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 كلها، والحجة عند الاختلاف فى السنة، وكذلك قال ابن عباس لمعاوية حين قال له معاوية: ليس شىء من البيت مهجورًا، فقال ابن عباس: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21] . 54 - باب تَقْبِيلِ الْحَجَرِ / 81 - فيه: عُمَرَ أَنَّهُ قَبَّلَ الْحَجَرَ، وَقَالَ: لَوْلا أَنِّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ. / 82 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أنَّهُ سَأل رجل عَنِ اسْتِلامِ الْحَجَرِ، فَقَالَ: رَأَيْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ زُحِمْتُ، أَرَأَيْتَ إِنْ غُلِبْتُ؟ قَالَ: اجْعَلْ أَرَأَيْتَ بِالْيَمَنِ، رَأَيْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ. لا يختلف العلماء أن تقبيل الحجر الأسود فى الطواف من سنن الحج لمن قدر عليه، فإن لم يقدر عليه وضع يده عليه مستلمًا ثم رفعها إلى فيه، فإن لم يقدر قام بحذائه وكبر، فإن لم يفعل فلا أعلم أحدا أوجب عليه فدية ولا دَمَا. قال المهلب: وقول عمر: (لولا أنى رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقبلك ما قبلتك) . إنما قاله دفعًا لأمر الجاهلية وما كانوا يعبدونه من الأحجار، فأعلم الناس أن تقبيله للحجر ليست عبادة له، إنما هى عبادة لله باتباع سنة رسوله، والحجر لا يضر ولا ينفع، إنما ينفع الاستتان برسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى تقبيله، وقد تقدم هذا المعنى للطبرى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 وروى ابن المنذر عن إبراهيم بن مرزوق قال: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن نبى الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (ليبعثن اللهُ الحجَر يوم القيامة له عينان ولسان، يشهد لمن استلمه بحق) . 55 - باب التَّكْبِيرِ عِنْدَ الرُّكْنِ / 83 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: طَافَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَىْءٍ كَانَ عِنْدَهُ وَكَبَّرَ. قد تقدم أن التكبير عند الركن دون استلام لا يفعل اختيارًا، وإنما يُفعل لعذر مرض أو زحام الناس عند الحجر. واختلفوا فى الطواف راكبًا أو محمولاً، فقال الشافعى: لا أحب لمن أطاق الطواف ماشيًا أن يركب، فإن طاف راكبًا أو محمولا من عذر أو غيره فلا دم عليه، واحتج بحديث ابن عباس هذا أن النبى عليه السلام طاف على راحلته، وبما رواه ابن جريج عن أبى الزبير، عن جابر (أن النبى عليه السلام طاف فى حجة الوداع بالبيت وبين الصفا والمروة على راحلته ليراه الناس، وليشرف لهم وليسألوه؛ لأن الناس غَشَوْهُ) . وذهب مالك والليث وأبو حنيفة إلى أن من طاف بالبيت راكبًا أو محمولا فإن كان من عذر أجزأه، وإن كان من غير عذر فعليه أن يعيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 إن كان بمكة، وإن رجع إلى بلاده فعليه دم، وحجتهم ما رواه أبو داود قال: حدثنا مسدد، حدثنا خالد بن عبد الله، حدثنا يزيد بن أبى زياد، عن عكرمة، عن ابن عباس: (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قدم مكة وهو يشتكى، فطاف على راحلته، كلما أتى الركن استلمه بمحجن، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى) . قالوا: فدل أن طوافه راكبًا كان لشكوى كانت به. 56 - باب مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا / 84 - فيه: عَائِشَة، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَوَّلَ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ مِثْلَهُ، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِى الزُّبَيْرِ ابْن العوام، فَأَوَّلُ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارَ يَفْعَلُونَهُ، وَقَدْ أَخْبَرَتْنِى أُمِّى أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِىَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلانٌ وَفُلانٌ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا. / 85 - وفيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ، عليه السَّلام، إِذَا طَافَ فِى الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ سَعَى ثَلاثَةَ أَطْوَافٍ، وَمَشَى أَرْبَعَةً، ثُمَّ يسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَكَانَ يَسْعَى فِى بَطْنَ الْمَسِيلِ. غرضه فى هذا الباب أن يبين سنة من قدم مكة حاجا أو معتمرًا أن يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة، فإن كان معتمرًا حلق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 وحل، وإن كان حاجا ثبت على إحرامه حتى يخرج إلى منى يوم التروية لعمل حجه، ولذلك قال مالك: إذا دخلت المسجد فلا تبدأ بالركوع، ولكن تستلم الركن وتطوف، وكذلك فعل النبى عليه السلام. وقوله: (ثم لم تكن عمرة) يعنى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) طاف بالبيت ثم لم يحل من حجه بعمرة من أجل الهدى، وكذلك فعل أبو بكر وعمر أفردا الحج. وقال ابن المنذر: سَنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للقادمين المحرمين بالحج تعجيل الطواف والسعى بين الصفا والمروة عند دخولهم، وفعل هو ذلك على ما روته عائشة عنه، وأمر من حَلَّ من أصحابه أن يحرموا إذا انطلقوا إلى منى، فإذا أحرم من هو منطلق إلى منى فغير جائز أن يكون طائفًا وهو منطلق إلى منى. فدل هذا الحديث على أن من أحرم من مكة من أهلها أو غيرهم أن السنة أن يؤخروا طوافهم وسعيهم إلى يوم النحر، خلاف فعل القادمين؛ لتفريق السنة بين الفريقين، وأيضًا فإن أهل العلم سموا هذا الطواف: طواف الورود، وليس من أنشأ الحج من مكة واردًا بحجه عليها، فسقط بذلك عنهم تعجيله. وكان ابن عباس يقول: يا أهل مكة، إنما طوافكم بالبيت وبين الصفا والمروة يوم النحر، وأما أهل الأمصار فإذا قدموا، وكان يقول: لا أرى لأهل مكة أن يحرموا بالحج حتى يخرجوا، ولا أن يطوفوا بين الصفا والمروة حتى يرجعوا، هذا قول ابن عمر وجابر، وقالوا: من أنشأ الحج من مكة فحكمه حكم أهل مكة. قال ابن المنذر: وهذا قول مالك وأهل المدينة وطاوس، وبه قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 أحمد وإسحاق، واختلف قول مالك فيمن طاف وسعى قبل خروجه فكان يقول: يعيد إذا رجع ولا يجزئه طوافه الأول ولا سعيه، وقال أيضًا: إن رجع إلى بلاده قبل أن يعيد فعليه دم. ورخصت طائفة فى ذلك، ورأت المكى ومن دخل مكة إن طفا وسعيا قبل خروجهما أن ذلك جائز، هذا قول عطاء والشافعى، غير أن عطاء كان يرى تأخيره أفضل، وقد فعل ذلك ابنُ الزبير، أَهَلَّ لما أَهَلَّ هلالُ ذى الحجة، ثم طاف وسعى وخرج، وأجازه القاسم بن محمد، وقال عطاء: منزلة من جاور بمنزلة أهل مكة، إِنْ أَحْرَمَ أَوَّلَ العشر طاف حين يُحرم، وإن أحرم يوم التروية أخر الطواف إلى يوم النحر. واختلفوا فيمن قدم مكة فلم يطف حتى أتى منى، فقالت طائفة: عليه دم، هذا قول أبى ثور، واحتج بقول ابن عباس: (من ترك من نسكه شيئًا فليهرق لذلك دمًا) . وحكى أبو ثور عن مالك: يجزئه طواف الزيارة لطواف الدخول والزيارة والصدر، وحكى غيره عن مالك أنه إن كان مراهقًا فلا شىء عليه، فإن دخل غير مراهق فلم يطف حتى مضى إلى عرفات فإنه يهريق دما؛ لأنه فرط فى الطواف حين قدم حتى أتى إلى عرفات، وقال أبو حنيفة، والشافعى، وأشهب: لا شىء عليه إن ترك طواف القدوم. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من ترك طواف القدوم وطاف للزيارة ثم رجع إلى بلده أن حجه تام، ولم يوجبوا عليه الرجوع كما أوجبوه عليه فى طواف الإفاضة، فدل إجماعهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 على ذلك أن طواف القدوم ليس بفرض، وكان ابن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد والقاسم بن محمد لا يرون بأسًا إذا طاف الرجل أول النهار أنه يؤخر السعى حتى يبرد، وكذلك قال أحمد وإسحاق إذا كانت به علة، وقال الثورى: لا بأس إذا طاف أن يدخل الكعبة، فإذا خرج سعى. وقوله: (فلما مسحوا الركن حَلُّوا) . يريد بعد أن سعوا بين الصفا والمروة؛ لأن العمرة إنما هى الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة، ولا يحل من قدم مكة بأقل من هذا، فخشى البخارى أن يتوهم متوهم أن قوله: (فلما مسحوا الركن حلوا) أن العمرة إنما هى الطواف بالبيت فقط، وأن المعتمر يحل من عمرته بالطواف بالبيت، ولا يحتاج إلى سعى بين الصفا والمروة، وهو مذهب ابن عباس، وروى عنه أنه قال: إن العمرة الطواف. وقال به إسحاق ابن راهويه، ويمكن أن يحتج من قال بهذا بقراءة ابن مسعود: (وأتموا الحج والعمرة إلى البيت) . أى أن العمرة لا يجاوز بها البيت. فأراد البخارى بيان فساد هذا التأويل بما أردف فى آخر الباب من حديث ابن عمر: (أن النبى عليه السلام كان إذا قدم مكة للحج أو العمرة طاف بالبيت، ثم سعى بين الصفا والمروة) . وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 57 - باب طَوَافِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ / 86 - فيه: عَطَاء أنَّهُ قَالَ لابن هِشَام إِذْ مَنَعَ النِّسَاءَ الطَّوَافَ مَعَ الرِّجَالِ: قَالَ: كَيْفَ يَمْنَعُهُنَّ وَقَدْ طَافَ نِسَاءُ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، مَعَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: أَبَعْدَ الْحِجَابِ أَم قَبْلُ؟ قَالَ: لَقَدْ أَدْرَكْتُهُ بَعْدَ الْحِجَابِ، قُلْتُ: كَيْفَ يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ؟ قَالَ: لَمْ يَكُنَّ يُخَالِطْنَ، كَانَتْ عَائِشَةُ تَطُوفُ حَجْرَةً مِنَ الرِّجَالِ لا تُخَالِطُهُمْ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: انْطَلِقِى نَسْتَلِمْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتِ: انْطَلِقِى عَنْكِ وَأَبَتْ، يَخْرُجْنَ مُتَنَكِّرَاتٍ بِاللَّيْلِ فَيَطُفْنَ مَعَ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّهُنَّ كُنَّ إِذَا دَخَلْنَ الْبَيْتَ قُمْنَ حَتَّى يَدْخُلْنَ، وَأُخْرِجَ الرِّجَالُ وَكُنْتُ آتِى عَائِشَةَ أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَهِىَ مُجَاوِرَةٌ فِى جَوْفِ ثَبِيرٍ، قُلْتُ: وَمَا حِجَابُهَا؟ قَالَ: هِىَ فِى قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ لَهَا غِشَاءٌ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَرَأَيْتُ عَلَيْهَا دِرْعًا مُوَرَّدًا. / 87 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنِّى أَشْتَكِى، فَقَالَ: (طُوفِى مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ) ، فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حِينَئِذٍ يُصَلِّى إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ، وَهُوَ يَقْرَأُ: (وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (. قال المهلب: قول عطاء: قد طاف الرجال مع النساء، يريد أنهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 طافوا فى وقت واحد غير مختلطات بالرجال؛ لأن سنتهن أن يطفن ويصلين وراء الرجال ويستترن عنهم؛ لقوله عليه السلام: (طوفى من وراء الناس وأنت راكبة) . وفيه: أن السنة إذا أراد النساء دخول البيت أن يخرج الرجال عنه، بخلاف الطواف حول البيت، وفيه المجاورة بمكة وهو نوع من الاعتكاف، وهو على ضربين: مجاورة بالليل والنهار، فهو الاعتكاف، ومجاورة بالنهار وانصراف بالليل على حسب نيته وشرطه فيها. وفيه: جواز المجاورة فى الحرم كله، وإن لم يكن فى المسجد الحرام؛ لأن ثبيرًا خارج عن مكة، وهو فى طريق منى، وقراءة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالطور كانت فى صلاة الفجر، كذلك بوب له البخارى فى كتاب الصلاة، وذكره بعد هذا فى باب: من صلى ركعتى الطواف خارجًا من المسجد: أن النبى عليه السلام قال لأم سلمة: (إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفى على بعيرك والناس يصلون) . وابن جرير هو راوى الحديث عن عطاء، وهو السائل له عن هذه القصة، وبينهما جرى الخطاب، وعطاء هو القائل: وكنت آتى عائشة أنا وعبيد بن عمير وهى مجاورة فى جوف ثبير، قال: ورأيت عليها درعًا موردًا وأنا صبى، وروى عبد الرزاق هذا الحديث عن ابن جريج أتم من رواية البخارى، وقال فيه: فأبت أن تستلم، قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 وكن يخرجن متنكرات بالليل، وقال فيه أيضًا: (كن إذا دخلن البيت سترن حين يدخلن) ، مكان: (قمن حتى يدخلن) . وقوله: حجرة، يعنى ناحية من الناس معتزلة، وقال عبد الرزاق: يعنى محجوزًا بينها وبين الرجال بثوب، والتركية: قبة صغيرة من لبود. 58 - باب الْكَلامِ فِى الطَّوَافِ / 88 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، مَرَّ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ رَبَطَ يَدَهُ إِلَى إِنْسَانٍ بِسَيْرٍ أَوْ بِخَيْطٍ أَوْ بِشَىْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَطَعَهُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: (قُدْهُ بِيَدِهِ) . وترجم له باب إذا رأى سيرًا أو شيئًا يكره فى الطواف قطعه. قال ابن المنذر: أَوْلى ما شَغَلَ المرءُ به نفسَهُ فى الطواف ذكرُ الله وقراءة القرآن، ولا يشتغل فيه بما لا يجدى عليه منفعة فى الآخرة، مع أنا لا نحرم الكلام المباح فيه، غير أن الذكر فيه أسلم؛ لأن من تخطى الذكر إلى غيره لم يأمن أن يخرجه ذلك إلى ما لا تحمد عاقبته، وقد قال ابن عباس: (الطواف صلاة، ولكن قد أذن الله لكم فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 بالكلام، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير) . وقال عطاء: كانوا يطوفون ويتحدثون. وقال مالك: لا بأس بالكلام فيه، فأما الحديث فأكرهه. واختلفوا فى قراءة القرآن، فكان ابن المبارك يقول: ليس شىء أفضل من قراءة القرآن. وكان مجاهد يقرأ عليه القرآن فى الطواف، واستحبه الشافعى وأبو ثور، وقال الكوفيون: إذا قرأ فى نفسه. وكرهت طائفة قراءة القرآن، وروى ذلك عن عروة والحسن البصرى ومالك ابن أنس، وقال مالك: وما القراءة فيه من عمل الناس القديم، ولا بأس به إذا أخفاه، ولا يكثر منه. قال عطاء: قراءة القرآن فى الطواف محدث. وقال ابن المنذر: والقراءة أحب إلى من التسبيح، وكُل حَسَن، ومن أباح قراءة القرآن فى الطرق والبوادى ومنعه الطائف متحكم مدع لا حجة له. وينبغى أن يفتتح الطواف بتوحيد الله كما يفتتح الصلاة بالتكبير، ويخشع لربه، ويعقل بِبَيْتِ مَنْ يطوف، ولمعروف من يتعرض، وليسأل غفران ذنوبه والتجاوز عن سيئاته، ويشغل نفسه بذلك وخواطره، ويترك أمور الدنيا، كما فعل ابن عمر حين خطب إليه عروة بن الزبير ابنته فى الطواف، فلم يرد عليه كلامًا، فلما جاء إلى المدينة لقيه عروة فقال له ابن عمر: (أدركتنى فى الطواف ونحن نتراءى الله بين أعيننا، فذاك الذى منعنى أن أرد عليك، ثم زوجه) ، والذى سأل عروةُ باب من أبواب المباح، فأبى ابن عمر أن يجيبه تعظيمًا لله تعالى إذ هو طائف ببيته الحرام. وفى قطعه عليه السلام السير من يد الطائف من الفقه أنه يجوز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 للطائف فعل ما خف من الأفعال، وأنه إذا رأى منكرًا فله أن يغيره بيده، وإنما قطعه والله أعلم لأن القود بالأزمَّة إنما يُفعل بالبهائم، وهو مُثْلَة، وقد روى ابن جريج عن سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس (أن الرسول مَرَّ وهو يطوف بالبيت بإنسان يقوده إنسان بخزامة فى أنفه، فقطعه عليه السلام وأمره أن يقوده بيده) . 59 - باب لا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ وَلا يَحُجُّ مُشْرِكٌ / 89 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعَثَهُ فِى الْحَجَّةِ الَّتِى أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ فِى رَهْطٍ يُؤَذِّنُ فِى النَّاسِ: (أَلا لا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ) . قال المهلب: أراد عليه السلام أن ينظف له البيت من المشركين والعراة، ويكون حجه بهم عليه السلام على نظافة البيت من هاتين الطائفتين، وقد اختلف الناس فى حجة أبى بكر هذه إن كانت حجة الإسلام بعد نزول فرضه لقوله تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران: 97] أو إن كانت على حج الجاهلية ومواسمها، والذى يعطى النظر أن حجة أبى بكر بالناس كانت حجة الإسلام وبعد نزول فرضه؛ لأن وقوفه كان بعرفة مع الناس كافة، وإنما كان الحمس وهم قريش يقفون بالمشعر الحرام، فلما خالف أبو بكر العادة بقريش، وأخرجهم من الحرم إلى عرفات، دل أنه إنما وقف بأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فإن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما امتثل قوله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) [البقرة: 199] يعنى العرب كافة، وقوله تعالى هذا هو متقدم بفرض الحج ووصف شرايعه كلها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 فثبت بهذا أن حجة أبى بكر على حج الإسلام، مع أنه أيضًا حج فى ذى الحجة، وكانت العرب لا تتوخى بحجها إلا ما كانت عليه من النسئ، يحلونه عامًا ثم يحرمونه عامًا آخر، ودليل آخر أنه حج حجة الإسلام بعد نزول فرضه؛ بعثته عليه السلام لعلى فى أثره لينادى المشركين ببراءة، ولينبذ إليهم عهدهم بكتاب الله، وكذلك أمره ألا يطوف عريان ولا يحج مشرك؛ لقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) [التوبة: 28] وفى هذه السورة ذكر النسئ وذكر شرائع الحج، وهذا يدل أن الحج لازم للمسلمين، ليس على الفور ولا على وقت معين كالصلاة والزكاة والصيام، بل فى العمر كله مرة متى وجد إليه سبيلا، لا يتعلق بوقت دون وقت؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يحج بعد فور نزول فرض الحج عليه، بل أخر ذلك إلى عام آخر. قال ابن خواز بنداد: وقد اختلف فى هذه المسألة أصحاب مالك: وأصحاب أبى حنيفة، وأصحاب الشافعى على قولين، فقال مالك: إذا كانت المرأة صرورة أجبر الزوج على الإذن لها فى الحج ولا تعجل عليه وتؤخر عامًا بعد عام. قال: وسئل سحنون عن الرجل يجد ما يحج به فيؤخر ذلك سنين كثيرة مع قدرته على الحج، هل يفسق بتأخيره الحج وترد شهادته؟ قال: لا يفسق وإن مضى من عمره ستون سنة يؤخر فيها الحج وهو قادر على فعله، فإذا جاوز الستين سنة فسق وردت شهادته، قال: وتحصيل مذهبنا أن الحج تأخيره مع القدرة عليه، ورأينا أصحابنا العراقيين من المالكيين يقولون: هو على الفور، ولا يجوز تأخيره مع القدرة، وهو قول أبى يوسف والمزنى، وروى عن محمد بن الحسن أنه على التراخى، وكذلك روى عن أصحاب الشافعى القولان جميعًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 60 - باب إِذَا وَقَفَ فِى الطَّوَافِ وَقَالَ عَطَاءٌ: فِيمَنْ يَطُوفُ فَتُقَامُ الصَّلاةُ أَوْ يُدْفَعُ عَنْ مَكَانِهِ: إِذَا سَلَّمَ يَرْجِعُ إِلَى حَيْثُ قُطِعَ عَلَيْهِ فَيَبْنِى، وَيُذْكَرُ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ. 61 - باب صَلَّى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، لِسُبُوعِهِ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّى لِكُلِّ سُبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ: قُلْتُ لِلزُّهْرِىِّ: إِنَّ عَطَاءً يَقُولُ: تُجْزِئُهُ الْمَكْتُوبَةُ مِنْ رَكْعَتَىِ الطَّوَافِ، فَقَالَ: السُّنَّةُ أَفْضَلُ، لَمْ يَطُفِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) سُبُوعًا قَطُّ إِلا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. / 90 - فيه: عَمْرٍو، سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ أَيَقَعُ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ فِى الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، ثُمَّ صَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَالَ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ (، وَسَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ، فَقَالَ: لا يَقْرَبُ امْرَأَتَهُ حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وترجم له: (باب من صلى ركعتى الطواف خلف المقام) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 قال المؤلف: قال مالك: لا ينبغى الوقوف ولا الجلوس فى الطواف، فإن فعل منه شيئًا بنى فيما خف ولم يتطاول وأجزأه. وقال نافع: ما رأيت ابن عمر قائمًا قط إلا عند استلام الركن، وقال عمرو بن دينار: رأيت ابن الزبير يطوف فيسرع، قال نافع: ويقال: القيام فى الطواف بدعة، وطاف ابن عمر فى يوم حار ثم قعد فى الحجر، ثم استراح، ثم أتى ما بقى، وأجاز عطاء أن يجلس ويستريح فى الطواف، فإن قيل: فما معنى ذكره أن النبى عليه السلام طاف لسبوعه وصلى ركعتين فى باب إذا وقف فى الطواف؟ قيل: معناه والله أعلم أنه (صلى الله عليه وسلم) حين طاف وركع بأثره ركعتين لم يحفظ عنه أنه وقف ولا جلس فى طوافه. ولذلك قال نافع: إن القيام فيه بدعة إلا أن يضعف فلا بأس بالوقوف والقعود اليسير فيه للراحة، ويبنى عليه، وإنما كره العلماء القعود فيه والوقوف لغير عذر والله أعلم لأن من أجاب دعوة أبيه إبراهيم على بُعْدِ الشقة وشدة المشقة لا يصلح إذا بلغ إلى العمل أن يتوانى فيه بوقوف أو قعود لغير عذر، ولهذا المعنى والله أعلم كان ابن الزبير يسرع فى طوافه. وجمهور العلماء يرون لمن أقيمت عليه الصلاة البناء على طوافه إذا فرغ من صلاته، روى ذلك عن ابن عمر، وعطاء، والنخعى، وابن المسيب، وطاوس، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور إلا الحسن البصرى فإنه قال: يبتدئ الطواف. قال ابن المنذر: وحجة الجماعة أن الخارج إلى الصلاة المكتوبة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 معذور قد حيل بينه وبين أن يتم طوافه، فإذا فرغ ووجد السبيل إلى إكماله أكمله، وغير جائز أن يبطل عمل الطائف بغير حجة. وفى المسألة خلاف آخر ذكره عبد الرزاق عن أبى الشعثاء، أنه أقيمت عليه الصلاة وطاف خمسة أطواف فلم يتم ما بقى، وعن سعيد بن جبير مثله، وعن عطاء: إن كان الطواف تطوعًا وخرج فى وتر فإنه يجزئ عنه، وكذلك إن عرضت له حاجة فخرج فيها. وعن ابن عباس: من بدت له حاجة فخرج لها فليخرج على وتر من طوافه، ويركع ركعتين ولا يَعُدْ لبقيته. وقال مالك: من طاف بعض طوافه ثم خرج لصلاة على جنازة، أو خرج لنفقة نسيها، فليستأنف الطواف ولا يبنى، ولا يخرج من طوافه لشىء إلا الصلاة الفريضة، وهو قول الشافعى وأبى ثور، وقال أشهب: يبنى إذا صلى على جنازة، وهو قول أبى حنيفة، وقال ابن المنذر: لا يخرج من بِرٍّ هو فيه إلى بِرٍّ، وليتم طوافه. واختلف العلماء فيمن طاف سبوعًا ثم وافق صلاة مكتوبة هل تجزئه من ركعتى الطواف؟ فروى عن ابن عمر أنه أجاز ذلك خلاف ما ذكره البخارى عنه أنه كان يفعله، وروى مثله عن سالم وعطاء وأبى الشعثاء، قال أبو الشعثاء: ولو طاف خمسة. وقال الزهرى ومالك وأبو حنيفة: لا يجزئه. قال ابن المنذر: ويشبه مذهب الشافعى، وهو قول أبى ثور، واحتجاج ابن شهاب على عطاء فى هذا الباب بأن النبى عليه السلام لم يطف سبعًا قط إلا صلى ركعتين فى أنه لا تجزئه المكتوبة من ركعتى الطواف؛ مغن عن غيره، وكان طاوس يصلى لكل سبوع أربع ركعات، فذكر ذلك لابن جريج فقال: حدثنا عطاء أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 كان يصلى على كل سبوع ركعتين. وعلى هذا مذهب الفقهاء. قال ابن المنذر: ثبت أن النبى (صلى الله عليه وسلم) طاف بالبيت سبعًا وصلى ركعتين. وأجمعوا أن من فعل فعله عليه السلام فهو متبع للسنة، ورخصت طائفة أن يجمع أسابيع ثم يركع لها كلها، روى ذلك عن عائشة وعطاء وطاوس، وبه قال أبو يوسف وأحمد وإسحاق، وكره ذلك ابن عمر والحسن البصرى وعروة والزهرى، وهو قول مالك والكوفيين وأبى ثور، وهذا القول أولى؛ لأن فاعله متبع للسنة. قال ابن المنذر: وأرجو أن يجزئ القول الأول، وهو كمن صلى وعليه صلاة قبلها، أو طاف وعليه صلاة ثم صلاها بعد طوافه، قال: وثبت أن النبى عليه السلام صلى ركعتى الطواف عند المقام. وأجمع العلماء أن الطائف يجوز أن يركعهما حيث شاء إلا مالكًا فإنه كره أن يركعهما فى الحجر، وقد صلى ابن عمر ركعتى الطواف فى البيت، وصلاهما ابن الزبير فى الحجر، قال مالك: ومن صلى ركعتى الطواف والمروة، وإن لم يركعهما حتى يبلغ بلده أهراق دمًا ولا إعادة عليه. قال ابن المنذر: ولا يخلو من صلى فى الحجر ركوع الطواف أن يكون قد صلاهما، فلا إعادة عليه، أو يكون فى معنى من لم يصلهما فعليه أن يعيد أبدًا، فأما أن يكون بمكة فى معنى من لم يصلهما وإن رجع إلى بلاده فى معنى من قد صلاهما، فلا أعلم لقائله حجة فى التفريق بين ذلك، ولا أعلم الدم يجب فى شىء من أبواب الطواف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 62 - باب مَنْ لَمْ يَقْرَبِ الْكَعْبَةَ وَلَمْ يَطُفْ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى عَرَفات وَيَرْجِعَ بَعْدَ الطَّوَافِ الأوَّلِ / 91 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَدِمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، مَكَّةَ فَطَافَ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَمْ يَقْرَبِ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا، حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ. قال المهلب: معنى قوله: من لم يقرب الكعبة، يريد من لم يطف طوافًا آخر تطوعًا غير طواف الورود؛ لأن الحاج لا طواف عليه غير طواف الورود حتى يخرج إلى عرفات وينصرف ويرمى جمرة العقبة، وكذلك يطوف طواف الإفاضة الذى هو الفرض، وهذا معنى حديث ابن عباس، وهو اختيار مالك لا ينتقل بطواف بعد طواف الورود حتى يتم حجه، وقد جعل الله فى ذلك توسعة، فمن أراد أن يطوف بعد طواف الورود فله ما شاء من ذلك ليلاً ونهارًا، ولا سيما إن كان من أقاصى البلدان، ومن لا عهد به بالطواف بالبيت فقد قال مالك: إن الطواف بالبيت أفضل من صلاة النافلة لمن كان من أهل البلاد البعيدة؛ لقلة وجود السبيل إلى البيت. وروى عن عطاء والحسن قالا: إذا أقام الغريب بمكة أربعين يومًا كانت الصلاة أفضل له من الطواف، وقال أنس: الصلاة للغرباء أفضل. 63 - باب مَنْ صَلَّى رَكْعَتَىِ الطَّوَافِ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ وَصَلَّى عُمَرُ خَارِجًا مِنَ الْحَرَمِ. / 92 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ نَبِى اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ وَهُوَ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ الْخُرُوجَ وَلَمْ تَكُنْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ وَأَرَادَتِ الْخُرُوجَ: (إِذَا أُقِيمَتْ صَلاةُ الصُّبْحِ فَطُوفِى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 عَلَى بَعِيرِكِ، وَالنَّاسُ يُصَلُّون) ، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، فَلَمْ تُصَلِّ حَتَّى خَرَجَتْ. قال ابن المنذر: واختلفوا فى من نسى ركعتى الطواف حتى خرج من الحرم أو رجع إلى بلاده، فقال عطاء والحسن البصرى: يركعهما حيثما ذكر من حِلٍّ أو حَرَم، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعى، وهو موافق لحديث أم سلمة؛ لأنه ليس فى الحديث أنها صلتها فى الحرم أو فى الحل، وقال الثورى: يركعهما حيث شاء ما لم يخرج من الحرم. قال مالك: إن لم يركعهما حتى تباعد أو رجع إلى بلاده عليه دم. وقال فى المدونة: من طاف فى غير إبّان صلاة أَخَّرَ الركعتين، وإن خرج إلى الحل ركعهما فيه ويجزئانه ما لم ينتقض وضوءه، فإن انتقض قبل أن يركعهما وكان طوافه ذلك واجبًا رجع فابتدأ بالطواف بالبيت وركع؛ لأن الركعتين من الطواف تُوصَلا به إلا أن يتباعد، فليركعهما ويهدى ولا يرجع. قال ابن المنذر: ليس ذلك أكثر من صلاة المكتوبة، وليس على من تركها إلا قضاؤها حيث ذكرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 64 - باب الطَّوَافِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّى رَكْعَتَىِ الطَّوَافِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ، وَطَافَ عُمَرُ بَعْدَ صَلاةِ الصُّبْحِ، فَرَكِبَ حَتَّى صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ بِذِى طُوًى، يعنِى بعد طلوع الشَّمس. / 93 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ نَاسًا طَافُوا بِالْبَيْتِ بَعْدَ صَلاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ قَعَدُوا إِلَى الْمُذَكِّرِ، حَتَّى إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامُوا يُصَلُّونَ. / 94 - وفيه: ابْن عُمَرَ، سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَنْهَى عِنِ الصَّلاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا. / 95 - قَالَ عَبْدُالْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ: رَأَيْتُ ابْن الزُّبَيْرِ، يَطُوفُ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَيُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ، وَيُخْبِرُ عن عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهَا قط إِلا صَلاهُمَا. قال المؤلف: قد ذكر البخارى الخلاف فى هذه المسألة عن الصحابة، وكان ابن عمر يصلى بعد الصبح والعصر ركعتى الطواف، وهو قول عطاء، وطاوس، والقاسم، وعروة، وإليه ذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وحجتهم حديث ابن عيينة عن أبى الزبير، عن عبد الله بن بابيه، عن جبير بن مطعم: أن النبى عليه السلام قال: (يا بنى عبد مناف، لا تمنعن أحدًا طاف بهذا البيت وصلى أى ساعة شاء من ليل أو نهار) . فَعَمَّ الأوقات كلها. وروى عن أبى سعيد الخدرى مثل قول عمر بن الخطاب: لا بأس بالطواف بعد الصبح والعصر، ويؤخر الركعتين إلى بعد طلوع الشمس وبعد غروبها رواه سفيان عن الزهرى، عن عروة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 عن عبد الرحمن بن عبد القارى قال: طاف عمر بالبيت بعد الصبح فلم يركع، فلما صار بذى طوى وطلعت الشمس صلى ركعتين، وهو قول مالك وأبى حنيفة والثورى. قال الطحاوى: فهذا عمر، رضى الله عنه، لم يركع حين طاف؛ لأنه لم يكن عنده وقت صلاة، وأخر ذلك إلى أن دخل عليه وقت الصلاة، وهذا بحضرة جماعة من أصحاب النبى عليه السلام فلم ينكره عليه منهم أحد، ولو كان ذلك الوقت عنده وقت صلاة الطواف لصلى، ولما أخر ذلك؛ لأنه لا ينبغى لأحد طاف بالبيت إلا أن يصلى حينئذ إلا من عذر. وقد روى ذلك عن معاذ بن عفراء، وعن ابن عمر، حدثنا ابن خزيمة، حدثنا حجاج، حدثنا همام، حدثنا نافع: أن ابن عمر قدم عند صلاة الصبح فطاف ولم يصل إلا بعد ما طلعت الشمس، فهذا قول آخر عن ابن عمر فى المسألة غير ما ذكره عنه البخارى. قال المهلب: وما ذكره البخارى عن ابن عمر أنه كان يركع ركعتى الطواف ما لم تطلع الشمس، وهو يروى نهى النبى عليه السلام عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، فيدل والله أعلم أن النهى عنده عن ذلك إنما هو عند موافقة الطلوع والغروب، فأما إذا أمن أن يوافق ذلك فله أن يصلى ركعتى الطواف؛ لأن الوقت لهما واسع، ومن سنتهما الاتصال بالطواف. وقد بين ذلك ما رواه الطحاوى قال: حدثنا أحمد بن داود قال: نا يعقوب بن حميد، حدثنا ابن أبى غنية، عن عمر بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 ذر، عن مجاهد قال: كان ابن عمر يطوف بعد العصر ويصلى ما كانت الشمس بيضاء حية، فإذا اصفرت وتغيرت طاف طوافًا واحدًا حتى يصلى المغرب، ثم يصلى ويطوف بعد الصبح ما كان فى غلس، فإذا أسفر طاف طوافًا واحدًا ثم يجلس حتى ترتفع الشمس ويمكن الركوع، وهذا قول مجاهد والنخعى وعطاء، وهو قول ثالث فى المسألة ذكره الطحاوى. 65 - باب الْمَرِيضِ يَطُوفُ رَاكِبًا / 96 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، طَافَ بِالْبَيْتِ وَهُوَ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَىْءٍ فِى يَدِهِ وَكَبَّرَ. / 97 - وفيه: أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَنِّى أَشْتَكِى، فَقَالَ: (طُوفِى مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ) ، فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ، وَهُوَ يَقْرَأُ بِ: (الطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (. قد تقدم فى (باب: التكبير عند الركن) حديث مسدد عن ابن عباس من رواية أبى داود: (أن نبى الله كان مريضًا) ولذلك طاف راكبًا، وعلى هذا تأوله البخارى، ولذلك ترجم لحديث ابن عباس باب: المريض يطوف راكبًا، وذكر معه حديث أم سلمة، وأنه عليه السلام إنما أباح لها الطواف راكبة لشكواها. قال ابن المنذر: وأجمع أهل العلم على جواز طواف المريض على الدابة ومحمولا، إلا عطاء روى عنه فيها قولان: أحدهما: أن يطاف به، والآخر: أن يستأجر من يطوف عنه، وقد تقدم قول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 من أجاز طواف الصحيح راكبًا لغير عذر فى باب التكبير عند الركن، واختلافهم فى الطواف راكبًا لغير عذر. قال المهلب: وفيه أنه لا يجب أن يطوف أحد بالبيت فى وقت صلاة الجماعة إلا من وراء الناس، ولا يطوف بين المصلين وبين البيت فيشغل الإمام والناس ويؤذيهم، وفيه: أن ترك أذى المسلم أفضل من صلاة الجماعة، ومثله قوله عليه السلام: (من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا) . 66 - باب سِقَايَةِ الْحَاجِّ / 98 - فيه: ابْن عُمَرَ، اسْتَأْذَنَ الْعَبَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِىَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ. / 99 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، جَاءَ إِلَى السِّقَايَةِ فَاسْتَسْقَى، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا فَضْلُ، اذْهَبْ إِلَى أُمِّكَ فَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِشَرَابٍ مِنْ عِنْدِهَا، فَقَالَ: (اسْقِنِى) ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أَيْدِيَهُمْ فِيهِ، قَالَ: (اسْقِنِى) ، فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ، وَهُمْ يَسْقُونَ وَيَعْمَلُونَ فِيهَا، فَقَالَ: (اعْمَلُوا فَإِنَّكُمْ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ) ، ثُمَّ قَالَ: (لَوْلا أَنْ تُغْلَبُوا لَنَزَلْتُ حَتَّى أَضَعَ الْحَبْلَ عَلَى هَذِهِ، يَعْنِى عَاتِقَهُ) . قال جماعة من أهل السير: كانت السقاية للعباس مكرمة، يسقى الناس نبيذ التمر، فأقرها النبى عليه السلام فى الإسلام، وروى عن طاوس قال: شُرْبُ نبيذ السقاية من تمام الحج، وقال عطاء: لقد أدركت هذا الشراب، وإن الرجل ليشربه فتلتزق شفتاه من حلاوته، فلما ذهب الخزنة وَوَلِيَهُ العبيد تهاونوا بالشراب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 واستخفوا به، وروى ابن جريج عن نافع، أن ابن عمر لم يكن يشرب من النبيذ فى الحج. وروى الطبرى حديث ابن عباس فى قصة السقاية أتم مما ذكرها البخارى فقال: حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن يزيد بن أبى زياد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: (لما طاف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أتى العباس وهو فى السقاية فقال: (اسقونى) ، قال العباس: إن هذا قد مرث، أفلا نسقيك مما فى بيوتنا؟ قال: (لا، ولكن اسقونى مما شرب الناس) ، فأتى به فذاقه فقطب، ثم دعا بماء فكسره، ثم قال: (إذا اشتد نبيذكم فاكسروه بالماء) . فاستدل أهل الكوفة بهذا الخبر على جواز شرب المسكر، قالوا: وقد روى عن عمر وعلى مثل ذلك. قال الطبرى: فيقال لهم: إن تقطيبه منه لم يكن لأجل أنه كان مسكرًا، ولا أن قوله: (إذا اشتد نبيذكم فاكسروا بالماء) أن معناه: إذا اشتد فصار يسكر شرب كثيره؛ لأن ذلك لو كان معناه لكان ذلك إباحة منه عليه السلام شرب الخمر إذا صب عليه الماء؛ لأن الخمر لا تصير حلالا بصب الماء عليها، بل تفسد الماء الذى يخالطها ويزول عن حد الطهارة. فدل أن تقطيبه منه عليه السلام إنما كان من حموضته لا من إسكاره، وأن قوله: (إذا رابكم منه شىء) . يعنى إذا خفتم تغييره إما إلى حموضة، وإما إلى إسكار، فاكسروه قبل تغييره إلى ذلك؛ كى لا يفسد عليكم، وهذا من أدل الدليل على تحريم شرب ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 أسكر كثيره؛ لأنه أمر بكسره بالماء إذا صار إلى حد يريب شاربه، فلو حل شربه بعدما يصير مسكرًا لم يأمر بعلاجه بالماء قبل مصيره مسكرًا، بل كان يقول عليه السلام: إذا رابكم منه شىء فانتفعوا به واشربوه، ولا تكسروه. وإنما أمر بكسره؛ لأنه كان قد بدت فيه الاستحالة إلى الخَلِّية بما حدث فيه من الفساد والحموضة، وذلك موجود فى الأشربة التى تنتقل إلى الحموضة قبل دخول الحال التى تصير بها خمرًا، فكسره بالماء ليهون عليه شربه، ومثل هذا المعنى ما روى عن عمر وعلى فى ذلك، حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا ابن وهب، عن أسامة بن زيد، أنه سمع نافعًا يقول: إن عمر قال ليرفأ: اذهب إلى إخواننا الثقفيين فالتمس لنا عندهم شرابًا، فأتاهم فقالوا: ما عندنا إلا هذه الإداوة وقد تغيرت، فدعا بها عمر فذاقها، فقبض وجهه، ثم دعا بالماء فصب عليه فشرب. قال نافع: والله ما قبض وجهه إلا أنها تخللت. قال ابن وهب: وحدثنا عمرو بن الحارث، أن سلام بن حفص أخبره، أن زيد بن أسلم، أخبره أن أصحاب النبى عليه السلام كانوا إذا حمض عليهم النبيذ كسروه بالماء. وروى إسماعيل بن أبى خالد عن قيس قال: حدثنا عتبة بن فرقد قال: دعا عمر بعس من نبيذ قد كاد يكون خلا، فقال لى: اشرب، فأخذته فجعلت لا أستطيع شربه، فأخذه من يدى فشرب حتى قضى حاجته. قال المهلب: وإنما أذن النبى (صلى الله عليه وسلم) للعباس فى المبيت عن منى، ولم يوجب عليه الهدى من أجل السقاية؛ لأنها عمل من أعمال الحج، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 ألا ترى قوله عليه السلام إذ ورد زمزم وهم يسقون: (اعملوا فإنكم على عمل صالح) وقوله عليه السلام: (لولا أن تغلبوا لنزلت) يعنى: لنزلت لاستقاء الماء، فهذه ولاية من النبى عليه السلام للعباس وآله السقاية، وإنما خشى أن تتخذها الملوك سنة يغلبون عليها من وليها من ذرية العباس. 67 - باب مَا جَاءَ فِى زَمْزَمَ / 100 - فيه: أَبُو ذَرٍّ، قَالَ، عليه السَّلام: (فُرِجَ سَقْفِى، وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ، فَفَرَجَ صَدْرِى، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهَا فِى صَدْرِى، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِى، فَعَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. . .) الحديث. / 101 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ زَمْزَمَ، فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ. فَحَلَفَ عِكْرِمَةُ مَا كَانَ يَوْمَئِذٍ إِلا عَلَى بَعِيرٍ. قال المهلب: فيه أن شرب ماء زمزم من سنن الحج لفضله وبركته، وقد قال ابن عباس: إن ماء زمزم لما شرب له، وقال مجاهد: إن شربته تريد الشفاء شفاك الله، وإن شربته تريد أن تقطع ظمأك قطعه الله، وإن شربته تريد أن يشبعك أشبعك الله، وهى هزمة جبريل، وسقيا الله إسماعيل. وقال وهب بن منبه: تجدها فى كتاب الله. يعنى: زمزم شراب الأبرار، وطعام طعم، وشفاء من سقم، ولا تُنْزَحُ ولا تُذَمُّ، من شرب منها حتى يتضلع أحدثت له شفاء، وأخرجت منه داء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 وروى ابن جريج عن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يشرب منها فى الحج، ومعنى ذلك أنه كان قد شرب منه ولم يواظب على شربه؛ لئلا يظن به أنه كان يرى شربه من الفرض اللازم، ولا يجوز أن يتأول عليه ترك شيئًا فعله النبى عليه السلام لأنه لم يكن أحد أتبع منه لآثار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . قال ابن عباس: ينبغى أن يأخذ الدلو، ويستقبل القبلة، ويدعو الله، ثم يشرب ويتنفس ثلاث مرات، ويتضلع منها، فإنى سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (إن آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم) . قال معمر عن الزهرى: إن عبد المطلب لما انبط ماء زمزم بنى عليها حوضًا، فطفق هو وابنه الحارث ينزعان، فيملآن ذلك الحوض فيشرب فيه الحاج، فيكسره أناس من حسدة قريش بالليل، ويصلحه عبد المطلب حين يصبح، فلما أكثروا إفساده دعا عبد المطلب ربه، فأرى فى المنام فقيل له: قل: اللهم إنى لا أحلها لمغتسل، ولكن هى لشارب حِل وبِل، ثم كفيتهم. فقام فنادى بالذى أرى فلم يكن أحد يفسد عليه حوضه بالليل إلا رمى بداء فى جسده، ثم تركوا له حوضه وسقايته، قال سفيان: حِل بِل محل. 68 - باب طَوَافِ الْقَارِنِ / 102 - فيه: عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ: (مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، ثُمَّ لا يَحِلُّ حَتَّى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 يَحِلَّ مِنْهُمَا) ، فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَلَمَّا قَضَيْنَا حَجَّنَا، أَرْسَلَنِى مَعَ عَبْدِالرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرْتُ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ) ، فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا. / 103 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ، إِنْ حِيلَ بَيْنِى وَبَين الْبَيْتَ أَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ قَالَ: (أُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ أَوْجَبْتُ مَعَ عُمْرَتِى حَجًّا) ، ثُمَّ قَدِمَ، فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا. / 104 - وفيه: خبر آخر عن ابْن عُمَرَ، وَأَهْدَى هَدْيًا، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَنْحَرْ وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ شَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَلَمْ يَحْلِقْ، وَلَمْ يُقَصِّرْ، حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ فَنَحَرَ، وَحَلَقَ، وَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الأوَّلِ، ثُمَّ قام لهما طوافًا واحدًا. اختلف العلماء فى طواف القارن، فروى عن ابن عمر وجابر بن عبد الله أنه يجزئه طواف واحد وسعى واحد، وروى ذلك عن عطاء وطاوس والحسن، وهو قول مالك والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وحجتهم أحاديث هذا الباب. وقالت طائفة: على القارن طوافان وسعيان. روى ذلك عن على وابن مسعود، وعن الشعبى وابن أبى ليلى، وإليه ذهب الثورى وأبو حنيفة والأوزاعى، واحتجوا بأن العمرة إذا أفردها لزمته أفعالها، فلم يكن ضمها إلى الحج بموجب لسقوط جميع أفعالها، دليله التمتع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 قال ابن القصار: فيقال لهم: هذا ينتقض بالحلق؛ لأن المتمتع لما كان عليه حِلاقان، كان عليه طوافان، ولما كان القارن يكفيه حلق واحد كفاه طواف واحد، فإن قالوا: قياسكم الطواف على الحلق لا يسلم؛ لأن المستحق فى الحلق عن كل إحرام مقدار الربع فمتى حلق جميع رأسه بعد الحلق، فيقوم مقام الحلق الآخر عند العجز، فيقال لهم: ما تقولون إن اقتصر القارن على حلق ربع رأسه ولم يتجاوزه، ولم يجر الموسى على رأسه، هل يجزئه أو يحتاج إلى زيادة ربع آخر، فإن قلتم هذا، فليس هو مذهبكم، وإن كفاه واحد، فقد ثبت ما قلناه، وأيضًا فإن القارن إن قتل صيدًا واحدًا فعليه جزاء واحد. قال غيره: والحجة للكوفيين لازمة بحديث عائشة وابن عمر؛ لأنهم يأخذون بحديث عائشة فى رفض العمرة مع احتماله فى ذلك للتأويل، ويتركونه فى طواف القارن، وهو لا يحتمل التأويل، قال ابن المنذر: والرواية عن على لا تثبت؛ لأن راويها أبو نصر عن على، وأبو نصر مجهول، ولو كان ثابتًا لكانت سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أولى. وذكر عبد الرازق عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن على قال: (القارن يجزئه طواف واحد وسعى واحد) بخلاف رواية أهل العراق عنه، وقول ابن عمر: (إذًا أصنع كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) يعنى: حين صُدَّ عليه السلام عام الحديبية، فَحَلَق ونَحَر وحَلَّ، فلم يصد ابن عمر فقران الحج إلى العمرة، وكان عمله لهما واحدًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 وطوافًا واحدًا، وقد احتج أبو ثور لذلك فقال: لما لم يجز أن يجمع بين عملين إلا الحج والعمرة فأجزنا ومن خالفنا لهما سفرًا واحدًا، وإحرامًا واحدًا، وكذلك التلبية؛ كان كذلك يجزئ عنهما طواف واحد وسعى واحد. 69 - باب الطَّوَافِ عَلَى وُضُوءٍ / 105 - فيه: عُرْوَة، عن عَائِشَةَ، حَجَّ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَأَوَّلُ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ، فَكَانَ أَوَّلَ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ عُمَرُ كذَلِكَ. . . وذكر الحديث. هذا الحديث حجة لمن اختار الإفراد بالحج وأن ذلك كان عمل النبى عليه السلام وأصحابه بعده، لم يعدل أحد منهم إلى تمتع ولا قران؛ لقولها: (ثم لم تكن عمرة) . وفيه ما ترجم به أن سنة الطواف أن يكون على طهارة، واتفق جمهور العلماء على أنه لا يجزئ بغير طهارة كالصلاة، وخالف ذلك أبو حنيفة فقال: إن طاف بغير طهارة، فإن أمكنه إعادة الطواف أعاده، وإن رجع إلى بلاده جبره بالدم. قال ابن القصار: والحجة للجماعة قول عائشة: (أول شىء بدأ به النبى عليه السلام أنه توضأ ثم طاف بالبيت) وفعله على الوجوب إلا أن تقوم دلالة، وأيضًا فإن فعله خرج مخرج البيان لقوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29] ؛ لأن الطواف مجمل يحتاج إلى بيان صفته؛ لأنه يقتضى طوفة واحدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 وقد قال ابن عباس: (إن الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله تعالى أباح فيه المنطق) وقد يكون فى الشرع صلاة لا ركوع فيها ولا سجود كصلاة الجنازة، فإن قيل: فينبغى أن يكون لها تحريم وتسليم، قيل: ليس كل ما كان صلاة يحتاج إلى ذلك؛ لأن كثيرًا من الناس من يقول فى سجود السهو أنه صلاة ولا يحتاج إلى ذلك، وكذلك سجود التلاوة، ولنا أن نستدل بحديث صفية لما حاضت فقال: (أحابستنا هى؟ فلما قيل: إنها قد أفاضت، قال: فلا إذاَ) . فلو كان الدم ينوب مناب طوافها بغير طهارة لكان عليه السلام لا يحتاج أن يقيم هو وأصحابه إلى أن تطهر ثم تطوفه، فإن قيل: إن الطواف ركن لا يصح الحج إلا به فلا يحتاج إلى طهارة كالوقوف بعرفة، قيل: لما كان يعقب كل أُسْبُوع من الطواف ركعتان، لا فصل بينه وبينهما، وجب أن يكون الطائف متوضئًا لتتصل صلاته بطوافه، والوقوف بعرفة لا صلاة بأثره، فافترقا. واختلفوا فيمن انتقض وضوءه وهو فى الطواف، فقال عطاء ومالك: يتوضأ ويستأنف الطواف، قال مالك: وهو بخلاف السعى بين الصفا والمروة لا يقطع عليه ذلك ما أصابه من انتقاض وضوئه، وقال النخعى: يبنى. وهو قول الشافعى وأحمد وإسحاق، إلا أن الشافعى قال: إن تطاول استأنف. وقال مالك: إن كان تطوعًا فأراد إتمامه توضأ واستأنف، وإن لم يرد إتمامه تركه. وقد تقدم بعض ما فى هذا الحديث فى باب: من طاف بالبيت إذا قدم مكة، وسيأتى شىء منه فى باب: متى يحل المعتمر بعد هذا إن شاء الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 70 - باب وُجُوبِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَجُعِلَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ / 106 - فيه: عُرْوَة: سَأَلْتُ عَائِشَةَ أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) [البقرة: 158] ، فَوَاللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لا يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قَالَتْ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِى، إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ لا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لا يَتَطَوَّفَ بِهِمَا، وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِى الأنْصَارِ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِى كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ الْمُشَلَّلِ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ (الآيَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، فَلَيْسَ لأحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ أَخْبَرْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِالرَّحْمَنِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُونَ أَنَّ النَّاسَ إِلا مَنْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ بِمَنَاةَ، كَانُوا يَطُوفُونَ كُلُّهُمْ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ فِى الْقُرْآنِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نَطُوفُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ فَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا، فَهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أَنْ نَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ (الآيَةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَسْمَعُ هَذِهِ الآيَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 نَزَلَتْ فِى الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا فِى الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْجَاهِلِيَّةِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالَّذِينَ يَطُوفُونَ، ثُمَّ تَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِمَا فِى الإسْلامِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ. قال المؤلف: ذكر إسماعيل بن إسحاق عن الشعبى قال: كان على الصفا وثن يقال له: (يساف) ، وعلى المروة وثن يقال له: (نائلة) ، فكان المشركون يطوفون بينهما، فلما كان الإسلام قال ناس: (يا رسول الله، إن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بين الصفا والمروة للوثنين الذين كان عليهما، وليسا من شعائر الله. فنزلت هذه الآية) . واختلف العلماء فى وجوب السعى بين الصفا والمروة، فروى عن ابن مسعود، وأُبى بن كعب، وابن عباس أنه غير واجب، وقال أنس ابن مالك وابن الزبير: هو تطوع. وروى مثله عن ابن سيرين، وقال الثورى والكوفيون: هو واجب إلا أنه ينوب عند الدم. وروى مثله عن عطاء والحسن وقتادة، وقالت عائشة: هو فرض. وبه قال مالك والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، ويأمرون من بقى عليه منه شىء بالرجوع إليه من بلده، فإن كان وطأ النساء قبل أن يرجع كان عليه إتمام حجه أو عمرته، وحج قابل والهدى. واحتج من لم يره واجبًا بقراءة من قرأ: (فلا جناح عليه ألا يطوف بهما) قالوا: فعلى هذه القراءة لا جناح عليه فى ترك السعى كما قالت عائشة: واحتج بعض أهل هذه المقالة أيضًا بقراءة الجماعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 وقالوا: قوله تعالى: (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) [البقرة: 158] يقتضى أن يكون السعى مباحًا لا واجبًا، كقوله: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ) [النساء: 101] ، والقصر مباح لا واجب، واحتجوا بقول عائشة فى هذا الحديث: (وقد سَنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الطواف بينهما) فمن قال: إن السعى فرض، فقد خالف ما تقتضيه الآية، وخالف لفظ الحديث: وما سُمى سُنَّة فليس بفريضة، فهى سنة مؤكدة لا ينبغى تركها. قال ابن القصار: فيقال لهم: إن عائشة قد ردت على عروة تاويل المخالف فى الآية وقالت: بئس ما قلت يا ابن أختى، إن هذه لو كانت كما تأولتها، لكانت: (فلا جناح عليه ألا يطوف بهما) . وإنما نزلت فى الأنصار الذين كانوا يتحرجون فى الجاهلية أن يطوفوا بينهما، وفى الذين كانوا يطوفون فى الجاهلية ثم تحرجوا أن يطوفوا فى الإسلام، وهذا يبطل تأويلهم؛ لأن عائشة علمت سبب الآية وضبطت هذا المعنى الجليل، والصاحب إذا روى القصة مُفَسَّرة فلا تفسير لأحد معه. وقال غيره: لا حجة لمن تعلق بقول عائشة (وقد سَنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الطواف بينهما) ؛ لأنه قد صح من مذهبها أن ذلك فريضة، والفرائض تثبت بالسنة كما تثبت بالقرآن؛ لأن الله قد فرض طاعة رسوله، فكل ما جاء عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) من فرض أو سنة فسائغ أن يقال فيه: سَنَّةُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه فرض عُلم من طريق السنة، وأما قراءة من قرأ: (فلا جناح عليه ألا يطوف بهما) فلا حجة فيها لشذوذها، وأنه لم يقرأ بها أحد من أئمة القراء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 قال الطحاوى: وقد يجوز أن يرجع معنى القراءتين جميعًا إلى معنى واحد؛ لأن العرب قد تصل ب (لا) وتزيدها كقوله تعالى: (لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) [القيامة: 1، 2] ، وكقوله: (فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) [الواقعة: 75] ، و) فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) [المعارج: 40] فى معنى أقسم بيوم القيامة، وأقسم بكل ما ذكر، و) مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ) [الأعراف: 12] أى: ما منعك أن تسجد، فيحتمل قول عائشة لعروة: كلا لو كانت كما تقول لكانت: (فلا جناح عليه ألا يطوف بهما) على معنى الصلة التى يرجع بها إلى معنى قوله: (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) [البقرة: 158] وفى حديث عائشة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سَنَّ الطواف بينهما، وأن قوله: (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا (إنما هو على إباحة الطواف بينهما الذى كانوا يتحرجونه، ثم سَنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الطواف بينهما، فصار من سنته التى ليس لأحد التخلف عنها مع ما تقدم من قوله تعالى فيهما أن جعلهما من شعائره، والشعائر: العلامات، وقد قال تعالى: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32] . وقال عليه السلام حين طاف بهما: (نبدأ بما بدأ الله به) . وقال: (خذوا عنى مناسككم، لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا) . وطاف بينهما، ودل حديث حماد بن سلمة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: (ما تمت حجة أحد ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة) أن ذلك مما لا يكون مأخوذًا من جهة الرأى، وإنما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 يؤخذ من جهة التوقيف، وقولها ذلك يدل على وجوب الصفا والمروة فى الحج والعمرة جميعًا. 71 - باب مَا جَاءَ فِى السَّعْىِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: السَّعْىُ مِنْ دَارِ بَنِى عَبَّادٍ إِلَى زُقَاقِ بَنِى أَبِى حُسَيْنٍ. / 107 - فيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ، عليه السَّلام، إِذَا طَافَ الطَّوَافَ الأوَّلَ، خَبَّ ثَلاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، وَكَانَ يَسْعَى بَطْنَ الْمَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقُلْتُ لِنَافِعٍ: أَكَانَ عَبْدُاللَّهِ يَمْشِى إِذَا بَلَغَ الرُّكْنَ الْيَمَانِىَ؟ قَالَ: لا، إِلا أَنْ يُزَاحَمَ عَلَى الرُّكْنِ، فَإِنَّهُ كَانَ لا يَدَعُهُ حَتَّى يَسْتَلِمَهُ. / 108 - وسَئل ابْنَ عُمَرَ، عَنْ رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ فِى عُمْرته، وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَيَأْتِى امْرَأَتَهُ؟ فَقَالَ: قَدِمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (وَقَالَ جَابِرَ كذلك، فَقَالَ: لا يَقْرَبَنَّهَا حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَقَالَ أيضًا ابْن عُمَر: إن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) سعى بين الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. / 109 - وفيه: عَاصِم، قَالَ: قُلْتُ لأنَسِ: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْىَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، لأنَّهَا كَانَتْ مِنْ شَعَائِرِ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ (الآية. / 110 - وفيه: ابْن عَبَّاس، إِنَّمَا سَعَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؛ لِيُرِىَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 قال المؤلف: معنى هذا الباب كالذى قبله، وفيه بيان صفة السعى وأنه شىء معمول به غير مرخَّص فيه؛ ألا ترى أن ابن عمر حين ذكره قال: (وقد كان لكم فى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أسوة حسنة) وذكر ابن عباس فى حديث هذا الباب علة السعى فى الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة، وأن النبى عليه السلام فعله لُيِرىَ المشركين قوته؛ لأنهم قالوا: إن حُمَّى يثرب أنهكتهم، فكان عليه السلام يرمل فى طوافه بالبيت مقابل المسجد ومقابل السوق موضع جلوسهم وأنديتهم، فإذا توارى عنهم مشى، ذكره أهل السير، وقد ذكرته فى باب: كيف كان بدء الرَّمَل، فالسنة التزام الخبّ فى الثلاثة أشواط فى الطواف بالبيت، تبركًا بفعله عليه السلام وسنته، وإن كانت العلة قد ارتفعت فذلك من تعظيم شعائر الله. وقد ذكر البخارى فى (كتاب الأنبياء) عن ابن عباس علّة أخرى للسعى والهرولة بين الصفا والمروة؛ فقال ابن عباس: (انطلقت أم إسماعيل إلى الصفا فوجدته أقرب جبل فى الأرض إليها، فقامت عليه تنظر هل ترى أحدًا، فلم تر، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادى رفعت طرف درعها، فسعت سعى المجهود حتى جاوزت الوادى، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا، فلم تره، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبى عليه السلام: (فلذلك سعى الناس بينهما) . فبيّن فى هذا الحديث أن سبب كونها سبعة أطواف، وسبب السعى فيها فعل أم إسماعيل عليهم السلام ذلك. وذكر ابن أبى شيبة قال: حدثنا عبد العلى، عن الجريرى، عن أبى الطفيل قال: قلت لابن عباس: (ألا تحدثنى عن الطواف راكبًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 بين الصفا والمروة، فإنهم يزعمون أنه سنة. فقال: صدقوا وكذبوا، فقلت: وما صدقوا وكذبوا؟ قال: صدقوا، إن الطواف بين الصفا والمروة سنة، وكذبوا فى أن الركوب فيه سنة، أتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الصفا والمروة فلما سمع به أهل مكة خرجوا ينظرون إليه، حتى خرجت العواتق، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يدفع أحَدًا عنه، فأكبُّوا عليه، فلما رأى ذلك دعا براحلته فركب ثم طاف على بعيره ليسمعوا كلامه، ولا تناله أيديهم، ويروا مكانه) . واختلفوا فى ذلك، فكانت عائشة تكره السعى بينهما راكبًا، وكرهه عروة بين الزبير، وهو قول أحمد وإسحاق، وقال أبو ثور: لا يجزئه وعليه أن يعيد. وقال الكوفيون: إن كان بمكة أعاد ولا دَمَ عليه، وإن رجع إلى الكوفة فعليه دم. ورخصت فيه طائفة، روى عن أنس بن مالك أنه طاف على حمار، وعن عطاء ومجاهد مثله. وقال الشافعى: يجزئه ولا إعادة عليه إن فعل، وحجة من أجاز ذلك فعل النبى عليه السلام وحجة من كرهه أنه ينبغى امتثال فعل أم إسماعيل فى ذلك، وأن ركوب النبى عليه السلام راحلته فيه كان للعلة التى ذكرها ابن عباس فى الحديث. قال الطحاوى: وأما قول أنس: إنهم كانوا يكرهون الطواف بهما لأنهما من شعائر الجاهلية حتى نزلت الآية، فقد كان ما سواهما من الوقوف بعرفة والمزدلفة والطواف بالبيت من شعائر الحج فى الجاهلية أيضًا، فلما جاء الإسلام ذكر الله ذلك فى كتابه، فصار من شعائر الحج فى الإسلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 فإن قال قائل: فإن الله قال بعقب قوله: (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) [البقرة: 158] ) وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (. فدل أن الطواف بهما فى الحج والعمرة تطوع، قيل له: لو كان كما وصفت لكان الطواف بينهما قربة، وكان للناس أن يتطوعوا بالطواف بينهما، وإن لم يكونوا حاجين ولا معتمرين، وقد أجمع المسلمون على أن الطواف بينهما فى غير الحج والعمرة ليس مما يتقرب به العباد إلى الله ولا يتطوعون به، وأن الطواف بينهما لا قربة فيه إلا فى حج أو عمرة، فَدَلَّ ذلك على أن قوله: (وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا (لا يرجع إلى الطواف بين الصفا والمروة، وإنما يرجع إلى قوله تعالى: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) [البقرة: 158] ، أى من تطوع بحج أو عمرة فإن الله شاكر عليم. 72 - باب تَقْضِى الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَإِذَا سَعَى عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ / 111 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَدِمْتُ مَكَّةَ، وَأَنَا حَائِضٌ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قَالَتْ: فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (افْعَلِى كَمَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِى بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِ) . / 112 - وفيه: جَابِر، أَهَلَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ، وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْىٌ غَيْرَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَطَلْحَةَ، وَقَدِمَ عَلِىٌّ مِنَ الْيَمَنِ، وَمَعَهُ هَدْىٌ. . . الحديث، وَحَاضَتْ عَائِشَةُ، فَنَسَكَتِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ. / 113 - وفيه: حَفْصَةَ، كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ، فَقَدِمَتِ امْرَأَةٌ، فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِى خَلَفٍ. . . الحديث، وَقَالَت: سَمعت النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يقول: (لِتَخْرُجِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ، فَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤمنين، وَتَعْتَزِلُ الْحائض الْمُصَلَّى) ، فَقُلْتُ: أَالْحَائِضُ؟ فَقَالَتْ: أَوَلَيْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ وَتَشْهَدُ كَذَا وَكَذَا. العلماء مجمعون على أن الحائض تشهد المناسك كلها غير الطواف بالبيت لقوله عليه السلام لعائشة: (افعلى ما يفعل الحاج غير ألا تطوفى بالبيت حتى تطهرى) . فكان فى حكم الحائض كل من ليس على طهارة من جنب وغير متوضئ؛ لأن ركوع الطواف متصل به لا فصل بينه وبينه، هذه سنته. قال المهلب: وإنما منعت الحائض الطواف على غير طهارة؛ تنزيهًا للمسجد من النجاسات لقوله عز وجل: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) [التوبة: 28] ولأمره عليه السلام الحيض فى العيدين بالاعتزال للمصلى، فوجب تنزيهه عن الحائض والجنب، ومن عليه نجاسة، وأما السعى بين الصفا والمروة فلا أعلم أحدًا شرط فيه الطهارة إلا الحسن البصرة فقال: إن ذكر أنه سعى على غير طهارة قبل أن يحل فليعد، وإن ذكر ذلك بعدما حل فلا شىء عليه. وذكر ابن وهب عن ابن عمر أنه كان يكره السعى بينهما على غير طهارة. قال ابن المنذر: قوله عليه السلام لعائشة: (لفعلى ما يفعل الحاج غير ألا تطوفى بالبيت) يبين أن ذلك جائز؛ لأنه أباح لها السعى بين الصفا والمروة بعرفة وجميع المناسك على غير طهارة، غير الطواف بالبيت خاصة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 73 - باب الإهْلالِ مِنَ الْبَطْحَاءِ وَغَيْرِهَا لِلْمَكِّىِّ وَلِلْحَاجِّ إِذَا خَرَجَ إِلَى مِنًى وَسُئِلَ عَطَاءٌ، عَنِ الْمُجَاوِرِ يُلَبِّى بِالْحَجِّ، قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُلَبِّى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ وَاسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَقَالَ جَابِرٍ: قَدِمْنَا مَعَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) فَأَحْلَلْنَا حَتَّى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَجَعَلْنَا مَكَّةَ بِظَهْرٍ لَبَّيْنَا بِالْحَجِّ، وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: أَهْلَلْنَا مِنَ الْبَطْحَاءِ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ جُرَيْجٍ لابْنِ عُمَرَ: رَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْهِلالَ، وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَقَالَ: لَمْ أَرَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ. قال المهلب: من أنشأ الحج من مكة فله أن يهل من بيته أو من المسجد الحرام أو من البطحاء، وهى طرف مكة، أو من حيث أحب مما دون عرفة، ذلك كله واسع؛ لأن ميقات أهل مكة منها، وليس عليه أن يخرج إلى الحِلِّ؛ لأنه خارج فى حجته إلى عرفة، فيحصل له بذلك الجمع بين الحل والحرم، وهو بخلاف منشئ العمرة من مكة، وقد ذكرنا حكمه فى باب قبل هذا. ويستحب للمكى وللمتمتع إذا أنشأ الحج من مكة أن يُهِلا من حيث أهل ابن عمر ويوم التروية من البطحاء، وكذلك قال جابر. قال غيره: وأما وجه احتجاج ابن عمر بإهلال النبى عليه السلام بذى الحليفة، وهو غير مكى على من أنشأ الحج من مكة أنه يجب أن يهل يوم التروية، وهى قصة أخرى، فوجه ذلك أن النبى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 عليه السلام أهل من ميقاته فى حين ابتدائه فى عمل حجته، واتصل به عمله، ولم يكن بينهما مكث ينقطع به العمل، فكذلك المكى لا يهل إلا يوم التروية الذى هو أول عمله للحج، ليتصل له عمله تأسيًا برسول الله فى ذلك (صلى الله عليه وسلم) . وقد تابع ابن عمر على ذلك ابن عباس قال: لا يهل أحد من أهل مكة بالحج حتى يريد الرواح إلى منى. وبه قال عطاء، واحتج بأن أصحاب النبى عليه السلام إذ دخلوا فى حجتهم مع النبى أهلُّوا عشية التروية، حين توجهوا إلى منى، قال: وأخبرنى أبو الزبير عن جابر أن النبى عليه السلام قال لهم فى حجته: (إذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا، قال: فأهللنا من البطحاء) . وأما قول عبيد بن جريح لابن عمر: إن أهل مكة يهلون إذا رأوا الهلال، فهو مذهب عمر بن الخطاب وابن الزبير، روى مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال: (يا أهل مكة، ما بال الناس يأتون شعثًا وأنتم مدهنون، أهلوا إذا رأيتم الهلال) فهو على وجه الاستحباب، لأن الإهلال إنما يجب على من يتصل عمله، وليس من السنة أن يقيم المحرم فى أهله، وقد روى عن ابن عمر ما يوافق مذهب عمر. ذكر مالك فى (الموطا) : أن ابن عمر كان يهل لهلال ذى الحجة، ويؤخر الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى، قال نافع: أَهَلَّ ابن عمر مرة بالحج حين رأى الهلال، ومرة أخرى بعد الهلال من جوف الكعبة، ومرة أخرى حين راح إلى منى. قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 مجاهد: فقلت لابن عمر: أهللت فينا إهلالا مختلفًا قال: أما أول عام فأخذت بأخذ أهل بلدى، يعنى: المدينة، ثم نظرت فإذا أنا أدخل على أهلى حرامًا، وأخرج حرامًا، وليس كذلك نصنع، إنما كنا نهل ثم نقبل على شأننا، قلت: فبأى شىء نأخذ؟ قال: تحرم يوم التروية. 74 - باب أَيْنَ يُصَلِّى الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟ / 114 - فيه: عَبْدِالْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عن أَنَس بْنَ مَالِكٍ، أَخْبِرْنِى بِشَىْءٍ عَقَلْتَهُ عَنِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟ قَالَ: بِمِنًى، قُلْتُ: فَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟ قَالَ: بِالأبْطَحِ، ثُمَّ قَالَ: افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ. وَقَالَ مرة: خَرَجْتُ إِلَى مِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَلَقِيتُ أَنَسًا ذَاهِبًا عَلَى حِمَارٍ، فَقُلْتُ: أَيْنَ صَلَّى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، الْيَوْمَ الظُّهْرَ؟ فَقَالَ: انْظُرْ حَيْثُ يُصَلِّى أُمَرَاؤُكَ فَصَلِّ. قال المهلب: الناس فى سعة من هذا، يخرجون متى أحبوا ويصلون حيث أمكنهم، ولذلك قال أنس: صل حيث تصل أمراؤك. والمستحب من ذلك ما فعله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، صلى الظهر والعصر بمنى، وهو قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وعادة أهل مكة أن يخرجوا إلى مِنى بعد صلاة العشاء، وكانت عائشة تخرج ثلث الليل. وهذا يدل على التوسعة، وكذلك المبيت عن منى ليلة عرفة ليس فيه حرج إذا وافى عرفة الوقت الذى يَجِبُ، ولا فيه جبر، كما يجبر ترك المبيت بها بعد الوقوف أيام رمى الجمار، وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعى وأبو ثور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 والمستحب فى ذلك أن يصلى الظهر والعصر بمنى، ثم يصلى المغرب والعشاء والصبح بها، ثم يدفع بعد طلوع الشمس إلى عرفة فيصلى فيها الظهر والعصر، ثم يطلع إلى جبال الرحمة يدعو إلى أن تغرب الشمس، فإذا غربت دفع مع الإمام فيصلى المغرب والعشاء بالمزدلفة يجمع بينهما، ثم يبيت بالمزدلفة، فإن أخذ مننها حصى الجمار فَحَسَن، ثم يصلى الصبح بها، ثم يدفع من المزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى لرمى جمرة العقبة يرميها يوم النحر إلى وقت الزوال، ثم يحل له وكل شىء إلا النساء والطيب، والصيد عند مالك، وعند غيره إلا النساء، فإن أراد استعجال تمام الحل كله نهض إلى مكة فطاف طواف الإفاضة، وحل حلا كاملا، ثم يرجع يوم النحر إلى منى فيبيت بها ويرمى الجمار فى الثلاثة الأيام من منى بعد الزوال، إلا أن يتعجل فى يومين وقد تم حجه. وحَدُّ منى من محسر إلى العقبة، وكان منزل الرسول عليه السلام من منى بالخيف. 75 - باب الصَّلاةِ بِمِنًى / 115 - فيه: ابْن عُمَرَ، صَلَّى النَّبِىّ، عليه السَّلام، بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ صَدْرًا مِنْ خِلافَتِهِ. / 116 - وَقَالَ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ: صَلَّى بِنَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَنَحْنُ أَكْثَرُ مَا كُنَّا قَطُّ وَآمَنُهُ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ. / 117 - وَقَالَ عَبْدِ اللَّهِ: صَلَّيْتُ مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) رَكْعَتَيْنِ، وأَبِى بَكْرٍ مثله ِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 وعُمَرَ مثله، ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمُ الطُّرُقُ، فَيَا لَيْتَ حَظِّى مِنْ أَرْبَعٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ. قد تقدم هذا الباب فى كتاب الصلاة فى أبواب قصر المسافر الصلاة وقد تقدم فيه اختلاف العلماء فيمن يلزمه قصر الصلاة بمنى، وما نزع فيه كل فريق منهم، ونذكر منه هنا طرفًا. ذهب مالك والأوزاعى وإسحاق إلى أن أهل مكة ومن أقام بها من غيرها يقصرون الصلاة بمنى وعرفة، وأن القصر سنة الموضع، وإنما يُتِمُّ بمنى وعرفة من كان مقيمًا فيها، وذهب الثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور، إلى أنهم يُتمون الصلاة بها وقالوا: إن من لم يكن سفره سفرًا تقصر فيه الصلاة فحكمه حكم المقيم، وكذلك قد تقدم هناك معنى إتمام عثمان وعائشة الصلاة فى السفر وما للعلماء فى ذلك من الوجوه. 76 - باب صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ / 118 - فيه: أُمِّ الْفَضْلِ، شَكَّ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِى صَوْمِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَبَعَثْتُ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ. قد تقدم هذا الباب فى (كتاب الصيام) ، وذكرت فيه قول استحب صوم يوم عرفة بعرفة وغيرها، ومن كرهه، وذكرت الأثر الوارد عن النبى عليه السلام فى فضل صيامه، وأن ذلك كفارة سنتين، وما للعلماء فى صومه من المذاهب، فأغنى عن إعادته فتأمله هناك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 قال المهلب: وفيه قبول الهدية من المطعم والمشرب، وفيه الشرب فى المحافل للعالم والسلطان. 77 - باب التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ إِذَا غَدَا مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَات / 119 - فيه: مُحَمَّدِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ الثَّقَفِىِّ، أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَهُمَا غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ، كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ فِى هَذَا الْيَوْمِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَقَالَ: كَانَ يُهِلُّ مِنَّا الْمُهِلُّ، فَلا يُنْكِرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ مِنَّا الْمُكَبِّرُ، فَلا يُنْكِرُ عَلَيْهِ. قال أبو عبد الله بن صفرة: فى هذا الحديث ابتداء قطع التلبية من الغُدُوِّ من منى، وآخرها رمى جمرة العقبة فى حديث الفضل وأسامة وابن مسعود عن النبى عليه السلام والذى مضى عليه جمهور العلماء من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) وأهل المدينة اختيار قطعها عند الرواح إلى عرفة؛ لأنهم فهموا أن تعجيل قطعها وتأخيره على الإباحة، يدل على ذلك ترك إنكار بعضهم على بعض، وهم فهموا السنن وتلقوها، فوجب الاقتداء بهم فى اختيارهم؛ لأنا أمرنا باتباعهم. قال الطحاوى: لا حجة لكم فى هذا الحديث؛ لأن فيه أن بعضهم كان يهل، وبعضهم كان يكبر، ولا يمنع أن يكونوا فعلوا ذلك ولهم أن يلبوا لأن للحاج فيما قبل يوم عرفة أن يكبر، وله أن يهل، وله أن يلبى، فلم يكن تكبيره وإهلاله يمنعانه من التلبية. وقال المهلب: وجه قطع التلبية عند الرواح إلى الموقف من عرفة؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 لأنه آخر السفر، وإليه منتهى الحاج، وما بعد ذلك فهو رجوع فالتكبير فيه أولى لقوله تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) [البقرة: 198] ، وقال: (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) [البقرة: 185] فدل هذا على أن التكبير والدعاء لله عند المشعر الحرام وأيام منى أولى من التلبية؛ لأن معنى التلبية الإجابة، وإذا بلغ موضع النداء قطع التلبية، وأخذ فى الدعاء، وسأل الله حاجاته، وسأذكر اختلافهم فى قطع التلبية فى حديث الفضل وأسامة بعد هذا إن شاء الله. 78 - باب التَّهْجِيرِ بِالرَّوَاحِ يَوْمَ عَرَفَةَ / 120 - فيه: سَالِم، قَالَ: كَتَبَ عَبْدُالْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ أَنْ لا يُخَالِفَ ابْنَ عُمَرَ فِى الْحَجِّ، فَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَصَاحَ عِنْدَ سُرَادِقِ الْحَجَّاج، فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ؟ فَقَالَ: الرَّوَاحَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ، قَالَ: هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْظِرْنِى حَتَّى أُفِيضَ عَلَى رَأْسِى، ثُمَّ أَخْرُجُ، فَنَزَلَ حَتَّى خَرَجَ الْحَجَّاجُ، فَسَارَ بَيْنِى وَبَيْنَ أَبِى، فَقُلْتُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَاقْصُرِ الْخُطْبَةَ وَعَجِّلِ الْوُقُوفَ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَبْدِاللَّهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْدُاللَّهِ، قَالَ: صَدَقَ. هذا الحديث يخرج فى المسندات لقول عبد الله للحجَّاج: إن كنت تريد السنة؛ لأن السنة سنة رسول الله. وقال معمر: إن الزهرى سمع هذا الحديث من ابن عمر؛ لأنه شهد تلك الحجة وحضر القصة، وسمع منه حديثًا آخر، وفيه أن تعجيل الرواح للإمام للجمع بين الظهر والعصر فى مسجد عرفة فى أول وقت الظهر سنة، وقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 رَوى عن مالك فى هذا الحديث: (وعجل الصلاة) مكان: (وعجل الوقوف) ابنُ القاسم، وابنُ وهب، ومطرف، ويحيى بن يحيى، وهو صحيح المعنى؛ لأن تعجيل الرواح إنما يراد لتعجيل الصلاتين والجمع بينهما، فدل أن تعجيل الصلاة بعرفة سنة. وروى القعنبى وأشهب عن مالك: (وعجل الوقوف) ، كما رواه البخارى وهو صحيح المعنى أيضًا؛ لأن تعجيل الوقوف بعرفة بعد الصلاة سنة أيضًا، وفيه: الغسل للوقوف بعرفة، لقول الحجاج لعبد الله: أنظرنى حتى أفيض على ماء. وأهل العلم يستحبونه. قال الطحاوى: وفيه خروج الحجّاج وهو محرم وعليه ملحفة معصفرة، ولم ينكر ذلك عليه ابن عمر، ففيه حجة لمن أجاز المعصفر للمحرم، وقد تقدم ذكر ذلك فى بابه. وقال المهلب: فى حديث ابن عمر من الفقه جواز تأمير الأّدْوَن على الأفضل والأعلم، وفيه أن إقامة الحج إلى الحلفاء ومن جَعلوا ذلك إليه، وفيه أن الأمير يجب أن يعمل فى الدين بقول أهل العلم ويصير إلى رأيهم، وفيه مداخلة العلماء السلاطين وأنه لا نقيصة على العلماء فى ذلك، وفيه: فتوى التلميذ بحضرة معلمه عند السلطان وغيره، وفيه ابتداء العالم بالفتيا قبل أن يُسأل عنها، وفيه الفهم بالإشارة والنظر، وفيه أن اتباع الرسول (صلى الله عليه وسلم) هى السنة وإن كان فى المسألة أوجه جائزة غيرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 79 - باب الْوُقُوفِ عَلَى الدَّابَّةِ بِعَرَفَةَ / 121 - فيه: أُمِّ الْفَضْلِ، أَنَّ نَاسًا اخْتَلَفُوا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِى صَوْمِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ، فَشَرِبَهُ. الوقوف على الدابة بعرفة أفضل من الوقوف راجلا؛ لأن النبى عليه السلام لا يفعل إلا الأفضل، مع أن فى ذلك قوة على الدعاء والتضرع وتعظيمًا لشعائر الله، وهو الذى اختار مالك والشافعى وجماعة، وقد تقدم، وفيه أن الوقوف على ظهر الدواب مباح إذا كان بالمعروف ولم يجحف بالدابة، وأن النهى الذى ورد ألا تتخذ ظهورها مجالس، فإن معناه فى الأغلب والأكثر بدليل هذا الحديث. 80 - باب الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ بِعَرَفَةَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلاةُ مَعَ الإمَامِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا. / 122 - فيه: سَالِمٌ، أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ حين نَزَلَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ، سَأَلَ عَبْدَاللَّهِ كَيْفَ تَصْنَعُ فِى الْمَوْقِفِ يَوْمَ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ سَالِمٌ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ، فَهَجِّرْ بِالصَّلاةِ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ ابْنُ عُمَرَ: صَدَقَ، إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِى السُّنَّةِ. قال المهلب: إنما كان جمع الصلاتين فى أول الوقت لاشتراك الوقتين من أول الزوال إلى غروب الشمس فى أصل السنّة، وبمفهوم كتاب الله ليجعلوا الوقوف وينفردوا فيه الدعاء؛ لأنه موقف يقصد إليه من أطراف الأرض، فكأنهم أرادوا الاستكثار من الدعاء فى بقية النهار؛ لأنهم يدفعون من عرفة إلى المزدلفة عند سقوط الشمس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 واختلفوا فى الوقت الذى يُؤَذَِن فيه المؤذن بعرفة للظهر والعصر، واختلف قول مالك فى ذلك، فحكى ابن نافع عنه أنه قال: الأذان بعرفة بعد جلوس الإمام للخطبة، وحكى آخر عنه أنه يؤذن بعدما يخطب الإمام صدرًا من خطبته، حتى يفرغ من خطبته مع فراغ المؤذن ويقيم، ونحوه قال الشافعى، قال: يأتى الإمام المسجد إذا زالت الشمس فيجلس على المنبر فيخطب الخطبة الأولى، فإذا خطب أخذ المؤذون فى الأذان، وأخذ هو فى الكلام وخفف الكلام الآخر حتى ينزل بقدر فراغ المؤذن من الأذان ويقيم. واختلفوا فى الأذان والإقامة لهما، فقال مالك: يصليهما بأذانين وإقامتين. وقال أبو حنيفة والشافعى: يصليهما بأذان واحد وإقامتين، وهو قول أبى ثور، وقال أحمد وإسحاق: يجمع بينهما بإقامة إقامة أو بأذان وإقامتين إن شاء. قال الطبرى: وجائز العمل فى ذلك بكل ما جاءت به الآثار. واختلفوا فيمن فاتته الصلاة بعرفة مع الإمام، فكان ابن عمر يجمع بينهما، وهو قول عطاء ومالك وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وحكاه أبو ثور عن يعقوب ومحمد والشافعى، وقال النخعى وأبو حنيفة والثورى: إذا فاتته مع الإمام صلى كل صلاة لوقتها، ولا يجوز له الجمع إلا مع الإمام؛ لأن النبى عليه السلام بَيَّنَ أوقات الصلوات، فلا يجوز الخروج عن وقتها إلا بدلالة، وقد قامت الدلالة على أنه جمع بين الظهر والعصر بعرفة، فلا يجوز الجمع إلا بإمام كما فعل النبى عليه السلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 قال المؤلف: ووجه الدلالة على الكوفيين من حديث ابن عمكر قول سالم للحجاج: إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة يوم عرفة. وهذا خطاب يتوجه إلى كل أحد مأمومًا كان أو منفردًا أن سنة الصلاة ذلك الوقت، وكذلك قول ابن عمر: (كانوا يجمعون بينهما فى السنة) لفظ عام يدخل فيه كل مصل، فمن زعم أنه لبعض المصلين فعليه الدليل. وقال الطحاوى: قد روى عن ابن عمر وعائشة مثل قول أبى يوسف ومحمد من غير خلاف من الصحابة. وقال ابن القصار: وقول الكوفيين ليس بشىء لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (صلوا كما رأيتمونى أصلى) . وهذا خطاب لكل أحد فى نفسه أن يصلى الصلاتين فى وقت أحدهما بعرفة كما فعل النبى عليه السلام لأن الخطاب إنما يتوجه إلى هيئة الصلاة ووقتها لا إلى الإمامة. واتفق مالك وأبو حنيفة والشافعى على أنه إذا وافق يوم عرفة يوم الجمعة لم يصل بهم الإمام الجمعة، وكذلك قال الطحاوى، قال أبو حنيفة والشافعى: لا يُجَمِّعُ، وإنما يصلى بعرفة الظهر ركعتين لا يجهر فيهما بالقراءة، هذا إذا كان الإمام من غير أهل عرفة. وقال أبو يوسف: يصلى الجمعة بعرفة. وسأل أبو يوسف مالكًا عن هذه المسألة بحضرة الرشيد فقال مالك: سقاياتنا بالمدينة يعلمون ألا جمعة بعرفة، وعلى هذا أهل الحرمين: مكة والمدينة، وهم أعلم بذلك من غيرهم. وقد جمع الرسول (صلى الله عليه وسلم) بين الصلاتين بعرفة وصادف ذلك يوم جمعة، ولم ينقل أنه جهر بالقراءة، فدل أنه صلى الظهر بغير جهر، ولو جهر لنقل، وأيضًا فإن من شرط الجمعة الاستيطان، وليست عرفة بموطن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 لأهل مكة، فلم يجز لهم أن يصلوا الجمعة، وروى ابن وهب عن مالك أنه إذا وافق يوم جمعة يوم التروية، أو يوم عرفة، أو يوم النحر، أو أيام التشريق قال: لا جمعة عليهم، من كان من أهل مكة أو من أهل الآفاق، قال: ولا صلاة عيد يوم النحر بمنى. 81 - باب قَصْرِ الْخُطْبَةِ بِعَرَفَةَ ذكر فيه حديث ابن عمر، وقد تقدم فى باب التهجير بالرواح يوم عرفة قصر الخطبة بعرفة أو بغيرها سنة، وقد أخرج مسلم فى كتابه عن أبى وائل، عن عمار، أن النبى عليه السلام قال: (طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه) . وقد أجمعوا أن الإمام لو صلى بغير خطبة بعرفة أن صلاته جائزة، وقال أبو زيد: مئنة، كقولك: مخلقة ومجدرة ومحراة ولذلك قال أبو عبيد: يعنى أن هذا مما يعرف به فقه الرجل، ويستدل به عليه، وكذلك كل شىء دلك على شىء فهو مئنة. 82 - باب الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ / 123 - فيه: جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، كنت أطلب بَعِيرًا لِى، يَوْمَ عَرَفَةَ كنت أضللته، فَرَأَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَاقِفًا بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ مِنَ الْحُمْسِ، فَمَا شَأْنُهُ هَاهُنَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 / 124 - وقَالَ عُرْوَةُ: كَانَ النَّاسُ يَطُوفُونَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً إِلا الْحُمْسَ، وَالْحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدَتْ، وَكَانَتِ الْحُمْسُ يَحْتَسِبُونَ عَلَى النَّاسِ، يُعْطِى الرَّجُلُ الرَّجُلَ الثِّيَابَ يَطُوفُ فِيهَا، وَتُعْطِى الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ الثِّيَابَ تَطُوفُ فِيهَا، فَمَنْ لَمْ يُعْطِهِ الْحُمْسُ، طَافَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا، وَكَانَ يُفِيضُ جَمَاعَةُ النَّاسِ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَيُفِيضُ الْحُمْسُ مِنْ جَمْعٍ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِى أَبِى عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِى الْحُمْسِ: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) [البقرة: 199] ، قَالَ: كَانُوا يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ، فَدُفِعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ. قال المهلب: إنما كان وقوف قريش وهم الحُمس عند المشعر الحرام من أجل أنها كانت عزتهافى الجاهلية بالحرم، وسكناها فيه، وتقول: نحن جيران الله، فكانوا لا يرون الخروج عنه إلى الحل عند وقوفهم فى الحج، ويقولون: لا نفارق عزنا، وما حرم الله به أموالنا ودماءنا، وكانت طوائف العرب تقف فى موقف إبراهيم عليه السلام من عرفة، وكان وقوف النبى عليه السلام مع طوائف العرب بعرفة ليدعوهم إلى الإسلام، وما افترض الله عليه من تبليغ الدعوة، وإفشاء الرسالة، وأمر الناس كلهم بالإفاضة من حيث أفاض الناس من عرفة. وقال إسماعيل بن إسحاق: قال الضحاك: الناس فى هذه الآية هو إبراهيم عليه السلام. وقال الطحاوى: قال تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) [البقرة: 198] الآية. فكان ظاهر الآية على أن الإفاضة الأولى من عرفة، وعلى أن الإفاضة الثانية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 من المشعر الحرام؛ لأنه قال تعالى: (فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ (إلى) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ (غير أنا وجدنا أهل العلم تأولوا ذلك على إفاضة واحدة، وكانت هذه الآية عندهم من المحكم المتفق على المراد به، وجعلوا قوله: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ (فى معنى وأفيضوا، وقالوا: قد تجعل ثم فى موضع الواو، كما قال الله تعالى: (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ) [يونس: 46] فكان قوله: (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (فى معنى: والله شهيد، وفى قوله: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ (الآية، دليل على أنه قد أمرهم بوقوف عرفة قبل إفاضتهم منها. غير أنا لم نجده تعالى ذكر لنا ابتداء ذلك الوقوف أى وقت هو فى كتابه، وبينه لنا فعل رسوله فى حديث جابر وحديث ابن عمر، حين قال للحجاج يوم عرفة حين زالت الشمس: (الرواح إن كنت تريد السنة) . فدل أن دفع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى عرفة كان بعد زوال الشمس يوم عرفة. قال المؤلف: ولم يختلفوا أن النبى عليه السلام صلى الظهر والعصر جميعًا بعرفة، ثم ارتفع فوقف بجبالها داعيًا الله إلى غروب الشمس، فما غربت دفع منها إلى المزدلفة. واختلفوا إذا دفع من عرفة قبل غروب الشمس ولم يقف فيها ليلا، فذهب مالك إلى أن الاعتماد فى الوقوف بعرفة على الليل من ليلة النحر، والنهار من يوم عرفة تَبَع، فإن وقف جزءًا من النهار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 وحده ودفع قبل غروب الشمس لم تجزئه، وإن وقف جزءًا من الليل، أى جزء كان، قبل طلوع الفجر من يوم النحر أجزأه، وأخذ فى ذلك بما رواه عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: من لم يقف بعرفة ليلة المزدلفة قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحج، وعن عروة بن الزبير مثله. وقال أبو حنيفة والثورى والشافعى: الاعتماد على النهار من يوم عرفة من وقت الزوال، والليل كله تبع، فإن وقف جزءًا من النهار أجزأه، وإن وقف جزءًا من الليل أجزأه إلا أنهم يقولون: إن وقف جزءًا من النهار بعد الزوال دون الليل كان عليه دم، وإن وقف جزءًا من الليل دون النهار لم يجب عليه دم، وأخذوا بحديث عروة ابن مضرس، إلا فى إيجاب الدم لمن وقف نهارًا دون الليل، وتفريقهم فى وقوف النهار بين بعد الزوال وقبله، فإنه ليس فى حديث عروة بن مضرس، وذهب أحمد بن حنبل إلى أن وقت الوقوف من حين طلوع الفجر من يوم عرفة إلى طلوع الفجر من ليلة النحر، فسوى بين أجزاء النهار وأجزاء الليل، فأخذ فى ذلك بنص حديث عروة بن مضرس قال: أتيت النبى عليه السلام وهو بمزدلفة فقلت: يا رسول الله، إنى أكللت ناقتى وأتعبت نفسى، وما من جبل إلا وقفت عليه، فهل لى من حج؟ فقال عليه السلام: (من صلى معنا هذه الصلاة، يعنى: بجمع، وكان قد وقف بعرفة ليلا أو نهارًا فقد تم حجه) . فلم يفرق بين النهار والنهار، رواه شعبة عن عبد الله بن أبى السفر، عن الشعبى سمعته يقول: حدثنى عروة بن مضرس، عن النبى عليه السلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 وقال ابن القصار: أما قوله فى حديث عروة: (وكان قد وقف بعرفة ليلا أو نهارًا) فنحن نعلم أنه عليه السلام وقف وقفة واحدة بعرفة جمع فيها بين الليل والنهار، فصار معناه: من ليل ونهار، واستفدنا من فعله عليه السلام أن المقصود آخر النهار، وهو الوقت الذى وقفه، وعقلنا بذلك أن المراد جزء من النهار مع جزء من الليل؛ لأنه لم يقتصر عليه السلام على جزء من النهار دون الليل، ولو تحرر هذا من فعله عليه السلام لجاز أن تكون (أو) بمعنى: (الواو) ، كقوله تعالى: (وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) [الإنسان: 24] معناه: وكفورًا، فإن قيل: وأنتم لا توجبون الجمع بين النهار والليل فى الوقوف، قيل: لما قال: (فقد تم حجه) علمنا أن التمام يقتضى الكمال والفضل، فيجمع فيه بين السنة والفرض، والسنة الوقوف بالنهار، والفرض هو الليل؛ لأنه هو انتهاء الوقوف، فهو الوقت المقصود، وهو أخص به من النهار؛ لأنه لو انفرد وقوفه فى هذا الجزء لأجزأه بإجماع، ولووقف هذا القدر من النهار لكان فيه خلاف ووجب عليه الدم، فكيف يكون النهار أخص به من الليل. والحُمْسُ: قريش وما ولدت من العرب، والتحمس: التشدد، وذلك أن قريشًا أحدثت هذا الدين فقالت: لا نطوف بالبيت عراة، ولا تسلى نساؤنا سمنًا، ولا تغزل وبرًا، ولا تخرج إلى عرفات، ولا نزايل حرمنا، ولا نعظم غيره، ولا نطوف بين الصفا والمروة، وكانوا يقفون بالمزدلفة، ومن سواهم من العرب يقال لهم: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 الحلّة، كانوا إذا حجوا طافوا بالبيت عراة، ورموا ثيابهم التى قدموا فيها وقالوا: نكرم البيت أن نطوف به فى ثيابنا التى جرحنا فيها الآثام، فما طرحوا من ثوب لم يمسه أحد، وسمى: النسئ واللقى والحريم، ذكره ابن الكلبى. 83 - باب السَّيْرِ إِذَا دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ / 125 - فيه: [عروة] أنه سُئِلَ [أسامة بن زيد] كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَسِيرُ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ؟ قَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ، قَالَ هِشَامٌ: وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ. قال المؤلف: تعجيل الدفع من عرفة والله أعلم إنما هو لضيق الوقت؛ لأنهم إنما يدفعون من عرفة إلى المزدلفة عند سقوط الشمس، وبين عرفة والمزدلفة نحو ثلاثة أميال، وعليهم أن يجمعوا المغرب والعشاء بالمزدلفة، وتلك سنتها، فتعجلوا فى السير لاستعجال الصلاة. قال الطبرى: وبهذا قال العلماء فى صفة سيره عليه السلام من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى أنه كان يسير العَنَق، وبذلك عمل السلف، قال الأسود: شهدت مع عمر الإفاضتين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 جميعًا لا يزيد على العَنَق، لم يُوضِعْ فى واحدة منهما، وكان ابن عمر سيره: العَنَق، وعن ابن عباس مثله. وقال آخرون: الإفاضة من عرفات وجمع الإِيضَاع دون العَنَق، وروى شعبة عن إسماعيل بن رجاء قال: سمعت معرورًا قال: رأيت عمر بن الخطاب رجلا أصلع على بعير يقول: أيها الناس، أَوْضِعُوا فإنا وجدنا الإفاضة الإيضاع، وروى ابن عيينة عن ابن المنكدر، عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع، عن جبير بن الحويرث، أن أبا بكر الصديق وقف على قزح وقال: أيها الناس، أصبحوا أصبحوا، ثم دفع فكأنى أنظر إلى فخذه قد انكشف مما يخرش بعيره بمحجنه. قال الطبرى: والصواب فى صفة السير فى الإفاضتين جميعا ما صحت به الآثار أنه عليه السلام كان يسير العنق إلا فى وادى محسر، فإنه يوضع فيه لصحة الخبر عن النبى عليه السلام بذلك، ولو أَوْضع أحد فى الموضع الذى ينبغى أن يعنق فيه، أو أعنق فى الموضع الذى ينبغى أن يوضع فيه لم يلزمه شئ؛ لإجماع الجميع على ذلك، غير أنه يكون مخطئًا سبيل الصواب وأدب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . والعَنَق: سير فوق المشى، والنَّصُّ: أرفع السير، ومن ذلك قيل لمنصة العروس: منصة؛ لارتفاعها، فإذا ارتفع عن ذلك فصار إلى العَدْوِ فهو الخَبَب، فإذا ارتفع عن ذلك فهو الوَضْع والإِيضَاع، والفَجْوَةُ: الفُرْجَةُ والسعة، ومنه قوله: (وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مِّنْهُ) [الكهف: 17] ويخرش بعيره يعنى: يخرشه بالمحجن، ومنه تخارش السنانير والكلاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 84 - باب النُّزُولِ بَيْنَ عَرَفَةَ وَجَمْعٍ / 126 - فيه: أُسَامَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، حَيْثُ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ، مَالَ إِلَى الشِّعْبِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّى؟ فَقَالَ: (الصَّلاةُ أَمَامَكَ؟) . / 127 - وفيه: نَافِعٍ، وَكَانَ ابْن عُمَرَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، غَيْرَ أَنَّهُ يَمُرُّ بِالشِّعْبِ الَّذِى أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَيَدْخُلُ، فَيَنْتَفِضُ وَيَتَوَضَّأُ، وَلا يُصَلِّى حَتَّى يُصَلِّىَ بِجَمْعٍ. نزوله (صلى الله عليه وسلم) بالشعب إنما كان نزول حاجة للبول، وليس ذلك من سنن الحج، وهو مباح لمن أراد امتثال أفعاله عليه السلام مثل ابن عمر، فإنه كان يقف فى المواضع التى وقف فيها النبى عليه السلام ويدير ناقته حيث أدار فيها ناقته، ويقتفى آثاره وحركاته، وليس ذلك بلازم إلا فيما تعلق منها بالشريعة. 85 - باب أَمْرِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، بِالسَّكِينَةِ عِنْدَ الإفَاضَةِ وَإِشَارَتِهِ إِلَيْهِمْ بِالسَّوْطِ / 128 - فيه: ابْن عَبَّاس، دَفَعَ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ عَرَفَةَ، فَسَمِعَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا، وَضَرْبًا لِلإبِلِ، فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ، عليه السَّلام: (أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالإيضَاعِ) . قال المهلب: إنما نهاهم عن الإيضاع والجرى إبقاء عليهم، ولئلا يجحفوا بأنفسهم بالتسابق من أجل بُعْدِ المسافة، لأنها كانت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 تبهرهم فيفشلوا وتذهب ريحهم، فقد نهى عن البلوغ إلى مثل هذه الحال. قال ابن المنذر: فكان فى معنى قوله: (عليكم بالسكينة) إلا فى بطن وادى محسر، فقد كان ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير يوضعون فى وادى محسر، وتبعهم على ذلك كثير من العلماء، وقال النخعى: لما رأى عمر سرعة الناس فى الإفاضة من عرفة وجمع قال: (واللله إنى لأعلم أن البر ليس برفعها أذرعها، ولكن البر شىء تصبر عليه القلوب) . وقال عكرمة: سأل رجل ابن عباس عن الإيجاف، فقال: إنَّ حَلْ حَلْ يشعل عن ذكر الله، ويوطئ ويؤذى. قال ابن المنذر: وحديث أسامة يدل أن أمره بالسكينة إنما كان فى الوقت الذى لم يجد فجوة، وأنه حين وجد فجوة سار يسيرًا فوق ذلك، وإنما أراد بالسكينة فى وقت الزحام. وقالعمر بن عبد العزيز فى خطبته يوم عرفة: إنكم شخصتم من القريب والبعيد، وتكلفتم من المؤنة ما شاء الله، وليس السابق من سبق بعيره وفرسه، ولكن السابق من غفر له. 86 - باب الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ / 129 - فيه: أُسَامَةَ، قَالَ: دَفَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ عَرَفَةَ، فَنَزَلَ الشِّعْبَ فَبَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ، فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلاةُ، قَالَ: (الصَّلاةُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 أَمَامَكَ) ؟ فَجَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ، فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِى مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَصَلَّى، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا. قال الطحاوى: معنى قوله: (الصلاة أمامك) أى: المصلى الذى تصلى فيه المغرب والعشاء أمامك. وقال الطبرى: فيه البيان أن السنة فى إمام الحاج ألا يصلى ليلة يوم النحر المغرب والعشاء إلا بالمزدلفة. قال ابن المنذر: وأجمع العلماء على ذلك، ثم اختلفوا فيمن صلاهما قبل أن يأتى المزدلفة، فروى عن جابر بن عبد الله أنه قال: لا صلاة إلا بِجَمْع، وإليه ذهب أبو حنيفة ومحمد والثورى وقالوا: إن صلاهما قبل المزدلفة فعليه عليه السلام: (الصلاة أمامك) فمن صلاهما دون المزدلفة فقد صلاهما فى غير وقتهما، ومن صلى صلاة فى غير وقتها فعليه إعادتها بعد دخول وقتها. وقال مالك: لا يصليهما أحد قبل جَمْعٍ إلا من عُذْرٍ به أو بدابته، فإن صلاهما بعذر لم يجمع بينهما حتى يغيب الشفق. وفيها قول ثالث: إن صلاهما قبل جَمْعٍ أجزأه، إمام الحاج كان أو غيره، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن الزبير، وعن عطاء، وعروة، والقاسم، وبه قال الأوزاعى، وأبو يوسف، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وحجة من أجاز الصلاة أن النبى عليه السلام جعل وقت هاتين الصلاتين من حين تغيب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 الشمس إلى آخر وقت العشاء الآخرة، وجعل له إن شاء أن يصليهما فى أول وقتهما، وإن شاء فى آخره، فأوقات الصلوات إنما هى محدودة بالساعات والزمان، فمن صلاهما بعد غروب الشمس بعرفة أو دون المزدلفة فقد أصاب الوقت وإن ترك الاختيار لنفسه فى الموضع، والصلاة لا تبطل بالخطأ فى الموضع إذا لم يكن نجسًا؛ ألا ترى أن من صلاهما بعد خروج وقتهما بالمزدلفة ممن لم يَصِلْ إلى المزدلفة إلا بعد طلوع الفجر أنه قد فاته وقتهما، فلا اعتبار بالمكان، ويشبه هذا المعنى قوله عليه السلام: (لا يصلين أحدكم العصر إلا فى بنى قريظة) . وأدرك وقت العصر القوم فى بعض الطريق، فمنهم من صلى، ومنهم من أَخَّر إلى بنى قريظة، فلم يعنف النبى (صلى الله عليه وسلم) أحدًا منهم. واحتج الطحاوى لابن يوسف فقال: لا يختلفون فى الصلاتين اللتين تصليان بعرفة أنهما لو صليتا دونها كل واحدة منهما فى وقتها فى سائر الأيام كانتا مجزئتين، فالصلاتان بمزدلفة أحرى أن تكونا كذلك؛ لأن أمر عرفة لما كان أوكد من أمر مزدلفة، كان ما يفعل فى عرفة أوكد مما يفعل فى مزدلفة، فثبت ما قال أبو يوسف، وانتفى ما قاله الآخرون. قال المهلب: وقوله: (وتوضأ ولم يسبغ الوضوء) يريد أنه خفف الوضوء، وهو أدنى ما تجزئ الصلاة به دون تكرار إمداد إمرار اليد عليه ليخص كل صلاة بوضوء على حسب عادته، وقد جاء ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 مبينًا فى الحديث، وقد تقدم بيان ذلك فى كتاب الوضوء، والحمد لله. قال الخطابى: وسميت المزدلفة لاقترابهم إلى منى بعد الإفاضة من عرفات، يقال: ازدلف القوم، إذا اقتربوا، ويقال: بل سميت مزدلفة؛ لأنها منزلة وقربة من الله، وهو قول ثعلب، قال: ومنه قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً) [الملك: 27] ، أى رأوا العذاب قرب، ومنه قوله تعالى: (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ) [الشعراء: 64] أى: قربناهم من الهلاك، وقال الطبرى: إنما سميت مزدلفة لازدلاف آدم إلى حواء بها، وكان كل واحد منهما حين أهبط إلى الأرض أهبط إلى مكان غير مكان صاحبه، فازدلف كل واحد منهما إلى صاحبه، فتلاقيا بالمزدلفة، فسميت البقعة بذلك. والشّعب: الطريق فى الجبل بكسر الشين، والشعب بفتح الشين: الجمع بين الشيئين، يقال: شعب فلان الشئ، إذا جمعه ولامه، ومنه قول الطرماح. شتّ شَعْبُ القوم بَعْدَ التئام وقال الطبرى: واختلفوا فى السبب الذى من أجله سميت عرفة. فقال على بن أبى طالب وغيره: إنما قيل لها ذلك؛ لأن الله بعث جبريل إلى إبراهيم فحج به، فلما أتى عرفة قال: قد عرفت، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك. وقال جماعة أخرى: إنما قيل لها: عرفات؛ لأن جبريل كان يقول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 لإبراهيم: هذا موضع كذا، وهذا موضع كذا، فيقول: قد عرفت قد عرفت. 87 - باب مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَتَطَوَّعْ / 130 - فيه: ابْن عُمَرَ، جَمَعَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا وَلا عَلَى إِثْرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. / 131 - وفيه: أَبُو أَيُّوبَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، جَمَعَ بين الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ. قال المؤلف: وروى مالك عن ابن شهاب حديث ابن عمر هذا ولم يذكر فيه أنه أقام لكل صلاة، وزاد الإقامة فى هذا الحديث عن ابن شهاب: ابنُ أبى ذئب والليثُ، وهما ثقتان حافظان، وزيادة الحافظ مقبولة، وإنما لم يتطوع بينهما والله أعلم لأنه لم يكن بينهما أذان، ففرغ من صلاة المغرب ثم قام إلى العشاء، ولم يكن بينهما مهملة فى الوقت يمكن فيها التنفل، وأما من رأى أن يؤذن لكل صلاة، فإنه لا يمنع التنفل لمن أراد، وقد فعل ذلك ابن مسعود، وإن كان قد روى ابن نافع عن مالك أنه لا يتنفل بين الصلاتين عند جمعهما. وكل ذلك واسع لا حرج فيه، قال الطبرى: لأنهما صلاتان تصليان لأوقاتهما، ولن يفوت وقتهما للحاج حتى يطلع الفجر، وفى هذا الحديث حجة للشافعى أن صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة بإقامة إقامة، وكذلك فى حديث أسامة حين نزل صلى بالشعب إقامة إقامة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 88 - باب مَنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا / 132 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْن مسعود، أنه حج فَأَتى الْمُزْدَلِفَةَ حِينَ الأذَانِ بِالْعَتَمَةِ، أَوْ قَرِيبًا منه، فَأَمَرَ رَجُلا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ، وَصَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ دَعَا بِعَشَائِهِ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَمَرَ، أُرَى، فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، قَالَ عَمْرٌو: لا أَعْلَمُ الشَّكَّ إِلا مِنْ زُهَيْرٍ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ، قَالَ: إِنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، كَانَ لا يُصَلِّى هَذِهِ السَّاعَةَ إِلا هَذِهِ الصَّلاةَ فِى هَذَا الْمَكَانِ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: هُمَا صَلاتَانِ تُحَوَّلانِ عَنْ وَقْتِهِمَا: صَلاةُ الْمَغْرِبِ بَعْدَ مَا يَأْتِى النَّاسُ الْمُزْدَلِفَةَ، وَالْفَجْرُ حِينَ يَبْزُغُ الْفَجْرُ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَفْعَلُهُ. اختلف العلماء فى الأذان والإقامة لهاتين الصلاتين، فروى ابن القاسم عن مالك أنه يؤذن ويقيم لكل صلاة على ظاهر حديث ابن مسعود، وقد روى مثله عن عمر بن الخطاب وابن مسعود. وذهب ابن الماجشون وأحمد بن حنبل وأبو ثور إلى أنه يجمع بينهما بأذان واحد وإقامتين، واختاره الطحاوى، وذكر عن أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد بأَذَانٍ واحد وإقامة واحدة، خلاف قولهم فى الجمع بين الظهر والعصر بعرفة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 وذهبت طائفة إلى أنه يصليهما بإقامة إقامة، روى ذلك عن ابن عمر وعن القاسم وسالم، وإليه ذهب الشافعى وإسحاق وأحمد فى أحد قوليه، وذهب الثورى إلى أنه يصليهما بإقامة واحدة لا أذان معها، واحتج الطحاوى بحديث حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: (أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) جمع بينهما بأذان واحد وإقامتين) . قال الطحاوى: وأجمعوا أن الأُولَى من الصلاتين اللتين يجمعان بعرفة يؤذن لها ويقام، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك حكم الأُولى من الصلاتين بجمع. وأخذ الطحاوى بحديث أهل المدينة. والحجة لأبى حنيفة ما رواه شعبة عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر: (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أذن للمغرب بجمع فأقام، ثم صلى العشاء بالإقامة الأولى) . وحجة الشافعى حديث ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه: (أن النبى عليه السلام جمع بينهما بإقامة إقامة) رواه الليث وابن أبى ذئب عن الزهرى، ولم يذكره مالك فى حديثه، وذكره البخارى فى الباب قبل هذا، وهذه الرواية أصح عن ابن عمر مما خالفها، واحتج أيضًا بحديث ابن عباس عن أسامة بن زيد: (أن النبى عليه السلام عدل إلى الشعب فتوضأ. . .) وذكر الحديث، وفيه أنه أقام لكل واحدة منهما، واحتج الثورى بما رواه عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: (جمع النبى عليه السلام بين المغرب والعشاء بالمزدلفة بإقامة واحدة) وكان أحمد ابن حنبل يعجب من مالك إذا أخذ بحديث ابن مسعود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 ولم يروه، وهو من رواية أهل الكوفة، وترك ما روى أهل المدينة فى ذلك من غير ما طريق، وكذلك أخذ أهل الكوفة بما رواه أهل المدينة فى ذلك وتركوا روايتهم عن ابن مسعود. وفى فعل ابن مسعود من الفقه جواز التنفل بين الصلاتين إذا جمعتا، وإنما تَعَشَّى بين الصلاتين على سبيل السعة فى ذلك، لا على أن يدخل بين المغرب والعشاء عملا أو شغلا. وقد قال أصبغ: إذا صلى أهل المسجد المغرب، فوقع مطر شديد وهم يتنفلون، فأرادوا أن يعجلوا العشاء قبل وقتها، فلا بأس بذلك. قال المهلب: وقوله: (وهما صلاتان تحولان عن وقتهما) إنما هو تحويل عن الوقت المستحب المعتاد إلى ما قبله من الوقت، لا أن تحويلهما قبل دخول أوقاتهما المحدودة فى كتاب الله عز وجل. 89 - باب مَنْ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِلَيْلٍ فَيَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَيَدْعُونَ / 133 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ، فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ مَا بَدَا لَهُمْ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الإمَامُ، وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلاةِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوُا الْجَمْرَةَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: (أَرْخَصَ فِى أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّهِ) . / 134 - وفيه: ابْن عَبَّاس، بَعَثَنِى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ فِى ضَعَفَةِ أَهْلِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 / 135 - وفيه: عَبْدُاللَّهِ، عَنْ أَسْمَاءَ، أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ الْمُزْدَلِفَةِ، فَقَامَتْ تُصَلِّى، فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَىَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: لا، فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَىَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْت: نَعَمْ، قَالَتْ: فَارْتَحِلُوا، فَارْتَحَلْنَا وَمَضَيْنَا، حَتَّى رَمَتِ الْجَمْرَةَ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتِ الصُّبْحَ فِى مَنْزِلِهَا، فَقُلْتُ لَهَا: يَا هَنْتَاهُ، مَا أُرَانَا إِلا قَدْ غَلَّسْنَا، قَالَتْ: يَا بُنَىَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَذِنَ لِلظُّعُنِ. / 136 - وفيه: عَائِشَةَ، اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، لَيْلَةَ جَمْعٍ، وَكَانَتْ ثَقِيلَةً ثَبْطَةً، فَأَذِنَ لَهَا. / 137 - وفيه: عنها نَزَلْنَا الْمُزْدَلِفَةَ، فَاسْتَأْذَنَتِ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، سَوْدَةُ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَكَانَتِ امْرَأَةً بَطِيئَةً، فَأَذِنَ لَهَا، فَدَفَعَتْ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَأَقَمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا نَحْنُ، ثُمَّ دَفَعْنَا بِدَفْعِهِ، فَلأنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَمَا اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ. قال المهلب: إنما قدم النبى عليه السلام ضعفة أهله خشية تزاحم الناس عليهم عند الدفع من المزدلفة إلى منى، فَأرْخَصَ لهم أن يدفعوا قبل الفجر، وأن يرموا الجمرة قبل طلوع الشمس لخوف الازدحام عليهم، والوقت المستحب لرمى جمرة العقبة يوم النحر طلوع الشمس؛ لرميه عليه السلام ذلك الوقت. واختلفوا هل يجوز رميها قبل ذلك، فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق: يجوز رميها بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس، وإن رماها قبل الفجر أعاد. ورخصت طائفة فى الرمى قبل طلوع الفجر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 روى ذلك عن عطاء وطاوس والشعبى، وبه قال الشافعى وشرط إذا كان الرمى بعد نصف الليل. وقال النخعى ومجاهد: لا يرميها حتى تطلع الشمس. وبه قال الثورى وأبو ثور وإسحاق، والحجة لمالك والكوفيين حديث ابن عمر؛ لأنه قال فيه: (فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة) ، واحتج الشافعى بحديث عبد الله مولى أسماء أنه قال: (رحلنا مع أسماء من جمع لما غاب القمر، وأتينا منى ورمينا، ورجعت فصلت الصبح فى دارها، فقلت لها: رمينا قبل الفجرفقالت: هكذا كنا نفعل مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) . ولم يرو البخارى حديث أسماء على هذا النسق، ولا ذكر فيه: (رمينا قبل الفجر) وإنما ذكر فيه أن مولاها قال لها: (يا هنتاه غلسنا) وغلسنا لفظة محتملة للتأويل لا يقطع بها؛ لأنه يجوز أن يسمى ما بعد الفجر غلسًا. قال ابن القصار: ولو صح قوله: (رمينا قبل الفجر) لكان ظنا منه؛ لأنه لما رآها صلت الصبح فى دارها ظن أن الرمى كان قبل الفجر، والرمى كان بعد الفجر، فأخرت صلاة الصبح إلى دارها. وقولها: (هكذا كنا نفعل) إشارة إلى فعلها، وفعلها يجوز أن يكون بعد الفجر؛ لأنها لم تقل هى: رمينا قبل الفجر ولا قالت: كنا نرمى معه قبل الفجر؛ لأنه لم ينقل أحد عن النبى عليه السلام أنه رمى قبل الفجر، واحتج الشافعى أيضا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 بحديث أم سلمة أن النبى عليه السلام أمرها أن تصبح بمكة يوم النحر، وهذا لا يكون إلا وقد رميت الجمرة بمنى ليلا قبل الفجر، قال: لأنه غير جائز أن يوافى أحد صلاة الصبح بمكة وقد رمى جمرة العقبة إلا وقد رماها ليلا؛ لأن من أصبح بمنى فكان بها بعد طلوع الفجر، فإنه لا يمكنه إدراك صلاة الصبح بمكة. وقد ضَعَّفَ أحمد بن حنبل حديث أم سلمة ودفعه وقال: لا يصح، رواه أبو معاوية عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبى سلمة، عن أم سلمة (أن النبى عليه السلام أمرها أن توافى معه صلاة الصبح يوم النحر بمكة) . قال: ولم يسنده غيره، وهو خطأ، وقال وكيع عن هشام، عن أبيه مرسل: (أن النبى عليه السلام أمرها أن توافى صلاة الصبح يوم النحر بمكة) . قال أحمد: وهذا أيضًا عجب، وما يصنع يوم النحر بمكة، ينكر ذلك، فجئت إلى يحيى بن سعيد فسألته فقال: عن هشام، عن أبيه (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمرها أن توافى) وليس أن توافيه، قال: وبين هذين فرق، يوم النحر صلاة الصبح بالأبطح، وقال لى يحيى بن سعيد: سل عبد الرحمن بن مهدى، فسألته فقال: هكذا قال سفيان: عن هشام، عن أبيه (توافى) وقال أحمد: رحم الله يحيى ما كان أضبطه وأشد تفقده. واحتج الثورى بحديث ابن عباس (أن النبى عليه السلام قدم أغيلمة بنى عبد المطلب وضعفتهم وقال لهم: يا بنى، لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 رواه شعبة والأعمش عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، ورواه سفيان ومسعر عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العرنى، عن ابن عباس: قدمنا من المزدلفة بليل فقال عليه السلام: (أى بنية عبد المطلب، لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس) . وهذا إسناد وإن كان ظاهره حسنًا، فإن حديث ابن عمر وأسماء يعارضانه، فلذلك لم يخرجه البخارى والله أعلم، مع أنه قد روى مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: (بعثنى النبى عليه السلام مع أهله وأمرنى أن أرمى مع الفجر) . فخالف حديث مقسم عن ابن عباس. قال الطبرى: والصواب عندنا قول من قال: إن وقت رمى جمرة العقبة طلوع الفجر من يوم النحر؛ لأن حينئذ يحل الحاج، وذلك أنَّ بطلوع الفجر من تلك الليلة انقضى وقت الحج، وفى انقضائه انقضاء وقت التلبية ودخول وقت رمى جمرة العقبة، غير أنه لا ينبغى لمن كان محرمًا أن يلبس أو يتطيب أو يعمل شيئًا مما كان حرامًا عليه قبل طلوع الفجر من يوم النحر حتى يرمى جمرة العقبة استحبابًا واتباعًا فى ذلك سنة النبى عليه السلام فإذا رمى الجمرة فقد حَلَّ من كل شىء حرم عليه إلا جماع النساء حتى يطوف طواف الإفاضة. قال ابن المنذر: السنة أن لا يرمى إلا بعد طلوع الشمس كما فعل عليه السلام، ولا يجزئ الرمى قبل طلوع الفجر بحالٍ؛ إذ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 فاعله مخالف لسنة النبى عليه السلام ومن رماها بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس فلا إعادة عليه، إذ لا أعلم أحدًا قال لا يجزئه، وقال الطبرى: وفيه الدليل الواضح أن لأهل الضعف فى أبدانهم أن يتقدموا إلى منى ليلة النحر من جمع، وأنه مرخص لهم فى ترك الوقوف بالمشعر غداة النحر. وقد اختلف السلف فى ذلك فقالت طائفة: جائز التقدم من جمعٍ بليل قبل الوقوف بها غداة النحر وصلاة الصبح بها لضعفة الناس خاصة والنساء والصبيان دون أهل القوة والجلد، وقالوا: إنما أذن فى ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لضعفة الناس خاصة، واحتجوا بحديث ابن عباس، قالوا: فمن تقدم من جمعٍ بليل من أهل القوة فلم يقف بها مع الإمام، فقد ضيع نسكًا وعليه إراقة دم. وهو قول مجاهد، وعطاء، وقتادة، والزهرى، وأبى حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وكان مالك يقول: إن مر بها فلم ينزل بها فعليه دم ومن نزل بها ثم دفع منها بعدما نزل بها وكان دفعه منها فى أول الليل أو وسطه أو آخره ولم يقف مع الإمام، فقد أجزأه ولا دم عليه. وهو قول النخعى، وحجة هذا القول أن النبى عليه السلام بات بها حين حج بالناس وعلمهم مناسكهم، فمن ضيع من ذلك شيئًا فعليه دم، وإنما أجزنا له التقدم بالليل إلى منى إذا بات بها؛ لتقديم النبى (صلى الله عليه وسلم) أهله من جمع بليل، فكان ذلك رخصة لكل أحد بات بها. وقال الشافعى: إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شىء عليه، وإن خرج منها قبل نصف الليل فلم يعد إلى المزدلفة افتدى، والفدية شاة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 وقال آخرون: جائز ذلك لكل أحد: للضعيف والقوى، وكانوا يقولون: إنما جَمْع منزل نزله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كبعض منازل السفر، فمن شاء طواه فلم ينزل به، ومن شاء نزله فله أن يرتحل منه متى شاء من ليل أو نهار، ولا شىء عليه، روى ذلك عن عطاء، وهو قول الأوزاعى، واحتجوا بما حدثنا أبو كريب قال: حدثنا خالد بن مخلد، عن محمد بن عبد الله، عن عطاء، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إنما جمع منزل لدلج المسلمين) . وقال الطحاوى: ذهب قوم إلى أن الوقوف بالمزدلفة فرض لا يجوز الحج إلا بإصابته، واحتجوا فى ذلك بقوله تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) [البقرة: 198] فذكر الله المشعر الحرام كما ذكر عرفات، وذكر ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث عروة بن مضرس، فحكهما واحد لا يجزئ الحج إلا بإصابته. قال ابن المنذر: وهذا قول علقمة والشعبى والنخعى، قالوا: فمن لم يقف بجمع فقد فاته الحج، ويجعل إحرامه عمرة. قال الطحاوى: والحجة عليهم أن قوله تعالى: (فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ (ليس فيد دليل أن ذلك على الوجوب، ولأن الله إنما ذكر الذكر، ولم يذكر الوقوف، وكُل قد أجمع أنه لو وقف بمزدلفة ولم يذكر الله تعالى أن حجة تام، فإذا كان الذكر المذكور فى الكتاب ليس من صلب الحج، فالموطن الذى يكون ذلك الذكر فيه الذى لم يذكر فى الكتاب أحرى ألا يكون فرضًا، وقد ذكر الله أشياء فى كتابه فى الحج لم يُرد بذكرها إيجابها فى قول أحد من الأمة، من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 ذلك قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) [البقرة: 158] وكل قد أجمع النظر أنه لو حج ولم يطف بين الصفا والمروة أن حجه قد تم، وعليه دم مكان ما ترك من ذلك، فكذلك ذكر الله فى المشعر الحرام فى كتابه لا يدل على إيجابه، وأما قوله عليه السلام فى حديث عروة بن مضرس: (من شهد معنا صلاة الفجر بالمزدلفة وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارًا فقد تم حجه) فلا حجه فيه؛ لإجماعهم أنه لو بات بها ووقف ونام عن الصلاة فلم يصلها مع الإمام حتى فاتته أن حجة تام، فلما كان حضور الصلاة مع الإمام ليس من صلب الحج الذى لا يجزئ إلا به، كان الموطن الذى تكون فيه تلك الصلاة التى لم يذكر فى الحديث أحرى ألا يكون كذلك، فلم يتحقق بهذا الحديث ذكر الفرض إلا بعرفة. قال الطحاوى: وفى حديث سودة ترك الوقوف بالمزدلفة أصلا، وكذلك فى حديث ابن عباس وأسماء، وفى إباحة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لهم ذلك للضعيف دليل أن الوقوف بها ليس من صلب الحج الذى لا يجزئ إلا به كالوقوف بعرفة؛ ألا ترى أن رجلا لو ضعف عن الوقوف بعرفة، فترك ذلك لضعفه حتى طلع الفجر من يوم النحر أن حجه قد فسد، ولو وقف بها بعد الزوال ثم نفر منها قبل غروب الشمس أن أهل العلم مجمعون أنه غير معذور بالضعف الذى به، وأن طائفة منهم تقول: إن عليه دم لتركه بقية الوقوف بعرفة، وطائفة منهم تقول: قد فسد حجه، ومزدلفة ليست كذلك؛ لأن الذين أوجبوا الوقوف بها يجيزون النفور عنها بعد وقوفه بها قبل فراغ وقتها، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 وهو قبل طلوع الشمس من يوم النحر لعذر الضعف، فلما ثبت أن عرفة لا يسقط فرض الوقوف بها للعذر، ولا يحل النفور منها قبل وقته بالعذر، وكانت مزدلفة مما يباح ذلك منها بالعذر ثبت أن حكم مزدلفة ليس فى حكم عرفة؛ لأن الذى يسقط للعذر ليس بواجب، والذى لا يسقط للعذر هو الواجب. وقال الخطابى: الثبطة: البطيئة، وقد ثبطت الرجل عن أمره، ومنه قوله تعالى: (وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) [التوبة: 46] ، وقد تقدم تفسير قوله: (يا هنتاه) فى باب قوله: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ (فأغنى عن إعادته. 90 - بَاب مَتَى يُصَلِّى الْفَجْرَ بِجَمْعٍ / 138 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، صَلَّى صَلاةً بِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إِلا صَلاتَيْنِ، جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَصَلَّى الْفَجْرَ قَبْلَ مِيقَاتِهَا. / 139 - وَقَالَ مرة: صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: طَلَعَ الْفَجْرُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: لَمْ يَطْلُعِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلاتَيْنِ حُوِّلَتَا عَنْ وَقْتِهِمَا فِى هَذَا الْمَكَانِ: الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، فَلا يَقْدَمُ النَّاسُ جَمْعًا حَتَّى يُعْتِمُوا، وَصَلاةَ الْفَجْرِ فِى هَذِهِ السَّاعَةَ، ثُمَّ وَقَفَ حَتَّى أَسْفَرَ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَاضَ الآنَ أَصَابَ السُّنَّةَ، فَمَا أَدْرِى أَقَوْلُهُ كَانَ أَسْرَعَ أَمْ دَفْعُ عُثْمَانَ، فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّى حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ. قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلى الفجر بالمزدلفة حين تبين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 له الصبح بأذان وإقامة. قال المهلب: وقول ابن مسعود: (ما رأيت الرسول (صلى الله عليه وسلم) صلى صلاة لغير ميقاتها) فإنه لا يريد بذلك أنه صلاها فى الوقت الذى لا يحل، وإنما أراد غير ميقاتها المعهود المستحب للجماعات بعد دخول الوقت وتمكنُّه، بييّن ذلك قوله: (قائل يقول: طلع الفجر، وقائل يقول: لم يطلع) يريد أنه بادر الفجر أول طلوعه فى الوقت الذى لا يتبينه كل أحد، ولم يَتَأَنَّ حتى يتبّين طلوعه لكل أحد، كما كانت عادته أن يصلى قبل ذلك، ولا يجوز أن يتأول عليه غير هذا التأويل. 91 - بَاب مَتَى يُدْفَعُ مِنْ جَمْعٍ / 140 - فيه: عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ يَقُولُ: شَهِدْتُ عُمَرَ صَلَّى بِجَمْعٍ الصُّبْحَ، ثُمَّ وَقَفَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لا يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ، وَأَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) خَالَفَهُمْ، ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ. قال الطبرى: فيه من الفقه بيان وقت الوقوف الذى أوجبه الله تعالى على حجاج بيته بالمشعر الحرام، لقوله تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) [البقرة: 198] فمن وقف بالمشعر الحرام ذاكرًا له فى الوقت الذى وقف به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أو فى بعضه، فقد ادركه وأدى ما ألزم الله من ذكره به، وذلك حين صلاة الفجر بعد طلوع الفجر الثانى إلى أن يدفع الإمام منه قبل طلوع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 الشمس يوم النحر، ومن لم يدرك ذلك حتى تطلع الشمس فقد فاته الوقوف فيه بإجماع. وقال ابن المنذر: ثبت أن النبى عليه السلام أفاض من جمع قبل طلوع الشمس حين أسفر جدا، وأخذ بهذا ابن مسعود وابن عمر، وقال بذلك عامة العلماء أصحاب الرأى والشافعى، غير مالك فإنه كان يرى أن يدفع قبل طلوع الشمس وقبل الإسفار. قال المهلب: فإنما عجل النبى عليه السلام الصلاة، وزاحم بها أول وقتها ليدفع قبل إشراق الشمس على جبل ثبير ليخالف أمر المشركين، فكلما بَعُدَ دفعُه من طلوع الشمس كان أفضل، فلهذا والله أعلم اختار هذا مالك. قال الطبرى: وقوله: (لا يفيضون) يعنى: لا يرجعون من المشعر الحرام إلى حيث بدأ المصير إليه من منى حتى تطلع الشمس، وكذلك تقول العرب لكل راجع من موضع آخر إلى الموضع الذى بدا منه: أفاض فلان من موضع كذا. وكان الأصمعى يقول: الإفاضة: الدفعة، وكل دفعة إفاضة، ومنه قيل: أفاض القوم فى الحديث، إذا دفعوا فيه. وأفاض دمعه يفيضه، فأما إذا سالت دموع العين، فإنما يقال: فاضت عينه بالدموع. قال ابن قتيبة: وقولهم: أَشْرق ثبير، هو من شروق الشمس، وشروقها: طلوعها، يقال: شرقت الشمس شروقًا، إذا هى طلعت، وأشرقت: إذا أضاءت، وإنما يريدون: أُدْخُلْ أيها الجبل فى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 الشروق كما يقال: أشمل القوم: إذا دخلوا فى ريح الشمال، وأجنبوا: إذا دخلوا فى الجنوب، وأراحوا: إذا دخلوا فى الريح، وأربعوا: إذا دخلوا فى الربيع، فإذا أردت أن شيئًا من هذا أصابهم، قلت: شمل القوم وجنبوا وريحوا وربعوا وشرقوا، وغيثوا إذا أصابهم الغيث. وقوله: (كيما نغير) يريد كيما ندفع للنحر، قال الطبرى: وهو من قولهم: أغار الفرس إغارة الثعلب، وذلك إذا دفع وأسرع فى عدوه. 92 - باب التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ غَدَاةَ النَّحْرِ حَتى يرمى جَمرة العَقبة وَالارتداف فِى السَّير / 141 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أَرْدَفَ الْفَضْلَ، فَأَخْبَرَ الْفَضْلُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّى حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ. وَقَالَ أُسَامَةَ: لَمْ يَزَلِ رِدْفَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، قَالَ: فَكِلاهُمَا، قَالا: لَمْ يَزَلِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يُلَبِّى حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ. اختلف السلف فى الوقت الذى يقطع الحاج فيه التلبية، فذهبت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 طائفة إلى حديث الفضل وأسامة وقالوا: يلبى الحاج حتى يرمى جمرة العقبة. روى هذا عن ابن مسعود وابن عباس، وبه قال عطاء، وطاوس، والنخعى، وابن أبى ليلى، والثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقالوا: يقطعها مع أول حصاة يرميها من جمرة العقبة، إلا أحمد وإسحاق فإنه يقطعها عندهما إذا رمى الجمرة بأسرها، على ظاهر الحديث. وروى عن على بن أبى طالب أنه كان يلبى فى الحج، فإذا زاغت الشمس من يوم عرفة قطع التلبية، قال مالك: وذلك الأمر الذى لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا. وقال ابن شهاب: وفعل ذلك الأئمة أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعائشة، وابن المسيب، وذكر ابن المنذر عن سعيد مثله، وذكره الطحاوى عن مكحول، وكان ابن الزبير يقول: أفضل الدعاء يوم عرفة التكبير. وروى معناه عن جابر بن عبد الله. واحتج ابن القصار لمالك وأهل المدينة فقال فى حديث ابن عباس وأسامة: لو فعل ذلك النبى عليه السلام على أنه المستحب عنده لم تخالفه الصحابة بعده، فيحتمل أنه أراد ألا يقطع التلبية عند زوال الشمس؛ لأن الناس كانوا يتلاحقون به يوم عرفة حتى لا يبقى أحد إلا سمع تلبيته؛ لأنه صاحب الشرع، فأعلمهم أنها تجوز إلى هذا الوقت، ويكون المستحب لنا عند الزوال بعرفة لما قد تقرر من اختيار الصحابه له، وهم الذين أمرنا بالاقتداء بهم؛ لأنهم المبلغون للسنن، والمفسرون لها، فوجب اتباع سبيلهم واختيار ما اختاروه، والرغبة عما رغبوا عنه. وتأول الطحاوي في قطع الصحابة للتلبية عند الرواح إلى عرفة أن ذلك لم يكن على أن وقت التلبية قد انقطع، ولكن لأنهم كانوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 يأخذون فيما سواها من الذكر والتكبير والتهليل، كما لهم أن يفعلوا ذلك قبل يوم عرفة أيضًا، وقد تقدم فى باب: التلبية ولا يكبر إذا غدا من منى إلى عرفة، أن التلبية هى الإجابة لما دعى إليه، فإذا بلغ عرفة فقد بلغ غاية ما يدرك الحاج بإدراكه، ويفوت بفوته، فلذلك يقطع التلبية عند بلوغ النهاية، وقد تقدم ذكر الارتداف فى السير فى أول كتاب الحج. وقال ابن المنذر: ثبت أن النبى عليه السلام رمى الجمرة يوم النحر على راحلته، وقال به مالك فرأى أن يرمى جمرة العقبة يوم النحر راكبًا؛ اقتداءً بالنبى عليه السلام وفى غير يوم النحر ماشيًا، وكره مالك أن يركب إلى شىء من الجمار إلا من ضرورة، وكان ابن عمر وابن الزبير وسالم يرمون الجمار إلا من ضرورة، وكان ابن عمر وابن الزبير وسالم يرمون الجمار وهم مشاة، واستحب ذلك أحمد وإسحاق، قال الطبرى: وإنما قيل لها: جمرة؛ لأنها حجارة مجتمعة، وكل شىء مجتمع فهو عند العرب جمرة وجمار، ومنه قولهم: أَجْمَرَ السلطانُ جيشهَ فى الثغر، بمعنى: جَمَعَهُم فيه، ومنه قيل لأحياء من العرب تجمعت: جمار وجمرات. 93 - باب قول الله تَعَالَى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ (إلى قوله: (حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [البقرة: 196] / 142 - فيه: أَبُو جَمْرَةَ، سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْمُتْعَةِ، فَأَمَرَنِى بِهَا، وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْهَدْىِ، فَقَالَ: فِيهَا جَزُورٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ أَوْ شِرْكٌ فِى دَمٍ، وَكَأَنَّ نَاسًا كَرِهُوهَا، فَنِمْتُ، فَرَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ كَأَنَّ إِنْسَانًا يُنَادِى حَجٌّ مَبْرُورٌ وَمُتْعَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ سُنَّةُ أَبِى الْقَاسِمِ (صلى الله عليه وسلم) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 قَالَ آدَمُ، وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، وَغُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ: عُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، وَحَجٌّ مَبْرُورٌ. قال الطحاوى: إن قال قائل: إنما أطلق الله فى كتابه المتعة للمحُحْصَرين بالحج، ولم يذكر معهم من لم يُحْصَر، فكيف أبحتم العمرة فيمن لم يحصر؟ فالجواب: إن فى الآية ما يدل على أن غير المحصرين قد دخلوا فيها بما أجمعوا عليه، وهو قوله: (وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة: 196] . فلم يختلف أهل العلم فى المحرم بالحج والعمرة مِمَّنْ لم يحصر أنه إذا أصابه أذى فى رأسه، أو أصابهُ مرض أنه يحلقَ وأن عليه الفدية المذكورة فى الآية التى تليها، وأن القصد بها إلى المحصرين لا يمنع أن يدخل فيها من سواهم من المحرمين غير المحصرين، فكذلك قوله: (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ (لا يمنع أن يكون غير المحصرين فى ذلك كالمحصرين، بل هذا أَوْلى بما ذكرنا من المعنى الأول الذى فى الآية؛ لأنه قال فى المعنى الأول: (فَمَن كَانَ مِنكُم (. ولم يقل ذلك فى المعنى الثانى منها. واختلف العلماء فيما استيسر من الهدى، فقالت طائفة: شاة، روى ذلك عن على وابن عباس، وهو قول مالك وجمهور العلماء، وروى عن ابن عمر وعائشة أن ما استيسر من الهدى من الإبل والبقر خاصة. قال إسماعيل: وأحسب هؤلاء ذهبوا إلى ذلك من أجل قوله: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ) [الحج: 36] فذهبوا إلى أن الهدى ما وقع عليه اسم بدن. ويرد هذا التأويل قوله تعالى: (فَجَزَاء مِّثْلُ مَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) [المائدة: 95] إلى قوله: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] وقد حكم المسلمون فى الظبى بشاة، فوقع عليها اسم هدى. وروى عن ابن عمر وأنس أنه يجزئ فى المتعة والقران شرك فى دم. وروى عن عطاء وطاوس والحسن مثله، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، ولا تجزئ عندهم البدنة أو البقرة عن أكثر من سبعة على حديث جابر، ولا تجزئ عندهم الشاة عن أكثر من واحد. قال المؤلف: ولا تعلق لهم فى حديث أبى جمرة عن ابن عباس، قال إسماعيل: وأبو جمرة وإن كان من صالحى الشيوخ فإنه شيخ، وقد روى ثقات أصحاب ابن عباس عنه أن) فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ) [البقرة: 196] شاة، وأن المعتمد فى العلم على الثقات المعروفين بالعلم، وقد روى ليث بن أبى سشليم عن طاوس، عن ابن عباس مثل رواية أبى جمرة، وليث ضعيف، فلا يتعنى بالكلام فيه، وقد روى حماد ابن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن ابن عباس قال: ما كنت أدرى أن دمًا واحدًا يقتضى عن أكثر من واحد. وأما ما روى عن جابر أنه قال: (نحرنا يوم الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة) فلا حجة فيه؛ لأن الحديبية لم يكن فيها تمتع، وإنما كان عليه السلام أحرم بالعمرة من ذى الحليفة وساق الهدى، فلما صده المشركون نحروا الهدى، وهو تطوع ليس فيه تمتع ولا غيره مما يوجب هديًا، وهذا كما روى عنه عليه السلام أنه ضحى عن أمته، وكما روى عن أبى أيوب أن الرجل يضحى بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه قال: تفسير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 حديث جابر فى التطوع، والعمرة تطوع لا بأس بذلك. وروى عنه ابن القاسم أنه لا يشترك فى هدى واجب ولا تطوع. فإن قيل: إن الهدى كان عليهم لأنهم حُصِرُوا، قيل: الهدى قد كان أشعر وأوجب هديًا بعد الحصر. وما روى عن أنس أنهم كانوا يشتركون السبعة فى البدنة والبقرة، فإنما يعنى به الأضاحى، وليس المراد به أنهم يشتركون فى الأضحية، على أن لكل واحدٍ منهم سهمًا من ملكها، وإنما يعنى به أن أهل البيت يضحون بالجزور أو البقرة عن جماعة منهم، وهذا جائز عندنا ولو كان أكثر من سبعة إذا كان ملكها لرجل واحد، وضحى بها عن نفسه وأهله، وقد تقدم فى كتاب الصيام الاختلاف فى صوم التمتع الثلاثة الأيام فى الحج، فأغْنى عن إعادته. 94 - باب رُكُوبِ الْبُدْنِ وَقَوْلِهِ: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ (إلى قوله: (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) [الحج: 36] . قَالَ مُجَاهِدٌ: سُمِّيَتِ الْبُدْنَ لِبُدْنِهَا. / 143 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، رَأَى رَجُلا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ: (ارْكَبْهَا) ، فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، فَقَالَ: (ارْكَبْهَا، وَيْلَكَ، فِى الثَّانِيَةِ أَوْ فِى الثَّالِثَةِ) . قال المهلب: فيه من الفقه استعمال بعض ما وجه لله تعالى إذا احتيج إليه، على خلاف ما كانت الجاهلية عليه من أمر البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فأعلم الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما أهل به لله إنما هو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 دماؤها، وأما لحومها والانتفاع بها قبل نحرها وبعده فغير ممنوع، بل هو مباح بخلاف سُنن الجاهلية. واختلف العلماء فى ركوب الهدى الواجب والتطوع، فذهب أهل الظاهر إلى أن ذلك جائز من غير ضرورة، وبه قال أحمد وإسحاق، وبعضهم أوجب ذلك، واحتجوا بحديث أبى هريرة وأنس، وكره مالك وأبو حنيفة والشافعى ركوبها من غير ضرورة، وكرهوا شرب لبن الناقة بَعْدَ رىِّ فصيلها، وقال أبو حنيفة والشافعى: إن نقصها الركوبُ والشربُ فعليه قيمة ذلك، واحتجوا أن ما خرج لله فغير جائز الرجوع فى شىء منه والانتفاع به إلا عند الضرورة. وقال الطحاوى: احتمل أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر بركوب البدنة لغير ضرورة، واحتمل أن يكون أمر بذلك لضرورة، فنظرنا فى ذلك فإذا نصر بن مرزوق، حدثنا عن ابن معبد، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس (أن النبى عليه السلام رأى رجلا يسوق بدنة، وقد جهد، فقال: اركبها، فقال: يا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، إنها بدنة، قال اركبها) . وروى ابن أبى شيبة حدثنا أبو خالد الأحمر، عن ابن جريج، عن أبى الزبير، عن جابر فى ركوب البدن قال: سمعت النبى عليه السلام يقول: (اركبها بالمعروف إذا لم تجد ظهرًا) . فأباح عليه السلام ركوبها فى حال الضرورة، فثبت أن حكم الهدى أن يركب للضرورة. وقد روى عن ابن عمر ما يدل على هذا المعنى، روى هشيم عن الحجاج، عن نافع، عن ابن عمر (أنه كان يقال للرجل إذا ساق بدنة وأعيا: اركبها، وما أنتم بمستنين سنة هى أهدى من سنة محمد) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 ثم اعتبرنا ذلك من طريق النظر، فرأينا ما الملك فيه متكامل كالعبد الذى لم يُدبره مولاه، والأَمَة التى لم تلد، والبدنة التى لم يوجبها صاحبها، كل ذلك جائز بيعه، والانتفاع به وجائز تمليك منافعه ببدل وبغير بدل، ورأينا البدنة إذا أوجبها ربها، فكل قد أجمع أنه لا يجوز أن يؤاجرها، ولا يجوز أن يبيع منافعها، كان كذلك ليس له أن ينتفع بها، ولا يجوز له الانتفاع إلا بشىء له التعوض بمنافعه وأخد البدل فيها، وروى عن مجاهد فى قوله: (لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) [الحج: 33] قال: فى طهورها وألبانها وأصوافها وأوبارها حتى تصير بدنًا، وبه قال النخعى وعروة. قال المهلب: وفيه من الفقه تكرير العالم الفتوى، وفيه توبيخ الذى لا يأتمر بالفتوى والدعاء عليه بالويل وشبهه، مما عادة العرب أن تدعوا به، وقيل: هذا مما لا يراد به الوقوع، وإنما هو على سبيل التحضيض، وقد قال عليه السلام: (إنما أنا بشر أغضب كما تغضبون، فمن سَبَبَتْتُه فاجعل ذلك له كفارة وأجرًا) . فهذا دليل أنه عليه السلام لم يُرد بشىء من دُعائه على من وَبَّخَهُ الوقوع. 95 - باب مَنْ سَاقَ الهدىِ مَعَهُ / 144 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَأَهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْىَ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى، فَسَاقَ الْهَدْيَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، مَكَّةَ، قَالَ لِلنَّاسِ: (مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لِشَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِىَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ، وَلْيَحْلِل، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، فَلْيَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ) ، فَطَافَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَىْءٍ، ثُمَّ خَبَّ ثَلاثَةَ أَطْوَافٍ وَمَشَى أَرْبَعًا، فَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَانْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا، فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَنْ أَهْدَى، وَسَاقَ الْهَدْىَ مِنَ النَّاسِ. وقَالَ ابْن شهاب: عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فِى تَمَتُّعِهِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَهُ، مثل حديث ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: قول ابن عمر: (تمتع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) يعنى أنه أمر بذلك كما يقال: رجم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولم يرجم، وكتب ولم يكتب، بل أمر بذلك وقوله: (فى حجة الوداع) دليل أن النبى عليه السلام لم يتمتع فى خاصة نفسه، بل كانت حجة مُفردَة، وسميت حجة الوداع، وقوله: (فبدأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأهَلَّ بالعمرة) إنما يريد أنه بدأ حين أمرهم بالتمتع أن يهلوا بالعمرة أولا، ويقدموها قبل الحج، أو ينشئوا الحج بعد العمرة إذا حَلُّوا منها، وقوله: (فتمتع الناس مع النبى عليه السلام) معناه: تمتعوا بحضرته، ومثل هذا فى الكلام مشهور كما جاء فى الحديث: (أن فلانًا قتل مع النبى (صلى الله عليه وسلم) فى بعض غزواته) معناه: قتل بحضرة النبى عليه السلام. وقوله للناس: (من كان منكم أهدى فلا يحل من شئ) دليل على أنه عليه السلام لم يتمتع؛ لأنه ساق الهدى، ولم يُحل كما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 حلَّ من لم يسق الهدى، وما فى آخر الحديث من تعليم الناس يفسر ما فى أوله من إشكال قوله: (أنه تمتع) لأن المفسّر يقضى على المجمل، وقد صح عن ابن عمر أنه رَدَّ قول أنس: (أن النبى عليه السلام تمتع) وقال: (أهلَّ النبى عليه السلام بالحج وأهللنا به، فلما قدمنا مكة، قال: من لم يكن معه هدى فليجعلها عمرة، وكان مع النبى عليه السلام هدى) ذكره البخارى عن مسدد فى كتاب المغازى، وقد ذكرناه فى باب: التمتع والقران والإفراد وفسخ الحج، فكيف ينكر ابن عمر على أنس أن النبى عليه السلام أهل بعمرة وحجة؟ هذا ما لا يتوهمه عاقل، فصح أن تأويل قول ابن عمر فى هذا الباب: (تمتع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) أنه أمر بذلك، لا أنه فعله عليه السلام فى خاصّة نفسه، وهذا التأويل ينفى التناقض عن الخبرين، ويجمع بين المتضادين. وأما قوله فى حديث عروة: أن عائشة أخبرته عن النبى عليه السلام فى تمتعه بالعمرة إلى الحج بمثل حديث سالم عن أبيه، فنعم هو مثله فى الوهم؛ لأن أحاديث عائشة كلها من رواية عروة والأسود والقاسم وعمرة مسقطة لهذا الوهم؛ لأنهم يروون عنها أنها قالت: (خرجنا مع النبى عليه السلام ولا نرى إلا أنه الحج) مُخالفة لرواية ابن شهاب عن عروة، عن عائشة فى تمتعه بالعمرة التى فى آخر هذا الباب، وموافقة لرواية الجماعة عن عائشة، وأما قوله فى الترجمة: باب من ساق البدن فإنما أراد أن يعرف أن السنة فى الهدى أن يساق من الحل إلى الحرم. واختلف العلماء فى ذلك. فقال مالك: من اشترى هَدْيَهُ بمكة أو بمنى، ونحره ولم يقف به بعرفة فى الحل فعليه بَدَلُه، وهو مذهب ابن عمر وسعيد بن جبير، وبه قال الليث، وروى عن القاسم أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 أجازه إن لم يوقف به عرفة، وقاله أبو حنيفة والثورى والشافعى وأبو ثور، قال الشافعى: وَقْفُ الهدى بعرفة سنة لمن شاء إذا لم يسقه من الحل. وقال أبو حنيفة: ليس بسنة؛ لأن النبى عليه السلام إنما ساق الهدى من الحل؛ لأن مسكنه كان خارج الحرم، والحجة لمالك أن النبى عليه السلام ساق الهدى من الحل إلى الحرم، وقال: (خذوا عنى مناسككم) . وأفعاله على الوجوب. 96 - بَاب مَنِ اشْتَرَى الْهَدْىَ مِنَ الطَّرِيقِ / 145 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أنَّهُ قَالَ لأبِيهِ: أَقِمْ فَإِنِّى لا آمَنُهَا أَنْ تصَدُّ عَنِ الْبَيْتِ، قَالَ: إِذًا أَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21] فَأَنَا أُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ أَوْجَبْتُ عَلَى نَفْسِى الْعُمْرَةَ، فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الدَّارِ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَقَالَ: مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلا وَاحِدٌ، ثُمَّ اشْتَرَى الْهَدْىَ مِنْ قُدَيْدٍ، ثُمَّ قَدِمَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا، فَلَمْ يَحِلَّ حَتَّى حَلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا. وقوله: (إذًا أفعل كما فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) يعنى: من الإحلال حين صُدَّ بالحديبية على ما يأتى ذكره فى باب: الحصر بَعْدُ إن شاء الله، ولم يُصد ابن عمر وأَهَلَّ بعمرة من المدينة، فلما خرج إلى الميقات أردف الحج على العمرة وقال: (ما شأنهما إلا واحد) يعنى فى العمل، لأن القارن لا يطوف عنده إلا طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا. وأجمع العلماء أن من أَهَلَّ بعمرة فى أشهر الحج أن له أن يدخل عليها الحج ما لم يفسخ الطواف بالبيت، والحجةُ لهم أن أصحاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 النبى عليه السلام أهلوا بعمرة فى حجة الوداع، ثم قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (من كان معه هدى فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منها جميعًا) . وبهذا احتج مالك فى الموطأ. واختلفوا فى إدخال الحج على العمرة إذا افتتح الطواف، فقال مالك: يلزمه ذلك ويصير قارنًا، وحكى أبو ثور أنه قول الكوفيين، وقال الشافعى: لا يكون قارنًا، وذكر أنه قول عطاء، وبه قال أبو ثور. وأما إدخال العمرة على الحج، فمنع منه مالك، وهو قول إسحاق وأبى ثور، وأجازه الكوفيون وقالوا: يصير قارنًا، وقد أساء فيما فعل، واختلف قول الشافعى على القولين، وإنما أجاز مالك إرداف الحج على العمرة، ولم يُجز إرداف العمرة على الحج؛ لأن عمل الحج يستغرق عمل العمرة ويزيد عليها، فإذا أدخل العمرة على الحج فلم يأت بزيادة فى العمل، ولا أفاد فائدة، فلم يكن لإدخالهما على الحج معنى، والقياس عند أبى حنيفة لا يمنع إدخال عمرة على حجة، ومن أصله أن على القارن طوافين وسعيين. وأما قول البخارى: باب من اشترى الهدى من الطريق، فإنما أراد أن يبيّن مذهب ابن عمر أن الهدى ما أدخل من الحل إلى الحرم؛ لأن قُديَدًا حيث اشتراه ابن عمر من الحل فى نصف طريق مكة، وقد روى مالك عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقول: الهدى ما قلد وأشعر، ووقف به بعرفة، وكذلك فعل النبى عليه السلام فلا معنى لقول من خالف هذا. وقوله: (لا أيمنها) قال سيبويه: من العرب من يكسر زوائد كل فعل مضارع، ماضيه فعل، ومستقبله يفعل، إلى الياء، فيقولون: أنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 أعلم، وأنت تعلم، ونحن نعلم، وهو يعلم بفتح الياء؛ كراهية الكسرة فيها لثقلها، على هذا جاء: (لا أيمنها) لأنهم يقولون: أيمن. 97 - باب مَنْ أَشْعَرَ وَقَلَّدَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَهْدَى مِنَ الْمَدِينَةِ قَلَّدَهُ وَأَشْعَرَهُ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، يَطْعُنُ فِى شِقِّ سَنَامِهِ الأيْمَنِ بِالشَّفْرَةِ، وَوَجْهُهَا إلى الْقِبْلَةِ بَارِكَةً. / 146 - فيه: مَرْوَانَ، وَالْمِسْوَر، قَالا: خَرَجَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنَ الْمَدِينَةِ فِى بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِى الْحُلَيْفَةِ، قَلَّدَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، الْهَدْىَ، وَأَشْعَرَ، وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ. / 147 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلائِدَ بُدْنِ رسُول اللَّه، عليه السَّلام، بِيَدَىَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا وَأَهْدَاهَا، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَىْءٌ كَانَ أُحِلَّ لَهُ. عرض البخارى فى هذا الباب أن يبيّن أن من أراد أن يحرم بالحج أو العمرة، وساق معه هديًا، فإن المستحب له أن لا يشعر هديه، ولا يقلده إلا من ميقات بلده، وكذلك يستحب له أيضًا أن لا يحرم إلا بذلك الميقات على ما عمل النبى عليه السلام بالحديبية وفى حجته أيضًا، وكذلك من أراد أن يبعث بهدى إلى البيت ولم يُرد الحج والعمرة، وأقام فى بلده فإنه يجوز له أن يقلده وأن يشعره فى بلده، ثم يبعث به كما فعل النبى عليه السلام إذ بعث بهديه مع أبى بكر سنة تسع، ولم يوجب ذلك على النبى (صلى الله عليه وسلم) إحرامًا ولا تجردًا من ثيابه ولا غير ذلك، وعلى هذا جماعة أئمة الفتوى، منهم مالك، والليث، والأوزاعى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 والثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، كلهم احتج بحديث عائشة أن تقليد الهدى لا يوجب الإحرام على من لم يَنْوِهِ، وَرَدُّوا قول ابن عباس، فإنه كان يرى أن من بعث بهدى إلى الكعبة، لزمه إذا قلده: الإحرام، وتجنُّب كل ما يتجنب الحاج حتى ينحر هديه، وتابع ابن عباس على ذلك ابن عمر، وبه قال عطاء، وهم محجوجون بالسنة الثابتة فى حديث عائشة، وليس أحد بحجة على السنة. قال الطحاوى: وقد رأى ربيعة بن الهدير رجلا متجردًا بالعراق، فسأل الناس عنه، فقالوا: أمر بهديه أن يقلد، فلذلك تجرد، فذكر ذلك لابن الزبير، فقال: بدعة ورب الكعبة. فلا يجوز أن يكون ابن الزبير حلف على ذلك أنه بدعة إلا وقد علم أن السنة خلاف ذلك. 98 - بَاب فَتْلِ الْقَلائِدِ لِلْبُدْنِ وَالْبَقَرِ / 148 - فيه: حَفْصَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ؟ قَالَ: (إِنِّى لَبَّدْتُ رَأْسِى، وَقَلَّدْتُ هَدْيِى، فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنَ الْحَجِّ) . / 149 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، يُهْدِى مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَفْتِلُ قَلائِدَ هَدْيِهِ، ثُمَّ لا يَجْتَنِبُ شَيْئًا مِمَّا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ. فيه من الفقه: أيما عمل لله من الأعمال فإنه يجب إتقانها وتحسينها؛ ألا ترى عائشة لم تقنع فى القلائد إلا بفتلها وإحكامها. وأجمع العلماء على تقليد الهدى، والتقليد إنما هو علامة للهدى، كأنه إشهاد أنه أخرجه من ملكه لله تعالى وليعلم الناس الذين يبتغون أكله فيشهدون نَحْره، وفيه عمل أزواج النبى عليه السلام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 بأيديهن، وخدمتهن فى بيوتهن، وقد كان النبى عليه السلام يخدم فى بيته. 99 - باب إِشْعَارِ الْبُدْنِ قَالَ الْمِسْوَرِ: قَلَّدَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، الْهَدْىَ وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ. / 150 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلائِدَ هَدْىِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، ثُمَّ أَشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا، أَوْ قَلَّدْتُهَا، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى الْبَيْتِ، وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَىْءٌ كَانَ لَهُ حِلٌّ. جمهور العلماء يَرَوْنَ إشعار البدن؛ لأنه سنة ثابتة، وممن رأى ذلك عمر بن الخطاب، وابن عمر، والحسن البصرى، والقاسم، وسالم، وعطاء، وبه قال مالك، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وأنكر الإشعار أبو حنيفة وقال: إنما كان ذلك قبل النهى عن المثلة، وهذا تحكم لا دليل عليه وسوء ظن، ولا تترك السنن بالظنون، وقد روى الإشعار عن النبى عليه السلام جماعة. قال ابن قصار: فإن قيل: فقد روى عن عائشة: (إن شئت فأشعر، وإن شئت فلا، فإنما أشعر ليعلم أنها بدنة إذا ضلت) فدل أنه علامة ليس بنسك، وقد روى مثل ذلك عن ابن عباس، قيل: إن ابن عباس وعائشة إنما أعلما أن الإشعار ليس بواجب، وبذلك نقول، غير أن فعله أفضل من تركه؛ لأن ابن عمر قال: لا هَدْى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 إلا ما قُلد أو أُشعر. أى لا هدى كامل، ولا نقول إن الإشعار نسك يجب فى تركه دم، واستحب مالك الإشعار فى الشق الأيسر على ما رواه نافع عن ابن عمر أنه ربما فعل هذا، وربما فعل هذا. واستحب أبو يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق الإشعار فى الشق الأيمن، رواه معمر عن الزهرى، عن سالم، عن أبيه أنه كان يفعله. واختلفوا فى إشعار البقر، فكان ابن عمر يقول: نشعر البقر فى أسنمتها، وقال عطاء والشعبى: يقلد ويشعر. وهو قول أبى ثور. وقال مالك: تُشعر التى لها سنام وتُقلد، ولا تُشعر التى لا سنام لها وتقلد. وقال سعيد ابن جبير: تُقلدُ ولا تُشعر. 0 - باب مَنْ قَلَّدَ الْقَلائِدَ بِيَدِهِ / 151 - فيه: زِيَادَ بْنَ أَبِى سُفْيَانَ، كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ حَتَّى يُنْحَرَ هَدْيُهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَا فَتَلْتُ قَلائِدَ هَدْىِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدَىَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدَيْهِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِى، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) شَىْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى نُحِرَ الْهَدْىُ. فيه من الفقه: جواز امتهان الخليفة فى الخدمة، وتناول بعض الأمور بنفسه، وإن كان له من يكفيه، ولا سيما فيما يكون من إقامة الشرائع وأمور الديانة، وفيه إنكار عائشة على ابن عباس أن من بعث بهدى فقد وجب عليه الإحرام، واحتجاجها عليه بفعل النبى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 عليه السلام أنه بعث مع أبى بكر سنة تسع بهدى، وقعد عن الحج، ولم يحرم عليه شئ، وهذه حجة قاطعة، وقد تقدمت هذه المسألة فى باب: من أشعر وقلد الهدى بذى الحليفة ثم أحرم. 1 - باب تَقْلِيدِ الْغَنَمِ / 152 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَهْدَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) مَرَّةً غَنَمًا. / 153 - وَقَالَتْ مرة: كُنْتُ أَفْتِلُ الْقَلائِدَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَيُقَلِّدُ الْغَنَمَ، وَيُقِيمُ فِى أَهْلِهِ حَلالا. اختلف العلماء فى تقليد الغنم، فممن رأى تقليدها أخذًا بهذا الحديث: عائشة أم المؤمنين، وهو قول عطاء، وبه قال الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يقلد الغنم، وأظنه لم يبلغهم الحديث. 2 - بَاب الْقَلائِدِ مِنَ الْعِهْنِ / 154 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلائِدَهَا مِنْ عِهْنٍ كَانَ عِنْدِى. العهن: الصوف، وأكثر ما يكون مصبوغًا ليكون أبلغ فى العلامة. 3 - باب تَقْلِيدِ النَّعْلِ / 155 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، رَأَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، رَأَى رَجُلا يَسُوقُ بَدَنَةً، قَالَ: (ارْكَبْهَا) ، قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ رَاكِبَهَا يُسَايِرُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، وَالنَّعْلُ فِى عُنُقِهَا. قال ابن عمر: يقلد الهدى نعلين، وبه قال الثورى والشافعى، وقال مالك: تجزئ النعل الواحدة، وهو قول الزهرى، وقال الثورى: فم القربة تجزئ ونعلان أفضل لمن وجدهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 4 - باب الْجِلالِ لِلْبُدْنِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يَشُقُّ مِنَ الْجِلالِ إِلا مَوْضِعَ السَّنَامِ، وَإِذَا نَحَرَهَا نَزَعَ جِلالَهَا مَخَافَةَ أَنْ يُفْسِدَهَا الدَّمُ، ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا. / 156 - فيه: عَلِيّ، رَضِى اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَمَرَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ أَتَصَدَّقَ بِجِلالِ الْبُدْنِ الَّتِى نَحَرْتُ وَبِجُلُودِهَا. قال الطبرى: فيه الإبانة أن من سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى البدن إذا ساقها سائق إلى الكعبة أن يجللها، فإذا بلغت محلها أن ينحرها، ويتصدق بلحومها وجلودها وجلالها، وفيه أن لصاحبها أن يولى نحرها غيره، وأنه لا بأس عليه إن لم يلى ذلك بنفسه، وفيه أن له أن يولى قسم لحومها من شاء. وقال ابن المنذر: كان ابن عمر يجلِّل بُدنه الأنماط والبرود الحبر حتى يخرج من المدينة، ثم ينزعها ويطويها حتى يكون يوم عرفة فيلبسها إياها حتى ينحرها، ثم يتصدق بها. قال المهلب: وهذا إنما فعله على وجع التطوع والتبرع بما كان أَهَلَّ به الله أَلا يرجع فى شىء منه، ولا فى المال المضاف إليه، وليس بفرض عليه، وكان مالك وأبو حنيفة والشافعى يرون تجليل البدن. 5 - باب ذَبْحِ الرَّجُلِ الْبَقَرَ عَنْ نِسَائِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِنَّ / 157 - فيه: عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ، وَلا نُرَى إِلا الْحَجَّ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَنْ لَمْ يَكُنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 مَعَهُ هَدْىٌ إِذَا طَافَ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ، قَالَتْ: فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ أَزْوَاجِهِ. قَالَ يَحْيَى: فَذَكَرْتُهُ لِلْقَاسِمِ، فَقَالَ: أَتَتْكَ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ. وهذا الذبح إنما كان هدى التمتع، نحره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عمن تمتع من أزواجه، وأخذ جماعة من العلماء بظاهر هذا الحديث، وأجازوا الاشتراك فى هدى التمتع والقران على ما تقدم فى حديث أبى جمرة عن ابن عباس، ومنع مالك ذلك، ولا حجة لمن خالف مالكًا فى هذا الحديث؛ لأن قوله: (نحر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن أزواجه البقر) يحتمل أن يكون نحر عن كل واحدة منهن بقرة، وهذا غير مدفوع من التأويل. فإن قيل: إنما نحر البقر عنهن على حسب ما أتى عنه فى الحديبية: (أنه نحر البقرة عن سبعة والبدنة عن سبعة) قيل: هذه دعوى لا دليل عليها؛ لأن نحره فى الحديبية كان عندنا تطوعًا، والاشتراك فى هدى التطوع جائز على رواية ابن عبد الحكم عن مالك، والهدى فى حديث عائشة واجب، ولا يجوز الاشتراك فى الهدى الواجب، فالحديثان مستعملان عندنا على هذا التأويل. قال إسماعيل بن إسحاق: وأما رواية يونس عن الزهرى، عن عمرة، عن عائشة: (أن النبى عليه السلام نحر عن أزواجه بقرة واحدة) فإنّ يونس انفرد بذلك وحده، وخالفه مالك فأرسله، ورواه القاسم وعمرة عن عائشة (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذبح عن أزواجه البقر) حدثنا بذلك أبو مصعب، عن مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 عن أبيه، عن عائشة. وحدثنا به القعنبى عن سليمان بن بلال، عن يحيى، عن عمرة، عن عائشة. وهذه أسانيد الفقهاء الذين يفهمون ما يحتاج إلى فهمه. قال المهلب: فى حديث عائشة من الفقه أنه من كَفَّر عن غيره كفارة يمين أو ظهار، أو قتل نفس، أو أهدى عنه، أو أَدَّى عنه دينا بغير أمره، أن ذلك كله مجزئًا عنه؛ لأنه لم يعرف نساء النبى عليه السلام بما أدى عنهن من نحر البقر لما وجب عليهن من نُسك التمتع، وهذا حجة لابن القاسم فى قوله: إذا أعتق الرجل عبده عن غيره فى كفارة الظهار أنه يجزئه، ولم يُجز ذلك أشهب وابن المواز، وقالا: لا يعتق عنه بغير علمه؛ لأنه فرض وجَبَ عليه، ودليل هذا الحديث لازم لهما، ولمن قال بقولهما من الفقهاء. وقد تقدمت هذه المسألة واختلاف أهل العلم فيما يجوز عمله بنية وبغير نية فى آخر كتاب الإيمان فى باب: ما جاء من الأعمال بالنية والحسنة، وقد تقدم معنى قوله: أتتك بالحديث على وجهه، وهو أنها ذكرت ابتداء الإحرام وذكرت انتهاءه حين وصلوا إلى مكة، وفسخ من لم يسق الهدى. 6 - باب النَّحْرِ فِى مَنْحَرِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، بِمِنًى / 158 - فيه: ابْنُ عُمَرَ، أنَّهُ كَانَ يَنْحَرُ فِىمَنْحَرِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَ يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ مِنْ جَمْعٍ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ حَتَّى يُدْخَلَ بِهِ مَنْحَرُ رسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَعَ حُجَّاجٍ فِيهِمُ الْحُرُّ وَالْمَمْلُوكُ. المنحر فى الحج بمنى إجماع من العلماء، فأما العمرة فلا طريق لنا فيها، فمن أراد أن ينحر فى عمرته، أو ساق هديا تطوع به، نحره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 بمكة حيث شاء، وهذا إجماع أيضًا، فمن فعل هذا فقد أصاب السنة، وبهذا قال مالك. وقال أبو حنيفة والشافعى: إن نحر فى غير منى ومكة من الحرم أجزأه، قالوا: وإنما أريد بذلك مساكين الحرم ومكة. وقد أجمعوا أنه إن نحر فى غير الحرم ولم يكن محصرًا بعدو أنه لا يجزئه، قال ابن القصار: والحجة لمالك ما ذكره فى موطئه: أنه بلغه أن النبى عليه السلام قال فى حجه بمنى: (هذا المنحر، ومنى كلها منحر) . فدل دليل الخطاب أن غيرهما ليس بمنحر؛ لأنه كان يكفى أن يذكر أحدهما لينبه به على سائر الحرم، فلما خصها جميعًا علم أن منى خصت للحجاج؛ لأنهم يقيمون بها، فجعل نحرهم بها، وجعل مكة منحرًا للمعتمرين إذا فرغوا من سعيهم عند المروة. فإن قيل: فقد نحر النبى عليه السلام هديه بالحديبية وليست بمكة ولا منى ولكنها من الحرم، قيل: هذا الهدى لم يكن بلغ محله كما قال الله، وإنما جاز له أن يذبحه فى غير محله، كما جاز له أن يخرج من إحرامه فى غير محله، ولما قال الله فى الهدى: (مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح: 25] علمنا أن محله مكة لقوله تعالى: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] . وصَدُّ النبى عليه السلام لم يكن عن الحرم، وإنما كان عن البيت؛ لأن الحديبية بعضها حرم، وبعضها حل، وترجح قياسًا أن مكة مخصوصة بالبيت، والطواف بالبيت دون سائر الحرم، ومنى مخصوصة بالتحلل فيها بالرمى والمقام بها لبقية أعمال الحج، وليس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 كذلك سائر الحرم، فخص هذان الموضعان بالنحر فيهما لهذا التخصيص فيهما، وكذلك فعل الرسول وأصحابه بعده. 7 - باب مَنْ نَحَرَ هَدْيَهُ بِيَدِهِ 108 - وَبَاب نَحْرِ الإبِلِ الْمُقَيَّدَةً / 159 - فيه: ابْنَ عُمَرَ، أنَّهُ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ يَنْحَرُهَا، قَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: معنى قوله: (قيامًا مقيدة) يعنى: معقولة اليد الواحدة قائمة على ما بقى من قوائمها، وعلى هذا المعنى قراءة من قرأ (صوافن) لأنه قال: صفن الفرس، إذا رفع إحدى يديه، وأما من قرأ: (صَوَافَّ) [الحج: 36] فإنه أراد قائمة، وقال مالك: تعقل إن خيف أن تنفر، ولا تنحر باركة إلا أن يصعب، وبقية الكلام فى هذا المعنى فى الباب الذى بعد هذا إن شاء الله. 9 - باب نَحْرِ الْبُدْنِ قَائِمَةً وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: سُنَّةَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (صَوَافَّ) [الحج: 36] قِيَامًا. / 160 - فيه: أَنَسٍ، أنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، لَمَّا أهَل عَلَى الْبَيْدَاءِ وَأَهل لنا بِهِمَا جَمِيعًا، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ، أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا، وَنَحَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قِيَامًا، وَضَحَّى بِالْمَدِينَةِ بكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 قول ابن عمر: (سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) يعنى أن تُنحر قيامًا، ويشهد لهذا دليل القرآن، قوله: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا) [الحج: 36] يعنى سقطت إلى الأرض، وممن استحب أن تنحر قيامًا: مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وقال أبو حنيفة والثورى: تنحر باركة وقائمة، واستحب عطاء أن ينحرها باركة معقولة. قال المهلب: (أهل لنا بهما جميعًا) معناه: أمر من أَهَلَّ بالقران ممن لم يفسخ حجَّه؛ لأنه قد صح أنه عليه السلام كان مفردًا بالحج. ولم يكن قارنًا، فمعنى (أهل لنا) أى أباح لنا الإهلال بهما قولا، فكان إهلاله لهم بالإباحة أمرًا، وتعليمًا منه لهم كيف يهلون من قرن منهم، وإلا فما معنى (لنا) فى هذا الموضع؟ وقد تقدم قولُ عائشة وابن عمر قولَ أنس، ووصفهما له بالصغر وقلة الضبط لهذه القصة. 0 - باب لا يُعْطَى الْجَزَّارُ مِنَ الْهَدىِ شَيْئًا / 161 - فيه: عَلِيٍّ، قَالَ: بَعَثَنِى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَقُمْتُ عَلَى الْبُدْنِ، فَأَمَرَنِى بقَسَمْتُ لُحُومَهَا، ثُمَّ أَمَرَنِى بقسمة جِلالَهَا وَجُلُودَهَا، وَأَمَرَنِى أَنْلا أُعْطِىَ عَلَيْهَا شَيْئًا فِى جِزَارَتِهَا. وترجم له باب: (يتصدق بجلود الهدى) ، وترجم له باب: (يتصدق بجلال البدن) . وزاد فيه: قال على: (أهدى النبى عليه السلام مائة بدنة، فأمرنى بلحومها فقسمتها، ثم أمرنى بجلالها وجلودها فقسمتها) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فذهبت طائفة إلى الأخذ بهذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 الحديث، وقالوا: لا يعطى الجزار منها شيئًا، هذا قول مالك وأبى حنيفة وأحمد، وأجاز الحسن البصرى أن يعطى الجزار الجلد. واختلفوا فى بيع الجلد، فروى عن ابن عمر أنه لا بأس بأن يبيعه، ويتصدق بثمنه، وقاله أحمد وإسحاق. وقال أبو هريرة: من باع إهاب أضحيته فلا أضحية له، وقال ابن عباس: يتصدق به أو ينتفع به، ولا يبيعه، وعن القاسم وسالم: لا يصلح بيع جلودها، وهو قول مالك، وقال النخعى والحكم: لا بأس أن يشترى به الغربان والمنخل، ورخص أبو هريرة فى بيعه، وقال عطاء: إن كان الهدى واجبًا تصدق بإهابه، وإن كان تطوعًا باعه إن شاء فى الدَّيْن. وأما من أجاز بيع جلودها، فإنما قال ذلك والله أعلم قياسًا على إباحة الله الأكل منها، فكان بيع الجلد والانتفاع به تبعًا للأكل، وهذا ليس بشئ؛ لأنه يجوز أكل لحمها، ولا يجوز بيعه بإجماع، والأصل فى كل ما اخرج لله تعالى أنه لا يجوز الرجوع فى شىء منه، ولولا إباحة الله الأكل منها ما جاز أن يستباح، فوجب ألا يتعدى الأكل إلى البيع إلا بدليل لا مُعارِض له. قال المهلب: وإعطاء الجازر منها فى جزارته عوضًا من فعله وذبحه فهو بيع، ولا يجوز بيع شىء من لحمها، وكذلك الجلد، وقال: ولا يخلو الإهاب من أن يكون مع سائر الشاة بإيجابها وذبحها فقد صار مسبلا فيما سلبت به الأضحية، أو لم يَصِرْ مسبلاَ إذا كان عليه دين، فإن كان قد صار لِمَا جعله له فغير جائز صرفه أو صرف شىء منه إلا فيما سَبَلَهُ، أو لم يصر ذلك فيما جعله له إذ كان عليه دين، فيكون إيجابه الشاة أضحية، وجِلْدها غير جلد أضحية، وذلك فيما لا يفعل فى نظر ولا خبر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 والصواب إن كان الدَّيْن على صاحب الأضحية والبدنة قبل إيجابها، ولم يكن عنده ما يقضى غريمه سوى الشاة أو البدنة، فإيجابه لها عندنا باطل، وملكه عليها ثابت، وله بيعها فى دينه، إذ ليس عليه إتلاف ماله، ولا صرفه فى غير قضاء دينه. 1 - بَاب) وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ (إلى قوله: (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج: 26 - 30] معنى الآية: أن الله تعالى أعلم نَبيَّه بعظيم ما ركب قومه، قريش خاصة دون غيرهم، من سائر عبادتهم فى حرمه والبيت الذى أمر خليله عليه السلام ببنائه وتطهيره من الآفات والشرك إلهًا غيره، وتقدير الكلام: (واذكر إذ بوأنا لإبراهيم هذا البيت الذى يعبد قومك فيه غيرى) . روى معمر عن قتادة قال: وضع الله تعالى البيت مع آدم حين أهبط إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند، ففقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فشكا ذلك إلى الله تعالى فقال له: يا آدم، أهبطت لك شيئًا يطاف به كما يطاف حول عرشى، ويصلى عنده كما يصلى حول عرشى، فانطلق إليه، فخرج وَمَدَّ له فى خطوه، فكان بين كل خطوتين مفازة، فلم تزل تلك المفازة على ذلك، وأتى آدم البيت، فطاف به ومن بعده من الأنبياء، ثم بوأ الله مكانه لإبراهيم بعد الغرق، وقال ابن عباس فى قوله تعالى: (وَأَذِّن فِى النَّاسِ) [الحج: 27] عنى بالناس هاهنا أهل القبلة، ألم تسمعه قال: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا (إلى) وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 96، 97] يقول: من دخله من الناس الذين أمر أن يُوَذَّنَ فيهم، وكتب عليهم الحج. وقال ابن عباس: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) [الحج: 28] ، قال: التجارة. واختلف الناس فى الأيام المعلومات، فقال على بن أبى طالب: هى يوم النحر ويومان بعده، اذبح فى أيها شئت، وأفضلها أولها، وهو قول ابن عمر وأهل المدينة، وقال ابن عباس: هى العشر ويوم النحر منها، وهو قول الكوفيين، وأجمعوا أن المعدودات أيام التشريق الثلاثة، وقد ذكرنا لم سميت معلومات ومعدودات فى كتاب صلاة العيدين، فى باب: فضل العمل فى أيام التشريق. والبائس فى اللغة: الذى به البؤس، وهو شدة الفقر، وقال ابن عباس: التفث: الحلق والتقصير والذبح والأخذ من الشارب واللحية، ونتف الإبط، وقص الأظفار، وكذلك هو عند أهل التفسير، أنه الخروج من الإحرام إلى الحل، ولا يعرفهُ أهل اللغة إلا من التفسير، وقال ابن عمر: التفث: ما عليهم من الحج، وقال مرة: المناسك كلها، وقال مجاهد: (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) [الحج: 29] نذر الحج والمشى، وما نذره من شىء يكون فى الحج. والبيت العتيق سمى بذلك؛ لأن الله أعتقه من الجبارة أن يصلوا إلى تخريبه، عن قتادة ومجاهد. وقال ابن زيد: سمى عتيقًا لقدمه؛ لأنه أول بيت وضع للناس، بناه آدم عليه السلام، وهو أول من بناه، ثم بَوَّا الله موضعه لإبراهيم بعد الغَرق، فبناه إبراهيم وإسماعيل، وقوله: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ) [الحج: 29] هو طواف الإفاضة المفترض، وسيأتى حكمه فى موضعه بعد هذا إن شاء الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 2 - باب مَا يَأْكُلُ مِنَ الْبُدْنِ وَمَا يَتَصَدَّقُ وَقَالَ ابْن عُمَرَ: لا يُؤْكَلُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَالنَّذْرِ، وَيُؤْكَلُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ مِنَ الْمُتْعَةِ. / 162 - فيه: جَابِر، كُنَّا لا نَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلاثِ، فَرَخَّصَ لَنَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (كُلُوا وَتَزَوَّدُوا) ، فَأَكَلْنَا وَتَزَوَّدْنَا. قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَقَالَ حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَةَ؟ قَالَ: لا. / 163 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: ذَبَحَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ أَزْوَاجِهِ. قال ابن المنذر: اختلف العلماء فيما يؤكل من الهدى، وما لا يؤكل، فكان ابن عمر يقول: لا يؤكل من جزاء الصيد، ولا من النذر، ويكل مما سوى ذلك، وروى مثله عن طاوس والحسن، وبه قال أحمد وإسحاق، وروينا عن الحسن قولا ثانيا: أنه لا بأس أن يأكل من جزاء الصيد، ونذر المساكين، وهو قول الحكم فى جزاء الصيد. وقال مالك: يؤكل من الهدى كله إلا جزاء الصيد، وفدية الأذى، ونذر المساكين، وهو قول طاوس وسعيد بن جبير، وذكر ابن المواز عن مالك أنه يأكل من الهدى النذر، إلا أن يكون نذره للمساكين، وكذلك ما أخرجه بمعنى الصدقة لا يأكل منه، وهدى التطوع إذا قصر عن بلوغ محله وعطب فلا يؤكل منه، وكان الأوزاعى يكره أن يؤكل من جزاء الصيد وفدية الكفارة، ويؤكل النذر وهدى التمتع والتطوع. وقال أبو حنيفة: يؤكل هدى القران والمتعة والتطوع، ولا يأكل سوى ذلك، وقال الشافعى: لا يأكل إلا هدى التطوع خاصة، ولا يأكل من المتعة والقران، لأنه عنده واجب، وهو قول أبى ثور، واحتج ابن القصار لقول مالك بقول الله تعالى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28] ولم يخص واجبًا من تطوع، فهو عام فى جواز الأكل إلا بدلالة، وأيضًا فإن الإجماع حاصل على جواز الأكل من دم المتعة ولا نعلم أحدًا منعه قبل الشافعى. وقول عائشة: (فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر) يردّ قوله؛ لأنه لا خلاف أن لحم البقر التى نحر النبى عليه السلام عن أزواجه كانت هدى المتعة التى متعن، وقد أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يحمل إليهن منه ليأكلنه. قال المهلب: وإنما لم يجز الكل من جزاء الصيد لأنه غرم جناية، فإذا أكل منه لم يغَرم المثل الذى أوجب الله عليه، وفدية الأذى من هذا الباب، وأما نذر المساكين فإذا نذره فقد أوجبه لهم، فإذا اكل منه فلم ينفذ إليهم حقوقهم. واحتج الطحاوى لأبى حنيفة فقال: ظاهر قوله: (فكلوا منها وأطعموا) إباحة الأكل من جميع الهدايا إذ لم يُذكر فى ذلك خاص منها، واحتمل أن باطن الآية كظاهرها، واحتمل أن تكون على خلاف ظاهرها، فنظرنا فى ذلك، فوجدنا أهل العلم لا يختلفون فى هذى التطوه إذا بلغ محله؛ أنه مباح لمهديه الأكل منه وأنه ما دخل فى هذه الآية، وشهد بذلك السُنَن المأثورة، لأن النبى عليه السلام قد أكل من هديه فى حجته، وكانت تطوعًا، ووجدناهم لا يختلفون فى جزاء الصيد والنذر للمساكين أن مُهدِى ذلك لا يأكل منه وأنه غير ذا حل فى هذه الآية. واختلفوا فى هدى القران والمتعة وهدى الجماع، فنظرنا فى ذلك فكان هدى المتعة والقران بهدى التطوع أشبه منهما بما سوى ذلك من الهدايا إذا كان هاذان الهديان إنما يجبان بأفعال غير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 منهى عنها كالهدى التطوع الذى يجب بفعل غير منهى عنه ولم يكن ذلك كهدى النذر؛ لأن هدى النذر إنما يكون شكر الشىء يراد به أن يكون جزاء له. كقول الرجل: إن بلغنى الله تعالى الحج فله على أن أهدى بدنة، فأشبهت العوض عن الأشياء التى تتعوض بهدى وكأن هدى الجماع بهدى جزاء الصيد أشبه منه بهدى التطوع؛ إذ كانت إصابة الصيد منهى عنها فى الإحرام، وإصابة الجماع كذلك فلم تجز أن يؤكل منها كما لا يجوز أن يؤكل من نظيرها من الهدايا، وأما هدى التطوع إذا عطب قبل محله، فقد اختلف أهل العلم فيه، فقالت طائفة: صاحبه ممنوع من الأكل منه. رُوى ذلك عن ابن عباس وهو قول مالك وأبى حنيفة والشافعى، ورخصت طائفة فى الكل منه، روى ذلك عن عائشة وعبد الله بن عمر. قال المؤلف: وأما حديث جابر فهو مجمل كالآية. وفيه: جواز الأكل من الهدى دون تخصيص نوع منه بالمنع. وقد ذكرت أقوال العلماء فى الآية، واقتضى ذلك معنى الحديث. وقول جابر: كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث. فقال النخعى: وكان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم، فأبيح للمسلمين الكل منها، وإنما منعوا من ذلك فى أول الإسلام من أجل الدافة فلما زالت العلة الموجبة لذلك أمرهم أن يأكلوا ويدخروا. واختلف فى مقدار ما يأكل منها ويتصدق، فذكر علقمة أن ابن مسعود أمره أن يتصدق بثلثه، ويأكل ثلثه، ويهدى ثلثه. وروى عن عطاء، وهو قول الشافعى وأحمد وإسحاق، وقال الثورى: يتصدق بأكثره. وقال أبو حنيفة: ما أحب أن يتصدق بأقل من الثلث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 3 - باب الذَّبْحِ قَبْلَ الْحَلْقِ / 164 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ، عليه السَّلام: (مَّنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ لا حَرَجَ، لا حَرَجَ) ، فَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : زُرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِىَ، قَالَ: (لا حَرَجَ) ، قَالَ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِىَ، قَالَ: (لا حَرَجَ) . قَالَ: رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ؟ قَالَ: (لا حَرَجَ) ، قَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ، قَالَ: (لا حَرَجَ) . / 165 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ: (أَحَجَجْتَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. . . الحديث إلى قول عُمر: وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَإِنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ. سنّة الحاج أن يرمى جمرة العقبة يوم النحر ثم ينحر، ثم يحلق رأسه، ثم يطوف طواف الإفاضة، وهو الذى يسميه أهل العراق: طواف الزيارة، وكذلك فعل النبى عليه السلام وهذا المعنى مقتضى حديث عمر فى حديث أبى موسى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يحل حتى بلغ، يريد أنه لم يحلق حتى نحر الهدى، وهذا معنى الترجمة، فمن قدم شيئًا عن رتبته فللعلماء فى ذلك أقوال: فذهب عطاء وطاوس ومجاهد إلى أنه إن قدم نسكًا قبل نسكٍ أنه لا حرج عليه، وبه قال أحمد وإسحاق، وقال ابن عباس: من قدَّم من حجه شيئًا أو أخَّره فعليه دم. وهو قول الشعبى والحسن وقتادة. واختلفوا إذا حَلق قبل أن يذبح، فقال مالك والثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور: لا شىء عليه. وهو نص الحديث. وقال النخعى: عليه دم. وهو قول أبى حنيفة، قال: وكذلك إن كان قارنًا، والمراد بالمحل قوله تعالى: (وَلاَ تَحْلِقُوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] المكان الذى يقع فيه النحر؛ فإذا بلغ محله جاز أن يحلق قبل الذبح. وقال زفر: إن كان قارنًا فعليه دمان لتقدم الحلاق. وقال أبو يوسف ومحمد: لا شىء عليه. واحتجا بقوله عليه السلام: (لا حرج) وقول أبى حنيفة وزفر مخالف للحديث، فلا وجه له. واختلفوا فيمن طاف للزيارة قبل أن يرمى، فقال الشافعى: إن ذلك يجزئه ويرمى، على نص الحديث. وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه يرمى ثم يحلق رأسه، ثم يعيد الطواف؛ فإن رجع إلى بلده فعليه دم، ويجزئه طوافه، وهذا خلاف نص ابن عباس، وأظن مالكًا لم يبلغه الحديث، وفيه رَد لما كرهه مالك أن يسمى طواف الإفاضة: طواف الزيارة؛ لأن الرجل قال للنبى عليه السلام: (زرت قبل أن أرمى) فلم ينكر الرسولُ (صلى الله عليه وسلم) عليه. واختلفوا فيمن أفاض قبل أن يحلق بعد الرمى، فقال ابن عمر: يرجع فيحلق أو يُقَصِّر، ثم يرجع إلى البيت فيفيض. وقالت طائفة: تجزئه الإفاضة ويحلق أو يقصر، ولا شىء عليه. هذا قول عطاء ومالك والشافعى، وقال مالك فى الموطأ: أحب إلىّ أن يهريق دمًا؛ لحديث ابن عباس. وأما إذا ذبح قبل أن يرمى، فقال مالك وجمماعة من العلماء: لا شىء عليه؛ لأن ذلك نص فى الحديث، والهدى قد بلغ محله، وذلك يوم النحر، كما لو لم يَنْحَر المعتمر بمكة هديًا ساقه قبل أن يطوف لعمرته. واختلفوا إذا قَدَّم الحلق على الرمى، فقال مالك وأبو حنيفة: عليه الفدية، والحجة فيها أنه حرام عليه أن يمس من شعره شيئًا، أو يلبس، أو يمس طيبًا حتى يرمى جمرة العقبة، وقد حكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 على من حلق رأسه قبل محله من ضرورةٍ بالفدية، فكيف من غير ضرورة؟ وجوزه الشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، واحتجوا بقول النبى عليه السلام فى التقديم والتأخير: (لا حرج) وسيأتى الكلام فيمن رمى جمرة العقبة بعد ما أمسى فى بابه إن شاء الله. وتأول الكوفيون فى وجوب الدم فيمن قَدَّم شيئًا من نسكه أن معنى قوله عليه السلام: (لا حرج) : لا إثم؛ لأنه عليه السلام كان يعلمهم مناسكهم، فأخبرهم أن الحرج الذى رفع عنهم هو لجهلهم لا لغير ذلك؛ لأنهم كانوا أعرابًا، لا على أنه أباح لهم عليه السلام التقديم والتأخير فى العمد. وهذا ابن عباس يوجب على من قَدَّم من نسكه شيئًا أو أَخَرَّه الدم، وهو أحد من روى الحديث عن النبى عليه السلام فلم يكن معنى ذلك عنده على الإباحة، وذهب عطاء إلى أن معنى قوله: (لا حرج) على العموم: لا شىء على فاعل ذلك من إثم ولا فدية. قال الطبرى: والدليل على صحة هذا أن النبى عليه السلام لم يسقط عنه الحرج فى ذلك إلا وقد أجزأه فعله، ولو لم يكن عنده مجزئا لأمره إما بالإعادة، وإما ببدل منه من فدية وجزاء، ولم يقل له: لا حرج؛ لأن الفدية إنما تلزم الحاج للحرج الذى يأتيه، فعلم بذلك أن من قَدَّم شيئًا من نسكه، فدخل وقته قبل شىء منه وأجزأه أنه لا يلزمه شئ. فإن ظن ظان أن فى قول الرجل للنبى عليه السلام: نحرتُ قبل أن أرمى ولم أشعر، دلالة على أنه لا يجوز ذلك للعامد، وأن عليه القضاء إن كان مما يُقضى، أو الفدية إن كان مما لا يُقضى، فقد ظن غير الصواب، وذلك أن الجاهل والناسى لا يضع الجهل والنسيان الحكم الذى يلزمه المعتمد فى وضع مناسك الحج غير مواضعها، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 وإنما يضع الجهل والنسيان فى ذلك: الإثم، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أن جاهلا من الحاج لو جهل ما عليه، فلم يرم الجمرات حتى انقضت أيام الرمى، أو أن ناسيًا نسى ذلك حتى مضت أيام الرمى، أن حكمهم فيما يلزمهما من الفدية حكم المعتمد، وكذلك تارك الوقوف بعرفة جاهلا أو ناسيًا حتى انقضى وقته، وكذلك سائر أعمال الحج سواءٌ فى اللازم من الفدية، والجاهل والعامد والناسى، وإن اختلفت أحوالهم فى الإثم، فكذلك مقدِّم شىء من ذلك ومؤخِّره، الجاهل والعامد فيه سواء؛ لأنه عليه السلام قال: (لا حرج) ولم يفصل بجوابه بين العالم والجاهل والناسى. 4 - باب مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ عِنْدَ الإحْرَامِ وَحَلَقَ / 166 - فيه: حَفْصَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ، وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قَالَ: (إِنِّى لَبَّدْتُ رَأْسِى وَقَلَّدْتُ هَدْيِى، فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ) . / 167 - وَقَالَ ابْن عُمَرَ: حَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّتِهِ. التلبيد: أن يجعل الصمغ فى الغسول، ثم يلطخ به رأسه عند الإحرام، ليمنعه ذلك من الشعث، وجمهور العلماء على أن من لبد رأسه فقد وجب عليه الحلاق، كما فعل النبى عليه السلام وبذلك أمر الناس عمر بن الخطاب وابن عمر، وهو قول مالك والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وكذلك لو ضفر شعره أو عقصه كان حكمه حكم التلبيد؛ لأن الذى فعل: سنة التلبيد الذى أوجب النبى عليه السلام فيه الحلاق، وقال أبو حنيفة: من لبَّد رأسه أو ضفره؛ فإن قصر ولم يحلق أجزأه. وروى عن ابن عباس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 أنه كان يقول: (من لبد أو عقص أو ضفر؛ فإن كان نوى الحلق فليحلق، وإن لم ينوه فإن شاء حلق، وإن شاء قصر) وفعل النبى عليه السلام أولى، وسيأتى فى كتاب اللباس قول عمر: (من ضفر فليحلق، ولا تشبهوا بالتلبيد) ومعناه إن شاء الله. 5 - باب الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ عِنْدَ الإحْلالِ / 168 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ) ، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ) ، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (وَالْمُقَصِّرِينَ) . / 169 - وفيه: [ابن عمر] حَلَقَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ. / 170 - وفيه: مُعَاوِيَةَ، قَالَ: قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِمِشْقَصٍ. هذا الموضع الذى قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هذا القول كان بالحديبية، ذكره ابن إسحاق عن الزهرى، عن عروة، عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة قالا: (لما فرغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الكتاب، أمر الناس أن ينحروا ويحلقوا، فوالله ما قام رجل؛ لما دخل فى قلوب الناس من الشَّرِّ، فقالها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثلاث مرات، فما قام أحد، فقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فدخل على أم سلمة، فقال لها: (أما ترى الناس آمرهم بالأمر لا يفعلونه) ، فقالت: يا رسول الله، لا تَلُمهم؛ فإن الناس دخلهم أمر عظيم مما رأوك حملت على نفسك فى الصلح، فاخرج يا رسول الله لا تكلم أحدًا حتى تأتى هديك فتنحر وتحل؛ فإن الناس إذا رأوك فعلت ذلك فعلواه. فخرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ففعل ذلك، فقام الناس فنحروا، فحلق بعض وقصر بعض، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم اغفر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 للمحلفين، ثلاثًا، وقال فى الثالثة: وللمقصرين) . وذكر ابن إسحاق عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم ارحم المحلقين، ثلاثًا، قيل: يا رسول الله، ما بال المحلقين ظاهرات لهم فى الترحم؟ قال: (لأنهم لم يشكوا) . واختلف أهل العلم هل الحلاق نسك يجب على الحاج والمعتمر أم لا فقال مالك: هو نسك يجب على الحاج والمعتمر، وهو أفضل من التقصير، ويجب على من فاته الحج أو الحصر بِعَدوِّ أو بمرض. وهو قول جماعة من الفقهاء، إلا فى الحصر؛ فإنهم اختلفوا هل هو من النسك؟ فقال أبو حنيفة: ليس على المحصر تقصير ولا حلاق. وهذا أمر النبى عليه السلام أصحابه بالحديبية حين صُدّ عن البيت بالحلاق وهم محصورون، فلا وجه لقوله. وقال الشافعى مرة: الحلاق من النسك. وقال مرة: الحلاق من الإحلال؛ لأنه ممنوع منه للإحرام. وقال غيره: من جعل الحلاق نسكًا أوجب على من تركه الدم، ومن جعله من باب الإحلال لم يوجب على من تركه شيئًا، ودعاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) للمحلقين ثلاثًا دليل على أن الحلاق نسك، فلا وجه لإسقاط أبى حنيفة له عن المحصر. قال ابن القصار: والدليل على أنه نسك يجب عليه عند التحلل قوله تعالى: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) [الفتح: 27] فخص الحلق والتقصير من بين المباحات، ولم يقل: لابسين متطيبين، فُعلِم أن الحلاق نسك، وليس حكمه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 حكم اللباس وغيره، وأيضًا فإنه دَعَا للمحلقين ثلاثًا، ولم يَدْعُ لهم على شىء من فعل المباحات مثل اللباس والطيب، ودعاؤه عليه السلام معه الثواب، فثبت أن الحلاق نسك؛ لأن الثواب يقع عليه، ولو كان أباحه من حَظْرٍ لم يستحق الدعاء والثواب عليه. واجمعوا أن النساء لا يحلقن، وأن سنتهن التقصير. قال المهلب: ووجه دعاء النبى (صلى الله عليه وسلم) للمحلقين ثلاثًا والله أعلم أن التحليق أبلغ فى العبادة، وأدل على صدق النية فى التذلل لله؛ لأن المفصر لشعره مبق لنفسه من الزينة التى أراد الله أن يأتيه المستجيبون لدعوته بالحج مبرئين منها، مظهرين للذلة والخشوع، مجانبين للطيب والتزين كله، شعثًا غبرًا، ومن ترك من شعره البعض فقد أبقى لنفسه من الزينة ما دل على أنه لم يتزين بالشعث والغبرة لله وحده، فأكد النبى عليه السلام الحض على الشعث والغبرة بالدعوة لمن آثرها على إبقاء الزينة لدنياه، ثم جعل له من الدعوة نصيبًا، وهو الربع، لئلا يخيب أحدًا من أمته من صالحٍ دعوتِهِ. وقال أبو عبيد: المِشْقَص: النصل الطويل، وليس بالعريض. قال أبو حنيفة الدينورى: المشقص: كل نصل فيه عين وكل ناتئ فى وسطه حديدة فهو عين ومنه عين الكتف والورقة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 6 - باب تَقْصِيرِ الْمُتَمَتِّعِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ / 171 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) مَكَّةَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يَحِلُّوا وَيَحْلِقُوا، أَوْ يُقَصِّرُوا. وليس فيه أكثر من أن الحلاق أو التقصير لازم للمعتمر كما يلزم الحاج؛ لأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) المتمتعين عند الإحلال به. 7 - باب الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَتْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَخَّرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) الزِّيَارَةَ إِلَى اللَّيْلِ، وذكَر ابْنِ عَبَّاسٍ، عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنَّهُ كَانَ يَزُورُ الْبَيْتَ أَيَّامَ مِنًى. / 172 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ طَافَ طَوَافًا وَاحِدًا، ثُمَّ يَقِيلُ، ثُمَّ يَأْتِى مِنًى، يَعْنِى يَوْمَ النَّحْرِ. وَرَفَعَهُ عَبْدُالرَّزَّاقِ. / 173 - وفيه: عَائِشَةَ، حَجَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ، فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ، فَأَرَادَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالَ: (حَابِسَتُنَا هِيَ) ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ، قَالَ: (اخْرُجُوا) ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29] . وأجمع العلماء أن هذا الطواف هو الواجب: طواف الإفاضة؛ ألا ترى أن النبى عليه السلام لما توهم أن صفية لم تطف يوم النحر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 قال: (أحابستنا هى؟) فلما أخبر أنها قد طافت للإفاضة، قال: فلا إذًا. فأخبر أنه يجزئها عن غيره، فاستحب جميع العلماء طواف يوم النحر ثم يرجع إلى منى للمبيت والرمى، وذكر عبد الرزاق عن سعيد بن جبير: أنه كان إذا طاف يوم النحر لم يزد على سبع، وأخر، وعن طاوس مثله، وعن الحكم قال: أصحاب عبد الله لا يزيدون يوم النحر على سبع، وأخر. قال الحجاج: فسألت عطاء، فقال: طف كم شئت، ولا خلاف بين الفقهاء أن من أخر طوافه من يوم النحر، وطافه فى أيام التشريق أنه مؤد لفرضه، ولا شىء عليه. واختلفوا إن أخره حتى مضت أيام التشريق، فقال عطاء: لا شىء عليه. وهو قول أبى يوسف ومحمد والشافعى وأبى ثور، وقال مالك: إن عجله فهو أفضل، وإن أخره حتى مضت أيام التشريق، وانصرف من منى إلى مكة فلا بأس، وإن أخره بعد ما أنصرف من منى أيامًا، وتطاول ذلك فعليه دم. واختلفوا إذا آخره حتى رجع إلى بلده، فقال عطاء، ومالك، والثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: يرجع فيطوف، لا يجزئه غيره. وروى عن عطاء قول ثان: وهو أن يأتى عامًا قابلاً بحجٍ أو عمرة. وقال ابن القاسم فى المدونة: ورواه ابن عبد الحكم عن مالك أن طواف الدخول يجزئه عن طواف الإفاضة لمن نسيهُ إذا رجع إلى بلده، وعليه دم. وروى ابن الماجشون ومطرف عن مالك أن طواف الدخول لا يجزئ عن طواف الإفاضة البتة، وإنما يجزئ عندهم عن طواف الإفاضة كل عمل يعمله الحاج يوم النحر وبعده فى حجته. وهو قول أبى حنيفة والشافعى، قال إسماعيل بن إسحاق: والحجة لذلك: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 ) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29] ففرض الطواف بالبيت العتيق بعد قضاء التفث، وذلك طواف الإفاضة يوم النحر بعد الوقوف بعرفة، فإذا طاف تطوعًا أجزأه عن فرضه؛ لأنه جاء بطواف فى وقته. وقال ابن القصار: لما كان الإحرام بالحج إذا انعقد ناب تطوعه عن فرضه، كطواف الوداع ينوب عن طواف الفرض، ولو أوقع طواف تطوع ولم يعتقده طواف الإفاضة لناب عنه بلا خلاف. وقال ابن شعبة: إنما قالوا: يجزئه؛ لأن كل عمل يكون فى الحج ينوى به التطوع، ولم يكمل فرض الحج، فالفرض أولى به من النية التى نويت به، كالداخل فى صلاة بإحرام نواه بها، ثم صلى منها صدرًا، ثم ظن أنه قد فرغ منها، فصلى ما بقى على أنه تطوع عنده، فهو للفرض الذى ابتدأه ولا تضره نيته إذ لم يقطع الصلاة عمدًا. قال المهلب: وقد خص الله الحج بما لم يخص غيره من الفرائض وذلك قوله: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) [البقرة: 197] الآية، فمن فرض الحج فى حرمه وشهوره فليس له أن ينتقل عما فرضه بنية إلى غيره حتى يتمه؛ لأن العمل على النية الأولى حتى يكملها، وهو فرضه؛ لقوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] ألا ترى أن من وطئ بعد جمرة العقبة قبل طواف الإفاضة، أن منهم من قال: يحج قابلا. ومنهم من قال: إن أحرم بعمرة وأهدى أجزأه ذلك. وهُم: ابن عباس وعكرمة وطاوس وربيعة، وفسره ابن عباس فقال: إنما (يفي من أمره) أربعة أميال، فيحرم من التنعيم أربعة أميال، فيكون طواف مكان طواف، وهذا طواف عمرة يجزئه عن طواف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 فريضة، وكذلك القارن يجزئه طواف واحد وسعى واحد لعمرته وحجته، للسُنَّة الثابتة عن عائشة وابن عمر عن النبى عليه السلام والعمرة تطوع. 8 - باب إِذَا رَمَى بَعْدَ مَا أَمْسَى أَوْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلا / 174 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، قِيلَ لَهُ فِى الذَّبْحِ وَالْحَلْقِ وَالرَّمْىِ، وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، فَقَالَ: (لا حَرَجَ) . أجمع العلماء أن الاختيار فى رمى جمرة العقبة يوم النحر من طلوع الشمس إلى زوالها، وأنه إن رمى قبل غروب الشمس من يوم النحر أجزأ عنه، إلا مالكًا فإنه يستحب له أن يهريق دمًا يجئ به من الحل. واختلفوا فيمن رمى من الليل أو من الغد، فقال مالك: عليه دم. وهو قول عطاء والثورى وإسحاق، وقال مالك فى الموطأ: من نسى جمرة من الجمار أيام منى حتى يمسى، يرميها أى ساعة ذكرها من ليل أو نهار ما دام بمنى، كما يصلى الصلاة أى ساعة ذكرها من ليل أو نهار. ولم يذكر دمًا، ومرة لا يرى عليه ذلك، وقال أبو حنيفة: إن رماها من الليل فلا شىء عليه، وإن أخرها إلى الغد فعليه دم. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعى: لا شىء عليه وإن أخرها إلى الغد. واحتجوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 بقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (لا حرج) للذى قال له: رميت بَعْد ما أمسيت. وأيضًا فإن النبى عليه السلام أرخص لرعاء الإبل فى مثل ذلك، يرعون بالنهار ويرمون بالليل، وما كان ليرخص لهم فيما لا يجوز، وحجة مالك أن النبى عليه السلام وقت لرمى جمرة العقبة وقتًا، وهو يوم النحر، فمن رمى بعد غروب الشمس فقد رمى بعد وقتها، ومن فعل فى الحج شيئًا بعد وقته فعليه دم، وقد تقدم اختلافهم فى رمى جمرة العقبة قبل طلوع الفجر، أو قبل طلوع الشمس من يوم النحر لأهل العذر وغيرهم فى باب (من قدم ضعفة أهله بالليل) فأغنى عن إعادته. وأما قوله: ناسيًا أو جاهلا، فإن العلماء لم يفرقوا بين الجاهل والعامد فى أمور الحج، وقد تقدم الاختلاف فيمن حلق قبل أن يذبح فى باب (الذبح قبل الحلق) فأغنى عن إعادته. فإن قال قائل: ما معنى قول القائل للنبى عليه السلام: (رميت بعد ما أمسيت) وهذا يوهم أنه كان السؤال له عليه السلام بعد انقضاء المساء، وهذا حديث عبد الله بن عمرو فى الباب بعد هذا أنه وقف النبى عليه السلام على ناقته يوم النحر للناس يسألونه، وذكر الحديث. فالجواب: أن العرب تسمى ما بعد الزوال: مساءً وعشاءً ورواحًا، وهو مشهور فى لغتهم، روى مالك عن ربيعة، عن القاسم بن محمد أنه قال: ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشى. وإنما يريد تأخيرها إلى ربع القامة، وتمكن الوقت فى شدة الحر، وهو وقت الإبراد الذى أمر به عليه السلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 9 - باب الْفُتْيَا عَلَى الدَّابَّةِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ / 175 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَفَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، قَالَ: (اذْبَحْ وَلا حَرَجَ. . .) ، الحديث. وقد تقدم هذا التبويب فى كتاب العلم، وأن معناه أنه يجوز أن تسأل العالم وإن كان مشتغلا بطاعة الله تعالى وقد أجاب السائل وقال له: (لا حرج) وكل ذلك طاعة لله تعالى. 0 - باب الْخُطْبَةِ أَيَّامَ مِنًى / 176 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَىُّ يَوْمٍ هَذَا) ؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، قَالَ: (فَأَىُّ بَلَدٍ هَذَا) ؟ قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: (فَأَىُّ شَهْرٍ هَذَا) ؟ قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا) ، فَأَعَادَهَا مِرَارًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ) مرتين. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ، (فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ لا تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) . وَقَالَ جَابِر بْنَ زَيْدٍ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ. / 177 - وفيه: أَبُو بَكْرَةَ، خَطَبَنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ النَّحْرِ. . . فذكر مثله سواء. / 178 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِمِنًى: (أَتَدْرُونَ أَىُّ يَوْمٍ هَذَا) ؟ . . . الحديث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْغَازِ: أَخْبَرَنا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَقَفَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِى الْحَجَّةِ الَّتِى حَجَّ، بِهَذَا، وَقَالَ: (هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الأكْبَرِ) ، فَطَفِقَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (اللَّهُمَّ اشْهَدْ) ، فَوَدَّعَ النَّاسَ، فَقَالُوا: هَذِهِ حَجَّةُ الْوَدَاعِ. اختلف الناس فى خُطب الحج، فكان مالك يقول: يخطب الإمام فى اليوم السابع قبل يوم التروية بيوم، ويخطب ثانى يوم النحر، وهو يوم القر، سمى بذلك؛ لأن الناس يستقرون فيه بمنى. وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، ووافقهم الشافعى فى خطبة اليوم السابع يأمرهم بالغدو إلى منى، وخطبة يوم عرفة بعد الزوال، وخالفهم فقال: يخطب يوم النحر بعد الظهر، يعلم الناس فيها النحر والرمى والتعجيل لمن أراد، وخطبة رابعة: ثالث يوم النحر بعد الظهر، وهو يوم النفر الأول، يودع الناس ويعلمهم أن من أراد التعجيل فذلك له، ويأمرهم أن يختموا حجهم بتقوى الله وطاعته. واحتج الشافعى بخطبة يوم النحر بحديث ابن عباس وابن عمر وأبى بكرة (أن النبى عليه السلام خطب يوم النحر) قال الشافعى: وبالناس حاجة إلى هذه الخطبة ليعلمهم المناسك، وإن علمهم النحر والإفاضة إلى مكة للطواف والعود إلى منى للمبيت بها، فوجب أن يكون ذلك سُنة. وقال ابن القصار: أما خطبة يوم النحر فإنه عليه السلام إنما وقف للناس فقال: أى يوم هذا؟ وأى شهر هذا؟ وأى بلد هذا؟ فعرفهم أن دماءهم وأموالهم وأعراضهم حرام، وأمرهم بتبليغ ذلك لكثرة اجتماعهم من أقاصى الأرض، فظن أنه خطب. وقال الطحاوى: لم تكن هذه الخطبة من أسباب الحج؛ لأنه عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 السلام ذكر فيها أمورًا لا يصلح لأحد بعده ذكرها، والخطبة إنما هى لتعليم الحج، ولم ينقل أحد عنهم أنه علمهم يوم النحر شيئًا من سنن الحج، فعلمنا أن خطبة يوم النحر لم تكن للحج، وإنما كانت لما سواه. قال ابن القصار: وقوله: يحتاج أن يعلمهم النحر، فقد تقدم تعليمهم فى خطبته يوم عرفة، وأعلمهم ما عليهم فيه وبعده، وخطب ثانى النحر فأعلمهم ما بقى عليهم فى يومه وغده، وأن التعجيل يجوز فيه، وكذلك خطب قبل يوم التروية بيوم وهو بمكة، فكانت خطبه ثلاثًا، كل خطبة ليومين، وأما قول الشافعى أنه يخطب ثالث يوم النحر، مع اجتماعهم بأنها خطبة يأمر الإمام الناس فيها بالتعجيل إن شاءوا، ولما كان لم يختلفوا فيه أن الخطبة التى يأمر الإمام الناس فيها بالخروج إلى منى قبل الخروج إليها، كان كذلك الخطبة التى يأمرهم فيها بالتعجيل فى يومين قبل ذلك أيضًا. قال ابن الموّاز: الخطبة الأولى قبل التروية بيوم فى المسجد الحرام بعد الظهر لا يجلس فيها، والثانية بعرفة يجلس فى وسطها، والثالثة بمنى أول يومٍ من أيام التشريق، وهى بعد الظهر لا يجلس فيها، وهى كلها تعليم المناسك، ولا يجهر بالقراءة فى شىء من صلاتها. وقال الطبرى: معنى قوله عليه السلام: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام) يريد أن دماء بعضكم وأمواله وأعراضه حرام على البعض الآخر، فأخرج الخبر عن تحريم ذلك على وجه الخطاب لهم؛ إذ كانوا أهل ملة واحدة، وكان جميعهم فيما لبعضهم على بعض من الحق فى معنى الواحد فيما لنفسه وعليه، وذلك نظير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) [النساء: 29] والمعنى: لا يأكل بعضكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 مال بعض بالباطل، ولا يقتل بعضكم بعضًا، وذلك أن المؤمنين بعضهم إخوة بعض، فما أصاب أخاه من مكروه فكأنه المصاب به، ومثله قوله تعالى موبخًا لبنى إسرائيل الذين كانوا بين ظهرانى المسلمين فى قتل بعضهم بعضًا من ديارهم: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ) [البقرة: 84] فأخرج الخبر عن قتل بعضهم لبعض على وجه الخبر عن أنفسهم، وفيه البيان عن أن الله حرم من مال المسلم وعرضه نظير الذى حرم من دمه، وسوَّى بين جميعه فلا يستحل ماله، وكذلك قال ابن مسعود فى خطبته: حُرمة مال المسلم كحرمة دمه. فإن قال قائل: فإنك تستحل سفك دماء أقوام من المسلمين وأنت لأموالهم محرم، وذلك كقطاع الطريق والخوارج ومن يجب قتله بحدٍّ لزمه. قيل: أما هؤلاء فإنما لزم الإمام سفك دمائهم إقامة لِحدِّ الله الذى وجب عليهم، وليس ذلك استحلالا لزمه من الوجه الذى سوَّى الله بينه وبين ماله وعرضِه فى الحرمة، وإنما ذلك عقوبة لجرمه دون ماله، كما أمر بعقوبة آخر فى ماله دون بدنه، وليس إلزامه الدية استحلالا لماله من الوجه الذى سوَّى بينه وبين دمه وماله، وإنما الوجه الذى سَوّى بين حُرمة جميع ذلك فى ألا يتناول شيئًا منه بغير حق، فحرام أن يُغتابَ أحدٌ بسوءٍ بغير حق، وكذلك مَالُهُ؛ أخذُ شىء منه حرام بغير حق كتحريم دمه. وأما قوله عليه السلام: (لا ترجعوا بعدى كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض) فإنه قد تقدم منه عليه السلام إلى أمته بالثبوت على الإسلام، وتحريم بعضهم من بعض على نفسه سفك دمه، ما أقاموا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 على الإسلام، فإن ظن ظان أن ذلك حكم من النبى (صلى الله عليه وسلم) لضارب رقبة أخيه المسلم بالكفر، فقد أعظم الغفلة وأفحش الخطأ، وذلك أنه لا ذنب يوجب لصاحبه الكفر مع الإقرار بالتوحيد والنبوة إلا بذنب يركبه صاحبه على وجه الاستحلال مع العلم بتحريمه، فأما إذا ركبه معتقدًا تحريمه، فإن ذلك معصية لله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فهو بذلك الذنب آثم، ومن ملة المسلمين غير خارج؛ لقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء) [النساء: 48] فإن قال قائل: فما معنى قوله عليه السلام: (لا ترجعوا بعدى كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض) إذ كان لهم الرجوع وهو حى بينهم كفارًا، فيشترط فى نهيه النهى عن ذلك بعده؟ قيل: لذلك وجوه مفهومة: أحدها: أن يكون قال لهم: (لا ترجعوا بعدى كفارًا) لأنه قد علم أنهم لا يفعلون ذلك وهو فيهم حى، فقال لهم: لا تفعلوه بعد وفاتى، فأما قبل وفاتى فقد علمت أنكم لا تفعلونه بإعلام الله ذلك. والثانى: أن يكون عنى بقوله: (بعدى) بعد فراقى من موقفى هذا. والثالث: أن يكون عنى بقوله: (بعدى) خلافى، فيكون معنى الكلام: لا ترجعوا خلافى كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، فتخلفونى فى أنفسكم بغير الذى أمرتكم به. 1 - بَاب هَلْ يَبِيتُ أَصْحَابُ السِّقَايَةِ وَغَيْرُهُمْ بِمَكَّةَ لَيَالِىَ مِنًى / 179 - فيه: ابْن عُمَرَ، رخص النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) للعباس لِيَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِىَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 قال ابن المنذر: السنة أن يبيت الناس بمنى ليالى أيام التشريق إلا من أرخص له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك؛ فإنه أرخص للعباس أن يبيت بمكة من أجل سقايته، وأرخص لرعاء الإبل، وأرخص لمن أراد التعجيل أن ينفر فى النفر الأول. واختلف الفقهاء فيمن بات ليلةً بمكة من غير من رُخِّصَ له، فقال مالك: عليه دم. وقال الشافعى: إن بات ليلة أطعم عنها مسكينًا، وإن بات ليالى منى كلها أحببتُ له أن يُهريق دمًا. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا شىء عليه إن كان يأتى منى ويرمى الجمار. وهو قول الحسن البصرى، قالوا: ولو كانت سُنَّة ما سقطت عن العباس وآله، وإنما هو استحباب، وحسبه إذا رمى الجمار فى وقتها، وقد روى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لا بأس أن يبيت الرجل بمكة ليالى منى، ويظل إذا رمى الجمار. وحجة من أوجب الدم أن الرخصة فى ذلك إنما هى تخصيص من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأهل السقاية، ولمن أذن له دون غيرهم. 2 - باب رَمْىِ الْجِمَارِ وَقَالَ جَابِرٌ: رَمَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَرَمَى بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ. / 180 - فيه: وَبَرَةَ، سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ مَتَى أَرْمِى الْجِمَارَ؟ قَالَ: إِذَا رَمَى إِمَامُكَ فَارْمِهْ، فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ، قَالَ: كُنَّا نَتَحَيَّنُ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا. قول جابر: (رمى النبى يوم النحر ضُحى) فإنما يريد جمرة العقبة، لا يرمى يوم النحر غيرها، وقوله: (ثم رمى بعد ذلك بعد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 الزوال) فإنه يعنى رمى الجمار أيام التشريق، وممن رماها بعد الزوال: عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن الزبير، ولذلك قال ابن عمر: كنا نتحين؛ فإذا زالت الشمس رمينا. وهذه سنة الرمى أيام التشريق الثلاثة، لا تجوز إلا بعد الزوال عند الجمهور، منهم: مالك، والثورى، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعى، ولكنا استحسنا أن يكون فى اليوم الثالث قبل الزوال. وقال إسحاق: إن رمى فى اليوم الأول والثانى قبل الزوال أعاد، وفى اليوم الثالث يجزئه. وقال عطاء وطاوس: يجوز فى الأيام الثلاثة قبل الزوال. وحديث جابر وابن عمر يرد هذا القول، والحجة فى السنة، فلا معنى لقول من خالفها، ولا لمن استحب غيرها، واتفق مالك وأبو حنيفة والثورى والشافعى وأبو ثور إذا مضت أيام التشريق وغابت الشمس من آخرها، فقد فات الرمى، ويجبر ذلك بالدم. 3 - باب رَمْىِ الْجِمَارِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِى / 181 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِى، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، إِنَّ نَاسًا يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا، فَقَالَ: وَالَّذِى لا إِلَهَ غَيْرُهُ، هَذَا مَقَامُ الَّذِى أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. رمى الجمرة من حيث تيسر من العقبة، من أسفلها أو أعلاها أو أوسطها، كل ذلك واسع، والموضع الذى يختار منها بطن الوادى؛ من أجل حديث ابن مسعود، وكان جابر بن عبد الله يرميها من بطن الوادى، وبه قال عطاء وسالم، وهو قول الثورى والشافعى وأحمد وإسحاق، وقال مالك: يرميها من أسفلها أحب إلى. وقد روى عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 عمر بن الخطاب أنه خاف الزحام عند الجمرة، فصعد فرماها من فوقها. 4 - باب رَمْىِ الْجِمَارِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ / 182 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى جَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَرَمَى بِسَبْعٍ، وَقَالَ: هَكَذَا رَمَى الَّذِى أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. وترجم له باب: (من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره) . اتفقت الأمة على أن رمى كل جمرة بسبع حصيات فقد أحسن، واختلفوا إذا رماها بأقل من سبع، فذكر الطبرى عن عطاء أنه إن رمى بخمس أجزأه، وعن مجاهد: إن رمى بست فلا شىء عليه، وذكر ابن المنذر أن مجاهدًا احتج بحديث سعد بن أبى وقاص قال: (رجعنا مع النبى عليه السلام وبعضنا يقول: رميت بست، وبعضنا يقول: رميت بسبع، فلم يَعِبْ بعضهم على بعض) وبه قال أحمد وإسحاق، وعن طاوس إن رمى ستًا يطعم تمرة أو لقمة. وذكر الطبرى قال: قال بعضهم: لو ترك رمى جميعهن بعد أن يكبر عند كل جمرة بسبع تكبيرات أجزأه ذلك. وقال: إنما جعل الرمى فى ذلك بالحصى سببًا لحفظ التكبيرات السبع، كما جعل عقد الأصابع بالتسبيح سبًا لحفظ العدد. وذكر عن يحيى بن سعيد أنه سئل عن الخرز والنوى يسبح به، فقال: حسن، قد كانت عائشة زوج النبى عليه السلام تقول: إنما الحصى للجمار ليحفظ به التكبير. وقال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 الشافعى وأبو ثور: إن بقيت عليه حصاة فعليه مُد من طعام، وفى حصاتين مُدَّان، وإن بقيت ثلاث فأكثر فعليه دم. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن ترك أقل من نصف جميع الجمرات الثلاث، فعليه فى كل حصاة نصف صاع من طعام إلا أن يبلغ ذلك دمًا، فيطعم ما شاء ويجزئه، وإن كان ترك أكثر من نصف جميع الجمرات الثلاث فعليه دم، وعلتهم إجماع الجميع أنَّ على كل تارك رمى الجمرات الثلاث فى أيام الرمى حتى تنقضى: دمًا، فلما كان ذلك إجماعًا، كان الواجب أن يكون لترك رمى ما دون جميع الجمرات الثلاث من الدم بقسطه، وأن يكون ذلك مردودًا إلى القيمة؛ إذ كان غير ممكن نسك بعض الدم، فجعلوا ذلك طعامًا، وجعلوا ما يعطى كل مسكين من ذلك قوت يومه، وجعلوا تارك ما زاد على نصف جميع الجمرات الثلاث بمنزلة تارك الجمرات كلها؛ إذ كان الحُكم عندهم للغلب، مع أن ذلك إجماع من الجميع. وقال الحكم وحماد: من نسى جمرة أو جمرتين أو حصاة أو حصاتين يهريق دمًا. وقال عطاء: من نسى شيئًا من رمى الجمار فذكر ليلا أو نهارًا فليرمى ما نسى، ولا شىء عليه، وإن مضت أيام التشريق فعليه دم. وهو قول الأوزاعى، وقال مالك: إن نسى حصاة من الجمرة حتى ذهبت أيام الرمى ذبح شاة، وإن نسى جمرة تامة ذبح بقرة. قال الطبرى: والصواب عندنا أن رمى جمرة العقبة يوم النحر بسبع حصيات، ورمى الجمرات الثلاث أيام التشريق الثلاثة كل جمرة منها بسبع حصيات من مناسك الحج التى لا يجوز تضييعها؛ لنقل الأمة جميعًا وراثة عن النبى عليه السلام أن رميهن كذلك مما عَلَّمَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 أمته، وقد جعل الله بيان مناسكه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فعلم بذلك أنه من الفروض التى لا يجوز تضييعها، وعُلم أن من ترك شيئًا مما علمهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) حتى فات وقته فعليه الكفارة؛ إذ كان قد نص فى محكم كتابه على وجوب ذلك فى تضييع بعض المناسك، فكان فى حكمه حكم ما لم ينص الحكم فيه، فمما نص الحكم فيه فى كتابه (الشعر) الذى تَقَدَّم إلى عباده فى ترك حلقه أيام إحرامهم بقوله: (وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ) [البقرة: 196] ثم جعل فى حلقه قبل وقته المباح لمرض أو أذى فديةً من طعام أو صدقة أو نسك، وكذلك أوجب فى قاتل الصيد فى الإحرام الكفارة، فمثل ذلك حكم كل مضيع شيئًا من مناسك الحج عليه الكفارة والبدل، وإن اختلفت الكفارات فى ذلك إلا أن ينص الله على وضع شىء من ذلك عن فاعله، ولما ثبت أن كل جمرة منها فرض، بينا أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان منقولا عنه وِرَاثة أن من ضيع رميهن حتى تنقضى أيام التشريق الثلاثة عليه فدية شاة يذبحها ويتصدق بها، كان على تارك بعضها ما على تارك جميعها، كما حكم تارك شوط واحد من السبعة الأشواط فى طواف الإفاضة يوم النحر حكم تارك الأشواط السبعة فيما يلزمه. واختلفوا فيمن رمى سبع حصيات فى مرة واحدة، فقال مالك والشافعى: لا يجزئه إلا عن حصاةٍ واحدة، ويرمى بعدها سِتا. وقال عطاء: يجزئه عن السبع رميات. وهو قول أبى حنيفة؛ لأنه لو وجب عليه الحد فلا فرق أن يقام عليه الحد سوطًا أو سياطًا مجموعة فإنه يسقط عنه الفرض إذا علم وصول الكل إلى بدنه، كذلك الرمى. قال ابن القصار: والحجة لمالك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) رمى بحصاةٍ بعد حصاة وقال: (خذوا عنى مناسككم) فوجب امتثال فعله، ونحن لا نجيز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 ضربه إلا بسوط بعد سوط؛ لأنه لا يكون ألم الكل فى ضربةٍ كألمه سوطًا بعد سوط، فالعدد فى الحد معتبر، وفى الرمى معتبر. وقال ابن المنذر: إذا جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، فهو مستقبل للجمرة بوجهه وهى السنة، ولذلك ترجم باب (من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره) . 5 - باب يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام. / 183 - فيه: الأعْمَشُ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: السُّورَةُ الَّتِى يُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ، وَالسُّورَةُ الَّتِى يُذْكَرُ فِيهَا آلُ عِمْرَانَ، وَالسُّورَةُ الَّتِى يُذْكَرُ فِيهَا النِّسَاءُ، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لإبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِى عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ حِينَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَاسْتَبْطَنَ الْوَادِيَ، حَتَّى إِذَا حَاذَى بِالشَّجَرَةِ اعْتَرَضَهَا، فَرَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ قَالَ: مِنْ هَاهُنَا وَالَّذِى لا إِلَهَ غَيْرُهُ، قَامَ الَّذِى أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. والسنة أن يكبر مع كل حصاة كما فعل عليه السلام، وعمل بذلك الأئمة بعده، وروى ذلك عن ابن مسعود وابن عمر، وهو قول مالك والشافعى، وكان على يقول كلما رمى حصاة: اللهم اهدنى بالهدى، وقنى بالتقوى، واجعل الآخرة خيرًا لى من الأولى. وكان ابن عمر وابن مسعود يقولان عند ذلك: اللهم اجعله حجًا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وسعيًا مشكورًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 وأجمعوا أنه إن لم يكبر فلا شىء عليه، وفى هذا الحديث رد على من يقول: إنه لا يجوز أن يقال: سورة البقرة، ولا سورة آل عمران كما قال الحجاج، وقد سبقه إلى ذلك من السلف وقالوا: إذ قال: سورة البقرة، وسورة آل عمران، فقد أضاف السورة إلى البقرة، والبقرة لا سورة لها، وإنما الصواب أن يقال: السورة التى يذكر فيها البقرة، واحتج النخعى عن الأعمش بقول ابن مسعود، عن النبى عليه السلام: (الذى أنزلت عليه سورة البقرة) وقال أهل العلم بكتاب الله: ليست هذه إضافة ملك، ولا إضافة نوع إلى جنسه، وإنما هى إضافة لفظ بمنزلة قولك: باب الدار، وسرج الدابة، ومثل قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [التكوير: 19] فأضاف القول إلى جبريل الذى نزل به من عند الله تعالى وهذا من اتساع لغة العرب تضيف الشىء إلى من له فيه أقل سبب، وقد ترجم البخارى لهذا المعنى فى كتاب فضائل القرآن فقال: باب من لم ير بأسًا أن يقول: سورة البقرة، وسورة كذا، خلافًا للحجاج ولمن أنكر ذلك قبله. 6 - باب مَنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَلَمْ يَقِفْ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) . / 184 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَرْمِى الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ الْوُسْطَى، ثُمَّ يَرْمِى جَمْرَةَ ذَاتِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِى، وَلا يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَفْعَلُهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 جمرة العقبة فى هذا الحديث هى الجمرة الثالثة من الجمار التى تُرمى كل يوم من أيام التشريق، تُرمى فى المكان الذى رميت فيه جمرة العقبة يوم النحر، ولا يقف عند هذه الجمرة الثالثة إذا رماها كما يقف عند الأولى والثانية، وكذلك وردت السنة، وروى عن عمر ابن الخطاب أنه كان يفعله، وذكر البخارى عن ابن عمر أنه كان يفعله. 7 - باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الدُّنْيَا وَالْوُسْطَى / 185 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنَّهُ كَانَ يَرْمِى الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيُسْهِلُ، فَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قِيَامًا طَوِيلا، فَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِى الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى كَذَلِكَ، فَيَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيُسْهِلُ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قِيَامًا طَوِيلا، فَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِى الْجَمْرَةَ ذَاتَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِى، وَلا يَقِفُ عِنْدَهَا، وَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَفْعَلُ. وترجم له باب: (الدعاء عند الجمرتين) . الجمرة الدنيا: هر الجمرة الأولى من أول أيام التشريق، وهن ثلاث جمرات فى كل يوم من الثلاثة الأيام جمرة، فالجمرة الأولى مسجد منى، والوسطى عند العقبة الأولى بقرب مسجد منى أيضًا، يرميها ويقف طويلا ويدعو، ويرمى الثالثة عند العقبة حيث رمى يوم النحر، يرميها ولا يقف على ما ثبت فى الحديث، وروى الثورى، عن عاصم الأحول، عن أبى مجلز قال: كان ابن عمر يشبر ظله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 ثلاثة أشبار، ثم يرمى، وقام عند الجمرتين قدر سورة يوسف. وقال عطاء: كان ابن عمر يقف عندها بمقدار ما يقرأ سورة البقرة. قال ابن المنذر: ولعله قد وقف مرتين كما قال أبو مجلز، وكما قال عطاء، ولا يكون اختلافًا وكان ابن عباس يقف بقدر قراءة سورة من المائتين، ولا توقيف فى ذلك عند العلماء، وإنما هو ذكر ودعاء، فإن لم يقف ولم يدع فلا حرج عليه عند أكثر العلماء إلا الثورى؛ فإنه استحب أن يطعم شيئًا أو يهريق دمًا، والسنة أن يرفع يديه فى الدعاء عند الجمرتين، قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدًا أنكر غير مالك؛ فإن ابن القاسم حكى عنه أنه لم يكن يعرف رفع اليدين هنالك، قال ابن المنذر: واتباع السنة أفضل. 8 - باب الطِّيبِ بَعْدَ رَمْىِ الْجِمَارِ وَالْحَلْقِ قَبْلَ الإفَاضَةِ / 186 - فيه: عَائِشَةَ، طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدَىَّ هَاتَيْنِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ، وَبَسَطَتْ يَدَيْهَا. قال ابن المنذر: واختلف العلماء فيما أبيح للحاج بعد رمى جمرة العقبة قبل الطواف بالبيت، فروى عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة أنه يحل له كل شىء إلا النساء، وهو قول سالم وطاوس والنخعى، وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، واحتجوا بحديث عائشة فى إباحة الطيب لمن رمى جمرة العقبة قبل طواف الإفاضة، وقالوا: سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حجة على من خالفها. قال ابن المنذر: قولها: (ولحلِّه) يدل أنه حلال من كل شىء إلا النساء، الذى دل على المنع منه الخبر والإجماع، وروى عن عمر بن الخطاب وابنه أنه يحل له كل شىء إلا النساء والطيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 قال مالك: يحل له كل شىء إلا النساء والصيد. ذكره ابن المواز، وقال فى المدونة: أكره لمن رمى جمرة العقبة أن يتطيب حتى يفيض؛ فإن فعل فلا شىء عليه لما جاء فيه. فعلى هذا القول الصحيح من مذهب مالك أنه يحل له كل شىء إلا النساء والصيد. واحتج ابن القصار لمالك فى تحريم الصيد على من لم يفض بقوله: (لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ) [المائدة: 95] وليس إذا أحل له الحلق يخرج عن كونه محرمًا؛ لأن الحلق والطيب واللباس قد أبيح على وجه، ولم يخرج بذلك عن كونه محرمًا، فلذلك يحل له بعد الرمى أشياء، ويبقى عليه تحريم أشياء وهو محرم، وقوله تعالى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) [المائدة: 2] فاقتضى الإحلال التمام، وألا يبقى شىء من الإحرام بعد افحلال المطلق، ومن بقيت عليه الإفاضة فلم يحلل الإحلال التام، ومثله قوله تعالى: (وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) [الطلاق: 4] فلو وضعت واحدًا وبقى فى بطنها آخر لم تكن قد وضعت الوضع التام؛ لأن الرجعة قبل وضعها الثانى تصح. واحتج الطحاوى لأصحابه بما رواه عن على بن معبد، حدثنا يزيد ابن هارون، حدثنا الحجاج بن أرطاة، عن أبى بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شىء إلا النساء) وبما روى سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العُرَنى، عن ابن عباس قال: (إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شىء إلا النساء، فقال له رجل: والطيب؟ فقال: أما أنا فقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 يضمخ رأسه بالمسك، أفطيب هو؟) . وروى أفلح بن حميد، عن أبى بكر بن حزم قال: دعانا سليمان بن عبد الملك يوم النحر، أرسل إلى عمر بن عبد العزيز والقاسم وسالم وخارجة بن زيد وعبد الله بن عبد الله ابن عمر وابن شهاب فسألهم عن الطيب فى هذا اليوم قبل الإفاضة، فقالوا: تطيب يا أمير المؤمنين. قال ابن المنذر: واختلفوا فيمن جامع بعد رمى الجمرة يوم النحر قبل الإفاضة، فروى عن ابن عمر أن عليه حجة قابل، وعن الحسن والنخعى والزهرى مثله. وقال النخعى والزهرى: وعليه الهدى مع حج قابل. وقال ربيعة ومالك: يعتمر من التنعيم ويهدى. وقال أحمد وإسحاق: يعتمر من التنعيم. وقال ابن عباس: عليه بدنة، وحَجُّهُ تام. وعن عطاء والشعبى مثله، وهو قول الكوفيين والشافعى وأبى ثور. 9 - باب طَوَافِ الْوَدَاعِ / 187 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ إِلا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ. / 188 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ، فَطَافَ بِهِ. طواف الوداع لكل حاج ومعتمر، لا يكون مكيًا، من سنن الحج وشعائره، قال مالك: وإنما أمر الناس أن يكون آخر نسكهم الطواف بالبيت؛ لقول الله: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32] وقال: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 33] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 قال مالك: ومن أخر طواف الإفاضة إلى أيام منى فإن له سعة أن يصدر إلى بلده وإن لم يطف بالبيت إذا أفاض. واختلفوا فيمن خرج ولم يطف للوداع، فقال مالك: إن كان قريبًا رجع فطاف، وإن لم يرجع فلا شىء عليه. وقال عطاء والثورى وأبو حنيفة والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور: إن كان قريبًا رجع فطاف، وإن تباعد مضى وأهراق دمًا. وحجتهم فى إيجاب الدم قول ابن عباس: من نسى من نسكه شيئًا فليهريق دمًا. والطواف نسك، وحجة مالك أنه طواف أسقط عن المكى والحائض، فليس من السنن اللازمة، والذمة بريئة إلا بيقين، وسيأتى شىء من هذا المعنى فى هذا الباب الذى بعد هذا إن شاء الله. واختلفوا فى حد القُرْب، فروى أن ابن عمر رَدَّ رجلا من مَرّ الظهران لم يكن ودع، وبين مَرّ الظهران ومكة ثمانية عشر ميلا، وهذا بعيد عند مالك، ولا يُرد أحد من مثل هذا الموضع، وعند أبى حنيفة: يرجع ما لم يبلغ المواقيت، عند الشافعى: يرجع من مسافة لا تقصر فيها الصلاة، وعند الثورى: يرجع ما لم يخرج من الحرم. واختلفوا فيمن وَدَّع ثم بدا له فى شراء حوائجه، فقال عطاء: يعيد حتى يكون آخر عمله الطواف بالبيت. وبنحوه قال الثورى والشافعى وأحمد وأبو ثور. قال مالك: لا بأس أن يشترى بعض حوائجه وطعامه فى السوق، ولا شىء عليه، وإن أقام يومًا أو بعضه أعاد. وقال أبو حنيفة: لو ودع وأقام شهرًا أو أكثر أجزأه، ولم يكن عليه إعادة. وهذا خلاف حديث ابن عباس: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم الطواف بالبيت) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 0 - باب إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَا أَفَاضَتْ / 189 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ صَفِيَّةَ حَاضَتْ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَحَابِسَتُنَا هِىَ) ؟ قَالُوا: إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ، قَالَ: (فَلا إِذًا) . / 190 - وفيه: ابْنَ عَبَّاسٍ رُخِّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ إِذَا أَفَاضَتْ. / 191 - وفيه: عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ الرسول، عليه السَّلام، وَلا نَرَى إِلا الْحَجَّ. . . فذكر الحديث فَحَاضَتْ هِىَ، فَنَسَكْنَا مَنَاسِكَنَا، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ لَيْلَةُ النَّفْرِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّ أَصْحَابِكَ يَرْجِعُ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ غَيْرِى؟ قَالَ: (مَا كُنْتِ تَطُوفِينَ بِالْبَيْتِ لَيَالِىَ قَدِمْنَا) ؟ قُلْتُ: بلى، وَقَالَ مُسَدَّدٌ: لا. وَتَابَعَهُ جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ فِى قَوْلِهِ: لا، قَالَ: (فَاخْرُجِى مَعَ أَخِيكِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهِلِّى بِعُمْرَةٍ) ، وَحَاضَتْ صَفِيَّةُ، فَقَالَ، عليه السَّلام: (عَقْرَى حَلْقَى، أَمَا كُنْتِ طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ) ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: (فَلا بَأْسَ انْفِرِى) . معنى هذا الباب أن طواف الوداع ساقط عن الحائض؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لما أُخبر عن صفية أنها حاضت، قال: (أحابستنا هى؟) فلما أُخبر أنها قد أفاضت قبل أن تحيض، قال: (فلا إذًا) وهو قول عوام أهل العلم، وخالف ذلك طائفة فقالوا: لا يحل لأحد أن ينفر حتى يطوف طواف الوداع، ولم يعذروا فى ذلك حائضًا بحيضها. ذكره الطحاوى. قال ابن المنذر: روى ذلك عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وابن عمر، فقد روينا عنهم الرجوع، وقول عمر بن الخطاب يَرُدُّه الثابت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه أمر الحائض أن تنفر بعد الإفاضة، ومن هذا الحديث. قال مالك: لا شىء على من ترك طواف الوداع حتى يرجع إلى بلاده لسقوطه عن الحائض. وفيه رد لقول عطاء والكوفيين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 والشافعى ومن وافقهم، أن من لم يودع البيت فعليه دم، وقولهم خلاف حديث صفية، وفى قوله: (أحابستنا هى؟) دليل أن طواف الإفاضة يحبس الحائض بمكة، لا تبرح حتى تطوف للإفاضة؛ لأنه الطواف المفترض على كل من حج، وعلى هذا أئمة أهل العلم. قال مالك: إذا حاضت المرأة بمنى قبل أن تفيض حُبس عليها كَرِيُّهَا أكثر ما يحبس النساء الدم. قال ابن عبد الحكم: ويحبس على النساء أكثر ما يحبس النساء الدم فى النفاس، ولا حجة للكَرِىِّ أن يقول لم أعلم أنها حامل. قال مالك: وليس عليها أن تعينه فى العلف. وقال ابن المواز: لست أعرف حبس الكَرِىِّ، كيف يحبس وحده يعرض لقطع الطريق. وقال الشافعى: ليس على جَمَّالها أن يحبس عليها، ويقال لها: احملى مكانك مثلك. قال المؤلف: والصواب فى حديث عائشة رواية مسدد وجرير عن منصور فى قولها: (لا) وقد بان ذلك فى حديث أبى معاوية أنها قالت: (فحضت قبل أن أدخل مكة) وقال فليح: (فما كنا بسرف حضت، فقال عليه السلام: افعلى كما يفعل الحاج غير ألا تطوفى بالبيت حتى تطهرى. قالت: فقدمت مكة وأنا حائض لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فلما قدمنا طهرتُ، فخرجت من منى فأفضت بالبيت) . فدل هذا الحديث أن عائشة لم تكن متمتعة؛ لأنها لم تطف بالبيت حين قدمت مكة، كما طاف من فسخ حجه فى عمرة من أجل حيضتها، ولذلك قالت: (كل أصحابك يرجع بحجة وعمرة غيرى؟) فأمر أخاها أن يخرجها إلى التنعيم فتهل منه بعمرة لترجع بحجة وعمرة كما أرادت، ودل هذا أيضًا أنها لم تكن قارنة، ولو كانت قارنة لم تأسف على فوات العمرة، ولا قالت: (كل أصحابك يرجع بحجة وعمرة غيرى) فثبت أنها كانت مفردة بالحج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 وقوله: (عَقْرَى حَلْقى) فيه: جواز توبيخ الرجل أهله على ما يدخل على الناس بسببها، كما وبخ أبو بكر أيضًا عائشة فى قصة العِقْد. 1 - باب مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ بِالأبْطَحِ / 192 - فيه: أَنَس، صَلَّى النَّبِىّ، عليه السَّلام، الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمِنًى، قُلْتُ: وَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟ قَالَ: بِالأبْطَحِ. افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ. / 193 - قَالَ أَنَسًا أيضًا: صَلَّى النَّبِىّ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَرَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ. قال ابن القاسم فى المدونة: إذا رمى آخر أيام منى فليخرج إلى مكة ولا يصلى الظهر بمنى، واستحب النزول بأبطح مكة وهو حيث المقبرة يصلى فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم يدخل مكة أول الليل، كذلك فعل النبى عليه السلام وأُحب أن يفعل ذلك الأئمة ومن يُقتدى به. وربما قال مالك: ذلك واسع لغيرهم. وكان أبو بكر وعمر وعثمان ينزلون بالأبطح، وهو مستحب عند العلماء، إلا أنه عند الحجازيين أوكد منه عند الكوفيين، وكلهم مجمعون أنه ليس من مناسك الحج، وهذه البطحاء هى المعرس، والأبطح والبطحاء: ما انبطح واتسع من بطن الوادى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 2 - باب الْمُحَصَّبِ / 194 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: إِنَّمَا كَانَ مَنْزِلٌ يَنْزِلُهُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، لِيَكُونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ. يَعْنِى بِالأبْطَحِ. / 195 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: لَيْسَ التَّحْصِيبُ بِشَىْءٍ، إِنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . المُحَصَّب: هو الأبطح، وهو المعرس، وهو خيف منى المذكور فى حديث أبى هريرة (أن النبى عليه السلام قال حين أراد أن ينفر من منى: نحن نازلون غدًا إن شاء الله بخيف بنى كنانة) يعنى: المحصب. وقد ذكرنا فى الباب قبل هذا عن أبى بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا ينزلون به، وقال عمر بن الخطاب: حصبوا، يعنى: انزلوا بالمحصب، وكان ابن عمر ينزل به، وعن النخعى وطاوس مثله، واستحب النخعى وطاوس أن ينام فيه نومة، وقول عائشة وابن عباس: (إنما هو منزل نزله رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) يدل أنه ليس من مناسك الحج، وأنه لا شىء على من تركه، وهذا معنى قوله: ليس التحصيب بشىء. أى: ليس من المناسك التى تلزم الناس، وكانت عائشة لا تحصب ولا أسماء، وهو مذهب عروة. قال الطحاوى: لم يكن نزوله عليه السلام بالمحصب لأنه سنة، وقد اختلف فى معناه، فقالت عائشة: ليكون أسمح لخروجه. قال المؤلف: يريد للمدينة ليستوى فى ذلك البطئ والمعتدل ويكون مبيتهم وقيامهم فى السحر، ورحيلهم بأجمعهم إلى المدينة. وروى عن أبى رافع أنه قال: (أمرنى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن أضرب له الخيمة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 429 ولم يأمرنى بمكان بعينه، فضربتها بالمحصب) رواه سفيان، عن صالح ابن كيسان، عن سليمان بن يسار، عن أبى رافع. وروى ابن أبى ذئب عن شعبة، أن ابن عباس قال: إنما كانت الحصبة؛ لأن العرب كانت يخاف بعضها بعضًا، فيرتادون فيخرجون جميعًا، فجرى الناس عليها. 3 - باب النُّزُولِ بِذِى طُوًى قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ وَالنُّزُولِ بِالْبَطْحَاءِ الَّتِى بِذِى الْحُلَيْفَةِ إِذَا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ / 196 - فيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ يَبِيتُ بِذِى طُوًى بَيْنَ الثَّنِيَّتَيْنِ، ثُمَّ يَدْخُلُ مِنَ الثَّنِيَّةِ الَّتِى بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا لَمْ يُنِخْ نَاقَتَهُ إِلا عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ يَدْخُلُ، فَيَأْتِى الرُّكْنَ الأسْوَدَ فَيَبْدَأُ بِهِ، ثُمَّ يَطُوفُ سَبْعًا ثَلاثًا سَعْيًا وَأَرْبَعًا مَشْيًا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَنْطَلِقُ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَيَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَكَانَ إِذَا صَدَرَ عَنِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ الَّتِى بِذِى الْحُلَيْفَةِ الَّتِى كَانَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يُنِيخُ بِهَا. / 197 - وسُئِلَ عُبَيْدُاللَّهِ عَنِ الْمُحَصَّبِ، فَحَدَّثَنَا عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: نَزَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَعُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ. وكَانَ ابْن عُمَرَ يُصَلِّى بِهَا، يَعْنِى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 430 بالْمُحَصَّبَ، الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، أَحْسِبُهُ قَالَ: وَالْمَغْرِبَ. قَالَ خَالِدٌ: لا أَشُكُّ فِى الْعِشَاءِ، وَيَهْجَعُ هَجْعَةً، وَيَذْكُرُ ذَلِكَ عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام. النزول بذى طوى قبل أن يدخل مكة، والنزول بالبطحاء التى بذى الحليفة عند رجوعه، ليس شيئًا من سنن الحج ومناسكه، فمن شاء فعلها، ومن شاء تركها. 4 - باب مَنْ نَزَلَ بِذِى طُوًى إِذَا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ / 198 - فيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ إِذَا أَقْبَلَ بَاتَ بِذِى طُوًى حَتَّى إِذَا أَصْبَحَ دَخَلَ، وَإِذَا نَفَرَ، مَرَّ بِذِى طُوًى وَبَاتَ بِهَا حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وهذا أيضًا ليس من مناسك الحج، وإنما فيه استحباب دخول مكة نهارًا، وهو مذهب ابن عمر، واستحبه النخعى ومالك وإسحاق، وكانت عائشة تدخل مكة ليلا، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير، وقال عطاء والثورى: إن شئت دخلتها نهارًا، وإن شئت دخلتها ليلا. قال ابن المنذر: وقد دخلها الرسول (صلى الله عليه وسلم) ليلا حين اعتمر من الجعرانة. 5 - باب التِّجَارَةِ فِى أَيَّامَ الْمَوْسِمِ وَالْبَيْعِ والشِراء فِى أَسْوَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ / 199 - فيه: ابْن عَبَّاس، كَانَ ذُو الْمَجَازِ وَعُكَاظٌ مَتْجَرَ النَّاسِ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الإسْلامُ كَأَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ حَتَّى نَزَلَتْ: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة: 198] فِى مَوَاسِمِ الْحَجِّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 431 ذكر إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا مسدد، حدثنا عبد الواحد ابن زياد، حدثنا العلاء بن المسيب، عن أبى أمامة التيمى قال: (كنت أكرى فى هذا الوجه وكان ناس يقولون: إنه ليس لك حج، فلقيت ابن عمر فسألته، فقال: أليس تحرم وتلبى، وتطوف بالبيت، وتفيض من عرفات، وترمى الجمار؟ قلت: بلى. قال: فإن لك حجًا، وإن رجلا سأل النبى عليه السلام عن مثل ما سألتنى عنه، فسكت عنه عليه السلام حتى نزلت هذه الآية: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ) [البقرة: 198] . وقال مجاهد فى هذه الآية: أحلت لهم التجارة فى المواسم، وكانوا لا يبيعون ولا يبتاعون بعرفة ولا بمنى فى الجاهلية. وقال قتادة: كانوا إذا أفاضوا من عرفات لم يتجروا ولم يتعرجوا على كسير ولا ضالة، فأحل الله لهم ذلك فأنزل الآية. وقال الطحاوى: أخبر ابن عباس أن هذه الآية نسخت ما كانوا عليه فى الجاهلية من ترك التبايع فى الحج، وأنهم كانوا لا يخلطونه بغيره، فأباحهم تعالى التجارة فى الحج وابتغاء فضله، ولم يكن ما دخلوا فيه من حرمة الحج قاطعًا لهم عن ذلك. ودل ذلك على أن الداخل فى حرمة الاعتكاف لا بأس عليه أن يتجر فى مواطن الاعتكاف منه، كما لم تمنعه حرمة الحج منه. وممن أجاز للمعتكف البيع والشراء الكوفيون والشافعى، وقال الثورى: يشترى الخبز إذا لم يكن له من يشتريه له. وبه قال أحمد، واختلف فيه عن مالك، فروى عنه ابن القاسم إجازة ذلك إذا كان يسيرًا، وروى عنه مثل قول الثورى، وكره ذلك عطاء ومجاهد والزهرى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 432 6 - باب الادِّلاجِ مِنَ الْمُحَصَّبِ / 200 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: حَاضَتْ صَفِيَّةُ لَيْلَةَ النَّفْرِ، فَقَالَتْ: مَا أُرَانِى إِلا حَابِسَتَكُمْ. . . الحديث، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى لَمْ أَكُنْ حَلَلْتُ؟ قَالَ: (فَاعْتَمِرِى مِنَ التَّنْعِيمِ) ، فَخَرَجَ مَعَهَا أَخُوهَا، فَلَقِينَاهُ مُدَّلِجًا، فَقَالَ: (مَوْعِدُكِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا) . وهذا ليس من مناسك الحج، ذكر عبد الرزاق قال: أخبرنا عمر ابن ذر، أنه سمع مجاهدًا يقول: (أناخ النبى عليه السلام ليلة النفر بالبطحاء ينتظر عائشة، وكره أن يقتدى الناس بإناخته، فبعث حتى أناخ على ظهر العقبة أو من ورائها ينتظرها) . قال الطبرى: الادلاج بتشديد الدال: الرحيل من المنزل بسحر. قال الأعشى: وادّلاج بعد المنام وتهجير والإِدْلاج بتخفيف الدال: الرحيل من المنزل فى أول الليل والسير فيه. قال الأعشى: وإِدْلاج ليل على غرة وهاجرة حرّها محتدم [أَبْوَاب الْعُمْرَةِ] 7 - باب وُجُوبِ الْعُمْرَةِ وَفَضْلِهَا وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَيْسَ أَحَدٌ إِلا وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، إِنَّهَا لَقَرِينَتُهَا فِى كِتَابِ اللَّهِ: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [الحج: 196] . / 201 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 433 اختلف الناس فى وجوب العمرة، فكان ابن عباس وابن عمر يقولان: هى واجبة فرضًا. وهو قول عطاء وطاوس والحسن وابن سيرين والشعبى، وإليه ذهب الثورى والشافعى وأحمد وإسحاق. وقال ابن مسعود: العمرة تطوع. وهو قول أبى حنيفة وأبى ثور، وقال النخعى: هى سنة. وهو قول مالك، قال: ولا يعلم لأحد الرخصة فى تركها. واحتج الذين أوجبوها فرضًا بقول الله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] ومعنى أتموا عندهم: أقيموا، قالوا: فإذا كان الإتمام واجبًا، فالابتداء واجب. قال ابن القصار: فيقال لهم: هذا غلط؛ لأن من أراد أن يفعل السنة فواجب أن يفعلها تامة، كمن أراد أن يصلى تطوعًا فيجب أن يكون على طهارة، وكذلك إذا أراد أن يصوم، فيلزمه التبييت، وكذلك من نذر صلاة وصومًا فقد أوجب على نفسه وإن لم تجب فى الأصل، فإذا دخل فى ذلك انحتم عليه تمامه حتى يصير بمنزلة ما ابتدأه لله، وما قالوه يبطل بالدخول فى عمرة ثانية وثالثة لأنه يجب المضى فيها، فلما أجمعنا أنه يجب عليه تمامها وإن لم يكن ابتداء الدخول فيها واجبًا سقط قولهم، واحتجوا بحديث ابن عمر أن النبى عليه السلام قال: (ليس أحد إلا عليه حجة وعمرة واجبتان) فالجواب: أن البخارى أوقفه على ابن عمر من قوله، فلا حجة فيه، ولو صح عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لكان ذكره للعمرة مقارنة الحج لا يدل على وجوبها، وإنما معناه الحض على هذا الجنس من العبادات، كما قال عليه السلام: (قال تعالى: الصوم لى، وأنا أجزى به) . وقال: (تابعوا بين الحج والعمرة) لما لم يدل على وجوب المتابعة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 434 لم يدل على وجوب العمرة، وإنما أراد عليه السلام أن لهذا الجنس من العبادات فضلا على غيره. وقال الطحاوى: ليس فى قول ابن عمر أنها واجبة ما يدل أنها فريضة؛ لأنه قد يجوز أن يقول أنها واجبة على المسلمين وجوبًا عامًا يقوم به البعض، كوجوب الجهاد، أنه واجب على المسلمين وجوبًا، من قام به أجزأ عنهم، وكوجوب الجنائز وغسل الموتى، ويدل على هذا قول ابن عمر: إذا حللتم فشدوا الرحال للحج والعمرة؛ فإنهما أحد الجهادين؛ ألا ترى أنه شبههما بالجهاد الذى يقوم بفرضه بعضهم. وقوله عليه السلام: (بنى الإسلام على خمس) فذكر الحج ولم يذكر العمرة، فدل أنها ليست بفريضة؛ لأنها لو كانت فريضة ما وسعه عليه السلام السكوت عن ذكرها مع جملة الفرائض، وقوله: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) يريد ما اجتنبت الكبائر (والحج المبرور) هو الذى لا رياء فيه ولا رفث ولا فسوق، ويكون بمال حلال والله أعلم. 8 - باب مَنِ اعْتَمَرَ قَبْلَ الْحَجِّ / 202 - فيه: ابْنَ عُمَرَ لا بَأْسَ بالْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ، اعْتَمَرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ. قال المؤلف: قول ابن عمر هذا يدل أن مذهبه أن فرض الحج قد كان نزل على النبى عليه السلام قبل اعتماره، ولو اعتمر عليه السلام قبل نزول فرض الحج ما صح استدلال ابن عمر بهذا الكلام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 435 على جواز الاعتمار قبل الحج، والذى يتفرغ من هذا المعنى: هل فرض الحج على الفور ولا يجوز تأخيره، أو هل فيه فسحة وسعة؟ والذى نزع فيه ابن عمر هو الصحيح فى النظر، وهو الذى تعضده الأصول، أن فى فرض الحج سعة وفسحة؛ لأن العمرة لم يَجْرِ لها ذكر فى القرآن إلا والحج مذكور معها، ولذلك قال ابن عباس: إنها لقرينتها فى كتاب الله) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] ولو كان فرض الحج على الفور لم يجز فسخه فى عمرة، ولا أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) أصحابه بذلك، ولو كان وقته مضيقًا لوجب إذا أخره إلى سنة أخرى أن يكون قضاء لا اداء، فلما ثبت أنه أداء فى أى وقت به، علم أنه ليس على الفور. وقد تقدم الكلام فى هذا المعنى فى باب (لا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج مشرك) ، فى الجزء الأول من الحج، وسيأتى شىء منه فى قصة كعب بن عجرة حين آذاه هوامه وحلق رأسه بالحديبية إن شاء الله. 9 - باب كَمِ اعْتَمَرَ النَّبِىُّ عليه السَّلام / 203 - فيه: عُرْوَة، أنه سأل ابْن عُمَرَ كَمِ اعْتَمَرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: أَرْبَعًا، إِحْدَاهُنَّ فِى رَجَبٍ. وَقَالَتْ عَائِشَةَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً إِلا وَهُوَ شَاهِدُهُ، وَمَا اعْتَمَرَ فِى رَجَبٍ قَطُّ. / 204 - وفيه: أَنَس، اعْتَمَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَرْبَعٌ: عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ فِى ذِى الْقَعْدَةِ، حَيْثُ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ، وَعُمْرَةٌ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِى ذِى الْقَعْدَةِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 436 حَيْثُ صَالَحَهُمْ، وَعُمْرَةُ الْجِعِرَّانَةِ إِذْ قَسَمَ غَنِيمَةَ حُنَيْنٍ، قُلْتُ: كَمْ حَجَّ؟ قَالَ: وَاحِدَةً، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ. وقَالَ هَمَّام: اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ فِى ذِى الْقَعْدَةِ إِلا الَّتِى اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ. / 205 - وفيه: الْبَرَاء، اعْتَمَرَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، ثلاث عمرة. والرابعة إنما تجوز نسبتها إليه؛ لأنه أمر الناس بها، وعُملت بحضرته، لا أنه عليه السلام اعتمرها بنفسه، ويدل على صحة هذا القول أن عائشة ردت على ابن عمر قوله: وقالت: (ما اعتمر فى رجب قط) . وأما أنس فإنه لم يضبط المسألة ضبطًا جيدًا، وقد أنكر ذلك عليه ابن عمر حين ذكر له أن أنسًا حدث (أن النبى عليه السلام أهل بعمرة وحج، فقال ابن عمر: أهل النبى عليه السلام وأهللنا به) ذكره البخارى فى المغازى، ففى رد ابن عمر على أنس أن النبى عليه السلام اعتمر مع حجته، رد من ابن عمر على نفسه أيضًا، وقد جاء عن أنس نفسه خلاف قوله، وهو حديث مروان الأصفر عنه أن النبى عليه السلام قال لعلى: (لولا أن معى الهدى لأحللت) ذكره فى باب: من أهل فى زمن النبى عليه السلام كإهلال النبى (صلى الله عليه وسلم) . فامتناعه عليه السلام من الإحلال لأجل الهدى يدل أنه كان مفردًا للحج؛ لأنه اعتذر عن الفسخ فيه بالهدى، ولو كان قارنًا ما جاز أن يعتذر لاستحالة الفسخ على القارن، فكيف يجوز أن ينسب إليه عليه السلام أنه اعتمر مع حجته إلا على معنى أنه أمر بذلك من لم يكن معه هدى؟ هذا ما لا ريب فيه ولا شك، وروى عبد الرزاق، عن عمر ابن ذر، عن مجاهد، أنه قال: (اعتمر النبى عليه السلام ثلاثًا، كلهن فى ذى القعدة) وعن معمر، عن هشام بن عروة قال: (اعتمر النبى (صلى الله عليه وسلم) ثلاثًا) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 437 0 - باب عُمْرَةٍ فِى رَمَضَانَ / 206 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّينَ مَعَنَا) ؟ قَالَتْ: كَانَ لَنَا نَاضِحٌ فَرَكِبَهُ أَبُو فُلانٍ وَابْنُهُ، لِزَوْجِهَا وَابْنِهَا، وَتَرَكَ نَاضِحًا نَنْضَحُ عَلَيْهِ، قَالَ: (فَإِذَا كَانَ رَمَضَانُ اعْتَمِرِى فِيهِ، فَإِنَّ عُمْرَةً فِى رَمَضَانَ حَجَّةٌ) . قوله: (فإن عمرة فيه كحجة) يدل أن الحج الذى ندبها إليه كان تطوعًا؛ لإجماع الأمة أن العمرة لا تجزئ من حجة الفريضة، فأمرها بذلك على الندب لا على الإيجاب. وقوله: (كحجة) يريد فى الثواب، والفضائلُ لا تدرك بقياس، والله يؤتى فضله من يشاء. والناضح: البعير أو الثور أو الحمار يربط به الرشاء يجره فيخرج الغرب، ويقال لها أيضًا: السانية. 1 - باب عُمْرَةِ التَّنْعِيمِ / 207 - فيه: عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ أَبِى بَكْرٍ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أَمَرَهُ أَنْ يُرْدِفَ عَائِشَةَ، وَيُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ. / 208 - وفيه: جَابِر، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أَمَرَ عَبْدَالرَّحْمَنِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ فِى ذِى الْحَجَّةِ، وَأَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ لَقِىَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، وَهُوَ بِالْعَقَبَةِ، فَقَالَ: أَلَكُمْ هَذِهِ خَاصَّةً يَا رَسُولَ اللَّه؟ ِ قَالَ: (لا، بَلْ لِلأبَدِ) . فقه هذا الباب: أن المعتمر المكى لابد له من الخروج إلى الحِلِّ ثم يحرم منه؛ لأن التنعيم أقرب الحِلِّ، وشأن العمرة عند الجميع أن يجمع فيها بين حل وحرم، المكى وغيره، والعمرة زيارة، وإنما يزار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 438 الحرم من خارجه كما يزار المزور فى بيته من غير [. . . . . .] وتلك سنة الله فى عباده المعتمرين، وما بعد من الحل كان أفضل، ويجزئ أقل الحل وهو التنعيم. وقال الطحاوى: ذهب قوم إلى أن العمرة لمن كان بمكة لا وقت لها غير التنعيم، وجعلوا التنعيم خاصة وقتًا لعمرة أهل مكة، وقالوا: لاينبغى لهم أن يجاوزوه، كما لا ينبغى لغيرهم أن يجاوز ميقاتًا وقته لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وخالفهم فى ذلك آخرون، وقالوا: وقت أهل مكة الذى يحرمون منه بالعمرة: الحِلُّ، فمن أَىِّ الحِلِّ أحرموا أجزأهم ذلك، والتنعيم وغيره عندهم فى ذلك سواء، واحتجوا بأنه قد يجوز أن يكون النبى عليه السلام قصد إلى التنعيم فى ذلك؛ لأنه كان أقرب الحِلِّ منها، لا لأن غيره من الحل ليس هو فى ذلك كهو، فطلبنا الدليل على أحد القولين، فإذا يزيد بن سنان حدثنا قال: حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا أبو عامر صالح بن رستم، عن ابن أبى مليكة، عن عائشة قالت: (دخل علىَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بسرف وأنا أبكى، فقال: (ما ذلك؟) قلت: حضت. قال: (فلا تبكى، اصنعى ما يصنع الحاج) . فقدما مكة ثم أتينا منى، ثم غدونا إلى عرفة، ثم رمينا الجمرة تلك الأيام، فلما كان يوم النفر ارتحل فنزل الحصبة، قالت: والله ما نزلها إلا من أجلى، فأمر عبد الرحمن فقال: (احمل أختك، فأخرجها من الحرم) قالت: والله ما ذكر الجعرانة ولا التنعيم فلتهل بعمرة، فكان أدنانا من الحرم التنعيم، فأهللت بعمرة، فطفنا بالبيت وسعينا بين الصفا والمروة، ثم أتينا فارتحل) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 439 فأخبرت عائشة أن النبى عليه السلام لم يقصد لِما أراد أن يعمرها إلا إلى الحل، لا إلى موضع بعينه خاص، وأنه إنما قصد التنعيم؛ لأنه كان أقرب الحل إليهم، لا لمعنى آخر؛ فثبت أن وقت أهل مكة لِعُمَرِهم هو الحل، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه. وقال الطحاوى: سؤال سراقة للنبى عليه السلام يحتمل أن يكون أراد عمرتنا هذه فى أشهر الحج لعامنا هذا، ولا يفعل ذلك فيما بعد؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون العمرة فيما مضى فى أشهر الحج، ويعدُّون ذلك من أفجر الفجور، أو للأبد، فقال رسول الله: (هى للأبد) أى: لكم أن تفعلوا ذلك أبدًا، وليس على أن لهم أن يحلوا من الحج قبل عرفة بطوافهم بالبيت وسعيهم بين الصفا والمروة، لِما تقدم منه أن الفسخ كان لهم خاصة، هكذا رواه جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: (عمرتنا لعامنا هذا أو للأبد؟) وتابعه خصيف والأوزاعى جميعًا عن عطاء، عن جابر (أن سراقة قال للنبى عليه السلام: لكم هذه خاصة يا رسول الله؟ قال: لا، بل للأبد) . والمعنى فيهما واحد على ما فَسَّره الطحاوى. 2 - باب العمرة ليلة الحصبة وغيرها / 209 - فيه: عَائِشَةُ، خَرَجْنَا مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) مُوَافِينَ لِهِلالِ ذِى الْحَجَّةِ، فَقَالَ لنا: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيُهِلَّ) ، وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ. . . إلى قولها: فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ، أَرْسَلَ مَعِى عَبْدَالرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَرْدَفَهَا، فأهللت بِعُمرَة مَكَانَ عُمْرَتى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 440 فقه هذا الباب: أن الحاج يجوز له أن يعتمر إذا تم حجه بعد انقضاء أيام التشريق، وليلة الحصبة: هى ليلة النفر الأخير؛ لأنها آخر أيام الرمى. وقد اختلف السلف فى العمرة بعد أيام الحج، فذكر عبد الرزاق بإسناده عن مجاهد قال: سئل عمر وعلى وعائشة عن العمرة ليلة الحصبة، فقال عمر: هى خير من لا شئ. وقال على: هى خير من مثقال ذرة. وقالت عائشة: العمرة على قدر النفقة. وعن عائشة أيضًا قالت: لأن أصوم ثلاثة أيام أو أتصدق على عشرة مساكين أحب إلى من أن أعتمر العمرة التى اعتمرت من التنعيم. وقال طاوس فيمن اعتمر بعد الحج: لا أدرى أتعذبون عليها أم تؤجرون. وقال عطاء بن السائب: اعتمرنا بعد الحج، فعاب ذلك علينا سعيد بن جبير. وأجاز ذلك آخرون. روى ابن عيينة، عن الوليد بن هشام قال: سألت أم الدرداء عن العمرة بعد الحج، فأمرتنى بها. وسُئل عطاء عن عُمرة التنعيم، قال: هى تامة وتجزئه. وقال القاسم بن محمد: عمرة المحرم تامة. وقد روى عن عائشة مثل هذا المعنى، قالت: تمت العمرة السنة كلها إلا يوم عرفة، ويوم النحر، ويومين من أيام التشريق. وقال أبو حنيفة: العمرة جائزة السنة كلها إلا يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق للحاج وغيره. ومن حديث عائشة فى هذا الباب استحب مالك ألا يعتمر حتى تغيب الشمس من آخر أيام التشريق؛ لأن النبى عليه السلام قد كان وَعَد عائشة بالعمرة وقال لها: (كونى فى حجك عسى الله أن يرزقكيهما) ولو استحب لها العمرة فى أيام التشريق لأمرها بالعمرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 441 فيها، وبه قال الشافعى، وإنما كرهت العمرة فيها للحاج خاصة؛ لئلا يُدخل عملا على عمل؛ لأنه لم يكمل عمل الحج بعد، ومن أحرم بالحج فلا يحرم بالعمرة؛ لأنه لا تضاف العمرة إلى الحج عند مالك وطائفة من العلماء، وأما من ليس بحاج فلا يمنع من ذلك، فإن قيل: فقد روى أبو معاوية، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة فى هذا الباب: (وكنت ممن أهل بعمرة) وروى مثله يحيى القطان عن هشام فى الباب بعد هذا، وهذا خلاف ما تقدم عن عائشة أنها أهلت بالحج. فالجواب: أنا قد قدمنا أن أحاديث عائشة فى الحج أشكلت على الأئمة قديمًا، فمنهم من جعل الاضطراب فيها جاء من قبلها، ومنهم من جعله جاء من قبل الرواة عنها، وقد روى عروة والقاسم والأسود وعمرة عن عائشة، أنها كانت مفردة للحج على ما بيناه فى باب: التمتع والقران والإفراد فى أول كتاب الحج، فالحكم لأربعة من ثقات أصحاب عائشة، فالصواب أن حمل ذلك على التضاد أولى من الحكم لرجلين من متأخرى رواة حديثها. وقد يحتمل قولها: (وكنت ممن أهل بعمرة) تأويلا ينتفى به التضاد عن الآثار، وذلك أن عَمْرَة روت عن عائشة أنها قالت: (خرجنا لخمس بقين من ذى القعدة مهلين بالحج، فلما دنونا من مكة. .) وقالت مرة: فنزلنا بسرف، قال النبى عليه السلام لأصحابه: (من لم يكن معه هدى فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل) . فأهلت عائشة حينئذ بعمرة، فحاضت قبل أن تطوف بالبيت طواف العمرة، فقالت للنبى عليه السلام: منعت العمرة، فأمرها عليه السلام برفض ذكر العمرة بأن تبقى على إحرامها بالحج الذى كانت أهلت به أولا، فمن روى عنها: (وكنت ممن أهل بعمرة حين دنوا من مكة) ممن رتب الحاديث على موطنها ومواضع ابتداء الإحرام؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 442 بان له أن ما اختلف من ظاهر الآثار غير مخالف فى المعنى، وزال الإشكال عنها، والحمد لله. هذا معنى قول المهلب. وقولها: (مكان عمرتى) تريد عمرتى التى أحرمت بها من سرف، ثم مُنعتها من أجل الحيض. 3 - باب الاعْتِمَارِ بَعْدَ الْحَجِّ بِغَيْرِ هَدْيٍ / 210 - فيه: عَائِشَةُ، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ الرسولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُوَافِينَ لِهِلالِ ذِى الْحَجَّةِ، فَقَالَ، عليه السَّلام: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيُهِلَّ، وَلَوْلا أَنِّى أَهْدَيْتُ لأهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ) ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ، وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، فَحِضْتُ قَبْلَ أَنْ أَدْخُلَ مَكَّةَ، فَأَدْرَكَنِى يَوْمُ عَرَفَةَ، وَأَنَا حَائِضٌ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (دَعِى عُمْرَتَكِ، وَانْقُضِى رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِى، وَأَهِلِّى بِالْحَجِّ) ، فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ، أَرْسَلَ مَعِى عَبْدَالرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَرْدَفَهَا، فَأَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِهَا فَقَضَى اللَّهُ حَجَّهَا وَعُمْرَتَهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدْىٌ وَلا صَدَقَةٌ وَلا صَوْمٌ. قال المهلب: قولها: (خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) موافين لهلال ذى الحجة) إنما هو بمعنى المقاربة؛ لأنه قد صح عنها أنها قالت: (خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لخمس بقين من ذى القعدة) والخمس قريب من آخر الشهر، فوافاهم الهلال فى الطريق، وقولها: (فأدركنى يوم عرفة وأنا حائض) وقالت فى رواية القاسم: (وطهرت حين قدمنا منى، صبيحة ليلة عرفة يوم النحر بمنى) وقولها: (لم يكن فى شىء من ذلك هدى) لأن عمرتها بعد انقضاء عمل الحج. ولا خلاف بين العلماء أن من اعتمر بعد انقضاء عمل الحج وخروج أيام التشريق أنه لا هدى عليه فى عمرته؛ لأنه ليس بمتمتع، وإنما المتمتع من اعتمر فى أشهر الحج وطاف لعمرته قبل الوقوف بعرفة، وأما من اعتمر بعد يوم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 443 النحر فقد وقعت عمرته فى غير أشهر الحج، فلذلك ارتفع حكم الهدى عنها، والصحيح من قول مالك أن أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذى الحجة. ولم يكن عليها أيضًا فى حجتها هدى؛ لأنها كانت مفردة على ما روى عنها القاسم والأسود وعمرة، ولم يأخذ مالك بقولها فى آخر الحديث: (ولم يكن فى شىء من ذلك هدى) لأنها كانت عنده فى حكم القارنة، ولزمها لذلك هدى القران، ولا أخذ بذلك أبو حنيفة أيضًا؛ لأنها كانت عنده رافضة لعمرتها، والرافضة عنده عليها دم للرفض، وعليها عمرة. وقوله: (فقضى الله حجها وعمرتها، ولم يكن فى ذلك هدى ولا صوم ولا صدقة) ليس من لفظ عائشة، وإنما هو لفظ هشام بن عروة، لم يذكر ذلك أحد غيره، ولا تقول به الفقهاء، وقد تقدم مذاهب الفقهاء فى قوله: (انقُضى رأسك وامتشطى) فى باب كيف تهل الحائض والنفساء. فأغنى عن إعادته. 4 - باب الْمُعْتَمِرِ إِذَا طَافَ طَوَافَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ خَرَجَ هَلْ يُجْزِئُهُ مِنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ / 211 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجْنَا مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ فِى أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَحُرُمِ. . . إلى قوله: حَتَّى نَفَرْنَا مِنْ مِنًى وَنَزَلْنَا الْمُحَصَّبَ، فَدَعَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، فَقَالَ: (اخْرُجْ بِأُخْتِكَ الْحَرَمَ، فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ افْرُغَا مِنْ طَوَافِكُمَا، أَنْتَظِرْكُمَا هَاهُنَا) ، فَأَتَيْنَا فِى جَوْفِ اللَّيْلِ، فَقَالَ: (فَرَغْتُمَا) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَنَادَى بِالرَّحِيلِ فِى أَصْحَابِهِ، فَارْتَحَلَ النَّاسُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 444 لا خلاف بين العلماء أن المعتمر إذا طاف وخرج إلى بلده أنه يجزئه من طواف الوداع، كما فعلت عائشة، وأما إن أقام بمكة بعد عمرته ثم بدا له أن يخرج منها، فيستحبون له طواف الوداع. 5 - باب أَجْرِ الْعُمْرَةِ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ / 212 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَصْدُرُ النَّاسُ بِنُسُكَيْنِ، وَأَصْدُرُ بِنُسُكٍ، فَقِيلَ لَهَا: (انْتَظِرِى، فَإِذَا طَهُرْتِ، فَاخْرُجِى إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهِلِّى، ثُمَّ ائْتى مَكَانِ كَذَا، وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ، أَوْ نَصَبِكِ) . أفعال البر كلها الأجر فيها على قدر المشقة والنفقة، ولهذا استحب مالك وغيره الحج راكبًا، ومصداق هذا فى كتاب الله قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [التوبة: 20] وفى هذا فَضْل الغنى وإنفاق المال فى الطاعات، ولما فى قمع النفس عن شهواتها من المشقة على النفس، وَعَدَ الله تعالى الصابرين على ذلك: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10] . 6 - باب يَفْعَلُ فِى الْعُمْرَةِ مَا يَفْعَلُ فِى الْحَجِّ / 213 - فيه: يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىَّ، عليه السَّلام، وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الْخَلُوقِ، أَوْ قَالَ: صُفْرَةٌ، فَقَالَ: كَيْفَ تَأْمُرُنِى أَنْ أَصْنَعَ فِى عُمْرَتِى؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَسُتِرَ بِثَوْبٍ، فَلَمَّا سُرِّىَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 445 عَنْهُ، قَالَ: (أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْعُمْرَةِ؟ اخْلَعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَاغْسِلْ أَثَرَ الْخَلُوقِ عَنْكَ، وَأَنْقِ الصُّفْرَةَ، وَاصْنَعْ فِى عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِى حَجِّكَ) . / 214 - وفيه: هِشَامِ، قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) [البقرة: 158] الحديث، وقَالَ هِشَامٍ: مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ امْرِئٍ وَلا عُمْرَتَهُ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. قوله عليه السلام: (اصنع فى عمرتك كما تصنع فى حجك) . هذا مما لفظه العموم والمراد به الخصوص، يدل على ذلك أن المعتمر لا يقف بعرفة، ولا يرمى جمرة العقبة، ولا يعمل شيئًا من عمل الحج غير الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة، وإنما أمره عليه السلام أن يصنع فى عمرته مثل ما يصنع فى حجه ن اجتناب لباس المخيط واستعمال الطيب، وأعلمه أن جميع ما يحرم على الحاج بالإحرام يحرم مثله على المعتمر بالإحرام، كالصيد والنساء وغير ذلك. 7 - باب مَتَى يَحِلُّ الْمُعْتَمِرُ؟ وَقَالَ عَطَاءٌ، عَنْ جَابِرٍ: أَمَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، وَيَطُوفُوا، ثُمَّ يُقَصِّرُوا، وَيَحِلُّوا. / 215 - فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، اعْتَمَرَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، وَاعْتَمَرْنَا مَعَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ، طَافَ وَطُفْنَا مَعَهُ، وَأَتَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ وَأَتَيْنَاهَا مَعَهُ، وَكُنَّا نَسْتُرُهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَرْمِيَهُ أَحَدٌ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبٌ لِى: أَكَانَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ؟ قَالَ: لا، وَقَالَ: (بَشِّرُوا خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ مِنَ الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لا صَخَبَ فِيهِ وَلا نَصَبَ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 446 / 216 - وفيه: ابْن عُمَرَ، سُئل عن رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ فِى عُمْرته، وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَيَأْتِى امْرَأَتَهُ؟ فَقَالَ: قَدِمَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا، وَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وقَالَ جَابِر: لا يَقْرَبَنَّهَا حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. / 217 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَهُوَ مُنِيخٌ، بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ: (أَحَجَجْتَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ؟ قَالَ: (بِمَا أَهْلَلْتَ) ؟ قُلْتُ: لَبَّيْكَ بِإِهْلالٍ كَإِهْلالِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (أَحْسَنْتَ، طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَحِلَّ) ، فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَيْسٍ، فَفَلَتْ رَأْسِى، ثُمَّ أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ، فَكُنْتُ أُفْتِى بِهِ حَتَّى كَانَ فِى خِلافَةِ عُمَرَ، فَقَالَ: إِنْ أَخَذْنَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ، وَإِنْ أَخَذْنَا بِقَوْلِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ. / 218 - فيه: أَسْمَاءَ قَالَتْ كُلَّمَا مَرَّتْ بِالحَجُونِ: (صلى الله عليه وسلم) لَقَدْ نَزَلْنَا مَعَهُ هَاهُنَا، وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ خِفَافٌ، قَلِيلٌ ظَهْرُنَا، قَلِيلَةٌ أَزْوَادُنَا، فَاعْتَمَرْتُ أَنَا وَأُخْتِى عَائِشَةُ وَالزُّبَيْرُ وَفُلانٌ وَفُلانٌ، فَلَمَّا مَسَحْنَا الْبَيْتَ أَحْلَلْنَا، ثُمَّ أَهْلَلْنَا مِنَ الْعَشِىِّ بِالْحَجِّ. اتفق أئمة الفتوى على أن المعتمر يحل من عمرته إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وإن لم يكن حلق ولا قصر، على ما جاء فى هذا الحديث، ولا أعلم فى ذلك خلافًا، إلا شذوذًا روى عن ابن عباس أنه قال: العمرة الطواف. وتبعه عليه إسحاق بن راهويه، والحجة فى السنة لا فى خلافها. واحتج الطبرى بحديث أبى موسى على من زعم أن المعتمر إذا كمل عمرته ثم جامع قبل أن يحلق أنه مفسد لعمرته، قال: ألا ترى قوله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 447 عليه السلام لأبى موسى: (طف بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصر من شعرك واحلق ثم أحل) فبين بذلك أن التقصير والحلق ليسا من النسك، وإنما هما من معانى الإحلال، كما لبس الثياب والطيب بعد طواف المعتمر بالبيت وسعيه بين الصفا والمروة من معانى إحلاله، وكذلك إحلال الحاج من إحرامه بعد رميه جمرة العقبة، لا من نسكه، فبيّن فساد قول من زعم أن من جامع من المعتمرين قبل التقصير من شعره أو الحلق، ومن بعد طوافه بالبيت وبين الصفا والمروة أنه مفسد عمرته، وهو قول الشافعى، قال ابن المنذر: ولا أحفظ ذلك عن غيره. وقال مالك والثورى والكوفيون: عليه الهدى. وقال عطاء: يستغفر الله ولا شىء عليه. قال الطبرى: وفى حديث أبى موسى بيان فساد قول من قال: إن المعتمر إن خرج من الحرم قبل أن يقصر من شعره أو يحلق أن عليه دمًا، وإن كان قد طاف بالبيت وبين الصفا والمروة قبل خروجه منه، وفيه أيضًا أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما أذن لأبى موسى بالإحلال من عمرته بعد الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة، فبان بذلك أن من حل منهما قبل ذلك فقد أخطأ وخالف سنته عليه السلام، واتضح به فساد قول من زعم أن المعتمر إذا دخل الحرم فقد حل من إحرامه، وله أن يلبس ويتطيب ويعمل ما يعمل الحلال، وهو قول ابن عمر وابن المسيب وعروة والحسن، وصح أنه مَنْ حل مِنْ شىء كان عليه حرامًا قبل ذلك فعليه الجزاء والفدية. واختلف العلماء إذا وطئ المعتمر قبل طوافه بالبيت وقبل أن يسعى بين الصفا والمروة، فقال مالك والشافعى وأحمد وأبو ثور: عليه الهدى وعمرة أخرى مكانها، ويتم التى أفسد. ووافقهم أبو حنيفة إذا جامع بعد طواف ثلاثة أشواط، وقال: إذا جامع بعد أربعة أشواط بالبيت أنه يقضى ما بقى من عمرته، وعليه دم، ولا شىء عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 448 وهذا تحكم لا دليل عليه إلا الدعوى، وحجة مالك ومن وافقه حديث ابن أبى أوفى أن النبى عليه السلام اعتمر مع أصحابه ولم يحلوا حتى طافوا وسعوا بين الصفا والمروة، ولذلك أمر النبى عليه السلام أيضًا أبا موسى الشعرى قال له: (طف بالبيت وبين الصفا والمروة وأحل) فوجب الاقتداء بسنته واتباع أمره، وقال: (خذوا عنى مناسككم) . وقد فهم الصحابة الذين تلقوا عنه السنة قولا وعملا هذا المعنى، فقال جابر وابن عمر: لا يقرب امرأته حتى يطوف بين الصفا والمروة. واحتج ابن عمر فى ذلك بفعل النبى عليه السلام وإن كان عليه السلام غير معتمر، فمعنى ذلك أنه لم يُدخل بين الصواف والسعى عملا، ولا أباحه للمعتمرين الذين أمرهم بالإحلال حتى وصلوا سعيهم بطوافهم، وكذلك حلوا بمسيس الناسء والطيب وغير ذلك والله الموفق. قال المهلب: قولها: (فاعتمرت أنا واختى عائشة) . بالإحرام بعمرة حين أمرهم عليه السلام أن يجعلوا إحرامهم بالحج عمرة، فثبتت أسماء على عمرتها، وحاضت عائشة فلم تطف بالبيت، وأمرها النبى عليه السلام أن ترفض ذكر العمرة، وأن تكون على ما كانت أبدأت الإحرام به من ذى الحليفة من الحج، وتركت العمرة التى كانت أحلت بها من سرف، فأخبرت أسماء عن نفسها وعن الزبير وفلان وفلان الذين أحلوا بمسح البيت بعمرة، ولم يدل ذلك أن عائشة مسحت البيت معهم؛ لثبوت أنها حاضت فمنعت العمرة، وقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) لها: (كونى على حجك عسى الله أن يرزقكيها غير ألا تطوفى بالبيت) ومثله قول ابن عباس فى حرمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 449 الفسخ: طفنا بالبيت وأتينا النساء. لأنه كان فى حجة الوداع صغيرًا قد ناهز الحلم، وقد قال: توفى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنا ابن عشر سنين. فكان فى حجة الوداع ابن ثمان أو نحوها ممن لا يأتى النساء، وكذلك قالت عائشة فى حديث الأسود: فلما قدمنا تطوفنا بالبيت. وهى لم تطف بالبيت حتى طهرت ورجعت من عرفة؛ لأنها قالت فيه: ونساؤه لم يسقن الهدى فأحللن، فحضت فلم أطف بالبيت. بعد أن قالت: تطوفنا. وعلى هذا التأويل يخرج قول من قال: (تمتع رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) وتمتعنا معه) يعنى: تمتع بأن أمر بذلك والله أعلم وقد تقدم معنى قولها: (فما مسحنا البيت أحللنا) يريد بعد السعى بين الصفا والمروة، وعلى ذلك تأوله الفقهاء. 8 - باب مَا يَقُولُ إِذَا رَجَعَ مِنَ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوِ الْغَزْوِ / 219 - فيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، إِذَا قَفَلَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمرةٍ أَوْ غزْوِ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الأرْضِ ثَلاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ، عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ) . فيه من الفقه: استعمال حمد الله تعالى والإقرار بنعمته، والخضوع له، والثناء عليه عند القدوم من الحج والجهاد على ما وهب من تمام المناسك، وما رزق من النصرة على العدو، والرجوع إلى الوطن سالمين، وكذلك يجب إحداث الحمد لله والشكر له على ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 450 يحدث على عباده من نعمه، فقد رضى من عباده بالإقرار له بالوحدانية، والخضوع له بالربوبية، والحمد والشكر عوضًا مما وهبهم من نعمه تفضلا عليهم ورحمة لهم. وفى هذا الحديث بيان أن نهيه عليه السلام عن السجع فى الدعاء أنه على غير التحريم؛ لوجود السجع فى دعائه ودعاء أصحابه، فيحمل أن يكون نهيه عن السجع يتوجه إلى حسن الدعاء خاصة، خشية أن يشتغل الداعى بطلب الألفاظ وتعديل الأقسام عن إخلاص النية وإفراغ القلب فى الدعاء والاجتهاد فيه، وسأزيد فى بيان هذا المعنى فى باب: ما يكره من السجع فى الدعاء. فى كتاب الدعاء إن شاء الله. 9 - باب اسْتِقْبَالِ الْحَاجِّ الْقَادِمِينَ وَالثَّلاثَةِ عَلَى الدَّابَّةِ / 220 - فيه: ابْن عَبَّاس، لَمَّا قَدِمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، مَكَّةَ اسْتَقْبَلَتْهُ أُغَيْلِمَةُ بَنِى عَبْدِالْمُطَّلِبِ، فَحَمَلَ وَاحِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَآخَرَ خَلْفَهُ. فيه من الفقه: جواز تلقى القادمين منالحج تكرمة لهم وتعظيمًا؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم ينكر تلقيهم له، بل سُرَّ به لحمله لهم بين يديه وخلفه، ويدخل فى معنى ذلك من قدم منالجهاد أو من سفر فيه طاعة لله، فلا بأس بالخروج إليه وتلقيه، تأنسًا له وصلةً. قال المهلب: وفيه رد قول من يقول: لا يجوز ركوب ثلاثة على دابة، وإنما أصل هذا ألا يكلف الدابة حمل ما لا تطيق، أو ما تطيقه بمشقة ظاهرة، فإذا أطاقت حمل ثلاثة وأربعة جاز ركوبها. وسيأتى اختلاف العلماء فى ركوب الثلاثة على الدابة فى آخر كتاب الزينة، فإنه ترجم لهذا الحديث باب: الثلاثة على الدابة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 451 0 - باب الْقُدُومِ بِالْغَدَاةِ / 221 - فيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُصَلِّى فِى مَسْجِدِ الشَّجَرَةِ، وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِى الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِى، وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ. إنما اختار عليه السلام القدوم بالغداة والله أعلم ليتقدم خبره إلى أهله، ويتأهبوا للقائه، فيقدم على ذلك، والله أعلم. 1 - باب الدُّخُولِ بِالْعَشِيِّ الدخول بالعشى مباح، وإنما الذى نهى عنه عليه السلام عن أن يطرق القادمُ أهلَهُ. 2 - باب لا يَطْرُقُ أَهْلَهُ إِذَا بَلَغَ الْمَدِينَةَ / 222 - فيه: جَابِرٍ، قَالَ: نَهَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَطْرُقَ أَهْلَهُ لَيْلا. قد جاء فى الحديث بيان المعنى الذى من أجله نهى الرسول عن هذا، وهى تممتشط الشعثة، وتستحد المغيبة، كراهية أن يهجم منها على ما يقبح عنده اطلاعه عليه، فيكون سببًا إلى شنآنها وبغضها، فنبههم عليه السلام على ما تدوم به الألفة بينهم، ويتأكد به المحبة، فينبغىلمن أراد الأخذ بأدب نبيه أن يتجنب مباشرة أهله فى حال البذاذة وغير النظافة، وألا يتعرض لرؤية عورة يكرها منها، ألا ترى أن الله تعالى أمر من لا يبلغ الحلم بالاستئذان قبل صلاة الفجر ووقت الظهيرة وبعد العشاء؛ لما كانت هذه أوقات التجرد والخلوة، خشية الاطلاع على العورات وما يكره النظر إليه، وروى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 452 عن ابن عباس أنه قال: آية لم يؤمن بها أكثر الناس؛ آية الإذن، وإنى لآمر جاريتى هذه أن تستأذن على. 3 - باب مَنْ أَسْرَعَ نَاقَتَهُ إِذَا بَلَغَ الْمَدِينَةَ / 223 - فيه: أَنَس، كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ، وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا. وقَالَ إِسْمَاعِيلُ، عَنْ حُمَيْدٍ، (جُدُرَاتِ) . قوله: (من حبها) يعنى لأنها وطنه، وفيها أهله وولده الذين هم أحب الناس إليه، وقد جبل الله النفوس على حب الأوطان والحنين إليها، وفعل ذلك عليه السلام، وفيه أكرم الأسوة، وأمر أمته سرعة الرجوع إلى أهلهم عند انقضاء أسفارهم. 4 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) [البقرة: 189] / 224 - فيه: الْبَرَاءَ، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا، كَانَتِ الأنْصَارُ إِذَا حَجُّوا فَجَاءُوا لَمْ يَدْخُلُوا مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ وَلَكِنْ مِنْ ظُهُورِهَا، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَدَخَلَ مِنْ قِبَلِ بَابِهِ، فَكَأَنَّهُ عُيِّرَ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) [البقرة: 189] . وقال مجاهد فى هذه الآية: كان المشركون إذا أحرم الرجل منهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 453 ثقب كوة فى ظهر بيته وجعل سلمًا، فجعل يدخل منها. وقال معمر عن الزهرى: كان الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شىء يتحرجون من ذلك، وكان الرجل حين يخرج مهلا بالعمرة، فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع، لا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف الباب أن يحول بينه وبين السماء، فيقتحم الجدار من ورائه، حتى بلغنا أن النبى عليه السلام أهل من الحديبة بالعمرة فدخل حجرته، فدخل رجل من الحمس من ورائه، فقال له الأنصار، فقال: أنا أحمسى. فقال: وأنا على دينك؛ لأن الحمس كانت لا تبالى ذلك؛ فأنزل الله: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) [البقرة: 189] . 5 - باب السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ / 225 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ، عليه السَّلام: (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ، فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ) . فيه: حض وندب على سرعة رجوع المسافر إلى أهله عند انقضاء حاجته، وقد بين عليه السلام المعنى فى ذلك بقوله: (يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه) فامتناع هذه الثلاثة التى هى أركان الحياة مع ما ينضاف إليها من شقة السفر وتعبه، هو العذاب إلى أشار إليه، ولذلك قال عليه السلام: (فإذا قضى أحدكم نهمته فليرجع إلى أهله) لكى يتعوض من ألم ما ناله، من ذلك الراحة والدعة فى أهله، والعرب تشبه الرجل فى أهله بالأمير، وقيل فى قوله: (وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا) [المائدة: 20] قال: من كان له دار وخادم فهو داخل فى معنى الآية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 454 وقد أخبر الله تعالى بلطف محل الأزواج من أزواجهن بقوله: (وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم: 21] فقيل: المودة: الجماع، والرحمة: الولد. فإن قيل: فقد روى ابن عمر وابن عباس، عن النبى عليه السلام أنه قال: (سافروا تصِحُوا وتغنموا) وهو مخالف لحديث أبى هريرة. قيل: لا خلاف بين شىء من ذلك، وليس كون السفر قطعة من العذاب بمانع أن يكون فيه منفعة ومصحة لكثير من الناس؛ لأن فى الحركة والرياضة منفعة، ولا سيما لأهل الدعة والرفاهية، كالدواء المرّ المُعْقِب للصحة وإن كان فى تناوله كراهية، فلا خلاف بين الحديثين. قال أبو محمد الأصيلى: انفرد مالك بهذا الحديث عن سُمَىٍّ وقال: هؤلاء أهل العراق يسألوننى عنه. قيل له: لأنك انفردت به. قال: لو أعلم أنى انفردت به ما حدثت به. 6 - باب الْمُسَافِرِ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ يُعَجِّلُ إِلَى أَهْلِهِ / 226 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِى عُبَيْدٍ شِدَّةُ وَجَعٍ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى كَانَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّفَقِ، نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعَتَمَةَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: إِنِّى رَأَيْتُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا. فيه: جواز الإسراع على الدواب عند الحاجة تَعْرِضُ، ولا سيما عند خبرٍ مقلق يبلغه عن أهله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 455 7 - باب المحصر وجزاء الصيد وَقَوْلِهِ: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ) [البقرة: 196] وَقَالَ عَطَاءٌ: الإحْصَارُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَحْبِسُهُ . الإحصار: ينقسم قسمين: فإحصار بعدو، وإحصار بمرض، وأصل الإحصار فى اللغة: المنع والحبس، واختلف فى ذلك أهل اللغة، فقال بعضهم: يقال من العدو: حُصِرَ، فهو محصور، ويقال من المرض: أُحصِر، فهو محصر هذا قول الكسائى وأبى عبيد، ذكره ابن القصار. وقال بعضهم: يقال: أحصر من المرض ومن العَدوّ ومن كل شىء حبس الحاج، كما قال عطاء، وهو قول النخعى والثورى والكوفيين، وهو قول الفراء وأبى عمرو، والحجة لذلك قول الله تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) [البقرة: 196] وإنما نزلت هذه الآية بالحديبية، وكان حبسهم يومئذٍ بالعدو، قال أبو عمرو: يقالُ: حَصرنى الشىء وأحصرنى: حبسنى. وحكم الإحصار بعدو مخالف لحكم الإحصار بمرض عند جمهور العلماء على ما يأتى بيانه بعد هذا إن شاء الله. 8 - باب إِذَا أُحْصِرَ الْمُعْتَمِرُ / 227 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنَّهُ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِى الْفِتْنَةِ، فَقَالَ: إِنْ صُدِدْتُ عَنِ الْبَيْتِ صَنَعْتُ كَمَا صَنَعْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ. / 228 - وقال أيضًا: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 456 دُونَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، هَدْيَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَأُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ أَوْجَبْتُ الْعُمْرَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنْطَلِقُ فَإِنْ خُلِّىَ بَيْنِى وَبَيْنَ الْبَيْتِ طُفْتُ، وَإِنْ حِيلَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ فَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنَا مَعَهُ، فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّمَا شَأْنُهُمَا وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ أَوْجَبْتُ حَجَّةً مَعَ عُمْرَتِى) ، فَلَمْ يَحِلَّ مِنْهُمَا حَتَّى حَلَّ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَهْدَى، وَكَانَ يَقُولُ لا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافًا وَاحِدًا يَوْمَ يَدْخُلُ مَكَّةَ. / 229 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَدْ أُحْصِرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَحَلَقَ وحل مع نِسَاءَهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ، حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلا عوضه. فى هذه الترجمة: رَدُّ قول من يقول أن من أحصر فى العمرة بعدوٍّ أنه لابد له من الوصال إلى البيت والاعتمار؛ لأن السَّنَةَ كُلَّها وقت للعمرة بخلاف الحج، ولا إحصار فى العمرة، ويقيم على إحرامه أبدًا، وهو قول لبعض السلف، وهو مخالف لفعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه كان مُعْتمرًا بالحديبية وهو وجميع أصحابه حَلُّوا دون البيت، والفقهاء على خلافه، حكم الإحصار فى الحج والعمرة عندهم سواء. واختلف فيمن أحصر بعدو، فقال مالك والشافعى: لا حصر إلا حصر العدو. وهو قول ابن عباس وابن عمر، ومعنى ذلك أنه لا يحل للمحصر أن يحل دون البيت إلا من حَصَره العدو، كما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وكان حصره بالعدو، واحتج الشافعى فقال: على الناس إتمام الحج والعمرة، ورخص الله فى الإحلال للمحصر بعدو، فقلنا فى كُلٍّ بأَمْر الله، ولم نَعْدُ بالرخصة موضعها، كما لم نَعْدُ بالرخصة المسح على الخفين، ولم نجعل عمامة ولا قفازين قياسًا على الخفين. وخالف الشافعى مالكًا فأوجب عليه الهدى، ينحره فى المكان الذى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 457 حُصر فيه وقد حَلَّ، كما فعل النبى عليه السلام بالحديبية، وهو قول أشهب، وقال أبو حنيفة: الهدى واجب عليه أن ينحره فى الحرم وقد حَلَّ. واحتجوا بإيجاب الهدى عليه بقوله تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ) [البقرة: 196] الآية فأجابهم الكوفيون أن هذا إحصار مرض، ولو كان إحصار عدو لم يكن فى نحر أهل الحديبية حجة؛ لأن ما كان معهم من الهدى لم يكونوا ساقوه لما عرض لهم من حصر العدو؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يعلم حين قلده أنه يُصَد، وإنما ساقه تطوعًا، فلما صُد أخبر الله تعالى عن صدهم وحبسهم الهدى عن بلوغ محله، وكيف يجوز أن ينوب هدى قد ساقه عليه السلام قبل أن يُصَدَّ عن دم وجب بالصَّدِّ، ولم يأمرهم عليه السلام بدمٍ لحصرهم، قاله جابر بن عبد الله، ولو وجب عليهم الهدى لأمرهم به كما أمرهم بالحلق الذى وجب عليهم، فكيف يُنقل الحلق ولا يُنقل إيجاب الهدى، وهو يحتاج إلى بيان من معه هدى ما حكمه؟ ومن لا هدى معه ما حكمه؟ وأما قول أبى حنيفة: ينحره فى الحرم، فقوله تعالى: (وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح: 25] يدل أن التقصير عن بلوغ المحل سواء كان ذلك فى الحل أو الحرم اسم التقصير واقع عليه إذا لم يبلغ مكة؛ لقوله تعالى: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] وقول ابن عمر: (إنما شأنهما واحد) يعنى: الحج والعمرة فى اجتناب ما يجتنبه المحرم بالحج وفى العمل لهما؛ لأن طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا يجزئ القارن عنده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 458 واختلفوا فيمن أحصر بمرض، فقال مالك: لا يجوز لمن أحصر بمرض أن يحل دون البيت بالطواف والسعى الذى هو عمل العمرة، ثم عليه حج قابل والهدى. وهو قول الشافعى وأحمد وإسحاق، وروى عن ابن عمر وابن عباس. وقال أبو حنيفة: المحصر بالمرض الذى حيل بينه وبين البيت، وحكمه حكم المحصر بالعدو، فعليه أن يبعث بهديه إلى الحرم، فإذا عَلم أنه قد نُحر عنه حَلَّ فى مكانه من غير عمل عمرة، وإنما لم يَرَ عليه عمرة؛ لأنه محرم، والعمرة تحتاج إلى إحرام مستأنف، ولا يدخل إحرام على إحرام. وهو قول النخعى وعطاء والثورى. واحتجوا بحديث الحجاج بن أبى عثمان الصواف، عن يحيى بن أبى كثير قال: حدثنا عكرمة قال: حدثنى الحجاج بن عمرو قال: سمعت النبى عليه السلام يقول: (من كُسر أو عرج فقد حَلَّ) يحتمل أن يكون معناه: فقد حل له أن يحل إذا نحر الهدى فى الحرم، لا على أنه قد حَلَّ بذلك من إحرامه، كما يقال: حَلَّتْ فلانة للرجل، إذا خرجت من عدتها، ليس على معنى أنها قد حلت للأزواج، فيكون لهم وطؤها، ولكن على معنى أنهم قد حل لهم تزويجها، فيحل لهم حينئذٍ وطؤها. هذا سائغ فى الكلام، وهذا يوافق معنى حديث ابن عمر أن النبى عليه السلام لم يحل من عمرته بحصر العدو إياه حتى نحر الهدى، ومعنى هذا الحديث عند أهل المقالة الأولى (فقد حل) يعنى: إذا وصل البيت فطاف وسعى، حلا كاملا، وحَلَّ له بنفس الكسر والعرج أن يفعل ما شاء من إلقاء التفث ويفتدى، وليس للصحيح أن يفعل ذلك. فقال الترمذى: سألت البخارى عن هذا الحديث فقال: رواه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 459 عكرمة، عن عبد الله بن رافع، عن الحجاج بن عمرو، عن النبى عليه السلام وهو يروى عن عكرمة، عن الحجاج، قال إسماعيل بن إسحاق: وهذا إسناد صالح من أسانيد الشيوخ، ولكن أحاديث الثقات تضعفه. وذلك ما حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبى قلابة قال: خرجت معتمرًا حتى إذا كنت بالدثينة وقعت عن راحلتى فانكسرت، فأرسلت إلى ابن عباس وابن عمر فقالا: ليس لها وقت كوقت الحج، يكون عرى إحرامه حتى يصل إلى البيت. وحدثنا على، حدثنا سفيان قال عمرو: أخبرنى ابن عباس قال: لا حصر إلا حصر العدو. ورواه ابن جريح ومعمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس. قال إسماعيل: فقد بان بما رواه الثقات عن ابن عباس فى هذا الباب أنه خلاف لما رواه حجاج الصواف عن يحيى بن أبى كثير؛ لأن ابن عباس حصر الحصر بالعدو دون غيره، فبان أن مذهبه كمذهب ابن عمر. قال غيره: من الحجة لمالك فى أن المحصر بمرض لا يحله إلا البيت قوله تعالى: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح: 25] فأعلمنا تعالى أنهم حبسوا الهدى عن بلوغ محله، فينبغى أن يكون بلوغ محله شرطًا فيه مع القدرة عليه، وأما قوله: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] وقوله: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 33] . فالمخاطب بذلك: الآمن الذى يجد السبيل إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 460 الوصول إلى البيت، والمريض آمن يمكنه ذلك، وقول الكوفيين ضعيف وفيه تناقض؛ لأنهم لا يجيزون لمحصرٍ بعدوٍ ولا بمرضٍ أن يحل حتى ينحر فى الحرم، وإذا أجازوا للمحصر بمرض أن يبعث هديه، ويواعد حامله يومًا ينحره فيه فيلحق ويحل، أجازوا له الإحلال بالظنون، فالعلماء متفقون أنه لا يجوز لمن لزمه فرض أن يخرج منه بالظن، والدليل على أن ذلك ظن قولهم أنه لو عطب الهدى أو ضل أو سرق فحل مرسله، وأصاب النساء وصَادَ، أنه يعود حرامًا، وعليه جزاء ما صاد، وأباحوا له فساد الحج بالجماع، وألزموه ما يلزم من لم يحل من إحرامه، وهذا تناقض لا شك فيه. واحتج الكوفيون بحديث ابن عباس وقوله: (حتى اعتمر عامًا قابلا) فى وجوب قضاء الحج والعمرة على من أحصر فى أحدهما بعدو. وقال أهل الحجاز: معنى قوله: (حتى اعتمر عامًا قابلا) هو ما عقده معهم فى صلح الحديبية ألا يمنعوه البيت عامًا قابلا، ولا يحال بينهم وبينه، فإما أن يكون ما فعلوه من العُمَر قضاء عن عمرة الحديبية، ففيه التنازع فيحتاج إلى دليل، وسيأتى ما للعلماء فى ذلك فى باب: من قال ليس على المحصر بدل إن شاء الله. وقول ابن عباس: (قد أحصر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) حجة على من قال: لا يقال: أحصره العدو، وإنما يقال: حصره العدو، وأحصره المرض، واحتج بقول ابن عباس: لا حصر إلا حصر العدو. واحتج به ابن القصار، فيقال له: هذا ابن عباس قد قال: (أحصر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) وأجمع المسلمون أن النبى عليه السلام لم يُحصر بمرض، وإنما أحصر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 461 بعدو عام الحديبية، فثبت أنه قال: حصره العدو، وأحصره القتال، وقوله: (أشهدكم أنى قد أوجبت حجة مع عمرتى) فهو حجة لمن قال: إن الحج يرتدف على العمرة. روى معمر عن منصور، عن مالك بن الحارث قال: (لقيت عليا وقد أهللت بالحج، فقلت له: هل أستطيع أن أضيف مع حجتى عمرة؟ قال: لا، ذلك لو كنت بدأت بالعمرة ضممت إليها حجا) . وهذا قول مالك وأبى حنيفة، قالا: ويصير قارنًا. قال مالك: ولا تدخل العمرة على الحج، وهو قول أبى ثور وإسحاق، وقال الكوفيون: يجوز ذلك ويصير قارنًا. وقال الشافعى بالعراق كقول الكوفى، وقال بمصر: أكثر من لقيت يقول لى: ليس له ذلك. قال ابن المنذر: والحجة لقول مالك أن أصل الأعمال ألا يدخل عمل على عمل، ولا صلاة على صلاة، ولا صوم على صوم، ولا حج على حج، ولا عمرة على عمرة، إلا ما خصت السنة مكن إدخال الحج على العمرة، وعلى أن الذى يحرم بعمرة إذا ضم إليها حجا، فقد ضم إلى العمل الذى كان دخل فيه وألزمه نفسه أعمالا لم تكن لزمته أحرم بالعمرة، مثل: الخروج إلى منى، والوقوف بالموقفين، ورمى الجمار، والمقام بمنى، وغير ذلك من أعمال الحج، والذى يضم إلى الحج لم يضم إليها عملا؛ لأن عمل المنفرد والقارن واحد، والذى يعتمد عليه فى هذا الباب السنة وإجماع الأمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 462 9 - باب الإحْصَارِ فِى الْحَجِّ / 230 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنِ الْحَجِّ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلا، فَيُهْدِى أَوْ يَصُومُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا. واحتج ابن عمر فيمن أحصر فى الحج أنه يلزمه ما يلزم من أحصر فى العمرة، وحكم الحج والعمرة فى الإحصاء سواء، وقاس الحج على العمرة، والنبى عليه السلام لم يحصر فى حج، إنما حصر فى عمرة، هذا أصل فى إثبات القياس لاستعمال الصحابة له وقوله: (طاف بالبيت) يعنى: فيطوف بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يحل ويكون محصرًا بمكة. واختلف العلماء فيمن أحصر بمكة، فقال الشافعى وأبو ثور: حكم الغريب والمكى سواء، ويطوف ويسعى ويحل، ولا عمرة عليه على ظاهر حديث ابن عمر. وأوجبها مالك على المحصر المكى، وعلى من أنشأ الحج من مكة، وقال: لابد لهم من الخروج إلى الحل لاستئناف عمرة التحلل؛ لأن الطواف الأول لم يكن نواهُ للعمرة، لذلك يعمل بهذا. وفرق بين هؤلاء وبين الغريب يدخل من الحل محرمًا فيطوف ويسعى، ثم يحصره العدو عن الوقوف بعرفة، أنه لا يحتاج إلى الخروج إلى حل؛ لأنه منه دخل، ولم يحل من إحرامه فيتحلل بعمرة يُنْشِئُها من مكة، قال أبو حنيفة: لا يكون مُحْصَرًا من بلغ مكة؛ لأن الإحصار عنده من مُنع من الوصول إلى مكة، وحِيل بينه وبين الطواف والسعى، فيفعل ما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) من الإحلال بموضعه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 463 وأما من بلغ مكة فحكمه عنده حكم من فاته الحج، يحل بعمرة وعليه الحج من قابل، ولا هدى عليه؛ لأن الهدى لجبر ما أدخله على نفسه، ومن حُبس عن الحج فلم يدخل على نفسه نقصًا. وقال الزهرى: إذا أحصر المكى فلابد له من الوقوف بعرفة وإن تَعَسَّ بعساء، وفى حديث ابن عمر رد على ابن شهاب؛ لأن المحصر لو وقف بعرفة لم يكن محصرًا؛ ألا ترى قول ابن عمر: فطاف بالبيت وبين الصفا والمروة، ولم يذكر الوقوف بعرفة، وفيه أيضًا رَدُّ قول أبى حنيفة أن من كان بمكة لا يكون محصرًا، وقد استدل ابن عمر على أنه يكون محصرًا بقوله: (أليس حسبكم سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إن حبس أحدكم عن الحج) والحبس عن الحج هو الإحصار عند أهل اللغة، وقول ابن عمر: (ثم حل من كل شئ حتى يحج عامًا قابلا ويهدى هديًا) معناه عند الحجازيين: إن كان صُدَّ و [. . . . . .] ومعنى الهدى المصدودة إذا قضى الحج، إنما هو من أجل وقوع الحج الذى كان يقع له فى سفر واحد فى سفرين، وكذلك معنى هدى الإحصار بمرض. 0 - باب النَّحْرِ قَبْلَ الْحَلْقِ فِى الْمَحَصْرِ / 231 - فيه: الْمِسْوَر، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ. / 232 - وفيه: ابْن عُمَرَ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، مُعْتَمِرِينَ، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، بُدْنَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ. قال ابن المنذر: النحر قبل الحلق للمحصر وغيره من ظاهر كتاب الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 464 قال الله تعالى: (وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ) [البقرة: 196] إلا أن سنة المحصر أن ينحر هديه حيث أحصر، وإن كان فى الحل؛ اقتداءً بما فعل النبى عليه السلام فى الحديث، قال الله تعالى: (وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح: 25] أى: محبوسًا، ولما سقط عنه عليه السلام أن يبلغ محله سقط من هديه، وأما قوله: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] وقوله: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 33] فقد ذكرنا قبل هذا أن المخاطب به الآمن الذى يجد السبيل إلى الوصول إلى البيت والله أعلم وليس للمحصَر بعدوٍّ أن يفعل شيئًا مما يحرم على المحرمين حتى ينحر هديه، كما فعل النبى عليه السلام فإن فعل شيئًا من ذلك فعليه الفدية، استدلالا بأن النبى عليه السلام أمر كعب بن عجرة بالفدية لمَّا حلق، وهذا قول مالك والشافعى. قال الطحاوى: واختلفوا فى المحصَر إذا نحر هديه، هل يحلق رأسه أم لا؟ فقال قوم: ليس عليه أن يحلق؛ لأنه قد ذهب عنه النسك كله. هذا قول أبى حنيفة ومحمد، وقال آخرون: بل يحلق؛ فإن لم يحلق فلا شىء عليه. هذا قول أبى يوسف. وقال آخرون: يحلق ويجب عليه ما يجب على الحاج والمعتمر، وهو قول مالك، فكان من حجة أبى حنيفة فى ذلك أنه قد سقط عنه بالإحصار جميع مناسك الحج من الطواف والسعى بين الصفا والمروة، وذلك مما يحل به المحرم من إحرامه، ألا ترى أنه إذا طاف بالبيت يوم النحر حل له أن يحلق، فيحل له بذلك الطيب واللباس، فلما كان ذلك مما يفعله حين يحل فسقط ذلك عنه بالإحصار، سقط عنه سائر ما يحل به المحرم بسبب الإحصار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 465 وكان من حجة الآخرين عليهم فى ذلك أن تلك الأشياء من الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة ورمى الجمار قد صُدَّ عنه المحرم، وحيل بينه وبينه، فسقط عنه أن يفعله، والحلق لم يحل بينه وبينه، وهو قادر على فعله، فما كان يصل إلى فعله فحكمه فيه فى حال الإحصار كحكمه فيه فى غير حال الإحصار، وما لا يستطيع أن يفعله فى حال الإحصار فهو الذى يسقط عنه، وقد ثبت عنه عليه السلام أنه حلق حين صُدَّ، فى حديث ابن عمر والمسور، وليس لأحد قياس مع وجود السنة الثابتة. وقد دعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للمحلقين يوم الحديبية ثلاث مرات، ودعا للمقصرين مرة واحدة، فقيل له: (يا رسول الله، لم ظاهرت الترحم على المحلقين؟ قال: لأنهم لم يَشْكُّوا) فثبت بتفصيل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من حلق على من قصر أنه قد كان عليهم الحلق والتقصير، كما يكون عليهم لو وصلوا إلى البيت، ولولا ذلك لما كانوا فيه إلا سواء، ولا كان لبعضهم فى ذلك فضيلة على بعض، فبان أن حكم الحلق والتقصير لا يزول بالإحصار. 1 - باب مَنْ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُحْصَرِ بَدَلٌ وَقَالَ ابْن عَبَّاس: إِنَّمَا الْبَدَلُ عَلَى مَنْ نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ، فَأَمَّا مَنْ حَبَسَهُ عُذْرٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ وَلا يَرْجِعُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ وَهُوَ مُحْصَرٌ نَحَرَهُ، إِنْ كَانَ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ، وَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: يَنْحَرُ هَدْيَهُ، وَيَحْلِقُ فِى أَىِّ مَوْضِعٍ كَانَ، وَلا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لأنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، وَأَصْحَابَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ نَحَرُوا وَحَلَقُوا وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ الطَّوَافِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 466 وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْهَدْىُ إِلَى الْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَقضى شَيْئًا، وَلا يَعُودُوا لَهُ، وَالْحُدَيْبِيَةُ خَارِجٌ مِنَ الْحَرَمِ. / 233 - فيه: ابْن عُمَرَ، إِنْ صُدِدْتُ عَنِ الْبَيْتِ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، ثُمَّ نَظَرَ فِى أَمْرِهِ، فَقَالَ: مَا أَمْرُهُمَا إِلا وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ أَوْجَبْتُ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ طَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا، وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ مُجْزِيًا عَنْهُ. ولهذا اختلف السلف فى هذا الباب، فذهب ابن عباس إلى أن المحصر لا بدل عليه ولا [. . . . . .] ذكره عنه عبد الرزاق وقال: لا حصر إلا من حُبِسَهُ بعدو، فيحل بعمرة، وليس عليه حج قابل ولا عمرة، فإن حبس وكان معه هدى بعث به ولم يحل حتى ينحر الهدى، وإن لم يكن معه هدى حل مكانه، وذكر عطاء عن ابن عباس فى الذى يفوته الحج قال: يحل بعمرة وليس عليه حج قابل. وعن طاوس مثله، وروى ابن الماجشون عن مالك فى المحصر بعَدُوٍّ يحل لِسُنَّةِ الإحصار ويجزئه من حجة الإسلام، وهو قول أبى مصعب صاحب مالك [. . . . . .] به لمحمد بن سحنون. وقال ابن شعبان: يجزئه من حجة الإسلام وإن صُدَّ قبل أن يحرم. وقال ابن الماجشون: إنما استحب له مالك القضاء. وفيها قول آخر روى عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت أنه يحل بعمرة وعليه حج قابل والهدى، وهو قول عروة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 467 وقال علقمة والنخعى: عليه حجة وعمرة. وهو قول الكوفيين، وقال مجاهد والشعبى: عليه حج قابل. وقال مالك فى المدونة: لا قضاء على المحصر بعدو فى حج التطوع ولا هدى عليه؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يأمر أصحاب الحديبية بقضاء ولا هدى، إلا أن تكون حجة الإسلام، فعليه حج قابل والهدى. وبه قال الشافعى وأبو ثور. واحتج الكوفيون بأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما صُدَّ فى الحديبية قضاها فى العام القابل، فسميت عمرة القضاء. واحتج أصحاب مالك فقالوا: هذه التسمية ليست من الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولا من أصحابه، وإنما هى من أهل السير، فليس فيها حُجَّة، ولم تُسم عمرة القضاء من أجل ما ذكروه، وإنما سميت من أجل أن النبى عليه السلام قَاضَى عام الحديبية قُريشًا وصالحهم لمدة من الزمان، وعلى أن يرجع إلى مكة فى العام المقبل، ولو وجب عليهم القضاء لعرفهم به وقال: هذه العمرة لى ولكم قضاء عن التى صُددنا عنها؛ لأن الله تعالى فرض عليه البيان والتبليغ، فلما لم يعرفهم بذلك ولا أمرهم به دل أنه لم يكن واجبًا، ووجه إيجاب مالك عليه الهدى من أجل أن إحرامه حيل بينه وبين تمامه بالوصول إلى البيت. وجعل أبو حنيفة العمرة عوضًا من ذلك، فإن قيل: فما وجه ذكر حديث ابن عمر فى هذا الباب، وليس فى لفظه ما يدل على الترجمة؟ قيل: وجه ذلك والله أعلم أن البخارى استغنى بشهرة قصة صَدِّ النبى عليه السلام بالحديبية، وأنهم لم يؤمروا بالقضاء فى ذلك لأنها لم تكن حجة الفريضة، وإنما كانوا محرمين بعمرة، فلذلك قال مالك: لا قضاء على المحصر بعدوٍ للحج إذا كان تطوعًا، كما لم يكن على الرسول (صلى الله عليه وسلم) قضاء العمرة التى صُدَّ عنها؛ لأنه لم يعرفهم فى عمرة القضاء أنها قضاء عن التى صُدَّ عنها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 468 فهذا الحديث موافق لقول مالك، ولذلك ذكر البخارى قول مالك فى صدر الباب ليدل على أنه مأخوذ من حديث ابن عمر والله الموفق. وأما قول البخارى: والحديبية خارج المحرم فقد قال مالك: إن الحديبية فى الحرم، وكلا القولين له وجه، وذلك أن الحديبية فى أول الحرم، وهو موضع بروك ناقة النبى عليه السلام لأنها لما بركت فى أول الحرم وقال الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (حبسها حابس الفيل) وصاحب الفيل لم يدخل الحرم، فمن قال: إن الحديبية خارج الحرم فممكن أن يريد موضع نزول النبى (صلى الله عليه وسلم) ومن قال: إنها فى الحرم يريد موضع حلاقهم ونحرهم. وقال الطحاوى: ذهب قوم إلى أن الهدى إذا صد عن الحرم نحر فى غير الحرم، واحتجوا بهذا الحديث وقالوا: إنما نحر النبى عليه السلام هديه بالحديبية إِذْ صُدَّ، دل على أن لمن منع من إدخال هديه فى الحرم أن يذبحه فى غير الحرم، وهذا قول مالك. وخالفهم آخرون فقالوا: لا يجوز نحر الهدى إلا فى الحرم، واحتجوا بقوله: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] فكان الهدى قد جعله الله ما بلغ الكعبة، فهو كالصيام الذى جعله الله متتابعًا فى كفارة الظهار وكفارة القتل، فلا يجوز غير متتابع، وإن كان الذى وجب عليه غير مطيق للإتيان به متتابعًا، فلا تبيحه الضرورة أن يصومه متفرقًا. كذلك الهدى الموصوف ببلوغ الكعبة لا يجزئ إلا كذلك وإن صُدَّ عن بلوغ الكعبة، واحتجوا بأن نحر النبى (صلى الله عليه وسلم) لهديه حين صُدَّ كان فى الحرم، والدليل على ذلك ما رواه إسرائيل عن مجزأة بن زاهر، عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 469 ناجية بن جندب الأسلمى، عن أبيه قال: (أتيت النبى عليه السلام حين صُدَّ عن البيت فقلت: يا رسول الله، ابعث معى بالهدى فلأنحره فى الحرم، قال: وكيف تأخذ به؟ قلت: آخذ به فى أودية لا يقدرون علىّ فيها، فبعثه معى حتى نحرته) . وقال آخرون: كان النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الحديبية وهو يقدر على دخول الحرم، ولم يكن صُد عن الحرم، وإنما صُد عن البيت. واحتجوا بحديث رواه ابن إسحاق، عن الزهرى، عن عروة، عن المسور (أن النبى عليه السلام كان بالحديبية خباؤه فى الحل، ومُصَلاه فى الحرم) . ولا يجوز فى قول أحد من العلماء لمن قدر على دخول شىء من الحرم أن ينحر هديه دون الحرم. فلما ثبت الحديث الذى ذكرناه أن الرسول كان يصل إلى الحرم، استحال أن يكون نحر الهدى فى غير الحرم؛ لأن الذى يبيح نحر الهدى فى غير الحرم إنما يبيحه فى حال الصَّدِّ عن الحرم، لا فى حال القدرة على دخوله، فانتفى بما ذكرناه أن يكون الرسول (صلى الله عليه وسلم) نحر الهدى فى غير الحرم، وهذا قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد. وقد احتج أهل المقالة الأولى بما روى سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن يعقوب بن خالد، عن أبى أسماء مولى عبد الله بن جعفر قال: (خرجت مع على وعثمان، رضى الله عنهما، فاشتكى الحسن بالسقيا وهو محرم، فأصابه برسام فأومأ إلى رأسه، فحلق على رأسه، ونحر عنه جزورًا) . ورواه مالك عن يحيى، ولم يذكر عثمان ولا أن الحسن كان محرمًا، فاحتجوا بهذا الحديث؛ لأن فيه أن عليا نحر الجزور دون الحرم. قال الطحاوى: والحجة عليهم فى ذلك أنهم لا يبيحون لمن كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 470 غير ممنوع من الحرم أن يذبح فى غير الحرم، وإنما يختلفون إذا كان ممنوعًا منه، فدل أن عليا لما نحر فى هذا الحديث فى غير الحرم، وهو واصل إلى الحرم، أنه لم يكن أراد به الهدى، وإنما أراد به الصدقة والتقرب إلى الله، مع أنه ليس فى الحديث أنه أراد به الهدى، فكما يجوز لمن حمله على أنه هدى ما حمله عليه، فكذلك يجوز لمن حمله على أنه ليس بهدى ما حمله عليه. 2 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة: 196] وَهُوَ مُخَيَّرٌ فَأَمَّا الصَّوْمُ فَثَلاثَةُ أَيَّامٍ / 234 - فيه: كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، أن النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّكَ) ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (احْلِقْ رَأْسَكَ، وَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسُكْ بِشَاةٍ) . قوله: (فَمَن كَانَ مِنكُم (معناه: من حلق ففدية، أجمع العلماء أنه من حلق رأسه لعذر أنه مخير فيما نص الله من الصيام أو الصدقة أو النسك، واختلفوا فيمن حلق أو لبس أو تطيب عامدًا من غير ضرورة، فقال مالك: بئس ما فعل، وعليه الفدية وهو مخير فيها. وقال أبو حنيفة والشافعى وأبو ثور: ليس مخيًا إلا فى الضرورة؛ لشرط الله) فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ) [البقرة: 196] فأما إذا حلق أو تطيب أو لبس عامدًا من غير ضرورة فعليه دم. وحجة مالك أن السُّنَّة وردت فى كعب بن عجرة فى حلقه رأسه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 471 وقد آذاه هوامه، ولو كان حكم غير الضرورة مخالفًا لها لَبَيَّنَهُ عليه السلام، ولما لم تسقط الفدية من أجل الضرورة، علم أن من لم يكن بمضطر أولى ألا تسقط عنه الفدية، وقال مالك والليث والثورى وأبو حنيفة: إذا حلق ناسيًا فعليه الفدية كالعامد. وقال الشافعى: لا فدية عليه. وهو قول إسحاق. واحتج من يقول بأن فرض الحج على غير الفور؛ لأن النبى عليه السلام قال لكعب بن عجرة: (تؤذيك هوامك؟) قال: نعم، قال: احلق وانسك بشاة. فنزل قوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ (إلى قوله: (وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ) [البقرة: 196] . قالوا: وإتمام الشىء حقيقة إنما هو كماله بعد الدخول فيه، وقد يستعمل فى ابتداء الشىء تجوزًا واتساعًا، ولم يُرد الله بقوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] الإكمال بعد الدخول فيه، ولكنه تجوَّز واستعمله فى ابتداء الدخول، يدل على ذلك قول عمر وعلى: تمام الحج والعمرة أن تحرم بهما من دويرة أهلك. فأخبر أن التمام فيهما هو ابتداء الدخول فيهما، وهم لم يكونوا فى الحديبية محرمين بالحج فيصح خطابهم بإكماله، وإنما كانوا محرمين بالعمرة، فعلم أن الأمر لهم بإتمام الحج ليس هو أمر بإكماله بعد الدخول فيه، وإنما هو أمر بالدخول فيه ابتداء، فدل هذا أن فرض الحج على غير الفور، وأن أحكام الحج وجبر ما يعرض فيه قد كان نَزَل، وكانت قصة كعب بن عجرة فى الحديبية، والحديبية كانت سنة ست، احتج بهذا أصحاب الشافعى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 472 3 - باب قوله: (أَوْ صَدَقَةٍ (وَهِىَ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ / 235 - فيه: كَعْبَ، وَقَفَ عَلَىَّ النبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْحُدَيْبِيَةِ وَرَأْسِى يَتَهَافَتُ قَمْلا، فَقَالَ: (يُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (فَاحْلِقْ رَأْسَكَ، وصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوِ انْسُكْ بِمَا تَيَسَّرَ) . لم يختلف الفقهاء أن الإطعام لستة مساكين، وأن الصيام ثلاثة أيام، وأن النسك شاة على ما فى حديث كعب، إلا شىء روى عن الحسن البصرى وعكرمة ونافع أنهم قالوا: الإطعام لعشرة مساكين، والصيام عشرة أيام. ولم يتابعهم أحد من الفقهاء على ذلك؛ للسُّنَّة الثابتة بخلافه عن كعب بن عجرة فى الفدية، سُنُّة معمول بها عند جماعة العلماء، ولم يروها أحد من الصحابة غير كعب، ولا رزاها عن كعب إلا رجلان من أهل الكوفة: عبد الرحمن بن أبى ليلى، وعبد الله بن معقل، وهى سنة أخذها أهل المدينة من أهل الكوفة. 4 - باب الإطْعَامُ فِى الْفِدْيَةِ نِصْفُ صَاعٍ / 236 - فيه: كَعْب، نَزَلَتْ الفدية فِىَّ خَاصَّةً، وَهِىَ لَكُمْ عَامَّةً، حُمِلْتُ إِلَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِى، فَقَالَ: (مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى، تَجِدُ شَاةً) ؟ فَقُلْتُ: لا، فَقَالَ: (فَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ) . قال مالك وأبو حنيفة والشافعى: الإطعام فى الفدية مدان بِمُدِّ النبى (صلى الله عليه وسلم) على ما جاء فى حديث كعب. وروى عن الثورى وأبى حنيفة أنهما قالا عن الفدية: بالبر نصف صاع، ومن التمر أو الشعير أو الزبيب صاع لكل مسكين. وهذا خلاف نص الحديث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 473 فلا معنى له؛ لأنه قال عليه السلام: (لكل مسكين نصف صاع) فعم بذلك جميع أنواع الطعام، ولم يستثن بعض ما يطعم المساكين أنه بخلاف هذا فيلزم إخراج صاع منه، وقاس أبو حنيفة الأيمان على كفارة فدية الأذى، فأوجب فى كفارة اليمان وسائر الكفارات مدين مدين لكل إنسان، وسيأتى بيان قولهم فى كتاب النذور والكفارات إن شاء الله. 5 - باب النُّسْكُ شَاةٌ / 237 - فيه: كَعْب، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) رَآهُ وَأَنَّهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ، فَقَالَ: (أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِقَ، وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَحِلُّونَ بِهَا، وَهُمْ عَلَى طَمَعٍ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْفِدْيَةَ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوْ يُهْدِىَ شَاةً، أَوْ يَصُومَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ. أجمع العلماء أن أقل النسك شاة، وبها أفتى الرسول (صلى الله عليه وسلم) كعب بن عجرة، وقد ثبت أنه نسك ببقرة، حدثنا به أبو بكر التجيبى قال: حدثنا أحمد بن سعيد بن حزم، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن خليد المقبرى بمكة، حدثنا يوسف بن موسى القطان، حدثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبى ليلى، عن نافع، عن سليمان بن يسار قال: (ذبح كعب بقرة) فأخذ الكفارات ولم تكن هذه مخالفة للنبى (صلى الله عليه وسلم) ، بل كان موافقة وزيادة، ففى هذا من الفقه أن من أُفتى بأيسر الأشياء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 474 وأقل الكفارات أن له أن يأخذ بأعالى الأمور وأرفع الكفارات، كما فعل كعب والله الموفق. قال ابن المنذر: قوله فى هذا الحديث: (ولم يتبين لهم أنهم يحلون بها، وهم على طمع أن يدخلوا مكة) فيه دليل أن من كان على رجاء من الوصول إلى البيت أن عليه أن يقيم حتى ييئس من الوصول فيحل، وقال من احفظ عنه من أهل العلم: إن من يئس أن يصل إلى البيت فجاز له أن يحل، فلم يفعل حتى خلى سبيله، أن عليه أن يمضى إلى البيت لتتم مناسكه. قال المهلب: وقوله: (فأمره أن يحلق، ولم يتبين لهم أنهم يحلون بها) فيه حجة لمالك فى وجوب الكفارة على المرأة تقول فى رمضان: غدًا حيضتى، والرجل يقول: غدًا يوم حُمَّاى، فيفطران، ثم ينكشف الأمر بالحمى والحيض كما قالا، أنهما عليهما الكفارة؛ لأنهم لم يكن، كما كان فى علم الله من أنهم يحلون بالحديبية، وأن الهدى قد بلغ محله، بمسقط عن كعب الكفارة إذا استباح الحلاق قبل علم الله بأن الهدى قد بلغ محله، فكذلك ما كان فى علم الله من أنها تحيض لا يسقط عنها الكفارة إذا استباحت حُرْمة رمضان قبل علمها بالحيض، وكذلك المريض، إذا قد يجوز أن يكون ما ظنا؛ لأنه لا يقطع على مغيبه. 6 - باب قوله: (فَلا رَفَثَ ولا فسوق ولا جدال فِى الحج) [البقرة: 197] / 238 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ، عليه السَّلام: (مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّه) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 475 اختلفوا فى الرفث، فروى عن ابن عباس أنه قال: الرفث فى الحج: ما كلم به النساء، وروى مثله عن ابن عمر وعطاء، وروى عن ابن عباس أيضًا أن الرفث: الجماع، وهو قول مجاهد والزهرى، وقال ابن عباس: الفسوق: السباب. وقال مجاهد والزهرى: الفسوق: المعاصى. وقال ابن عباس: الجدال أن تمارى صاحبك حتى تغضبه. وقال طاوس: هو جدال الناس. 7 - باب جَزَاءِ الصَّيْدِ وقوله تَعَالَى: (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ (إلى قوله: (الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [المائدة: 95] . اتفق أئمة الفتوى بالحجاز والعراق أن المحرم أذا قتل الصيد عمدًا أو خطأ فعليه الجزاء، منهم: مالك والليث والأوزاعى والثورى وأبو حنيفة والشافعى وأحمد وإسحاق، وقال أهل الظاهر: لا يجب الجزاء إلا على من قتل الصيد عمدًا؛ لقوله تعالى: (وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا) [المائدة: 95، 96] لأن دليل الخطاب يقتضى أن المخطئ بخلافه، وإلا لم يكن لتخصيص المتعمد معنى. قالوا: وقد روى عن عمر بن الخطاب ما يدل على أن ذلك كان مذهبه، رَوى سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر، عن عمر أنه سأل رامى الظبى وقاتله: عمدًا أصبته أم خطأ؟ قالوا: ولم يسأله عمر عن ذلك إلا لافتراق العمد والخطأ عنده. قال ابن القصار: وروى مثله عن ابن عباس. قال الطحاوى: وذهب جماعة العلماء فى تأويل قوله: (وَمَن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 476 قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا (إلى قوله: (وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة: 95] وقالوا: لا حجة فى قول عمر للرجل: أعمدًا أصبته أم خطأ؟ لأنه يجوز أن يسأله عن ذلك ليعلمه إن كان قتله عمدًا، ثم قتل بعده صيدًا عمدًا انتقم الله منه، فأراد عمر تحذيره من ذلك، مع أنه قد روى شعبة هذا الحديث عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة قال له: أعمدًا أصبته أم خطأ؟ فقال: ما أدرى. فأمر بالفدية. فخالف رواية سفيان، فدل ذلك على أنه سأله عن العمد والخطأ ليقف به على وجوب الانتقام فى العودة، مع أن الأشبه بمذهب عمر مذهب الجماعة، روى شعبة عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، أن كعبًا قال لعمر: إن قومًا استفتونى فى مُحرم قتل جرادة، فأفتيتهم أن فيها درهم، فقال: إنكم بأهل مصرٍ كثيرة دراهمكم، لتمرة خير من جرادة. أفلا ترى عمر لم ينكر على كعب تركه سؤال القوم عن قتل المحرم للجرادة إن كان عمدًا أو خطأ؛ لاستواء الحكم فى ذلك عنده. ولو اختلف الحكم فى ذلك عنده لأنكر عليه تركه السؤال عن ذلك، وهذا ابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو كلهم قد أجاب فيما أصاب المحرم بوجوب الجزاء، ولم يسأل أحد منهم عن عمدٍ فى ذلك ولا خطأ، ولا يكون ذلك إلا لاستواء الحكم عندهم فى ذلك. ثم إن السنة الثابتة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) تدل على هذا المعنى، روى جرير ابن حازم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبى عمار، عن جابر: (أن النبى عليه السلام سئل عن الضبع، فقال: هى صيد، وفيها إذا أصابها المحرم كبش) ورواه عطاء عن جابر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 477 فلما جعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الجزاء فى الصيد ولم يذكر فى ذلك عمدًا ولا خطأ؛ ثبت أن ذلك سواء فى وجوب الجزاء، وقال الزهرى: نزل القرآن بالعمد، وهو فى الخطأ سنة. قال الطحاوى: والقياس يدل على هذا المعنى لأنا قد رأينا الله تعالى قد حرم على المحرم أشياء منها: الجماع، وقتل الصيد، مع سائر ما حرمه الله عليهم سواهما، فكان مَنْ جَامع فى إحرامه عامدًا أو ساهيًا فى وجوب الدم وفساد الحج، وكذلك قتل الصيد كالجماع، سواء يستوى فيه العمد والخطأ، والخطأ بالكفارة أقل من العمد؛ لأن الله تعالى جعل فى كتابه على من قتل مؤمنًا خطأ ولم يوجبها على من قتله متعمدًا. قال ابن القصار: واحتج أهل الظاهر بقوله عليه السلام: (رفع عن أمتى الخطأ والنسيان) قال: والفقهاء مجمعون أن الخطأ والنسيان ليس فى غتلاف الأموال، وإنما المراد به رفع المأثم. قال إسماعيل بن إسحاق: وما رواه أهل الظاهر عن ابن عباس فإسناده ضعيف، رواه قتادة عن رجل، عن ابن عباس. واختلفوا فى تأويل قوله: (فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) [المائدة: 95] فقال ابن القصار عن مالك: إذا قتل المحرمُ صيدًا لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ فى المنظر، فعليه مثله، ففى الغزال شاة، وفى النعامة بدنة، وفى حمار الوحش بقرة. وبه قال مجاهد والحسن والشافعى. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: الواجب فى قتل الصيد القيمة، سواء كان له مِثْلٌ النَّعَم أم لا، وهو بالخيار بين أن يتصدق بقيمته وبين أن يصرف القيمة فى النعم فيشتريه ويهديه، وقالوا: لما لم يجز أن يراد بالمثل المثل من الجنس، عُلم أن المراد به القيمة، وأنها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 478 تصرف فى النعم والدليل على أن المراد بالمثل القيمة قوله: (لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ) [المائدة: 95] وهذا لفظ عام فى جميع الصيد، سواء كان له مثل أو لا، ومعلوم أن ما لا مثل له من جنسه ونظيره؛ فإن الواجب فى إتلافه القيمة، فصار المراد بالمثل القيمة فى أحد الأمرين فينبغى أن يكون المراد بالنظير؛ لامتناع أن يعبر باللفظ الواحد على معين مجانس؛ لأن القيمة متى صارت مرادة بالآية فى أحد نوعى الصيد صارت كالمذكورة فى الآية، فبقى حمل الآية على غيرها. قال ابن القصار: فالجواب أن قوله تعالى: (فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) [المائدة: 95] فالمراد به مثل المقتول، ولو اقتصر عليه ولم يقيده بالنعم لكان الواجب فى الظبى ظبيًا، وفى النعامة نعامة، وفى بقرة الوحش بقرة، فلما قال: (مِنَ النَّعَمِ (أوجب أن يكون الجزاء مثل المقتول من النعم لا من غيره، ومثله من النعم ليس هو القيمة، والمماثلة من طريقة الخلقة مشاهدة محققة، وما طريقها القيمة طريقها الاستدلال. ولما خص الله النعم من سائر الحيوان لم تكن له فائدة، إلا أن المراد المثل من طريق الخلقة والصورة من النعم دون القيمة، ولم يعقل منه مثل ما قتل من الدراهم؛ لأنه لو اقتصر على قوله: (فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ) [المائدة: 95] لم يعقل منه مثله من الدراهم، فتقييده بالنعم أولى ألا يعقل منه الدراهم، وقد يراد بالآية الحقيقة فى موضع والمجاز فى آخر، فيكون المثل من النعم فى قتل الغزال والنعامة وبقرة الوحش، وفيما لا مثل له القيمة، وإنما يتنافى ذلك فى حالة واحدة، فأما فى حكمين فلا. قال المهلب: فإن قيل: فقد قال مالك وجماعة الفقهاء غير أبى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 479 حنيفة: فى الحمامة شاة، وليست الشاة مماثلة للحمامة. يقال له: أغفلت، وذلك أن اشتراطه تعالى فى المثل أن يكون من النعم، والطير ليست من النعم، فوجب أن يكون كل جزاء يغرم من النعم لا منجنس الحيوان المقتول؛ لأن الجزاء لا يكون إلا هديًا كما شرط الله) هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] وأقل الهدايا من النعم شاة، فوجب هدى المقتول مما يكون هديًا لا مماثلا من جميع الجهات كما ظنالمخالف. واختلفوا فى قوله: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) [المائدة: 95] فقال مالك: لا يجوز أن يكون القاتل أحد العدلين. وجوزه الثورى والشافعى، واختلف أصحاب أبى حنيفة على القولين، قال ابن القصار: والحجة لقول مالك قوله تعالى: (ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) [المائدة: 95] كما قال تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ) [الطلاق: 2] فيحتاج إلى حكمين غيره يحكمان، كما يحتاج إلى شاهدين غيره. وقال الطحاوى: ووجدنا الحكومات المذكورات فى كتاب الله فيما سوى ذلك إنما يكون من غير المحكوم عليهم، قال تعالى: (فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا) [النساء: 35] ولا يجوز أن يكون الزوج الحكم الذى من أهله، وإنما يكون من عُلم عدله، وأُمن على المحكوم عليه وعلى المحكموم له، ولم يكن جارا إلى نفسه ولا دافعًا عنها شيئًا. قال ابن المنذر: اتفق مالك والكوفيون والشافعى وأحمد وأبو ثور أنه بالخيار، إن شاء أتى بالهدى، وإن شاء صام، وإن شاء تصدق، وقال الثورى: إن لم يجد هديا أطعم، فإن لم يجد طعامًا صام. وقال الحسن والنخعى: إن لم يكن عنده جزاؤه قُوِّم بدراهم، ثم قومت الدراهم بطعام وصام، وإنما أريد بالطعام الصيام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 480 وقال سعيد بن جبير: إنما الطعام والصيام فيما لا يبلغ ثمن الهدى. والصواب قول من جعله بالخيار؛ لقول ابن عباس: كل شىء أراد فهو مخير، وما كان فإن لم يجد فهو الأول فالأول. واختلفوا فى الصوم المعدل فى القيمة، فكان بعضهم يقول: يصوم عن كل نُدَّيْن يومًا. هذا قول ابن عباس، وبه قال الثورى والكوفيون وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال بعضهم: يصوم عن كل مُدٍّ يومًا. هذا قول عطاء ومالك والشافعى، قال الطحاوى: فنظرنا فى ذلك، فوجدنا النبى (صلى الله عليه وسلم) قد أمر كعب بن عجرة أن يطعم كل مسكين يومًا واحدًا، كان يصوم اليوم الواحد عن المُدَّين. واختلفوا فى قوله تعالى: (وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة: 95] هذا الوعيد معه جزاء عائد على مُصيب الصيد، كما كان عليه فى إصابته إياه بدءًا. فذهب بعضهم إلى أنه لا جزاء عليه فى ذلك إلا أول مرة، فإن عاد تُرك والنقمة، روى هذا عن شريح وذكره ابن المنذر عن ابن عباس وشريح والنخعى والحسن وقتادة ومجاهد. وذهب الكوفيون ومالك والشافعى وأحمد وإسحاق إلى أنه يحكم عليه بالجزاء كل مرة أصابه، قال الطحاوى: وهذا الصواب؛ لأنا روينا عن عمر وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وغيرهم، أنهم حكموا على المُحْرِمين بإصابة الصيد ولم يسأل أحد منهم المحكوم عليه هل أصاب صيدًا قبل إصابته ذلك الذى حكموا فيه بالجزاء، فدل ذلك على أنه لا فرق عندهم بين البدء والعود، والنظر يدل على ذلك؛ لأنا رأينا أشياء منع الله منها المحرمين، منها الجماع وقتل الصيد وغير ذلك، وكان من جامع فى إحرامه فوجب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 481 عليه الهدى فأهداه، ثم جامع ثانية فى إحرامه فوجب عليه الهدى أيضًا، كذلك الصيد، فإن قيل: إنما أثنيت الكفارة على العائد لوقع النقمة عليه. قيل: أو ليس إنما كان منتقمًا منه بمعصية الله، أفرأيت إن قتل الصيد بدءًا عالمًا منتهكًا للحرمة، أما كان يجب عليه فى ذلك نقمة وكان عليه الجزاء، فكذلك إذا عاد، ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى: (وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة: 95] إن شاء ذلك؛ لأن أحكام الوعيد فى العقوبات كذلك كانت عند العرب، إن شاء الله أوعد بها أنجزها، وإن شاء تركها. وقال ابن المنذر: أجمع اهل العلم على أن صيد البحر مباح للمحرم اصطياده وبيعه وشراؤه واختلفوا فى معنى قوله: (وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ) [المائدة: 96] وسأذكره فى كتاب الصيد. 8 - باب إِذَا صَادَ الْحَلالُ، فَأَهْدَى لِلْمُحْرِمِ الصَّيْدَ فَأَكَلَهُ وَلَمْ يَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ بِالذَّبْحِ بَأْسًا، وَهُوَ غَيْرُ الصَّيْدِ نَحْوُ الإبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالدَّجَاجِ وَالْخَيْلِ. / 239 - فيه: أَبُو قَتَادَةَ، أنَّهُ انْطَلَقَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ يُحْرِمْ، وَحُدِّثَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَنَّ عَدُوًّا يَغْزُوهُ، فَبَيْنَمَا أَنَا مَعَ أَصْحَابِهِ، تَضَحَّكَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا أَنَا بِحِمَارِ وَحْشٍ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ فَطَعَنْتُهُ، فَأَثْبَتُّهُ، وَاسْتَعَنْتُ بِهِمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِى، فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهِ، وَخَشِينَا أَنْ نُقْتَطَعَ، فَطَلَبْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أَرْفَعُ فَرَسِى شَأْوًا، وَأَسِيرُ شَأْوًا، فَلَقِيتُ رَجُلا مِنْ بَنِى غِفَارٍ فِى جَوْفِ اللَّيْلِ، قُلْتُ: أَيْنَ تَرَكْتَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام؟ قَالَ: تَرَكْتُهُ بِتَعْهَنَ، وَهُوَ قَائِلٌ السُّقْيَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَهْلَكَ يَقْرَءُونَ عَلَيْكَ السَّلامَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 482 وَرَحْمَةَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ قَدْ خَشُوا أَنْ يُقْتَطَعُوا دُونَكَ فَانْتَظِرْهُمْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَبْتُ حِمَارَ وَحْشٍ، وَعِنْدِى مِنْهُ فَاضِلَةٌ، فَقَالَ لِلْقَوْمِ: (كُلُوا) ، وَهُمْ مُحْرِمُونَ. وفى حديث أبى قتادة من الفقه أن لحم الصيد حلال أكله للمحرم إذا لم يصده وصاده حلال، وفى ذلك دليل أن قوله تعالى: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) [المائدة: 96] معناه: الاصطياد، وقيل: الصيد وأكل الصيد لمن صاده، وإن لم يصده فليس ممن عُنى بالآية، يبين ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ) [المائدة: 95] لأن هذه الآية إنما نُهى فيها عن قتل الصيد واصطياده لا غير. وهذه مسألة اختلف فيها السلف قديمًا، فذهبت طائفة إلى أنه يجوز للمحرم أكل ما صاده الحلال، روى هذا عن عمر بن الخطاب وعثمان والزبير وعائشة وأبى هريرة، وإليه ذهب الكوفيون، وذهبت طائفة إلى أن ما صاده الحلال للمحرم أو من أجله فلا يجوز له أكله، وما لم يُصد له فلا بأس بأكله، وهو الصحيح عن عثمان، وروى عن عطاء، وهو قول مالك فى العتبية وكتاب ابن المواز، وبه قال الشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وذكر ابن القصار أن المحرم إذا أكل ما صيد من أجله فعليه الجزاء، استحسان لا قياس. وعند أبى حنيفة والشافعى: لا جزاء عليه. واحتج الكوفيون بقوله عليه السلام للمحرمين: (كلوا) قالوا: فقد علمنا أن أبا قتادة لم يصده فى وقت ما صاده إرادةً منه أن يكون له خاصَةً، وإنما أراد أن يكون له ولأصحابه الذين كانوا معه، فقد أباح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذلك له ولهم، ولم يحرمه لإرادته أن يكون لهم معه، قاله الطحاوى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 483 قال: والنظر يدل على ذلك؛ لأنهم أجمعوا أن الصيد يحرمه الإحرام على المحرم، ويحرمه الحرم على الإحلال، وكان من صاد صيدًا فى الحل فذبحه فيه، ثم أدخله الحرم فلا بأس بأكله فيه، ولم يكن إدخاله لحم الصيد الحرم كإدخاله الصيد حيا فى الحرم؛ لأنه لو كان كذلك لنهى عن إدخاله فيه، ولمنع من أكله كما يمنع من الصيد، ولكان إذا أكله فى الحرم وجب عليه ما يجب فى قتله، فلما كان الحرم لا يمنع من لحم الصيد الذى صيد فى الحل كما يمنع من الصيد الحى؛ كأن النظر على ذلك أن يكون الإحرام يحرم على المحرم الصيد، ولا يحرم عليه لحمه إذا تولى الحلاُ ذبحه قياسًا ونظرًا. وحجة الذين أجازوا للمحرم أكل ما لم يصد له، أن أبا قتادة إنما صاده لنفسه لا للمحرمين، وكان وَجَّهَهُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) على طريق البحر مخافة العدو، فلم يكن محرمًا حين اجتمع مع أصحابه؛ لأن مخرجهم لم يكن واحدًا، فلم يكن صيده للمحرمين ولا بعونهم، ألا ترى قوله: (فأبوا أن يعينونى) . قالوا: فلذلك أجاز لهم عليه السلام أكله، قالوا: وعلى هذا تتفق الأحاديث المروية عن النبى عليه السلام فى أكل الصيد ولا تتضاد. وقد روى هذا المعنى عن النبى عليه السلام روى ابن وهب، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو مولى المطلب أخبره عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن جابر أن النبى عليه السلام قال: (صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يُصَدْ لكم) . وقالت طائفة: لحم الصيد محرم على المحرمين على كل حال، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 484 ولا يجوز لمحرمٍ آكله البتة، على ظاهر قوله تعالى: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) [المائدة: 96] قال ابن عباس: هى مبهمة. وهو مذهب على وابن عمر، وبه قال الثورى، وهى رواية القاسم عن مالك فى المدونة، وبه قال إسحاق، واحتجوا بحديث الصعب بن جثامة (أنه أهدى لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) حمارَ وحشٍ وهو بالأبواء أو بودان، فرده عليه وقال: لم نَرُدَّهُ عليك إلا أنا حرم) فلم يعتل بغير الإحرام، واعتل من أجاز أكله بأنه عليه السلام إنما رده لأنه كان حيا، ولا يحل للمحرم قتل الصيد، ولو كان لحمًا لم يرده؛ لقوله فى حديث أبى قتادة، وستأتى رواية من روى أن الحمار كان مذبوحًا فى باب: إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيا لم يقبل. وأما قول البخارى: ولم ير ابن عباس وأنس بالذبح بأسا، وهو غير الصيد. فهو قول جماعة العلماء، لا خلاف بينهم أن الداجن كله من الإبل والبقر والغنم والدجاج وشبهه يجوز للمحرم ذبحه؛ لأن الداجن كله غير داخل فى الصيد المحرَّم على المحرِم، وأما أكل الخيل فأجازه أبو يوسف ومحمد والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور وجمهور أهل الحديث؛ لحديث جابر وأسماء أنهم أكلوه على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وكره أكل الخيل مالك وأبو حنيفة، وستأتى هذه المسألة فى كتاب الذبائح إن شاء الله. وقال صاحب العين: شأوت القوم شأوا: سبقتهم، والشأو: الطلق. 9 - باب إِذَا رَأَى الْمُحْرِمُونَ صَيْدًا فَضَحِكُوا فَفَطِنَ الْحَلالُ / 240 - فيه: أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ: انْطَلَقْنَا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ، وَلَمْ أُحْرِمْ، فَأُنْبِئْنَا بِعَدُوٍّ بِغَيْقَةَ، فَتَوَجَّهْنَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 485 نَحْوَهُمْ، فَبَصُرَ أَصْحَابِى بِحِمَارِ وَحْشٍ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَضْحَكُ إِلَى بَعْضٍ، فَنَظَرْتُ فَرَأَيْتُهُ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ الْفَرَسَ، فَطَعَنْتُهُ، فَأَثْبَتُّهُ، فَاسْتَعَنْتُهُمْ، فَأَبَوْا. . . الحديث. وترجم له: (بَاب لا يُعِينُ الْمُحْرِمُ الْحَلالَ فِى قَتْلِ الصَّيْدِ) ، وقال فيه: (كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، بِالْقَاحَةِ، وَمِنَّا الْمُحْرِمُ وَمِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ، فَرَأَيْتُ أَصْحَابِى يَتَرَاءَوْنَ شَيْئًا، فَنَظَرْتُ فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ، يَعْنِى وَقَعَ سَوْطُهُ، فَقَالُوا: لا نُعِينُكَ. . .) الحديث. وترجم له: (باب لا يُشِيرُ الْمُحْرِمُ إِلَى الصَّيْدِ لِكَيْ يَصْطَادَهُ الْحَلالُ) ، وقال فيه: فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا) ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: (فَكُلُوا مَا بَقِىَ مِنْ لَحْمِهَا) . قال المهلب: إنما لم يجعل النبى عليه السلام ضحك المحرمين بعضهم إلى بعض دلالة على الصيد، وأباح لهم أكله؛ لأن ضحك المحرم إلى المحرم مثله، مما لا يحل له الصيد، لا حرج فيه، وإن كان قد آل إلى أن تنبه عليه أبو قتادة، فلم يكن أبو قتادة عندهم ممن خرج يقتنص صيدًا، فلذلك لم يجب عليهم جزاء، ولا حرم عليهم أكله، وأما إن أشار محرم على قناصٍ أو طالبٍ له، أو أغراه به، أو أعطاه سلاحًا، أو أَعَانَهُ بأى، فيكره له أكله؛ لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أبى قتادة، (أمنكم أحد أمر أن يحمل عليها، أو أشار إليها؟ قالوا: لا. قال: كلوا ما بقى من لحمها) . وفى ذلك دليل أنه لا يحرم عليهم بما سوى ذلك، ودل ذلك على أن معنى قوله عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 486 السلام فى حديث عَمرو مولى المطلب: (أو يُصَد لكم) أنه على ما صيد لهم بأمرهم. وقال غيره: وهذا يدل أن المحرم إذا أعان الحلال على الصيد بما قل أو كثر فقد فعل ما لا يجوز له، واختلفوا فى ذلك، فقالت طائفة: إن دل محرم حلالا على صيد، أو أشار إليه، أو ناوله سيفًا أو شبهه حتى قتله، فعلى المحرم الدال أو المعين له الجزاء، روى ذلك عن على وابن عباس، وقال به عطاء، وإليه ذهب الكوفيون وأحمد وإسحاق، واحتج بقوله عليه السلام: (هل أشرتم أو أعنتم؟ قالوا: لا) فدل ذلك أنه إنما يحرم عليهم إذا فعلوا شيئًا من هذا، ولا يحرم عليهم بما سوى ذلك، فجعل المشاورة والمعاونة كالقتل؛ لأن الدلالة بسببٍ يُتوصل به إلى إتلاف الصيد، فوجب الجزاء، دليله: من نصب شبكه حتى وقع فيها صيد فمات. وقال مالك وابن الماجشون والشافعى وأبو ثور: لا جزاء على الدال. وهو قول أصبغ ابن الفرج، واحتج أهل هذه المقالة فقالوا: الدال ليس بمباشر للقتل، وقد اتفقنا أنه لو دَلَّ حلال حلالا على قتل صيد فى الحرم لم يكن على الدال جزاء؛ لأنه لم يحصل منه قتل الصيد، فكذلك هاهنا، وقد تقرر أنه لو دل على رجل مسلم فقتله المدلول، لم يجب على الدال ضمان، وحُرمة المسلم أعظم من حرمة الصيد، ولا حجة للكوفيين فى حديث أبى قتادة؛ لأنه إنما سألهم عن الإشارة والمعاونة، دل أنه يكره لهم أكله، أو يحرم عليهم، ولم يتعرض لذكر الجزاء، فمن أثبت الجزاء فعليه الدليل. وأيضًا فإن القاتل انفرد بقتله بعد الدلالة بإرادته واختياره مع كون الدال منفصلا عنه، فلا يلزمه ضمان، وهذا كمن دل محرمًا أو صائمًا على امرأة فوطئها، ومحظورات الإحرام لا تجب فيها الكفارات بالدلالة، كمن دل على طيب أو لباس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 487 0 - بَاب إِذَا أَهْدَى لِلْمُحْرِمِ حِمَارًا وَحْشِيًّا لَمْ يَقْبَلْ / 241 - فيه: ابْن عَبَّاس، أن الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالأبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِى وَجْهِهِ، قَالَ: (إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلا أَنَّا حُرُمٌ) . أجمع العلماء أنه لا يجوز للمحرم قبول صيدٍ، حتى إذا وُهب له بعد إحرامه، ولا يجوز له شراؤه، ولا إحداث ملكه؛ لعموم قوله: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) [المائدة: 95] ولحديث صعب، فإنما رده عليه السلام؛ لأنه لا يحل للمحرم تذكية الصيد ولا إهلاله، وقال أشهب: سمعت مالكًا يقول: كان الحمار حيا. قال الطحاوى: وقد روى هذا الحديث عن ابن عباس جماعة من أصحابه: سعيد بن جبير وعطاء ومقسم وطاوس، ففى حديث سعيد ابن جبير (أنه أهدى لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) حمارًا وحشيا فرده، وكان مذبوحًا) . وقال مرة: (أهدى إليه عجز حمار فرده يقطر دمًا) . وقال مقسم: (رِجْل حمار) . وقال عطاء: (عضد صيد) . وقال طاوس: (لحم حمار وحش) . قال الطحاوى: قد اتفقت هذه الآثار فى حديث الصعب عن ابن عباس أن الحمار كان غير حى، فذلك حجة لمن كره للمحرم أكل الصيد، وإن كان الذى تولى صيده وذبحه حلال وقد خالف ذلك حديث المطلب عن جابر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 488 قال المؤلف: واختلاف هذه الروايات يدل على أنه لم تكن قصة واحدة، وإنه كان فى أوقات مختلفة، فمرة أهدى إليه الحمار كله، ومرة أهدى إليه عجزه لأن مثل هذا لا يذهب على الرواة ضبطه، حتى يقع فيه التضاد فى النقل والقصة واحدة، والله أعلم. وقال إسماعيل بن إسحاق: سمعت سليمان بن حرب يتأول هذا الحديث على أنه صيد من أجل النبى عليه السلام ولولا ذلك كان أكله جائزًا، قال سليمان: ومما يدل على أنه صيد من أجله قوله فى الحديث: (فرده يقطر دمًا) كأنه صيد فى ذلك الوقت. قال إسماعيل: وأما رواية مالك أنه أهدى إليه حمار وحش، فلا تحتاج إلى تأويل؛ لأن المحرم لا يجوز له إمساك صيد حى ولا يذكيه، وإنما يحتاج إلى التأويل من روى أنه أهدى إليه بعض الحمار. قال إسماعيل: وعلى تأويل سليمان بن حرب تكون الأحاديث غير مختلفة، أعنى حديث الهدى فى الحمار العقير، وحديث أبى قتادة، وحديث الصعب، ويفسرها كلها حديث المطلب عن جابر أن النبى عليه السلام قال: (صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يُصد لكم) وقد ذكرته فى باب: إذا صاد الحلال فأهدى للمحرم. قال الطبرى: معناه: أو يُصد لكم بأمركم. قال غيره: وهذا الحديث يشهد لمذهب مالك أنه أعدل المذاهب وأولاها بالصواب. قال المهلب: وفى حديث الصعب من الفقه رد الهدية إذا لم تحل للمهدَى له، وفيه الاعتذار لرد الهدية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 489 1 - باب مَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنَ الدَّوَابِّ / 242 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِى قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ) . وقال ابْن عُمَرَ: قَالَتْ حَفْصَةُ: قَالَ، عليه السَّلام: (خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، لا حَرَجَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ) . / 243 - وفيه: عَائِشَةَ، عن النَّبِىّ، عليه السَّلام، مثل معناه. / 244 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فِى غَارٍ بِمِنًى؛ إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ) وَالْمُرْسَلاتِ) [المرسلات: 1] وَإِنَّهُ لَيَتْلُوهَا، وَإِنِّى لأتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ، وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا؛ إِذْ وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اقْتُلُوهَا) ، فَابْتَدَرْنَاهَا، فَذَهَبَتْ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (وُقِيَتْ شَرَّكُمْ، كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا) . قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: أَرَدْنَا بِهَذَا أَنَّ مِنًى مِنَ الْحَرَمِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا بِقَتْلِ الْحَيَّةِ بَأْسًا. / 245 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ لِلْوَزَغِ: (فُوَيْسِقٌ) ، وَلَمْ أَسْمَعْهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ. أجمع العلماء على القول بجملة الأحاديث، إلا أنهم اختلفوا فى تفصيلها، فقال بظاهر حديث ابن عمر وحفصة: مالك والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق، قالوا: ولم يعن بالكلب العقور الكلاب الإنسية، وإنما عنى بذلك كل سبع يعقر، كذلك فسره مالك وابن عيينة وأهل اللغة. وقال الخليل: كل سبع عقور كلب. وذكر ابن عيينة أن زيد بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 490 أسلم فسره له كذلك، وكلهم لا يرى ما ليس من السباع فى طبعه العقر والعداء فى الأغلب من معنى الكلب العقور فى شئ، ولا يجوز عندهم للمحرم قتل الهر الوحشى ولا الثعلب ولا الضبع. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يقتل المحرم من السباع إلا الخمس المذكورة فى الحديث فقط، والكلب العقور عنده الكلب المعروف، وليس الأسد فى شىء منه. وأجازوا قتل الذئب خاصة من غير الخمس، وسوى هذه الخمس والذئب ابتدأته أم لا، ولا شىء عليهم فيها، وأما غيرها من السباع فلا يقتلها؛ فإن قتلها فداها إلا أن تبتدئه، فإن بدأته فقتلها فلا شىء عليه. وقال الشافعى: لا جزاء فى قتل جميع ما يكل، سواء كان طبعه الابتداء بالضرر أم لا، ولا جزاء عنده إلا فى قتل صيد حلال أكله من سباع الوحش أو الطير. قال ابن القصار: والحجة على أبى حنيفة أن الكلب العقور اسم لكل ما يتكلب من أسد أو نمر أو فهد، فيجب أن يكون جميع ما يتناوله هذا الاسم داخل تحت ما أبيح للمحرم قتله. وقد روى زيد ابن أسلم عن عبد ربه، عن أبى هريرة أنه قال: الكلب العقور: الأسد. وقال (صلى الله عليه وسلم) فى عتبة بن أبى لهب: (اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك. فعدا عليه الأسد فقتله) . فإذا أباح عليه السلام قتل الكلب العقور لخوف عقه وضرره، فالسبع الذى يفترس ويقتل أعظم وأولى؛ لأنه لا يجوز أن يمنع من قتله مع إباحه قتل ما هو دونه، ولما قال عليه السلام: (خمس فواسق يقتلن) فسماهن فواسق لفسقهن وخروجهن لما عليه سائر الحيوان، لما فيهن من الضرر، فأباح قتلهن لهذه العلة، كان الضرر الذى فى الأسد والنمر والفهد أعظم، فهو بالفسق وإباحة القتل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 491 أولى؛ لأنه إذا نص على شىء لضرره، فإنما نبه بذلك على أن الجنس الذى هو أكثر ضررًا أولى بذلك. كما ذكر الحية والعقرب، فنبه بهما على ما هو أعظم ضررًا من جنسهما، ونص على الفأرة، ونبه على ما هو أقوى حيلة من جنسها، ونص على الغراب والحِدَأ؛ لأنهما [. . . . . .] ويأخذان أزواد الناس، فكذلك نص على الكلب لينبه به على ما هو أعظم ضررًا منه، وأجاز قتل الأفعى، وهى داخلة عنده فى معنى الكلب العقور، والكلب العقور عنده صفة، لا عين مسماة. قال المؤلف: وقد نقض أبو حنيفة أصله فى الذئب فألحقه بالخمس، وليس بمذكور فى الحديث، فكذلك يلزمه أن يجعل الفهد والنمر وما أشبههما فى العدى بمنزلة الذئب. فإن قيل: إن الضبع من السباع، وهى غير داخلة عندكم فيما أبيح للمحرم قتله، قيل: قد قال الأوزاعى: كان العلماء بالشام يعدونها من السباع، ويكرهون أكلها. وذكر ابن حبيب عن مالك قال: لا يقتل الضبع بحال، وقد جاء أن فيها شاة إلا أن تؤذيه. وكذلك قال فى الغراب والحدأة. قال أشهب: سألت مالكًا: أيقتلها المحرم من غير أن يضراَّ به؟ قال: لا، إنما أذن فى قتلهما إذا أضراَّ فى رأيى، وإذا لم يضراَّ فهما صيد، وليس للمحرم أن يصيد، وليسا مثل العقرب والفأرة، ولا بأس بقتلهما وإن لم يضراَّ، وكذلك الحية. والحجة على الشافعى فى أنه لا يوجب الجزاء فيما خاصَّةُ عمومُ قوله تعالى: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) [المائدة: 95] والصيد: عبارة عن الاصطياد، والأصطياد يقع على ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 492 وليس المعتبر فى وجوب الجزاء كون المقتول مأكولا؛ لأن الحمار المتولد عن الوحشى والأهلى لا يؤكل، وفى قتله الجزاء على المحرم. قال ابن المنذر: ولا خلاف بين العلماء فى جواز قتل المحرم وخلاف قول أهل العلم، وروى عن عطاء ومجاهد قالا: لا يقتل الغراب، ولكن يرمى. وهذا خلاف السنة وخلاف قول أهل العلم، وروى عن عطاء ومجاهد قالا: لا يقتل الغراب، ولكن يرمى. وهذا خلاف السنة، وشذت فرقة من أهل الحديث فقالوا: لا يقتل المحرم إلا الغراب الأبقع خاصة. ورووا فى ذلك حديثًا عن قتادة، عن ابن المسيب، عن عائشة، عن النبى عليه السلام وهذا الحديث لا يعرف من حديث ابن المسيب، ولم يروه عنه غير قتادة، وهو مدلس، وثقات أصحاب سعيد من أهل المدينة لا يوجد عندهم، مع معارضته حديث ابن عمر وحفصة، فلا حجة فيه، وأجمع العلماء على جواز قتل الحية فى الحل والحرم، وقال سفيان: قال لنا زيد ابن أسلم: وأى كلب أعقر من الحية. قال الطبرى: فإن قيل: قد صح أمر النبى عليه السلام بقتل الحيات، فما أنت قائل فيما روى مالك عن نافع، عن أبى لبابة بن عبد المنذر أخبره (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهى عن قتل حيات البيوت) . قيل: قد اختلف السلف قبلنا فى ذلك، فقال بعضهم بظاهر أمر النبى عليه السلام بقتل الحيات كلهامن غير استثناء شىء منها، كما روى أبو إسحاق، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اقتلوا الحيات كلهن، فمن خاف ثأرهن فليس منى) روى هذا القول عن عمر وابن مسعود. وقال آخرون: لا ينبغى أن يقتل عوامر البيوت وسكانها إلا بعد مناشدة العهد الذى أخذ عليهن، فإن ثبت بعد إنشاده قُتل، واعتلوا بحديث أبى سعيد الخدرى أن النبى عليه السلام قال: (إن بالمدينة جنا قد أسلموا، فإن رأيتم منها شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنه شيطان) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 493 قال الطبرى: وجميع هذه الأخبار عن النبى عليه السلام حق وصدق، وليس فى شىء منها خلاف لصاحبه، والرواية عن النبى عليه السلام أنه أمر بقتل الحيات من غير استثناء شىء منها خبر مجمل، بَّين معناه الخبرُ الآخر أن النبى عليه السلام نهى عن قتل جنان البُيوت وعوامرها إلا بعد النشدة بالعهود والمواثيق التى أخذ عليها حذار الإصابة، فأقل ذلك شيئًا من التمثل بالحيات، فيلحقه من مكروه ذلك ما لحق الفتى المعرس بأهله، إذ قتل الحية التى وجدها على فراشه قبل مناشدته إياها، وذلك أنه ربما تمثل بعض الجن ببعض صور الحيات، فيظهر لأعين بنى آدم، كما روى ابن أبى مليكة عن عائشة بنت طلحة، أن عائشة أم المؤمنين رأت يومًا فى مغتسلها حية فقتلتها، فأتيت فى منامها فقيل لها: إنك قتلت مسلمًا. فقالت: لو كان مسلمًا ما دخل على أمهات المؤمنين. فقيل: ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك. فأصبحت فزعة، ففرقت فى المساكين اثنا عشر ألفا. وقال ابن نافع: لا ينذر عوامر البيوت إلا بالمدينة خاصة على ظاهر الحديث. وقال مالك: أحب إلى أن تنذر عوامر البيوت بالمدينة وغيرها، وذلك بالمدينة أوجب، ولا ينذر فى الصحارى. وقال غيره: المدينة وغيرها سواء فى الإنذار؛ لأن العلة إسلام الجن، ولا يحل قتل مسلم جنى ولا إنسى. قال المهلب: فى تسمية النبى (صلى الله عليه وسلم) الوزغ: فواسقًا ما يدل على عقرها، كما سمى العقورات كلها: فواسق، وقد روى الدراوردى عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعد بن أبى وقاص (أن النبى عليه السلام أمر بقتل الوزغ) ولكن الحديث مرسل؛ لأن ابن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 494 شهاب بينه وبين سعد رجل، وذكر ابن المواز عن مالك قال: سمعت أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر بقتل الوزغ، فأما المحرم فلا يقتلها؛ فإن قتلها رأيت أن يتصدق مثل شحمة الأرض. قيل له: وقد أذن الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى قتلها؟ قال: وكثير مما أذن الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى قتله لا يقتله المحرم. وروى ابن القاسم وابن وهب، عن مالك قال: لا أرى أن يقتل المحرم الوزغ؛ لأنه ليس من الجنس الذى أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بقتلهن؛ فإن قتلها تصدق. قال: ولا يقتل المحرم قردًا ولا خنزيرًا ولا الحية الصغيرة ولا صغار السباع. وقال الشافعى: ما يجوز للمحرم قتله فصغاره وكباره سواء لا شىء عليه فى قتلها. وقال مالك فى الموطأ: ولا يقتل المحرمُ ما ضَرَّ من الطير إلا ما سَمَّى الرسولُ (صلى الله عليه وسلم) : الغراب والحدأة، فإن قتل غيرهما من الطير فَدَاهُ. قال إسماعيل: واختلف المدنيون فى الزنبور، فشبهه بعضهم بالحية والعقرب، فإن عرض لإنسان فدفعه عن نفسه لم يكن عليه فيه شئ. وذكر ابن المنذر أن عمر بن الخطاب كان يأمر بقتله، وقال عطاء وأحمد: لا جزاء فيه. وقال بعضهم: يُطعم شيئًا. قال إسماعيل: وإنما لم يدخل أولاد الكلب العقور فى حكمه؛ لأنهن لا يعقرن فى صغرهن، وقد سمى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الخمس فواسق، والفواسق: فواعل، والصغار لا فعل لهن. وقال الخطابى: أصل الفسق الخروج عن الشئ، ومنه قوله: (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف: 50] أى: خرج، وسمى الرجل فاسقًا لانسلاخه من الخير. وقال ابن قتيبة: لا أرى الغراب سماه فاسقًا إلا لتخلفه عن أمر نوح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 495 حين أرسله، ووقوعه على الجيفة وعصيانه إياه. وحكى عن الفراء أنه قال: ما أحسب الفأرة سميت فويسقة إلا لخروجها من جحرها على الناس. قال أبو سليمان: ولا يعجبنى واحد من القولين، وقد بقى عليهما أن يقولا مثل ذلك فى الحدأة والكلب، إذ كان هذا النعت يجمعهما، وهذا اللقب يلزمهما لزومه الغراب والفأرة، وإنما أراد والله أعلم بالفسق الخروج من الحرمة، يقول: خمس لا حرمة لهن، ولا بغيًا عليهن، ولا فدية على المحرم فيهن إذا أصابهن، وإنما أباح قتلهن لعاديتهن. وفيه: وجه آخر، وهو أن يكون أراد بتفسيقها تحريم أكلها، كقوله تعالى وقد ذكر المحرمات: (ذَلِكُمْ فِسْقٌ) [المائدة: 3] يدل على صحة هذا ما رواه المسعودى، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، عن النبى عليه السلام قال: (الغراب فاسق. فقال رجل من القوم: أيؤكل لحم الغراب؟ قالت: لا، ومن يأكله بعد قوله: فاسق) . وروت عمرة مثله عن عائشة وقالت: والله ما هو من الطيبات، تريد قوله تعالى: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ) [الأعراف: 157] ومما يدل على أن الغراب يقذر لحمه قول الشاعر: فما لحم الغراب لنا بزاد ولا سرطان أنهار البريص 2 - باب لا يُعْضَدُ شَجَرُ الْحَرَمِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ) . / 246 - فيه: أَبُو شُرَيْح، أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 496 مَكَّةَ: ائْذَنْ لِى أَيُّهَا الأمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِلْغَدِ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِى، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَاىَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلا يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً. . .) الحديث إلى قوله: (أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلا فَارًّا بِدَمٍ، وَلا فَارًّا بِخُرْبَةٍ) . قال الطبرى: معنى قوله عليه السلام: (لا يعضد بها شجرة) يعنى: لا يفسد ولا يقطع، وأصله من عضد الرجلُ الرجلَ، إذا أصاب عضده ذلك، عضد فلان فلانًا يعضد عضدًا، وفى كتاب العين: العضد من السيوف: الممتهن فى قطع الشجر. قال الطبرى: لا يجوز قطع أغصان شجر مكة التى أنشأها الله فيها مما لا صنع فيه لبنى آدم، إذا لم يجز قطع أغصانها فقطع شجرها بالنهى عن ذلك أولى. وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على تحريم قطع شجر الحرم، واختلفوا فيما يجب على من قطعها، فذهب مالك إلى أنه لا يجب عليه إلا الاستغفار، وهو مذهب عطاء، وبه قال أبو ثور، وذكر الطبرى عن عمر بن الخطاب مثل معناه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن قطع ما أنبته آدمى فلا شىء عليه، وإن قطع ما أنبته الله كان عليه الجزاء حلالا كان أو حرامًا، فإن بلغ هديًا كان هديًا، وإن قُوم طعامًا فأطعم كل مسكين نصف صاع. وقال الشافعى: عليه الجزاء فى الجميع، المحرم والجلال فى ذلك سواء، فى الشجرة الكبيرة بقرة، وفى الخشب قيمته ما بلغت دمًا كان أو طعاما. وحكى بعض أصحاب الشافعى أن مذهبه كمذهب أبى حنيفة فيما أنبته الآدمى، ذكره ابن القصار، واحتجوا بقوله عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 497 السلام: (لا يقطع شجرها) قالوا: وهذا نهى يقتضى التحريم، وإذا ثبت تحريمه وجب فيه الجزاء كالصيد. قال ابن القصار: فيقال لهم: النهى عن قطعه لا يدل على وجوب الجزاء، كالنهى عن تنفير الصيد والإشارة والمعاونة عليه، وقد روى أن عمر بن الخطاب رأى رجلا يقطع من شجر الحرم، فسأله: لِمَ تقطعه؟ فقال: لا نفقة معى، فأعطاه نفقةً ولم يوجب عليه شيئًا. ولو كان قطع الشجر كالصيد لوجب على المحرم إذا قطعها فى حل أو حرم كما يجب فى الصيد. قال ابن المنذر: ولا أجد دلالة أوجب بها فى شجر الحرم شيئًا من كتاب ولا سنة ولا إجماع، وبقول مالك أقول، وأجمع العلماء على إباحة أخذ كل ما ينبته الناس فى الحرم من البقول والزرع والرياحين وغيرها، فوجب أن يكون ما يغرسه الناس من النخيل والشجر مباح قطعه؛ لأن ذلك بمنزلة الزرع الذى يزرعونه، فقطعه جائز، وما يجوز قطعه فمحال أن يكون فيه جزاء، هذا يقال للشافعى، فإن قال: فأوجب الجزاء فيما أنبته الله. قيل: لا أجد دلالة أُوجب بها ذلك من كتاب ولا سنة ولا إجماع، فوجب رَدُّ ما أنبته الله إلى ما أنبته الآدمى فى سقوط الجزاء. وقوله: (فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا) اختلف العلماء فيمن أصاب حدا فى غير الحرم من قتل أو زنا أو سرقة، ثم لجأ إلى الحرم، هل تنفعه استعاذته؟ فقالت طائفة: لا يجالس ولا يبايع ولا يكلم ولا [. . . . . .] حتى يخرج منه، فيؤخذ بالواجب لله عليه، وإن أتى حدا فى الحرم أقيم عليه فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 498 روى ذلك عن ابن عباس، وهو قول عطاء والشعبى والحكم، وعلة هذه المقالة ظاهر قوله تعالى: (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 97] قالوا: فجعل الله حرمه آمنا لمن دخله، فداخله آمن من كل شىء وجب عليه قبل دخوله حتى يخرج منه، وأما من كان فيه فأتى فيه حدا فالواجب على السلطان أخذه به؛ لأنه ليس ممن دخله من غيره. قاله الطحاوى والطبرى. قال الطبرى: وعلتهم فى أنه لا يكلم ولا يبايع حتى يخرج من الحرم أنه لما كان غير محظور عليهم، كان لهم فعله؛ ليكون سببًا إلى خروجه وأخذ الحدِّ منه. وقال آخرون: لا يُخرج من لجأ إلى الحرم حتى يخرج منه فيقام عليه الحد، ولم يحظروا مبايعته ولا مجالسته. روى ذلك عن ابن عمر، وقال: لو وجدت قاتل عمر فى الحرم ما هجته. وعلة هذه المقالة أن الله جعل الحرم أَمنا لمن دخله، ومن كان خائفًا وقوع الاحتيال عليه، فإنه غير آمن، فغير جائز إخافته بالمعانى التى تضطره إلى الخروج منه لأخذه بالعقوبة التى هرب من أجلها. وقال آخرون: من أتى فى الحرم ما يجب به عليه الحد؛ فإنه يقام عليه ذلك فيه، ومن أتاه فى غيره فدخله مستجيرًا به، فإنه يُخرج منه ويُقام عليه الحد. روى ذلك عن ابن الزبير والحسن ومجاهد وعطاء وحماد، وعلة هذه المقالة أن الله جعل الحرم لمن دخله أمنةً من أن يعاقب فيه، ولم يجعله أمنةً من الجزاء الذى أوجبه عن من فعله. وذكر الطحاوى عن أبى يوسف قال: الحرم لا يجير ظالمًا، وإن من لجأ إليه أقيم عليه الحد الذى وجب قبل أن يلجأ إليه. ويشبه هذا أن يكون مذهب عمرو بن سعيد لقوله: (إن الحرم لا يعيذ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 499 عاصيًا ولا فارا بخُرْبة) فلم ينكر ذلك عليه أبو شريح، وقال قتادة فى قوله تعالى: (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 97] كان ذلك فى الجاهلية، فأما اليوم فلو سرق فى الحرم قُطع، ولو قَتل فيه قُتل، ولو قُدر فيه على المشركين قُتلوا، ولا يمنع الحرم من إقامة الحدود عند مالك، واحتج بعض أصحابه بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة من القتل، وهذا القول أولى بالصواب؛ لأن الله تعالى أمر بقطع السارق، وجلد الزانى، وأوجب القصاص أمرًا مطلقا ولم يخص به مكانا دون مكان، وفإقامة الحدود تجب فى كل مكان على ظاهر الكتاب. ومما يشهد لذلك أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بقتل الفواسق المؤذية فى الحرم، فقام الدليل من هذا أن كل فاسق استعاذ بالحرم أنه يقتل بجريرته، ويؤخذ بقصاص جُرْمه. وقال إسماعيل بن إسحاق: وقد أنزل الله الحدود والأحكام على العموم بين الناس، فلا يجوز أن يترك حكم الله فى حرم ولا غيره؛ لأن الذى حرم الحرم هو الذى حرم معاصيه أن ترتكب، وأوجب فيها من الأحكام ما أوجب. وسيأتى طرف من هذه المسألة فى باب: من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، فى كتاب الديات إن شاء الله. وذكر الطحاوى عن أبى حنيفة وزفر وأبى يوسف ومحمد كقول ابن عباس، إلا أنهم يجعلون ذلك أمانا فى كل حد يأتى على النفس من حدود الله وحدود عباده، مثل أن يزنى وهو محصن، أو يرتد عن الإسلام، أو يقتل رجلا عمدًا، أو يقطع طريق المسلمين، فيجب عليه القتل فيلجأ إلى الحرم فيدخله، ولا يجعلون ذلك على الحدود التى لا تأتى على النفس، كقطع السارق والقود فى قطع الأيدى وشبهها، والتعزير الواجب بالأقوال الموجبة للعقوبات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 500 قال الطحاوي: ولا وجه لتفريقهم بين الحدود التى تأتى على النفس وبين التى تأتى عليها؛ لأن الحرم إن كان دخوله يؤمن عند العقوبات فى الأنفس، ويؤمن فيما دونها، وإن كان لا يؤمن من العقوبات فيما دون الأنفس فلا يؤمن منها فى الأنفس، ولم يفرق ابن عباس بين شىء من ذلك، فقوله أولى من قول أبى حنيفة وأصحابه لا سيما ولا يُعلم أحد من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) خالفه فى قوله. 3 - باب لا يُنَفَّرُ صَيْدُ الْحَرَمِ / 247 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِيّ، عليه السَّلام: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِى، وَلا تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدِى، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِى سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ لا يُخْتَلَى خَلاهَا، وَلا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلا لِمُعَرِّفٍ) ، وَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلا الإذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا، فَقَالَ: (إِلا الإذْخِرَ) . فَقَالَ عِكْرِمَةَ: يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، هُوَ أَنْ يُنَحِّيَهُ مِنَ الظِّلِّ يَنْزِلُ مَكَانَهُ. قال الطبرى: فيه البيان البين أن صيد الحرم حرام اصطياده، وذلك أن النبى عليه السلام إذ نهى عن تنفير صيده؛ فاصطياده أوكد فى التحريم من تنفيره. فإن قيل: أفنقول: إن نفر صيده فعليه الجزاء؟ قيل: إن أداه تنفيره سببًا إلى هلاكه لم يجب عليه شىء غير التوبة، ولا خلاف فى هذا بين الفقهاء. وقد روى عن عطاء أنه من أخذ طائرًا فى الحرم ثم أرسله قال: يطعم شيئًا لما نفره. وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه لا شىء فى التنفير، روى شعبة عن الحكم، عن شيخ من أهل مكة أن حمامًا كان على البيت فذرق على يد عمر، فأشار عمر بيده فطار، فوقع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 501 على بعض بيوت مكة، فجاءت حية فأكلته، فحكم عمر على نفسه بشاة، فلم ير عمر لما نفر الحمامة عليه شيئًا حتى تلفت، ورأى أن تلفها كان منسبب تنفيره، وإنما استجاز عمر تنفيره من الموضع الذى كان واقفًا عليه مع علمه أن تنفيره صيده غير جائز؛ لأنه ذرق على يده، فكان له طرده عن الموضع الذى يلحقه أذاه فى كونه فيه، وكذلك كان عطاء يقول فى معنى ذلك. قال ابن جريح: قلت لعطاء: كم فى بيضة الحمام؟ قال: نصف درهم، فقال له إنسان: بيضة وجدتها على فراشى أميطها عنه؟ قال: نعم. قال: وجدتها فى سهوة وفى مكان من البيت؟ قال: لا تمطها. فرأى عطاء إن أماط عن فراشه بيضة من بيض حمام غير حرج، ولا لازم بإماطته إياها شئ؛ لأن مِنْ تِرْكه إياها على فراشه عليه أذى، ولم ير جائزًا إماطتها عن الموضع الذى لا أذى عليه فى كونها فيه، فكذلك كان فعل عمر فى إطارته الحمامة التى ذرقت على يده من الموضع الذى كانت واقفة عليه. وقوله: (لا يختلى خلاها) يريد لا يقطع عشبها، والخلى مقصور: كل كلأ رطب؛ فإذا يبس كان حشيشًا، قال الطبرى: واتفق الفقهاء أن نهيه عليه السلام عن اختلاء خلاها، هو مما ينبت فيه مما أنبته الله ولم يكن لآدمى فيه صنع، فأما ما أنبته الآدميون فلا بأس باختلائه. واختلف السلف فى الرعى فى خلاها، هل هو داخل فى نهيه عليه السلام عن الاختلاء أم لا؟ فقال بعضهم: ذلك غير داخل فى النهى عن الاختلاء، ولا بأس بالرعى فيها. روى ذلك عن عطاء وطاوس ومجاهد وابن أبى ليلى، قالوا: لا بأس بالرعى فى الحرم إلا أنه لا يخبط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 502 قال المؤلف: وحكى ابن المنذر مثله عن أبى يوسف والشافعى. قال الطبرى: وعلة هذه المقالة أن النهى إنما ورد فى الاختلاء دون الرعى فيها، والراعى غير مختل؛ لأن المختلى هو الذى يقطع الخلى بنفسه. وقال آخرون: لا يجوز الرعى فيها؛ لأن الرعى أكثر من الاختلاء. هذا قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد، قالوا: لو جاز أن يرعى فيها جاز أن يحتش فيه إلا الإذخر خاصة. وقال مالك: لا يحتش أحد لدابة. واعتلوا بقوله عليه السلام: (لا يختلى خلاها) واختلاؤه: استهلاك له وإماتة، وإرعاء المواشى فيه أكثر من احتشاشه فى الاستهلاك. فإن قيل: فقد قلتم إن العلماء متفقون على أن النهى من الاختلاء المراد به ما أنبته الله لم بكن لآدمى فيه صنع، فكيف جوزتم اجتناء الكمأة، وهى مما أنبته الله تعالى ولا صنع فيها لبنى آدم؟ فيقال له: إنما أجزنا ذلك؛ لأن الكمأة لا يقع عليها اسم شجر ولا حشيش، وفى إجماع الجميع على أنه لا بأس بشرب مياه آبار والانتفاع بترابه، الدليل الواضح على أن ما أحدث الله فى حرمه مطلق أخذه والانتفاع به كالمكأة؛ لأنها لا تستحق اسم كلأ ولا شجر، وإنما هى كبعض ما خلق فيها من الحجر والمدر والمياه؛ إذ لا أصل لها ثابت. فإن قيل: كيف ساغ للعباس أن يسأل النبى (صلى الله عليه وسلم) استثناء الإذخر، وهو يسمعه يحرم الاختلاء وقطع الشجر؟ قيل: فى ذلك جوابان: قال المهلب: يحتمل أن يكون تحريم مكة خاصَّةً من تحريم الله تعالى ويكون سائر ما ذكر فى الحديث من تحريم الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فلذلك استثنى الإذخر، ولو كان من تحريم الله ما استبيح منه إذخر ولا غيره، وقد تأتى فى آية وفى حديث أشياء فرض، ومنها سنة، ومنها رغبة، ويكون الكلام فيها كل واحد، قال الله تعالى: (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 503 وَإِيتَاء ذِى الْقُرْبَى) [النحل: 90] والعدل فرض، والإحسان وإيتاء ذى القربى وسنن ورغائب، ومثله قوله عليه السلام: (إذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد) نافلة. وفيها قول آخر: يحتمل أن يكون تحريم مكة وكل ما ذكر فى الحديث من تحريم الله، ويكون وجه استثنائه عليه السلام تحليل الإذخر دون استعلام الله تحليل ذلك؛ لأن الله قد كان قد أعلم نبيه فى كتابه بتحليل المحرمات عند الضرورات، فمنها أن الله حرم الميتة والدم ولحم الخنزير وسائر ما فى الآية وأحلها لعباده عند اضطرارهم إليها بقوله: (فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المائدة: 3] فلما كان هذا أصلا من أصول الشريعة قد أنزله الله فى كتابه على رسوله (صلى الله عليه وسلم) ، وأخبره العباس أن الإذخر لا غنى بالناس عنه لقبورهم وبيوتهم وصاغتهم، حكم النبى عليه السلام بكم المباحات عند الضرورات، وهذا تأويل حسن. 4 - باب لا يَحِلُّ الْقِتَالُ بِمَكَّةَ / 248 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ: (لا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا، فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ، وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأحَدٍ قَبْلِى، وَلَمْ يَحِلَّ لِى إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ. . .) الحديث. قال الطبرى: فيه الإبانة عن أن مكة غير جائز استحلالها، ولا نصب الحرب عليها لقتال بعد ما حرمها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى قيام الساعة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 504 وذلك أنه عليه السلام أخبر حين فرغ من أمر المشركين بها أنها لله حرم، وأنها لم تحل لأحد قبله، ولا تحل لأحد بعده بعد تلك الساعة التى حارب فيها المشركين، وأنها قد عادت حرمتها كما كانت، فكان معلوم بقوله هذا أنها لا تحل لأحد بعده بالمعنى الذى أحلت له به، وذلك محاربة أهلها وقتالهم وردهم عن دينهم. قال المؤلف: إن قال قائل: قد رأينا الحَجَّاج وغيره قاتل مكة ونصب الحرب عليها، وأن القرمطى الكافر قلع الحجر الأسود منها وأمسكه سبعة عشر عامًا، فما وجه ذلك؟ قيل له: معناه بَيِّن بحمد الله، وذلك أن الحَجَّاج وكل من نصب الحرب عليها بعد الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يكن ذلك مباحًا ولا حلالا كما حل للنبى عليه السلام وليس قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (وقد عادت حرمتها كما كانت، ولا يحل القتال بها لأحد بعدى) . أن هذا لا يقع ولا يكون، وقد يَرِدُ ذلك، وقد أنذرنا عليه السلام أن ذا السويقين من الحبشة يهدم الكعبة حَجَرًا حَجَرًا، وإنما معناه أن قتالها ونصب الحرب عليها حرام بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) على كل أحد إلى يوم القيامة، وأن من استباح ذلك فقد ركب ذنبًا عظيمًا، واستحل محرمًا شنيعًا. قال الطبرى: فإن قيل: فلو ارتد مرتد بمكة، أو ارتد قوم فيها فمنع أهلها السلطان من إقامة الحد عليه، أيجوز للسلطان بها حربهم وقتالهم حتى يصل إلى من يجب عليه إقامة الحد؟ قيل: يجوز ذلك، ولكن يجب على الإمام الاحتيال لإخراجهم من الحرم حتى يقيم عليهم ما أوجبه الله فيهم، والحيلة فى ذلك حصار مانعيهم، والحول بينهم وبين وصول الطعام إليهم وما يُطرون مع فقده إلى إمكان السلطان منهم وممن لزمه حَدُّ الله تعالى حتى يخرج من الحرم ويقام عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 505 5 - باب الْحِجَامَةِ لِلْمُحْرِم وَكَوَى ابْنُ عُمَرَ ابْنَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَيَتَدَاوَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ. / 249 - فيه: ابْن عَبَّاس، احْتَجَمَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، وَهُوَ مُحْرِمٌ. / 250 - وفيه: ابْن بُحَيْنَةَ، قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُحْرِمٌ، بِلَحْىِ جَمَلٍ فِى وَسَطِ رَأْسِهِ. قوله: (بلحى جمل) هو مكان بطريق مكة، واختلف العلماء فى الحجامة للمحرم، فرخص فيها عطاء ومسروق وإبراهيم وطاوس والشعبى، وهو قول الثورى والشافعى وأحمد وإسحاق، وأخذوا بظاهر هذا الحديث، وقالوا: ما لم يقطع الشعر. وقال قوم: لا يحتجم المحرم إلا من ضرورة. روى ذلك عن ابن عمر، وبه قال مالك، وحجة هذا القول أن بعض الرواة يقول إن النبى (صلى الله عليه وسلم) احتجم لضرر كان به، رواه هشام بن حسان عن عكرمة، عن ابن عباس (أن النبى عليه السلام إنما احتجم وهو محرم فى رأسه لأذى كان به) . ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز له حلق شىء من شعر رأسه حتى يرمى جمرة العقبة يوم النحر إلا من ضرورة، وأنه إن حلقه من ضرورة فعليه الفدية التى قضى بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على كعب بن عجرة، وإن لم يحلق المحتجم شعرًا فهو كالعرق يقطعه، أو الدمل يبطه، أو القرحة ينكأها، ولا يضره ذلك، ولا شىء عليه فيه عند جماعة العلماء. وقال الطبرى: فيه من الفقه الإبانة أن للمحرم إذا احتاج إلى إخراج الجزء: 4 ¦ الصفحة: 506 دمه: الاحتجامَ والفصدَ ما لم يقطع شعرًا، وأن له العلاج لكل ما عرض له من علة فى جسده بما رجى دفع مكروهها عنه من الأدوية بَعْدَ ألا يأتى فى ذلك ما هو محظور عليه فى حال إحرامه، ثم لا يلزمه بكل ما فعل من ذلك فدية ولا كفارة، وكذلك له بط دمل وقلع ضرس إن اشتكاه؛ لأن النبى عليه السلام احتجم فى حال إحرامه لحاجته إلى ذلك، ثم لم ينقل عنه ناقل أنه حظر ذلك على أحد من أمته ولا أنه افتدى، فبان بذلك أن كل ما كان نظير الحجامة التى هى إخراج الدم من جسده فله فعله، ونظير ذلك بط الحدس، وقلع الضرس، وفصد العِرْق، وقطع الظفر الذى انقطع فتعلق فآذى صاحبه، أن على المحرم قلعه، ولا يلزمه لذلك كفارة ولا فدية. وقال ابن المنذر: أجمعوا أن للمحرم أن يزيل عن نفسه ما انكسر من أظفاره، وأجمعوا أنه ممنوع من أخذ أظفاره، وذكر عن الكوفيين أن المحرم إذا أصابه فى أظافيره أذى فقصها يكفر بأى الكفارات شاء. وقال أبو ثور: فيها قولان: أحدهما: قول الكوفيين، والثانى: لا شىء عليه، بمنزلة الظفر ينكسر. وقال ابن القاسم: لا شىء عليه إذا أراد أن يداوى قرحة فلم يقدر على ذلك إلا أن يقلم أظفاره. وقال ابن عباس: إذا وجعه ضرسه ينزعه، فإن الله لا يصنع بأذاكم، وكذلك إذا انكسر ظفره، وقاله عطاء وإبراهيم وسعيد بن المسيب، وقال عطاء: ينتقش الشوكة من رجله ويداوى جرحه. وقال عطاء: إن أصابته شجة فلا بأس أن يأخذ ما حولها من الشعر، ثم يداويها بما ليس فيه طيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 507 6 - باب تَزْوِيجِ الْمُحْرِمِ / 251 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ. اختلف الآثار فى تزويج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ميمونة، فروى ابن عباس أنه تزوجها وهو محرم، وروى أنه تزوجها وهو حلال، والروايات فى ذلك متواترة عن أبى رافع مولى النبى عليه السلام وعن سليمان ابن يسار وهو مولاها، وعن يزيد الأصم وهو ابن أختها. فمنها حديث ميمون بن مهران، عن يزيد بن الأصم قال: حدثتنى ميمونة بنت الحارث: (أن النبى عليه السلام تزوجها وهو خلال) قال يزيد: كانت خالتى، وخالة ابن عباس. وجمهور علماء المدينة يقولون: لم ينكح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ميمونة إلا وهو حلال. روى مالك، عن ربيعة، عن سليمان بن يسار (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعث أبا رافع مولاه ورجلاً من الأنصار يزوجاه ميمونة بنت الحارث، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالمدينة قبل أن يخرج) . واختلف الفقهاء فى ذلك من أجل اختلاف الآثار، فذهب أهل المدينة إلى أن المحرم لا يَنكح غيره، فإن فعل فالنكاح باطل، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلى، وزيد بن ثابت، وابن عمر. وبه قال مالك، والليث، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد. واحتجوا أيضًا بحديث مالك، عن نبيه بن وهب، عن أبان ابن عثمان، عن عثمان بن عفان قال: سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: (لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب) . وذهب الثورى والكوفيون إلى أنه يجوز للمحرم أن ينكح وينكح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 508 غيره، وهو قول ابن مسعود وابن عباس وأنس بن مالك، ذكره الطحاوى، وروى عن القاسم بن محمد والنخعى، وحجتهم حديث ابن عباس وقالوا: الفروج لا تحل إلا بنكاح أو بشراء، والأُمَّة مجمعة على أن المحرم يملك ذلك بشراء وهبة وميراث ولا يبطل ملكه، فكذلك إذا ملكه بنكاح لا يبطل ملكه قياسًا على الشراء، عن الطبرى، قال: والصواب عندنا أن نكاح المحرم فاسد يجب فسخه لصحة الخير عن عثمان، عن النبى عليه السلام بالنهى عن ذلك، وخبر ابن عباس أن النبى عليه السلام تزوج ميمونة وهو محرم. فقد عارضهم فيه غيرهم من الصحابة وقالوا: تزوجها وهو حلال، فلم يكن قول القائلين: تزوجها وهو محرم أولى من قول القائلين تزوجها وهو حلال. وقد قال سعيد بن المسيب: وَهِمَ ابن عباس وإن كانت بخالته، ما تزوجها إلا بعد ما أحل، وحدثنى يعقوب، حدثنى ابن علية، حدثنى أيوب قال: أنبئت أن الاختلاف إنما كان فى نكاح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ميمونة: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعث العباس بين يديه لينكحها إياه فأنكحه. قال بعضهم: أنكحها قبل أن يحرم، وقال بعضهم: أنكحها قبل أن يحرم، وقال بعضهم: بعدما أحرم. وقد ثبت أن عُمر وعليا وزيدًا فرقوا بين محرم نكح وبين امرأته، ولا يكون هذا إلا عن صحة ويقين. وأما قياسهم النكاح على الشراء؛ فإن الذين أفسدوا نكاح المحرم لم يفسدوه من جهة القياس والاستنباط، فلتزمهم المقاييس والنظائر والأشباءه، وإنما أفسدوه من جهة الخبر الوارد عن النبى عليه السلام بالنهى عن ذلك، فالذى ينبغى لمخالفيهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 509 أن يناظروهم من جهة الخبر؛ فإن ثبت لزمهم التسليم له، وإن بطل صاروا حينئذٍ إلى استخراج الحكم فيه من المثال والأشباه، فأما والخبر ثابت بالنهى عن النكاح فلا وجه للمقايسة فيه. 7 - بَاب مَا يُنْهَى مِنَ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لا تَلْبَسِ الْمُحْرِمَةُ ثَوْبًا بِوَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ. / 252 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ رَجُل: مَاذَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ مِنَ الثِّيَابِ. فَقَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (لا تَلْبَسُوا الْقَمِيصَ، وَلا السَّرَاوِيلاتِ. . .) إلى قوله: (وَلا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ، وَلا وَرْسُ. . .) الحديث. / 253 - وفيه: ابْن عَبَّاس، وَقَصَتْ بِرَجُلٍ مُحْرِمٍ نَاقَتُهُ، فَقَتَلَتْهُ، فَأُتِىَ بِهِ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (اغْسِلُوهُ، وَكَفِّنُوهُ، وَلا تُغَطُّوا رَأْسَهُ، وَلا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يوم القيامة يُهِلُّ) . قال الطحاوى: ذهب قوم إلى هذه الآثار، فقالوا: كل ثوب مسه ورس أو زعفران، فلا يحل لبسه فى الإحرام، وإن غُسل؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يبين فى هذه الآثار ما غسل فى ذلك مما لم يغسل. وخالفهم فى ذلك آخرون، فقالوا: ما غسل من ذلك حتى لا ينفض فلا بأس بلبسه فى الإحرام؛ لأن الثوب الذى صُبغ إنما نهى عن لبسه فى حال الإحرام لما كان فى دخله مما هو حرام على المحرم، فإذا غسل وذهب ذلك المعنى منه عاد الثوب إلى أصله الأول، كالثوب الذى تصيبه النجاسة، فإذا طهر حلت الصلاة فيه. قال ابن المنذر: وممن رخص فى ذلك: سعيد بن المسيب، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 510 والنخعى، والحسن البصرى، وعطاء، وطاوس، وبه قال الكوفيون والشافعى وأبو ثور، وكان مالك يكره ذلك إلا أن يكون غُسل وذهب لونه. قال الطحاوى: وقد روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه استثناه مِمَّا حرمه على المحرم من ذلك فقال: (إلا أن يكون غسيلا) حدثناه فهد، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا أبو معاوية وحدثنا ابن أبى عمران، حدثنا عبد الرحمن بن صالح الزدى، عن أبى معاوية، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبى عليه السلام بمثل حديثه الذى فى الباب، فثبت بهذا استثناء الغسيل مما قد مسه ورس أو زعفران. قال ابن أبى عمران: رأيت يحيى بن معين يتعجب من الحمانى إذ حدث بها الحديث. وقال عبد الرحمن بن صالح: هذا عندى. فوثب من فَوْرِه، فجاء بأصله، فأخرج منه هذا الحديث عن أبى معاوية كما ذكره الحمانى فكتبه عنه يحيى بن معين. 8 - باب الاغْتِسَالِ الْمُحْرِمِ قَالَ ابْنُ عَبَّاس: يَدْخُلُ الْمُحْرِمُ الْحَمَّامَ، وَلَمْ يَرَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ بِالْحَكِّ بَأْسًا. / 254 - فيه: ابْن عَبَّاس، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، أنهما اخْتَلَفَا بِالأبْوَاءِ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ، فَقَالَ الْمِسْوَرُ: لا، فَأَرْسَلَنِى ابْنُ عَبَّاس إِلَى أَبِى أَيُّوبَ الأنْصَارِىِّ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ، وَهُوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 511 فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَنِى إِلَيْكَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَبَّاس، أَسْأَلُكَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَغْسِلُ رَأْسَهُ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ، فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِى رَأْسُهُ، ثُمَّ قَالَ لإنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ: اصْبُبْ، فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُهُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يَفْعَلُ. اختلف العلماء فى غسل المحرم رأسه، فذهب أبو حنيفة والثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق إلى أنه لا بأس بذلك، ورويت الرخصة فى ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس وجابر، وعليه الجمهور، وحجتهم حديث أبى أيوب، وكان مالك يكره ذلك للمحرم، وذكر أن عبد الله بن عمر كان لا يغسل رأسه إلا من الاحتلام. قال مالك: فإذا رمى جمرة العقبة فقد حل له قتل القمل وحلق الشعر وإلقاء التفث، وهو الذى سمعته من اهل العلم. وروى عن سعد بن عبادة مثل قول مالك، وكان أشهب وابن وهب يتغاطسان فى الماء وهما محرمان مخالفة لابن القاسم، وكان ابن القاسم يقول: إن غمس رأسه فى الماء أطعم خوفًا من قتل الدواب، ولا يجب الفداء إلا بيقين، وغير ذلك استحباب، ولا بأس عند جميع أصحاب مالك أن يصب المحرم على رأسه للحرِّ يجده. قال أشهب: غمس المحرم رأسه فى الماء وما يخاف فى الغمس ينبغى أن يخاف مثله فى صب الماء على الرأس من الحرِّ. وقد قال عمر بن الخطاب ليعلى بن منبه حين كان عمر يغسل رأسه ويعلى يصب عليه: اصبب فلن يزيده الماء إلا شعثًا، يعنى: إذا لم يغسل بغير الماء؛ ألا ترى فعل أبى أيوب حين صب على رأسه الماء حركه بيديه، ولم ير ذلك مما ذهب الشعث، ومثله قوله عليه السلام لعائشة: (انقضى رأسك فى غسلك وامتشطى. .) أى: امشطيه بأصابعك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 512 وخلليه بها، فإن ذلك لا يذهب الشعث، وإن شعثه لا يمنعك من المبالغة فى غسل رأسك؛ لأن الماء لا يزيده إلا شعثًا. فابن عباس أفقه من المسور لموافقته النبى عليه السلام وأصحابه، قاله أبو عبد الله بن أبى صفرة. وأما إن غسل رأسه بالخطمى والسدر، فإن الفقهاء يكرهون ذلك، هذا قول مالك وأبى حنيفة والشافعى، وأوجب مالك وأبو حنيفة عليه الفدية، وقال أبو ثور: لا شىء عليه. وقد رخص عطاء وطاوس ومجاهد لمن لُبِّد رأسه فشق عليه الحلق أن يغسله بالخطمى حتى يلين، وكان ابن عمر يفعل ذلك. قال ابن المنذر: وذلك جائز؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمرهم أن يغسلوا الميت المحرم بماء وسدر، وأمرهم أن يجنبوه ما يجتنب الحى، فدل ذلك على إباحة غسل رأس المحرم بالسدر، والخطمى فى معناه. وأجاز الكوفيون والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق للمحرم دخول الحمام. وقال مالك: إن دخل الحمام فتدلك وأنقى الوسخ فعليه الفدية، وقال ابن وهب: القرنان هما الرِّجْلان اللذان فى جنبتى البئر. وفيه من الفقه: أن الصحابة إذا اختلفوا لم يكن الحجة فى قول أحد منهم إلا بدليل يجب التسليم له من الكتاب أو السنة، كما نزع أبو أيوب بالسنة، ففَلَج ابن عباس المسور. وفيه من الفقه: التناظر فى المسائل والتحاكم فيها إلى الشيوخ العالمين بها. وقوله فى الترجمة: ولم ير ابن عمر وعائشة بالحك بأسًا يعنى: حك جلده إذا أكله. وقال عطاء: يحك الحب فى جلده وإن أدماه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 513 9 - باب لُبْسِ الْخُفَّيْنِ لِلْمُحْرِمِ إِذَا لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ / 255 - فيه: ابْنَ عَبَّاس، خطب النَّبِىّ، عليه السَّلام، بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ: (مَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ. . .) الحديث. / 256 - وفيه: ابْن عُمرَ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ. . .؟ إلى قوله: (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ) . اختلفوا إذا احتاج إلى لبس الخفين عند عدم النعلين وقطعهما. فقال مالك والشافعى: لا فدية عليه، وأخذا بحديث ابن عمر، وقال أبو حنيفة: عليه الفدية. وهذا مخالف للحديث، واحتج أصحابه وقالوا: إن النبى عليه السلام أباح له لباس السراويل عند عدم الإزار، وذلك يوجب فيه الفدية. فقال ابن القصار: الفرق بينهما أن الخف أُمِرَ بقطعه حتى لا يصير فى معنى النعلين التى لا فدية فى لبسهما، والسراويل لم يمر بفتقه لئلا تنكشف عورته، فبقى فى حكم القميص المخيط، ولو أمر بفتقه لصار فى معنى الخف إذا قطع. قال ابن القصار: والحجة لمالك قوله عليه السلام: (وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين) ولو وجبت الفدية مع قطعهما وتركهما لم يكن لقطعهما فائدة؛ لأنه إتلاف من غير فائدة، وإنما قطعهما ليصيرا فى معنى النعلين حتى لا تجب فدية، ولا يدخل النقص فيجبر بالفدية، ولو وجبت الفدية بلبسه بعد القطع كما تجب بلبسه قبل القطع لم يأمر عليه السلام بالقطع؛ لأن لبسه بعد القطع كلبسه قبله، فلما جوز له لبسه بعد القطع ولم يجوزه قبله؛ علم أنه إذا لبسه بعد القطع كان مخالفًا لحكمه إذا لبسه قبل القطع فى الفدية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 514 0 - باب إِذَا لَمْ يَجِدِ الإزَارَ فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ / 257 - فيه: ابْن عَبَّاس، خَطَبَنَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ: (مَنْ لَمْ يَجِدِ الإزَارَ فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ. . .) الحديث. أجمعوا أن المحرم إذا وجد إزارًا لم يجز له لبس السراويل. واختلفوا إذا لم يجد إزارًا؛ فقال عطاء والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور: يلبسه ولا شىء عليه. وأخذوا بحديث ابن عباس. وقال مالك وأبو حنيفة: عليه الفدية إذا لبسها سواء وجد إزارًا أم لا إلا أنه يشقها ويتزر بها. خَالَفا ظاهر الحديث. وقال الطحاوى: يحتمل قوله عليه السلام: (من لم يجد إزارًا فليلبس سراويل) على أن يشق السراويل فيلبسها كما يلبس الإزار، كما يفعل بالخفين يقطعهما أسفل من الكعبين ويلبسهما كما يلبس النعلين، فإن كان أريد بالحديث هذا المعنى فلسنا نخالفه بل نقول به، وإنما الخلاف فى التأويل لا فى نفس الحديث. وأما النظر فى ذلك؛ فإنا رأيناهم لم يختلفوا أن من وجد إزارًا أن لبس السراويل غير مباح له؛ لأن الإحرام قد منعه من ذلك، فأردنا أن نعلم هل يوجب لبس ذلك للضرورة كفارة أم لا؟ فرأينا الإحرام ينهى عن أشياء قد كانت مباحة منها لبس العمائم والقمص والسراويلات، وكان من اضطر فوجد الحر يغطى رأسه، أو وجد البرد فلبس ثيابه؛ أنه قد فعل ما هو مباح له وعليه مع ذلك الكفارة، وكذلك حرّم عليه الإحرامُ حلقَ رأسِه إلا من ضرورة، وقد وجدنا من حلق رأسه للضرورة فعل ما هو مباح له والكفارة عليه واجبة، فكذلك لبس السراويل لا يُسقط لباسُه للضرورة الكفارة، وإنما تسقط الآثام خاصة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 515 قال ابن القصار: واحتج المخالفون فقالوا: لا يخلو أن يكون أراد عليه السلام جواز لبس السراويل عند الحاجة أو سقوط الفدية فى لبسه، فلا يجوز أن يكون أراد جواز لبسه عند الحاجة خاصة، وقصد ذلك باستثناء السراويل من جملة المخيط؛ وحملُه على ذلك إسقاط لفائدة تخصيص السراويل واستثنائِه من الجملة، فلم يبق إلا أنه أراد سقوط الفدية فى لبسه. فقال لهم الآخرون: إنما اختص السراويل بالإباحة من جملة المخيط عند عدم الإزار؛ لأن افزار المقصود منه ستر العورة التى هى مكان السراويل، ولا يجوز كشف ذلك الموضع، وموضع القميص من أعلاه يجوز كشفه، فالضرورة فى السراويل أشد منها فى القميص، فهذه فائدة، فإذا لبسه ستر عورته وبقى سائر جسده مكشوفًا بحكم الإحرام، فلم تسقط الفدية كما لم تسقط فى الحلق والطيب للعذر . 181 - باب لُبْسِ السِّلاحِ لِلْمُحْرِمِ قَالَ عِكْرِمَةُ: إِذَا خَشِىَ الْعَدُوَّ لَبِسَ السِّلاحَ وَافْتَدَى، وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ فِى الْفِدْيَةِ. / 258 - فيه: الْبَرَاء، اعْتَمَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فِى ذِى الْقَعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قَاضَاهُمْ لا يُدْخِلُ مَكَّةَ سِلاحًا إِلا فِى الْقِرَابِ. قال المهلب: كان هذا فى عام القضية. وفيه من الفقه: جواز حمل المحرم السلاح فى الحج والعمرة إذا كان خوف واحتيج إليها، وأجاز ذلك عطاء ومالك والشافعى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 516 وكرهه الحسن البصرى، وهذا الحديث حجة على الحسن فى كراهيته وعلى عكرمة فى إيجاب الفدية فى ذلك. 2 - باب دُخُولِ الْحَرَمِ وَمَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ وَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ، وَإِنَّمَا أَمَرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) بِالإهْلالِ لِمَنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ لِلْحَطَّابِينَ وَغَيْرِهِمْ. / 259 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَّتَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلأهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ. / 260 - وفيه: أَنَس، دَخَلَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: (اقْتُلُوهُ) . قال ابن القصار: اختلف قول مالك والشافعى فى جواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يُرِدْ الحج والعمرة فقالا مرَّةً: لا يجوز دخولها إلا بإحرام؛ لاختصاصها ومباينتها جميع البلدان إلا الحطابين ومن قرب منها مثل جدة والطائف وعسفان لكثرة ترددهم عليها، وبه قال أبو حنيفة والليث. وقالا مَرَّةً أخرى: دخولها بلإحرام استحباب لا واجب. قال المؤلف: وإلى هذا القول ذهب البخارى، وله احتج بقوله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 517 عليه السلام: (ولكل آت أتى عليهن ممن أراد الحج والعمرة) فدل هذا أن من لم يرد الحج والعمرة فليست ميقاتًا له، واستدل أيضًا بدخوله عليه السلام عام الفتح وعلى رأسه المغفر وهو غير محرم، وبهذا احتج ابن شهاب، ولم يره خصوصًا للرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وأجاز دخول مكة بغير إحرام، وهو قول أهل الظاهر. وقال الطحاوى: قول أبى حنيفة وأصحابه فى أن من كان منزله فى بعض المواقيت أو دونها إلى مكة فله أن يدخل مكة بغير إحرام، ومن كان منزله قبل المواقيت لم يدخل مكة إلا الإحرام، وأخذوا فى ذلك بما روى عن عمر أنه خرج من مكة وهو يريد المدينة، فلما كان قريبًا من قديد بلغه خبر من المدينة فرجع فدخل حلالا. وقال آخرون: حكم أهل المواقيت كحكم من كان قبلها. قال الطحاوى: وليس النظر قول أصحابنا؛ لأننا رأينا من يريد الإحرام إذا جاوز المواقيت حلالا حتى فرغ من حجه ولم يرجع إلى المواقيت كان عليه دم، ومن أحرم من المواقيت كان محسنًا، وكذلك من أحرم قبلها، فلما كان الإحرام من المواقيت كحكم الإحرام مما قبلها لا فى حكم الإحرام مما بعدها؛ ثبت أن حكم المواقيت كحكم ما قبلها لا كحكم ما بعدها، فلا يجوز لأهلها من دخول الحرم إلا ما يجوز لأهل الأمصار التى قبل المواقيت، فانتفى بهذا ما قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، ووجدنا الآثار تدل على خصوص الرسول (صلى الله عليه وسلم) بدخولها غير محرم بقوله: (إنما أحلت لى ساعة من نهار فلا تحل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 518 لأحد بعدى، وقد عادت حرامًا إلى يوم القيامة) فلا يجوز لأحد أن يدخلها إلا بإحرام؛ وهو قول ابن عباس والقاسم والحسن البصرى. قال المؤلف: والصحيح فى معنى قوله: (لا تحل لأحد) يريد بمثل المعنى الذى حل للنبى عليه السلام وهو محاربة أهلها وقتالهم وردهم عن دينهم، على ما تقدم فى باب (لا يحل القتال بمكة) عن الطبرى. وهو أحسن من قول الطحاوى أن الذى خص به عليه السلام دخول مكة بغير إحرام. واحتج من أجاز دخولها بغير إحرام أن فرض الحج مرة فى الدهر، وكذلك العمرة وهى مرة فى الأبد، فمن أوجب على الداخل مكة إحرامًا فقد أوجب عليه ما أوجبه الله. وفى قتل النبى (صلى الله عليه وسلم) لابن خطل فى الفتح حجة لمن قال أن النبى (صلى الله عليه وسلم) دخل مكة عنوة، وهو قول مالك وأبى حنيفة وجماعة المتقدمين والمتأخرين، وقال الشافعى وحده: فتحت صلحًا. وفائدة الخلاف فى هذه المسألة ما ذهب إليه مالك والكوفيون أن الغانمين لا يملكون الغنائم ملكًا مستقرا بنفس الغنيمة وأنه يجوز للإمام أن يمنَّ ويعفو عن جملة الغنائم كما منَّ على الأسرى وهم من جملة الغنائم، ولا خلاف بينهم أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) مَنَّ على أهل مكة وعفا عن أموالهم كلها. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: إنما قتل ابن خطل؛ لأنه كان يسب النبى (صلى الله عليه وسلم) وقد عفا عن غيره ذلك اليوم ممن كان يسبه، فلم ينتفع ابن خطل باستعاذته بالبيت ولا بالتعلق بأستار الكعبة، فدل ذلك على العنوة، وعلى أن الحدود تقام بمكة على من وجبت عليهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 519 فإن قيل: فإن قوله يوم الفتح: (من دخل البيت فهو آمن، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن) يعارض قتله لابن خطل يوم الفتح. فالجواب: أنه لا معارضة بينهما؛ لما رواه ابن أبى شيبة قال: حدثنا أحمد بن مفضل، حدثنا أسباط بن نصر وقال: زعم السدى عن مصعب، عن سعد، عن أبيه قال: (لما كان يوم فتح مكة أَمَّنَ النبى عليه السلام الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال: اقتلوهم إن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبى جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح) . وسأذكر شيئًا من معنى فتح مكة فى كتاب الجهاد فى حديث ابن خطل فى باب: قتل الأسير والصبر. واستدل المالكيون من حديث ابن خطل أن من سب النبى يُقتل ولا يستتاب كما فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) بابن خطل. 3 - باب إِذَا أَحْرَمَ جَاهِلا وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ جَاهِلا أَوْ نَاسِيًا فَلا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. / 261 - فيه: يَعْلَى، أتى النَّبِىّ، عليه السَّلام، رَجُلٌ عَلَيْهِ جُبَّةٌ، وبهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ، فَقَالَ: (انزع الجبة، واصْنَعْ فِى عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِى حَجِّكَ) . هذا الباب رد على الكوفى والمزنى فى قولهم أنه من لبس أو تطيب ناسيًا فعليه الفدية على كل حال، وقولهم خلاف لهذا الحديث؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يأمر الرجل بالكفارة عن لباسه وتطيبه قبل علمه بالنهى عن ذلك، وإنما تلزم الكفارة من تعمد فعل ما نُهى عنه فى إحرامه، ولو لزمه شىء لبيَّنه له عليه السلام، وأمره به ولم يجز أن يؤخر ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 520 وذهب مالك إلى أن من تطيب أو لبس فنزع اللباس وغسل الطيب فى الحال فلا شىء عليه. وقال الشافعى: لا شىء عليه وإن طال وانتفع. والشافعى أشد موافقة للحديث؛ لأن الرجل كان أحرم فى الجبة المطيبة، فسأل الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك فلم يجبه حتى أوحى إليه وسُرى عنه، فطال انتفاع الرجل باللبس والطيب ولم يوجب عليه النبى عليه السلام كفارة، وقول مالك احتياط؛ لأن الحلق والوطء والصيد نُهى عنه المحرم، وحُكْمُ العمد والسهو فيها سواء إذا وقعت، وكذلك الصوم لو أكل فيه وهو ساهٍ لفسد الصوم، فكذلك الحج. وفى هذا الحديث رد على من زعم أن الرجل إذا احرم وعليه قميص أنَّ له أن يشقه، وقال: لا ينبغى أن ينزعه؛ لأنه إذا فعل ذلك فقد غطى رأسه وذلك لا يجوز له، فلذلك أُمر بشقه، وممن قال هذا: الحسن والشعبى والنخعى وسعيد بن جبير. وجميع فقهاء الأمصار يقولون: من نسى فأحرم وعليه قميص أنه ينزعه ولا يشقه. واحتجوا بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمر الرجل بأن ينزع الجبة ولم يأمره بشقها، وهو قول عكرمة وعطاء. وقد ثبت عنه عليه السلام أنه نهى عن إضاعة المال، والحجة فى السنة لا فيما خالفها. قال الطحاوى: وليس نزع القميص بمنزلة اللباس؛ لأن المحرم لو حمل على رأسه ثيابًا أو غيرها لم يكن بذلك بأس ولم يدخل بذلك فيما نهى عنه من تغطية الرأس بالقلانس وشبهها؛ لأنه غير لابس؛ فكان النهى إنما وقع من ذلك على ما يلبسه الرأس لا على ما يغطى به، وكذلك الأبدان إنما نُهى عن إلباسها القمص ولم يُنه عن تجليلها بالإزار؛ لأن ذلك ليس بلباس المخيط، ومن نزع قميصه فَلاقَى ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 521 رأسه فليس ذلك بإلباس منه شيئًا، فثبت بهذا أن النهى عن تغطية الرأس فى الإحرام المعهود فى الإحلال إذا تعمد فعل ما نهى عنه من ذلك قياسًا ونظرًا. 4 - باب الْمُحْرِمِ يَمُوتُ بِعَرَفَةَ وَلَمْ يَأْمُرِ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَنْ يُؤَدَّى عَنْهُ بَقِيَّةُ الْحَجِّ / 262 - فيه: ابْن عَبَّاس، بَيْنَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، بِعَرَفَةَ؛ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ، أَوْ قَالَ: فَأَقْعَصَتْهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِى ثَوْبَيْنِ، أَوْ قَالَ: ثَوْبَيْهِ، وَلا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّى) . قال المهلب: يدل أنه لا يحج أحد عن أحدٍ؛ لأن الحج من أعمال الأبدان كالصلاة لا تصح فيها النيابة عن غيره، ولو صح فيها النيابة لأمر النبى عليه السلام بإتمام الحج عن هذا، كما أنه قد يمكن ألا يتبع بما بقى عليه من الحج فى الآخرة والله أعلم لأنه قد بلغ جهده وطاقته ووقع أجره على الله بقوله: (فإنه يبعث يوم القيامة) . قال المؤلف: وفيه دليل أن من شرع فى عمل من عمل الطاعات وصحت فيه نيته الله، وحال بينه وبين تمامه الموت؛ فإن الرجاء قوى أن الله قد كتبه فى الآخرة من أهل ذلك العمل وتقبله منه، ويشهد لهذا قوله تعالى: (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ) [النساء: 100] أنه لا يُقطع على أحد بعينه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 522 بهذا ولا أنه بمنزلة ذلك الموقوص، ولذلك قال كثير من اهل العلم: إن هذا الحديث خاص فى الموقوص، وإن سنة المحرم أنه إذا مات يخمر رأسه ويطيب ويفعل به ما يفعل بالمبيت الحلال، ولا يجنب ما يجتنبه المحرم، هذا قول مالك وأبى حنيفة وأصحابه والأوزاعى، وبذلك أخذ ابن عمر حين توفى ابنه بالجحفة وهو محرم، خمر رأسه ووجهه وقال: لولا أنا حُرم لطيَّبْنَاهُ. لأنه لم يقطع ابن عمر أن ابنه بمنزلة الموقوص الذى أخبر عليه السلام أنه يبعث يوم القيامة ملبيًا. وبهذا قالت عائشة، ولم يأخذوا بحديث الموقوص، وأخذ به الشافعى وقال: لا يخمر رأس المحرم ولا يطيب اتباعًا لظاهر حديث ابن عباس. وهو قول عثمان وعلى بن أبى طالب وابن عباس. واحتج الذين رأوا الحديث خاصا فى الموقوص بعينه أن من مات بعده فى حال الإحرام، لا يعلم هل يُقبل حَجُّه؟ وهل يبعث يوم القيامة ملبيًا أم لا؟ ولا يُقطع على غير ذلك إلا بوحى، فافترقا فى المعنى، واحتج مالك كذلك فقال: إنما يعمل الرجل ما دام حيا، فإذا مات انقطع عمله. قال الأصيلى: ثبت الخبر عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إذا مات الرجل انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد يدعو له، أو علم ينتشر عنه، أو صدقة موقوفة بعده) . 5 - بَاب الْحَجِّ وَالنُّذرِ عَنِ الْمَيِّتِ وَالرَّجُلُ يَحُجُّ عَنِ الْمَرْأَةِ / 263 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّى نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 523 عَنْهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، حُجِّى عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ) . اختلف العلماء فى الرجل يموت وعليه حجة الإسلام أو حجةُ نذرٍ؛ فقالت طائفة: يجوز أن يُحج عنه وإن لم يُوصِ بذلك، ويُجزئه. روى ذلك عن ابن عباس وأبى هريرة، وهو قول عطاء وابن سيرين ومكحول وسعيد بن المسيب وطاوس، وبه قال الأوزاعى وأبو حنيفة والشافعى وأبو ثور. وقالت طائفة: لا يَحج أحد عن أحدٍ، روى ذلك عن ابن عمر والقاسم بن محمد والنخعى. وقال مالك والليث: لا يَحج أحد عن أحدٍ إلا عن ميت لم يحج الإسلام ولا ينوب عن فرضه. فإن أوصى بذلك الميت؛ فعند مالك وأبى حنيفة يُخرج من ثلثه. وهو قول النخعى. وعند الشافعى يخرج من رأس ماله. وحجة أهل المقالة الأولى حديث ابن عباس قالوا: ألا ترى أن النبى عليه السلام شبه الحج بالدَّيْن، يجوز أن يقضيه عنه غيرهُ، أوصى بذلك أو لم يُوص؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يشترط فى إجازته ذلك، إن كان من أمها لها فذلك أمرها، ولو كان ذلك غير قاض عن أمها لكان عليه السلام قد أعلمها أن ذلك غير جائز، إلا أن تحج عنها بأمرها فلما أعلمها عليه السلام أن ذلك قضاء عنها صح أن ذلك مجزئ عمن حج عنه ممن عجز عن أدائه فى حياته، وسبيل ذلك قضاء دين على رجل أن ذلك براءة للمقضى عنه بأمر الله، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 524 كان عليه أو بغير أمره، وتشبيه الرسول (صلى الله عليه وسلم) ذلك بالدَّيْن يدل أن ذلك عليه من جميع ماله ثلثه كسائر الديون، قاله الطبرى، وذكر ابن المنذر أن عائشة اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن بعد موته. وحجة من منع الحج عن غيره أن الحج عمل الإنسان ببدنه، وقد أجمعوا أنه لا يُصلِّى أحد عن أحدٍ فكذلك الحج. قال ابن القصار: والدليل على أنه لا يَحجُّ أحد عن أحدٍ قوله عليه السلام: (أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنت قاضيه) ؟ إنما سألها: هل كنت تفعلين ذلك تطوعًا؟ لأنه لا يجب عليها أن تقضى دين أمها إذا لم يكن لها تَركَة؛ لأن الحج من عمل الأبدان وهى عبادة لا تصح النيابة مع القدرة ولا مع العجز فى حال الحياة فلم يصح بعد الممات، دليله الصلاة. وأما قول البخارى فى الترجمة: والرجل يحج عن المرأة. وأدخل حديث المرأة التى سألت النبى (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك، فكان ينبغى أن يقول: والمرأة تحج عن المرأة. فالجواب عن ذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) خاطب المرأة بخطاب دخل فيه الرجال والنساء، وهو قوله: (اقضوا الله) ، وهذا يصح للمذكر والمؤنث، ولا خلاف فى حج الرجل عن المرأة، والمرأة عن الرجل، إلا الحسن ابن صالح، وسأذكر قوله فى الباب بعد هذا إن شاء الله. 6 - باب الْحَجِّ عَمَّنْ لا يَسْتَطِيعُ الثُّبُوتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ / 264 - فيه: ابْن عَبَّاس، عن الفضل، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِى شَيْخًا كَبِيرًا لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِىَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَهَلْ يَقْضِى عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: (نَعَمْ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 525 وترجم له: (باب: حج المرأة عن الرجل) . واختلف العلماء فى الذى لا يستطيع أن يستوى على الراحلة لكبرٍ أو ضعف أو زمانة، فذكر الطبرى أن رجلا أتى على بن أبى طالب فقال: كبرتُ وضعفتُ وفرطت فى الحج. فقال: إن شئت فجهزت رجلا فحج عنك. وقال مالك: لا يلزمه فرض الحج أصلا وإن وجد المال وأمكنه أن يحمل من يحج عنه. وقال أبو حنيفة والشافعى: هو مستطيع يلزمه أن يحج غيره يؤذى عنه الحج. واختلفا فقال الشافعى: إذا بذل له ابنه الطاعة وهو غير واجد للمال؛ فإنه يحج عنه ويلزمه فرض الحج. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه إلا إذا كان وزاجدًا للمال يمكنه أن يحمل غيره يحج عنه. واحتج أصحاب أبى حنيفة والشافعى بحديث الخثعمية. قال: وفى الحديث دليلان على وجوب الحج على المغضوب: أحدها: أنها قالت: (إن فريضة الله فى الحج أدركت أبى) فأقرها الرسول (صلى الله عليه وسلم) على ذلك، ولو لم يلزمه وهى قد ادَّعَت وجوبه على أبيها بحضرته لأنكره عليه السلام. والثانى: أنه شبهه بالدَّيْن فى رواية عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار (أن النبى عليه السلام حين أمر أن يحج عن الشيخ الكبير، قيل: أوَ ينفعه ذلك؟ قال: نعم، كما يكون على أحدكم الدَّيْن فيقضيه) . ولهذا: الدَّيْنُ الذى يُقضى عن الإنسان يكون واجبًا عليه، ومن قضاه أسقط الفرض والمأَثم، فكذلك يجب أن يكون الحج، مَنْ قضاه أسقط الفرض والمأثم جميعًا لقولها: (فهل يقضى عنه أن أحج عنه؟) وروى عبد الرزاق: (أيفعه أن أحج عنه؟ قال: نعم) . قال ابن القصار: ولا دلالة لهم فيه؛ لأنها قالت: (إن فريضة الله على عباده فى الحج أدركت أبى) ولم تقل: فرضت على أبى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 526 وإنما قالت: إنها نزلت وأبى شيخ. أى: فرضت فى وقتٍ أبى كبير لا يلزمه فرضها، فلم ينكر عليه السلام قولها، وقد يمكن أنها وهمت أن الذى فرض على العباد يجوز أن يدخل فيه أبوها غير أنه لا يقدر على الأداء. ولا يمتنع أن يتعلق الوجوب بشرطية القدرة على الداء، فيكون الفرض وجب على أبيها ثم وقت الداء كان عاجزًا؛ لأن الإنسان لو كان واجدًا للراحلة والزاد، وكان قادرًا ببدنه؛ لم يمتنع أن يقال له فى الحرم: قد فرض عليك الحج، فإن بقيت على ما أنت عليه إلى وقت الحج لزمك الداء وإلا سقط عنك. ونحن نعلم أنه فرض تراخى عن وقت الحج المضيق، وإنما سألته فى وقت الداء عن ذلك، وقولها: (أفأحج عنه؟ قال: نعم) لا يدل على أن الأداء كان مقدرًا عليه فسقط بفعلها، ولكنه أراد عليه السلام أنها إن فعلت ذلك لحقه ثواب ما [. . . . . .] من دعائها فى الحج، كما لو تطوعت بقضاء دينه، لا أنه مثل الدين فى الحقيقة؛ لأن الدين حق لآدمى يسقط بالإبراء ويؤدى عنه مع القدرة والعجز بأمره مع الصحة وغير أمره، ولو كان كالدين كان إذا حجت عنه ثم قوى وصح سقط عنه، كما يقضى دين المعسر. وفى حديث الخثعمية جواز حج المرأة عن الرجل، وأجازه جماعة الفقهاء إلا الحسن بن صالح؛ فإنه قال: لا يجوز. واعتل بأن المرأة تلبس الثياب فى الإحرام والرجل لا يلبسها. قال ابن المنذر: وهذه غفلة وخروج عن ظاهر السنة؛ لأن النبى عليه السلام أمر المرأة أن تحج عن أبيها، وعلى هذا يعتمد من أجاز الحج عن غيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 527 واختلفوا فى المريض يأمر من يحج عنه، ثم يصح بعد ذلك وتعذّر؛ فقال الكوفيون والشافعى وأبو ثور: لا يجزئه، وعليه أن يحج. وقال أحمد وإسحاق: يجزئه الحج عنه. وكذلك إن مات من مرضه وقد حُج عنه، فقال الكوفيون وأبو ثور: يجزئه من حجة الإسلام. وقال الشافعى فيها قولان: أحدهما: هذا. والثانى: لا يجزئ عنه. وهو أصح القولين. 187 - باب حَجِّ الصِّبْيَانِ / 265 - فيه: ابْن عَبَّاس، بَعَثَنِى الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فِى الثَّقَلِ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ. / 266 - وفيه: أَقْبَلْتُ، وَقَدْ نَاهَزْتُ الْحُلُمَ، أَسِيرُ عَلَى أَتَانٍ لِى، وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَائِمٌ يُصَلِّى بِمِنًى، حَتَّى سِرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ الأوَّلِ، ثُمَّ نَزَلْتُ عَنْهَا فَرَتَعَتْ، فَصَفَفْتُ مَعَ النَّاسِ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِمِنًى فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ. / 267 - وفيه: السَّائِب، حُجَّ بِى مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ. اتفق أئمة الفتوى على سقوط فرض الحج عن الصبى حتى يبلغ؛ لقوله عليه السلام: (رفع القلم عن الصبى حتى يبلغ) إلا أنه إذا حُجَّ به كان له تطوعًا عند مالك والشافعى وجماعة من العلماء وعلى هذا المعنى حمل العلماء أحاديث هذا الباب. وقال أبو حنيفة: لا يصح إحرامه ولا يلزمه شىء إن فعل من محظورات الإحرام، وإنما يُفعل به ذلك، ويجنب محظوراته على وجه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 528 التعليم له والتمرين عليه، كما قالوا فى صلاته أنها لا تكون صلاة أصلا، وشذ من لا يُعد خلافه فقال: إذا حَج الصبى قبل بلوغه أجزأه ذلك عن حجة افسلام ولم يكن عليه أن يحج بعد بلوغه، واحتج بحديث ابن عباس: (أن امرأة سألت النبى عليه السلام عن صبى: هل لهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر) ذكره الطحاوى. قال ابن القصار: والحجة على أبى حنيفة فى نفيه عنه حج التطوع ما رواه ابن عباس من قول المرأة: (ألهذا حج يا رسول الله؟ قال: نعم، ولك أجر) فأضاف الحج الشرعى إليه فوجب أن يتعلق به أحكامه، وأكد هذا بقوله: (ولك أجر) أخبر أنها تستحق الثواب عن إحجابه، وهذا مذهب ابن عباس وابن عمر وعائشة. وقد روى عن ابن عباس أنه قال لرجل حج بابنٍ صبىٍّ له أصاب حمامًا فى الحرم: اذْبَحْ عن ابنك شاة. وأجمع العلماء أن جنايات الصبيان لازمة لهم فى أموالهم، قال الطحاوى: وتاويل الحديث عندنا أن النبى عليه السلام أوجب للصبى حجا وهذا مما قد أجمع الناس عليه، ولم يختلفوا أن للصبى حجا كما أن له صلاة، وليست تلك الصلاة بفريضة عليه، فكذلك يجوز أن يكون حجات ولا يكون فريضة عليه، وإنما هذا الحديث حجة على من زعم أنه لا حج للصبى، وأما من يقول أن له حجا وأنه غير فريضة فلم يخالف الحديث، وإنما خالف تأويل مخالفه خاصة. وقال الطبرى: جعل له (صلى الله عليه وسلم) حجا مضافًا كما يضاف إليه القيام والقعود والأكل والشرب، وإن لم يكن ذلك من فعله على الوجه الذى يفعله أهل التمييز باختيار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 529 قال الطحاوى: هذا ابن عباس وهو راوى الحديث قد صرف حج الصبى إلى غير الفريضة، حدثنا ابن خزيمة، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن أبى السفر قال: سمعت ابن عباس يقول: يا أيها الناس، أسمعونى ما تقولون، ولا تخرجوا تقولوا: قال ابن عباس، أيما غلام حَج به أهلُه فمات فقد قضى حجة الإسلام، فإن عُتق فعليه الحج. وقد أجمعوا أن صبيا لو دخل وقت صلاة فصلاها، ثم بلغ بعد ذلك فى وقتها أن عليه أن يعيدها، فكذلك الحج، وذكر الطبرى: أن هذا تأويل سلف الأمة، وروى أن أبا بكر الصديق حج بابن الزبير فى [. . . . . .] ، وقال عمر: أحجوا هذه الذرية. فكان ابن عمر يجرد صبيانه عند الإحرام ويقف بهم المواقيف وكانت عائشة تفعل ذلك وفعله عروة بن الزبير، قال عطاء: يجرد الصغير ويلبى عنه، ويجنب ما يجنب الكبير ويقضى عنه كل شىء إلا الصلاة، فإن عقل الصلاة صلاها، فإذا بلغ وجب عليه الحج. واختلفوا فى الصبى والعبد يحرمان بالحج ثم يحتلم الصبى ويُعتق العبد قبل الوقوف بعرفة؛ فقال مالك: لا سبيل إلى رفض الإحرام ويتماديان عليه ولا يجزئهما عن حجة الإسلام. وقال الشافعى: إذا نويا بإحرامهما المتقدم حجة الإسلام أجزأ عنهما. وعند مالك: أنهما لو استأنفا الإحرام قبل الوقوف بعرفة أنه لا يجزئهما من حجة الإسلام. وهو قول أبى حنيفة؛ لأنه يصح عنده رفض الإحرام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 530 وحجة مالك أن الله تعالى أمر كل من دخل فى حج أو عمرة بإتمامه تطوعًا كان أو فرضًا؛ لقوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] ومن رفض إحرامه فلم يتم حجه ولا عمرته. وحجة الشافعى فى إسقاط تجديد النية أنه جائز عنده لكل من نوى بإهلاله أن يصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر أصحابه المهلين بالحج أن يفسخوه فى عمرة، فدل أن النية فى الإحرام ليست كالنية فى الصلاة، وحجة أبى حنيفة: أن الحج الذى كان فيه لما لم يكن يجزئ عنده ولم يكن الفرض لازمًا له فى حين إحرامه، ثم لما لزمه حين بلغ، استحال أن يشتغل عن فرض قد تعين عليه بنافلة ويعطل فرضه، كمن دخل فى نافلة، فأقيمت عليه مكتوبة وخشى فوتها قطع النافلة ودخل فى المكتوبة وأحرم لها، فكذلك الحج يلزمه أن يجدد له الإحرام؛ لأنه لم يكن للفريضة. 8 - باب حَجِّ النِّسَاءِ وَأَذِنَ عُمَرُ لأزْوَاجِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فِى آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا، فَبَعَثَ مَعَهُنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَعَبْدَالرَّحْمَنِ. / 268 - فيه: عَائِشَةُ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا نَغْزُو وَنُجَاهِدُ مَعَكُمْ؟ فَقَالَ: (لَكِنَّ أَحْسَنَ الْجِهَادِ وَأَجْمَلَهُ الْحَجُّ، حَجٌّ مَبْرُورٌ) ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَلا أَدَعُ الْحَجَّ بَعْدَ إِذْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ النَّبِىّ، عليه السَّلام (صلى الله عليه وسلم) . / 269 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (لا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ إِلا مَعَ ذِى مَحْرَمٍ، وَلا يَدْخُلُ عَلَيْهَا رَجُلٌ إِلا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ) ، فَقَالَ: رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى أُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ فِى جَيْشِ كَذَا وَكَذَا، وَامْرَأَتِى تُرِيدُ الْحَجَّ، فَقَالَ: (اخْرُجْ مَعَهَا) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 531 / 270 - وفيه: ابْن عَبَّاس، لَمَّا رَجَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) مِنْ حَجَّتِهِ، قَالَ لأمِّ سِنَانٍ: مَا مَنَعَكِ مِنَ الْحَجِّ. . .؟ الحديث. قال المهلب: قوله عليه السلام: (لكنَّ أفضل الجهاد حج مبرور) يبطل إفك المتشيعين وكذب الرافضيين فيما اختلقوه من الكذب على النبى عليه السلام أنه قال لأزواجه فى حجة الوداع: (هذه، ثم ظهور الحصر) . وهذا ظاهر الاختلاق؛ لأنه عليه السلام حَضَّهُنَّ على الحج وبَشَّرَهُنَّ أنه أفضل جهادهن، وأذن عمر لهن فى الحج، ومسير عثمان وغيره من أئمة الهدى معهن حجة قاطعة على الإجماع على ما كُذِبَ به على النبى عليه السلام فى أمر عائشة والتسبب إلى عرضها المطهر، وكذلك قولهم: (فتقاتلى عليا وأنت له ظالمة؟) إفك وباطل لا يصح، وأما سفرها إلى مكة مع غير ذى محرم منها من النسب؛ فالمسلمون كلهم أبناؤها وذوو محارمها بكتاب الله تعالى كيف وإنها كانت تخرج فى رفقة مأمونة وخدمة كافية؟ هذه الحال ترفع تحريج الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن النساء المسافرات بغير ذى محرم، كذلك قال مالك والأوزاعى والشافعى: تخرج المرأة فى حجة الفريضة مع جماعة النساء فى رفقة مأمونة وإن لم يكن معها محرم، وجمهور العلماء على جواز ذلك، وكان ابن عمر يحج معه نسوة من جيرانه، وهو قول عطاء وسعيد بن جبير وابن سيرين والحسن البصرى، وقال الحسن: المسلم محرم، ولعل بعض من ليس بمحرمٍ أوثق من المحرم. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تحج المرأة إلا مع ذى محرم. وهو قول أحمد وإسحاق وأبى ثور، حملوا نهيه على العموم فى كل سفر، وحمله مالك وجمهور الفقهاء على الخصوص، وأن المراد بالنهى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 532 الأسفار غير الواجبة عليها بعموم قوله تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران: 97] فدخلت المرأة فى عموم هذا الخطاب ولزمها فرض الحج، ولا يجوز أن تُمنع المرأة من الفروض كما لا تمنع من الصلاة والصيام؛ ألا ترى أن عليها أن تهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام إذا أسلمت فيه بعير محرم، وكذلك كل واجبٍ عليها أن تخرج فيه، فثبت بهذا أن نهيه عليه السلام أن تسافر المرأة مع غير ذى محرم أنه أراد بذلك سفرًا غير واجب عليها، والله أعلم. واتفق الفقهاء أَن لْيسَ للرجل منع زوجته حجة الفريضة، تخرج للحج بغير إذنه، وللشافعى قول أنها لا تخرج إلا بإذنه، وأصح قوليه ما وافق فيه سائر العلماء، وقد أجمعوا أنه لا يمنعها من صلاة ولا من صيام، فكذلك الحج. وسيأتى فى كتاب الجهاد فى باب: من اكتتب فى جيش فخرجت امرأته حاجَّة، أن معنى قوله عليه السلام: (ارجع فاحجج مع امرأتك) أنه محمول على الندب لا على الوجوب. 9 - باب مَنْ نَذَرَ الْمَشْىَ إِلَى الْكَعْبَةِ / 271 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ، قَالَ: (مَا بَالُ هَذَا) ؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ، قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ) . / 272 - وفيه: عُقْبَةَ، قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِى أَنْ تَمْشِىَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَأَمَرَتْنِى أَنْ أَسْتَفْتِىَ لَهَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 533 أخذ أهل الظاهر بحديث أنس وعقبة بن عامر وقالوا: من عجز عن المشى فلا هدى عليه اتباعًا للسنة فى ذلك، قالوا: ولا يثبت شىء فى الذمة إلا بيقين، وليس المشى مما يوجب نذرًا؛ لأن فيه تعب الأبدان، وليس الماشى فى حال مشيه فى حرمة إحرام، فلم يجب عليه المشى ولا بدل منه. وأما سائر الفقهاء فإن لهم فى هذه المسألة ثلاثة أقوال غير هذه: الأول: روى عن على بن أبى طالب وابن عمر أن من نذر المشى إلى بيت الله فعجز، أنه يمشى ما استطاع، فإذا عجز ركب وأهدى. وهو قول عطاء والحسن، وبه قال أبو حنيفة والشافعى، إلا أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: وكذلك إن ركب وهو غير عاجز، قالوا: ويكفر يمينه لحنثه كما حكاه الطحاوى عنه، وقال الشافعى: الهدى فى هذه المسألة احتياط من قِبَل أنه من لم يُطِقْ شيئًا سقط عنه، وحجتهم ما رواه همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن عقبة ابن عامر (أن أخته نذرت المشى إلى بيت الله، فسأل الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك، فقال: إن الله لغنى عن نذر أختك، فلتركب ولتُهد) . والقول الثانى: يعود ثم يحج مرة أخرى، ثم يمشى مَا ركبَ ولا هَدْى عليه، هذا قول ابن عمر، ذكره مالك فى (الموطأ) ، وروى عن ابن عباس وابن الزبير والنخعى وسعيد بن جبير. والقول الثالث: يعود فيمشى ما ركب وعليه الهدى، روى عن ابن عباس أيضًا، وروى عن سعيد بن المسيب والنخعى، وهو قول مالك، جمع عليه الأمرين: المشى والهدى؛ احتياطًا لموضع تفريقه المشى الذى كان يلزمه فى سفر واحد، فجعله فى سفرين قياسًا على التمتع والقران، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 534 قال المؤلف: ويمكن أن يُتأولَ حديثُ أنسٍ وعُقبةَ بوجهٍ موافقٍ لفقهاء الأمصار، حتى لا ينفرد أهل الظاهر بالقول بهما وذلك أن فى نصهما ما يبيِّن المعنى فيهما، وهو أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) رأى شيخًا يهادى بين ابنيه فقال: (إن الله لغنى عن تعذيب هذا نفسه) فبان واتضح أنه كان غير قادر على المشى، وممن لا ترجى له القدرة عليه، ومن كان غير قادر على شىء سقط عنه. والعلماء متفقون أن الوفاء بالنذر إنما يكون فيما هو لله طاعة، والوفاء به بِر، ولا طاعة ولا بِرَّ فى تعذيب أحدٍ نفسهَ، فكأن هذا الناذر على نفسه ما لا يقدر على الوفاء به، وكان فى معنى أبى إسرائيل الذى نذر ليقومن فى الشمس ولا يستظل ويصوم ذلك اليوم فأمره عليه السلام بكفارة وقد روى فى حديث عقبة بن عامر ما يدل أن أخته كانت غير قادرة على المشى، فلذلك لم يأمرها عليها السلام بالهَدْى. روى الطبرى قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، حدثنا الفضيل بن سليمان، حدثنا محمد بن أبى يحيى الأسلمى، حدثنا إسحاق بن سالم، عن عقبة بن عامر (أن أخته نذرت أن تمشى إلى الكعبة، وهى امرأة ثقيلة، والمشى يشق عليها، فذكر ذلك عقبة للنبى عليه السلام فقال: إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا، مُرها فلتركب) فصح التأويل أنها نذرت وهى فى حال من لا يُرجى له القدرة على الوفاء بما نذرت كأبى إسرائيل، والعلماء مجمعون على سقوط المشى على من لا يقدر عليه، فسقوط الهَدْى أَحْرَى، وإن كان مالك يستحب الهدى لمن عجز عن المشى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 535 قال الطحاوى: ونظرنا فى قول من قال: ليس الماشى فى حرمة إحرام فرأينا الحج فيه الطواف بالبيت والوقوف بعرفة وجمع، وكان الطواف منه ما يفعله الرجل فى حال إحرامه وهو طواف الزيارة، ومنه ما يفعله بعد أن يحل من إحرامه، وهو طواف الصَّدْر، فكان ذلك من أسباب الحج قد أريد أن يفعله الرجل ماشيًا، وكان إن فعله راكبًا مقصرًا وجعل عليه الدم، هذا إذا فعله من غير علة، وإن فعله من علة فالناس مختلفون فى ذلك قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: لا شىء عليه. وقال غيرهم: عليه دم. وهو النظر عندنا؛ لأن العلل إنما تُسقط الآثام فى انتهاك المحرمات ولا تُسقط الكفارات، فحلق الرأس فى الإحرام إن حلقه من غير عذر عليه الإثم والكفارة، فإن اضطر إلى حلقه فعليه الكفارة ولا إثم عليه، فكذلك المشى الذى قبل الإحرام لما كان من أسباب الإحرام، كان حكمه حكم المشى الواجب فى الإحرام يجب على تاركه الدم. 0 - باب ما جاء فِى حَرَمِ الْمَدِينَةِ / 273 - فيه: أَنَس، قَالَ، عليه السَّلام: (الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا، لا يُقْطَعُ شَجَرُهَا، وَلا يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ، مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) . / 274 - وفيه: أَنَس، قَدِمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، الْمَدِينَةَ، وَأَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: (يَا بَنِى النَّجَّارِ ثَامِنُونِي) ، فَقَالُوا: لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إِلَى اللَّهِ، فَأَمَرَ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ. / 275 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (حُرِّمَ مَا بَيْنَ لابَتَىِ الْمَدِينَةِ عَلَى لِسَانِي، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 536 وَأَتَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بَنِى حَارِثَةَ، فَقَالَ: (أَرَاكُمْ يَا بَنِى حَارِثَةَ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنَ الْحَرَمِ) ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ: (بَلْ أَنْتُمْ فِيهِ) . / 276 - وفيه: عَلِىٍّ رضي الله عنه، قَالَ: مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ إِلا كِتَابُ اللَّهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام: (الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَائِرٍ إِلَى كَذَا، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ. . .) ، الحديث. حَرَّمَ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) المدينةَ إلى الحدود المشار إليها، و (عائر) جبل بقرب المدينة، ويروى: (عير) وقوله: (إلى كذا) وقع فى بعض الأمهات وفى بعض الكتب من رواية ابن السكن (ما بين عير إلى ثور) وثور جبل معروف أيضًا. قال أبو عبيد والطبرى: وقد أنكر قوم من أهل المدينة أن يكون بها جبل يسمى ثورًا، وقال: إنما ثور بمكة. قال أبو عبيد: فنرى الحديث إنما أصله (ما بين عير إلى أحد) وكذلك حَرَّمَ ما بين لابتى المدينة، واللابة: الحرة، وهو الموضع ذو الحجارة السود. قال أبو عبيد: وجمعها لاب ولوب. قال ابن حبيب: وتحريم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لابتى المدينة إنما ذلك فى الصيد، فأما قطع الشجر فبريد فى بريد فى دور المدينة كلها، كذلك أخبرنى مطرف عن مالك، وهو قول عمر بن عبد العزيز، واللابتان هما: الحرتان الغربية والشرقية، وللمدينة حرتان أيضًا: حرة فى القبلة وحرة فى الجوف وترجع كلها إلى الحرتين؛ لأن القبلة والجوفية متصلان بهما، ولذلك حرم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما بين لابتى المدينة، جمع دورها كلها فى اللابتين، وقد ردها حسان بن ثابت إلى حرة واحدة فقال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 537 لنا حرة مأطورة بجبالها بنى العز فيها بيته فتأثلا وقوله: مأطورة يعنى: مقطوعة بجبالها لاستدارتها، وإنما جبالها الحجارة السود التى تسمى: الجرار. قال المهلب: وإنما أدخل حديث أنس فى بناء المسجد فى هذا الباب بعد قوله: (لا يقطع شجرها) ليعرفك أن قطع النخل ونبش قبور المشركين ليس هو القطع الذى نهى عنه فى تحريم المدينة؛ لأن قطع النخيل كان لتبوئ المسلمين مسجدًا. ففى هذا من الفقه أن من أراد أن يتخذ جنانًا فى حرم ليعمرها، ويغرس فيها النخل، ويزرع فيها الحبوب، أنه لا يتوجه إليه النهى عن قطع شجرها، ولا يمنع من قطع ما فيه من شجر الشعر أو شوكها؛ لأنه يبتغى الصالح والتأسيس للسكنى فى موضع العمارة، فهذا يبين وجه النهى أنه موقوف على المفسد لبهجة المدينة وخضرتها لعين المهاجر إليها حتى تبتهج نفسه لنضرتها ويرتاح بمبانيها، وإن كان ابتهاجه بمسجدها بيت الله تعالى ومنزل ملائكته ومحل وحيه أعظم والسرور به أشد. وقيل: قطعه عليه السلام للنخيل من موضع المسجد يدل أن النهى إنما يتوجه إلى ما اثبته الله من المسجد مما لا صنع فيه لآدمى؛ لأن النخيل التى قطعت من موضع المسجد كانت من غرس الآدميين؛ لأنه طلب شراء الحائط من بنى النجار إذ كان ملكًا لهم، فقالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، وعلى هذا التأويل حمل نهيه عليه السلام عن قطع شجر مكة. واتفق مالك والشافعى وأحمد وجمهور الفقهاء على أن الصيد محرم فى حرم المدينة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: صيد المدينة غير محرم، كذلك قطع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 538 شجرها، فخالف آثار هذا الباب، واحتج الطحاوى بحديث أنس (أن النبى عليه السلام دخل داره وكان لأنس أخ صغير، وكان لهم نغير يلعب به، فقال له النبى عليه السلام: (يا أبا عمير، ما فعل النغير؟) وهذا لا حجة فيه؛ لأنه يمكن أن يصطاد ذلك النغر من غير حرم المدينة. وحجة الجماعة: أن الصحابة فهمت من الرسول (صلى الله عليه وسلم) تحريم الصيد فى حرم المدينة؛ لأنهم أَمروا بذلك وأفتوا به، وهم القدوة الذين يجب اتباعهم. وروى عن أبى سعيد الخدرى أنه كان يضرب بنيه إذا اصطادوا فيه ويرسل الصيد. وروى عن سعد بن أبى وقاص: أنه أخذ سلب من صاد فى حرم المدينة وقطع شجرها، ورواه عن النبى عليه السلام إلا أن أئمة الفتوى لم يقولوا بأخذ سلبه. قال المهلب: وقوله عليه السلام: (حُرم ما بين لابتى المدينة على لسانى) يريد أن تحريمها كان من طريق الوحى، فوجب تحريم صيدها وقطع شجرها، إلا أن جمهور العلماء على أنه لا جزاء فى حرم المدينة، لكنه آثم عندهم من استحل حرم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فإن قال الكوفيون: لما أجمعوا على سقوط الجزاء فى حرم المدينة دل أنه غير محرم. قيل: لا حجة فى هذا؛ لأن صيد مكة قد كان محرمًا على غير أمة محمد، ولم يكن عليهم فيه جزاء وإنما الجزاء فيه على أمة محمد، فليس إيجاب الجزاء فيه علة للتحريم، وشذ ابن أبى ذئب، ونافع صاحب مالك، والشافعى فى أحد قوليه فأوجبوا فيه الجزاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 539 قال ابن القصار: والدليل على سقوط الجزاء أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لما حرم المدينة وذكر ما ذكر لم يذكر جزاءً على من قتل الصيد بها، وما كان من جهته عليه السلام لم يكن تبيان لما فى القرآن فليس محرم تحريم القرآن، وإنما هو مكروه حتى يكونَ بَيْنَ تحريمه وتحريم القرآن فرق. فإن احتجوا بحديث سعد أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: (من وجدتموه يصيد فى حرم المدينة ويقطع شجرها؛ فخذوا سلبه) فلم يصح عند مالك ولا رأى العمل عليه بالمدينة، ولو صح الحديث عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأوجب الجزاء على من لا سلب له، ولو لم يكن على القاتل إلا ما ستر به عورته لم يجز أخذه وكشف عورته، فثبت أن الصيد ليس بمضمون أصلا. ألا ترى أن صيد مكة لما كان مضمونًا لم يفترق حكم الغنى والفقير ومن له سلب ومن لا سلب له فى أنه مضمون عليه فى أى وقت قدر. وقد قال مالك: لم أسمع أن فى صيد المدينة جزاءً، ومن مضى أعلم ممن بقى، فقيل له: فهل يؤكل؟ فقال: ليس كالذى يصاد بمكة وإنى لأكرهه. قال المهلب: وفى حديث أنس وعلى من الفقه لعنة أهل المعاصى والعناد لأوامر النبى عليه السلام. وفيه: أن المحدث فى حرم المدينة والمؤوى للمحدث فى الإثم سواء. وقول بنى النجار: (لا نطلب ثمنه إلا من الله) فيه من الفقه إثبات الأحباس المراد بها وجه الله؛ لأنهم وهبوا البقعة للمسلمين حبسًا موقوفًا عليهم، فطلبوا الأجر على ذلك من الله. وفى حديث أبى هريرة من الفقه أن للعالم أن يقول على غلبة الظن، ثم ينظر فيصح النظر، ويقول بعد ذلك، كما قال عليه السلام لبنى حارثة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 540 وقوله عليه السلام: (من أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا) قال أبو عبيد: الحدث: كُلُّ حَدٍّ لله يجب على صاحبه أن يقام عليه، وهذا شبيه بحديثٍ فى الرجل يأتى حدا من الحدود، ثم يلجأ إلى الحرم أنه لا يقام عليه الحد، ولكنه لا يجالس ولا يكلم حتى يَخرج منه؛ فإذا خرج منه أُقيم عليه الحَدُّ، فجعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) حرمة المدينة كحرمة مكة فى المأثم فى صاحب الحّدِّ ألا يؤذيه أحد حتى يخرج منه فيقام عليه الحد. وقوله: (لا يقبل منه صرف ولا عدل) هذا يمكن أن يكون فى وقت دون وقت، إن أنفذ الله عليه الوعيد، ليس أن هذه حاله عند الله أبدًا؛ لأن الذنوب لا تُخرج من الديانة ولا يُخْرِج منها غير الكفر وحده. وقوله: (أخفر مسلمًا) قال الخليل: يقال: أخفرت الرجل: إذا لم تف بذمته، والاسم: الخفور. وقوله: (صرف ولا عدل) قال أبو عبيد عن مكحول: الصرف: التوبة، والعدل: الفدية. قال أبو عبيد: وفى القرآن ما يصدق هذا التفسير وهو قوله: (وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا) [الأنعام: 70] وأما الصرف فلا أدرى قوله تعالى: (فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلاَ نَصْرًا) [الفرقان: 19] من هذا أم لا؟ وبعض الناس يحمله على هذا، ويقال: إن الصرف النافلة، والعدل الفريضة. قال أبو عبيد: والتفسير الول أشبه بالمعنى. وقال أبو على البغدادى: الصرف الحيلة، والصرف الاكتساب، والعدل الفدية، والعدل الدية، صحيح فى الاشتقاق. فأما من قال: الصرف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 541 الفريضة، والعدل النافلة، والصرف الدية، والعدل الزيادة على الدية؛ فغير صحيح فى الاشتقاق. وقال الطبرى: الصرف مصدر من قولك: صرفت نفسى عن الشىء أصرفها صرفًا. وإنما عنى به فى هذا الموضع صرف راكب الذنب وهو المحدث فى الحرم حدثًا من سفك دم أو استحلال محرم فلا تقبل توبته، والعدل: ما يعدله من الفدية والبدل، وكل ما عادل الشىء من غير جنسه وكا له مثلا من وجه الجزاء لا من وجه المشابهة فى الصورة والخلقة، فهو له عَدل، بفتح العين، ومنه قوله: (وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا) [الأنعام: 70] بمعنى وإن تفد منها كل فدية. وأما العِدل بكسر العين، فهو مثل الحِمل المحمول على الظهر، يقال: عندى غلام عِدل غلامك، وشاة عِدل شاتك، بكسر العين، إذا كان غلامًا يعدل غلامًا وشاة تعدل شاة، وذلك فى كل مثل للشىء من جنسه، فإذا أراد أن عنده قيمته من غير جنسه فتحت العين فيقول: عندى شاتك من الدراهم. وقد ذكر عن بعض العرب أنهم يكسرون العين من العدل الذى هو بمعنى الفدية، وذلك لتقارب معنى العدل عندهم. 1 - باب فَضْلِ الْمَدِينَةِ / 277 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى، يَقُولُونَ يَثْرِبُ، وَهِىَ الْمَدِينَةُ، تَنْفِى النَّاسَ كَمَا يَنْفِى الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ) . قوله: (أُمرت بقرية) يريد أمرت بالهجرة إليها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 542 وقوله: (تأكل القُرى) يعنى: بيفتتح أهلها القرى فيأكلون أموالهم، ويسبون ذراريهم، ويقتلون مقاتلتهم، وهذا من فصيح كلام العرب تقول: أكلنا بنى فلان، وأكلنا بلد كذا: إذا ظهروا على أهله وغلبوهم. قال الخطابى: (تاكل القرى) يريد أن الله ينصر الإسلام بأهل المدينة وهم النصار، وتفتح على أيديهم القرى، ويغنمها إياهم فيأكلونها، وهذا فى الاتساع والاختصار كقوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف: 82] يريد أهل القرية، فكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد عرض نفسه على قبائل العرب أيهم ينصره فيفوز بالفخر فى الدنيا والثواب فى الآخرة، فلم يجد فى القوم من يرضى بمعاداة من جاوره ويبذل نفسه وماله لله، فمثل الله المدينة فى منامه فرأى أنه يؤمر بالهجرة إليها، فوصف ذلك أبى بكر، وقد كان عاقد قومًا من أهلها، وسألوه أن ينظر فيما يريدون أن يعقدوا معه عليه السلام، فخرج مع أبى بكر للمدينة، ففتح الله منها جميع الأمصار حتى مكة التى كانت موطنه. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وهذا الحديث حجة لمن فضل المدينة على مكة؛ لأنها هى التى أدخلت مكة وسائر القرى فى الإسلام، فصارت القرى ومكة فى صحائف أهل المدينة. وذهب مالك وأهل المدينة إلى أنها أفضل من مكة. وقال الشافعى: مكة أفضل منها. وقد تقدم القول فى ذلك فى كتاب الصلاة فى قوله: صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام. وقوله: (يقولون: يثرب) كره أن يسمى باسمها فى الجاهلية وسماها (المدينة) فلا تسمى بغير ما سماها النبى عليه السلام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 543 وكانوا يسمونها (يثرب) باسم أرض بها فغير رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اسمها وسماها (طيبة) كراهية التثريب، وإنما سميت فى القرآن (يثرب) على وجه الحكاية لتسمية المشركين، وقد روى عنه عليه السلام أنه (من قال: يثرب فكفارته أن يقول المدينة عشر مرات) يريد بذلك التوكيد أن يقال لها: المدينة، وصارت مُعرفة بالألف واللام؛ لأنها انفردت بجميع خصال الإسلام، ولا يقول أحد: المدينة لبلد فيعرف ما يريد القائل إلا لها خاصة. 2 - باب الْمَدِينَةُ طيبة / 278 - فيه: أَبُو حُمَيْدٍ، أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، مِنْ تَبُوكَ حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: (هَذِهِ طَابَةٌ) . قوقه: (طابة) مشتقة من الطيب، وزنها فعلة، وقد يقال أيضًا: طيبة، وزنها فعلة، وهذان المثالان فعلة وفعلة متعاقبان على معنى واحد، كقولهم: عيب وعاب، وديم ودام، ودين ودان، فاشتق لها عليه السلام هذا الاسم من الطيب، وكره اسمها لما فى لفظه من التثريب، وقد قال بعض أهل العراق: وأمر المدينة فى ترابها وهوائها دليل شاهد وبرهان على قوله عليه السلام: (إنها طيبة) يبقى حبها وينصع طيبها؛ لأن من دخلها وأقام بها يجد من تربتها وحيطانها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 544 رائحة طية [. . . . . .] اسم فى الأرائج وبذلك السبب طاب طينها، والمعجونات من الطيب فيها أحدّ رائحة، وكذلك العود وجميع البخور يتضاعف طيبه فى تلك البلدة على كل بلدة استعمل ذلك الطيب بعينه فيها. 3 - بَاب لابَتَىِ الْمَدِينَةِ / 279 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ بِالْمَدِينَةِ تَرْتَعُ مَا ذَعَرْتُهَا، قَالَ، عليه السَّلام: (مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا حَرَامٌ) . قد تقدم أن اللابتين الحرتان. وقوله: (ما ذعرتها) فالإذعار والتنفير هو أقل ما ينهى عنه من أمر الصيد وما فوقه من الأذى للصيد وقتله أكثر من الإذعار، وإنما أخذ أبو هريرة قوله: (ما ذعرتها) والله أعلم من قوله عليه السلام فى مكة: (لا ينفر صيدها) والتنفير والإذعار واحد. 4 - باب مَنْ رَغِبَ عَنِ الْمَدِينَةِ / 280 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، سَمِعْتُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (يَتْرُكُونَ الْمَدِينَةَ عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ لا يَغْشَاهَا إِلا الْعَوَافِ، يُرِيدُ عَوَافِىَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ، وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ، يُرِيدَانِ الْمَدِينَةَ يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا فَيَجِدَانِهَا وَحْشًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 545 / 281 - وفيه: سُفْيَانَ بْنِ أَبِى زُهَيْرٍ، سَمِعْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (تُفْتَحُ الْيَمَنُ، فَيَأْتِى قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِهِمْ، وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَتُفْتَحُ الشَّأْمُ، وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ كذلك) . قال المهلب: قوله: (تترك المدينة على خير ما كانت) يريد على أرخى أحوالها ووجود ثمارها وخيراتها فيأكلها الطير والسباع. قال غيره: وفى هذا برهان من النبى عليه السلام لأنه ذكر أهلُ الأخبار أنه قد رحل عن المدينة أكثر الناس فى الفتن التى تعاورتها، وخاف أهلها على أنفسهم، وكانت فى عهد الخلفاء أحسن ما كانت من البنيان والعمارة والغرس للنخيل والأشجار، فتركت للطير والسباع، وبقيت مدة على ذلك ثم عاد الناس إليها. وروى عن مالك فى هذا الحديث (لتتركن المدينة خير ما كانت حتى يدخل الكلب، أو الذئب، فيعوى على بعض سوارى المسجد) وأكثر المدينة اليوم خراب لا يدخلها أحد منفردًا فيأمن، وهذا مما يلى القبلة والجوف، وليس لأبوابها ثقاف ولا غلق، وكذلك أبواب المسجد أكثرها لا تغلق وهى كبيرة. وقد رأى كثير من الناس الكلب يعوى على بعض سوارى المسجد كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، وأما كونه فيما يستقبل فلا شك فيه بما قد أنذر به أمته من عموم الفتن واشتدادها، وانتقاض الخير، وغلبة الباطل وأهله، وأن الإسلام سيعود غريبًا كما بدأ غريبًا، وظهور الشرائط وتواتر المحن حتى يتمنى الأحياء الموت. وقال الأخفش: العوافى واحدها عافية، وهى التى تطلب أقواتها، والمذكر عاف، والعوافى والمعتفى التى تطلب فضلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 546 قال الأعشى: تطوف العفاة بأبوابه كما تطوف النصارى ببيت الوثن يعنى بالعفاة: طلاب الحاجات. قال المهلب: وهذا الحديث يدل أن المدينة تُسكن إلى يوم القيامة وإن خلت فى بعض الأوقات، لقصد هذين الراعيين بغنمهما إلى المدينة، وهذا يكون قرب قيام الساعة، وأن آية قيام الساعة عند موت هذين الراعيين أحرى أن تصير غنمهما وحوشًا، فإن قيل: فما معنى قوله: (آخر من يحشر راعيان من مزينة) ولم يذكر حشرهما وإنما ذكر أنهما يخران على وجوهما أمواتًا؟ فالجواب: أنه لا يُحشر أحد إلا بعد الموت، فهما آخر من يموت بالمدينة وآخر من يحشر بعد ذلك كما قال عليه السلام. وقال صاحب (العين) : نعق بالغنم ينعق نعاقًا وإذا صاح بها. وأما قوله: (تفتح اليمن فيأتى قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم) يعنى: يحملون من المدينة إلى هذه البلاد المتفتحة لسعة العيش فيها، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. وفيه برهان جليل بصدق الرسول فى إخباره بما يكون قبل وقته، فأنجز الله لرسوله (صلى الله عليه وسلم) ما وعد به أمته فَفُتحت اليمن قبل الشام وفُتحت الشام قبل العراق وكمل ذلك كله. وقوله: (والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون) يعنى: لفضل الصلاة فى مسجده، التى هى خير من ألف صلاة فيما سواه، ولما فى سكنى المدينة والصبر على لأوائها وشدتها، فهو خير لهم مما يصيبون من الدنيا فى غيرها، والمراد بالحديث: الخارجون عن المدينة رغبة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 547 عنها كارهين لها، فهؤلاء المدينةُ خير لهم، وهم الذين جاء فيهم الحديث (أنها تنفى خبثها) وأما من خرج من المدينة لحاجة أو طلب معيشة أو ضرورة ونيته الرجوع إليها فليس بداخل فى معنى الحديث والله أعلم. وقوله: (يبسون) فقال أبو عبيد: يقال فى الزجر إذا سقت حمارًا أو غيره: بس بس، وهو من كلام أهل اليمن، وفيه لغتان: بَسَسْتُ وأَبْسَسْتُ، فيكون على هذا يَبسون ويُبسون بفتح الباء وضمها. وقال الخليل: بس زجر للبغل والحمار، بضم الباء وفتح السين، تقول: بس بس، يقال منه: يَبُسون ويُبِسون. قال أبو عمر الشيبانى: يقال: بس فلان كلابه أى: أرسلها. 5 - باب الإيمَانُ يَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ / 282 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (إِنَّ الإيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ، كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا) . قال المهلب: فيه أن المدينة لا يأتيها إلا المؤمن، وإنما يسوقه إليها إيمانه ومحبته فى النبى (صلى الله عليه وسلم) فكأن الإيمان يرجع إليها كما خرج منها أولا، ومنها ينتشر كانتشار الحية من جحرها، ثم إذا راعها شىء رجعت إلى جحرها، فكذلك الإيمان لما دخلته الدواخل لم يقصد المدينة إلا مؤمن صحيح الإيمان. وقال أبو عبيد: قال الأصمعى: قوله: (يأزر) يعنى ينضم إليها، ويجتمع بعضه إلى بعض. قال الأصمعى: وأخبرنى عيسى بن عمر، عن الأسود الديلى أنه قال: إن فلانًا إذا سئل أرز وإذا دُعى اهتز. قال أبو عبيد: يعنى: إذا سئل المعروف تضام، وإذا دعى إلى طعام وغيره مما يناله اهتز لذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 548 6 - باب إِثْمِ مَنْ كَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ / 283 - فيه: سَعْد، قَالَ، عليه السَّلام: (لا يَكِيدُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ إِلا انْمَاعَ، كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِى الْمَاءِ) . قال المهلب: وقوله: (لا يكيدُ أهلَ المدينةِ أحد) أى: لا يدخلها بمكيدة ولا يمكن يطلب فيها غرتهم ويفترس عورتهم. وقوله: (إلا انماع) أى: إلا ذاب كما يذوب الملح فى الماء، يقال منه: ماع العسل فى الماء، فهو يماع إيماعًا، وهو عسل مائع، وقد ماع يميع ميعًا مويعًا، وتَمَيع الشراب إذا ذهب وجاء، فهو يتميع تميعًا. 7 - باب آطَامِ الْمَدِينَةِ / 284 - فيه: أُسَامَةَ، أن النَّبِىّ، عليه السَّلام، وقف عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: (هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ إِنِّى لأرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلالَ بُيُوتِكُمْ، كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ) . قال المهلب: مُثِّل للنبى (صلى الله عليه وسلم) الفتن التى حدثت بعده فرآها عيانًا، وأنذر بها عليه السلام قبل وقوعها، وهذه علامة من علامات نبوته؛ لإخباره عن الغيب فى ذلك، فكانت الفتن بعده كالقطر كما أخبر وخبره الصادق المصدوق. وقال الخطابى: الطم: الحصن المبنى بالحجارة، والجمع: آطام. 8 - بَاب لا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ الدَّجَّالُ / 285 - فيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 549 / 286 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلائِكَةٌ لا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلا الدَّجَّالُ) . / 287 - وفيه: أَبو سَعِيد، حَدَّثَنَا النبِىّ، عليه السَّلام، طَوِيلا عَنِ الدَّجَّالِ، فَكَانَ فِيمَا حَدَّثَنَا بِهِ أَنْ قَالَ: (يَأْتِى الدَّجَّالُ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِى بِالْمَدِينَةِ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ هُوَ خَيْرُ النَّاسِ، أَوْ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِى حَدَّثَنَا عَنْكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَدِيثَهُ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ هَلْ تَشُكُّونَ فِى الأمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لا، فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يُحْيِيهِ، فَيَقُولُ: حِينَ يُحْيِيهِ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّى الْيَوْمَ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَقْتُلُهُ فَلا أُسَلَّطُ عَلَيْهِ) . / 288 - وفيه: أَنَس، قَالَ، عليه السَّلام: (لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، لَيْسَ لَهُ مِنْ نِقَابِهَا نَقْبٌ إِلا عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا، ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلاثَ رَجَفَاتٍ، فَيُخْرِجُ اللَّهُ كُلَّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ) . قال الأخفش: أنقاب المدينة: طرقها، الواحد: نقب، وهو من قول الله تعالى: (فَنَقَّبُوا فِى الْبِلاَدِ) [ق: 36] أى: جعلوا فيها طرقًا ومسالك. قال غيره: ونقاب أيضًا جمع نقب، ككلاب وكلب، ويجمع فعل أسمًا على غير فعال وفعول قياسًا ومطردًا. وفى هذه الأحاديث برهان ظهر إلينا صحته، وعلمنا أن ذلك من بركة دعائه (صلى الله عليه وسلم) للمدينة، وقد أراد عمر والصحابة أن يرجعوا إلى المدينة حين وقع الوباء بالشام؛ ثقة منهم بقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 550 الذى أمنهم من دخول الطاعون بلدهم، ولذلك نوقن أن الدجال لا يستطيع دخولها البتة، وهذا فضل عظيم للمدينة. وقد أخبر الله تعالى أنه يوكل الملائكة بحفظ من شاء من عباده من الآفات والعدو والفتن، فقال تعالى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد: 11] يعنى: بأمر الله لهم بحفظه، وما زالت الملائكة تنفع المؤمنين بالنصر لهم والدعاء والاستغفار ويستغفرون لذنوبهم، وسأذكر معنى حديث الدجال وفتنته للناس فى كتاب الفتن إن شاء الله. وفى حديث أنس أن الدجال لا يدخل مكة أيضًا، وهذا فضل كبير لمكة والمدينة على سائر الأرض، فإن قيل: إن قوله عليه السلام: (لا يدخل المسيح) يعارضه قوله فى حديث أنس: (ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات) والرجف رعب، قال المهلب: ليس يعارض، وإنما الرجفة تكون من أهل المدينة على من بها من المنافقين والكافرين فيخرجونهم من المدينة بإخافتهم إياهم تعاطيًا عليهم وعلى الدجال، فيخرج المنافقون إلى الدجال فرارًا من أهل المدينة ومن قوتهم عليهم، والله أعلم. 9 - باب الْمَدِينَةُ تَنْفِى الْخَبَثَ / 289 - فيه: جَابِر، جَاءَ أَعْرَابِىٌّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فَبَايَعَهُ عَلَى الإسْلامِ، فَجَاءَ مِنَ الْغَدِ مَحْمُومًا، فَقَالَ: أَقِلْنِى، فَأَبَى ثَلاثَ مِرَارٍ، فَقَالَ: (الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِى خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 551 / 290 - وفيه: زَيْدَ، لَمَّا خَرَجَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِلَى أُحُدٍ، رَجَعَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: نَقْتُلُهُمْ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لا نَقْتُلُهُمْ فَنَزَلَتْ: (فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ) [النساء: 88] وَقَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّهَا تَنْفِى الرِّجَالَ كَمَا تَنْفِى النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ) . قال بعض العلماء: كان هذا الأعرابى من المهاجرين، فأراد أن يستقيل النبى عليه السلام فى الهجرة فقط، ولم يُرد أن يستقيله فى الإسلام، فأبى عليه السلام ذلك فى الهجرة؛ لأنها عون على الإثم، وكان ارتدادهم عن الهجرة من أكبر الكبائر؛ ولذلك دعا لهم الرسول فقال: (اللهم أمض لأصحابى هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم) . فى هذا من الفقه أن من عقد على نفسه أو على غيره عقد الله، فلا يجوز له حله؛ لأن فى حله خروج إلى معصية الله، وقد قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة: 1] والدليل على أنه لم يرد الارتداد عن الإسلام أنه لم يرد حل ما عقده إلا بموافقة النبى (صلى الله عليه وسلم) على ذلك، ولو كان خروجه عن المدينة خروجًا عن الإسلام لقتله عليه السلام حين خرج، وإنما خرج عاصيًا، ورأى أنه معذور لِمَا نزل به من الوباء، ولعله لم يعلم أن الهجرة فرض عليه وكان من الذين قال لهم فيهم: (وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ) [التوبة: 97] فقال فيه عليه السلام: (إن المدينة كالكير تنفى خبثها) . فإن قيل: فإن المنافقين قد سكنوا المدينة وماتُوا فيها ولم تنفهم؟ قيل: إن المنافقين كانت دارهم ولم يسكنوها اعتباطًا بالإسلام ولا حبًا له، وإنما سكنوها لما فيها من أصل معاشهم، ولم يُرد عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 552 السلام بضرب المثل إلا من عقد الإسلام راغبًا فيه ثم خبث قلبه، ولم يصح عندك أن أحدًا ممن لم تكن له المدينة دارًا فارتد عن الإسلام ثم اختار السكنى فيها، بل كلهم فَرَّ إلى الكفر راجعًا، فبمثل أولئك ضرب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المثل. وقال المهلب: كان المنافقون الساكنون بالمدينة قد ميزهم الله كأنهم بارزون عنها؛ لما وسمهم به من قوله تعالى: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِى الصَّدَقَاتِ) [التوبة: 79] ، و) الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِىَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) [التوبة: 61] وبقوله: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد: 30] فكانوا معروفين معينين، وأبقاهم (صلى الله عليه وسلم) لئلا يقول الناس: إن محمدًا يقتل أصحابه أو ينفيهم، والنفى كالقتل. ومما يدل على ذلك قوله تعالى: (فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ) [النساء: 88] فَبَيَّنَ منكرًا عليهم اختلافَهم فى قتلهم، فعرفهم الله أنه أركسهم بنفاقهم، فلا يكون لهم صنع ولا جمع، ولا يسمع لهم قول، مع أنه قد ختم الله أنهم لا يجاورونه فيها إلا قليلا، فنفتهم المدينة بعده عليه السلام لخوفهم القتل، قال الله تعالى: (مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) [الأحزاب: 61] فلم يأمنوا فخرجوا، فصح إخبار الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنها تنفى خبثها، لكن ليس ذلك ضربة واحدة، لكن الشىء بعد الشىء حتى يخلص أهلها الطيبين الناصعين وقت الحاجة إليهم فى العلم؛ لأنهم فى حياته عليه السلام مستغنى عنهم، فلما احتيج إليهم بعده فى العلم حفظتهم بركة المدينة فنفت خبثها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 553 قال غيره: وقوله: (المدينة كالكير) إنما هو تمثيل منه وتنظير، ففيه دليل على جواز القياس بين الشيئين إذا اشتبها فى المعنى، فشبه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المدينة فى نفيها مَنْ خبث قلبه بالكير الذى ينفى خبث الحديد حتى يصفو، وقوله: (ينصع طَيِّبُها) هو مثل ضربه للمؤمن المخلص الساكن فيها، الصابر على لأوائها وشدتها مع فراق الأهل والمال والتزام المخافة من العدو، فلما باع نفسه من الله والتزم هذا بأن صدقُه، ونصع إيمانه وقوى؛ لاغتباطه بسكنى المدينة وتقربه من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما ينصع ريح الطيب فيها ويزيد عبقًا على سائر البلاد، خصوصية خص الله بها بلدة رسوله (صلى الله عليه وسلم) التى اختار تربتها لمباشرة جسده الطيب المطهر (صلى الله عليه وسلم) ، وقد جاء فى الحديث أن المؤمن يقبر فى التربة التى خلق منها، فكانت بهذا تربة المدينة أفضل الترب كما هو (صلى الله عليه وسلم) أفضل البشر؛ فلهذا والله أعلم تتضاعف ريح الطيب فيها على سائر البلاد. 0 - بَاب / 291 - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَىْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ) . وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَنَظَرَ إِلَى جُدُرَاتِ الْمَدِينَةِ، أَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا. استدل بعض الناس على أن المدينة أفضل من مكة بدعاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) للمدينة بضعف دعائه لمكة وقال آخرون ممن يرى أن مكة أفضل من المدينة: لو كان تضعيف الدعاء للمدينة دليلا على فضلها على مكة، لكانت الشام واليمن أفضل من مكة؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد كرر الدعاء للشام واليمن مرات، وهذا لا يقوله مسلم، روى ابن عمر: أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 554 الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: (اللهم بارك لنا فى شامنا، اللهم بارك لنا فى يمننا، قالها ثلاثًا) . وهذا اعتراض غير لازم؛ لأن الأمة مجمعة أن مكة أفضل من الشام واليمن وجميع الأرض غير المدينة. فلما تقرر هذا لم يكن تكرير الدعاء للشام واليمن موجبًا لفضلهما على مكة؛ لأنه لم يقصد بالدعاء لهما التفضيل على مكة، وإنما قصد التفضيل لهما على نجد، وإنما كان يصح هذا الاعتراض لو قرن بالدعاء للشام واليمن ثلاث مرات الدعاء لمكة أقل من ذلك، وإنما فى حديث ابن عمر الشام واليمن أفضل من نجد خاصة؛ لتكريره الدعاء للشام واليمن دون نجد، فكذلك تكريره الدعاء للمدينة دون مكة، فوجب فضلها على مكة، والله أعلم. واحتج من فضل المدينة بقوله: (حركها من حبها) يريد من حبه للمدينة، قال: فقد خصها الله بفضائل كثيرة منها: أن الله اختارها دارًا لنبيه أفضل خلقه، وجعلها منزل وحيه، وحباها بقبره، ومنها نشر الله دينه وبَلَّغ شريعته، إلى ما لا يحصى من فضائلها، وتعجيل سيره (صلى الله عليه وسلم) إذا نظر إليها من أجل أن قرب الدار يجدد الشوق للأحبة والأهل، ويؤكد الحنين إلى الوطن، وفى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الأسوة الحسنة. 1 - باب كَرَاهِيَةِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَنْ تُعْرَى الْمَدِينَةُ / 292 - فيه: أَنَس، أَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ تُعْرَى الْمَدِينَةُ، وَقَالَ: (يَا بَنِى سَلِمَةَ أَلا تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ) . إنما أراد عليه السلام ألا تعرى المدينة وأن تعمر ليعظم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 555 المسلمون فى أعين المنافقين والمشركين، إرهابًا وغلظة عليهم. وقوله: (ألا تحتسبون آثاركم) يعنى: فى الخطا إلى المسجد؛ ولذلك قال أبو هريرة: إن أعظمكم أجرًا أبعدكم دارًا، قيل: لِمَ يا أبا هريرة؟ قال: من أجل كثرة الخطا. وهذا لا يكون من رأى أبى هريرة؛ لأن الفضائل لا تدرك بالقياس، وقد ترجم لهذا الحديث فى كتاب الصلاة باب احتساب الآثار. 2 - بَاب / 293 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا بَيْنَ بَيْتِى وَمِنْبَرِى وقبرِى رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِى عَلَى حَوْضِى) . / 294 - وفيه: عَائِشَةَ، لَمَّا قَدِمَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلالٌ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى، يَقُولُ: كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِى أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَكَانَ بِلالٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَقُولُ: أَلا لَيْتَ شِعْرِى هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ بِوَادٍ وَحَوْلِى إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِى شَامَةٌ وَطَفِيلُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 556 (اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ) ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِى صَاعِنَا، وَفِى مُدِّنَا، وَصَحِّحْهَا لَنَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ) ، قَالَ: وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، وَهِىَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ، قَالَتْ: فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِى نَجْلا، مَاءً آجِنًا. / 295 - وفيه: عُمَرَ، اللَّهُمَّ ارْزُقْنِى شَهَادَةً فِى سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ مَوْتِى فِى بَلَدِ رَسُولِكَ (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: قوله: (روضة من رياض الجنة) يحتمل أن يكون على الحقيقة، ويحتمل أن يكون على المجاز، فوجه الحقيقة أن يكون الموضع الذى بين المنبر والقبر يوم القيامة فى الجنة روضة، واحتج قائل هذا بقوله تعالى عن أهل الجنة روضة، واحتج قائل هذا بقوله تعالى عن أهل الجنة: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء) [الزمر: 74] قالوا: فدلت هذه الآية أن الجنة تكون فى الأرض يوم القيامة. ووجه المجاز أن يكون معناه أن من صلى بين المنبروالقبر فقد استوجب روضة فى الجنة، فيجازى بها يوم القيامة على قصده وصلاته فى هذا الموضع، كما قال عليه السلام: (ارتعوا فى رياض الجنة) يعنى: حلق الذكر والعلم لما كانت مؤدية إلى الجنة، ويكون معناه التحريض على زيارة قبر النبى عليه السلام والصلاة فى مسجده، وكذلك يدل قوله: (صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه) على الحض والندب على قصده والصلاة فيه والزيارة له، وقد بسطت الكلام فى هذا الحديث فى كتاب الصلاة فى باب: فضل ما بين القبر والمنبر، بأسبغ مما ذكرته ها هنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 557 وقول عمر: اللهم اجعل موتى فى بلد رسولك (صلى الله عليه وسلم) . احتج به من فضل المدينة على مكة، وقالوا: لو علم عمر بلدة أفضل من المدينة لدعا ربه أن يجعل موته وقبره فيها، وكان مما استُدل به على فضلها أن الله لما اختارها لقبر نبيه أفضل البشر عُلم أنه لم يختر له إلا أفضل البقاع، وقد جاء أن ابن آدم إنما يدفن فى التربة التى خلق منها، وقد ذكرنا ذلك. وقال بعض العلماء: وأما حديث عائشة حين وُعك أبو بكر وبلال وإنشادهما فى ذلك؛ فإن الله تعالى لما ابتلى نبيه بالهجرة وفراق الوطن ابتلى أصحابه بما يكرهون من الأمراض التى تؤلمهم، فتكلم كل إنسان منهم حسب يقينه وعلمه بعواقب الأمور فتعزى أبو بكر عند أخذ الحمى له بما ينزل به الموت فى صباحه ومسائه، ورأى أن ذلك شامل للخلق، فلذلك قال: كل امرىِِء مصبح فى أهله. يعنى: تصبحه الآفات وتمسيه، وأما بلال فإنما تمنى الرجوع إلى مكة وطنه الذى اعتاده ودامت فيه صحته، فبان فضل أبى بكر وعلمه بسرعة فناء الدنيا حتى الموت بشراك نعله. فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما نزل بأصحابه من الحُمَّى والوباء خشى كراهية البلد، لما فى النفوس من استثقال ما تكرهه، فدعا الله فى رفع الوباء عنهم، وأن يحبب إليهم المدينة كحبهم مكة وأشد؛ فدل ذلك أن أسباب التحبيب والتكريه بيد الله، وهبة منه يهبها لمن شاء، وفى هذا حجة واضحة على من كذب بالقدر؛ إِذِ الذى يملك النفوس فيجب إليها ما أحب، ويكره إليها ما كره هو الله، فأجاب دعوة نبيه (صلى الله عليه وسلم) ، فأحبوها حبا أدامه فى نفوسهم حتى ماتوا عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 558 وأما قوله: (وصححها) ففيه من الفقه أن الله أباح للمؤمن أن يسأل ربه صحة جسمه وذهاب الآفات عنه إذا نزلت به، كسؤاله إياه فى الرزق والنصر، وليس فى دعاء المؤمن ورغبته فى ذلك إلى الله لوم ولا قدح فى دينه، وقد كان من دعاء النبى (صلى الله عليه وسلم) كثيرًا أن يقول: (وقونى فى سبيلك) وفى هذا رد على الصوفية فى قولهم: إن الولى لا تتم له الولاية إلا تم له الرضا بجميع ما نزل به ولا يدعوا الله فى كشف ذلك عنه، فإن دعا فليس من الولاية فى حال الكمال، وقد [. . . . . .] فى قولهم هذا بمحمد عليه السلام وأصحابه، وقد كان إذا نزل به شىء يكثر عليه الدعاء والرجاء فى كشفه. وأما قوله: (وانقل حُمَّاها إلى الجحفة) فكانت الجحفة يومئذ دار شرك، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كثيرًا ما يدعوا على من لم يجب إلى الإسلام إذا خاف منه معونة أهل الكفر، حين يئس منهم فقال (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف) ودعا على أهل الجحفة بالحمى ليشغلهم بها، فلم تزل الجحفة من يومئذ أكثر بلاد الله حمى، وإنه يتقى شرب الماء من عينها الذى يقال له: عين حم، وقَلَّ من شرب منه إلا حُمَّ، وهو متغير الطعم. وقوله: (رفع عقيرته) يعنى: صوته، وأصل ذلك عند العرب أن رجلا قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأخرى وصرخ بأعلى صوته؛ فقيل لكل رافع صوته: قد رفع عقيرته، ففيه من المعانى جواز هذا النوع من الغناء، وهو نشيد الأعراب للسفر بصوت رفيع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 559 قال الطبرى: وهذا النوع من الغناء هو المطلق المباح بإجماع الحجة، وهو الذى غنى به فى بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلم يَنْهَ عنه، وهو الذى كان السلف يجيزون ويسمعون، وروى سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: نعم زاد الراكب الغناء نصبًا، وروى ابن وهب، عن أسامة وعبد الله ابنى زيد بن أسلم، عن أبيهما زيد، عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال: الغناء من زاد الراكب. وروى ابن شهاب، عن عمر بن عبد العزيز أن محمد ابن نوفل أخبره أنه رأى أسامة بن زيد واضعًا إحدى رجليه على الأخرى بمعنى النصب. قال الطبرى: وإنما تسميه العرب النصب لنصب المتغنى به صوته وهو الإنشاد له بصوت رفيع. وروى ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبيه أنه سمع عبد الله بن الأرقم رافعًا عقيرته يتغنى. قال عبد الله بن عتبة: والله ما رأيت رجلا أخشى لله من عبد الله بن الأرقام. وقد تقدم شىء من هذا المعنى فى كتاب الصلاة فى باب: سنة العيدين لأهل الإسلام، عند ذكر الجاريتين اللتين غنتا فى بيت عائشة يوم العيد، وسيأتى ما يحل من الغناء ويحرم فى كتاب الاستئذان فى باب: كل لهو فباطل إذا شغله عن طاعة الله. وفى حديث عائشة من الفقه تمثل الصالحين والفضلاء بالشعر، وفيه عيادة الجلّة السادة لعبيدهم؛ لأن بلالا أعتقه أبو بكر الصديق وكانت عائشة تزوره، وكان ذلك قبل نزول الحجاب. والإذخر والجليل ينبتان بمكة، وشامة وطفيل جبلان بها، وقال الفكهانى: بينهما وبين مكة نحو ثلاثين ميلا. قال الخطابى: وكنت مرة أحسبهما جبلين حتى تبين لى أنهما عينان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 560 (بطحان يجرى نجلا) بطحان اسم للكمان المنبطح، وهو المستوى المتسع، ويجرى نجلا: يريد واسعًا، تقول العرب: استنجل الوادى: إذا اتسع جريه، ومنه العين النجلاء الواسعة: وطعنة نجلاء أى: واسعة، والأجن والآجن: المتغير. قال الأعشى: وقليب آجن كأن من بأرجائه لُقُوطَ نصَال. . . . . . . . . . . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 561 الجزء الخامس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 بسم الله الرحمن الرحيم - كِتَاب الْجِهَادِ فَضْلِ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ (إِلَى قَوْلِهِ: (والحافظون لحدود الله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة: 111] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحُدُودُ الطَّاعَةُ. 1647 / - فيه: ابْن مَسْعُود، سَأَلْتُ الرسول، (صلى الله عليه وسلم) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (الصَّلاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا) ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ) ، قُلْتُ: ثُمَّ أَىٌّ؟ قَالَ: (الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) ، فَسَكَتُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِى. 1648 / - وفيه: ابْن عَبَّاس قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، فَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا) . 1649 / - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: (لَكُنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ) . 1650 / - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: دُلَّنِى عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ، قَالَ: لا أَجِدُهُ، قَالَ: (هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلا تَفْتُرَ، وَتَصُومَ وَلا تُفْطِرَ،؟ قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ فَرَسَ الْمُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ فِى طِوَلِهِ، فَيُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 قال الطبرى: معنى حديث ابن مسعود أن الصلاة المفروضة وبر الوالدين والجهاد فى سبيل الله أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله ورسوله، وذلك أن من ضيع الصلاة المفروضة، حتى خرج وقتها لغير عذر فقدرته مع خفة مؤنتها وعظم فضلها فهو لا شك لغيرها من أمر الدين والإسلام أشد تضيعاَ، وبه أشد تهاوناَ واستخفافاَ، وكذلك من ترك بر والديه وضيع حقوقهما مع عظيم حقهما عليه بتربيتهما إياه، وتقطعهما عليه، ورفقهما به صغيرًا وإحسا نهما إليه كثيراَ، وخالف أمر الله ووصيته إياه فيهما، فهو لغير ذلك من حقوق الله أشد تضييعًا، وكذلك من ترك جهاد أهداء الله، وخالف أمره فى قتالهم مع كفرهم بالله ومناصبتهم أنبياءه وأولياءه للحرب، فهو لجهاد من دونهم من فساق أهل التوحيد ومحاربة من سواهم من أهل الزيغ والنفاق أشد تركًا، فهذه الأمور الثلاثه تجمع المحافظة عليهن الدلالة لمن حافظهن أنه محافظ على ما سواهن، ويجمع تضييعهن الدلالة على تضييع ما سواهن من أمر الدين والإسلام فلذلك خصهن (صلى الله عليه وسلم) بأنهن أفضل الأعمال. قال المهلب: وأما الهجرة فكانت فرضا فى أول الإسلام على من أسلم، لقلتهم وحاجتهم إلى الاجتماع والتأليف، فلما فتح الله مكة دخل الناس فى دين الله أفواجا سقط فرض الهجرة، وبقى فرض الجهاد والنية على من قام به أو أنزل به عدو، والله جعل الحج أفضل للنساء من الجهاد لقلة غنائهن فى الجهاد، وفى حديث أبى هريرة أن المجاهد على كل أحواله يكتب له ما يكتب للمتعبد فالجهاد أفضل من التنفل بالصلاة والصيام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 وقوله: (ليستن فى طوله) يعنى ليأخذ فى السنن على وجه واحد ماضيا وهو يفتعل من السنن ويقال: فلان يستن الريح والسيل إذا كان على جهتها وممرها، وأهل الحجاز يقولون: سُنن بضم السين وفى قوله تعالى: (فيقتلون ويقتلون (دليل على أن القاتل والمقتول فى سبيل الله جميعا فى الجنة. وقال بعض الصحابة: (ما أبالى قتلت فى سبيل الله أو قتلت) وتلا هذه الآية وهذا يرد على الشعبى أن الغالب فى سبيل الله أعظم أجرًا من المقتول. - باب أَفْضَلُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ مُجَاهِدٌ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ (الآية. 1651 / - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مُؤْمِنٌ فِى شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَتَّقِى اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ) . 1652 / - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِى سَبِيلِهِ - كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ، وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِهِ بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ ويُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ) . قال المهلب: فيه فضل الغنى. وقوله: (أى الناس أفضل؟ فقال (صلى الله عليه وسلم) : مؤمن يجاهد فى سبيل الله) ليس على عمومه ولا يريد أنه أفضل الناس قاطبة؛ لأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 أفضل منه من أوتى منازل الصديقين، وحمل الناس على شرائع الله وسنن نبيه، وقادم إلى الخيرات، وسبب لهم أسباب المنفعة فى الدين والدنيا، لكن إنما أراد (صلى الله عليه وسلم) والله أعلم أفضل أحوال عامة الناس؛ لأنه قد يكون فى خاصتهم من أهل الدين والعلم والفضل والضبط بالسنن من هو أفضل منه. وقوله فى حديث أبى هريرة: (والله أعلم بمن يجاهد فى سبيله) يريد والله أعلم بعقد نيته إن كانت لله خالصة وإعلاء كلمته، فذلك المجاهد فى سبيل الله، وإن كان فى نيته حب المال والدنيا واكتساب الذكر فيها فقد شرك مع سبيل الله سبيل الدنيا. وقوله: (كمثل الصائم القائم) يدل أن حركات المجاهد ونومه ويقظته حسنات، وإنما مثله بالصائم؛ لأن الصائم ممسك لنفسه عن الأكل واللذات، وكذلك المجاهد ممسك لنفسه على محارسة العدو، وحابس نفسه على مراعاته ومقابلتة. وقوله: (مع ما نال من أجر أو غنيمة) إنما أدخل (أو) هاهنا؛ لأنه قد يرجع مرة بالأجر وحده، وقد يرجع أخرى بالأجر والغنيمة جميعًا، فأدخل (أو) لتدل على اختلاف الحالين، لا أنه يرجع بغنيمة دون أجر، بل أبدًا يرجع بالأجر كانت غنيمة أو لم تكن. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: تفاضلهم فى الأجر وتساويهم فى الغنيمة دليل قاطع أن الأجر يستحقونه لقتالهم، فيكون أجر كل واحد على قدر عنائه، وأن الغنيمة لا يستحقونها بذلك لكن بتفضل الله عليهم ورحمته لهم بما رأى من ضعفهم، فلم يكن لأحد فضل على غيره إلا أن يفضله قاسم الغنيمة فينفله من رأسها، كما نفل أبا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 قتادة، أو من الخمس كما نفلهم فى حديث ابن عمر، والله يوتى فضله من يشاء. وفيه فضل العزلة والانفراد عن الناس، والفرار عنهم ولا سيما فى زمن الفتن وفساد الناس، وإنما جاءت الأحاديث بذكر الشعاب والجبال؛ لأنها فى الأغلب مواضع الخلسة والانفراد، فكل موضع يبعد عن الناس، فهو داخل فى هذا المعنى كالمساجد والبيوت، وقد قال عقبة بن عامر: (ما النجاة يا رسول الله؟ قال: أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك) . 3 - باب الدُّعَاءِ بِالْجِهَادِ وَالشَّهَادَةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَقَالَ عُمَرُ: [اللَّهُمَّ] ارْزُقْنِى شَهَادَةً فِى بَلَدِ رَسُولِكَ. 1653 / - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، فَتُطْعِمُهُ، وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَطْعَمَتْهُ، وَجَعَلَتْ تَفْلِى رَأْسَهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ قُلْتُ: وَمَا يُضْحِكُكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى عُرِضُوا عَلَىَّ غُزَاةً فِى سَبِيلِ اللَّهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ، مُلُوكًا عَلَى الأسِرَّةِ - أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الأسِرَّةِ - شَكَّ إِسْحَاقُ - قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِى مِنْهمْ، فَدَعَا لَهَا، ثُمَّ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَأْسَهُ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: وَمَا يُضْحِكُكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى عُرِضُوا عَلَىَّ غُزَاةً فِى سَبِيلِ اللَّهِ) ، كَمَا قَالَ فِى الأوَّلِ، قَالَتْ: قُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِى مِنْهُمْ، قَالَ: (أَنْتِ مِنَ الأوَّلِينَ) ، فَرَكِبَتِ الْبَحْرَ فِى زَمَانِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِى سُفْيَانَ، فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ، فَهَلَكَتْ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 قال المهلب: كانت أم حرام خالة النبى (صلى الله عليه وسلم) من الرضاعة، فلذلك كان ينام فى حجرها، وتفلى رأسه. قال غيره: إنما كانت خالة لأبيه أو لجده؛ لأن أم عبد المطلب كانت من بنى النجار، وكان يأتيها زائرًا لها، والزيارة من صلة الرحم. وفيه: إباحة أكل ما قدمته المرأة إلى ضيفها من مال زوجها؛ لأن الأغلب أن ما فى البيت من الطعام هو للرجل. وفيه أن الوكيل والمؤتمن إذا علم أنه يسر صاحب المنزل بما يفعله فى ماله جاز له فعل ذلك، ومعلوم أن عبادة كان يسره أكل رسول الله فى بيته. واختلف العلماء فى عطية المرأة من مال زوجها بغير إذنه، وسيأتى ذلك فى موضعه. وقوله: (يركبون ثبج هذا البحر) والثبج: الظهر. وقال الخطابى: الثبج: أعلى متن الشيء. وضحكه (صلى الله عليه وسلم) هو سرور منه، بما يدخله الله على أمته من الأجر، وما ينالوه من الخير، وإنما رآهم ملوكًا على الأسرة فى الجنة فى رؤياه، وفيه إباحة الجهاد للنساء فى البحر، وقد ترجم له بذلك بعد: باب: جهاد النساء، بعد هذا. وقالت أم عطية: (كنا نغزوا مع النبى (صلى الله عليه وسلم) فنداوى الكلمى ونقوم على المرضى) وفيه أن الجهاد تحت راية كل إمامٍ جائز ماض إلى يوم القيامة؛ لأنه رأى الآخرين ملوكًا على الأسرة كما رأى الأولين، ولا نهاية للآخرين إلى يوم القيامة، قال تعالى: (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين) [الواقعة: 39، 40] ، وهذا الحديث من أعلام النبوة وذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 أنه أخبر فيه بضروب من الغيب قبل وقوعها، فمنها: جهاد أمته فى البحر، وضحكه دليل على أن الله يفتح لهم ويغنمهم، ومنها: الإخبار بصفة أحوالهم فى جهادهم وهو قوله: (يركبون ثبج هذا البحر ملوكًا على الأسرة) ومنها قوله لأم حرام: (أنت من الأولين) فكان كذلك، غزت مع زوجها فى أول غزوة كانت إلى الروم فى البحر مع معاوية. وفيه: هلكت، وهذا كله لا يعلم إلا بوحى من الله تعالى على ما أوحى إليه به فى نومه. وفيه: أن رؤيا الأنبياء وحى، وفيه ضحك المبشر إذا بشر بما يسره كما فعل (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: وفيه فضل معاوية - رحمه الله وأن الله قد بشر به نبيه فى النوم؛ لأنه أول من غزا فى البحر وجعل من غزا تحت رايته من الأولين. وذكر أهل السير أن هذه الغزاة كانت فى زمن عثمان. قال الزبير بن أبى بكر: ركب معاوية البحر غازيًا بالمسلمين فى خلافة عثمان إلى قبرس ومعه أم حرام زوجة عبادة، فركبت بغلتها حين خرجت من السفينة فصرعت فماتت. وقال ابن الكلبى: كانت هذه الغزاة لمعاوية سنة ثمان وعشرين. وفيه أن الموت فى سبيل الله شهادة. وذكر ابن أبى شيبة، قال: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا ابن عون، عن ابن سيرين، عن أبى العجفاء السلمى قال: قال عمر بن الخطاب: قال محمد (صلى الله عليه وسلم) : (من قتل فى سبيل الله أو مات فهو فى الجنة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 4 - باب دَرَجَاتِ الْمُجَاهِدِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى يُقَالُ: هَذِا سَبِيلِى، وَهَذهِ سَبِيلِى. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: (غُزًّا (: وَاحِدُهَا غَازٍ،) هُمْ دَرَجَاتٌ) [آل عمران: 163] لَهُمْ دَرَجَاتٌ. 1654 / - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، جَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ جَلَسَ فِى أَرْضِهِ الَّتِى وُلِدَ فِيهَا) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلا نُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: (إِنَّ فِى الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ) . 1655 / - وفيه: سَمُرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِى، فَصَعِدَا بِى الشَّجَرَةَ، فَأَدْخَلانِى دَارًا هِىَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ، لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، قَالا: أَمَّا هَذِهِ الدَّارُ، فَدَارُ الشُّهَدَاءِ) . قال المهلب: تستحق الجنة بالإيمان بالله ورسوله، وقد روى عن الرسول أنه قال: (ثمن الجنة لا إله إلا الله) وبالشهادة والأعمال الصالحة تستحق الدرجات والمنازل فى الجنة وقوله: (وسط الجنة) فيحتمل أن يريد موسطتها، والجنة قد حفت بها من كل جهة. وقوله: (أعلى الجنة) يريد أرفعها؛ لأن الله تعالى مدح الجنات إذا كانت فى علو، فقال: (كمثل جنة ربوة) [البقرة: 265] ، وقوله: (منها تفجر أنهار الجنة) يريد أنها عالية من الارتفاع وقال المؤلف: وقوله: (من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان كان حقًا على الله أن يدخله الجنة، جاهد فى سبيل الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 أو جلس فى أرضه) فيه تأنيس لمن حرم الجهاد فى سبيل الله، فإن له من الإيمان بالله والتزام الفرائض ما يوصله إلى الجنة؛ لأنها هى غاية الطالبين، ومن أجله تبذل النفوس فى الجهاد. فلما قيل لرسول الله: (أفلا نبشر الناس) أخبر (صلى الله عليه وسلم) بدرجات المجاهدين فى سبيله وفضيلتهم فى الجنة ليرغب أمته فى مجاهدة المشركين وإعلاء كلمة الإسلام، وهذا الحديث كان قبل فرض الزكاة والحج. فلذلك لم يذكرا فيه والله أعلم. وقد روى ابن وهب، عن عبد الرحمن بن شريح، عن سهل بن أبى أمامة بن سهل ابن حنيف، عن أبيه، عن جده، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) رواه حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وحديث أبى هريرة شبه هذا المعنى؛ لأن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى) خطاب لجميع أمته يدخل فيه المجاهدون وغيرهم. فدل ذلك أنه قد يعطى الله لمن لم يجاهد قريبًا من درجة المجاهد؛ لأن الفردوس إذا كان أعلى الجنة ولا درجة فوقه، وقد أمر (صلى الله عليه وسلم) جميع أمته بطلب الفردوس من الله؛ دل أن من بوأه الفردوس وإن لم يجاهد فقد تقارب درجته من درجات المجاهد فى العلو وإن اختلفت الدرجات فى الكثرة، والله يؤتى فضله من يشاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 5 - باب الْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَابِ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ 656 / فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِيّ، (صلى الله عليه وسلم) : (لَغَدْوَةٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) . 1657 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ، (صلى الله عليه وسلم) : (لَقَابُ قَوْسٍ فِى الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ) ، قال المهلب: قوله: (الغدوة والروحة خير من الدنيا) يعنى خير من زمن الدنيا؛ لأن الغدوة والروحة فى زمن، فيقال: إن ثواب هذا الزمن القليل فى الجنة خير من زمن الدنيا كلها، وكذلك قوله: (لقاب قوس أحدكم) أو (موضع سوط فى الجنة) يريد أن ما صغر فى الجنة من المواضع كلها من بساتينها وأرضها، فأخبر فى هذا الحديث أن قصير الزمان وصغير المكان فى الآخرة خير من طويل الزمان وكبير المكان فى الدنيا، تزهيدًا فيها وتصغيرًا لها وترغيبا فى الجهاد، إذا بالغدوة والروحة فيه أو مقدار قوس المجاهد يعطيه الله فى الآخرة أفضل من الدنيا وما فيها، فما ظنك بمن أتعب فيه نفسه وأنفق ماله. وقال صاحب العين: قاب القوس: قدر طولها. 6 - باب نزول الْحُورِ الْعِينِ وَصِفَتِهِنَّ يُحَارُ فِيهَا الطَّرْفُ شَدِيدَةُ سَوَادِ الْعَيْنِ شَدِيدَةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ) وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عين) [الدخان: 54] أَنْكَحْنَاهُمْ. 1658 / - فيه: أَنَس، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، إِلا الشَّهِيدَ، لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى) . 1659 / - وَقَالَ أَنَس، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) : (لَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ - أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ يَعْنِى سَوْطَهُ - مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأرْضِ لأضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلأتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) . قال المهلب: إنما ذكر حديث أنس فى هذا الباب لأن المعنى الذى يتمنى الشهيد من أجله أن يرجع إلى الدنيا فيقتل هو مما يرى مما يعطى الله الشهيد من النعيم ويزوجه من الحور العين، وكل واحدة منهن لو اطلعت إلى الدنيا لأضاءت كلها، ليستزيد من كرامة الله وتنعيمه وفضله. وفى ذلك حض على طلب الشهادة وترغيب فيها. وقال ابن قتيبة: إنما سمى الشهداء شهداء؛ لأنهم يشهدون ملكوت الله، واحدهم شهيد كما يقال عليم وعلماء، وكفيل وكفلاء، وقال ابن الأنبارى: قال أبو العباس: سمى الشهيد شهيدًا؛ لأن الله وملائكته شهود له بالجنة، وهو فعيل بتأويل مفعول. مثل طبيخ وقدير بمعنى مطبوخ ومقدور. وقيد الرمح: قدره وقيسه، والنصيف: الخمار من كتاب العين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 7 - باب تَمَنِّى الشَّهَادَةِ 660 / - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوْلا أَنَّ رِجَالا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّى، وَلا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّى أُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ) . 1661 / وفيه: أَنَس، خَطَبَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ، وَقَالَ: (مَا يَسُرُّنَا أَنَّهُمْ عِنْدَنَا) ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. فيه من الفقه: أن رسول الله كان يتمنى من أعمال الخير ما يعلم أنه لا يعطاه حرصًا منه (صلى الله عليه وسلم) على الوصول إلى أعلى درجات الشاكرين، وبذلا لنفسه فى مرضات ربه وإعلاء كلمة دينه، ورغبة فى الازدياد من ثواب ربه، ولتتأسى به أمته فى ذلك، وقد يثاب المرء على نيته، وسيأتى فى كتاب التمنى ما تمناه الصالحون مما لا يصل إلى كونه. وقوله: (والذى نفسى بيده) فيه إباحة اليمين بالله على كل ما يعتقده المرء مما يحتاج فيه إلى يمين، وما لا يحتاج، وكثيرًا كان (صلى الله عليه وسلم) يقول فى كلامه: (ومقلب القلوب) لأن فى اليمين بالله توحيدًا وتعظيمًا له، وإنما يكره تعمد الحنث. وفيه: أن الجهاد ليس بفرض معين على كل أحد، ولو كان معينًا ما تخلف رسول الله، ولا أباح لغيره التخلف عنه ولو شق على أمته؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 إذ كانوا يطيعونه، هذا إذا كان العدو لم يفجأ المسلمين فى دارهم ولا ظهر عليهم وفيه: أنه يجوز للإمام العالم ترك فعل الطاعة إذا لم يطق أصحابه ونصحاؤه على الإتيان بمثل ما يقدر هو عليه منها إلى وقت قدرة الجميع عليها وذلك من كرم الصحبة وأدب الأخلاق. وفيه عظيم فضل الشهادة، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (وما يسرنا أنهم عندنا) لعلمه بما صاروا إليه من رفيع المنزلة. 8 - باب فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ فَهُوَ مِنْهُمْ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ (إلى) وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [النساء: 100] وَقَعَ: وَجَبَ. 1662 / وفيه: أَنَس، عَنْ خَالَتِهِ أُمِّ حَرَامٍ، قَالَتْ: نَامَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمًا قَرِيبًا مِنِّى، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فتَبَسَّم. . . . . . الحديث، فَخَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ غَازِيًا أَوَّلَ مَا رَكِبَ الْمُسْلِمُونَ الْبَحْرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غَزْوِهِمْ قَافِلِينَ فَنَزَلُوا الشَّأْمَ، فَقُرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا فَمَاتَتْ. قال المؤلف: مصداق حديث أنس فى قوله تعالى: (ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله (الآية. فنزلت هذه الآية على مثل ما دل عليه الحديث أن من مات فى سبيل الله فهو شهيد. وقد روى ابن وهب، عن عمر بن مالك، عن عبيد الله بن أبى جعفر، عن جعفر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 بن عبد الله بن الحكم، قال: سمعت عقبة بن عامر الجهنى، سمعت رسول الله يقول: (من صرع عن دابته فمات فهو شهيد) وفى حديث أنس أن حكم المنصرف من سبيل الله فى الأجر مثل حكم المتوجه إليه فى خطاه وتقلبه وحركاته، وأن له ثواب المجاهد فى كل ما ينويه ويشق عليه ويتكلفه من نفقة أو غيرها حتى ينصرف إلى بيته، والله أعلم. 9 - باب مَنْ يُنْكَبُ أَوْ يطعن فِى سَبِيلِ اللَّهِ 663 / فيه: أَنَس، بَعَثَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَقْوَامًا مِنْ بَنِى سُلَيْمٍ إِلَى بَنِى عَامِرٍ فِى سَبْعِينَ، فَلَمَّا قَدِمُوا، قَالَ لَهُمْ خَالِى: أَتَقَدَّمُكُمْ، فَإِنْ أَمَّنُونِى حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، وَإِلا كُنْتُمْ مِنِّى قَرِيبًا، فَتَقَدَّمَ، فَأَمَّنُوهُ، فَبَيْنَمَا يُحَدِّثُهُمْ عَنِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِذْ أَوْمَئُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَطَعَنَهُ فَأَنْفَذَهُ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ مَالُوا عَلَى بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ، فَقَتَلُوهُمْ، إِلا رَجُلا أَعْرَجَ صَعِدَ الْجَبَلَ - قَالَ هَمَّامٌ: فَأُرَاهُ آخَرَ مَعَهُ، فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) : أَنَّهُمْ قَدْ لَقُوا رَبَّهُمْ، فَرَضِىَ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ، فَكُنَّا نَقْرَأُ: (أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِىَ عَنَّا وَأَرْضَانَا (ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِى لَحْيَانَ وَبَنِى عُصَيَّةَ الَّذِينَ عَصَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ (صلى الله عليه وسلم) . 1664 / وفيه: جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ فِى بَعْضِ الْمَشَاهِدِ، فدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ، فَقَالَ: (هَلْ أَنْتِ إِلا إِصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ) إنما دعا عليهم (صلى الله عليه وسلم) فى صلاة الفريضة من أجل غدرهم، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 وقبيح نكثهم بعد تأمينهم وآنس الله تعالى نبيه بما أنزل عليه من أنه رضى عنهم وأرضاهم. ففى هذا من الفقه: جواز الدعاء على أهل الغدر والختر وانتهاك المحارم، والإعلان باسمهم والتصريح بذكرهم. وقد جاء فى حديث أنس فى باب قول الله: (ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتًا) [آل عمران: 169] أنه دعا عليهم ثلاثين صباحًا. ودل حديث جندب بن سفيان على أن كل ما أصيب به المجاهد فى سبيل الله من نكبة أو عثرة فإن له أجر ذلك على قدر نيته واحتسابه. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (هل أنت إلا أصبع دميت، وفى سبيل الله ما لقيت) . فهو رجز موزون، وقد يقع على لسانه مقدار البيت من الشعر أو البيتين من الرجز كقوله: (أنا النبى لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) . فلو كان هذا شعرًا لكان خلاف قوله تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغى له) [يس: 69] والله يتعالى أن يقع شيء من خبره أو يوجد على خلاف ما أخبر به تعالى، وهذا من الحجاج اللازمة لأهل الإسلام خاصة، ويقال للملحدين: إن ما وقع من كلامه من الموزون فى النادر من غير قصد فليس بشعر؛ لأن ذلك غير ممتنع على أحد من العامة والباعة أن يقع له كلام موزون فلا يكن بذلك شعرًا مثل قولهم: اسقنى فى الكوز ماء يا غلام، واسرج البغل وجئنى بالطعام. وقولهم: من يشترى باذنجان. وقد يقول العمى منهم: وخالق الأنام ورسله الكرام وبيته الحرام والركن والمقام، لا فعلت كذا وكذا. وقد علم أن المقسم بذلك من النساء والعامة ليس بشاعر ولا قاصد إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 ذلك، وهذا لا يمكن دفع اتفاق مثله من العامة، فثبت بذلك أن هذا المقدار ليس بشعر وأن الرجز ليس بشعر، ذكر هذا القاضى أبو بكر ابن الطيب وغيره، قال وذكر بعض أهل العراق: سمعت غلامًا لصديق لى، وقد كان قد سقى بطنه. يقول لغلمان مولاه: اذهبوا به إلى الطبيب وقولوا قد اكتوى. وهذا الكلام يخرج وزنه عن فاعلات مفاعل فاعلات مفاعل مرتين. وقد علمت أن هذا الغلام لا يخطر على باله قط أن يقول بيت شعر ومثل هذا كثير لو تتبع فى كلام الناس. - باب مَنْ يُجْرَحُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ 665 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِى سَبِيلِهِ - إِلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ) . قوله: (لا يكلم) : يعنى لا يجرح، والكلوم الجراح. وقوله: (فى سبيل الله) المراد به الجهاد، ويدخل فيه بالمعنى كل من جرح فى سبيل بر أو وجه مما أباحه الله تعالى كقتال أهل البغى والخوارج واللصوص، أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من قتل دون ماله فهو شهيد) وقوله: (والله أعلم بمن يكلم فى سبيله) فإنه يدل على أنه ليس كل من جرح فى العدو، تكون هذه حاله، عند الله حتى تصح نيته، ويعلم الله من قتله أنه يريد وجهه، ولم يخرج رياء ولا سمعة ولا ابتغاء دنيا يصيبها. وفيه: أن الشهيد يبعث فى حاله وهيئته التى قبض عليها. وقد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 احتج الطحاوى بهذا الحديث لقول من يرى غسل الشهيد فى المعترك. وقد روى عن الرسول أنه قال: (يبعث الميت فى ثيابه التى قبض فيها) أى يعاد خلق ثيابه كما يعاد خلقه. - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) [التوبة 52] وَالْحَرْبُ سِجَالٌ 666 / فيه: ابْن عَبَّاسٍ، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ وَدُوَلٌ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ. قال المهلب: قوله تعالى: (إلا إحدى الحسنيين (يريد الفتح والغنيمة، أو الشهادة والجنة. قال المؤلف: هذا قول جماعة أهل التأويل، واللفظ استفهام والمعنى توبيخ. فإن قيل: أغفل البخارى أن يذكر تفسير الآية فى الباب، وذكر حديث ابن عباس: أن الحرب سجال، فما تعلقه بالآية التى ترجم بها؟ قيل: تعلقه بها صحيح، والآية مصدقة للحديث، والحديث مبين للآية وإذا كانت الحرب سجالا، فذلك إحدى الحسنيين؛ لأنها إن كانت علينا فهى الشهادة، وهى أكبر الحسنيين، وإن كانت لنا فهى الغنيمة، وهى أصغر الحسنيين، فالحديث مطابق لمعنى الآية. قال المهلب: فكل فتح يقع إلى يوم القيامة أو غنيمة؛ فإنه من إحدى الحسنيين له، وإنما يبتلى الله الأنبياء ليعظم لهم الأجر والمثوبة ولمن معهم، ولئلا يخرق العادة الجارية بين الخلق، ولو أراد الله خرق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 العادة لأهلك الكفار كلهم بغير حرب، ولثبط أيديهم عن المدافعة حتى يؤسروا أجمعين، ولكن أجرى تعالى الأمور على العوائد ليأجر الأنبياء ومن معهم، ويأتوا يوم القيامة مكلومين شهداء فى سبيل الله ظاهرى الوسيلة والشفاعة، وقد تقدم تفسير الحديث: (سجال) فى كتاب بدء الوحى، والحمد لله. - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا) [الأحزاب 23] 667 / فيه: أَنَس، غَابَ عَمِّى عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ، لَئِنِ أَشْهَدَنِى اللَّهُ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّى أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ - يَعْنِى أَصْحَابَهُ - وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ - يَعْنِى الْمُشْرِكِينَ - ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ ابْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ، الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ، إِنِّى أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ، قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ، قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ، وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ، وَكُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِى أَشْبَاهِهِ: (رِجَالٌ صَدَقُوا (الآيَةِ، الحديث. 1668 / الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 وفيه: زَيْدَ، نَسَخْتُ الصُّحُفَ فِى الْمَصَاحِفِ، فَفَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ الأحْزَابِ، كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقْرَأُ بِهَا، فَلَمْ أَجِدْهَا إِلا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأنْصَارِىِّ الَّذِى جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) شَهَادَتَهُ بشَهَادَة رَجُلَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (رِجَالٌ صَدَقُوا (. قال المهلب: وفيه الأخذ بالشدة واستهلاك الإنسان نفسه فى طاعة الله. وفيه الوفاء بالعهد لله بإهلاك النفس، ولا يعارض قوله: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) [البقرة: 195] ؛ لأن هؤلاء عاهدوا الله فوفوا بما عاهدوه من العناء فى المشركين وأخذوا فى الشدة بأن باعوا نفوسهم من الله بالجنة كما قال تعالى. ألا ترى قوله: (فما استطعت ما صنع) يريد ما استطعت أن أصف ما صنع من كثرة ما أغنى وأبلى فى المشركين. وقوله: (إنى أجد ريح الجنة من قبل أحد) يمكن أن يكون على الحقيقة، لأن ريح الجنة يوجد من مسيرة خمسمائة عام، فيجوز أن يشم رائحة طيبة تشهيه الجنة وتحببها إليه، ويمكن أن يكون مجازًا، فيكون المعنى إنى لأعلم أن الجنة فى هذا الموضع الذى يقاتل فيه؛ لأن الجنة فى هذا الموضع تكتسب وتشترى. وأما قوله: (ففقدت آية من الأحزاب، فلم أجدها إلا مع خزيمة) فلم يرد أن حفظها قد ذهب عن جميع الناس فلم تكن عندهم؛ لأن زيد بن ثابت قد حفظها. وروى أن عمر قال: (أِشهد لسمعتها من رسول الله) وروى أن أبى بن كعب قال مثل ذلك، وعن هلال بن أمية أيضًا، وإنما أمر أبو بكر عند جمع الصحف عمر بن الخطاب وزيدًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 بأن يطلبا على ما ينكرانه شهادة رجلين فيشهدان سماع ذلك من فى النبى (صلى الله عليه وسلم) ليكون ذلك أثبت وأشد فى الاستظهار ومما لا يتسرع أحد إلى دفعه وإنكاره، قاله القاضى أبو بكر بن الطيب، وقد ذكر فى ذلك وجوهًا أخر، هذا أحسنها، سأذكرها فى فضائل القرآن فى باب: جمع القرآن، إن شاء الله. - باب العَمَلٌ الصَالِحٌ قَبْلَ الْقِتَالِ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (إلى قوله: (مَرْصُوصٌ) [الصف: 4] . 1669 / - فيه: الْبَرَاءَ، أَتَى النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ؟ قَالَ: (أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ) ، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَاتَلَ، فَقُتِلَ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (عَمِلَ قَلِيلا، وَأُجِرَ كَثِيرًا) . قال المهلب: فى هذا الحديث دليل أن الله يعطى الثواب الجزيل على العمل اليسير تفضلا منه على عباده، فاستحق هذا نعيم الأبد فى الجنة بإسلامه، وإن كان عمله قليلا؛ لأنه اعتقد أنه لو عاش لكان مؤمنًا طول حياته فنفعته نيته، وإن كان قد تقدمها قليل من العمل، وكذلك الكافر إذا مات ساعة كفره يجب عليه التخليد فى النار؛ لأنه انضاف إلى كفره اعتقاده أنه يكون كافرًا طول حياته؛ لأن الأعمال بالنيات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 - باب مَنْ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ 670 / - فيه: أَنَس، أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ - وَهِىَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ - أَتَتِ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ، أَلا تُحَدِّثُنَا عَنْ حَارِثَةَ - وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ - فَإِنْ كَانَ فِى الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِى الْبُكَاءِ، قَالَ: (يَا أُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا جِنَانٌ فِى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأعْلَى) . قال المهلب: هذا نحو حديث أم حرام إذ سقطت عن دابتها فماتت، فهذا وشبهه مما يستحق به الجنة إذا صحت فيه النية، وأما قوله: (سهم غرب) قال أبو عبيد: يقال: أصابه سهم غرب: إذا كان لا يعلم من رماه. وقال ابن السكيت: سهم غَرْب وسهم غَربٍ وغَرَبٍ، وقال غيره: سهم غربٍ. وحكى الخطابى عن أبى زيد قال: سهم غرْب ساكنة الراء إذا أتاه من حيث لا يدرى، وسهم غَرَب بفتح الراء إذا رماه فأصاب غيره. ابن دريد: سهم عائر لا يدرى من رماه. - باب مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا 671 / فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، ولِلذِّكْرِ، ولِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) . قال المهلب: إذا كان فى أصل النية إعلاء كلمة الله ثم دخل عليها من حب الظهور والمغنم ما دخل فلا يضرها ذلك، ومن قاتل لتكون كلمة الله هى العليا، فخليق أن يحب الظهور بإعلاء كلمة الله وأن يحب الغنى بإعلاء كلمة الله، فهذا لا يضره إن كان عقدًا صحيحًا. - باب مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وقوله: (مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا (الآية [التوبة: 120] . 1672 / فيه: أَبُو عَبْسٍ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ) . مصداق هذا الحديث فى آخر الآية التى فى هذا الباب وهو قوله تعالى: (ولا يطئون موطئًا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدونيلا إلا كتب لهم به عمل صالح (ففسر (صلى الله عليه وسلم) ذلك العمل الصالح أنه لا تمس النار من اغبرت قدماه فى سبيل الله، وهذا وعد من النبى (صلى الله عليه وسلم) والوعد منه منجز، وسبيل الله جميع طاعاته. - باب مَسْحِ الْغُبَارِ عَنِ الرَّأْسِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ 673 / فيه: ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ لابنه ولعكرمة: ائْتِيَا أَبَا سَعِيدٍ، فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ، فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ وَأَخُوهُ فِى حَائِطٍ لَهُمَا يَسْقِيَانِهِ، فَلَمَّا رَآنَا، جَاءَ فَاحْتَبَى وَجَلَسَ، فَقَالَ: كُنَّا نَنْقُلُ لَبِنَ الْمَسْجِدِ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَكَانَ عَمَّارٌ يَنْقُلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَمَسَحَ عَنْ رَأْسِهِ الْغُبَارَ، وَقَالَ: (وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 قال المهلب: أما مسح النبى الغبار عن رأس عمار، فرضى من النبى بفعله وشكرًا له على عزمه فى ذات الله. وقوله: (ويح عمار) فهى كلمة لا يراد بها فى هذا الموضع وقوع المكروه بعمار، ولكن المراد بها المدح لعمار على صبره وشدته فى ذات الله، كما تقول العرب للشاعر إذا أحسن: قاتله الله ما أشعره، غير مريدين إيقاع المكروه به. وقوله: (يدعوهم إلى الله) فيريد والله أعلم أهل مكة الذين أخرجوه من دياره وعذبوه فى ذات الله لدعائه لهم إلى الله. ولا يمكن أن يتأول هذا الحديث فى المسلمين البتة؛ لأنهم قد دخلوا دعوة الله، وإنما يدعى إلى الله من كان خارجًا من الإسلام. وقوله: (ويدعونه إلى النار) دليل أيضًا على ذلك؛ لأن المشركين أهل مكة إنما فتنوه وطالبوه أن يرجع إلى دينهم، فهو النار. فإن قيل: إن فتنة عمار قد كانت بمكة فى أول الإسلام، وإنما قال: يدعوهم بلفظ المستقبل، وهذا لفظ الماضي. قيل: العرب قد تخبر بالفعل المستقبل عن الماضى إذا عرف المعنى، كما تخبر بالماضى عن المستقبل، فقوله: (يدعوهم إلى الله) بمعنى دعاهم إلى الله؛ لأن محنة عمار كانت بمكة مشهورة، فأشار (صلى الله عليه وسلم) إلى ذكرها لما طابقت شدته فى نقله لبنتين شدته فى صبره بمكة على عذاب الله، فضيلة لعمار، وتنبيهًا على ثباته، وقوته فى أمر الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 - باب الْغَسْلِ بَعْدَ الْحَرْبِ وَالْغُبَارِ 674 / - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، لَمَّا رَجَعَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَوَضَعَ السِّلاحَ وَاغْتَسَلَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، وَقَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ الْغُبَارُ، فَقَالَ: وَضَعْتَ السِّلاحَ، فَوَاللَّهِ مَا وَضَعْتُهُ، فَقَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (فَأَيْنَ) ؟ قَالَ: هَاهُنَا، وَأَوْمَأَ إِلَى بَنِى قُرَيْظَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ النَّبِى، (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: إنما اغتسل من الغبار للتنظيف، وإن كان الغبار فى سبيل الله شاهدًا من شواهد الجهاد. وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (ما اغبرت قدما عبد فى سبيل الله فتمسه النار) ألا ترى أن جبريل لم يغسله عن نفسه تبركًا به فى سبيل الله. وفيه من الفقه: أن النبى لم يخرج إلى حرب إلا بأذن من الله تعالى وفيه دليل أن الملائكة تصحب المجاهدين فى سبيل الله، وأنها فى عونهم ما استقاموا؛ فإن خانوا وغلوا فارقتهم والله أعلم يدل على ذلك الحديث الذى جاء: (مع كل قاضى ملكان يسددانه ما أقام الحق، فإذا جار تركاه) والمجاهد حاكم بأمر الله فى أعوانه وأصحابه. - باب فَضْلِ قَوْلِ اللَّهِ: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا (الآيات [آل عمران 169] 675 / - فيه: أَنَس، دَعَا النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ ثَلاثِينَ غَدَاةً، عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ؛ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ أَنَسٌ: أُنْزِلَ فِى الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنٌ قَرَأْنَاهُ، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ: بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِىَ عَنَّا، وَرَضِينَا عَنْهُ. وفيه: جَابِر، اصْطَبَحَ نَاسٌ الْخَمْرَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ قُتِلُوا شُهَدَاءَ. قِيلَ لِسُفْيَانَ: مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ؟ قَالَ: لَيْسَ هَذَا فِيهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 قال المهلب: فى هذه الآية التى فى الترجمة دليل على أن كل مقتول غدرًا أنه شهيد؛ لأن أصحاب بئر معونة قتلوا غدرًا بهم. وأما حياة الشهيد فقد اختلف الناس فى كيفيتها، وأولى ما قيل فيها والله أعلم أن تكون الأرواح ترزق، وكذلك جاء الخبر أن (صلى الله عليه وسلم) قال: (إنما نسمة المؤمن طائر تعلق فى شجر الجنة) يعنى: يأكل منها، كذلك فسره أهل اللغة، وحديث تعليق عام، وقد خصصه القرآن بأشياء باشتراط الشهداء. وقوله فى حديث جابر: (ثم قتلوا شهداء) يعنى: والخمر فى بطونهم؛ فإنما كان هذا قبل نزول تحريمها، فلم يمنعهم ما كان فى علم الله من تحريمها، ولا كونها فى بطونهم من حكم الشهادة، وفضلها؛ لأن التحريم إنما يلزم بالنهى، وما كان قبل النهى فهو معفو عنه. - باب ظِلِّ الْمَلائِكَةِ عَلَى الشَّهِيدِ 676 / - فيه: جَابِر: جِىءَ بِأَبِى إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ، وَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْ وَجْهِهِ، فَنَهَانِى قَوْمِى، فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ، فَقِيلَ: بَنْتُ عَمْرٍو، أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو، فَقَالَ: (لِمَ تَبْكِى؟ أَوْ فَلاَ تَبْكِى، مَا زَالَتِ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا، حَتَّى رُفِعَ) . قال المهلب: هذا من فضل الشهادة وضع الملائكة أجنحتها عليه رحمة له وفيه أن النياحة ليست الشدة فى النهى عنها إلا إذا كان معها شيء من أفعال الجاهلية من شق وخمش ودعوى الجاهلية على ما تقدم فى كتاب الجنائز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 وفيه أن الشهيد والرجل الصالح ومن يرجى له الخير لا يجب أن يبكى عليه، ألا ترى أن الرسول قال لها: (لم تبكين) فأخبرها بالأمن عليه فى الآخرة وإنما البكاء على من يخشى عليه النار ويشهد لهذا المعنى حديث أم حارثه إذ قالت للنبى (صلى الله عليه وسلم) (أخبرنى بمنزلة ابنى فإن كان فى الجنة صبرت واحتسبت) . - باب تَمَنِّى الشهيد أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا 677 / - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الأرْضِ مِنْ شَىْءٍ، إِلا الشَّهِيدُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ) . هذا الحديث أجل ما جاء فى فضل الشهادة والحض عليها والترغيب فيها، وإنما يتمنى أن يقتل عشر مرات والله أعلم لعلمه بأن ذلك مما يرضى الله ويقرب منه؛ لأن من بذل نفسه ودمه فى إعزاز دين الله ونصرة دينه ونبيه، فلم تبق غاية وراء ذلك وليس فى أعمال البر ما تبذل فيه النفس غير الجهاد، فلذلك عظم الثواب عليه، والله أعلم. - باب الْجَنَّةُ تَحْتَ بَارِقَةِ السُّيُوفِ وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا (صلى الله عليه وسلم) عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا، أنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَالَ عُمَرُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَلَيْسَ قَتْلانَا فِى الْجَنَّةِ وَقَتْلاهُمْ فِى النَّارِ؟ قَالَ: (بَلَى) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 78 / فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ) . قال المهلب: فيه أنه قد يجوز أن يقطع لقتلى المسلمين كلهم بالجنة؛ لقول عمر: (أليس قتلانا فى الجنة وقتلاهم فى النار) ولكن على الجملة وليس يمكن أن يشخص من هذه الجملة واحد فيقال: إن هذا فى الجنة إلا بخبر فيه نفسه؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (والله أعلم بمن يجاهد فى سبيله) فنحن نقطع بظاهر هذا الحديث فى الجملة ونكل التفصيل والغائب من النيات إلى الله تعالى لئلا يقطع فى علم الله بغير خبر، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) حين سئل، فقيل له: (منا من يقاتل للمغنم وليرى مكانه وللدنيا) فلما فصل له تبرأ من موضع القطع على الغيب. فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى الجنة) وهذا القول يقضى على سائر معانى الحديث والمسألة، والترجمة صحيحة. وأن من قَتل أو قُتل فى إعلاء كلمة الله فهو فى الجنة. وقوله: (تحت بارقة السيوف) هو من البريق، والبريق معروف. وقال الخطابى: يقال: أبرق الرجل بسيفه إذا لمع به، ويسمى السيف: إبريقا وهو إفعيل من البريق. وقال ابن أحمر: تقلدت إبريقًا وعلقت جفنه ليهلك حيا ذا زهاء وحامل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 - باب مَنْ طَلَبَ الْوَلَدَ لِلْجِهَادِ 679 / - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ سُلَيْمَانُ: لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ، أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، كُلُّهُنَّ تَأْتِى بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ تحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ) . قال المهلب: فى هذا الحديث حض على الولد بنية الجهاد فى سبيل الله، وقد يكون الولد بخلاف ما أمله فيه، فيكون كافرًا، ولكن قد تم له الأجر فى نيته وعمله. وفيه أن من قال: إن شاء الله. وتبرأ من المشيئة لله ولم يعط الخاصة لنفسه فى أعماله، أنه حرى بأن يبلغ أمله ويعطى أمنيته، ألا ترى أن سليمان لما لم يرد المشيئة إلى الله، ولم يستثن ما لله، فمن ذلك حرم أمله، ولو استثنى لبلغ أمله، كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، وليس كل من قال قولا ولم يستثن فيه المشيئة فواجب ألا يبلغ أمله بل منهم من يشاء الله إتمام أمله، ومنهم من يشاء ألا يتم أمله بما سبق فى علمه، ولكن هذه التى أخبر عنها الرسول أنها مما لو أستثنى المشيئة لتم أمله فدل هذا على أن الأقدار فى علم الله على ضروب. فقد يقدر للإنسان الولد والرزق والمنزلة إن فعل كذا أو قال أو دعا، فإن لم يفعل ولا قال لم يعط ذلك الشيء، وأصل هذا فى قصة يونس (صلى الله عليه وسلم) قال تعالى: (فلولا أنه كان من المسبحين للبث فى بطنه إلى يوم يبعثون (فبان بهذه الآية أن تسبيحه كان سبب خروجه من بطن الحوت، ولو لم يسبح ما خرج منه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 وفيه أن الاستثناء قد يكون بإثر القول، وإن كان فيه سكوت يسير لم تنقطع به دونه الأفكار الحائلة بين الاستثناء واليمين، وسيأتى ذلك فى موضعه، إن شاء الله. - باب الشَّجَاعَةِ وَالْجُبْنِ فِى الْحَرْبِ 680 / فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، سَبَقَهُمْ عَلَى فَرَسٍ، وَقَالَ: (وَجَدْنَاهُ بَحْرًا) . 1681 / وفيه: جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: بَيْنَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَمَعَهُ النَّاسُ مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ، فَعَلِقَت الأعراب يسألونه حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ، فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَعْطُونِى رِدَائِى، لَوْ كَانَ لِى عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لا تَجِدُونِى بَخِيلا وَلا كَذُوبًا وَلا جَبَانًا) . قال المهلب: فيه أن الرئيس قد يشجع فى بعض الأوقات إذا وجد من نفسه قوة وإن كان اللازم له أن يحوط أمر المسلمين بحياطة نفسه، لكن النبى لما رأى الفزع المستولى علم أنه ليس يكاد بما أخبره الله فى قوله: (والله يعصمك من الناس) [المائدة: 67] وأنه لا بد أن يتم أمره حتى تمر المرأة من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله؛ فلذلك أمن (صلى الله عليه وسلم) فزعهم باستبراء الصيحة، وكذلك كل رئيس إذا استولى على قومه الفزع ووجد من نفسه قوة فينبغى له أن يذهب عنهم الفزع باستبرائه نفسه، وفيه استعمال المجاز فى الكلام؛ لقوله فى الفرس: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 (إنه بحر) فشبه ذلك؛ لأن الجرى منه لا ينقطع كما لا ينقطع ماء البحر، وأول من تكلم بهذا رسول الله، وسأريد فى هذا المعنى فى باب: أسم الفرس والحمار، بعد هذا إن شاء الله. وفيه استعارة الدواب للحرب وغيره، وفيه ركوب الدابة عُريًا لاستعجال الحركة. قال المؤلف: وفى حديث جبير أنه لا بأس للرجل الفاضل أن يخبر عن نفسه بما فيه من الخلال الشريفة عندما يخاف من سوء ظن أهل الجهالة به. وفيه أن البخل والجبن والكذب من الخلال المذمومة التى لا تصلح أن تكون فى رؤساء الناس، وأما من كانت فيه خلة منها لم يتخذه المسلمون إمامًا ولا خليفة، وكذلك من كان كذوبًا فلا يتخذ إمامًا فى دين الله؛ لأن الكذب فجور لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الكذب يهدى إلى الفجور) ولا يؤمن على وحى الله وسنة رسوله الفجار، وإنما يؤمن عليه أهل العدالة كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله) . قال المهلب: وفيه أن الإلحاف فى المسألة قد يرد بالقول والعدة كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (لو أن لى عدد هذه العضاه نعمًا لقسمته بينكم) والوعد من النبى فى حكم الإنجاز واجب لقوله: (ثم لا تجدونى كذوبا) . وفيه: الصبر لجهلة الناس وجفاة السؤال وإن ناله فى ذلك أذى. وسؤاله رداءه تأنيسًا لهم من الأذى والجفاء عليه والمزاحمة فى الطريق، ثم رد إلحافهم بأن أعلمهم أن ما ملكه مقسوم بينهم وأن وعده منجز لهم، وأن الذى يسألونه من قتالهم وعونهم به ليسوا بالمتقدمين عليه فيه؛ بل هو المقدم عليهم فى القتال وفى كل حال لقوله: (ولا جبانًا) ولم ينكر أحد منهم ما وصف به نفسه لا عترافهم به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 وقال أبو عبيد: العضاه من الشجر كل ما له شوك ومن أعرف ذلك الطلح والسيل والسيال والعرفط والسمر، وقال غيره: والقتاد. - باب مَا يُتَعَوَّذُ بِهِ مِنَ الْجُبْنِ 682 / فيه: سَعْد، أنهُ كَانَ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ الْكِتَابَةَ، وَيَقُولُ: إِنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُنَّ فِى دُبُرَ الصَّلاةِ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَعَذَابِ الْقَبْرِ) . 1683 / وفيه: أَنَس، كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وعَذَابِ الْقَبْرِ) . قال المهلب: أما استعاذته (صلى الله عليه وسلم) من الجبن فإنه يؤدى إلى عذاب الآخرة؛ لأنه يفر من قرنه فى الزحف فيدخل تحت وعيد الله لقوله: (ومن يولهم يومئذ) [الأنفال: 16] الآية، وربما يفتن فى دينه، فيرتد لجبن أدركه، وخوف على صحته من الأسر والعبودية، وأرذل العمر: الهرم والضعف عن أداء الفرائض وعن خدمة نفسه فيما يتنظف به فيكون كلا على أهله مستثقلا بينهم، وفتنة الدنيا أن يبيع الآخرة بما يتعجله فى الدنيا من حال أو مال، وتعوذ من العجز؛ لئلا يعجز عما يلزمه فعله من منافع الدين والدنيا. والعجز: مختلف فى معناه، أما أهل الكلام فيجعلونه: ما لا استطاعة لأحد على ما يعجز عنه؛ لأن الاستطاعة عندهم مع الفعل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 وأما أهل الفقه فيقولون: العجز هو ما يستطيع أن يعمله إذا أراد لأنهم يقولون: إن الحج ليس على الفور ولو كان على المهلة عند أهل الكلام لم يصح معناه؛ لأن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل والذين يقولون بالمهلة يجعلون الاستطاعة قبل الفعل، وأما الكسل فهم مجمعون على أنه ضعف النية وإيثار الراحة للبدن على التعب، وإنما أستعيذ منه؛ لأنه يبعد عن الأفعال الصالحة للدنيا والآخرة، وسيأتى هذا الحديث فى كتاب الدعاء ونزيده بيانًا ووجه حاله إن شاء الله. - باب مَنْ حَدَّثَ بِمَشَاهِدِهِ فِى الْحَرْب 684 / - فيه: السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: صَحِبْتُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَسَعْدًا، وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأسْوَدِ، وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، إِلا أَنِّى سَمِعْتُ طَلْحَةَ يُحَدِّثُ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ. قال المؤلف: إنما لم يحدث هؤلاء عن رسول الله والله أعلم خشية التزيد والنقصان؛ لئلا يدخلون فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من تقول على ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار) فاحتاطوا على أنفسهم أخذًا بقول عمر: (أقلوا الحديث عن رسول الله وأنا شريككم) وقد تقدم هذا فى كتاب العلم. وأما حديث طلحة عن مشاهده يوم أحد، ففيه من الفقه: أن للرجل أن يحدث عما تقدم له من العناء فى إظهار الإسلام وإعلاء كلمته، وما نفذ فيه من أعمال البر والموجبات غير النوافل؛ لأنه كان عليهم نصر الرسول وبذل أنفسهم دونه فرضا؛ ليتأسى بذلك متأسٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 ولا يدخل ذلك فى باب الرياء؛ لأن إظهار الفرائض أفضل من سترها ليشاد منار الإسلام وتظهر أعلامه، وكان طلحة من أهل النجدة، وثبات القدم فى الحرب. ذكر البخارى عن قيس فى المغازى، قال: (رأيت يد طلحة شلاء وقى بها الرسول يوم أحد) وعن أبى عثمان (أنه لم يبق مع النبى (صلى الله عليه وسلم) غير طلحة وسعد) فلهذا حدث طلحة عن مشاهده يوم أحد؛ ليقتدى به ويرغب الناس فى مثل فعله، والله أعلم. - باب وُجُوبِ النَّفِيرِ وَمَا يَجِبُ مِنَ الْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ وقوله تَعالَى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا) [التوبة: 41] ، وَقَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ (الآية [التوبة: 38] 1685 / فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا) . قال المهلب: النفير والجهاد، يجبان وجوب فرض ووجوب سنة، فأما من استنفر لعدو غالب ظاهرٍ فالنفير فرض عليه، ومن استنفر لعدو غير غالب ولا قوى على المسلمين فيجب عليه وجوب سنة، من أجل أن طاعة الإمام المستنفر للعدو الغالب قد لزم الجهاد فيه كل أحد مشخص بعينه وأما العدو المقاوم أو المغلوب، فلم يلزم الجهاد فيه لزوم التشخيص لكل إنسان، وما لزم الجماعة فمن انتدب له قام به، ومن قعد عنه أرجو أن يكون فى سعة، ومن ذلك قوله: (لا هجرة بعد الفتح) وذلك أنه كان فى بدو الإسلام فرضًا على كل مسلم أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 يهاجر مع الرسول فيقاتل معه حتى تكون كلمة الله هى العليا، فلما فتح الله مكة وكسر شوكة صناديد قريش ودخل الناس فى دين الله أفواجًا نزلت المقاومة من المسلمين و [. . . . .] على عدوهم فلم تلزم الناس الهجرة بعد؛ لكثرة المسلمين، وسيأتى تفسير باقى الحديث، ومذاهب العلماء فى قوله: (لا هجرة بعد الفتح) فى آخر كتاب الجهاد فى باب لا هجرة بعد الفتح، إن شاء الله. - باب الْكَافِرِ يَقْتُلُ الْمُسْلِمَ ثُمَّ يُسْلِمُ فَيُسَدِّدُ أَوْ يُقْتَلُ 686 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ يَدْخُلانِ الْجَنَّةَ، يُقَاتِلُ هَذَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ) . 1687 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَتَيْتُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ بِخَيْبَرَ بَعْدَ مَا افْتَتَحُوهَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَسْهِمْ لِى، فَقَالَ بَعْضُ بَنِى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: لا تُسْهِمْ لَهُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ، فَقَالَ ابْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: وَاعَجَبًا لِوَبْرٍ، تَدَلَّى عَلَيْنَا مِنْ قَدُومِ ضَأْنٍ يَنْعَى عَلَىَّ قَتْلَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَكْرَمَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَىَّ؛ وَلَمْ يُهِنِّى عَلَى يَدَيْهِ. قَالَ: فَلا أَدْرِى أَسْهَمَ لَهُ أَوْ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ. قال المؤلف: ذكر أبو داود هذا الحديث فى مصنفه قال: (ولم يسهم له رسول الله) وذكر أنه أبان بن سعيد بن العاص، والترجمة صحيحة، ومعناها عند العلماء أن القاتل الأول كان كافرًا، وتوبته إسلامه وقوله: (يضحك الله إلى رجلين) أى: يتلقاهما بالرحمة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 والرضوان، والضحك منه على المجاز؛ لأن الضحك لا يكون منه تعالى على ما يكون من البشر؛ لأنه ليس كمثله شيء. وفيه من الفقه: أن الرجل قد يوبخ بما سلف إلا أن يتوب، فلا يوبخ عليه، ولا تثريب، ألا ترى أن أبا هريرة لما [. . . . .] سعيد على قتل ابن قوقل كيف رد عليه أقبح الرد، وصارت له عليه الحجة كما صارت لآدم على موسى من أجل أنهما وبخا بعد التوبة من الذنب. وفيه: أن التوبة تمحو ما سلف قبلها من الذنوب: القتل وغيره لقوله: (أكرمه الله على يدى ولم يهنى على يديه) لأن ابن قوقل وجبت له الجنة بقتل ابن سعيد له ولم تجب لابن سعيد النار؛ لأنه تاب وأسلم ويصحح ذلك سكوت الرسول على قوله، ولو كان غير صحيح لما لزمه السكوت؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) بعث مبينًا للناس. وفى حديث أبى هريرة حجة على الكوفيين فى قولهم فى المدد يلحق بالجيش فى أرض الحرب بعد الغنيمة أنهم شركاؤهم فى الغنيمة، وسائر العلماء إنما تجب عندهم الغنيمة لمن شهد الوقعة. واحتجوا بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يسهم لأبى هريرة فى هذا الحديث. قال الكوفيون: لا حجة فى حديث أبى هريرة؛ لأن خيبر صارت حين فتحت دار إسلام وهذا لا شك فيه، قالوا: وقد روى حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن عمار بن أبى عمار، عن أبى هريرة قال: (ما شهدت لرسول الله مغنمًا إلا قسم لى إلا خيبر؛ فإنها كانت لأهل الحديبية خاصة شهدوها أو لم يشهدوها؛ لأن الله كان وعدهم بها بقوله: (وأخرى لم تقدروا عليها) [الفتح: 21] واحتجوا بما رواه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 أبو أسامة، عن بريد بن أبى بردة، عن أبى موسى قال: (قدمنا على النبى (صلى الله عليه وسلم) مع جعفر من أرض الحبشة بعد فتح خيبر بثلاث فقسم لنا ولم يقسم لأحد لم يشهد فتحها غيرنا) . قال الطحاوى: وهذا يحتمل أن يكون لأنهم كانوا من أهل المدينة أو يكون استطاب أنفس أهل الغنيمة. وعلى قول الطحاوى لا حجة لأصحابه فى حديث أبى موسى، وسيأتى تمام هذا القول فى هذه المسألة فى حديث ابن عمر أن النبى - (صلى الله عليه وسلم) - أسهم لعثمان يوم بدر فى باب: إذا بعث الإمام رسولاً فى حاجة أو أمره بالمقام عليها هل يقسم له، بعد هذا إن شاء الله. وقوله: (واعجبًا لوبر تدلى علينا من قدوم ضأن) وقد روى من رأس ضأن، فمن رواه لوبر بفتح الباء فمعناه أنه شبه أبا هريرة بالوبر الذى لا حطب له ولا مقدار؛ لأنه لم يكن لأبى هريرة عشيرة ولا قوم يمتنع بهم ولا يغنى فى قتال ولا لقاء عدو وكان ابن سعيد وأبو هريرة طارئين، ذكر الطبرى أن أبا هريرة وأبانًا قدما على الرسول بخيبر. ومن روى الوبر بإسكان الباء فمعناه أنه يشبهه بالوبر وهو دويبة على قدر السنور، عن صاحب العين، فأراد به فى ضعف المنة وقلة الغناء كالنسور فى السباع وإنما سكت النبى (صلى الله عليه وسلم) عن الإنكار على ابن سعيد؛ لأنه لم يذم أبا هريرة بحد ولا تنقصه فى دين، وإنما تنقصه فى قلة العشيرة والعدد أو بضعف المنة. وأما قوله: (تدلى علينا من قدوم ضأن) فإن أبا ذر الهروى، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 قال: (ضأن) جبل بأرض دوس وهو بلد أبى هريرة. وقوله: (تدلى علينا) يعنى: انحدر، ولا يخبر بهذا إلا عمن جاء من موضع عال، هذا الأشهر عند العرب. وقوله: (من قدوم ضأن) يحتمل أن يكون قدوم جمع قادم، مثل راكع وركوع وساجد وسجود، ذكر ذلك سيبويه فيكون المعنى تدلى علينا من جملة القوم القادمين، أقام الصفة مقام الموصوف. وتكون (من) فى قوله (من قدوم) تبيينًا للجنس كقوله: (لو تدلى علينا من ساكنى ضأن) ولا تكون (من) مرتبطة بالفعل فى قوله، تدليت من الجبل. لاستحالة تدليه من قوم. ولا يقال تدليت من بنى فلان، ويحتمل أن يكون (قدوم) مصدر وصف به الفاعلون، ويكون فى الكلام حذف، وتقديره: (تدلى علينا من ذوى قدوم) فحذف الموصوف وأقام المصدر مقامه، كما قالوا: رجل صوم ورجل فطر أى: ذو صوم وذو فطر، و (من) على هذا التقدير أيضًا تبيين للجنس كما كانت فى الوجه الأول. ويحتمل أن يكون معناه: تدلى علينا من مكان قدوم ضأن، ثم حذف المكان وأقام القدوم مكانه، كما قالت العرب: ذهب به مذهب وسلك به مسلك، يريد المكان الذى يسلك فيه ويذهب، ويشهد لهذا رواية من روى (من رأس ضأن) . وفيه قول آخر: يحتمل أن يكون (قدوم) اسم لمكان من الجبل متقدم منه، ولا يكون مصدرًا ولا جمعًا، ويدل على هذا رواية من روى: (تدلى علينا من رأس ضأن) ويحتمل أن يكون اسمًا لمكان قدوم بفتح القاف دون الضم، لقلة الضم فى هذا البناء فى الأسماء، وكثرة الفتح. ويحتمل أن يكون قدوم ضأن بتشديد الدال وفتح القاف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 لو ساعدته رواية؛ لأنه بناء من أسماء المواضع، وطرف القدوم موضع بالشام. - باب مَنِ اخْتَارَ الْغَزْوَ عَلَى الصَّوْمِ 688 / فيه: أَنَس، كَانَ أَبُو طَلْحَةَ لا يَصُومُ عَلَى عَهْدِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) مِنْ أَجْلِ الْغَزْوِ، فَلَمَّا قُبِضَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، لَمْ أَرَهُ مُفْطِرًا إِلا يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى. قال المهلب: كان أبو طلحة فارس رسول الله، وممن له الغناء فى الحرب؛ فلذلك كان يفطر ليتقوى على العدو، وقد قال النبى (صلى الله عليه وسلم) -: (تقووا لعدوكم بالإفطار) وأيضًا فإن المجاهد يكتب له أجر الصائم القائم، وقد مثله (صلى الله عليه وسلم) بالصائم لا يفطر والقائم لا يفتر، فدل هذا كله على فضل الجهاد على سائر أعمال التطوع، فلما مات رسول الله وكثر الإسلام واشتدت وطأة أهله على عدوهم، ورأى أنه فى سعة عما كان عليه من الجهاد، ورأى أن يأخذ لحظه من الصوم؛ ليدخل يوم القيامة من باب الريان، والله أعلم. 30 - باب الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ 689 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) . 1690 / وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 قال المؤلف: لا تخرج هذه الترجمة من الحديث أصلا. وهذا يدل أن البخارى مات ولم يهذب كتابه؛ لأنه لم يذكر الحديث الذى فيه أن الشهداء سبعة سوى القتل فى سبيل الله، وهو حديث رواه مالك، عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك، عن عتيك بن الحارث بن عتيك أن جابر بن عتيك، أخبره أن رسول الله جاء يعود عبد الله ابن ثابت فوجده قد غلب فصاح به فلم يجبه. . .) ، وذكر الحديث، وقال فيه رسول الله: (الشهداء سبعة سوى القتل فى سبيل الله: المطعون شهيد، والغرق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، والحرق شهيد، والذى يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد) فالمطعون هو الذى يموت فى الطاعون، وقد قالت عائشة: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) -: (فناء أمتى فى الطعن والطاعون. قالت: أما الطعن فقد عرفناه؟ فما الطاعون؟ قال: غدة كغدة البعير تخرج فى المراق والآباط، من مات منه مات شهيدًا) والمبطون: هو [. . .] وقيل: صاحب انخراق البطن بالإسهال. وذات الجنب: وهى الشوصة. وفى بعض الآثار: (المجنوب شهيد) يريد صاحب ذات الجنب، يقال: منه رجل جنب بكسر النون إذا كان به ذلك، وأما المرأة تموت بجمع، ففيه قولان: أحدهما: المرأة تموت من الولادة وولدها فى بطنها قد تم خلقه، وقيل: إذا ماتت من النفاس فهو شهيد سواء ألقت ولدها وماتت، أو ماتت وهو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 فى بطنها. والقول الثانى: هى المرأة تموت عذراء قبل أن تحيض لم يمسها الرجال. والأول أشهر فى اللغة. قال المهلب: وقد أخبر (صلى الله عليه وسلم) فى غير ما ذكر فى هذه الآثار فى قوم أنهم شهداء فقال: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله ودون دينه) وإن كان بنص كتاب الله إنما أتى فيمن قتل فى سبيل الله فمن ألحق النبى (صلى الله عليه وسلم) ميتته بالشهادة فحاله كحال من قتل فى سبيل الله، والله أعلم. 31 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (الآية [النساء: 95] 691 / فيه: الْبَرَاء، لَمَّا نَزَلَتْ: (لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (دَعَا النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، زَيْدًا، فَجَاءَ بِكَتِفٍ، فَكَتَبَهَا، وجاء ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَشَكَا ضَرَارَتَهُ، فَنَزَلَتْ: (لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِى الضَّرَرِ (. 1692 / فيه: زَيْدَ، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَمْلَى علىَّ: (لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ () وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ (قَالَ: فَجَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ يُمِلُّهَا؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ، وَكَانَ رَجُلا أَعْمَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِى، فَثَقُلَتْ عَلَىَّ حَتَّى خِفْتُ أَنَّ تَرُضَّ فَخِذِى، ثُمَّ سُرِّىَ عَنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (غَيْرُ أُولِى الضَّرَرِ (. قال المهلب: فيه دليل على أن من حبسه العذر عن الجهاد وغيره من أعمال البر مع نيته فيه فله أجر المجاهد والعامل؛ لأن نص الآية على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 المفاضلة بين المجاهد والقاعد ثم استثنى من المفضولين أولى الضرر، وإذا استثناهم من المفضولين فقد ألحقهم بالفاضلين، وقد بين النبى (صلى الله عليه وسلم) هذا المعنى، فقال: (إن بالمدينة أقوامًا ما سلكنا واديًا، وشعبًا إلا وهم معنا حبسهم العذر) وقد جاء عن الرسول فيمن كان يعمل شيئًا من الطاعة ثم حبسه عنه مرض أو غيره أنه يكتب له ما كان يعمل وهو صحيح، وكذلك من نام عن حزبه نومًا غالبًا كتب له أجر حزبه، وكان نومه صدقة عليه، وهذا معنى قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون (أى غير مقطوع بزمانة أو كبر أو ضعف، ففى هذا أن الإنسان يبلغ بنيته أجر العامل إذا كان لا يستطيع العمل الذى ينويه، وسيأتى زيادة فى هذا المعنى فى باب يكتب للمسافر ما كان يعمل فى الإقامة إن شاء الله وفيه اتخاذ الكاتب وتقييد العلم، وفيه قرب الكاتب من مستكتبه حتى تمس ركبته ركبته. 32 - باب الصَّبْرِ عِنْدَ الْقِتَالِ 693 / فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا) . قال المهلب: الصبر سبب إلى كل خير، وقد نص الله عليه فى غير موضع من كتابه، فأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بالصبر عند لقاء العدو رجاء بركته؛ ولئلا يأنس الناس بالكسل والفشل اللذين هما آفة الحرمان فى الدنيا والآخرة، والصبر على مطلوبات الدنيا والآخرة ضمان لإدراكها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 وقوله: (فاصبروا) معناه: الحض والندب؛ لأن الفرض الذى فرض الله على المسلمين عند لقاء العدو إنما هو عند المثلين، فما كان أكثر فإنما هو حض وندب والله الموفق. 33 - باب التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ وَقَوْلِهِ اللَّه تَعَالَى: (حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ) [الأنفال: 65] . 1694 / فيه: أَنَس، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى الْخَنْدَقِ، فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِى غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالْجُوعِ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلأنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا قال المهلب: فيه دليل أن الحفر فى سبيل الله والتحصين للديار ولسد العورة منها أجر كأجر القتال، والنفقة فيه محسوبة فى نفقات المجاهدين إلى تسعمائة ضعف. وفيه استعمال الرجز والشعر إذا كان فيه إقامة النفوس فى الحرب وإثارة الأنفة والعزة. وفيه المجاوبة بالشعر على الشعر، وليس هذا الشعر من قول النبى (صلى الله عليه وسلم) هو من قول عبد الله بن رواحة، ولو كان من لفظ النبى لم يكن بذلك شعرًا ولا ممن ينبغى له الشعر؛ لأنه قد يقع فى تضاعيف كلام العامة كلام موزون ولا يسمى ذلك شعرًا ولا من تكلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 به شاعرًا، ولو جاز أن يسمى بهذا المقدار شاعرًا لكان جميع العامة شعراء؛ إذا لا يسلم أحد من أن يقع فى كلامه كلام موزون، وقد تقدم بيان هذا فى باب: من ينكب أو يطعن فى سبيل الله. وإنما يستحق اسم الشعر من قصد صناعته وعلم السبب والوتد والشطر وجميع معانى الشعر من الزحاف والحزم والقبض وما شاكل ذلك. 34 - باب حَفْرِ الْخَنْدَقِ 695 / فيه: أَنَس، جَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، وَيَنْقُلُونَ التُّرَابَ عَلَى مُتُونِهِمْ. . . . الحديث. 1696 / وفيه: الْبَرَاءِ، رَأَيْتُ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَنْقُلُ التُّرَابَ يَوْمَ الأحْزَابِ، وَقَدْ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ كتفيه. . . . . الحديث. . . ويقول: (اللهم لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا) . قال المهلب: فيه امتهان الإمام نفسه فى التحصين على المسلمين وما يتأسى به الناس ويقتدون به، فيه شرف له وتحريض وتنشيط وإثارة النية والعزم على العمل والطاعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 35 - باب مَنْ حَبَسَهُ الْعُذْرُ عَنِ الْغَزْوِ 697 / فيه: أَنَس، رَجَعْنَا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سَلَكْنَا شِعْبًا، وَلا وَادِيًا إِلا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ) . هذا يدل أن من حبسه العذر عن أعمال البر مع نيته فيها أنه يكتب له أجر العامل فيها، كما قال (صلى الله عليه وسلم) فيمن غلبه النوم عن صلاة الليل أنه يكتب له أجر صلاته، وقد تقدم هذا المعنى فى باب: (لا يستوى القاعدون من المؤمنين (. 36 - باب فَضْلِ الصَّوْمِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ 698 / فيه: أَبُو سَعِيد، سَمِعْتُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، يَقُولُ: (مَنْ صَامَ يَوْمًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا) . قال المهلب: هذا الحديث يدل أن الصيام فى سائر أعمال البر أفضل إلا أن يخشى الصائم ضعفًا عند اللقاء؛ لأنه قد ثبت عن الرسول أنه قال لأصحابه فى بعض المغازى حين قرب من الملاقاة بأيام يسيرة: (تقووا لعدوكم) فأمرهم بالإفطار؛ لأن نفس الصائم ضعيفة وقد جبل الله الأجسام على أنها لا قوام لها إلا بالغذاء. ولهذا المعنى قال النبى (صلى الله عليه وسلم) لعبد الله بن عمرو: (أفضل الصوم صوم داود كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يفر إذا لاقى) فلا يكره الصوم البتة إلا عند اللقاء وخشية الضعف عند القتال؛ لأن الجهاد وقتل المشركين أعظم أجرًا من الصوم لمن فيه قوة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 37 - باب فَضْلِ النَّفَقَةِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ 699 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ دَعَاهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ - كُلُّ خَزَنَةِ بَابٍ -: أَىْ فُلُ هَلُمَّ) ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَقُولُونَ اللَّهُمَ ذَلِكَ الَّذِى لا تَوَى عَلَيْهِ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى لأرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ) . 1700 / وفيه: أَبُو سَعِيد، قَامَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: (إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِى مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأرْضِ - ثُمَّ ذَكَرَ زَهْرَةَ الدُّنْيَا - الحديث إلى قوله: (فَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ لِمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ، فَجَعَلَهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) . قال المهلب: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من أنفق زوجين فى سبيل الله دعاه كل خزنة باب) فيه فضل الجهاد على سائر الأعمال وأن للمجاهد أجر المصلى والصائم والمتصدق وإن لم يفعل ذلك؛ ألا ترى أن باب الريان هو للصائمين خاصة، وقد اشترط فى هذا الحديث أنه يدعى من كل باب فاستحق ذلك بإنفاق قليل من المال فى سبيل الله، ففى هذا أن [. . . . . .] إذا أنفق فى سبيل الله. أفضل الأعمال. إلا أن طلب العلم ينبغى أن يكون أفضل من الجهاد وغيره؛ لأن الجهاد لا يكون إلا بعلم حدوده وما أحل الله منه وحرم، ألا ترى أن المجاهد متصرف بين أمر العالم ونهيه، ففضل عمله كله فى ميزان العالم الآمر له بالمعروف والناهى له عن المنكر والهادى له إلى السبيل، فكما أن أجر المسلمين كلهم مذخور للنبى (صلى الله عليه وسلم) من أجل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 تعليمه لهم وهدايته إياهم سبيل العلم، فكذلك يجب أن يكون أجر العالم فيه أجر من عمل بعلمه. وفيه دليل أن من دعى إلى أبواب الجنة كلها لم يكن ممن استحق عقوبة فى نار والله أعلم لقول أبى بكر: (ذلك الذى لا توى عليه) أى: لا هلاك، فلم ينكره الرسول. وفيه القول بالدليل فى أحكام الدنيا والآخرة لاستدلال أبى بكر بالدعاء له من كل باب أنه لا هلاك عليه، ولتصديق الرسول ذلك الاستدلال، وتبشيره لأبى بكر أنه منهم، من أجل أنه أنفق فى سبيل الله كلها أزواجًا كثيرة من كل شيء، وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب الصيام فى باب الريان للصائمين، ومر فيه من الكلام ما لم أذكره هاهنا. وكذلك تقدم القول فى حديث أبى سعيد فى كتاب الزكاة، وذكر ابن المنذر من حديث جرير بن حازم قال: حدثنى بشار بن أبى سيف الجرمى، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن عياض بن غطيف: (أن أبا عبيدة بن الجراح أخبره عن الرسول أنه قال: من أنفق فى سبيل الله فبسبعمائة ضعف، والنفقة على نفسه وأهله بعشر أمثالها) . ومن حديث خريم بن فاتك، روى زائدة قال: حدثنا الركين بن ربيع ابن عميلة الفزارى، عن أبيه، عن يسير بن عميلة الفزارى عن خريم، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من أنفق نفقة فى سبيل الله فبسبعمائة ضعف) . وقد جاء أن الذكر وأعمال البر فى سبيل الله أفضل من النفقة. فيه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 من حديث الليث، عن موسى بن أيوب، عن موسى بن حبير، عن معاذ بن أنس الجهنى صاحب النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (يضعف الذكر والعمل فى سبيل الله على تضعيف النفقة بسبعمائة ضعف) وعن ابن المسيب مثله. 38 - باب فَضْلِ مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا أَوْ خَلَفَهُ بِخَيْرٍ 701 / فيه: زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا) . 1702 / وفيه: أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ بَيْتًا بِالْمَدِينَةِ غَيْرَ بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: (إِنِّى أَرْحَمُهَا، قُتِلَ أَخُوهَا مَعِى) . قال المهلب: أوجب له (صلى الله عليه وسلم) الفعل مجازًا واتساعًا وإن لم يفعله لوجوب أجره له. وقال الطبرى: وفيه من الفقه أن كل من أعان مؤمنًا على عمل بر فللمعين عليه أجر مثل العامل، وإذا أخبر الرسول أن من جهز غازيًا فقد غزا، فكذلك من فطر صائمًا أو قواه على صومه، وكذلك من أعان حاجا أو معتمرًا بما يتقوى به على حجه أو عمرته حتى يأتى ذلك على تمامه فله مثل أجره. ومن أعان فإنما يجيء من حقوق الله بنفسه أو بماله حتى يغلبه على الباطل بمعونة فله مثل أجر القائم، ثم كذلك سائر أعمال البر، وإذا كان ذلك بحكم المعونة على أعمال البر فمثله المعونة على معاصى الله وما يكرهه الله، للمعين عليها من الوزر والإثم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 مثل ما لعاملها، ولذلك نهى الرسول عن بيع السيوف فى الفتنة ولعن عاصر الخمر ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه، وكذلك سائر أعمال الفجور. قال المهلب: وقوله: (لم يكن يدخل بيتًا غير بيت أم سليم) يعنى: من بيوت النساء غير ذوى محارمه؛ فإنه كان يخص أم سليم للعلة التى ذكر، ولأنها كانت أختها أم حرام خالته من الرضاعة. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وكانت أم حرام أختها تسكن بقباء. وقوله: (قتل أخوها معي) أى: قتل فى سبيلى؛ لأنه قتل ببئر معونة، ولم يشهدها الرسول (صلى الله عليه وسلم) . 39 - باب التَّحَنُّطِ عِنْدَ الْقِتَالِ 703 / فيه: مُوسَى بْنِ أَنَسٍ، قَالَ - وَذَكَرَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ - قَالَ: أَتَى أَنَسٌ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ، وَقَدْ حَسَرَ عَنْ فَخِذَيْهِ، وَهُوَ يَتَحَنَّطُ، فَقَالَ: يَا عَمِّ، مَا يَحْبِسُكَ أَنْ لا تَجِىءَ؟ قَالَ: الآنَ يَا ابْنَ أَخِى، وَجَعَلَ يَتَحَنَّطُ - يَعْنِى مِنَ الْحَنُوطِ - ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ، فَذَكَرَ فِى الْحَدِيثِ انْكِشَافًا مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ: هَكَذَا عَنْ وُجُوهِنَا حَتَّى نُضَارِبَ الْقَوْمَ، مَا هَكَذَا كُنَّا نَفْعَلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، بِئْسَ مَا عَوَّدْتَكُمْ أَقْرَانَكُمْ. قال المهلب: فيه الأخذ بالشدة فى استهلاك النفس وغيرها فى ذات الله، وترك الأخذ بالرخصة لمن قدر عليها؛ لأنها لا يخلو أن تكون الطائفة من المسلمين التى غزت اليمامة أكثر منهم أو أقل، فإن كانوا أكثر فلا يتعين الفرض على أحد بعينه أن يستهلك نفسه فيه، وإن كانوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 أقل وهو المعروف فى الأغلب أن لا يغزو جيش أجدًا فى عقر داره إلا وهم أقل من أهل الدار، فإذا كان هكذا فالفرار مباح، وإن تعذر معرفة الأكثر من الفريقين فإن الفار لا يكون عاصيًا إلا باليقين أن عدوهم مثلان فأقل، وما دام الشك، فالفرار مباح للمسلمين. وفيه أن التطيب للحرب سنة من أجل مباشرة الملائكة للميت. وفيه اليقين بصحة ما هو عليه من الدين، وصحة النية بالاغتباط فى استهلاك نفسه فى طاعة الله. وفيه التداعى للقتال؛ فإن أنسًا قال لعمه: ما يحبسك ألا تجيء. ومعنى قوله: (بئس ما عودتكم أقرانكم) يعنى: العدو، فى تركهم اتباعكم قبلكم حتى اتخذتم الفرار عادة للنجاة، وطلب الراحة من مجالدة الأقران. 40 - باب فَضْلِ الطَّلِيعَةِ 704 / فيه: جَابِر، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ يَأْتِينِى بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَوْمَ الأحْزَابِ) ؟ قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، ثُمَّ قَالَ: (مَنْ يَأْتِينِى بِخَبَرِ الْقَوْمِ) ؟ قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ لِكُلِّ نَبِىٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِىَّ الزُّبَيْرُ) . وترجم له (باب: هل يبعث الطليعة وحده) . قال المهلب: فيه أن الطليعة يستحق اسم النصرة؛ لأن الرسول سماه: حوارى، ومعنى هذه التسمية أن عيسى ابن مريم لما قال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 لقومه: (من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله (فلم يجبه غيرهم، فكذلك لما قال الرسول: (من يأتينى بخبر القوم) مرتين لم يجبه غير الزبير، فشبهة بالحواريين أنصار عيسى، وسماه باسمهم، وإذا صح من هذا الحديث أن الطليعة ناصر، فأجره أجر المقاتل المدافع؛ قام منه الدليل على صحة قول مالك أن طليعة اللصوص يقتل مع اللصوص، وإن كان لم يقتل ولم يسلب، وكذلك قال عمر بن الخطاب: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به. وفيه شجاعة الرئيس وتقدمه وفضله، وفيه الأدب من الإمام فى الندب إلى القتال والمخاوف؛ لأنه كان للنبى أن يقول لرجل بعينه: قم فائتنى بخبر القوم، فلزم الرجل ذلك؛ لقوله تعالى: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم (وزعم بعض المعتزلة أن بعث النبى الزبير طليعة وحده يعارض قوله: (الراكب شيطان) ونهيه عن أن يسافر الرجل وحده. قال المهلب: وليس فى ذلك تعارض بحمد الله لاختلاف المعنى فى الحديثين، وذلك أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الراكب شيطان) إنما جاء فى المسافر وحده، لأنه لا يأنس بصاحب ولا يقطع طريقه محدث يهون عليه مؤنة السفر، كالشيطان الذى لا يأنس بأحد، ويطلب الوحيد ليغويه بتذكار فتكة وتدبير شهوة، حضًا منه (صلى الله عليه وسلم) على الصحبة، والمرافقة لقطع المسافة، وطى بعيد الأرض بطيب الحكاية، وحسن المعاونة على المؤنة، وقصة الزبير بضد هذا. بعثه طليعة عينًا متجسسًا على قريش ما يريدونه من حرب الرسول، فلو أمكن أن يتعرف ذلك منهم بغير طليعة. لكان أسلم وأخف، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 ولكن أراد أن يبين لنا جواز العذر فى ذلك لمن احتسب نفسه وسخى بها فى نفع المسلمين وحماية الدين، ومن خرج فى مثل هذا الخطير من أمر الله لم يعط الشيطان أذنه ليصغى إلى خدعه، بل عليه من الله حافظ، وبعد ألا ترى تثبيت الله له حين نادى أبو سفيان فى المشركين: ليعرف كل إنسان منكم جليسه. فقال الزبير لمن قرب منه: من أنت؟ فسبق بحضور ذهنه إلى ما لو سبقه إليه جليسه لكان سبب فضيحته، ولو أرسل معه غيره لكان أقرب إلى أن يعثر عليهما، فالوحدة فى هذا هى الحكمة البالغة، وفى المسافر هى العورة البينة، ولكل وجه من الحكمة غير وجه الآخر لتباين القصص واختلاف المعانى، وفى الباب الذى بعد هذا شيء من هذا المعنى. 41 - باب سَفَرِ الاثْنَيْنِ 705 / فيه: مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، انْصَرَفْتُ مِنْ عِنْدِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ لَنَا - أَنَا وَصَاحِبٍ لِى -: (أَذِّنَا وَأَقِيمَا، وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا) . إن قال قائل: إباحته (صلى الله عليه وسلم) لمالك بن الحويرث وصاحبه أن يؤذنا ويقيما عند انصرافهما من عنده، يعارض قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الراكب شيطان، والراكبان شيطانان) ونهيه أن يسافر الرجل وحده. قيل: ليس كما توهمت؛ لأنه لا يجوز على أخباره التضاد. قال الطبرى: ونهيه عن سفر الرجل وحده والاثنين نهى أدب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 وإرشاد لما يخشى على فاعل ذلك من الوحشة بالوحدة لا نهى تحريم، وذلك نظير نهيه عن الأكل من وسط الطعام، وعن الشرب من فى السقاء، والنهى عن المبيت على السطح غير المحجور، وكل ذلك تأديب لأمته، وتعريف لهم منه ما فيه حظهم وصلاحهم، لا شريعة ودين يحرجون بتضييعه وترك العمل به، فالعامل محتاط لنفسه من مكروه يلحقه إن ضيعه. وذلك أن السائر فى فلاة وحده والبائت فى بيت وحده إذا كان ذا قلب مخيف وفكر رديء لم يؤمن أن يكون ذلك سببًا لفساد عقله، والنائم على سطح غير محجور عليه غير مأمون أن يقوم بوسن النوم وغمور فهمه فيتردى منه فيهلك، والشارب من فى السقاء غير مأمون عليه انحدار ما خفى عليه استكنانه من الهوام القاتلة فى السقاء فيهلك أيضًا، وكذلك المسافر مع آخر قد يخشى من غائلته ولا يأمن مكره، فإذا كانوا ثلاثة أمن ذلك فى الأغلب، وهذا وما أشبهه من تأديبه (صلى الله عليه وسلم) لأمته. وأيضًا فإن الناس مختلفوا الأحوال متفاوتوا الأسباب فمن كَمِىٍّ باسل لا يهوله هائل ولا يبقى غول غائل، فهو لا يبالى وحده سلك المفاوز أو فى عسكر، فذلك الذى أذن عمر فى السير لمثله من المدينة إلى الكوفة وحده حين بلغه عن سعد أنه بنى قصرًا أو أمره بإحراق بابه، ومن مخيف الفؤاد يروعه كل منظر، ويهوله كل شخص، ويفزعه كل صوت، فذلك الذى يحرم عليه أن يسافر وحده ويمكن أن يكون الذى نهاه الرسول أن يبيت وحده كان بهذه الصفة، ومن أخذ بين ذلك الاحتياط له فى نفسه ودينه ترك السفر وحده ومع آخر أيضًا، فمن كان الأغلب عليه الشجاعة، والقوة لم يكن إن شاء الله حرجًا ولا آثمًا، ومن كان الأغلب من قلبه الهلع ومن نفسه الخور خشيت عليه فى السفر وحده الإثم والحرج وأن يورثه ذلك العلل الردية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 42 - باب الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ 706 / فيه: ابْن عُمَرَ، وعُرْوَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِى نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . 1707 / وفيه: أَنَس، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (الْبَرَكَةُ فِى نَوَاصِى الْخَيْلِ) . وترجم له باب (الْجِهَادُ مَاضٍ مَعَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ) لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة) . 1708 / وفيه: عُرْوَةُ الْبَارِقِىُّ قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِى نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: الأجْرُ وَالْمَغْنَمُ) . قال بعض أهل العلم: معناه الحث على ارتباط الخيل فى سبيل الله يريد أن من ارتبطها كان له ثواب ذلك فهو خير آجل، وما يصيب على ظهرها من الغنائم وفى بطونها من النتاج خير عاجل، وخص النواصى بالذكر؛ لأن العرب تقول: فلان مبارك الناصية، فيكنى بها عن الإنسان. وقال المهلب: استدلال البخارى صحيح أن الجهاد ماض مع البر والفاجر إلى يوم القيامة. من أجل أنه أبقى (صلى الله عليه وسلم) الخير فى نواصى الخيل إلى يوم القيامة. وقد علم أن من أئمته أئمة جور لا يعدلون، ويستأثرون بالمغانم، فأوجب هذا الحديث الغزو معهم، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 ويقوى هذا المعنى أمره بالصلاة وراء كل بر وفاجر من السلاطين، وأمره بالسمع والطاعة ولو كان عبدًا حبشيا. وقوله: (فالأجر والمغنم) يفسر قوله: (مع ما نال من أجر أو غنيمة) أن (أو) بمعنى الواو فكأنه قال: (مع ما نال من أجر وغنيمة أو أجر) . وقوله: (الخيل فى نواصيها الخير) لفظه لفظ العموم، والمراد به الخصوص؛ لأنه لم يرد إلا فى [. . . . . . .] الخيل بدليل قوله: (الخيل لثلاثة) فبين أنه أراد الخيل الغازية فى سبيل الله، فإن الخير المعقود فى نواصيها إنما هو أجر فى سبيل الله، لا أنها على كل وجوهها معقود فى نواصيها الخير، بل إذا كانت مستعملة فى سبيل الله أو معدة لذلك؛ فإن الإنفاق عليها خير أو أجر دون ما كان منها وزرًا، وقال مثله ابن المنذر. والناصية: الشعر المسترسل على الجبهة، عن الخطابى. 43 - باب مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ترهبون به) [الأنفال: 60] . 1709 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ، فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِى مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . قال المهلب: هذا الحديث يدل أن الأحباس جارية فى الخيل والرياع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 وغيرها؛ لأنه إذا جاز ذلك فى الخيل للمدافعة عن المسلمين وعن الدين والنفع لهم بجر الغنائم والأموال إليهم، فكذلك يجوز فى الرياع المثمرة لهم، وما وصف الرسول من الروث وغيره فإنما يريد ثوابه؛ لأن الروث لا يوزن بل أجره، ولا تقول إن زنة الأجر زنة الروث بل أَضعافه إلى ما شاء الله. وفيه أن النية قد يؤجر الإنسان بها كما يؤجر العامل؛ لأن هذا إنما احتبس فرسه ليقاتل عليه ويغير، فيعوض من أجدر العمل المعدوم فى ترك استعماله فيه، فعد نفقاته وأرواثه أجرًا له، مع أنه فى رباطه نافع؛ لأن الإرهاب بارتباطه فى نفس العدو وسماعهم عنه نافع. وفيه أن الأمثال تضرب لصحة المعانى وإن كان فيها بعض المكروهات الذكر. 44 - باب اسْمِ الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ 710 / فيه: سَهْل، كَانَ للرسول (صلى الله عليه وسلم) فِى حَائِطِنَا فَرَسٌ، يُقَالُ لَهُ: اللُّحَيْفُ. 1711 / وفيه: أَبُو قَتَادَةَ، أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَخَلَّفَ أَبُو قَتَادَةَ، فَرَكِبَ فَرَسًا يُقَالُ لَهُ: الْجَرَادَةُ. . . الحديث. 1712 / وفيه: مُعَاذ بن جبل، كُنْتُ رِدْيفَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى حِمَارٍ، يُقَالُ لَهُ: عُفَيْرٌ، فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِى حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ) ؟ الحديث. 1713 / وفيه: أَنَس، كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ، فَاسْتَعَارَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَرَسًا يُقَالُ لَهُ: الْمَنْدُوبٌ، فَقَالَ: (مَا رَأَيْنَا مِنْ فَزَعٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا) . قَالَ البخارى: قَالَ بَعْضُهُمُ: اللُّخَيْفُ بالخَاءِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 قال المهلب: فقه هذا الباب جواز تسمية الدواب بأسماء تخصها غير أسماء جنسها. وقال الواقدى: إنما سمى اللحيف لكثرة سبائبه يعنى: ذنبه. قال: وكان للنبى (صلى الله عليه وسلم) فرس يقال له: السكب، وآخر يقال: اللزاز، وآخر يقال: المرتجز، وإنما سمى: السكب؛ لأن لونه يشبه لون الشقائق، وأنشد الأصمعى: كالسكب المحبر فوق الرابية وكذلك المرتجز إنما سمى بذلك؛ لحسن صهيله. وقوله: (إن وجدناه لبحرًا) والبحر: الفرس الواسع الجرى. قال الأصمعى: يقال: فرس بحر وفيض وحث وغمر. وقال نفطويه: معناه: كثير الجرى. قال الخطابى: وذكر الواقدى أنه كان اسم حماره: يعفور، قال: وإنما سمى بذلك لعفرة لونه، والعفرة: حمرة يخالطها بياض. يقال له: أعفر ويعفور، وأخضر ويخضور، وأصفر ويصفور، وأحمر ويحمور. قال المؤلف: وعفير من المعفرة، وهو تصغير أعفر، وقال الطبرى: وقد حدثنى عبد الرحيم البرقى، قال: حدثنى عمرو بن أبى سلمة، عن زهير، عن محمد قال: اسم راية الرسول: العقاب، وفرسه: المرتجز، وناقته: العضباء والجدعاء، والحمار: يعفور، والسيف: ذو الفقار، والدرع: ذات الفضول، والرداء: الفتح، والقدح: الغمر. فإذا كان ذلك من فعله (صلى الله عليه وسلم) فى أملاكه، وكان الله قد ندب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 خلقه إلى الاستنان به والتأسى فيما لم ينههم عنه، فالصواب لكل من أنعم الله عليه وخوله رقيقًا أو حيوانًا من البهائم والطير أو غير ذلك أن يسميه باسم كما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) . وعلم بذلك أن المرتدين لما ادعوا أنساب الخيل لم يتعدوا فى ذلك إذ كان لها من الأسماء مثل ما لبنى آدم، يميزوا بها بين أعيانها وأشخاصها، إذ الأسماء إنما هى أمارات وعلامات. 45 - باب مَا يُذْكَرُ مِنْ شُؤْمِ الْفَرَسِ 714 / فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِى ثَلاثَةٍ: فِى الْفَرَسِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالدَّارِ) . 1715 / وفيه: سَهْل، قَالَ الرسول: (إِنْ كَانَ فِى شَىْءٍ، فَفِى الْمَرْأَةِ، وَالْفَرَسِ، وَالْمَسْكَنِ) . قال المهلب: قوله: (إنما الشؤم فى ثلاث) فحقيق فى ظاهر اللفظ حين لم يستطع أن ينسخ التطير من نفوس الناس، فأعلمهم أن الذى يعذبون به من الطيرة لمن التزمها إنما هو فى ثلاثة أشياء وهى الملازمة لهم، مثل دار المنشأ والمسكن، والزوجة التى هى ملازمة فى حال العيش اليسير، والفرس الذى به عيشه وجهاده وتقلبه، فحكم (صلى الله عليه وسلم) بترك هذه الثلاثة الأشياء لم ألزم التطير حين قال فى الدار التى سكنت، والمال وافر، والعدد كثير؛ اتركوها ذميمة خشية ألا يطول تعذب النفوس بما يكره من هذه الثلاثة ويتطير به، وأما غيرها من الأشياء التى إنما هى خاطرة وطارئة، وإنما تحزن بها النفوس ساعة أو أقل مثل الطائر المكروه الاسم عند العرب بمن يرحل منهم، فإنما يعرض له ذلك فى حين مروره به، فقد أمر (صلى الله عليه وسلم) فى مثل هذا وشبهه لا يضر من عرض له بأمر فى المرأة والفرس والدار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 خلاف ذلك؛ لطول التعذب بها. وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (ثلاثة لا يسلم منهن أحد: الطيرة والظن والحسد؛ فإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق) . وحكى بعض المعتزلة أن أحاديث الشؤم يعارضها قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا عدوى ولا طيرة) . وسأذكر ما فسر به العلماء ذلك ونفى التعارض عنها فى كتاب الطب عند قوله: (لا عدوى ولا طيرة) إن شاء الله. 48 - باب الْخَيْلُ لِثَلاثَةٍ وَقَوْلُهُ: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) [النحل: 8] 716 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الْخَيْلُ لِثَلاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِى هِى لَهُ أَجْرٌ: فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَطَالَ لهَا فِى مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أَصَابَتْ فِى طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنَ الْمَرْجِ، أَوِ الرَّوْضَةِ، كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَت طِيَلَهَا ذَلِكَ وَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَينِ كَانَتْ آَثَارُهَا وَأَرْوَاتُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ فَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِئَاءً وَنِوَاءً لأهْلِ الإسْلامِ فَهِىَ وِزْرٌ عَلَى ذَلِكَ) . وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْحُمُرِ، فَقَالَ: (مَا أُنْزِلَ عَلَىَّ فِيهَا إِلا هَذِهِ الآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ) : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) [الزلزلة: 7] الحديث. إن المرء لا يؤجر فى اكتسابها لأعيانها، وإنما يؤجر بالنية الخالصة فى استعمال ما ورد الشرع بالفضل فى عمله؛ لأنها خيل كلها، وقد اختلف أحوال مكتسبيها لاختلاف النيات فيها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 وفيه: أن الحسنات تكتب للمرء إذا كان له فيها سبب وأصل، تفضلا من الله على عباده المؤمنين؛ لأنه ذكر حركات الخيل وتقلبها ورعيها وروثها وأن ذلك حسنات للمجاهد، والطيل: الحبل الذى تربط به الدابة، ويقال له: طول أيضًا. قال طرفة: لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى لكالطول المرخى وثنياه باليد ومعنى الكلام: أن فرس المجاهد ليمضى على وجهه فى الحبل الذى أطيل له فيكتب له بذلك حسنات. وقوله: (استنت شرفًا أو شرفين) والاستنان أن تأخذ فى سنن على وجه واحد ماضيًا وهو يفتعل من السنن وهو القصد، ويقال: فلان يستن الريح إذا كان على جهتها وممرها، وأهل الحجاز يقولون: اسننها. ويقال فى مثل: (استنت الفصال حتى القرعى) يضرب مثلا للرجل الضعيف، يرى الأقوياء يفعلون شيئًا فيفعل مثله. والشرف: ما ارتفع من الأرض. وقوله: تغنيًا يعنى: استغناء، يقال منه: تغنيت تغنيًا، وتغانيت تغانيًا، واستغنيت استغناء. وقوله: (نواء) هو مصدر ناوأت العدو مناوأة ونواء وهى: المساواة. قال أهل اللغة: أصله من ناء إليك ونؤت إليه، أى: نهض إليك ونهضت إليه وفى كتاب العين: ناوأت الرجل: ناهضته بالعداوة، والنواء: العداوة، والفاذة هى: المعددة، ويقال: فاذة وفذة، وفاذ وفذ ومن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ) ومعنى ذلك أنها متعددة فى عموم الخير والشر لا آية أعم منها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 قال المؤلف: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لم ينزل على فى الحمر إلا هذه الآية: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره (فهذا تعليم منه (صلى الله عليه وسلم) لأمته الاستنباط والقياس، وكيف تفهم معانى التنزيل؛ لأنه شبه (صلى الله عليه وسلم) ما لم يذكر الله فى كتابه وهى الحمر بما ذكره من عمل مثقال ذرة من خير إذ كان معناهما واحدًا، وهذا نفس القياس الذى ينكره من لا تحصيل له ولا فهم عنده؛ لأن قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره (يدخل فيه مع الحمر جميع أفعال البر دقيقها وجليلها، ألا ترى إلى فهم عائشة وغيرها من الصحابة هذا المعنى من هذه الآية حتى تصدقوا بحبة عنب وقالوا: كم فيها من مثاقيل الذر. 47 - باب مَنْ ضَرَبَ دَابَّةَ غَيْرِهِ فِى الْغَزْوِ 717 / وفيه: جَابِر، سَافَرْتُ مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فِى غَزْوَةً أَوْ عُمْرَةً، فَلَمَا أَقْبَلْنَا، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَعَجَّلَ، إِلَى أَهْلِهِ فَلْيُعَجِّلْ) ، فَأَقْبَلْنَا وَأَنَا عَلَى جَمَلٍ لِى أَرْمَكَ، لَيْسَ فِيهِ شِيَةٌ، وَالنَّاسُ خَلْفِى، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ قَامَ عَلَىَّ، فَقَالَ لِى الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (يَا جَابِرُ، اسْتَمْسِكْ) ، فَضَرَبَهُ بِسَوْطِهِ ضَرْبَةً، فَوَثَبَ الْبَعِيرُ مَكَانَهُ، فَقَالَ لِى: أَتَبِيعُ الْجَمَلَ؟ قُلْتُ: (نَعَمْ) ، الحديث. قال المهلب: فيه المعونة فى الجهاد بسوق الدابة وقودها، وقد رأى الرسول رجلا يحط رحل رجل ضعيف، فقال: ذهب هذا بالأجر يعنى: المعين فكذلك المعين فى سوق الدابة يؤجر على ذلك وفيه دليل على جواز إيلام الحيوان، والحمل عليها بعض ما يشق بها؛ لأنه جاء فى بعض الحديث أنه كان أعيا، فإذا ضرب المعين فقد كلف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 ما يشق عليه، وإذا صح هذا فكذلك يجوز أن يكلف العبد والأمة بعض ما يشق عليهما إذا كان فى طاقتهما ووسعهما، ويؤدبا على تقصيرهما فيما يلزمهما من الخدمة. وفيه أن السلطان قد يتناول الضرب بيده؛ لأنه إذا ضرب الدابة فأحرى أن يضرب الإنسان الذى يعقل؛ تأديبًا له. وفيه: بركة الرسول؛ لأنه ضربه، فأحدث الله له بضربه قوة وأذهب عنه الإعياء. وقوله: (أرمك) قال أبو عبيد عن الأصمعى: إذا خالطت حمرته سواد فتلك الرمكة، وبعير أرمك. وقال صاحب العين: الرمكة لون فى ورقة وسواد، والورقة شبه بالغرة. وقوله: (ليس فيه شية) أى: ليس لمعة من غير لونه، قال صاحب العين: الشية: لمعة من سواد أو بياض. وقوله: (إذ قام على الجمل) معناه: وقف من الإعياء والكلال، قال تعالى: (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا (. قال أهل التفسير: معناه: وقفوا. وفيه تفسير آخر، قال أبو زيد: يقال: قام بى ظهرى، أى: أوجعنى ما أوجعك من جسدك فقد قام بك، والمعنى متقارب. قال ابن المنذر: اختلفوا فى المكترى يضرب الدابة فتموت. فقال مالك: إذا ضربها ضربًا لا يضرب مثله أو حيث لا يضرب ضمن، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور قالوا: إذا ضربها ضربًا يضرب صاحبها مثله ولم يتعد فليس عليه شيء. واستحسن هذا القول أبو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 يوسف ومحمد. وقال الثورى وأبو حنيفة: هو ضامن إلا أن يكون أمره أن يضرب والقول الأول أولى. وعليه يدل الحديث؛ لأن النبى لم يضرب الجمل إلا بما يشبه أن يكون أدبًا، له مثله، ولم يتعد عليه فكان ذلك مباحًا، فلو مات الجمل من ذلك لم يضمنه (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه لم يكن متعديًا، والضمان فى الشريعة إنما يلزم المتعدي. 48 - باب: الْفُحُولَةِ مِنَ الْخَيْلِ وَقَالَ رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ السَّلَفُ يَسْتَحِبُّونَ الْفُحُولَةَ؛ لأنَّهَا أَجْرَأ وَأَجْسَرُ. 1718 / فيه: أَنَس، كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَعٌ، فَاسْتَعَارَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَرَسًا لأبِى طَلْحَةَ، يُقَالُ لَهُ: مَنْدُوبٌ، فَرَكِبَهُ، وَقَالَ: (مَا رَأَيْنَا مِنْ فَزَعٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا) . لا فقه فى هذا الباب، وإنما فيه أن فحول الخيل أفضل للركوب من الإناث لشدتها وجرأتها، ومعلوم أن المدينة لم تخل من إناث الخيل، ولم ينقل أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ولا جملة أصحابه ركبوا غير الفحول، ولم يكن ذلك إلا لفضلها على الإناث، إلا ما ذكر عن سعد بن أبى وقاص أنه كان له فرس أنثى بلقاء. 49 - باب سِهَامِ الْفَرَسِ وَقَالَ مَالِكٌ: يُسْهَمُ لِلْخَيْلِ وَالْبَرَاذِينِ مِنْهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا (وَلا يُسْهَمُ لأكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 19 / وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا. قال الله تعالى -: (وما آتاكم الرسول فخذوه (فقسم رسول الله للفارس ثلاثة أسهم: سهمًا له، وسهمين لفرسه، وفرض علينا اتباعه وطاعته. وجاء عن عمر بن الخطاب (أنه فرض للفرس سهمين ولصاحبه سهمًا) وعن على بن أبى طالب مثله، ولا مخالف لهما فى الصحابة، وهو قول عامة العلماء فى القديم والحديث غير أبى حنيفة؛ فإنه خالف السنة وجماعة الناس فقال: لا يسهم للفرس إلا سهم واحد. وقال: أكره أن أفضل البهيمة على مسلم. وخالفه أصحابه، فبقى منفردًا شاذا. واختلفوا فى الإسهام للبراذين والهجن فقال مالك: إنها من الخيل يسهم لها. وبه قال أبو حنيفة والثورى والشافعى وأبو ثور. وقال الليث: للهجين والبرذون سهم دون سهم الفرس، ولا يلحقان بالعراب. وروى عن مكحول أنه قال: أول من أسهم للبراذين خالد بن الوليد قسم لها نصف سهمان الخيل. وبه قال أحمد بن حنبل. وقال مكحول: لا شيء للبراذين. وبه قال الأوزاعى، واحتج مالك فى الموطأ بقوله تعالى: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها (واسم الخيل يقع على الهجن والبراذين وهى تغنى غناءها فى كثير من المواضع، فمن زعم أن بينهما فرقًا فعليه الدليل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 واحتج مالك أيضًا بقول سعيد بن المسيب انه سئل: هل فى البراذين صدقة؟ قال: وهل فى الخيل صدقة؟ واختلفوا فيمن له أفراس كثيرة، فقال مالك: لا يسهم إلا لفرس واحد وهوالذى يقاتل عليه. وهو قول أبى حنيفة ومحمد والشافعي. وقال الثورى والأوزاعى وأبو يوسف والليث وأحمد وإسحاق: يسهم لفرسين. وحجة القول أنهم أجمعوا على أن سهم فرس واحد يجب مع ثبوت الخبر بذلك عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فثبت القول به إذ هو سنة وإجماع، ووجب التوقيف عن القول بأكثر من ذلك إذ لا حجة مع القائلين به. قال المهلب: وفى قسمته (صلى الله عليه وسلم) للفرس سهمين حض على اكتساب الخيل واتخاذها؛ لما جعل الله فيها من البركة فى اعتلاء كلمته وإعزاز حزبه ولتعظم شوكة المسلمين بالخيل الكثيرة، والله أعلم. 50 - باب مَنْ قَادَ دَابَّةَ غَيْرِهِ فِى الْحَرْبِ 720 / فيه: الْبَرَاء، قيل له: أَفَرَرْتُمْ عَنْ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَمْ يَفِرَّ، إِنَّ هَوَازِنَ كَانُوا قَوْمًا رُمَاةً وَإِنَّا لَمَّا لَقِينَاهُمْ حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ فَانْهَزَمُوا، فَأَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْغَنَائِمِ، وَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمْ يَفِرَّ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّهُ لَعَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ آخِذٌ بِلِجَامِهَا، وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: أَنَا النَّبِىُّ لا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِالْمُطَّلِبْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 قال المهلب: فيه خدمة السلطان فى الحرب وسياسة دابته لأشراف الناس من قرابته وغيرهم. وفيه جواز الأخذ بالشدة والتعرض إلى الهلكة فى سبيل الله؛ لأن الناس فروا عن رسول الله ولم يبق إلا مع اثنى عشر رجلا، والمشركون فى أضعافهم عددًا مرارًا كثيرة، فلزموا مكانهم ومصافهم، ولم يأخذوا بالرخصة من الفرار. وفيه ركوب البغال فى الحرب للإمام ليكون أثبت له ولئلا يظن به الاستعداد للفرار والتولية، ومن باب السياسة لنفوس الأتباع؛ لأنه إذا ثبت ثبت أتباعه، وإذا رئى منه العزم على الثبات عزم معه عليه. وفيه جواز الفخر والندابة عند القتال. وفيه إثبات النبوة؛ لأنه قال: أنا النبى لا كذب. أى: ليس أنا بكاذب فيما أقول؛ فيجوز علىّ الانهزام، وإنما ينهزم من ليس على يقين من النصرة وهو على خوف من الموت، والنبى (صلى الله عليه وسلم) على يقين من النصر بما أوحى الله إليه فى كتابه وأعلمه أنه لا بد له من كمال هذا الأمر، فمن زعم بعد هذا أن الرسول ينهزم فقد رماه بأنه كذب وحى الله أن الله يعصمه من الناس فارتاب وإلا قتل؛ لأنه كافر إن لم يتأول ويعذر بتأويله، وسأشبع القول فى معنى هذا الحديث فى باب من صف أصحابه عند الهزيمة ونزل عن دابته واستنصر بعد هذا إن شاء الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 51 - باب الرِّكَابِ وَالْغَرْزِ للدَّابَّةِ 721 / - فيه: ابْن عُمَرَ، أَن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَهُ فِى الْغَرْزِ وَاسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ أَهَلَّ مِنْ عِنْدِ مَسْجِدِ ذِى الْحُلَيْفَةِ. الغرز للرحل مثل ركاب سرج الدابة يستعين به الراكب عند ركوبه ويعتمد عليه، وهو شيء قديم معروف عندهم، وهذا تفسير ما جاء عن عمر بن الخطاب أنه قال: (اقطعوا الركب وثبوا على الخيل وثبًا) أنه لم يرد بذلك منع اتخاذ الركب أصلاً، وإنما أراد بذلك تمرينهم وتدريبهم على ركوب الخيل حتى يسهل عليهم ذلك من غير استعانة بالركب البتة؛ لأن الرسول اتخذها واستعان بها فى ركوبه. 52 - باب رُكُوبِ الْفَرَسِ الْعُرْىِ 722 / فيه: أَنَس، اسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى فَرَسٍ عُرْىٍ، مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ، وَفِى عُنُقِهِ سَيْفٌ. ركوب الفرس العرى من باب التواضع، وفيه رياضة وتدرب للفروسية، ولا يفعله إلا من أحكم الركوب، فقه ذلك أنه يجب على الفارس أن يتعاهد صنعته ويروض طباعه عليها لئلا يثقل إذا احتاج إلى نفسه عند الشدائد، وفيه تعليق السيف فى العنق. 53 - باب الْفَرَسِ الْقَطُوفِ 723 / - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، رَكِبَ فَرَسًا لأبِى طَلْحَةَ كَانَ يَقْطِفُ، فَلَمَّا رَجَعَ، قَالَ: (وَجَدْنَا بَحْرًا، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لا يُجَارَى) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 يقال: قطفت الدابة: أبطأت السير مع تقارب الخطو فهى قطوف. وفيه أن الإمام لا بأس أن يركب دون الدواب ليروضها ويؤدبها حتى تمرن على دابته، وذلك من التواضع. وفيه بركة النبى؛ لأن ركوبه الفرس أزال عنه اسم البطء والقطاف، وصار لا يجارى بعد ذلك لشدة سرعته، فهذه من علامات النبوة. 54 - باب السَّبْقِ بَيْنَ الْخَيْلِ 724 / - فيه: ابْن عُمَرَ، أَجْرَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَا ضُمِّرَ مِنَ الْخَيْلِ مِنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَأَجْرَى مَا لَمْ يُضَمَّرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِى زُرَيْقٍ، وَكُنْتُ فِيمَنْ أَجْرَى. قَالَ سُفْيَانُ: بَيْنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ خَمْسَةُ أَمْيَالٍ أَوْ سِتَّةٌ، وَبَيْنَ الثَنِيَّةَ إِلَى مَسْجِدِ بَنِى زُرَيْقٍ مِيلٌ. وترجم له باب: (غاية السبق للخيل المضمرة) . وقال ابن عقبة: ستة أميال أو سبعة. قال المؤلف: جعل بعض الناس المسابقة بين الخيل سنة، وجعلها بعضهم إباحة، والإضمار للخيل أن يدخل الفرس فى البيت يجلل عليه بجل ليكثر عرقه وينتقص من علفه لينقص لحمه فيكون أقوى على الجري. وفيه جواز المسابقة بين الخيل وذلك ممن خص وخرج من باب القمار بالسنة، وكذلك هو خارج من تعذيب البهائم؛ لأن الحاجة إليها تدعو إلى تأديبها وتدريبها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 وفيه تجويع البهائم على وجه الصلاح عند الحاجة إلى ذلك. وفيه أن المسابقة بين الخيل يجب أن يكون أمرها معلومًا، وأن تكون الخيل متساوية الأحوال أو متقاربة، وألا يسابق المضمر مع غير المضمر، وهذا إجماع من العلماء؛ لأن صبر الفرس المضمر المجوع فى الجرى أكثر من صبر المعلوف فلذلك جعلت غاية المضمرة ستة أميال أو سبعة، وجعلت غاية المعلوفة ميلا واحدًا. واختلف العلماء فى صفة المسابقة، فقال سعيد بن المسيب: ليس برهان بأس إذا أدخل فيها محلل لا يأمنان أن تسبق؛ فإن سبق أخذ السبق وإن سبق لم يكن عليه شيء. وبهذا قال الزهرى والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق قالوا: إذا دخل فرس بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار لا يجوز. وقال مالك: ليس عليه العمل. وفسر العلماء قول سعيد أن معنى دخول المحلل بينهم للخروج عن معنى القمار المحرم فيجعل عنده كل واحد من المتراهنين سيفًا، فمن سبق منهما أخذ السيفين جميعًا، وكذلك إن سبق المحلل أخذهما وإن سبق لم يؤخذ منه شيء، ولا يقول مالك بالسبق، فالمحلل إنما يجوز عنده أن يجعل الرجل سيفه ولا يرجع إليه بكل حال كسبق الإمام، فمن سبق كان له وإن أجرى جاعل السبق معهم فسبق هو كان للمصلى وهو الذى يليه إن كانت خيلا كثير، وإن كانا فرسين فسبق جاعل السبق فهو طعمة لمن حضر، وإن سبق الآخر أخذه، وهو قول ربيعة وابن القاسم. وروى ابن وهب عن مالك أنه أجاز أن يشترط واضع السبق إن سبق أخذ السبق، وإم سبق هذا أخذ سبقه وبه أخذ أصبغ وابن وهب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 قال ابن المواز: وكراهة مالك المحلل إنما هو على قوله: إنه يجب إخراج السبق بكل حال، وهو قول ابن المسيب وابن شهاب. وقال أبو حنيفة والثورى والشافعى: الأسباق على ملك أربابها وهم فيها على شروطهم، ولا يجوز أن يملك السبق إلا بالشرط المشروط فيه وإن لم يكن ذلك انصرف السبق إلى من جعله. وقال محمد بن الحسن وأصحابه: إذا جعل السبق واحد فقال: إن تسبقنى فلك كذا، ولم يقل: إن سبقتك فعليك كذا، فلا بأس به، ويكره أن يقول: إن سبقتك فعليك كذا، وإن سبقتنى فعلى كذا، هذا لا خير فيه. وإن قال رجل غيرهما: أيكما سبق فله كذا. فلا بأس به، وإن كان بينهما محلل إن سبق لم يغرم، وإن سبق أخذ فلا بأس به، وذلك إذا كان يسبق ويسبق. قالوا: وما عدا هذه الأشياء فهو قمار. 55 - باب إِضْمَارِ الْخَيْلِ لِلسَّبْقِ 725 / فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِى لَمْ تُضَمَّرْ، وَكَانَ أَمَدُهَا مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِى زُرَيْقٍ، وَأَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ سَابَقَ بِهَا. إن قال قائل: كيف ترجم البخارى باب (إضمار الخيل للسبق) وذكر أن الرسول سابق بين الخيل التى لم تضمر؟ فالجواب: أنه إنما أشار بطرف من الحديث إلى بقيته وأحال على سائره؛ لأن تمام الحديث (أن الرسول سابق بين الخيل التى ضمرت وبين الخيل التى لم تضمر) وذلك موجود فى حديث واحد، فلا حرج عليه فى ثبوته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 56 - باب نَاقَةِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) الْقَصْوَاءُ، وَالْعَضْبَاءُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَرْدَفَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أُسَامَةَ عَلَى الْقَصْوَاءِ. وَقَالَ الْمِسْوَرُ: قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (مَا خَلأتِ الْقَصْوَاءُ) . 1726 / فيه: البراء، كَانَ لِلنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، نَاقَةٌ يُقال لها: الْعَضْبَاءَ، لا تُسْبَقُ - أَوْ لا تَكَادُ تُسْبَقُ - فَجَاءَ أَعْرَابِىٌّ عَلَى قَعُودٍ فَسَبَقَهَا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى عَرَفَهُ، فَقَالَ: (حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لا يَرْفَعَ شَىْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلا وَضَعَهُ) . فيه اتخاذ الأمراء والأئمة الإبل للركوب، وفيه جواز الارتداف للعلماء والصالحين، وفيه التزهيد فى الدنيا والتقليل [. . . .] لإخباره أن كل شيء يرتفع من الدنيا يحق على الله أن يضعه وبهذا نطق القرآن، قال تعالى: (قل متاع الدنيا قليل (وما وصفه أنه قليل فقد وضعه وصغره، وقال تعالى تسلية عن متاع الدنيا: (والآخرة خير لمن اتقى (وقال: (وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا (إرشادًا لعباده وتنبيهًا لهم على طلب الأفضل. والقصواء من النوق التى فى أذنها حذف، يقال منه: ناقة قصواء وبعير مقصو ولا يقال: بعير أقصى. وذكر الأصمعى فى الناقة أنه يقال منها: قصوة. وقال صاحب العين: ناقة عضباء مشقوقة الأذن، وشاه عضباء مكسورة القرن، وقد عضبت عضبًا، والعضب: القطع، ومنه قيل للسيف القاطع: عضب، وقد عضب يعضب إذا قطع. والقعود: الجمل المسن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 57 - باب بَغْلَةِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، الْبَيْضَاءِ وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: أَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بَغْلَةً بَيْضَاءَ. 1727 / فيه: عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ، مَا تَرَكَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلاحَهُ وَأَرْضًا تَرَكَهَا صَدَقَةً. 1728 / وفيه: الْبَرَاءِ، مَا وَلَّى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانُ النَّاسِ، وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ. . . . . الحديث. وفيه جواز ركوب الأمراء والعلماء البغال والدواب، وأن ذلك من المباح وليس من السرف؛ لأن الإمام يلزمه التصرف والتعاهد لأمور رعيته والجهاد بنفسه والنظر فى مصالح المسلمين، وكذلك له أن يتخذ السلاح وكل ما به إليه حاجة من الآلات والقوت لأهله من الخمس. 58 - باب جِهَادِ المرأة 729 / فيه: عَائِشَةَ، اسْتَأْذَنْتُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، فِى الْجِهَادِ، فَقَالَ: (جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ) . وَقَالَ مرة: (نِعْمَ الْجِهَادُ الْحَجُّ) . هذا الحديث يدل على أن النساء لا جهاد عليهن واجب، وأنهن غير داخلات فى قوله: (انفروا خفافًا وثقالا (وهذا إجماع من العلماء وليس فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (جهادكن الحج) دليل أنه ليس لهن أن يتطوعن بالجهاد وإنما فيه أنه الأفضل لهن، وإنما كان الحج أفضل لهن من الجهاد؛ لأنهن لسن من أهل القتال للعدو ولا قدرة لهن عليه ولا قيام به، وليس للمرأة أفضل من الاستتار وترك المباشرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 للرجال بغير قتال، فكيف فى حال القتال التى هى أصعب؟ والحج يمكنهن فيه مجانبة الرجال والاستتار عنهم؛ فلذلك كان أفضل لهن من الجهاد، والله أعلم. 59 - باب غَزْوِ النساء فِى الْبَحْرِ 730 / فيه: أَنَس، دَخَلَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) عَلَى ابْنَةِ مِلْحَانَ، فَاتَّكَأَ عِنْدَهَا، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى عرضوا علىّ يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ الأخْضَرَ فَقَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِى مِنْهُمْ، فركبت. . . . . الحديث. فيه جواز جهاد النساء فى البحر، وقد تقدم القول فى هذا الحديث فى غير موضع. 60 - باب حَمْلِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِى الْغَزْوِ دُونَ بَعْضِ نِسَائِهِ 731 / فيه: عَائِشَةَ، كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَرَادَ سفرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِى غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِى، فَخَرَجْتُ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بَعْدَ مَا نزِلَ الْحِجَابُ. هذه الترجمة لا تصح إلا بذكر القرعة فيها؛ لأن العدل بين النساء فريضة، فلو خرج بواحدة من أزواجه دون قرعة لم يكن ذلك عدلا بينهن وكان ميلا، فكانت القرعة فضلا فى ذلك يرجع إليه كما يحكم بالقرعة فى كثير مما يشكل أمره من أمور الشريعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 61 - باب غَزْوِ النِّسَاءِ وَقِتَالِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ 732 / فيه: أَنَس، لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ، وَأُمَّ سُلَيْمٍ، وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تَنْقُزَانِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: تَنْقُلانِ الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا، ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِى أَفْوَاهِ الْقَوْمِ. قد تقدم أن النساء لا غزو عليهن، وإنما غزوهن تطوع وفضيلة وعونهن للغزاة بسقى، وسقيهن وتشميرهن هو ضرب من القتال؛ لأن العون على الشيء ضرب منه، وقد روى عن أم سليم أنها كانت تسبق الشجعان فى الجهاد، وثبتت يوم حنين والأقدام قد زلت، والصفوف قد انتقضت والمنايا قد فغرت، والتفت إليها النبى (صلى الله عليه وسلم) وفى يدها خنجر فقالت: يا رسول الله، اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل هؤلاء الذين يحاربونك، [. . .] بشر منهم) وروى معمر، عن الزهرى قال: كان النساء يشهدن المشاهد مع رسول الله ويسقين المقاتلة ويداوين الجراح، ولم أسمع بامرأة قاتلت معه، وقد قاتل نساء من قريش يوم اليرموك حتى دهمتهم جموع الروم وخالطوا عسكر المسلمين فضربت النساء يومئذ بالسيوف، وذلك فى خلافة عمر. واختلفوا فى المرأة يسهم لها، فقال الأوزاعى: يسهم للنساء وقد أسهم رسول الله بحنين وأخذ المسلمون بذلك. وقال الثورى والكوفيون والليث والشافعى: لا يسهم للنساء ولكن يرضخ لهن، واحتجوا بكتاب ابن عباس إلى نجدة أن النساء كن يحضرن فيداوين من المرضى ويحذين من الغنيمة فى الغزو، قال: ما سمعت ذلك. وقول مالك أصح؛ لأن النساء لا جهاد عليهن وإنما يجب السهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 والرضخ لمن كان مقاتلا أورد إليهم، و [. . . . .] النساء لا غناء لهن ولا نكاية للعدو فيهن، فأما إذا قاتلت امرأة وكان لها غناء وعون فلو أسهم لها لكان صوابا؛ لأن السهم إنما جعله الله لأهل الجيش بقتالهم العدو ودفعهم عن المسلمين فمن وجدت هذه الصفة فيه فهو مستحق للسهم، سواء كان رجلا أو امرأة، وإنما خرج جوابا للعالم فى هذه المسألة على أنه لا سهم للنساء للغالب من حالهن، فإن من يقاتل فيهن لا يكاد يوجد، والله أعلم. قال صاحب العين: الخدم سير كالحلقة يشد فى رسغ البعير، ثم تشتد إليه سرائح نعلها، والمخدم: موضع ذلك السير، والخدمة: الخلخال. وقال أبو عبيد: الخدام الخلاخيل واحدها: خدمة، وفى كتاب العين: النقز والنقزان: الوثبان، والنواقز: القوائم. 62 - باب حَمْلِ النِّسَاءِ الْقِرَبَ إِلَى النَّاسِ فِى الْغَزْوِ 733 / - وفيه: ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِى مَالِكٍ، أَنَّ عُمَرَ قَسَمَ مُرُوطًا بَيْنَ نِسَاءٍ فِى الْمَدِينَةِ، فَبَقِىَ مِرْطٌ جَيِّدٌ، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ عِنْدَهُ: أَعْطِه ابْنَةَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) الَّتِى عِنْدَكَ - يُرِيدُونَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِىٍّ - فَقَالَ عُمَرُ: أُمُّ سَلِيطٍ أَحَقُّ - امرأة مِنْ نِسَاءِ الأنْصَارِ مِمَّنْ بَايَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) - فكَانَتْ تَزْفِرُ لَنَا الْقِرَبَ يَوْمَ أُحُدٍ. قال المهلب: فيه دليل على أن الأولى بالنبى من أتباعه أهل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 السابقة إليه والنصرة له، لا يستحق أحد ولايته ببنوة ولا بقرابة إذا لم يقارنها الإسلام، ثم إذا قارنها الإسلام تفاضل أهله بالسابقة والنصرة من المعونة بالمال والنفس، ألا ترى أن عمر جعل أم سليط أحق بالقسمة لها من المروط من حفيدة رسول الله بالبنوة لتقدم أم سليط بالإسلام والنصرة والتأييد وهو معنى قوله تعالى: (لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل (وكذلك يجب أن لا تستحق الخلافة بعده ببنوة ولا بقرابة، وإنما تستحق بما ذكره الله من السابقة والإنفاق والمقاتلة. وفيه الإشارة بالرأى على الإمام، وإنما ذلك للوزير والكاتب وأهل الصحبة والبطانة له، ليس ذلك لغيرهم، إلا أن يكون من أهل العلم والبروز فى الإمامة فله الإشارة على الإمام وغيره. وقوله: (تزفر لنا القرب) يعنى: تحمل، قال صاحب العين والأفعال: زفر بالحمل زفرًا: نهض به، والزفر: القربة، والزوافر: الإماء يحملن القرب. 63 - باب مُدَاوَاةِ النِّسَاءِ الْجَرْحَى فِى الْغَزْوِ 734 / فيه: الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ، كُنَّا مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) نَسْقِى، وَنُدَاوِى، الْجَرْحَى وَنَرُدُّ الْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَةِ. وترجم له باب: (رد النساء القتلى) . قال المهلب: فيه مباشرة المرأة غير ذى محرم منها فى المداواة وما شاكلها من إلطاف المرضى ونقل الموتى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 فإن قيل: كيف جاز أن يباشر النساء الجرحى وهم غير ذوى محارم منهن؟ فالجواب: أنه يجوز ذلك للمتجالات منهن؛ لأن موضع الجرح لا يلتذ بلمسه، بل تقشعر منه الجلود، وتهابه النفوس، ولمسه عذاب للامس والملموس، وأما غير المتجالات منهن فيعالجن الجرحى بغير مباشرة منهن لهم، بأن يصنعن الدواء ويضعه غيرهن على الجرح، ولا يمسسن شيئًا من جسده. قال غيره: والدليل على صحة هذا التأويل أنى لم أجد أحدًا من سلف العلماء يقول فى المرأة تموت مع الرجال أو الرجل يموت مع النساء غير ذوى المحارم لا يحضر ذلك غيرهم أن أحدًا منهما يغسل صاحبه دون حائل وثوب يستره. وقال الحسن البصرى: يصب عليها من فوق الثياب وهو قول النخعى وقتادة والزهرى وبه قال إسحاق. وقالت طائفة: تيمم بالصعيد، روى ذلك عن سعيد بن المسيب والنخعى أيضًا، وبه قال مالك والكوفيون وأحمد، وقال الأوزاعى: تدفن كما هى ولا تيمم. وهذا يدل من قولهم أنه لا يجوز عندهم مباشرة غير ذوى المحارم؛ لأن حالة الموت أبعد من التسبب إلى دواعى اللذة والذريعة إليها من حال الحياة، فلما اتفقوا أنه لا يجوز للأجنبى غسل الأجنبية الميتة مباشرًا لها دون ثوب يسترها، دل بأن مباشرة الأحياء الأحس أولى بأن لا يجوز، والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 64 - باب نَزْعِ السَّهْمِ مِنَ الْبَدَنِ 735 / - فيه: أَبُو مُوسَى، رُمِىَ أَبُو عَامِرٍ فِى رُكْبَتِهِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: انْزِعْ هَذَا السَّهْمَ، فَنَزَعْتُهُ، فَنَزَا مِنْهُ الْمَاءُ، فَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِى عَامِرٍ. قال المهلب: فيه جواز نزع السهام من البدن وإن خشى بنزعها الموت، وكذلك البط والكى وما شاكله، يجوز للمرء أن يفعله رجاء الانتفاع بذلك، وإن كان فى غبها خشية الموت، وليس من صنع ذلك بملق نفسه للتهلكة؛ لأنه بين الخوف والرجاء. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم اغفر لعبيد أبى عامر) إنما دعا له؛ لأنه علم أنه ميت من ذلك السهم. وقوله: (نزا منه الماء) . قال صاحب العين: نزا ينزو نزوًا ونزوانًا وينزى: إذا وثب. وقال أبو زيد: النزاء والنفار داء يأخذ النساء فتنزوا منه وتنفر حتى تموت، وسيأتى زيادة فى شرح هذه الكلمة بعد هذا إن شاء. 65 - باب الْحِرَاسَةِ فِى الْغَزْوِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ 736 / فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، سَهِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، قَالَ: (لَيْتَ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِى صَالِحًا يَحْرُسُنِى اللَّيْلَةَ) ؛ إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 سِلاحٍ، فَقَالَ: (مَنْ هَذَا) ؟ فَقَالَ: أَنَا سَعْدُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ، جِئْتُ لأحْرُسَكَ، وَنَامَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) . 1737 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمِ، وَالْقَطِيفَةِ، وَالْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِىَ رَضِىَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِى الْحِرَاسَةِ كَانَ فِى الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِى السَّاقَةِ، كَانَ فِى السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ) . قال المهلب: فيه التزام السلطان للحذر والخوف على نفسه فى الحضر والسفر؛ ألا ترى فعل الرسول مع ما عرفه الله أنه سيكمل به دينه، ويعلى به كلمته، التزم الحذر خوف فتك الفاتك، وأذى المؤذى بالعداوة فى الدين، والحسد فى الدنيا. وفيه أن على الناس أن يحرسوا سلطانهم ويتخفوا به خشية الفتك وانخرام الأمر. وفيه أنه من تبرع بشىء من الخير أنه يسمى صالحًا؛ لقوله: (ليت رجلا صالحًا) أى: (يبعثه) صالحة على حراسة سلطانه فكيف بنبيه؟ . وفيه دليل أن هذا كان قبل أن ينزل عليه: (والله يعصمك من الناس (وقَبل لأن ينزل عليه: (إنا كفيناك المستهزئين (لأنه قد جاء فى الحديث أنه لما نزلت هذه الآية ترك الاحتراس بالليل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 وفيه أنه متى سمع الإنسان حس سلاح بالليل أن يقول: من هذا؟ ويعلم أنه ساهر لئلا يطمع فيه أهل الطلب للغرة والغفلة؛ فإذا علم أنه مستيقظ ردعهم بذلك. وقوله: (تعس عبد الدينار والدرهم) يعنى: إن طلب ذلك، وقد استعبده وصار عمله كله فى طلب الدينار والدرهم كالعبادة لهما. وقوله: (إن أعطى رضي) أى: وإن أعطى ما له عمل رضى عن معطيه وهو خالقه عز وجل، وإن لم يعط سخط ما قدر له خالقه ويسر له من رزقه، فصح بهذا أنه عبد فى طلب هذين، فوجب الدعاء عليه بالتعس؛ لأنه أوقف عمله على متاع الدنيا الفانى وترك العمل لنعيم الآخرة الباقي. والتعس: ألا ينتعش ولا يفيق من عثرته، وانتكس أى: عاوده المرض كما بدأه، هذا قول الخليل. وقال ابن الأنبارى: التعس: الشر، قال تعالى: (فتعسًا لهم (أراد ألزمهم الله الشر. هذا قول المبرد. وقال غيره: التعس: البعد. وقال الرستمى: التعس أن يخر على وجهه، والنكس أن يخر على رأسه، قال: والتعس أيضًا: الهلاك. ثم أكد الدعاء عليه بقوله: (وإذا شيك فلا انتقش) أى: إذا أصابته شوكة فلا أخرجها بمنقاشها، فيمتنع السعى للدينار والدرهم، ثم حض على الجهاد فقال: (طوبى لعبد ممسك بعنان فرسه) إلى آخر الحديث فجمع فى هذا الحديث مدح من العمل: خير الدنيا والآخرة لقوله: (الخيل معقود فى نواصيها الخير) الأجر: والغنيمة: ونعيم الآخرة بقوله: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم (الآية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 وفيه ترك حب الرياسة والشهرة، وفضل الخمول ولزوم التواضع لله بأن يجهل المؤمن فى الدنيا ولا تعرف عينه فيشار إليه بالأصابع، وبهذا أوصى (صلى الله عليه وسلم) ابن عمر فقال له: (يا عبد الله، كن فى الدنيا كأنك غريب) والغريب مجهول العين فى الأغلب فلا يؤبه لصلاحه فيكرم من أجله ويبجل، فمن لزم هذه الطريقة كان حريًا إن استأذن ألا يؤذن له، وإن شفع ألا يشفع. 66 - باب فَضْلِ الْخِدْمَةِ فِى الْغَزْوِ 738 / فيه: أَنَس، صَحِبْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ، فَكَانَ يَخْدُمُنِى، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ أَنَسٍ، قَالَ جَرِيرٌ: إِنِّى رَأَيْتُ الأنْصَارَ يَصْنَعُونَ شَيْئًا بالنَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لا أَجِدُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلا أَكْرَمْتُهُ. 1739 / وفيه: أَنَس، خَرَجْتُ مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِلَى خَيْبَرَ أَخْدُمُهُ، وَقَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَكْثَرُنَا ظِلا الَّذِى يَسْتَظِلُّ بِكِسَائِهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ صَامُوا فَلَمْ يَعْمَلُوا شَيْئًا، وَأَمَّا الَّذِينَ أَفْطَرُوا فَبَعَثُوا الرِّكَابَ وَامْتَهَنُوا وَعَالَجُوا، فَقَالَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : (ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأجْرِ) . قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: فيه أن أجر الخدمة فى الغزو أعظم من أجر الصيام؛ إذا كان المفطر أقوى على الجهاد وطلب العلم وسائر الأعمال الفاضلة من معونة ضعيف أو حمل ما بالمسلمين إلى حمله حاجة. وفيه: أن التعاون فى الجهاد والتفاضل فى الخدمة من حل وترحال واجب على جميع المجاهدين. وفيه: جواز خدمة الكبير للصغير إذا رعى له شرفًا فى قومه أو فى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 نفسه أو نجابة فى علم أو دين أو شبهه، وأما فى الغزو فالخادم المحتسب أفضل أجرًا من المخدوم الحسيب. 67 - باب فَضْلِ مَنْ حَمَلَ مَتَاعَ صَاحِبِهِ فِى السَّفَرِ 740 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (كُلُّ سُلامَى عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ، يُعِينُ الرَّجُلَ فِى دَابَّتِهِ يُحَامِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وَدَلُّ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ) . قال المؤلف: السلامى عظام الأصابع والأكارع، عن صاحب (العين) وليس ما ذكر فى هذا الحديث أنه صدقة على الإنسان تجب عليه فرضًا، وإنما هو عليه من باب الحض والندب، كما أمر الله تعالى المؤمنين بالتعاون والتناصر وقال: (وتعاونوا على البر والتقوى (وقال (صلى الله عليه وسلم) : (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) (والله فى عون العبد ما دام العبد فى عون أخيه) ، فهذه كلها وما شاكلها من حقوق المسلمين بعضهم على بعض مندوب إليها مرغب فيها. ذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبى كثير، عن رجل ذكره، عن عائشة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إن فى الإنسان ثلاثمائة وستين مفصلا؛ فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله عددها فى يوم أمسى وقد زحزح عن النار) والمراد بحديث أبى هريرة أن الحامل فى السفر لمتاع غيره إنما معناه أن الدابة للمُعان فيؤجر الرجل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 على عونه لصاحبها فى ركوبها أو فى رفع متاعه عليها، وقد جاء هذا الحديث بينًا بهذا المعنى بعد هذا، وترجم له: (من أخذ بالركاب ونحوه) وقال فى الحديث: (ويعين الرجال على دابته فيحمل عليها ويرفع عليها متاعه) . فدل قوله: من أخذ بالركاب ونحوه. أنه أراد لدابة غيره وإذا أجر من فعل ذلك بدابة غيره أجر إذا حمل على دابة نفسه أكثر، والله الموفق. 68 - باب فَضْلِ رِبَاطِ يَوْمٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (اصْبِرُوا وَصَابِرُوا (الآية [آل عمران: 200] 741 / - فيه: سَهْل، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (رِبَاطُ يَوْمٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فيها، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فيها. . . . .) الحديث. قال المهلب: إنما صار رباط يوم فى سبيل الله خير من الدنيا وما فيها؛ لأنه عمل يؤدى إلى الجنة، وصار موضع سوط فى الجنة خير من الدنيا وما فيها من أجل أن الدنيا فانية وكل شيء فى الجنة وإن صغر فى التمثيل لنا وليس فيها صغير فهو أدوم وأبقى من الدنيا الفانية المنقطعة فكان الدائم الباقى خيرًا من المنقطع. وقوله تعالى: (اصبروا وصابروا (اختلف فيها أهل التأويل فقال زيد: اصبروا على الجهاد، وصابروا العدو، ورابطوا الخيل على العدو. وعن الحسن وقتادة: اصبروا على طاعة الله، وصابروا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 أعداء الله، ورابطوا فى سبيل الله. وعن الحسن أيضًا: اصبروا على المصائب، وصابروا على الصلوات الخمس. قال محمد بن كعب: اصبروا على دينكم، وصابروا لوعدى الذى وعدتكم عليه، ورابطوا عدوى وعدوكم حتى يترك دينه لدينكم، واتقوا الله فيما بينى وبينكم لعلكم تفلحون غدًا إذا لقيتموني. وعن أبى سلمة: رابطوا على الصلوات أى: انتظروها. 69 - باب مَنْ غَزَا بِصَبِىٍّ لِلْخِدْمَةِ 742 / فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِيّ، (صلى الله عليه وسلم) ، لأبِى طَلْحَةَ: (الْتَمِسْ لى غُلامًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِى حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى خَيْبَرَ) ، فَخَرَجَ بِى أَبُو طَلْحَةَ مُرْدِفِى، وَأَنَا غُلامٌ رَاهَقْتُ الْحُلُمَ، فَكُنْتُ أَخْدُمُ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا نَزَلَ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ كَثِيرًا، يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ. . . . . .) الحديث. قال أبو عبد الله: فى حديث أنس: (خرج بى أبو طلحة وأنا غلام راهقت الحلم) وفى طريق آخر: (وأنا ابن عشر سنين) . وكذلك فى حديث ابن عباس: (ناهزت الحلم) . وفى طريق آخر: (توفى رسول الله وأنا ابن عشر سنين، وقد حفظت المحكم الذى يدعونه المفصل) فسمى أنس وابن عباس ابن عشر سنين مراهقًا. وفيه: جواز الاستخدام لليتامى بشبعهم وكسوتهم. وفيه: دليل على جواز الاستخدام بغير نفقة ولا كسوة إذا كان خدمة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 عالم أو إمام فى الدين؛ لأنه لم يذكر فى حديث أنس أن له أجر الخدمة وإن كان قد يجوز أن تكون نفقته من عند النبى، واما الأجرة فلم يذكرها أنس فى حديثه ولا ذكرها أحد عن النبى ولا عن أبى طلحة ولا عن أم سلمة، وهما اللذان أتيا به إلى الرسول وأسلماه لخدمته ولم يشترطا أجرة ولا نفقة ولا غيرها، فجائز على اليتيم إسلام أمه ووصيه وذى الرأى من أهله فى الصناعات واستئجاره فى المهنة وذلك لازم له ومنعقد عليه، وفيه جواز حمل الصبيان فى الغزو وقوله: (يحوى لها وراءه) فالحوية مركب يهيأ للمرأة، من كتاب العين 70 - باب رُكُوبِ الْبَحْرِ 743 / - فيه: أَنَس، حَدَّثَتْنِى أُمُّ حَرَامٍ أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، نام يَوْمًا فِى بَيْتِهَا، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَ: (عَجِبْتُ مِنْ قَوْمٍ مِنْ أُمَّتِى يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ كَالْمُلُوكِ عَلَى الأسِرَّةِ. . . . .) الحديث. فيه جواز ركوب البحر للجهاد وإذا جاز ركوبه للجهاد فهو للحج أجوز وهذا الحديث يرد أحد قولى الشافعى أنه من لم يكن له طريق إلى الحج إلا على البحر سقط عنه فرض الحج، وقال مالك وأبو حنيفة: يلزمه الحج على ما يقتضيه دليل هذا الحديث، إلا أن مالكًا يكره للمرأة الحج فى البحر وهو للجهاد أكره، وإنما كره ذلك؛ لأن المرأة لا تكاد تستتر عن الرجال ولا يستترون عنها، ونظرها إلى عورات الرجال ونظرهم إليها حرام، فلم ير لها استباحة فضيلة ولا أداء فريضة بمواقعة محرم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 وذكر مالك أن عمر بن الخطاب كان يمنع الناس من ركوب البحر فلم يركبه أحد طول حياته، فلما مات استأذن معاوية عثمان بن عفان فى ركوبه؛ فأذن له فلم يزل يركب حتى كان عمر بن عبد العزيز فمنع من ركوبه، ثم ركب بعده إلى الآن. ولا حجة لم منع ركوبه؛ لأن السنة قد أباحت ركوبه فى الجهاد للرجال والنساء فى حديث أنس وغيره وهى الحجة فيها الأسوة، وقد ذكر أبو عبيد أن النبى (صلى الله عليه وسلم) نهى عن ركوب البحر فى وقت ارتجاجه وصعوبته قال: حدثناه عباد بن عباد، عن أبى عمران الجونى، عن زهير بن عبد الله يرفعه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من ركب البحر إذا التج أو قال: ارتج فقد برئت منه الذمة أو قال: فلا يلومن إلا نفسه) قال أبو عبيد: وأكبر ظنى أنه قال: (التج) باللام. فدل هذا الحديث أن ركوبه مباح فى غير وقت ارتجاجه وصعوبته فى كل شيء فى التجارة وغيرها، وسيأتى فى كتاب البيوع فى (باب التجارة فى البحر) زيادة فى هذا المعنى إن شاء الله ولم يفسر أيو عبيد قوله: (برئت منه الذمة) ومعناه إن شاء الله -: فقد برئت منه ذمة الحفظ؛ لأنه ألقى بيده إلى التهلكة وغرر بنفسه، ولم يرد فقد برئت منه ذمة الإسلام؛ لأنه لا يبرأ أحد من الإسلام إلا بالكفر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 71 - باب مَنِ اسْتَعَانَ بِالضُّعَفَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِى الْحَرْبِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَنِى أَبُو سُفْيَانَ، قَالَ لِى قَيْصَرُ: سَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَزَعَمْتَ ضُعَفَاءَهُمْ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. 1744 / فيه: سَعْد، أَنَّهُ رَأَى فَضْلا له عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلا بِضُعَفَائِكُمْ) . 1745 / وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ الرسول، (صلى الله عليه وسلم) : (يَأْتِى زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ عَلَيْهِم، ثُمَّ يَأْتِى زَمَانٌ، فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ أَصْحَابَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ، ثُمَّ يَأْتِى زَمَانٌ، فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ صَاحِبَ أَصْحَابِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ) . قال المؤلف: ذكر النسائى زيادة فى حديث سعد يبين بها معناه فيقال فيه: (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بصومهم وصلاتهم ودعائهم) وتأويل ذلك أن عبادة الضعفاء ودعاءهم أشد إخلاصًا وأكثر خشوعًا؛ لخلاء قلوبهم من التعلق بزخرف الدنيا وزينتها وصفاء ضمائرهم مما يقطعهم عن الله فجعلوا همهم واحدًا؛ فزكت أعمالهم، وأجيب دعاؤهم قال المهلب: إنما أراد (صلى الله عليه وسلم) بهذا القول لسعد الحض على التواضع ونفى الكبر والزهو عن قلوب المؤمنين. ففيه من الفقه أن من زها على ما هو دونه أنه ينبغى أن يبين من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 فضله ما يحدث له فى نفس المزهو مقدارًا أو فضلا حتى لا يحتقر أحدًا من المسلمين؛ ألا ترى أن الرسول أبان من حال الضعفاء ما ليس لأهل القوة والغناء فأخبر أن بدعائهم وصلاتهم وصومهم ينصرون. وذكر عبد الرزاق، عن مكحول أن سعد بن أبى وقاص قال: (يا رسول الله، أرأيت رجلا يكون حامية القوم ويدفع عن أصحابه ليكون نصيبه كنصيب غيره؟ فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) -: ثكلتك أمك يا ابن أم سعد، وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم) . فيمكن أن يكون هذا المعنى الذى لم يذكره البخارى فى حديث سعد الذى رأى به الفضل لنفسه على من دونه والله أعلم وحديث أبى سعيد يشهد لصحته، ويوافق معناه قوله (صلى الله عليه وسلم) : (خيركم قرنى ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) لأنه يفتح لهم لفضلهم، ثم يفتح للتابعين لفضلهم، ثم يفتح لتابعيهم لفضلهم، وأوجب الفضل لثلاثة القرون ولم يذكر الرابع ولم يذكر فضلا فالنصر فيهم أقل، والله أعلم. وقال صاحب العين: الفئام: الجماعة من الناس وغيرهم. 72 - باب لا يقال فُلانٌ شَهِيدٌ وَقَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِى سَبِيلِهِ) . 1746 / فيه: سَهْل، الْتَقَى النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَالْمُشْرِكُونَ، فَاقْتَتَلُوا، وَفِى أَصْحَابِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) رَجُلٌ لا يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلا فَاذَّةً إِلا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ، فَقَالَ: مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ كَمَا أَجْزَأَ فُلانٌ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : ( الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ) ، فاتبعه رَجُلٌ كُلَّمَا وَقَفَ، وَقَفَ مَعَهُ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ، قَالَ: فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ الرسول: (وَمَا ذَاكَ) ؟ فأخبره، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) . قال المهلب: فى هذا الحديث ضد ما ترجم له البخارى، أنه لا يقال: فلان شهيد، ثم أدخل هذا الحديث وليس فيه من معنى الشهادة شيء وإنما فيه ضدها والمعنى الذى ترجم به قولهم: ما أجزأ أحد ما أجزأ فلان فمدحوا جزاءه وغناءه، ففهم الرسول منهم أنهم قضوا له بالجنة فى نفوسهم بغناءه ذلك، فأوحى إليه بغيب مآل أمره لئلا يشهدوا لحى بشهادة قاطعة عند الله ولا لميت، كما قال رسول الله فى عثمان بن مظعون: (والله ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل به) وكذلك لا يعلم شيئًا من الوحى حتى يوحى إليه به ويعرف بغيبه، فقال: إنه من أهل النار بوحى من الله له. وفيه أن صدق الخبر عما يكون وخروجه على ما أخبر به المخبر زيادة فى زكاته وهو من النبى (صلى الله عليه وسلم) من علامات نبوته وزيادة فى يقين المؤمنين به، ألا ترى قول الرجل حين رأى قتله لنفسه: أشهد إنك لرسول الله وهو كان قد شهد قبل ذلك. وقد قال أبو بكر الصديق فى غير ما قصة حين كان يرى صدق ما أخبر به النبى كان يقول: أشهد أنك رسول الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 وفيه جواز الإغياء فى الوصف لقوله: ما أجزأ أحدكما أجزأ، ولا يدع لهم شاذة ولا فاذة، ولا شك أن فى أصحاب الرسول من كان فوقه، وأنه قد ترك شاذات وفاذات لم يدركها، وإنما خرج كلامه على الإغياء والمبالغة، وهو جائز عند العرب. وقوله: (إلا اتبعها يضربه بسيفه) معناه: يضرب الشيء المتبوع؛ لأن المؤنث قد يجوز تذكيره على معنى أنه شيء، وأنشد الفراء للأعرابية: تركتنى فى الحى ذا غربة تريد ذات غربة لكنها ذكرت على تقدير: تركتنى فى الحى إنسان ذا غربة، أو شخصًا ذا غربة. 73 - باب التَّحْرِيضِ عَلَى الرَّمْىِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) [الأنفال: 60] 747 / فيه: سَلَمَةَ: مَرَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ، فَقَالَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : (ارْمُوا بَنِى إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، ارْمُوا وَأَنَا مَعَ بَنِى فُلانٍ) ، قَالَ: فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا لَكُمْ لا تَرْمُونَ) ؟ قَالُوا: كَيْفَ نَرْمِى وَأَنْتَ مَعَهُمْ؟ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ) . 1748 / وفيه: أَبُو سعيد، قَالَ: قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ بَدْرٍ، حِينَ صَفَفَنَا لِقُرَيْشٍ وَصَفُّوا لَنَا: (إِذَا أَكْثَبُوكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالنَّبْلِ) . قال ابن المنذر: ثبت أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال فى قوله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة (: (ألا وإن القوة الرمى) . رواه المقرىء، عن سعيد بن أبى أيوب، حدثنا يزيد بن أبى حبيب، عن أبى الخير مرثد بن عبد الله اليزنى، عن عقبة بن عامر، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب فيه من الفقه: أن للسلطان أن يأمر رجاله بتعليم الرمى وسائر وجوه الحرابة ويحض عليها. وفيه: أنه يجب أن يطلب الرجل خلال أبيه المحمودة ويتبعها ويعمل مثلها؛ لقوله: (ارموا فإن أباكم كان راميًا) . وفيه: أن السلطان يجب أن يعلم المجودين أنه معهم أى فى حزبهم ومحب لهم كما فعل الرسول فى المجودين للرماية فقال: (وأنا مع بنى فلان) أى: أنا محب لهم ولفعلهم كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (المرء مع من أحب) . وفيه من الفقه: أنه يجوز للرجل أن يبين عن تفاضل إخوانه وأهله وخاصته فى محبته، ويعلمهم كلهم أنهم فى حزبه ومودته، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (أنا معكم كلكم) بعد أن كان أفراد إحدى الطائفتين. وفيه: أن من صار السلطان عليه فى جملة الحزب المناضلين له ألا يتعرض لمناوأته كما فعل القوم حين أمسكوا؛ لكون الرسول مع مناضليهم خوف أن يرموا فيسبقوا فيكون النبى مع من سبق فيكون ذلك حقا على النبى، وأمسكوا تأدبًا عليه، فلما أعلمهم أنه معهم أيضًا رموا؛ لسقوط هذا المعنى. وفيه: أن السلطان يجب أن يعلم بنفسه أمور القتال كما فعل - عليه السلام -. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 وقوله: (ينتضلون) يعنى: يرمون. تقول: ناضلت الرجل: راميته. وقوله: (أكثبوكم) أى: قربوا منكم. تقول العرب: أكثبك الصيد: قرب منك. والكثب: القرب. من كتاب الأفعال. 74 - باب اللَّهْوِ بِالْحِرَابِ وَنَحْوِهَا 749 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَيْنَا الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) بِحِرَابِهِمْ، دَخَلَ عُمَرُ فَأَهْوَى إِلَى الْحَصَى فَحَصَبَهُمْ، فَقَالَ: (دَعْهُمْ يَا عُمَرُ) . وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عن مَعْمَرٌ: فِى الْمَسْجِدِ. هذا اللعب بالحراب هو سنة ليكون ذلك عدة للقاء العدو، وليتدرب الناس فيه، ولم يعلم عمر معنى ذلك حين حصبهم حتى قال له النبى (صلى الله عليه وسلم) -: (دعهم) . ففيه من الفقه: أن من تأول خطأ لا لوم عليه؛ لأن النبى لم يوبخ عمر على ذلك؛ إذ كان متأولا. وفيه: جواز مثل هذا اللعب فى المسجد؛ إذ كان مما يشمل الناس نفعه. وقد تقدم بيان هذا فى باب: أصحاب الحراب فى المسجد. فى كتاب الصلاة. 75 - باب الترسة وَالْمِجَنِّ 750 / فيه: أَنَس، كَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَتَتَرَّسُ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِتُرْسٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ حَسَنَ الرَّمْىِ، فَكَانَ إِذَا رَمَى يشَرَّف النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَيَنْظُرُ إِلَى مَوْضِعِ نَبْلِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 51 / وفيه: سَهْلٍ، لَمَّا كُسِرَتْ بَيْضَةُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) عَلَى رَأْسِهِ، وَأُدْمِىَ وَجْهُهُ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَكَانَ عَلِىٌّ يَخْتَلِفُ بِالْمَاءِ فِى الْمِجَنِّ. . . . . الحديث. 1752 / وفيه: عُمَرَ، كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِى النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خَاصَّةً، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِىَ فِى الْكُرَاعِ وَالسِّلاحِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ. قال المهلب: فيه ركوب شيء من الغدر للإمام لحرصه على معاينة نكاية العدو وإن كان احتراس الإمام خطيرًا، وليس كسائر الناس فى ذلك بل هو آكد. وفيه: اختفاء السلطان عند اصطفاف القتال؛ لئلا يعرف مكانه. وفى حديث سعد: جواز امتحان الأنبياء وإيلامهم، ليعظم بذلك أجرهم ويكون أسوة لمن ناله جرح وألم من أصحابه، فلا يجدون فى أنفسهم مما نالهم غضاضة، ولا يجد الشيطان السبيل إليهم بأن يقول لهم: تقتلون أنفسكم وتحملون الآلام فى صون هذا، فإذا أصابه ما أصابهم فقدت هذه المكيدة من اللعين، وتأسى الناس به فجدوا فى مساواتهم له فى جميع أحواله. وفيه: خدمة السلطان. وفيه: بذل السلاح فيما يضرها إذا كان فى ذلك منفعة لخطير الناس. وفيه دليل أن ترستهم كانت مقعرة ولم تكن منبسطة فلذلك كان يمكن حمل الماء بها. وفيه: أن النساء ألطف بمعالجة الرجال والجرحى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 وقوله: (فرقىء الدم) قال صاحب العين: يقال. رقأ الدم والدمع رقوءًا: سكن بعد جريه. 76 باب فيه: مَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) يُفَدِّى رَجُلا بَعْدَ سَعْدٍ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (ارْمِ فِدَاكَ أَبِى وَأُمِّى . قال المهلب: هذا مما خص به سعد، وفيه دليل أن الرجل إذا كان له أبوان وإن كانا على غير دينه فلهما عليه حرمة وحق؛ لأنه لا يفدى إلا بذى حرمة ومنزلة، وإلا لم يكن يفديه، ولا فضيلة للمفدي. فمن هاهنا قال مالك: إنه من آذى مسلمًا فى أبويه الكافرين عوقب وأدب لحرمتهما عليه. وقال الطبرى: فى هذا الحديث دلالة على جواز تفدية الرجل الرجل بأبويه ونفسه، وفساد قول منكرى ذلك، فإن ظن ظان أن تفدية الرسول من فداه بأبويه إنما كان لأن أبويه كانا مشركين، فأما المسلم فغير جائز أن يفدى مسلمًا ولا كافرًا بنفسه ولا بأحد سواه من الإسلام، واعتلالا بما روى أبو سلمة قال: أخبرنى مبارك، عن الحسن قال: (دخل الزبير على الرسول وهو شاك، فقال: كيف تجدك جعلنى الله فداك؟ فقال له: أما تركت إفداء بيتك بعد) قال الحسن: لا ينبغى أن يفدى أحد أحدًا، ورواه المنكدر، عن أبيه قال: (دخل الزبير. . .) فذكره. قلت: هذه أخبار واهية لا يثبت مثلها حجة فى الدين؛ لأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 مراسيل الحسن أكثرها عن غير سماع، وإذا وصل الأخبار فأكثر رواته عن مجاهيل لا يعرفون، والمنكدر بن محمد عند أهل النقل لا يعتمد على نقله، ولو صحت هذه الأخبار لم يكن فيها حجة فى إبطال حديث على؛ إذ لا [. . . . .] فى حديث الزبير أن النبى نهاه عن قول ذلك، بل إنما قال له فيه: (أما تركت إفداء بيتك بعد) والمعروف من قول القائل إذا قال: فلان لم يترك إفداء بيته، وإنما يشبه إلى الجفاء لا إلى نقل ما لا يجوز فعله، وأعلمه أن غيره من القول والتحية ألطف وأورق منه، وسيأتى شيء من هذا المعنى فى كتاب الأدب إن شاء الله. 77 - باب الدَّرَقِ 753 / فيه: عَائِشَةَ، دَخَلَ عَلَىَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) وَعِنْدِى جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ - فذكر الحديث - وَكَانَ يَوْمُ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ - إلى قوله: (دُونَكُمْ بَنِى أَرْفِدَةَ. . . .) الحديث. قد تقدم القول فى هذا الحديث فى كتاب الصلاة وغيره. وفيه: أن الدرق من آلات الحرب التى ينبغى لأهلها اتخاذها والتحرز بها من أسلحة العدو، وأن أصحاب النبى استعملوها فى ذلك. وقوله: (دونكم) يحضهم على ما هم فيه من اللعب بالحراب والدرق؛ لأن فى ذلك منفعة وتدريبًا وعدة للقاء العدو. وقوله: (بنى أرفدة) نسبهم إلى جدهم وكان يسمى أرفدة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 78 - باب الْحَمَائِلِ وَتَعْلِيقِ السَّيْوفِ بِالْعُنُقِ 754 / فيه: أَنَس، كَانَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً فَخَرَجُوا نَحْوَ الصَّوْتِ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَدِ اسْتَبْرَأَ الْخَبَرَ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لأبِى طَلْحَةَ عُرْىٍ، وَفِى عُنُقِهِ السَّيْفُ. . . . قد تقدم القول فى هذا الحديث قبل هذا، وإنما فائدة هذا الباب أن السيوف تتقلد فى الأعناق بخلاف قول من اختار أن يربط السيف فى الحزام ولا يتقلد فى العنق، وليس فى شىء من هذا حرج. 79 - باب حِلْيَةِ السُّيُوفِ 755 / فيه: أَبُو أُمَامَةَ، لَقَدْ فَتَحَ الْفُتُوحَ قَوْمٌ مَا كَانَتْ حِلْيَةُ سُيُوفِهِمُ الذَّهَبَ وَلا الْفِضَّةَ، إِنَّمَا كَانَتْ حِلْيَتُهُمُ الْعَلابِىَ وَالآنُكَ وَالْحَدِيدَ. العلابى [. . . .] . قال صاحب العين: رمح منقلب ومقلوب مجاوز بالعلباء. والعلباء عصب العنق، يقال: علبت السيف أعلبه علبًا: إذا حزمت مقبضه بعلباء البعير. وقال المهلب: فيه أن الحلية المباحة من الذهب والفضة فى السيوف إنما كانت ليرهب بها على العدو، فاستغنى أصحاب رسول الله صلى - الله عليه وسلم - بشدتهم على العدو وقوتهم فى الإيقاع بهم والنكاية لهم عن إرهاب الحلية؛ لإرهاب الناس وشجاعتهم، والآنك: الرصاص وهو الأسرب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 80 - باب مَنْ عَلَّقَ سَيْفَهُ بِالشَّجَرِ فِى السَّفَرِ عِنْدَ الْقَائِلَةِ 756 / فيه: جَابِر، أَنَّهُ غَزَا مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، أَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ فِى وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) تَحْتَ سَمُرَةٍ، وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، وَنِمْنَا نَوْمَةً، فَإِذَا النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَدْعُونَا، وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِىٌّ، فَقَالَ: (إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَىَّ سَيْفِى، وَأَنَا نَائِمٌ فَاسْتَيْقَظْتُ، وَهُوَ فِى يَدِهِ صَلْتًا) ، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّى؟ قُلْتُ: (اللَّهُ، ثَلاثًا) ، فَشَامَ السَّيْف وَلَمْ يُعَاقِبْهُ، وَجَلَسَ. وترجم له (باب: تفرق الناس عن الإمام عند القائلة والاستظلال بالشجر) . قال المهلب: فيه أن تعليق السيف والسلاح فى الشجر صيانة لها من الأمر المعمول به. وفيه: أن تعليقها على بعد من صاحبها من الغرر لا سيما فى القائلة والليل؛ لما وصل إليه هذا الأعربى من سيف الرسول. وفيه: تفرق الناس عن الإمام عند القائلة وطلبهم الظل والراحة، ولكن ليس ذلك فى غير الرسول إلا بعد أن يبقى معه من يحرسه من أصحابه؛ لأن الله تعالى قد كان ضمن لنبيه أن يعصمه من الناس. وفيه: أن هذه القضية كانت سبب نزول هذه الآية. وروى ابن أبى شيبة قال: حدثنا أسود بن عامر، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة قال: (كنا إذا نزلنا طلبنا للنبى أعظم شجرة وظلها، قال: فنزلنا تحت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 شجرة، فجاء رجل وأخذ سيفه فقال: يا محمد، من يعصمك منى؟ قال: الله؛ فأنزل الله: (والله يعصمك من الناس (. وفيه: أن حراسة الإمام فى القائلة والليل من الواجب على الناس، وأن تضييعه من المنكر والخطأ. وفيه: دعاء الإمام لأتباعه إذا أنكر شخصًا وشكوى من أنكره إليهم. وفيه: ترك الإمام معاقبة من جفا عليه وتوعده إن شاء، والعفو عنه إن أحب. وفيه: صبر الرسول وحلمه وصفحه عن الجهال. وفيه: شجاعته وبأسه وثبات نفسه صلى الله عليه ويقينه أن الله ينصره ويظهره على الدين كله. وقوله: (فشام السيف) يعنى: أغمده. وشامه أيضًا: سله وهو من الأضداد. 81 - باب لُبْسِ الْبَيْضَةِ 757 / فيه: سَهْل، جُرْحِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ أُحُدٍ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَهُشِمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ. . . . الحديث. هذه الأبواب كلها التى ذكرت فيها آلات الحرب وأنواع السلاح وأن الرسول وأصحابه استعملوها واتخذوها للحرب وإن كان الله قد وعدهم بالنصر وإظهار الدين فليكون ذلك سنة للمؤمنين؛ إذ الحرب سجال مرة لنا ومرة علينا، وقد أمر باتخاذها فى قوله: (وأعدوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} فأخبر أن السلاح فيها إرهاب العدو، وفيها أيضًا تقوية لقلوب المؤمنين من أجل أن الله تعالى جبلها على الضعف، وإن كانت السلاح لا تمنع المنية لكن فيها تقوية للقلوب وأنس لمتخذيها. 82 - باب مَنْ لَمْ يَرَ كَسْرَ السِّلاحِ عِنْدَ الْمَوْتِ 758 / فيه: عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، مَا تَرَكَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِلا سِلاحَهُ، وَبَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَأَرْضًا صَدَقَةً. قال المهلب: كان أهل الجاهلية إذا مات سلطانهم أو رئيسهم عهد بكسر سلاحه وحرق متاعه وعقر دوابه، فخالف الرسول فعلهم وترك بغلته وسلاحه وأرضه غير معهود فيها بشيء إلا صدقة فى سبيل الله. 83 - باب مَا قِيلَ فِى الرِّمَاحِ وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (جُعِلَ رِزْقِى تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِى، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِى) . 1759 / فيه: أَبُو قَتَادَةَ، أَنَّهُ رَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا، فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ، فَأَبَوْا، فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ، فَأَبَوْا، فَأَخَذَهُ. . . . الحديث. قال المؤلف: ومعنى هذا كالأبواب التى قبله أن الرمح كان من آلات النبى للحرب ومن آلات أصحابه، وأنه من مهم السلاح وشريف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 القدر؛ لقول الرسول: (جعل رزقى تحت ظل رمحي) وهذه إشارة منه لتفضيله والحض على اتخاذه والاقتداء به فى ذلك. قال المهلب: وفيه أن الرسول خص بإحلال الغنائم وأن رزقه منها بخلاف ما كانت الأنبياء قبله عليه، وخص بالنصر على من خالفه، ونصر بالرعب وجعلت كلمة الله هى العليا، ومن اتبعها هم الأعلون، وإنما ثقف المخالفون لأمره إلا بحبل من الله وهو العهد، باءوا بغضب من الله وضربت عليهم الذلة والصغار وهى الجزية، والله الموفق. 84 - باب مَا قِيلَ فِى دِرْعِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) وَالْقَمِيصِ فِى الْحَرْب ِ 1760 / فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ فِى قُبَّةٍ يوم بدر: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ) ، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ، وَهُوَ فِى الدِّرْعِ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (الآية [القمر: 45] . 1761 / وفيه: عَائِشَةَ، تُوُفِّىَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِىٍّ. 1762 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ مَثَلُ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ) ، وذكر الحديث. قال المهلب: فيه اتخاذ الدرع والقتال فيه. وفيه دليل على أن نفوس البشر لا يرتفع عنها الخوف والإشفاق جملة واحدة؛ لأن الرسول قد كان وعده الله بالنصر وهو الوعد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 الذى نشده، وكذلك قال الله عن موسى حين ألقى السحرة حبالهم وعصيهم فأخبر بعد أن أعلمه أنه ناصره وأنه معهما يسمع ويرى فقال تعالى: (فأوجس فى نفسه خيفة موسى (وإنما هى طوارق من الشياطين يخوف بها النفوس ويثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة. وقوله: (اللهم إنى أنشدك عهدك ووعدك) : اللهم إنى أسألك إنجاز وعدك وإتمامه بإظهار دينك وإعلاء كلمة الإسلام الذى رضيت بظهوره على جميع الأديان، وشئت أن يعبدك أهله، ولم تشأ ألا تعبد، فتمم ما شئت كونه؛ فإن الأمور كلها بيدك. وقوله: (سيهزم الجمع ويولون الدبر) فيه تأنيس من استبطأ كريم ما وعد الله به من النصر بالبشرى لهم بهزم حزب الشيطان وتذكيرهم بما يثبتهم به من كتابه. وفيه فضل أبى بكر الصديق ويقينه بما وعد الله نبيه (صلى الله عليه وسلم) ولذلك سماه الصديق، وقد تقدم القول فى حديث عائشة فى كتاب الزكاة. 85 - باب الْحَرِيرِ فِى الْحَرْبِ 763 / فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ فِى قَمِيصٍ حَرِيرٍ لحِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا. وَقَالَ مرة: لقَمْلَ، فَأَرْخَصَ لَهُمَا فِى الْحَرِيرِ، فَرَأَيْتُهُ عَلَيْهِمَا فِى غَزَاةٍ. اختلف السلف فى لباس الحرير فى الحرب، فأجازته طائفة وكرهته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 طائفة، فممن كرهه عمر بن الخطاب، وروى مثله عن ابن محيريز وعكرمة وابن سرين وقالوا: كراهيته فيى الحرب أشد لما يرجون من الشهادة، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، وقال مالك: ما علمت أحدًا يقتدى به لبسه فى الغزو. وممن أجازه فى الحرب: روى معمر، عن ثابت قال: رأيت أنس بن مالك يلبس الديباج فى فزعة فزعها الناس. وقال أبو فرقد: رأيت على تجافيف أبى موسى الديباج والحرير. وقال عطاء: الديباج فى الحرب سلاح. وأجازه عروة والحسن البصرى، وهو قول أبى يوسف والشافعي. وذكر ابن حبيب عن ابن الماجشون أنه استحب الحرير فى الجهاد والصلاة به حينئذ للترهيب على العدو والمباهاة، وفى مختصر ابن شعبان، عن ابن الماجشون، عن مالك مثل ما ذكره ابن حبيب. وقال الطبرى: أما الذين كرهوا لباسه فى الحرب وغيره فإنهم جعلوا النهى عنه عامًا فى كل حال. والذين رخصوا فى لباسه فى الحرب احتجوا بترخيصه (صلى الله عليه وسلم) لعبد الرحمن بن عوف والزبير فى لباسه للحكة والقمل، فبان بذلك أن من قصد بلبسه إلى دفع ما هو أعظم عليه من أذى الحكة، كأسلحة العدو المريد نفس لابسه بنبلٍٍ ونشاب، ولبسه، فله من ذلك نظير الذى كان لعبد الرحمن والزبير لسبب الحكة، أيضًا ما حدثنا به أبو كريب، حدثنا أبو خالد وعبدة ابن سليمان، عن حجاج، عن أبى عثمان ختن عطاء عن أسماء، قال: (أخرجت إلينا جبة مزررة بالديباج، وقالت: كان رسول الله يلبسها فى الحرب) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 قال المهلب: ولباسه فى الحرب من باب الإرهاب على العدو، وكذلك ما رخص فيه من تحلية السيوف وكل ما استعمل فى الحرب هو من هذا الباب. ويدل على أن أفضل ما استعمل فى قتل العدو [. . . . .] فى قذف الرعب والخشية فى قلوبهم، وكذلك رخص فى الاختيال فى الحرب، وقال (صلى الله عليه وسلم) لأبى دجانة وهو يتبختر فى مشيته: (إنها لمشية يبغضها الله إلا فى هذا الموضع) لما فى ذلك من الإرهاب على أعداء الله، وقام الدليل من هذا على أن حسن الرأى وجودة التدبير من الرجل الواحد يشير به فى قتال العدو وقد يكون [. . . .] من الشجاعة [. . . .] العساكر العظام. 86 - باب مَا قيل فِى السِّكِّينِ 764 / فيه: عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، رَأَيْتُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، يَأْكُلُ مِنْ كَتِفٍ يَحْتَزُّ مِنْهَا، ثُمَّ دُعِىَ إِلَى الصَّلاةِ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وألقى السِّكَينِ. ليس فيه أكثر من استعمال السكين وأنه معروف عندهم اتخاذه واستعماله. 87 - باب مَا قِيلَ فِى قِتَالِ الرُّومِ 765 / فيه: عُمَيْرَ بْنَ الأسْوَدِ الْعَنْسِىَّ عن أُمُّ حَرَامٍ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (تَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا) ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا فِيهِمْ؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 قَالَ: (أَنْتِ فِيهِمْ) ، ثُمَّ قَالَ: (أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِى يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ) ، قُلْتُ: أَنَا فِيهِمْ؟ قَالَ: (لا) . قال المهلب: من هذا الحديث فضل لمعاوية؛ لأنه أول من غزا الروم وابنه يزيد غزا مدينة قيصر. وعمير بن الأسود العنسى منسوب إلى قبيلة من العرب يقال لهم: بنو عنس بالكوفة، والعيش بالبصرة، وفى أخرى: ولا [. . . . .] . 88 - باب قِتَالِ الْيَهُودِ 766 / فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ حَتَّى يَخْتَبِىَء أَحَدُهُمْ وَرَاءَ الْحَجَرِ، فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا يَهُودِىٌّ وَرَائِى، فَاقْتُلْهُ) . 1767 / وقا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ، حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ. . . . .) الحديث. قال المهلب: فى هذا الحديث دليل على ظهور الآيات بتكلم الجماد وما شاكله عند نزول عيسى ابن مريم الذى يستأصل الدجال واليهود معه. وفيه دليل على بقاء دين محمد ودعوته بعد نزول عيسى ابن مريم لقوله: (تقاتلوا) ولا يكونوا مخاطبين بالقتال إلا وهم على دينهم لجواز علم النبى (صلى الله عليه وسلم) أن الذين يقاتلون الدجال غير من يخاطب بالحضرة، لكن خاطب من بالحضرة لمجيء من بعدهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 على مذهبهم، وهذا فى كتاب الله كثير خاطب من الحضرة ما يلزم الغائبين الذين لم يخلقوا بعد. وفيه جواز مخاطبة من لا يسمع الخطاب، ومخاطبة من قد يجوز منه الاستماع يومًا ما. 89 - باب قِتَالِ التُّرْكِ 768 / فيه: عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ، قَالَ، (صلى الله عليه وسلم) : (مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ تُقَاتِلُون قَوْمًا يَنْتَعِلُونَ نِعَالَ الشَّعَرِ، وَإِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ تُقَاتِلُون قَوْمًا عِرَاضَ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ) . 1769 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ، صِغَارَ الأعْيُنِ، حُمْرَ الْوُجُوهِ، ذُلْفَ الأنُوفِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ، وَلا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ) . قال المهلب: فيه علامة للنبوة وأنه سيبلغ ملك أمته غاية المشارق التى فيها هؤلاء القوم على ما ذكر فى غير هذا الحديث، وكذلك خلقة وجوههم بالعيان عريضة، وسائر ما وصفهم به كما وصفهم. وفيه التشبيه للشيء بغيره إذا كان فيه شبه منه من جهة ما، وإن خالف فى غير ذلك. قال صاحب الأفعال: المجان جمع مجن وهى الترسة، ويقال: أطرقت النعل والترس: أطبقتها. وقال صاحب العين: الذلف: غلظ واستواء فى طرف الأنف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 90 - باب: من صف أصحابه عند الهزيمة ونزول عن دابته واستنصر 770 / فيه: الْبَرَاءَ، سَأَلَهُ رَجُلٌ أَكُنْتُمْ فَرَرْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا وَلَّى النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَكِنّ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ وَخِفَّاؤُهُمْ حُسَّرًا لَيْسَ بِسِلاحٍ، فَأَتَوْا قَوْمًا رُمَاةً جَمْعَ هَوَازِنَ وَبَنِى نَصْرٍ، مَا يَكَادُ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ، فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا، مَا يَكَادُو يُخْطِئُونَ، فَأَقْبَلُوا هُنَالِكَ إِلَى الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَابْنُ عَمِّهِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ يَقُودُ بِهِ، فَنَزَلَ وَاسْتَنْصَرَ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا النّبِىُّ لا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِالْمُطَّلِبْ ثُمَّ صَفَّ أَصْحَابَهُ. قال المهلب: فيه الترجمة، وتثبيت من بقى مع الإمام، ونزول الرسول عن بغلته إنما كان لتثبيت الرجالة الباقين معه، وليتأسوا به فى استواء الحال، فكذلك يجب على كل إمام إذا ولى أصحابه وبقى فى قلة منهم إن أخذ على نفسه بالشدة أن يفعل ما فعل (صلى الله عليه وسلم) من النزول، وإن لم يكن له نية يأخذ بالشدة، فليكن انهزامه يتحيز مع فئة من قومه إلى فئة أخرى يروم تثبيتهم، وهذا الحديث يبين أن المنهزمين يوم حنين لم يكونوا جميع الصحابة وأن بعضهم بقى مع النبى (صلى الله عليه وسلم) غير منهزمين. قال الطبرى: وفيه البيان عما خص الله به نبينا محمدًا (صلى الله عليه وسلم) من الشجاعة والنجدة؛ وذلك أن أصحابه انفلوا فانهزموا من عدوهم حتى ولوا عنهم مدبرين، كما وصفهم فى كتابه: (ثم وليتم مدبرين (فكان أصحابه وهم زهاء عشرة آلاف أو أكثر مدبرين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 انهزامًا من المشركين وهو فى نفر من أهله قليلين متقدم تلقاء العدو وقتالهم جاد فى النظر نحوهم، غير مستأخر، غير مدبر، والعدو من العدد فى مثل السيل والليل. فإن قيل: قد انهزم من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) من انهزم عنه، والفرار من الزحف كبيرة، فكيف فعل ذلك أصحابه؟ قال الطبرى: والجواب أن الفرار المكروه الذى وعد الله عليه الانتقام: الانهزام على نية ترك العود لقتالهم إذا وجدوا قوة. وأما الاستطراد للكرة أو التحيز إلى فئة عند قهر العدو المسلمين لمكيدة أو كثرة عدد فليس ذلك من الفرار الذى توعد الله المؤمنين عليه، ولو كان ذلك فرارًا لكان القوم يوم حنين قد استحقوا من الله الوعيد وذلك أنه تعالى أخبر عنهم أنهم ولوا مدبرين بقوله: (وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين (فولوا عن رسول الله وهم أكثر ما كانوا عددًا وأتم سلاحًا، لم يوجب لهم غضبه بل قال: (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا لم تروها (ولو كان إدبارهم يومئذ على غير التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة؛ لكانوا قد استحقوا وعيده تعالى. وبمثل ما قلناه قال السلف، روى داود، عن أبى نضرة، عن أبى سعيد فى قوله تعالى: (ومن يولهم يومئذ دبره (قال: كان ذلك يوم بدر ولم يكن لهم يومئذ أن ينحازوا، ولو انحازوا لانحازوا إلى المشركين ولم يكن يومئذ مسلم على وجه الأرض غيرهم، وقال الضحاك: إنما كان الفرار يوم بدر ولم يكن لهم ملجأ يلجئون إليه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 وأما اليوم فليس فرار. وقال ابن أبى نجيح، عن مجاهد، قال عمر بالمدينة: وأنا فئة كل مسلم. وسئل الحسن البصرى عن الفرار من الزحف فقال: والله لو أن أهل سمرقند انحازوا إلينا لكنا فئتهم. 91 - باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة 771 / فيه: عَلِىّ، لَمَّا كَانَ يَوْمُ الأحْزَابِ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَلأ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا، شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاةِ الْوُسْطَى، حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ) . 1772 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَدْعُو فِى الْقُنُوتِ: (اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ سِنِينَ كَسِنِى يُوسُفَ) . 1773 / وفيه: ابْن أَبِى أَوْفَى: دَعَا النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ الأحْزَابِ: (اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ، اللَّهُمَّ اهْزِمِ الأحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ) . 1774 / وفيه: ابْن مسعود، كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فجاء أَبُو جَهْلٍ وَنَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ، بسلا جَزُورٌ فَطَرَحُوهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ) ، ثلاثًا، وسمى اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأبِى جَهْلِ. . .) . وذكر الحديث. 1775 / وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ الْيَهُودَ دَخَلُوا عَلَى رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَلَعَنْتُهُمْ، فَقَالَ: (مَا لَكِ) ؟ فَقُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: (أَوَ لَمْ تَسْمَعِى مَا قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ) . قال المهلب: قد تقدم القول فى الصلاة الوسطى أنها الصبح على الحقيقة، وأنها العصر بالتشبيه بها. وقوله: (شغلونا) فهذا شغل لا يمكن ترك القتال له على حسب الاستطاعة له من الإيماء والإقبال والإدبار والمطاعنة والمسابقة لكن لهذا وجهان: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 أحدهما: أن صلاة الخوف لم تكن نزلت بعد، وفى الآية بها إباحة الصلاة على حسب القدرة والإمكان، وفى هذا الوقت لم يكن مباح لهم الإتيان بها إلا على أكمل أوصافها؛ فلذلك شغلوا عنها بالقتال، وهذا الشغل كان شديدًا عليهم حتى لا يمكن أحد منهم أن يشتغل بغير المدافعة والمقاتلة. والمعنى الآخر: أن يكونوا على غير وضوء؛ فلذلك لم يمكنهم ترك القتال لطلب الماء وتناول الوضوء؛ لأن الله لا يقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ، وأما دعاؤه (صلى الله عليه وسلم) على قوم ودعاؤه لآخرين بالتوبة؛ فإنما كان على حسب ما كانت ذنوبهم فى نفسه (صلى الله عليه وسلم) ، فكان يدعو على من اشتد أذاه للمسلمين وكان يدعو لمن يرجى نزوعه ورجوعه إليهم كما دعا لدوس حين قيل له: إن دوسًا قد عصت وأبت ولم تكن لهم نكاية ولا أذى، فقال: (اللهم اهد دوسًا وائت بهم) وأما هؤلاء فدعا عليهم لقتلهم المسلمين، فأجيبت دعوته فيهم، وقد تقدم هذا المعنى فى أول كتاب الاستسقاء، وسيأتى أيضًا فى كتاب الدعاء باب: (الدعاء على المشركين) مستقصى فيه القول إن شاء الله. 92 - باب: هل يرشد المسلم أهل الكتاب أو يعلمهم الكتاب؟ 776 / فيه: ابْن عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ: (فَإِنْ تَوَلَّيْتَ، فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأرِيسِيِّينَ) . قال المؤلف: إرشاد أهل الكتاب ودعاؤهم إلى الإسلام على الإمام، وأما تعليمهم الكتاب فاستدل الكوفيون على جوازه بكتابة النبى إليهم آية من كتاب الله بالعربية، فعلمهم كيف حروف العربية وكيف تأليفها وكيف إيصال ما اتصال من الحروف، وانقطاع ما انقطع منها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 قالوا: فهذا تعليم لهم؛ لأنهم لم يقرءوا حتى ترجم لهم، وفى الترجمة تعريف ما يوافق من حروفها حروفهم وما يعبر عنه، ألا ترى أن فى أسماء الطير فى نظير أبيات الشعر تعليمًا للكتاب فضلا عن الحروف التى هى بنغمتها تدل على أمثالها، وأسماء الطير لا يفهم منها نغمة وينفك منها الكلام، قاله المهلب. وإلى هذا المعنى ذهب أبو حنيفة فقال: لا بأس بتعليم الحربى والذمى القرآن والعلم والفقه رجاء أن يرغبوا فى الإسلام، وهو أحد قولى الشافعي. وقال مالك: لا يعلمون الكتاب ولا القرآن، وهو قول الشافعى الآخر، واحتج الطحاوى لأصحابه بكتاب النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى هرقل بآية من القرآن وبما رواه حماده بن سلمة، عن حبيب المعلم قال: سألت الحسن: أعلم أهل الذمة القرآن؟ قال: نعم، أليس يقرءون التوراة والإنجيل وهو كتاب الله؟ واحتج الطحاوى بقوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله (. قالوا: وقد روى أسامة بن زيد (أن رسول الله مر على مجلس فيه عبد الله بن أبى قبل أن يسلم وفى المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود، فقرأ عليهم القرآن) . وحجة مالك قوله تعالى: (إنما المشركون نجس (وقد نهى الرسول أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو، وكره مالك أن يشترى من أهل الكفر فيعطوا دراهم فيها اسم الله، وكره إذا كان صيرفى يهودى أو نصرانى أن يصرف منهم. وقال الطحاوى: يكره أن يعطى الكافر الدراهم فيها القرآن؛ لأنه لا يغتسل من الجنابة فهو كالجنب يمس المصحف فيكره أن يعطاه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 والدراهم على عهد الرسول لم يكن عليها قرآن وإنما ضربت فى أيام عبد الملك. وقال غيره: وفى كتاب الرسول آية من القرآن؛ ففيه جواز مباشرة الكفار صحائف القرآن إذا احتيج إلى ذلك. 93 - باب: الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم 777 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَدِمَ طُفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِىُّ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَقَالُوا: إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا، فَقِيلَ: هَلَكَتْ دَوْسٌ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وَأْتِ بِهِمْ) . كان الرسول يحب دخول الناس فى الإسلام، فكان لا يعجل بالدعاء عليهم ما دام يطمع فى إجابتهم إلى الإسلام، بل كان يدعو لمن كان يرجو منه الإنابة، ومن لا يرجوه ويخشى ضره وشوكته يدعو عليه، كما دعا عليهم بسنين كسنى يوسف، ودعا على صناديد قريش، لكثرة أذاهم وعداوتهم، فأجيبت دعوته فيهم، فقتلوا ببدر، كما أسلم كثير ممن دعا له بالهدى. 94 - باب: دعوة اليهود والنصارى وعلى ما يقاتلون عليه وما كتب الرسول إلى كسرى وقيصر والدعوة قبل القتال 778 / فيه: أَنَس لَمَّا أَرَادَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ، قِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلا أَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، وَكَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِى يَدِهِ، وَنَقَشَ فِيهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. 1779 / وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى، فَأَمَرَهُ أَنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ، فَدْفَعُهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ كِسْرَى خَرَّقَهُ، فَدَعَا عَلَيْهِمُ أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ. قال المهلب: فيه ما دعا الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى قيصر، كتب إليه يدعوه بدعاية الإسلام: (أسلم تسلم) ، فهذا الذى يقاتلون عليه، والدعوة لازمة إذا لم تبلغهم، وإذا بلغتهم فلا يلزم، فإن شاء أن يكرر ذلك عليهم، وإن شاء أن يطلب غرتهم فعل، وإنما كانوا لا يقرءون كتابًا إلا مختومًا؛ لأنهم كانوا يكرهون أن يقرأ الكتاب إليهم غيرهم وأن يكون مباحًا لسواهم فكانوا يأنفون من إهماله، وقد قيل فى تأويل قوله: (كتاب كريم (أنه مختوم، فأخذ (صلى الله عليه وسلم) بأرفع الأحوال التى بلغته عنهم، واتخذ خاتما ونقش فيه: محمد رسول الله، وعهد ألا ينقش أحد مثله، فصارت خواتيم الأئمة والحكام سنة لا يفتات عليهم فيها لا يتسور فى اصطناع مثلها، وتخريق الكتاب من التهاون بأمر النبوة والاستهزاء بها؛ فلذلك دعا عليهم بالتمزيق فأجيب، والاستهزاء من الكبائر العظيمة إذا كان فى الدين، وهو من باب الكفر، ويقتل المستهزىء بالدين؛ لأن الله أخبر عن الاستهزاء أنه كفر فقال: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم (. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 95 - باب دُعَاءِ الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، النَّاسَ إِلَى الإسْلامِ وَالنُّبُوَّةِ وَألاَّ يَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَرْبَابًا وَقَوْلِهِ: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ) [آل عمران: 79] الآيَةِ. 1780 / فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ يَدْعُوهُ إِلَى الإسْلامِ، وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَيْهِ مَعَ دِحْيَةَ الْكَلْبِىِّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، لِيَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ، فقرئ، فَإِذَا فيه: (بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّى أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإسْلامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ تَوَلَّيْتَ، فَعَلَيْكَ إِثْمُ الأرِيسِيِّينَ وَ) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (الحديث) . 1781 / فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ النَّبِيّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ خَيْبَرَ: (لأعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ) ، فَقَامُوا يَرْجُونَ لِذَلِكَ، فَقَالَ: (أَيْنَ عَلِىٌّ) ؟ قِيلَ: يَشْتَكِى عَيْنَيْهِ، فَأَمَرَ، فَدُعِىَ لَهُ، فَبَصَقَ فِى عَيْنَيْهِ، فَبَرَأَ مَكَانَهُ، [حَتَّى كَأَنَّه لَمْ يَكُنْ بِهِ شَىْءٌ] ، فَقَالَ: نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ فَقَالَ: (عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإسْلامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ لأنْ يُهْدَى اللَّه بِكَ رَجُلاً وَاحِدً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ) . 1782 / وفيه: أَنَس، كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ يُغِرْ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ بَعْدَ مَا يُصْبِحُ، فَنَزَلْنَا خَيْبَرَ لَيْلا، فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَتْ يَهُودُ بِمَسَاحِيهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ، فقالوا: محمد، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 والله: مُحَمَّدٌ، وَاللَّهِ مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، فَقَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ) فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ () [الصافات: 177] . 1783 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ ذلك، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّى مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ) . فى هذا الباب الدعاء إلى الإسلام بالمكاتبة وبعثة الرسول، واستحب العلماء أن يدعى الكافر إلى الإسلام قبل القتال، فقال مالك: أما من قربت داره منا فلا يدعون؛ لعلمهم بالدعوة ولتأمين غرتهم، ومن بعدت داره وخيف ألا تبلغه فالدعوة أقطع للشك. وذكر ابن المنذر عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى جعونة وأمره على الدروب أن يدعوهم قبل أن يقاتلهم، وأباح أكثر أهل العلم قتالهم قبل أن يدعوا؛ لأنهم قد بلغهم الدعوة، هذا قول الحسن البصرى والنخعى وربيعة والليث وأبى حنيفة والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، قال الثورى: ويدعون أحسن. واحتج الليث والشافعى بقتل ابن أبى الحقيق، وكعب بن الأشرف، وذكر ابن القصار عن أبى حنيفة: إن بلغتهم الدعوة فحسن أن يدعوهم الإمام إلى الإسلام أو أداء الجزية قبل القتال. قال: ولا بأس أن يغيروا عليهم بغير دعوة. وقال الشافعى: لا أعلم أحدًا من المشركين لم تبلغه الدعوة اليوم إلا أن يكون خلف الغور، والترك أمة لم تبلغهم، فلا يقاتلوا حتى يدعوا، ومن قتل منهم قبل ذلك فعلى قاتله الدية. وقال أبو حنيفة: لا شيء عليه. قال الطحاوى: قد لبث الرسول بعد النبوة سنين يدعو الناس إلى الإسلام، ويقيم عليهم الحجج والبراهين كما أمره الله بقوله: (ادفع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 بالتى هى أحسن (وقوله تعالى: (فاعف عنهم واصفح (ثن أنزل الله بعد ذلك: (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه (فأباح قتال من قاتله، ولم يبح قتال من لم يقاتله، وكان الإسلام ينتشر فى ذلك وتقوم الحجة به على من لم يكن علمه، ثم أنزل الله بعد ذلك: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار (قاتلوكم قبل ذلك أم لا، فكان فى ذلك زيادة فى انتشار الإسلام، ثم أنزل عليه: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة (فأمر بقتالهم كافة حتى يكون الدين كله لله. وقد تقدمت معرفة الناس جميعًا بالإسلام وعلموا منابذته (صلى الله عليه وسلم) أهل الأديان، ولم يذكر فى شيء من الآى التى أمر فيها بالقتال دعاء من أمر بقتالهم؛ لأنهم قد علموا خلافهم له وما يدعوهم إليه، واحتج لهذا القول بحديث أنس أنه كان (صلى الله عليه وسلم) إذا سمع أذانًا أمسك، وإن لم يسمع أذانًا أغار بعد ما أصبح، فهذا يدل أنه كان لا يدعو. وذهب من استحب دعوتهم قبل القتال إلى حديث على أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال له: (على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم) . وقال أهل القول الأول: هذا يحتمل أن يكون فى أول الإسلام فى قوم لم تبلغهم الدعوة، ولم يدروا ما يدعون إليه فأمر بالدعاء ليكون ذلك تبليغًا لهم وإعلامًا، ثم أمر بالغارة على آخرين فلم يكن ذلك إلا لمعنى لم يحتاجوا معه إلى الدعاء؛ لأنهم قد علموا ما يدعون إليه وما لو أجابوا إليه لم يقاتلوا فلا معنى للدعاء، واحتجوا بحديث ابن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال فقال: إنما كان ذلك فى أول الإسلام قد أغار رسول الله على بنى المصطلق وهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 غارون فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث، حدثنى بذلك ابن عمر وكان فى الجيش، وبما رواه الزهرى، عن عروة، عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله: (أغر على أبنى صباحًا وحرق) . قال المهلب: وفى حديث أنس الحكم بالدليل فى الأبشار والأموال، ألا ترى أنه حقن دماء من سمع من دارهم الأذان، واستدل بذلك على صدق دعواهم للإيمان. قال الطبرى: فيه البيان عن حجة قول من أنكر على غزاة المسلمين بيات من لم يعرفوا حاله من أهل الحصون حتى يصبحوا فيتبين حالهم بالأذان ويعلموا هل بلغتهم الدعوة أم لا؟ فإن كانوا ممن بلغتهم ولم يعلموا أمسلمين هم أم أهل صلح أو حرب، فلا يغيروا حتى يصبحوا، فإن سمعوا أذانا من حصنهم كان من الحق عليهم الكف عنهم، وإن لم يسمعوا أذانا وكانوا أهل حرب أغاروا عليهم إن شاءوا. فإن قيل: فما أنت قائل فى حديث الصعب بن جثامة (أن الرسول سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون ليلا ويصاب من نسائهم وذراريهم فقال: هم منهم) . وفى هذا إباحة البيات وحديث أنس بخلاف ذلك. قيل: كل ذلك صحيح ولا يفسد أحدهما معنى الآخر، وذلك أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 حديث الصعب فيمن بلغته الدعوة ولا يشك فى حاله من أهل الحرب فإنه يجوز بياتهم، وإنما الذى ينتظر بهم الصباح لا ستبراء حالهم بالأذان أو غيره من شعار أهل الإسلام من التبس أمره ولم يعرف حاله فعلى هذا يحمل حديث أنس. وقولهم: (محمد والخميس) يعنون: الجيش، ومعنى الكلام: هذا محمد وجيشه، أو قد جاء محمد وجيشه وإنما سمى: خميسًا؛ لأنه يخمس ما يجد من شيء. وقال الطحاوى: اختلف أهل العلم فى تأويل حديث أبى هريرة فذهب قوم إلى أن من قال: لا إله إلا الله فقد صار بها مسلمًا، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم واحتجوا به، وخالفهم آخرون وقالوا: لا حجة لكم فيه؛ لأن الرسول إنما كان يقاتل قومًا لا يوحدون الله فكان أحدهم إذا وحد الله علم بذلك تركه لما قوتل عليه وخروجه منه ولم يعلم بذلك دخوله فى الإسلام أو فى أحد الملل التى توحد الله وتكفر بجحدها مرسله وغير ذلك من الوجوه التى يكفر بها مع توحيدهم الله كاليهود والنصارى الذين يوحدون الله ولا يقرون برسوله. وفى اليهود من يقول: إن محمدًا رسول الله إلى العرب خاصة، فكان حكم هؤلاء ألا يقاتلوا إذا وقعت هذه الشبهة حتى تقوم الحجة على من يقاتلهم بوجوب قتالهم وقد أمر (صلى الله عليه وسلم) على بن أبى طالب حين وجهه إلى خيبر وأهلها يهود بما رواه ابن وهب، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة (أن رسول الله لما دفع الراية إلى على حين وجهه إلى خيبر قال: امض ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك. فقال على: علام أقاتلهم؟ قال: حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 ففى هذا الحديث أن النبى قد أباح له قتالهم وإن شهدوا ألا إله إلا الله حتى يشهدوا أن محمدًا رسول الله، وحتى يعلم على خروجهم من اليهود، كما أمر بقتال عبدة الأوثان حتى يعلم خروجهم مما قوتلوا عليه، وقد أتى قوم من اليهود إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فأقروا بنبوته ولم يدخلوا فى الإسلام فلم يقاتلهم على إبائتهم الدخول فى الإسلام، إذ لم يكونوا بذلك الإقرار عنده مسلمين. وروى شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن صفوان بن عسال أن يهوديًا قال لصاحبه: تعال حتى نسأل هذا النبي. فقال له الآخر: لا تقل له نبى؛ فإنه إن سمعها صارت له أربعة أعين، فأتاه فسأله عن هذه الآية: (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات (فقال: لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تسخبوا، تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة اليهود ألا تعدوا فى السبت؛ فقبلوا يده وقالوا: نشهد أنك نبي. قال: فما يمنعكم أن تتبعونى؟ قالوا: نخشى أن تقتلنا اليهود) فأقروا بنبوته مع توحيدهم لله ولم يكونوا بذلك مسلمين. فثبت أن الإسلام لا يكون إلا بالمعانى التى تدل على الدخول فى الإسلام وترك سائر الملل. وروى ابن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن حميد الطويل، عن أنس (أن رسول الله قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ فإذا شهدوا بذلك وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا؛ حرمت علينا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 دماؤهم وأموالهم إلا بحقها) قال: وهذا قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد. قال الطحاوى: فالحديث الأول الذى فيه توحيد الله خاصة هو المعنى الذى يكف به عن القتال حتى يعلم ما أراد به قائله الإسلام أو غيره، حتى تصح هذه الآثار ولا تتضاد. وقال الطبرى نحوًا من ذلك، وزاد فقال: أما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإذا قالوا: لا إله إلا الله؛ عصموا منى دماءهم وأموالهم. . .) الحديث، فإنه (صلى الله عليه وسلم) قائله فى حال قتاله لأهل الأوثان الذين كانوا لا يقرون بتوحيد الله، وهم الذين قال الله تعالى عنهم: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون (. فدعاهم الرسول إلى الإقرار بالوحدانية وخلع ما دونه من الأوثان، فمن أقر بذلك منهم كان فى الظاهر داخلا فى صبغة الإسلام، ثم قال: آخرون من أهل الكفر كانوا يوحدون الله غير أنهم كانوا ينكرون نبوة محمد، فقال (صلى الله عليه وسلم) فى هؤلاء: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله ويشهدوا أن محمدًا رسول الله) فإسلام هؤلاء: الإقرار بما كانوا به جاحدين كما كان إسلام الآخرين إقرارهم بالله أنه واحد لا شريك له، وعلى هذا تحمل الأحاديث. 96 - باب: من أراد غزوة فورى بغيرها ومن أراد الخروج يوم الخميس 784 / فيه: كَعْب، أن الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يكنّ يُرِيدُ غَزْوَةً إِلا وَرَّى بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ فَغَزَاهَا النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى حَرٍّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا، وَاسْتَقْبَلَ غَزْوَ عَدُوٍّ كَثِيرٍ، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ؛ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِى يُرِيدُ. وَقَلَّمَا كَانَ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَخْرُجُ فِى سَفَرٍ إِلا يَوْمَ الْخَمِيسِ، وخَرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ. قال المهلب: فيه المكايدة فى الحرب، وطلب غرة العدو، وفيه جواز الكلام بغير نية للإمام وغيره إذا لم يضر بذلك أحدًا وكان فيه نفع للمسلمين خاصة وعامة فهو جائز وهو خارج من باب الكذب وأخبرهم (صلى الله عليه وسلم) بغزوة تبوك لطول المدة؛ ليتأهبوا كما ذكر فى الحديث، ولأنه آمن ألا يسبقه إليها الخبر لبعد الشقة التى بينه وبينها وقفرها، وخروجه يوم الخميس لمعنى يجب أن يحمل عليه ويتبرك به؛ لأن لنا فى رسول الله أسوة حسنة. وقوله: (ورى بغيرها) قال أبو على الفسوى: أصله من الورى كأنه قال: لم يشعر به من ورى كأنه قال: ساترت بكذا، وأصحاب الحديث لا يضبطون الهمز فيه، وتصغيره: ورية وأصله: وريية، ويسقط واحدة منهما كما قلت فى عطاء: عطى، والأصل: عطيى فتقول: وريت عن كذا وكذا بغير همز، والمفازة: المهلكة سميت بذلك تفاؤلا بالفوز والسلامة كما قالوا للديغ: سليم. وذكر ابن الأنبارى عن ابن الأعرابى، المفازة مأخوذة من قولهم: قد فوز الرجل: إذا هلك. 97 - باب: الْخُرُوجِ بَعْدَ الظُهْرِ 785 / فيه: أَنَس، أَنَّ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 فى خروج النبى إلى سفر الحج دليل على أنه لا ينبغى أن يكره السفر وابتداء العمل بعد ذهاب صدر النهار وأوله؛ إذ الأوقات كلها لله، وأن ما روى عنه (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم بارك لأمتى فى بكورها) . لا يدل أن غير البكور لا بركة فيه؛ لأن كل ما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) - ففيه البركة ولأمته فيه أكبر الأسوة. وإنما خص (صلى الله عليه وسلم) البكور بالدعاء بالبركة فيه من بين سائر الأوقات والله أعلم - لأنه وقت يقصده الناس بابتداء أعمالهم وهو وقت نشاط وقيام من دعة، فخصه بالدعاء؛ لينال بركة دعوته جميع أمته. والحديث بذلك ذكره ابن المنذر قال: حدثنا سليمان بن شعيب قال: حدثنى يحيى بن حسان، حدثنا هشيم، اخبرنا يعلى بن عطاء، عن عمارة، عن صخر الغامدى قال: قال رسول الله: (اللهم بارك لأمتى فى بكورها) ، قال: وكان إذا بعث جيشًا أو سرية بعثهم أول النهار. قال: وكان صخر رجلا تاجرًا فكان إذا بعث غلمانه بعثهم أول النهار فأثرى وكثر ماله. 98 - باب الْخُرُوجِ آخِرَ الشَّهْرِ وَقَالَ ابْن عَبَّاس: انْطَلَقَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْمَدِينَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ، وَقَدِمَ مَكَّةَ لأرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِى الْحِجَّةِ. 1786 / فيه: عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ، وَلا نُرَى إِلا الْحَجَّ. . . . وذكر الحديث. خروجه (صلى الله عليه وسلم) آخر الشهر بخلاف أفعال الجاهلية فى استقبالهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 أوائل الشهور فى الأعمال وتوجيههم ذلك وتجنبهم بفضل الشهور من أجل نقصان العمر، فبعث الله نبيه (صلى الله عليه وسلم) يبيح ذلك كله ولم يراع نقصان شهر ولا ابتداؤه، ولا محاق قمر ولا كماله، فخرج فى أسفاره على حسب ما تهيأ له ولم يلتفت إلى أباطيلهم ولا طيرتهم الكاذبة، ورد أمره إلى الله، ولم يشرك معه غيره فى فعله فأيده ونصره. 99 - باب الْخُرُوجِ فِى رَمَضَانَ 787 / فيه: ابْن عَبَّاس، خَرَجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى رَمَضَانَ، فَصَامَ، حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ أَفْطَرَ. الخروج فى رمضان جائز، وللمسافر أن يصوم أو يفطر إن اختار ذلك بخلاف ما روى عن على بن أبى طالب أنه قال: (من أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر لزمه الصوم) ؛ لقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه (وبه قال أبو عبيد وأبو مجلز، وهذا القول مردود؛ لسفر الرسول فى رمضان وإفطاره فيه، وجماعة الفقهاء على خلاف قوله، وقد تقدم فى (كتاب الصيام) . 0 - باب: التَّوْدِيعِ 788 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَعَثَنَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) فِى بَعْثٍ، وَقَالَ: (إِنْ لَقِيتُمْ فُلانًا وَفُلانًا فَحَرِّقُوهُمَا بِالنَّارِ) ، فَأَتَيْنَاهُ نُوَدِّعُهُ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ، فَقَالَ: (إِنِّى كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحَرِّقُوا فُلانًا وَفُلانًا بِالنَّارِ، وَإِنَّ النَّارَ لا يُعَذِّبُ بِهَا إِلا اللَّهُ، فَإِنْ أَخَذْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 قال المهلب: الترجمة صحيحة وهو من الشأن المعلوم فى البعوث والأسفار البعيدة توديع المسافر و [. . . . .] والأئمة ومن ترجى بركة دعوته واستصحاب فضله، وسيأتى الكلام على النهى عن التحريق بالنار فى باب (لا يعذب بعذاب الله) بعد هذا فى الجزء الذى يليه إن شاء الله. 1 - باب: السّمْعِ وَالطَّاعَةِ للإِمَام مَا لَمْ يَأْمُر بِمَعْصِيَةٍ 789 / فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ) . قال المؤلف: احتج بهذا الحديث الخوارج ورأوا الخروج على أثمة الجور والقيام عليهم عند ظهور جورهم، والذى عليه جمهور الأمة أنه لا يجب القيام عليهم ولا خلعهم إلا بكفرهم بعد الإيمان وتركهم إقامة الصلوات، وأما دون ذلك من الجور فلا يجوز الخروج عليهم إذا استوطأ أمرهم وأمر الناس معهم؛ لأن فى ترك الخروج عليهم تحصين الفروج والأموال وحقن الدماء، وفى القيام عليهم تفرق الكلمة وتشتت الألفة. وكذلك لا يجوز القتال معهم لمن خرج عليهم عن ظلم ظهر منهم؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) . وقال (صلى الله عليه وسلم) : (لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق) . وذكر على بن سعيد فى كتاب (الطاعة والمعصية) حديثًا أسنده إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم. قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا فمن ولى عليه وال فأتى شيئًا من المعاصى فليكره ما يأتى من معصية الله، ولا ينزعن يدًا عن طاعة) يعنى: لا يخرجن عليه. وروى الآجرى، عن البغوى، عن القواريرى: حدثنا حكيم بن حزام وكان من عباد الله الصالحين حدثنا عبد الملك بن عمير، عن الربيع بن عميلة، عن ابن مسعود عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (سيليكم أمراء يفسدون، وما يصلح الله بهم أكثر، فمن عمل منهم بطاعة الله فله الأجر وعليكم الشكر، ومن عمل منهم بمعصية الله فعليه الوزر وعليكم الصبر) وسيأتى شيء من هذا المعنى فى (كتاب الأحكام) وفى (كتاب الفتن) إن شاء الله. 2 - باب: يقاتل من وراء الإمام ويتقى به 790 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ) . 1791 / وبهذا الإسناد: (مَنْ أَطَاعَنِى فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِى، وَمَنْ يَعْصِ الأمِيرَ فَقَدْ عَصَانِى، وَإِنَّمَا الإمَامُ جُنَّةٌ، يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ، وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا، وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ) . قال المهلب: قوله: (من وراء الإمام) يعنى: من أمام الإمام كما قال تعالى: (وكان وراءهم ملك (أى: أمامهم، وقوله: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 (يتقى به) أى: يرجع إليه فى الرأى والفعل وغير ذلك مما لا يجب أن يقضى فيه إلا برأى الإمام وحكمه، ويتقى به الخطأ فى الدين والعمل من الشبهات وغيرها، والإمام جنة بين الناس بعضهم من بعض؛ لأن بالسطان نزع الله تعالى عن المستضعفين من الناس فهو ستر لهم، وحرز الأموال، وسائر حرمات المؤمنين أن تنتهك. وقال غيره: تأويل: (يقاتل من ورائه) عند العلماء على الخصوص وهو فى الإمام العدل خاصة، فمن خرج عليه وجب على جميع المسلمين قتاله مع الإمام العدل؛ نصرة له إلا أن يرى الإمام أن يفعل ما فعل عثمان فطاعة الإمام واجبة، إلا أن الخارجين عليه إن قتلوه فى غير قتال اجتمعت فيه الفئتان للقتال أو قتلوا غيره؛ فإن القصاص يلزمهم بخلاف قتلهم لأحد فى حال الملاقاة للفئتين. ولذلك استجاز المسلمون طلب دم عثمان؛ إذ لم يكن قتله عن ملاقاة، وإن كان الإمام غير عدل فالواجب عند العلماء من أهل السنة ترك الخرج عليه وأن يقيموا معه الحدود: الصلوات، والحج، والجهاد، وتؤدى إليه الزكوات، فمن قام عليه من الناس متأولا بمذهب خالف فيه السنة أو لجور أو لاختيار إمام غيره سمى فاسقًا ظالمًا غاصبًا فى خروجه لتفريقه جماعة المسلمين، ولما يكون فى ذلك من سفك الدماء. فإن قاتلهم الإمام الجائر لم يقاتلوا معه ولم يجز أن يسفكوا دماءهم فى نصره، وقد رأى كثير من الصحابة ترك القتال مع على، ومكانه من الدين والعلم ما لا يخفى على أحد له مسكة فهم، وسموه قتال فتنة، وادعاء كل واحد على صاحبه أنه الفئة الباغية، وهذا شأن العصبية عند أهل العلم. ولم ير علىّ على من قعد عن القتال معه ذنبًا يوجب سخطه حاله، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 وإن كان قد دعا بعضهم إلى القتال، فأبوا أن يجيبوه فعذرهم، وكذلك يجب على الإمام الصالح الذى يأخذ الأمر عن شورى ألا يعتب من قعد عنه، وسنوضح كيف القتال فى الفتنة فى موضعه من (كتاب الفتنة) إن شاء الله. وقال صاحب العين: الجنة: الدرع، وسمى المجن: مجنًا؛ لأنه يستتر به عند القتال. وقوله: (فإن عليه منه) كذا روى الحديث، وقد جاء فى بعض طرقه (فإن عليه منه وزرًا) وهو مفهوم المعنى. 3 - باب الْبَيْعَةِ فِى الْحَرْبِ أَلاّ يَفِرُّوا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَى الْمَوْتِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (لَقَدْ رَضِىَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح: 18] . 1792 / فيه: ابْنُ عُمَرَ، رَجَعْنَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَمَا اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ الَّتِى بَايَعْنَا تَحْتَهَا، كَانَتْ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ. فَسَأَلْتُ نَافِعًا عَلَى أَىِّ شَىْءٍ بَايَعَهُمْ: عَلَى الْمَوْتِ؟ قَالَ: لا، بَلْ بَايَعَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ. 1793 / وفيه: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، لَمَّا كَانَ زَمَنُ الْحَرَّةِ أَتَاهُ آتٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ حَنْظَلَةَ يُبَايِعُ النَّاسَ عَلَى الْمَوْتِ، فَقَالَ: لا أُبَايِعُ عَلَى هَذَا أَحَدًا بَعْدَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) . 1794 / وفيه: مَسْلَمَةَ، قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ عَدَلْتُ إِلَى ظِلِّ شَّجَرَةِ، فَلَمَّا خَفَّ النَّاسُ، قَالَ: (يَا ابْنَ الأكْوَعِ، أَلا تُبَايِعُ) ؟ قَالَ: قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَأَيْضًا، فَبَايَعْتُهُ الثَّانِيَةَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ عَلَى أَىِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُبَايِعُونَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 95 / وفيه: أَنَس، كَانَتِ الأنْصَارُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، تَقُولُ: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الْجِهَادِ مَا حَيِينَا أَبَدَا فَأَجَابَهُمُ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إِلا عَيْشُ الآخِرَهْ فَأَكْرِمِ الأنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ) 1796 / وفيه: مُجَاشِعٍ بْن مسعود، أَتَيْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنَا وَأَخِى، فَقُلْتُ: بَايِعْنَا عَلَى الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: (مَضَتِ الْهِجْرَةُ لأهْلِهَا) ، فَقُلْتُ: عَلامَ تُبَايِعُنَا؟ قَالَ: (عَلَى الإسْلامِ وَالْجِهَادِ) . قال المهلب: هذه الأحاديث مختلفة الألفاظ، منهم من يقول على الموت، وعلى ألا يفر، وعلى الصبر، والصبر يجمع المعانى كلها وهو أولى الألفاظ بالمعنى؛ لأن بيعة الإسلام هى على الجهاد وقتال المثلين، فإن كان المشركون أكثر من المثلين كان المسلم فى سعة من أن يفر، وفى سعة أن يأخذ بالشدة ويصبر، وهذا كله بعد أن نسخ قتال العشرة أمثال، وأما قبل نسخها فكان يلزم قتال العشرة أمثال وألا يفر إلا من أكثر منها. وبيعة الشجرة إنما هى على الأخذ بالشدة وألا يفر أصلا ولا بد من الصبر إما إلى فتح وإما إلى موت، فمن قال: بايعنا على الموت، أراد يفتح لنا، ومن قال: لا نفر. فهو نفس القصة التى وقعت عليها المبايعة، وهو معنى الصبر؛ وقول نافع: على الصبر؛ كراهية لقول من قال بأحد الطريقين: الموت أو الفتح، فجمع نافع المعنيين فى كلمة الصبر. وقوله لسلمة بن الأكوع: (ألا تبايع) أراد أن يؤكد بيعته؛ لشجاعة سلمة وغنائه فى الإسلام وشهرته بالثبات؛ فلذلك أمره بتكرير المبايعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 وحديث مجاشع بن مسعود إنما كان بعد الفتح؛ لأن الرسول قال: (لا هجرة بعد الفتح، إنما هو جهاد ونية) فكل من بايع الرسول قبل الفتح لزمه الجهاد أبدًا ما عاش إلا لعذر يجوز له به التخلف، وكذلك قالوا بحضرة رسول الله فى ارتجازهم يوم الخندق: نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد ما بقينا أبدًا وكذلك قال الله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة (فأباح لهم أن يتخلف عن الغزو من ينفر إلى التفقه فى الدين ولم يبح لغير المتفقهين التخلف عن الغزو. وأما من أسلم بعد الفتح فله أن يجاهد وله أن يتخلف بنية صالحة كما قال: (جهاد ونية) إلا أن ينزل عدو أو ضرورة فيلزم الجهاد كل أحد، والدليل على أن كل من بايع النبى (صلى الله عليه وسلم) قبل الفتح لا يجوز له التخلف عن الجهاد أبدًا قصة كعب بن مالك إذ تخلف عن تبوك مع صاحبيه هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع أنهم لم يغزوا و [. . . . .] الله ورسوله والمؤمنون عليهم وأخرجوهم من بين أظهرهم ولم يسلموا عليهم ولم يكلموهم حتى بلغت منهم العقوبة مبلغها وعلم الله إنابتهم فتاب عليهم. وأخو مجاشع بن مسعود أسمه: مجالد ابن مسعود السلمي. قوله: (فما اجتمع اثنان على الشجرة، كانت رحمة) يعنى: جهلهم بها رحمة، خشية أن تعبد وتصير كالقبلة والمسجد، وبيعة الشجرة كانت بالمدينة فرضت الحرب على المسلمين، وقد كانت بيعة العقبة بمكة على ألا يشركوا بالله شيئًا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 ما ذكر الله فى آخر سورة الممتحنة، وذكره عبادة بن الصامت فى حديثه، ولم يفرض فى هذه البيعة حرب إنما كانت بيعة النساء، وقد تقدم بيان ذلك فى (كتاب الإيمان) فى باب (علامة الإيمان حب الأنصار) . وأما قول عبد الله بن زيد فى زمن الحرة: لا أبايع أحدًا على الموت بعد النبي. وإنما قال ذلك؛ لأنه يرى القعود فى الفتن التى بين المسلمين وترك القتال مع إحدى الطائفتين، وقد ذهب إلى ذلك جماعة من السلف على ما يأتى بيانه فى (كتاب الفتنة) ، فى باب قوله (صلى الله عليه وسلم) : (تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم) . 4 - باب: عزم الإمام على الناس فيما يطيقون 797 / فيه: ابْن مسعود، قَالَ: لَقَدْ سَأَلَنِى رجلٌ عَنْ أَمْرٍ مَا دَرَيْتُ مَا أَرُدُّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلا مُؤْدِيًا نَشِيطًا يَخْرُجُ مَعَ أُمَرَائِنَا فِى الْمَغَازِى، فَيَعْزِمُ عَلَيْنَا فِى أَشْيَاءَ لا نُحْصِيهَا؟ فَقُلْتُ لَهُ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا أَقُولُ لَكَ إِلا أَنَّا كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَعَسَى أَنْ لا يَعْزِمَ عَلَيْنَا فِى أَمْرٍ إِلا مَرَّةً حَتَّى نَفْعَلَهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَنْ يَزَالَ بِخَيْرٍ مَا اتَّقَى اللَّهَ، وَإِذَا شَكَّ فِى نَفْسِهِ شَىْءٌ سَأَلَ رَجُلا فَشَفَاهُ مِنْهُ، وَأَوْشَكَ أَنْ لا تَجِدُوهُ، وَالَّذِى لا إِلَهَ إِلا هُوَ مَا أَذْكُرُ مَا غَبَرَ مِنَ الدُّنْيَا إِلا كَالثَّغْبِ شُرِبَ صَفْوُهُ وَبَقِىَ كَدَرُهُ. قال المهلب: هذا الحديث يدل على شدة لزوم الناس طاعة الإمام ومن يستعمله الإمام؛ ألا ترى تحرج السائل لعبد الله وتعرفه كيف موقع التخلف عن أمر السلطان من السنة، وتحرج عبد الله من أن يفتيه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 فى ذلك برخصة أو شدة، ولكن قد فسر الرسول (صلى الله عليه وسلم) ذلك فى الحديث الذى أمر فيه بعض قواده أن يجمعوا حطبًا ويوقدونها ففعلوا، فقال لهم: ادخلوها. قال بعضهم: إنما دخلنا فى الإسلام فرارًا من النار، فلم يزالوا يتمارون حتى خمدت النار وسكن غضبه فأخبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بذلك فقال: (لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدًا؛ إنما الطاعة فى المعروف) وقول الله تعالى: (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها (يقضى على ذلك كله، وقد كان له أن يكلفها فوق وسعها فلم يفعل وتفضل فى أخذ العفو، هذا معنى الحديث. وفيه تشكى عبد الله بن مسعود قلة العلماء وتغير الزمن عما كان عليه فى وقت رسول الله. وقوله: (مؤديًا) معناه: ذو أداة وسلاح تام العدة والشكل، عن أبى عبيد. وقوله: (ما غبر من الدنيا) يعنى: بقى، والغابر هو الباقى، ومنه قوله: (إلا عجوزًا فى الغابرين (يعنى: ممن تخلف فلم تمض مع لوط. وقوله: (كالثغب) قال صاحب العين: الثغب: ما يستنقع فى صخرة، والجمع: ثغبان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 5 - باب كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ أَخَّرَ الْقِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ) 1798 / فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، إِنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فِى بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِى لَقِىَ فِيهَا، انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَامَ فِى النَّاسِ، فَقَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ، لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ) . قال المهلب: معنى هذا الحديث والله أعلم مفهوم من قوله: (نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور) فهو يستبشر بما نصره الله به من الرياح، ويرجو أن يهلك الله أعاديه بالدبور كما أهلك عادًا، وإذا أهلك عدوه بالدبور فقد نصر بها، فكان إذا لم يقاتل بالغدو وهو الوقت الذى تهب فيه الرياح، أخر حتى تزول الشمس وتهب رياح النصر. وقد بين هذا المعنى ما رواه قاسم بن أصبغ قال: حدثنا الحسن بن سلام السواق، قال: حدثنا عفان قال: حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا أبو عمران الجونى، عن علقمة بن عبد الله المزنى، عن معقل بن يسار قال: قال النعمان بن مقرن: (شهدت القتال مع رسول الله فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس وتهب رياح النصر) رواه البخارى فى باب الجزية، وقال: (انتظر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلوات) وأوقات الصلوات أفضل الأوقات ويستجاب فيها الدعاء، والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 6 - باب اسْتِئْذَانِ الرَّجُلِ الإمَامَ وقوله تَعَالَى: (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ) [النور: 62] 799 / فيه: جَابِر، غَزَوْتُ مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَلاحَقَ بِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنَا عَلَى نَاضِحٍ لَنَا قَدْ أَعْيَا، فَتَخَلَّفَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَزَجَرَهُ وَدَعَا لَهُ، فَمَا زَالَ بَيْنَ يَدَىِ الإبِلِ قُدَّامَهَا يَسِيرُ، فَقَالَ: (كَيْفَ تَرَى بَعِيرَكَ) ؟ قُلْتُ: بِخَيْرٍ، أَصَابَتْهُ بَرَكَتُكَ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى عَرُوسٌ، فَاسْتَأْذَنْتُهُ، فَأَذِنَ لِى، فَتَقَدَّمْتُ النَّاسَ إِلَى الْمَدِينَةِ. . . . الحديث. قال المهلب: هذه الآية أصل فى أن لا يبرح أحد عن السلطان إذا جمع الناس لأمر من أمور المسلمين يحتاج فيه إلى اجتماعهم أو جهادهم عدوًا إلا بإذنه؛ لأن الله تعالى قال: (فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فائذن لمن شئت منهم (فعلم أن الإمام ينظر فى أمر الذى استأذنه، فإن رأى أن يأذن له أذن، وإن لم ير ذلك لم يأذن له؛ لأنه لو أبيح للناس تركه (صلى الله عليه وسلم) والانصراف عنه لدخل الخرم وانفض الجمع ويجد العدو غرة، فيثبون عليها وينتهزون الفرصة فى المسلمين. وفيه أن من كان حديث عهد بعرس أو متعلق القلب بأهله وولده فلا بأس أن يستأذن فى التعجيل عند الغفلة إلى دار الإسلام كما فعل جابر، وفى هذا المعنى حديث لداود النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال فى غزوة خرج إليها: (لا يتبعنى من ملك بضع امرأة، ولم يبن بها، أو بنى دارًا ولم يسكنها) فإنما أراد أن يخرج معه من لم يشغل نفسه بشيء من علائق الدنيا؛ ليجتهد فيما خرج له وتصدق نيته ويثبت فى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 القتال ولا يفر؛ فيدخل الجبن على غيره ممن لا يريد الفرار، وسيأتى ما بقى من معانى هذا الباب فى (كتاب البيوع) وغيره إن شاء الله. 7 - باب: مُبَادَرةِ الإِمَامِ عِنْدَ الفَزَع 800 / فيه: أَنَس، كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَعٌ، فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَرَسًا لأبِى طَلْحَةَ، فَقَالَ: (مَا رَأَيْنَا مِنْ شَىْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا) . وترجم له باب (السرعة والركض عند الفزع) وباب (الخروج فى الفزع وحده) وترجم له باب (إذا فزعوا من الليل) وقال فيه: (فزع أهل المدينة ليلا. . .) . وقد تقدم القول فى هذه الأبواب كلها، وجملة ذلك أن الإمام ليس له أن يسخو بنفسه وينبغى له أن يشح بنفسه؛ لأن فى ذلك نظمًا للمسلمين وجمعًا لكلمتهم إلا أن يكون من أهل الغناء الشديد والنكاية القوية كما كان (صلى الله عليه وسلم) قد علم أن الله يعصمه ويؤيده ولا يخزيه فله أن يأخذ بالشدة على نفسه؛ ليقوى قلوب المسلمين وليتأسوا به فيجتهدوا. 8 - باب الْجَعَائِلِ وَالْحُمْلانِ فِى السَّبِيلِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ، لابْنِ عُمَرَ: أريد الْغَزْوَ، قَالَ: إِنِّى أُحِبُّ أَنْ أُعِينَكَ بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِى، قُلْتُ: أَوْسَعَ اللَّهُ عَلَىَّ، قَالَ: إِنَّ غِنَاكَ لَكَ، وَإِنِّى أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَالِى فِى هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ نَاسًا يَأْخُذُونَ مِنْ هَذَا الْمَالِ؛ لِيُجَاهِدُوا، ثُمَّ لا يُجَاهِدُونَ، فَمَنْ فَعَلَ فَنَحْنُ أَحَقُّ بِمَالِهِ حَتَّى نَأْخُذَ مِنْهُ مَا أَخَذَ. وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ: إِذَا دُفِعَ إِلَيْكَ شَىْءٌ تَخْرُجُ بِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ وَضَعْهُ عِنْدَ أَهْلِكَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 01 / فيه: عُمَر، حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَرَأَيْتُهُ يُبَاعُ، فَسَأَلْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أشْتَرِيهِ، فَقَالَ: (لا تَشْتَرِهِ، وَلا تَعُدْ فِى صَدَقَتِكَ) . 1802 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِى مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ، وَلَكِنْ لا أَجِدُ حَمُولَةً، وَلا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، وَيَشُقُّ عَلَىَّ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّى) . قال المؤلف: قوله: (باب الجعائل) ، إنما أراد أن يخرج الرجل شيئًا من ماله يتطوع به فى سبيل الله كما فعل ابن عمر أو يعين به من لا مال له من الغابرين كالفرس الذى حمل عليه عمر فى سبيل الله فهذا حسن مرغب فيه، وليس من باب الجعائل التى كرهها العلماء، فقال مالك: أكره أن يؤاجر الرجل نفسه أو فرسه فى سبيل الله، وكره أن يعطيه الوالى الجعل على أن يتقدم إلى الحصن. ولا نكره الجعائل لأهل العطاء؛ لأن العطاء مأخوذ على هذا الوجه. قال مالك: لا بأس بالجعائل فى البعوث، لم يزل الناس يتجاعلون عندنا بالمدينة يجعل القاعد للخارج إذا كانوا من أهل ديوان واحد؛ لأن عليهم سد الثغور، وأصحاب أبى حنيفة يكرهون الجعائل ما كان بالمسلمين قوة أو فى بيت المال ما يفى بذلك، فإن لم تكن لهم قوة ولا مال فلا بأس أن يجهز بعضهم بعضًا على وجه المعونة لا على وجه البدل، وهذا الموضع ينبغى أن يكون وفاقًا لقول مالك. وقد روى أيوب، عن ابن سيرين، عن ابن عمر قال: كان القاعد يمنح الغازى، فأما أن يبيع الرجل غزوه فلا أدرى ما هو. وقال الشافعى: لا يجوز أن يغزو بجعل يأخذه من رجل، وأرده إن غزا به، وإنما أجيزه من السلطان دون غيره؛ لأنه يغزو بشيء من حقه، واحتج بأن الجهاد فرض على الكفاية، فمن فعله وقع عن فرضه فلا يجوز أن يستحق على غيره عوضًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 قال ابن القصار: فيقال له: ليس كل من دخل فى شيء يتعين عليه بدخوله فيه يكون فى ابتدائه متعينًا عليه؛ ألا ترى أن المتطوع بالحج فى الابتداء ليس بواجب عليه، وإذا دخل فيه تعين فرض إتمامه عليه، وكذلك المجعول له لم يكن الجهاد متعين عليه فى الابتداء، فلما دخل فيه نائبًا عن غيره تعين عليه، إلا أنه قد سد فى جهاد العدو مسد الجاعل وناب منابه؛ فجاز له الجعل. فإن قيل: فإن المجاهد يستحق سهمًا من الغنيمة فلو وقع فعله عن غيره لم يصح ذلك، وإن وقع فعله عن نفسه لم يجب له جعل. قيل: وما يمنع من هذا؟ هو يستحق الجعل بالمعاونة ويحصل الجعل له؛ لأن المعنى المقصود من الجهاد قد حصل كما يحصل من الجاعل لو حضر، وقلنا إن المجعول له لم يتعين عليه الفرض فى الابتداء، وإنما جعل للجعل ونوى الجهاد فتعين عليه بدخوله، وقد أدى القاعد للخارج مائة دينار فى بعث فى أيام عمر، وكان مسروق يجعل عن نفسه إذا خرج البعث. قال المهلب: أما قول طاوس ومجاهد: إذا دفع إليك شيء فى سبيل الله فاصنع به ما شئت. فإنه يخرج من حديث عمر فى الفرس؛ لأنه وضع عنده للجهاد فأخذ ثمنه وانتفع به وإنما باعه الرجل؛ لأنه لم يكن حبيسًا، وإنما كان حملانًا للجهاد صدقة؛ لقول الرسول: (لا تعد فى صدقتك) . وقد روى عن ابن عباس وابن الزبير خلاف قول طاوس ومجاهد، قال ابن عباس: أنفقها فى الكراع والسلاح. وقال ابن الزبير: أنفقها فى سبيل الله. وقال النخعى: كانوا يعطون أحب إليهم من أن يأخذوا. وسيأتى تمام القول فى قصة بيع الفرس فى باب (إذا حمل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 على فرس فرآها تباع) بعد هذا إن شاء الله وفى حديث عمر وأبى هريرة الحمل على الخيل فى سبيل الله. وقوله: (لولا أن أشق على أمتى ما تخلفت عن سرية) يريد أنهم كانوا يقتدون به فيخرجون على العسر واليسر ولا يتخلفون عنه صلى الله عليه؛ لحرصهم على اتباعه ورغبتهم فى امتثال سيرته. 9 - باب الأجِيرِ وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: يُقْسَمُ لِلأجِيرِ مِنَ الْمَغْنَمِ. وَأَخَذَ عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ فَرَسًا عَلَى النِّصْفِ، فَبَلَغَ سَهْمُ الْفَرَسِ أَرْبَعَ مِائَةِ دِينَارٍ، فَأَخَذَ مِائَتَيْنِ، وَأَعْطَى صَاحِبَهُ مِائَتَيْنِ. 1803 / فيه: يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: (غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَحَمَلْتُ عَلَى بَكْرٍ، فَاسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا، فَقَاتَلَ رَجُلا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ، وَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ. . . . الحديث. اختلف العلماء فى الأجير فقال مالك وأبو حنيفة: لا يسهم له. وهو قول إسحاق. وقال الشافعى: يسهم له قاتل أو لم يقاتل. وحجة مالك والكوفى قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شىء فإن لله خمسه (فجعلها للغانمين، ومن لم يقاتل عليها فليس بغانم فلا يستحق شيئًا وروى عن سلمة بن الأكوع قال: (كنت تابعًا لطلحة بن عبيد الله وأنا غلام شاب، فأعطاه رسول الله سهم الفارس والراجل جميعًا) واحتج الشافعى بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الغنيمة لمن حضر الوقعة) . وهو قول أبى بكر وعمر وهو إجماع العلماء. قال المهلب: وأما حديث يعلى فليس فيه أن النبى عليه السلام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 أسهم لأجير، وإنما حاول البخارى إثبات ذلك بالدليل؛ لأن فى الحديث جواز استئجار الحر فى الجهاد، وقد خاطب الله جماعة المؤمنين الأحرار بقوله: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه (فدخل الأجير فى هذا الخطاب؛ فوجب له سهم المجاهد الغانم لما تقدم من المخاطبة له، وأما فعل عطية بن قيس فلا يجوز عند مالك وأبى حنيفة والشافعى؛ لأنها إجارة مجهولة، فإذا وقع مثل هذا كان لصاحب لادابة كراء مثلها، وما أصاب الراكب فى المغنم فله، وأجاز الأوزاعى وأحمد بن حنبل أن يعطى فرسه على النصف فى الجهاد. 0 باب: مَا قِيلَ فِى لِوَاء النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) 804 / فيه: قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ، وَكَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنَّهُ أَرَادَ الْحَجَّ فَرَجَّلَ. 1805 / وفيه: سَلَمَةَ، كَانَ عَلِىٌّ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى خَيْبَرَ، وَكَانَ بِهِ رَمَدٌ، فَلَحِقَ بِالنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا كَانَ مَسَاءُ اللَّيْلَةِ الَّتِى فَتَحَهَا فِى صَبَاحِهَا، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (لأعْطِيَنَّ الرَّايَةَ - أَوْ لَيَأْخُذَنَّ - غَدًا رَجُلٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَىَ يَدَيْهِ) ، فَإِذَا نَحْنُ بِعَلِىٍّ، وَمَا نَرْجُوهُ، فَقَالُوا: هَذَا عَلِىٌّ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَىَ يَدَيْهِ. 1806 / وفيه: نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، أن الْعَبَّاسَ، قَالَ لِلْزُّبَيْرِ: هَاهُنَا أَمَرَكَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنْ تَرْكُزَ الرَّايَةَ. قال المهلب: فيه أن لواء الإمام ينبغى أن يكون له صاحب معلوم، وإن كان من الأنصار فهو أولى؛ للاستنان بالنبى - (صلى الله عليه وسلم) - لأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 قيس بن سعد كان من الأنصار، وهم الذين كانوا عاقدوا الرسول أن يقاتلوا الناس كافة حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فهم أشد الناس فى قتال العدو بعد من هاجر مع النبى - عليه السلام - وبالأنصار نادى الرسول يوم حنين أول من نادى. وفى حديث على أيضًا أن الراية لا يجب أن يحملها إلا من ولاه الإمام إياها ولا تكون فيمن أخذها إلا بولاية. وقال الطبرى: فيه الدلالة البينة على إمام المسلمين إذا وجد جيشًا أو سرية أن يؤمر عليهم أميرًا موثوقًا بنيته وبصيرته فى قتالهم ممن له بأس وعنده معرفة سياسة الجيش وتدبير الحرب، وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) وجه إلى خيبر من أفضل أصحابه وأنفذهم بصيرة وغناء وأنكاهم للعدو، وجعل له لواء وراية يجتمع جيشه تحتها فيثبتوا لثباتها عند اللقاء ويرجعوا لرجعتها. وقوله: (لأعطين الراية) فعرفها بالألف واللام يدل أنها كانت من سنته - (صلى الله عليه وسلم) - فى حروبه فينبغى أن يسار بسيرته فى ذلك. وروى أن لواء النبى - (صلى الله عليه وسلم) - كان أبيض ورايته سوداء من مرط مرجل لعائشة. وقال جابر: دخل النبى مكة ولواؤه أبيض. وقال مجاهد: كان لرسول الله لواء أغبر. وروى أن راية على يوم صفين كانت حمراء مكتوب فيها: محمد رسول الله، وكانت له راية سوداء. قال المهلب: وفى حديث الزبير أن الراية لا يركزها إلا بإذن الإمام؛ لأنها علامة على الإمام ومكانه؛ فلا ينبغى بأن يتصرف فيها إلا بأمره، ومما يدل أنها ولاية قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها خالد من غير إمرة ففتح له) . فهذا نص فى ولايتها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 وقوله: (أراد الحج فرجل) . يريد أنه رجل شعره؛ لطول بقائه شعثًا، والله أعلم. قال الطبرى: وفى حديث على الخبر عن بعض أعلام النبوة، وذلك خبره عن الغيب الذى لا يكون مثله إلا بوحى من الله، وهو قوله: (يفتح الله على يديه) . 1 - باب قَوْلِ الرسول: (نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ) [آل عمران: 151] 807 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأرْضِ، فَوُضِعَتْ فِى يَدِى) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَقَدْ ذَهَبَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا. 1808 / وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ لما قرأ كِتَابِ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتِ الأصْوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لأصْحَابِى: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِى كَبْشَةَ، يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِى الأصْفَرِ. قال المهلب قوله: (نصرت بالرعب) . هو شيء خصه الله وفضله به، لم يؤته أحدًا غيره ورأينا ذلك عيانًا، أخبرنا أبو محمد الأصيلى قال: افتتحنا برشلونة مع ابن أبى عامر، ثم صح عندنا بعد ذلك عمن أتى من القسطنطينية أنه لما اتصل بأهلها افتتاحنا برشلونة بلغ بهم الرعب إلى أن غلقوا أبواب القسطنطينية ساعة بلوغهم الخبر بها نهارًا وصاروا على صورها وهى على أكثر من شهرين. وأما قوله: (أتيت بمفاتيح خزائن الأرض) فإن العرب كانت أقل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 الأمم أموالا فبشرهم أنها ستصير أموال كسرى وقيصر إليهم، وهم الذين يملكون الخزائن. وقوله: (وقد ذهب رسول الله وأنتم تنتثلونها) يعنى: أن رسول الله ذهب ولم ينل منها شيئًا، بل قسم ما أدرك منها بينكم وآثركم بها، ثم أنتم اليوم تنتثلونها على حسب ما وعدكم. وهذا الحديث فى معنى حديث مصعب بن عمير الذى مضى ولم يأخذ من الدنيا، زهدًا فكذلك رسول الله. وأما جوامع الكلم فهو القرآن؛ لأنه تأتى منه الآية فى معان مختلفة ولها تأويلات مختلفة، وكل يؤدى إلى [. . . .] والأخذ به، يدل على ذلك قوله تعالى: (ما فرطنا فى الكتاب من شىء (فهذا يدل أن القرآن جوامع، وبقوله: (خذ العفو واؤمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (فلو أن هذا نزل فى تدبير الدنيا والآخرة لكفاها. 2 - باب حَمْلِ الزَّادِ فِى الْغَزْوِ وقوله: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197] 809 / فيه: أَسْمَاءَ، أنها صَنَعْتُ سُفْرَةَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى بَيْتِ أَبِى بَكْرٍ، حِينَ أَرَادَ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَتْ: فَلَمْ نَجِدْ لِسُفْرَتِهِ وَلا لِسِقَايَتِهِ مَا نَرْبِطُهُمَا فَقُلْتُ لأبِى بَكْرٍ: وَاللَّهِ مَا أَجِدُ شَيْئًا أَرْبِطُ بِهِ إِلا نِطَاقِى، قَالَ: فَشُقِّيهِ بِاثْنَيْنِ، وَارْبِطِيهِ بِوَاحِدٍ السِّقَاءَ وَبِالآخَرِ السُّفْرَةَ، فَفَعَلْتُ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 10 / وفيه: جَابِر، كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الأضَاحِىِّ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى الْمَدِينَةِ. 1811 / وفيه: سُوَيْدَ بْنَ النُّعْمَانِ، أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) عَامَ خَيْبَرَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ، وَهِىَ مِنْ خَيْبَرَ، وَهِىَ أَدْنَى خَيْبَرَ، فَصَلَّوُا الْعَصْرَ، فَدَعَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) بِالأطْعِمَةِ، فَلَمْ يُؤْتَ إِلا بِسَوِيقٍ، فَلُكْنَا، فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا، ثُمَّ قَامَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَمَضْمَضَ، [وَمَضْمَضْنَا] ، وَصَلَّيْنَا. 1812 / وفيه: سَلَمَةَ، خَف أَزْوَادُ النَّاسِ وَأَمْلَقُوا، فَأَتَوُا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) [فِى نَحْرِ إِبِلِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ] فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: مَا بَقَاؤُكُمْ بَعْدَ إِبِلِكُمْ؟ فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (نَادِ فِى النَّاسِ يَأْتُونَ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، فَدَعَا وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ بِأَوْعِيَتِهِمْ) ، فَاحْتَثَى النَّاسُ حَتَّى فَرَغُوا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ) . قال المهلب: فيه من الفقه أخذ الزاد وتحمل ثقله فى الأسفار البعيدة لفعل خير البرية وأكرمها على الله وعلى عباده وشفيع الأمم كلها يوم القيامة، وهذا يدفع ما يدعيه أهل البطالة من الصوفية والمخرقة على الناس باسم التوكل الذى المتزودون أولى به منهم. وقوله: إن أكرم الأمم قد أملقوا بالصهباء فجمع رسول الله بقايا أزوادهم وجعلهم فيه شركاء سواء، ليس من كان له بقية منها بأولى ممن ليس له شيء. ففى هذا من الفقه أنه إذا أصاب الناس مخمصة ومجاعة أن يأمر الإمام الناس بالمواساة ويجبرهم على ذلك، على وجه النظر لهم بثمن وبغير ثمن، وقد استدل بعض الفقهاء من هذا الحديث أنه جائز للإمام عند قلة الطعام أن يأمر من عنده طعام يفضل عن قوته أن يخرجه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 للبيع، ويجبره على ذلك لما فيه من صلاح الناس، ولم ير ذلك مالك وقال: لا يجبر الناس على إخراج الطعام فى الغلاء. وفيه من الفقه أن للإمام أن يحبس الناس فى الغزو ويصبرهم على الجوع وعلى غير زاد، ويعللهم ما أمكن حتى يتم قصده ونصبه الضلعين إنما فعله اعتبارًا لخلق الله وتعجبًا لعظيم قدرته؛ ليخبر بذلك المخبر فيتذكر بذلك السامع. وقول عمر: (ما بقاؤكم بعد إبلكم) فيه من الفقه اعتراض الوزير رأى الأمير وإن لم يشاوره الأمير؛ لأن الخطة تعطيه ذلك، وقد جعل ذلك أبو بكر الصديق فى سلب قتادة. وفيه أن الظهر عليه مدار المسافر لاسيما بالحجاز الذى الراجل فيه هالك فى أغلب أحواله إن لم يأو إلى ظهر أو صاحب ظهر؛ ليحمل له بعض مؤنته؛ ألا ترى قول عمر: (ما بقاؤكم بعد إبلكم) يعنى: أن بقاءهم يسير؛ لغلبة الهلكة على الراجل. وهذا القول من عمر أصل نهى الرسول عن أكل لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر استبقاء لظهورها ليحمل المسلمين عليها وتحمل أزوادهم، وفى قوله: (ما بقاؤكم بعد إبلكم) دليل على أن الأرض تقطع مسافتها وليست تطوى المسافات كما يدعى بعض البطالين أنه يحج من قاصية من قواصى الأرض فى ثلاثة أيام أو أربعة. وهذا منتقض من وجوه، وإنما قال النبى (صلى الله عليه وسلم) -: (إن الأرض تطوى بالليل) . أى أنها تقرب مسافاتها بتيسير المشى وقطع ما لا يرى منها، فإذا أصبح وعرف مكانه حمد سراه (عند الصباح يحمد القوم السرى) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 وفيه علامة من علامات النبوة فى بركة الطعام القليل حتى تزودوا منه أجمعون، فكيف بمن يدعى من البطالين قلب الأعيان بعد رسول الله. وأما قوله: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى (فإن جماعة من المفسرين قالوا: نزلت فى ناس من أهل اليمن كانوا يخرجون إلى مكة بغير زاد، وقد تقدم ذلك فى (كتاب الحج) . 3 باب: حمل الزاد على الرقاب 813 / فيه: جَابِر، خَرَجْنَا، وَنَحْنُ ثَلاثُ مِائَةٍ، نَحْمِلُ زَادَنَا عَلَى رِقَابِنَا، فَفَنِىَ زَادُنَا، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا يَأْكُلُ فِى كُلِّ يَوْمٍ تَمْرَةً، قَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَأَيْنَ كَانَتِ التَّمْرَةُ تَقَعُ مِنَ الرَّجُلِ؟ قَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَقَدْنَاهَا، حَتَّى أَتَيْنَا الْبَحْرَ، فَإِذَا حُوتٌ قَدْ قَذَفَهُ الْبَحْرُ، يعنى السمك، فَأَكَلْنَا مِنْهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا مَا أَحْبَبْنَا. قال المهلب: هذه التمرة إنما كانت تغنى عنهم ببركة النبى وبركة الجهاد معه، وإنما بارك الله لهم فى التمرة حتى وجدوا لها مسدا من الجوعة متبينة فى أجسامهم وصبرهم حين فقدوها على الجوع؛ لئلا تخرق العادة عن رتبتها، ولا تخرج الأمور على معهودها المتسق فى حكمته مع أنه قدير أن يخلق لهم طعامًا ويجعل لهم من الحجارة خبزًا ومن الجلاميد فاكهة، لكنه مع قدرته على ذلك لم يخرجهم عن العادة، وفيه الترجمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 4 باب: إِرْدَافِ المَرْأَةِ خَلْفَ أَخِيهَا 814 / فيه: عَائِشَةَ، قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَرْجِعُ أَصْحَابُكَ بِأَجْرِ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَلَمْ أَزِدْ عَلَى الْحَجِّ؟ فَقَالَ لَهَا: (اذْهَبِى، وَلْيُرْدِفْكِ عَبْدُالرَّحْمَنِ) ، فَأَمَرَ عَبْدَالرَّحْمَنِ أَنْ يُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ. قال المهلب: فيه جواز ركوب رجلين الدابة وهذا إنما هو محمول على طاقة الدابة، فإذا قصرت قوتها عن شيء لم يجز حمله عليها إذا كان مسرفًا فى المشقة عليها، وأما المشقة اليسيرة التى تستطيع بمثلها، فللرجل أن يحمل دابته ومملوكه ذلك ما لم يكن إسرافًا. وركوب المرأة مع الرجل على الدابة وإن كانت ذات محرم منه، فإن السنة فى ذلك والأدب أن تكون خلفه على الدابة، ولا يحملها أمامه خوف الفتنة وكذلك فعل موسى بابنة شعيب حين دلته على الطريق وكانت الريح تضرب ثيابها فقال لها: كونى خلفى وأشيرى لى الطريق. ولذلك قالت لأبيها: (إن خير من استأجرت القوى الأمين (. 5 - باب الارْتِدَافِ فِى الْغَزْوِ وَالْحَجِّ 815 / فيه: أَنَس، كُنْتُ رَدِيفَ أَبِى طَلْحَةَ، وَإِنَّهُمْ لَيَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وقد تقدم ذكر الارتداف فى (كتاب الحج) ومعناه: التعاون على أفعال البر فى الغزو والحج، وكل سبيل لله تعالى وأن ذلك من السنة ومن فعل السلف الصالح وهو من باب التواضع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 6 - باب الرِّدْفِ عَلَى الْحِمَارِ 816 / فيه: أُسَامَة، أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ. 1817 / فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَقْبَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُرْدِفًا أُسَامَةَ. . . الحديث. قال المهلب: فى هذا التواضع من وجوه: أحدها: ركوب الإمام الحمار، ثم ركوبه على قطيفة، ثم مردفًا غلامًا. وقال الطبرى: فيه البيان على أنه (صلى الله عليه وسلم) مع محله من الله وجلالة منزلته لم يكن يرفع نفسه عن أن يحمل ردفًا معه على دابته، ولكنه كان يردف لتتأسى به فى ذلك أمته، فلا يأنفوا مما لم يأنف منه ولا يستنكفوا مما لم يستنكف منه. 7 - باب مَنْ أَخَذَ بِالرِّكَابِ وَنَحْوِهِ 818 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ الاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ، فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ. . . . .) الحديث. قال المهلب: الأخذ بالركاب من الفضائل، وهى صدقة من الآخذ بالركاب على الراكب؛ لأنه معروف فإن قيل: أين موضع الترجمة من الحديث؟ . قيل: هو فى قوله: (يعين الرجل على دابته) فدخل فيه الأخذ بالركاب وغيره، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 وقد روى عن ابن عباس: أنه اخذ بركاب زيد بن ثابت قال له: لا تفعل يا ابن عم رسول الله فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا. فأخذ زيد يد ابن عباس فقبلها فقال له: لا تفعل فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بآل رسول الله. 8 - باب السَّفَرِ بِالْمَصَاحِفِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . وَقَدْ سَافَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابُهُ فِى أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْقُرْآنَ. 1819 / فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ. هذا الباب وقع فيه غلط من الناسخ؛ لأن قوله: وكذلك يروى عن محمد بن بشر، ولم يتقدم فى هذا الباب ذكر شيء يشار إليه، فلذلك لا معنى له، والصواب فيه أنه يكون حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر فى أول الباب، ثم يقع بعده وكذلك يروى عن محمد ابن بشر، وتابعه ابن إسحاق، وإنما احتاج إلى ذكر هذه المتابعة؛ لأن بعض الناس زاد فى الحديث: مخافة أن يناله العدو. وجعله من لفظ النبى - (صلى الله عليه وسلم) - ولم تصح هذه الزيادة عند مالك ولا عند البخارى، وإنما هى من قول مالك. قال المهلب: وفائدة قوله: (وقد سافر النبى وأصحابه فى أرض العدو وهم يعلمون القرآن) فإنما أراد أن يبين أن نهيه - عليه السلام - عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 السفر بالقرآن إلى أرض العدو، ليس على العموم، ولا على كل الأحوال، وإنما هو فى العساكر والسرايا التى ليست مأمونة، وأما إذا كان فى العساكر العظام فيجوز حمل القرآن إلى أرض العدو، ولأن أصحاب رسول الله كان يعلم بعضهم بعضًا القرآن؛ لأنهم لم يكونوا مستظهرين له. وقد يمكن أن يكون عند بعضهم صحف فيها قرآن يعلمون منها؛ فاستدل البخارى أنهم فى تعلمهم كان فيهم من يتعلم بكتاب، فلما جاز لهم تعلمهم فى أرض العدو بغير كتاب وبكتاب كان فيه إباحة لحمله إلى أرض العدو بغير كتاب وبكتاب كان فيه إباحة لحمله إلى أرض العدو إذا كان عسكرًا مأمونًا، وهذا قول أبى حنيفة. ولم يفرق مالك بين العسكر الكبير والصغير فى النهى عن ذلك، ومعنى النهى عن السفر به إلى أرض العدو خشية أن يناله العدو ولا يكرموه، وقد أخبر الله أنه) فى صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدى سفرة كرام بررة (وهم الملائكة، وقال تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون (وهم الملائكة أيضًا ففهم من هذا الندب إلى أن لا يمسه عندنا إلا طاهر، وأن نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن السفر به إلى أرض العدو ليس على وجه التحريم والفرض وإنما هو على معنى الندب للإكرام للقرآن؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد كتب إلى قيصر بآية إلى آخرها وهو يعلم أنهم نجس وعلم أنهم يقرءونها، فصح أن نهيه عن ذلك فى حال دون حال وفى العساكر التى ليست مأمونة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 9 - باب التَّكْبِيرِ عِنْدَ الْحَرْبِ 820 / فيه: أَنَس، صَبَّحَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، خَيْبَرَ، وَقَدْ خَرَجُوا بِالْمَسَاحِى عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: هَذَا مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، فَلَجَئُوا إِلَى الْحِصْنِ، فَرَفَعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَدَيْهِ، وَقَالَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ. . . . .) الحديث. قال المهلب: إنما فعل النبى هذا استشعارًا لكبرياء الله على ما تقع عليه العين من عظيم خلقه وكبير مخلوقاته أنه أكبر الأشياء وليس ذلك على معنى أن غيره كبير وإنما معنى قولهم: الله أكبر: الله الكبير، هذا قول أهل اللغة، وقال معمر عن أبان: لم يعط أحد التكبير إلا هذه الأمة، وكذلك يفعل (صلى الله عليه وسلم) فى أسباب الجبال، ورفع اليدين فى الدعاء، والتكبير استسلام لله تعالى وتبرؤ من الحول والقوة إليه، وقد روى سفيان، عن أيوب فى هذا الحديث (حالوا إلى الحصن) أى: حولوا إليه. يقال: حلت عن المكان إذا تحولت عنه و [. . . . .] حلت عنه. 0 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بالتَّكْبِيرِ 821 / فيه: أَبُو مُوسَى، كُنَّا مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَكُنَّا إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا، ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) . قال المهلب: إنما نهاهم - والله أعلم - عن رفع الصوت إبقاء عليهم ورفقًا بهم؛ لأنهم كانوا فى مشقة السفر فأراد: اكلفوا من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 العمل ما تطيقون وكان بالمؤمنين رحيمًا، ثم أعلمهم أن الله يعلم خفى كلامهم بالتكبير كما يسمع عاليه؛ إذ لا آفة تمنعه من ذلك؛ لأنه سميع قريب. قال الطبرى: فى هذا الحديث من الفقه كراهية رفع الصوت بالدعاء وهو قول عامة السلف من الصحابة والتابعين، حدثنى يعقوب ابن إبراهيم، حدثنى إسماعيل، عن هشام، حدثنى قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عبادة قال: (كان أصحاب رسول الله يكرهون رفع الصوت عند ثلاثة مواطن: عند الذكر، وعند القتال، وعند الجنائز) . وروى يحيى بن سعيد، حدثنا هشام، عن قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عبادة قال: (كان أصحاب رسول الله يكرهون رفع الصوت ورفع الأيدى عند القتال، والدعاء) . قال سعيد بن أبى عروبة: حدثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: (ثلاث مما أحدث الناس: رفع الصوت عند الدعاء، ورفع الأيدى، واختصار السجود) وذكر عن مجاهد أنه رأى رجلا يرفع صوته بالدعاء فحصبه. وقوله: (أربعوا على أنفسكم) ففى كتاب الأفعال: ربع به: رفق به، وربع عن الشيء: كف عنه، ومنه قيل: أربع على نفسك. 1 - باب التَّكْبِيرِ إِذَا عَلا شَرَفًا 822 / فيه: جَابِر، كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا، وَإِذَا نَزلنا سَبَّحْنَا. 1823 / وفيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَفَلَ مِنَ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 وَلا أَعْلَمُهُ إِلا قَالَ: الْغَزْوِ - يَقُولُ: كُلَّمَا أَوْفَى عَلَى ثَنِيَّةٍ أَوْ فَدْفَدٍ، كَبَّرَ ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ) . قال المهلب: تكبيره عند إشرافه على الجبال استشعار لكبرياء الله عندما تقع عليه العين من عظيم خلقه أنه أكبر من كل شيء تعالى وقد تقدم هذا فى باب التكبير عند الحرب. وأما تسبيحه فى بطون الأودية فهو مستنبط من قصة يونس (صلى الله عليه وسلم) وتسبيحه فى بطن الحوت، قال تعالى: (فلولا أنه كان من المسبحين للبث فى بطنه إلى يوم يبعثون (فنجاه الله بذلك من الظلمات فامتثل النبى (صلى الله عليه وسلم) هذا التسبيح فى بطون الأودية؛ لينجيه الله منها ومن أن يدركه عدوه، وقد قيل: إن تسبيح يونس كان صلاة قبل أن يلتقمه الحوت فروعى به فضلها، الأول أولى بدليل تسبيح الرسول فى بطون الأودية وكل منخفض. وقال غيره: معنى تسبيحه فى بطون الأودية وما انخفض من الأرض أنه لما كان التكبير لله تعالى عند رؤية عظيم مخلوقاته وجب أن يكون فيما انخفض من الأرض تسبيح لله؛ لأن التسبيح فى اللغة تنزيه الله عن صفات الانخفاض والضعة. قال ابن الأنبارى: سبحان الله: تنزيه الله من الأولاد والصاحبة والشركاء. وقال غيره: سبحان الله: براءة الله من ذلك. قال أبو عبيد: الفدفد: المكان المرتفع فيه صلابة، والثنية: أعلى مسيل فى رأس الجبل. وقال صاحب العين: الثنايا: العقاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 2 - باب يُكْتَبُ لِلْمُسَافِرِ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِى الإقَامَةِ 824 / فيه: أَبُو بُرْدَةَ، أنَّهُ اصْطَحَبَ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِى كَبْشَةَ فِى سَفَرٍ، فَكَانَ يَزِيدُ يَصُومُ فِى السَّفَرِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ: سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى مِرَارًا، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا) . قال المهلب: أصل هذا فى كتاب الله، قال تعالى: (لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم (إلى) الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون (أى: غير مقطوع، يريد أن لهم أجرهم فى حال الكبر والضعف عما كانوا يفعلونه فى الصحة غير مقطوع لهم؛ فلذلك كل مرض من غير الزمانة وكل آفة من سفر وغيره يمنع من العمل الصالح المعتاد؛ فإن الله قد تفضل بإجراء أجره على من منع ذلك العمل بهذا الحديث. قال المؤلف: وليس هذا الحديث على العموم، وإنما هو لمن كانت له نوافل وعادة من عمل صالح فمنعه الله منها بالمرض أو السفر وكانت نيته لو كان صحيحًا أو مقيمًا أن يدوم عليها ولا يقطعها؛ فإن الله يتفضل عليه بأن يكتب له أجر ثوابها حين حبسه عنها، فأما من لم يكن له تنفل ولا عمل صالح فلا يدخل فى معنى الحديث؛ لأنه لم يمنعه مرضه من شيء فكيف يكتب له ما لم يكن يعمله؟ وما يدل أن الحديث فى النوافل ما روى معمر، عن عاصم بن أبى النجود، عن خيثمة، عن عبد الله بن عمرو قال رسول الله: (إن العبد إذا كان على طريق حسنة من العبادة، ثم مرض قيل للملك الموكل به: اكتب له مثل عمله إذا كان طلقًا حتى أطلقه أو أكفته إلى) وقوله: (إذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 كان على طريق حسنة من العبادة) لا يقال: إلا فى النوافل، ولا يقال ذلك لمؤدى الفرائض خاصة؛ لأن المريض والمسافر لا يسقط عنهما صلوات الفرائض؛ فسنة المريض الجلوس، وسنة المسافر قصر الصلاة، فلم يبق أن يكتب للمريض والمسافر إلا أجر النوافل كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (ما من امرىء تكون له صلاة من الليل يغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه) وهذا لا إشكال فيه. 3 باب: السير وحده 825 / فيه: جَابِر، نَدَبَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) النَّاسَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثلاثًا، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ لِكُلِّ نَبِىٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِىَّ الزُّبَيْرُ) . قَالَ سُفْيَانُ: الْحَوَارِىُّ: النَّاصِرُ. 1826 / وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا أَعْلَمُ، مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ) . قال المهلب: نهيه عن الوحدة فى سير الليل إنما هو إشفاق على الواحد من الشياطين؛ لأنه وقت انتشارهم وأذاهم للبشر بالتمثل لهم وما يفزعهم ويدخل فى قلوبهم الوساوس؛ ولذلك أمر الناس أن يحبسوا صبيانهم عند حدقة الليل، وأما قصة الزبير فإنما هى ليعرف أمر العدو، والواحد الثابت فى ذلك أخفى على العدو وأقرب إلى التجسس بالاختفاء والقرب منهم مع ما علم الله من نيته والتأييد عليها، فبعثه (صلى الله عليه وسلم) واثقًا بالله، ومع أن الوحدة ليست محرمة، وإنما هى مكروهة؛ فمن أخذ بالأفضل من الصحبة فهو أولى، ومن أخذ بالوحدة فلم يأت حرامًا، وقد تقدم الكلام فى حديث جابر والأحاديث المعارضة له فى باب: (هل يبعث الطليعة وحده) ، وفى باب (سفر الاثنين) قبل هذا بأبسط من هذا وأتم، فأغنى عن إعادته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 4 - باب السُّرْعَةِ فِى السَّيْرِ وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى مُتَعَجِّلٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَعَجَّلَ مَعِى فَلْيَتَعَجِّل) . 1827 / فيه: أُسَامَةُ، سُئل عَنْ مَسِيرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ - وَالنَّصُّ: فَوْقَ الْعَنَقِ. 1828 / وفيه: ابْن عُمَرَ، أنَّهُ بَلَغَهُ بطريق مكة عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِى عُبَيْدٍ شِدَّةُ وَجَعٍ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ، وَقَالَ: إِنِّى رَأَيْتُ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ. 1829 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ، فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ) . قال المؤلف: أما تعجيله (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة؛ فليخرج نفسه من عذاب السفر، وليفرح بنفسه أهله وجماعة المؤمنين بالمدينة. وأما تعجيل السير إذا وجد فجوة حين دفع من عرفة؛ فليتعجل الوقوف بالمشعر الحرام ويدعو الله فى ذلك الموقف؛ لأن ساعات الدعاء فى ذلك الوقت ضيقة ولا تدوم ونادرة، إنما هى من عام إلى عام، وأما تعجيل ابن عمر إلى زوجته إنما هو ليدرك من حياتها من يمكنه أن تعهد إليه بما لا تعهد به إلى غيره، لئلا يحرمها ما تريده من طاعة الله فى عهدها، ومع ذلك فإنه كان يسرها بقدومه. وفيه التواضع وترك التكبر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 5 - باب إِذَا حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فَرَآهَا تُبَاعُ 830 / فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَوَجَدَهُ يُبَاعُ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَهُ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (لا تَبْتَعْهُ، وَلا تَعُدْ فِى صَدَقَتِكَ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِى صدقته كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِى قَيْئِهِ) . وفيه: الحمل على الخيل فى سبيل الله. وفيه: أنه من حمل على فرس فى سبيل الله وغزا به فله أن يفعل به بعد ذلك ما يفعل فى سائر ماله، ألا ترى أن رسول الله لم ينكر على بائعه بيعه، وإنما أنكر على عمر شراءه. واختلف العلماء فيمن حمل على فرس فى سبيل الله ولم يقل: هو حبس فى سبيل الله، فروى مالك، عن ابن عمر أنه كان إذا أعطى شيئًا فى سبيل الله يقول لصاحبه: إذا بلغت به وادى القرى فشأنك به. قال أحمد بن حنبل: إنما قال ذلك ابن عمر؛ لأنه كان يذهب إلى أن المحمول عليه إنما يستحقه بعد الغزو. وكذلك قال سعيد بن المسيب: إذا أعطى الرجل الشيء فى الغزو فبلغ به رأس مغزاته، فهو له. وهو قول القاسم، وسالم، والثورى، والليث، قال الليث: إلا أن يكون حبسًا فلا يباع. والعلماء متفقون فى الحبس أنه لا يباع غير الكوفيين الذين لا يجيزون الأحباس. وقال مالك: من أعطى فرسًا فى سبيل الله وقيل له: هو لك فى سبيل الله فله أن يبيعه، فإن قيل: هو فى سبيل الله، ركبه ورده، ويكون موقوفًا عنده لحمل الغزاة عليه. وقال أبو حنيفة والشافعى: الفرس المحمول عليه فى سبيل الله هو تمليك لمن يحمل عليه. وإن قيل له: إذا بلغت به رأس مغزاتك فهو لك، كان تمليكًا على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 مخاطرة ولم يجز، وهى عندهم عطية غير بتلة؛ لأنها شرط قد يقع وقد لا يقع لجواز موته قبل بلوغه راس مغزاته ولم يملك منه شيئًا قبل ذلك. وأما إذا قال له: هو لك فى سبيل الله أو أحملك عليه فى سبيل الله فقد أعطاه إياه على شرط الغزو به، وهذا معنى قول ابن عمر وابن المسيب عند الكوفيين والشافعى، وسواء ذلك كله عند مالك؛ لأنه إذا قال له: إذا بلغت به رأس مغزاتك فهو لك، فمعناه عنده أن لك أن تتصرف فيه حينئذ بما يتصرف به المالك، وقد صح له ملكه عند أخذه بشرط الغزو عليه. واختلفوا فى كراهية شراء صدقة الفرض والتطوع إذا أخرجها من يده، فقال مالك فى الموطأ فى رجل تصدق بصدقة فوجدها تباع عند غير الذى تصدق بها عليه -: تركها أحب إلىّ. وكره الليث والشافعى ذلك، فإن اشتراها لم يفسخوا البيع، وكذلك قالوا فى شراء ما يخرجه الإنسان فى كفارة اليمين وإنما كرهوا شراءها بهذا الحديث، ولم يفسخوا البيع؛ لأنها راجعة إليه بغير ذلك المعنى ويشهد لهذا حديث بريرة فى اللحم الذى تصدق عليها به، وإجماعهم أن من تصدق بصدقة، ثم ورثها أنها حلال له، وقد تقصيت الكلام فى هذه المسألة فى باب (هل يشترى الرجل صدقته) فى (كتاب الزكاة) فتأمله هناك. 6 - باب الْجِهَادِ بِإِذْنِ الأبَوَيْنِ 831 / فيه: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَاسْتَأْذَنَهُ فِى الْجِهَادِ، فَقَالَ: (أَحَىٌّ وَالِدَاكَ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 قال المهلب: هذا - والله أعلم - فى زمن استظهار المسلمين على عدوهم وقيام من انتدب إلى الغزو بهم مع أنه - والله أعلم - رأى به ضعفًا لم يقدر نفاذه فى الجهاد، فندبه إلى الجهاد فى بر والديه، وقد روى عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان (أن من أراد الغزو وأمرته أمه بالجلوس أن يجلس) وقال الحسن البصرى: إذا أذنت له أمه فى الجهاد وعلم أن هواها أن يجلس، فيجلس. ومن رأى ألا يخرج إلى الغزو إلا بإذن والديه: مالك والأوزاعى والشافعى والثورى وأحمد وأكثر أهل العلم، هذا كله فى حال الاختيار ما لم تقع ضرورة وقوة للعدو، وإذا كان ذلك تعين الفرض على الجميع وزال الاختيار، ووجب الجهاد على الكل. 7 باب: مَا قِيلَ فِى الَجرَسِ فِى أَعْنَاقِ الإِبِلِ 832 / فيه: عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، أَنَّ أَبَا بَشِيرٍ الأنْصَارِىَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى بَعْضِ أَسْفَارِهِ - قَالَ عَبْدُاللَّهِ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: وَالنَّاسُ فِى مَبِيتِهِمْ - فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَسُولا: (أَنْ لا يَبْقَيَنَّ فِى رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلادَةٌ مِنْ وَتَرٍ، أَوْ قِلادَةٌ إِلا قُطِعَتْ) . قال مالك فى الموطأ بإثر هذا الحديث -: أرى ذلك من العين، ففسر المعنى الذى من أجله أمر الرسول بقطع القلائد؛ وذلك أن الذى قلدها إذا اعتقد أنها ترد العين فقد ظن أنها ترد القدر، ولا يجوز اعتقاد هذا، ولذلك روى أن الرفقة الذى فيها الجرس لا تصحبها الملائكة، ولا بأس بتعليق التمائم والخرز التى فيها الدعاء والرقى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 بكتاب الله عند جميع العلماء؛ لأن ذلك من التعوذ بأسماء الله، وقد سئل عيسى بن دينار عن قلادة ملونة فيها خرز يعلقها الرجل على فرسه للجمال. فقال: لا بأس بذلك إذا لم تجعل للعين. قال المهلب: إنما تجعل القلائد من وتر لقوتها ونقائها فخصها (صلى الله عليه وسلم) ، ثم عم سائر القلائد بقوله: (ولا قلادة إلا قطعت) . فأطلق النهى على جميع ما تقلد به الدواب. وقد سئل مالك عن القلادة فقال: ما سمعت بكراهته إلا فى الوتر. قال أبو عبيد: وإنما نهى عن التقليد بالأوتار؛ لأن الدواب تتأذى بذلك، وربما تعلق ذلك بشجر فتختنق فتموت. وقد روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) -: (قلدوا الخيل، ولا تقلدوها الأوتار) وفسره وكيع فقال: معناه: لا تركبوها فى العين خشية أن يتعلق على راكبها وتر يطالب به. 8 - باب مَنِ اكْتُتِبَ فِى جَيْشٍ فَخَرَجَتِ، امْرَأَتُهُ حَاجَّةً أَوْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ هَلْ يُؤْذَنُ لَهُ 833 / فيه: ابْن عَبَّاس قَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، وَلا تُسَافِرَنَّ امْرَأَةٌ إِلا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ) ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اكْتُتِبْتُ فِى غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وَخَرَجَتِ امْرَأَتِى حَاجَّةً، قَالَ: (اذْهَبْ، وَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ) . قال المؤلف: إذا قام بثغور المسلمين من فيه الكفاية لدفع العدو فلا بأس أن يأذن الإمام لمن له عذر فى الرجوع؛ ولهذا المعنى أذن النبى للرجل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 أن يرجع ويحج مع امرأته، فإن كان للعدو ظهور وقوة تعين فرض الجهاد على كل أحد فلا يأذن له الإمام فى الرجوع. قال المهلب: والجهاد أفضل لمن قد حج عن نفسه من الحج، لكن لما استضاف إلى الحج النافلة ستر عورة وقطع ذريعة كان أوكد وأفضل من الجهاد فى وقت قد استظهر المسلمون فيه على عدوهم. قال المؤلف: وقوله: (ارجع فاحجج مع امرأتك) محمول عند العلماء على معنى الندب للزوج أن يحج مع امرأته لا أنه يلزمه ذلك فرضًا كما لا يلزمه مئونة حملها فى الحج؛ فلذلك لا يلزمها أن تحمله إليه بنفسه، وقد تقدم فى باب حج النساء فى آخر كتاب الحج اتفاق الفقهاء فى أنه ليس للرجل منع زوجته من حجة الفريضة، كما لا يمنعها من صلاة ولا صيام، فأغنى ذلك عن إعادته. 9 - باب الْجَاسُوسِ وقوله تَعَالَى: (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) [الممتحنة: 1] 834 / فيه: عَلِىّ، بَعَثَنِى الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ، قَالَ: (انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً، وَمَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا) ، فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا: أَخْرِجِى الْكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِى مِنْ كِتَابٍ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِها الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا حَاطِبُ، مَا هَذَا) ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 لا تَعْجَلْ عَلَىَّ إِنِّى كُنْتُ أمْرًَا مُلْصَقًا فِى قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ، يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِنْ فَاتَنِى ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِى، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلا ارْتِدَادًا، أوْ لاَ أَرْضَى بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإسْلامِ، فَقَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (قَدْ صَدَقَكُمْ) ، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِى أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، قَالَ: (إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) . قال الطبرى: فى حديث حاطب بن أبى بلتعة من الفقه أن الإمام إذا ظهر من رجل من أهل الستر على أنه قد كاتب عدوًا من المشركين ينذرهم ببعض ما أسره المسلمون فيهم من عزم، ولم يكن الكاتب معروفًا بالسفه والغش للإسلام وأهله، وكان ذلك من فعله هفوة وزلة من غير أن يكون لها أخوات؛ فجائز العفو عنه كما فعله الرسول بحاطب من عفوه عن جرمه بعدما اطلع عليه من فعله. وهذا نظير الخبر الذى روت عمرة عن عائشة أن الرسول قال: (أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم إلا حدا من حدود الله) فإن ظن ظان أن صفحه (صلى الله عليه وسلم) إنما كان لما أعلمه الله من صدقه، ولا يجوز لمن بعد الرسول أن يعلم ذلك، فقد ظن خطأ؛ لأن أحكام الله فى عباده إنما تجرى على ما ظهر منهم. وقد أخبر الله نبيه عن المنافقين الذين كانوا بين ظهرانى أصحابه مقيمين معتقدين الكفر، وعرفه إياهم بأعيانهم، ثم لم يبح له قتلهم وسبيهم؛ إذ كانوا يظهرون الإسلام بألسنتهم، فكذلك الحكم فى كل أحد من خلق الله أن يؤخذ بما ظهر لا بما بطن، وقد روى مثل ذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 عن الأئمة، روى الليث بن سعد، عن يزيد بن أبى منصور قال: (بلغ عمر بن الخطاب أن عامله على البحرين أتى برجل قامت عليه بينة أنه كاتب عدوًا للمسلمين بعورتهم، وكان اسمه: أضرباس، فضرب عنقه وهو يقول: يا عمر، يا عمراه، فكتب عمر إلى عامله فقدم عليه فجلس له عمر وبيده حربة، فلما دخل عليه علا لجبينه بالحربة وجعل يقول: أضرباس لبيك، أضرباس لبيك. . فقال له عامله: يا أمير المؤمنين، إنه كاتبهم بعورة المسلمين وهم أن يلحق بهم. فقال له عمر: قتلته على هذه، وأينا لم يهم، لولا أن تكون سيئة لقتلتك به) . قال الطبرى: وفيه البيان عن بعض أعلام النبوة؛ وذلك إعلام الله نبينا بخبر المرأة الحاملة كتاب حاطب إلى قريش، ومكانها الذى هى به، وحالها الذى تغلب عليها من الستر وكل ذلك لا يعلم إلا بوحى الله تعالى. وقال المهلب: وفيه هتك ستر المذنب، وكشف المرأة العاصية. وفيه: أن الجاسوس قد يكون مؤمنًا، وليس تجسسه مما يخرجه من الإيمان. وفيه: أنه لا يتسور فى قتل أحد دون رأى الإمام. وفيه: إشارة الوزير بالرأى على السلطان وإن لم يستشره. وفيه: الاشتداد عند السلطان على أهل المعاصى، والاستئذان فى قتلهم. وفيه: جواز العفو عن الخائن لله ورسوله تجسس أو غيره. وفيه: مراعاة فضيلة سلفت، ومشهد شاهده الجاسوس وغيره من المذنبين والتشفع بذلك له. وفيه: الحجة لترك إنفاذ الوعيد من الله لمن شاء ذلك له بقوله: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم) . وفيه: جواز غفران ما تأخر وقوعه من الذنوب قبل وقوعه، وسيأتى بعض معانى هذا الحديث فى باب (المتأولين) فى آخر كتاب الديات وفى كتاب الاستئذان فى باب من (نظر فى كتاب من يحذر على المسلمين؛ ليستبين أمره) . واختلف الفقهاء فى المسلم يكاتب المشركين بأخبار المسلمين، فقال مالك: ما فيه شيء وأرى فيه اجتهاد الإمام. وقال أبو حنيفة والأوزاعى: يوجع عقوبة، ويطال حبسه. وقال الشافعى: إن كان ذا هيئة عفا الإمام عنه، واحتج بهذا الحديث أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يعاقب حاطبًا، وإن كان غير ذى هيئة عذره الإمام؛ لأنه لا يحل دم أحد إلا بكفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس. وقال ابن القاسم فى العتبية: يضرب عنقه؛ لأنه لا تعرف توبته. وهو قول سحنون، وقال ابن وهب: يقتل إلا أن يتوب. وقال ابن الماجشون: إن كان نادرًا من فعله، ولم يكن من أهل الطعن على الإسلام، فلينكل لغيره، وإن كان معتادًا لذلك فليقتل. ومن قال بقتل الجاسوس المسلم فقد خالف الحديث وأقوال المتقدمين من العلماء، فلا وجه لقوله. واختلفوا فى الحربى المستأمن أو الذمى يتجسس ويدل على عورات المسلمين، فقال الثورى والكوفيون والشافعى: لا يكون ذلك نقضًا للعهد فى حربى ولا ذمى، ويوجعه الإمام ضربًا ويطيل حبسه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 وقال الأوزاعى: قد نقض العهد وخرج من الذمة؛ فإن شاء الإمام قتله أو صلبه. وهو قول سحنون، وقال مالك فى أهل الذمة: إذا تلصصوا أو قطعوا الطريق لم يكن ذلك نقضًا للعهد حتى يمنعوا الجزية ويمتنعوا من أهل الإسلام فهؤلاء فيء إذا كان الإمام عدلا. وعند مالك إذا استكره الذمى مسلمة فزنى بها فهو نقض للعهد وإن طاوعته لم يخرج من العهد. وعند الشافعى لا ينقض الذمة شيء من فعله إلا الامتناع من أداء الجزية، أو الامتناع من الحكم؛ فإذا فعلوا ذلك نبذ إليهم. وقال الطحاوى: لم يختلفوا أن المسلم لو فعل ذلك لم يبح دمه؛ فكذلك المستأمن، والذمى قياسًا عليه. ولم يراع الطحاوى اختلاف أصحاب مالك ولا غيره من المتقدمين مع خلافهم للحديث. والظعينة: المرأة فى الهودج، ولا يقال لها: ظعينة إلا وهى كذلك قال الخطابى: إنما قيل للمرأة: ظعينة؛ لأنها تظعن مع زوجها إذا ظعن. والعقاص: السير الذى تجمع به شعرها على رأسها، والعقص: الظفر، هو الفتل. وقوله: (إنى كنت ملصقًا فى قريش) يعنى: كنت مضافًا إليهم ولست منهم، وأصل ذلك من لصاق الشيء بغيره؛ ليبين منه، ولذلك قيل: المدعى فى القوم ملصق، عن الطبري. 0 - باب الْكِسْوَةِ لِلأسَارَى 835 / - فيه: جَابِر، لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أُتِىَ بِأُسَارَى، وَأُتِىَ بِالْعَبَّاسِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، فَنَظَرَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، لَهُ قَمِيصًا، فَوَجَدُوا قَمِيصَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 عَبْدِاللَّهِ بْنِ أُبَىٍّ يَقْدُرُه عَلَيْهِ، فَكَسَاهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِيَّاهُ، فَلِذَلِكَ نَزَعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) قَمِيصَهُ الَّذِى أَلْبَسَهُ إياه. قال ابن عيينة: كانت له عند النبى (صلى الله عليه وسلم) يد أحب أن يكافئه. قال المهلب: وفيه كسوة الأسارى والإحسان إليهم، ولا يتركوا عراة فتبدوا عوراتهم ولا يجوز النظر إلى عورات المشركين. وفيه: وجوب المكافأة على اليد تسدى إلى قريب الرجل إذا كان ذلك إكرامًا له فى قريبه ولم يطلبها القريب، إذا كانت بسبب الستر من أهله. وفيه: أن المكافأة تكون فى الحياة وبعد الممات. 1 - باب فَضْلِ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ رَجُلٌ 836 / فيه: سَهْل، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ خَيْبَرَ: (لأعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلا، يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ. . . . .) الحديث إلى قوله: (فَوَاللَّهِ لأنْ يَهْدِىَ اللَّهُ بِكَ رَجُلا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ) . قال المؤلف: ومما يشبه معنى هذا الحديث قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئًا) وقد روينا عن الرسول: (أن العالم إذا لم يعمل بعلمه يأمر الله به إلى النار يوم القيامة، فيقول رجل قد كان علمه ذلك العالم علمًا دخل به الجنة فيقول -: يا رب، هذا علمنى ما دخلت به الجنة، فهب لى معلمي. فيقول تعالى. هبوا له معلمه) . وقال ابن الأنبارى: حمر النعم: كرامها وأعلاها منزلة. وقال أبو عبيد عن الأصمعى: بعير أحمر إذا لم يخالط حمرته شيء، فإن خالطت حمرته قنوء فهو كميت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 2 - باب الأسَارَى فِى السَّلاسِلِ 837 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِى السَّلاسِلِ) . قال المهلب: قوله: (يدخلون الجنة فى السلاسل) يعنى: يدخلون الإسلام مكرهين، وسمى الإسلام باسم الجنة؛ لأنه سببها ومن دخله دخل الجنة، وقد جاء هذا المعنى بينًا فى الحديث، ذكره البخارى فى التفسير فى قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس (قال: (خير الناس للناس يأتون بهم فى السلاسل فى أعناقهم حتى يدخلوا فى الإسلام) . وفيه: سوق الأسرى فى الحبال والسلاسل والاستيثاق منهم حتى يرى الإمام فيهم رأيه. وقال ابن فورك: والعجب المضاف إلى الله يرجع إلى معنى الرضا والتعظيم، وأن الله يعظم من أخبر عنه بأنه تعجب منه ويرضى عنه. 3 - باب فَضْلِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ 838 / فيه: أَبُو موسى قَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (ثَلاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الأمَةُ، فَيُعَلِّمُهَا فَيُحْسِنُ تَعْلِيمَهَا، وَيُؤَدِّبُهَا فَيُحْسِنُ أَدَبَهَا، ثُمَّ يُعْتِقُهَا فَيَتَزَوَّجُهَا، وَمُؤْمِنُ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِى كَانَ مُؤْمِنًا، ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَالْعَبْدُ الَّذِى يُؤَدِّى حَقَّ اللَّهِ، وَيَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ) . ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِىُّ: وَأَعْطَيْتُكَهَا بِغَيْرِ ثَمَنٍ، وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِى أَهْوَنَ مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 قال المهلب: فيه أن من أحسن فى معنيين من أى فعل كان من أفعال البر؛ فله أجره مرتين، والله يضاعف لمن يشاء، وإنما جاء النص فى هؤلاء الثلاثة؛ ليستدل بذلك فى سائر الناس وسائر الأعمال. وفى قول الشعبى جواز الامتنان بالعلم والتعنيف لخطره لينبه على ذلك من يجهل مقداره. 4 - باب أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ فَيُصَابُ الْوِلْدَانُ وَالذَّرَارِىُّ) بَيَاتًا (: لَيْلا 839 / فيه: الصَّعْبِ، مَرَّ بِىَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِالأبْوَاءِ - أَوْ بِوَدَّانَ - فَسُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، قَالَ: (هُمْ مِنْهُمْ) ، وَسَمِعْتُهُ، يَقُولُ: (لا حِمَى إِلا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ) . اختلف الفقهاء فى العمل بهذا الحديث، فتركه قوم وذهبوا إلى أنه لا يجوز قتل النساء والولدان فى الحرب على كل حال، وأنه لا يحل أن يقصد إلى قتل غيرهم إذا كان لا يؤمن فى ذلك تلفهم مثل أن يتترس أهل الحرب بصبيانهم ولا يستطيع المسلمون رميهم، إلا بإصابة صبيانهم فحرام عليهم رميهم، وكذلك إن تحصنوا بحصن أو سفينة وجعلوا فيها نساء وصبيانًا وأسارى مسلمين فحرام رمى ذلك الحصن وحرق تلك السفينة؛ إذا كان يخاف تلف النساء والصبيان والأسارى. واحتجوا بعموم نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن قتل النساء والصبيان، وبعموم قوله تعالى: (لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابًا أليمًا (هذا قول مالك والأوزاعي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 وقال الكوفيون والشافعى: إنما وقع النهى عن قتل النساء والصبيان إذا قصد إلى قتلهم، فأما إذا قصد إلى قتل غيرهم ممن لا يوصل إلى ذلك منهم إلا بتلف نسائهم وصبيانهم فلا بأس بذلك، واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (هم منهم) . قال الطحاوى: فلما لم ينههم النبى عن الغارة، وقد كان يعلم أنهم يصيبون فيهم الولدان والنساء الذى يحرم القصد إلى قتلهم دل ذلك أن ما أباح فى حديث الصعب معنى غير المعنى الذى من أجله منع قتلهم فى حديث ابن عمر، وأن الذى أباح هو القصد إلى قتل المشركين وإن كان فى ذلك تلف غيرهم ممن لا يحل القصد إلى قتله؛ حتى لا تتضاد الآثار. وقد أمر (صلى الله عليه وسلم) بالغارة على العدو فى آثار متواترة، ولم يمنعه من ذلك ما يحيط به علمًا أنه لا يؤمن من تلف النساء والولدان فى ذلك، والنظر يدل على ذلك أيضًا، وقد روى عن رسول الله فى الذى عض يد رجل فانتزع يده فسقطت ثنايا العاض؛ فأبطل ذلك (صلى الله عليه وسلم) . قال الطحاوى: فلما كان المعضوض نزع يده وإن كان فى ذلك تلف ثنايا غيره وكان حرامًا عليه القصد إلى نزع ثنايا غيره بغير إخراج يده من فيه ولم يكن القصد فى ذلك إلى غير التلف كالقصد إلى التلف فى الإثم ولا فى وجوب العقل، كان كذلك من له أخذ شيء وفى أخذه إياه تلف غيره مما يحرم عليه القصد إلى تلفه، فكذلك العدو قد جعل لنا قتالهم، وحرم علينا قتل نسائهم وذراريهم فحرام علينا القصد إلى ما نهينا عنه من ذلك، وحلال لنا القصد إلى ما أبيح لنا، وإن كان فيه تلف غيره مما حرم علينا. وقوله فى حديث الصعب: (لا حمى إلا لله ولرسوله) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 فلا شيء فيه من معنى ما تقدم من التبييت، هو سببه بما روى عن أبى هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة) ثم وصل ذلك المحدث بكلام آخر ليس فيه شيء من معنى ما قبله، وإنما كانوا يحدثون بالأحاديث على نحو ما كانوا يسمعونها، وقد تقدم بيان هذا فى (كتاب الطهارة) فى باب (لا يبول فى الماء الدائم) . 5 - باب قَتْلِ الصِّبْيَانِ فِى الْحَرْبِ 840 / فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِى بَعْضِ مَغَازِى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. وترجم له باب (قتل النساء فى الحرب) وقال مكان (فأنكر) (فنهى) . ولا يجوز عند جميع العلماء قصد قتل نساء الحربيين ولا أطفالهم؛ لأنهم ليسوا ممن قاتل فى الغالب. وقال تعالى: (وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم (وبذلك حكم رسول الله فى مغازيه أن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية؛ لأنهم مال للمسلمين إذا سبوا. واتفق الجمهور على أن النساء والصبيان إذا قاتلوا قتلوا وهو قول مالك والليث وأبى حنيفة والثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وقال الحسن البصرى: إن قاتلت المرأة وخرجت معهم إلى ديار المسلمين فلتقتل، وقد قتل رسول الله يوم قريظة والخندق [. . . . .] وقتل يوم الفتح قينتين كانتا تغيان بهجاء رسول الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 واتفق مالك والكوفيون والأوزاعى والليث أنه لا يقتل الشيوخ ولا الرهبان، وأجاز قتلهم الشافعى فى أحد قوليه، واحتج بأن رسول الله أمر بقتل دريد بن الصمة يوم حنين، وكذلك أجمعوا أن من قاتل من الشيوخ أنه يقتل، واحتج الطحاوى فقال: قد روى علقمة ابن مرثد، عن بريدة، عن أبيه أن الرسول كان إذا بعث سرية قال: (لا تقتلوا شيخًا كبيرًا) . وهذا خلاف حديث دريد، وقد قال رسول الله فى حديث المرقع ابن صيفى فى المرأة المقتولة: (ما كانت هذه تقاتل) . فدل ذلك أن من أبيح قتله هو الذى يقاتل، والذى يجمع بين الأحاديث أن النهى من الرسول فى قتل الشيوخ هم الذين لا معونة لهم على شيء من أمر الحرب فى قتل ولا رأي. وحديث دريد فى الشيوخ الذين لهم معونة فى الحرب كما كان لدريد، فلا بأس بقتلهم، وإن لم يكونوا يقاتلون؛ لأن تلك المعونة أشد من كثير من القتال، وهذا قول محمد ابن الحسن، وهو قياس قول أبى حنيفة أبى يوسف. 6 - باب: لاَ يُعَذَّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ 841 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَعَثَنَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) فِى بَعْثٍ، فَقَالَ: (إِنْ وَجَدْتُمْ فُلانًا وَفُلانًا فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ) ، ثُمَّ قَالَ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ: (إِنِّى أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحْرِقُوهما، وَإِنَّ النَّارَ لا يُعَذِّبُ بِهَا إِلا اللَّهُ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا) . 1842 / وفيه: عِكْرِمَةَ، أَنَّ عَلِيًّا حَرَّقَ قَوْمًا، فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ، لأنَّ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (لا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ) ، وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 قال المهلب: ليس نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن التحريق بالنار على معنى التحريم، وإنما هو على سبيل التواضع لله، وأن لا يتشبه بغضبه فى تعذيب الخلق؛ إذ القتل يأتى على ما يأتى عليه الإحراق. والدليل على أنه ليس بحرام سمل الرسول عين العرنيين بالنار فى مصلى المدينة بحضرة الصحابة. وتحريق على بن أبى طالب الخوارج بالنار، وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون على أهلها بالنار، وقول أكثرهم بتحريق المراكب، وهذا كله يدل أن معنى الحديث على الحض والندب لا على الإيجاب والفرض والله أعلم. وممن كره رمى أهل الشرك بالنار: عمر بن الخطاب وابن عباس وعمر بن عبد العزيز، وهو قول مالك بن أنس، وأجازه على بن أبى طالب، وحرق خالد بن الوليد ناسًا من أهل الردة، فقال عمر لأبى بكر الصديق: انزع هذا الذى يعذب بعذاب الله. فقال أبو بكر: لا أشيم سيفًا سله الله على المشركين. وأجاز الثورى رمى الحصون بالنار. وقال الأوزاعى: لا بأس أن يدخن عليهم فى المطمورة إذا لم يكن فيها إلا المقاتلة، ويحرقوا ويقتلوا بكل قتلة، ولو لقيناهم فى البحر رميناهم بالنفط والقطران. وأجاز ابن القاسم حرق الحصن والمراكب إذا لم يكن فيها إلا المقاتلة فقط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 7 - باب) فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) [محمد: 4] 843 / - فِيهِ: حَدِيثُ ثُمَامَةَ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الأرْضِ) [الأنفال: 67] يَعْنِى يَغْلِبَ فِى الأرْضِ. اختلف العلماء فى حكم الأسرى من أجل اختلافهم فى تأويل قوله: (فإما منًّا بعد وإما فداء (فقال السدى وابن جريج: نسخها قوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم (وقال قتادة: نسخها قوله تعالى: (وإما تثقفنهم فى الحرب فشرد بهم من خلفهم (وقال الطبرى: روى عن أبى بكر الصديق أنه قال: لا يفادى بأسير المشركين وإن أعطى فيه كذا وكذا مديًا من المال. قال الزهرى: كتب عمر بن الخطاب: اقتلوا كل من جرت عليه المواسي. وهو قول الزهرى ومجاهد، واعتلوا لإنكارهم إطلاق الأسرى بقوله تعالى: (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا (الآيات. قالوا: فأنكر الله إطلاق أسارى بدر على نبيه على الفداء، فغير جائز لأحد أن يتقدم على فعله، وسنة الله تعالى فى أهل الكفر به إن كانوا من أهل الأوثان، فقتلهم على كل حال؛ لقوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم (الآية. وإن كانوا من أهل الكتاب، حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، فأما إطلاقهم على فداء يؤخذ منهم فتقوية لهم. وقال الضحاك: قوله تعالى: (فإما منا بعد وإما فداء (هى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 ناسخة لقوله تعالى: (فاقتلوا المشرككين حيث وجدتموهم (ومثل هذا عن ابن عمر قال: أليس بهذا أمرنا الله؟ قال تعالى: (حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء (وهو قول عطاء والشعبى والحسن البصرى، كرهوا قتل الأسير، وقالوا: مُنَّ عليه أو فاده. وبمثل هذا استدل الطحاوى فقال: ظاهر قوله تعالى: (فإما منا بعد وإما فداء (يقتضى المن أو الفداء ويمنع القتل. قالوا: ولو كان لنا من قتلهم بعد الإيثاق ما لنا قبله لم يفهم قوله تعالى: (حتى إذا أُثخنتموهم فشدوا الوثاق (فدل أن حكم الكافر بعد الاستيثاق والأسر خلاف حكمه قبل ذلك، قال أبو عبيد: والقول عندنا فى ذلك أن الآيات جميعًا محكمات لا نسخ فيهن، يبين ذلك ما كان من أحكام رسول الله فيهم وذلك أنه عمل بالآيات كلها، من القتل والمن والفداء، حتى توفاه الله على ذلك، فكان أول أحكامه فيهم يوم بدر، فعمل بها كلها يومئذ، بدأ بالقتل فقتل عقبة ابن أبى معيط والنضر بن الحارث فى قفوله، ثم قدم المدينة فحكم فى سائرهم بالفداء، ثم حكم يوم الخندق سعد بن معاذ بقتل المقاتلة، وسبى الذرية، فصوب ذلك النبى (صلى الله عليه وسلم) وأمضاه. ثم كانت غزاة بنى المصطلق رهط جويرية بنت الحارث، فاستحياهم جميعًا وأعتقهم. ثم كان فتح مكة، فأمر بقتل ابن خطل ومقيس والقينتين، وأطلق الباقين، ثم كانت حنين فسبى هوازن، ومَنَّ عليهم، وقتل أبا غرة الجمحى يوم أُحد وقد كان مَنَّ عليه يوم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 بدر وأطلق ثمامة بن أثال. وكانت هذه أحكامه (صلى الله عليه وسلم) بالمن والفداء والقتل، فليس شيئًا منها منسوخًا، والأمر فيهم أن الإمام وهو مخير بين القتل والمن والفداء، يفعل الأفضل فى ذلك للإسلام وأهله، وهو قول مالك والشافعى وأحمد وأبى ثور. قال المهلب: وأما قوله تعالى: (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض (فإن هذه الآية نزلت فى أسرى بدر، أخذ فيهم (صلى الله عليه وسلم) رأى أبى بكر الصديق فى استحيائهم وقبول الفداء منهم، وكان عمر أشار عليه بقتلهم، وأشار عليه غيره بحرقهم استبلاغًا فيهم، فبات النبى يرى رأيه فى ذلك، وكانت أول وقعة أوقعها الله تعالى بالكفار، فأراد الله أن يكسر كيدهم بقتلهم، فعاتب النى (صلى الله عليه وسلم) وأنزل عليه: (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا (يعنى: الفدية،) والله يريد الآخرة (أى: إعلاء كلمته، وإظهار دينه بقتلهم. وقال (صلى الله عليه وسلم) : (لو نزلت آية عذاب ما نجا منها إلا عمر) لأنهم طلبوا الفداء، وكانت الغنائم محرمة عليهم. وقال الطبرى: فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لو نزلت آية عذاب ما نجا منها غير عمر) وفى قوله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (إن قيل: كيف استحقوا هذه اللائمة العظيمة؟ قال الطبرى: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) ومن شهد معه بدرًا لم يخالفوا أمر ربهم؛ فيستوجبوا اللائمة، وإن الذين اختاروا فداء الأسرى على قتلهم اختاروا أوهن الرأيين فى التدبير على أحزمهما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 وأقلهما نكاية فى العدو، فعاتبهم الله على ذلك، وأخبرهم أن الأنبياء قبل محمد لم تكن الغنائم لهم حلالا، فكانوا يقتلون من حاربوا ولا يأسرونه على طلب الفداء) لولا كتاب من الله سبق (لولا قضاؤه أنه يحل لكم الغنيمة ولا يعذب من شهد بدرًا) لمسكم فيما أخذتم (من الفداء) عذاب عظيم (. وفى حديث ثمامة من الفقه جواز المن على الأسير بغير مال، وهو قول مالك والشافعى وأحمد وأبى ثور وقالوا: لا بأس أن يفادى بأسرى المسلمين وبالمال أيضًا. وقال الطحاوى: اختلف قول أبى حنيفة فى هذه المسألة، فروى عنه أن الأسرى لا يفادون ولا يردون حربًا؛ لأن فى ذلك قوة لأهل الحرب، وإنما يفادون بالمال وبما سواه مما لا قوة لهم فيه، وروى عنه أنه لا بأس أن يفادى بالمشركين أسارى المسلمين، وهو قول أبى يوسف، ومحمد، قال ابن القصار: ومما يرد به على أبى حنيفة أنا اتفقنا معه أن مكة فتحت عنوة. وأن نبى الله من عليهم بغير شيء كما فعل بثمامة. 8 - باب هَلْ لِلأسِيرِ أَنْ يَقْتُلَ أوَ يَخْدَعَ الَّذِينَ أَسَرُوهُ حَتَّى يَنْجُوَ مِنَ الْكَفَرَةِ 844 / فيه: الْمِسْوَرُ عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) . قال المؤلف: يريد حديث: (صالح النبى (صلى الله عليه وسلم) المشركين بالحديبية، على أن يردوا من هرب إليهم مسلمًا، فهرب أبو بصير إلى النبى، فأرسلوا فى طلبه رجلين إلى النبى؛ وقالوا: العهد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 الذى جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إنى لأرى سيفك يا فلان جيدًا فاستله الآخر، وقال: أجل، والله إنه لجيد، لقد جربت به، ثم جربت. فقال له أبو بصير: أرانى أنظر إليه، فأمكنه منه فضربه به حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال الرسول حين رآه: لقد رأى هذا ذعرًا فجاء أبو بصير، فقال: يا نبى الله، قد أوفى الله بذمتك ورددتنى إليهم، ثم أنجانى الله منهم. فقال (صلى الله عليه وسلم) : ويل أمه مسعر حرب، لو كان له أحد. فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده، فخرج حتى أتى سيف البحر، ولحق به أبو جندل، وكل من أسلم من قريش، حتى اجتمعت منهم عصابة، وكانوا لا يسمعون بعير خرجت لقريش إلا قتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) تناشده الله والرحم، فمن أتاه منهم فهو آمن، فأنزل الله تعالى: (وهو الذى كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة (وذكر الحديث. اختلف العلماء فى الأسير، هل له أن يقتل المشركين أو يخدعهم حتى ينجو منهم، فقالت طائفة من العلماء: لا ينبغى للأسير المقام بدار الحرب إذا أمكنه الخروج، وإن لم يتخلص منهم إلا بقتلهم، وأخذ أموالهم، وإحراق دورهم؛ فعل ما شاء من ذلك، وهو قول أبى حنيفة والطبرى، وقال أشهب: إن خرج به العلج فى الحديد ليفادى به، فله أن يقتله إن أمكنه ذلك وينجو. واختلفوا إذا أمنوه، وعاهدهم ألا يهرب، فقال الكوفيون: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 إعطاؤه العهد على ذلك باطل. وقال الشافعى: له أن يخرج ولا يأخذ شيئًا من أمولهم؛ لأنه قد أمنهم بذلك كما أمنوه. وقال مالك: إن عاهدهم على ذلك فلا يجوز أن يهرب إلا بإذنهم. وهو قول سحنون وابن المواز، قال ابن المواز: وهذا بخلاف إذا أجبروه ألا يهرب بطلاق أو عتاق، أنه لا يلزمه، وذلك لأنه مكره. ورواه أبو زيد عن ابن القاسم. وقال غيره: لا معنى لقول من فرق بين يمينه وعهده ألا يهرب؛ لأن حالته حال المكره حلف لهم أو وعدهم أو عاهدهم، سواء أمنوه أو أخافوه؛ لأن الله فرض على المؤمن ألا يبقى تحت أحكام الكفار، وأوجب عليه الهجرة من دارهم، فخروجه على كل وجه جائز، والحجة فى ذلك (خروج أبى بصير، الرسول فعله ورضاه) . 9 - باب إِذَا حَرَّقَ الْمُشْرِكُ الْمُسْلِمَ هَلْ يُحَرَّقُ 845 / فيه: أَنَس، أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً، قَدِمُوا عَلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْغِنَا رِسْلا، فَقَالَ: (مَا أَجِدُ لَكُمْ إِلا أَنْ تَلْحَقُوا بِالذَّوْدِ، فَانْطَلَقُوا، فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا) ، حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا، وَقَتَلُوا الرَّاعِىَ، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ - إلى قوله -: فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِمَسَامِيرَ، فَأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ بِهَا. . . . . الحديث. 1846 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنَ الأنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ، فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأمَمِ تُسَبِّحُ) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 قال المهلب: قوله: باب إذا أحرق المشرك المسلم هل يحرق، ولم يذكر سمل العرنيين أعين الرعاة، يدل أن ذلك من فعلهم مروى، إلا أن طرق ذلك ليست من شرط كتابه. قال المؤلف: وسأذكر الروايات بذلك فى كتاب المحاربين إن شاء الله وقد يخرج معنى الترجمة من هذا الحديث بالدليل لو لم يصح سمل العرنيين والسمل العرنيين للرعاة، وذلك أن النبى - (صلى الله عليه وسلم) - تحريق بالنار، استدل منه البخارى أنه لما جاز تحريق أعينهم بالنار ولو كانوا لم يحرقوا أعين الرعاء، أنه أولى بالجواز تحريق المشرك إذا أحرق المسلم. وروى سحنون عن ابن القاسم أنه لا بأس برمى المركب من مراكب العدو بالنار إذا بدءونا بالرمى، وإن كان فيهم أسرى مسلمين ونساء وصبيان لهم. وكذلك حديث النبى (صلى الله عليه وسلم) الذى أحرق فيه النمل، فيه دليل على جواز التحريق؛ لأن الله إنما عاتبه فى تحريق جماعة النمل التى لم تقرصه، ولم يعلمه أن ذلك من فعله حرام، ولا أنه أتى كبيرة، فتلزمه التوبة منها؛ لأن الأنبياء معصومون من الكبائر، وقد تقدم ذكر من أجاز التحريق بالنار، ومن كرهه من السلف فى باب: (لا يعذب بعذاب الله) قبل هذا. وسيأتى شيء منه فى كتاب المحاربين. والرسل: اللبن. وترجل النهار: ارتفع. فى كتاب العين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 0 باب: حرق الدور والنخيل 847 / فيه: جَرِيرٌ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا تُرِيحُنِى مِنْ ذِى الْخَلَصَةِ؟ - وَكَانَ بَيْتًا فِى خَثْعَمَ يُسَمَّى كَعْبَةَ الْيَمَانِيَةِ - قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فِى خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ، وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ، قَالَ: وَكُنْتُ لا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَضَرَبَ فِى صَدْرِى، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابِعِهِ فِى صَدْرِى، وَقَالَ: (اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا) ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهَا فَحَرَّقَهَا وَكَسَرَهَا، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يُخْبِرُهُ، فَقَالَ رَسُولُ جَرِيرٍ: وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا، كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْوَفُ - أَوْ أَجْرَبُ - قَالَ: (فَبَارَكَ فِى خَيْلِ أَحْمَسَ، وَرِجَالِهَا، خَمْسَ مَرَّاتٍ) . 1848 / وفيه: ابْن عُمَرَ، أن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، حَرَّقَ نَخْلَ بَنِى النَّضِيرِ. قال المهلب: فى حديث جرير من الفقه جواز هتك كل ما افتتن الناس به من بناء أو إنسان أو حيوان أو غيره. وفى حديث ابن عمر بيان أن للمسلمين أن يكيدوا عدوهم من المشركين بكل ما فيه تضعيف شوكتهم، وتوهين كيدهم وتسهيل الوصول إلى الظفر بهم من قطع ثمارهم، وتغوير مياههم والحول بينهم وبين ما يتغذون به من الأطعمة والأشربة، والتضييق عليهم بالحصار، وذلك أن رسول الله لما أمر بتحريق نخل بنى النضير كان معلومًا أن ما كان من نظير ذلك من قطع أسباب معاشهم وتغوير مياههم فجائز فعله بهم. وقد روى عن على بن أبى طالب قال: (أمرنى رسول الله أن أغور مياه بدر) قاله الطبرى. وفيه الدعاء للجيوش إذا بعثت، وفيه بركة دعوة النبى، وفيه البشارة فى الفتوح، وفيه الدليل على صحة قول من أباح إضرام النيران فى حصون العدو، ونصب المجانيق عليهم، ورميهم بالحجارة، وكل ذلك يعمل فى الضر مثل عمل النار أو نحوه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 واختلف العلماء فى قطع شجر المشركين، وتخريب بلادهم، فرخصت فى ذلك طائفة وكرهته طائفة، فممن أجاز ذلك مالك، والكوفيون، والشافعي. قال الكوفيون: تحرق شجرهم، وتخرب بلادهم، وتذبح الأنعام، وتحرق إذا لم يمكن إخراجها. وقال مالك: يحرق النخل ولا تعرقب المواشي. وقال الشافعى: تحرق الأشجار المثمرة والبيوت، وأكره تحريق الزرع والكلأ. وأما من كره ذلك: فروى الزهرى عن سعيد بن المسيب أن أبا بكر الصديق قال فى وصية الجيش الذى وجه إلى الشام: (لا تغرقن نخلا ولا تحرقنها، ولا تعقروا بهيمة، ولا شجرة مثمرة ولا تهدموا بيعة) وقال الليث: أكره حرق النخل والشجر المثمر، ولا تعرقب بهيمة، وهو قول الأوزاعى فى رواية، وبه قال أبو ثور، والحجة فى قول من أجاز تحريقها؛ لشهادة الكتاب والسنة له، قال تعالى: (ما قطعتم من لينة (الآية. قال ابن عباس: اللينة: النخلة والشجرة. وقال ابن إسحاق: التحريق سنة إذا كان أنكى للعدو. وحديث جرير وابن عمر يشهد لصحة هذا القول. وقد تأول بعض الفقهاء أن أمر أبى بكر الصديق: (ألا تحرقن شجرة) إنما كان من أجل أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أخبرهم أنهم يفتتحونها. وقال الطحاوى: خبر أبى بكر مرسل؛ لأن سعيد بن المسيب لم يولد فى أيام أبى بكر الصديق، وقال الطبرى: نهى أبى بكر عن تحريق النخل وتغريقه إنما هو نهى أن يقصد بذلك ويتعمد، فأما إذا أصابه التحريق والغرق فى خلال الغارة فغير متبوع به فى الدنيا والآخرة من فعله، كما النهى عن قتل النساء والصبيان، إنما هو نهى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 عن قصدهم بالقتل وتعمدهم بأعيانهم، فأما من أصابته الخيل فى البيات، أو هلك عند سقوط حصن المدينة عليهم عند هدم المسلمين إياه إرادة وصولهم إلى المقاتلة، أو من أحرقته النار، أو غرقه الماء على هذا الوجه؛ فغير داخل فى الذين نهى الرسول عن قتلهم؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد نصب المنجنيق على الطائف، ولا شك أن حجارته إذا وقعت فى الحصن ربما أصابت المرأة والطفل، فلو كان سبيل ما أصابه ذلك سبيل ما أصاب الرامى بيده متعمدًا كان (صلى الله عليه وسلم) لا ينصبه خشية أن تصيب حجارته من نهى عن قتله، فلما فعل ذلك وأباحه لأمته كان مخالفًا سبيل القصد والعمد فى ذلك. واختلفوا إذا غنم المسلمون مواشى الكفار ودوابهم، وخافوا من كرة عدوهم وأخذها من أيديهم. فقال مالك وأبو حنيفة: تعرقب وتعقر حتى لا ينتفعوا بها. وقال الشافعى: لا يحل قتلها، ولا عقرها، ولكن تخلى. واحتج ابن القصار فى ذلك فقال: لا خلاف بيننا أن المشرك لو كان راكبًا لجاز لنا أن نعرقب ما تحته ونقتله؛ لنتوصل بذلك إلى قتله، فكذلك إذا لم يكن راكبًا، وكذلك فعل ما فيه توهينهم وضعفهم بمنزلة واحدة؛ ألا ترى أن قطع شجرهم وإتلاف زروعهم يجوز؛ لأن فى ذلك ضعفهم وتلفهم وكذلك خيلهم ومواشيهم وقد مدح الله تعالى من فعل ذلك فقال: (ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح (فهو عام فى جميع ما ينالون ولما كانت نفوسهم وأموالهم سواء فى استحلالنا إياهم ثم جاز قتلهم إذا لم يتمكن من أسرهم كذلك يجوز إتلاف أموالهم التى يتقوون بها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 1 - باب: قتل المشرك النائم 849 / فيه: الْبَرَاءِ بَعَثَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، رَهْطًا مِنَ الأنْصَارِ إِلَى أَبِى رَافِعٍ: لِيَقْتُلُوهُ، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَدَخَلَ حِصْنَهُمْ، قَالَ: فَدَخَلْتُ فِى مَرْبِطِ دَوَابَّ لَهُمْ، قَالَ: وَأَغْلَقُوا بَابَ الْحِصْنِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ، فَقَدُوا حِمَارًا لَهُمْ فَخَرَجُوا يَطْلُبُونَهُ، فَخَرَجْتُ فِيمَنْ خَرَجَ، أُرِيهِمْ أَنَّنِى أَطْلُبُهُ مَعَهُمْ، فَوَجَدُوا الْحِمَارَ، فَدَخَلُوا، وَدَخَلْتُ، وَأَغْلَقُوا بَابَ الْحِصْنِ لَيْلا، وَوَضَعُوا الْمَفَاتِيحَ فِى كَوَّةٍ حَيْثُ أَرَاهَا، فَلَمَّا نَامُوا أَخَذْتُ الْمَفَاتِيحَ، فَفَتَحْتُ بَابَ الْحِصْنِ، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا رَافِعٍ، فَأَجَابَنِى، فَتَعَمَّدْتُ الصَّوْتَ فَضَرَبْتُهُ، فَصَاحَ، فَخَرَجْتُ [ثُمَّ] جِئْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ كَأَنِّى مُغِيثٌ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا رَافِعٍ، وَغَيَّرْتُ صَوْتِى، فَقَالَ: مَا لَكَ؟ لأمِّكَ الْوَيْلُ، قُلْتُ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: لا أَدْرِى، مَنْ دَخَلَ عَلَىَّ فَضَرَبَنِى، قَالَ: فَوَضَعْتُ سَيْفِى فِى بَطْنِهِ، فَتَحَامَلْتُ عَلَيْهِ حَتَّى قَرَعَ الْعَظْمَ، ثُمَّ خَرَجْتُ، وَأَنَا دَهِشٌ، فَأَتَيْتُ سُلَّمًا لَهُمْ؛ لأنْزِلَ مِنْهُ فَوَقَعْتُ، فَوُثِئَتْ رِجْلِى، فَخَرَجْتُ إِلَى أَصْحَابِى، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِبَارِحٍ حَتَّى أَسْمَعَ النَّاعِيَةَ، فَمَا بَرِحْتُ حَتَّى سَمِعْتُ نَعَايَا أَبِى رَافِعٍ تَاجِرِ أَهْلِ الْحِجَازِ، فَقُمْتُ، وَمَا بِى قَلَبَةٌ حَتَّى أَتَيْنَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَأَخْبَرْنَاهُ. وقال البراء: (إن عبد الله بن عتيك دخل عليه بيته فقتله وهو نائم) . قال المهلب: فيه جواز الاغتيال لمن أغار على رسول الله بيد أو مال، أو (راعب) ، وكان أبو رافع يعادى رسول الله ويؤلب الناس عليه، وهذا من باب قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الحرب خدعة) . فيه: جواز التجسس على المشركين، وطلب غرتهم، وفيه الاغتيال فى الحرب، والإيهام بالقول، وفيه الأخذ بالشدة فى الحرب، والتعرض لعدد كثير من المشركين، والإلقاء إلى التهلكة فى سبيل الله، وأما الذى نهى عنه من ذلك فهو فى الإنفاق فى سبيل الله، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 وألا يخل يده من المال فيه رجوعًا وضياعًا، وهى رحمة من الله ورخصة، ومن أخذ بالشدة فمباح له ذلك وأحب إلينا ألا يأخذ بالشدة فى إخلاء يده من المال؛ لوقوع النهى فيه خاصة، وفيه الحكم بالدليل المعروف والعلامة المعروفة على الشيء؛ لحكم هذا الرجل بالواعية على موت أبى رافع. وقال صاحب العين: الواعية: الصارخة التى تندب القتيل، والواعى: الصوت، والوعى: جلبة وأصوات الكلاب فى الصيد إذا جدت. وقوله: (فما برحت حتى سمعت نعايا أبى رافع) المعنى: انع أبا رافع، جعل دلالة الأمر فيه، وعلامة الجزم آخره بغير تنوين. كما قالت العرب فى نظير ذلك من (أدركها) : دراكها، ومن (نظمت) : نظام كقول الراجز: دراكها من إبل دراكها يعنى: أدركها. وزعم سيبويه أنه يطرد هذا الباب فى الأفعال الثلاثية كلها، أن يقال فيها: فعال بمعنى: افعل. نحو: حذار، ومتاع، وتراك، كما تقول اترك، احذر امتع، وأنشد للكميت: نعا جذامًا غير موت ولا قتل أراد: انع جذامًا. وقوله: (وما بى قلبة) قال الفراء: أصله من القلاب، وهو داء يصيب الإبل، وزاد الأصمعى: يشتكى البعير منه قلبه، فيموت من يومه، فقيل: ذلك لكل سالم ليست به علة. وقال ابن الأعرابى: معناه: ليست به علة يقلب لها فينظر إليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 2 - باب لا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ 850 / فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ) . 1851 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وزاد: (فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا) . نهى الرسول أمته عن تمنى لقاء العدو؛ ولأنه لا يعلم ما يئول أمره إليه ولا كيف ينجو منه، وفى ذلك من الفقه النهى عن تمنى المكروهات، والتصدى للمحذورات، ولذلك سأل السلف العافية من الفتن والمحن؛ لأن الناس مختلفون فى الصبر على البلاء، ألا ترى الذى أحرقته الجراح فى بعض المغازى مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقتل نفسه، وقال الصديق: (لأن أعافى فأشكر أحب إلى من أن أبتلى فأصبر) . وروى عن على بن أبى طالب أنه قال لابنه: (يا بنى لا تدعون أحدًا إلى المبارزة ومن دعاك إليها فاخرج إليه؛ لأنه باغ، والله تعالى قد ضمن نصر من بغى عليه) . وأما أقوال الفقهاء فى المبارزة، فذكر ابن المنذر قال: أجمع كل من نحفظ عنه من العلماء أن على المرء أن يبارز، ويدعو إلى البراز بإذن الإمام، غير الحسن البصرى؛ فإنه يكره المبارزة ولا يعرفها، هذا قول الثورى، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق. وأباحت طائفة البراز، ولم يذكر بإذن الإمام ولا بغير إذنه، هذا قول مالك، والشافعى، وسئل مالك عن الرجل يقول بين الصفين: من يبارز؟ قال: ذلك إلى نيته، إن كان يريد به وجه الله فأرجو أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 لا يكون به بأس، قد كان يفعل ذلك من مضى. وقال أنس بن مالك: قد بارز البراء بن مالك مرزبان الزارة فقتله. وقال أبو قتادة: (بارزت رجلا يوم حنين فقتلته، وأعطانى النبى (صلى الله عليه وسلم) سلبه) وليس فى خبره أنه استأذن الرسول فى ذلك، واختلفوا فى معونة المسلم المبارز على المشرك، فرخص فى ذلك الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وذكر الشافعى قضية حمزة وعبيدة، ومعونة بعضهم بعضا، قال: فأما إن دعا مسلم مشركًا، أو مشرك مسلمًا إلى أن يبارزه، وقال له: لا يقاتلك غيرى أحببت أن يكف عن أن يحمل عليه غيره. وكان الأوزاعى يقول: لا تعينوه على هذا. قيل للأوزاعى: وإن لم يشترط ألا يخرج إليه غيره؟ قال: وإن لا؛ لأن البارزة إنما تكون على هذا، ولو حجزوا بينهما ثم خلوا سبيل العلج المبارز، فإن أعان العدو صاحبهم فلا بأس أن يعين المسلمون صاحبهم. 3 - باب: الحَرْبُ خَدْعَةٌ 852 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (هَلَكَ كِسْرَى، ثُمَّ لا يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَقَيْصَرٌ لَيَهْلِكَنَّ، ثُمَّ لا يَكُونُ قَيْصَرٌ بَعْدَهُ، وَلَتُنَفَقَنَّ كُنُوزُهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ سَمَّى الْحَرْبَ خَدْعَةً) . 1853 / وفيه: جَابِر، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الْحَرْبُ خَدْعَةٌ) . قال المؤلف: ذكر بعض أهل السير أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال هذا يوم الأحزاب لما بعث نعيم ابن مسعود أن يحول بين قريش وغطفان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 ويهود، ومعناه أن المماكرة فى الحرب أنفع من المكاثرة والإقدام على غير علم، ومنه قيل: نفاذ الرأى فى الحرب أنفذ من الطعن والضرب. وقال المهلب: الخداع فى الحرب جائز كيفما أمكن ذلك إلا بالأيمان والعهود والتصريح بالأيمان، فلا يحل شيء من ذلك. قال الطبرى: فإنما يجوز من الكذب فى الحرب ما يجوز فى غيرها من التعريض مما ينحى به نحو الصدق مما يحتمل المعنى الذى فيه الخديعة والغدر والألغاز، لا القصد إلى الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه. قال المهلب: ومن ذلك أن يقول للمبارز له: خذ حزام فرسك، قد انحل؛ يشغله عن الاحتراس منه فيجد فرصة، وهو يريد أن حزام سرجه قد انحل فيما مضى من الزمان، أو يخيره بخبر يفظعه من موت أميره وهو يريد موت المنام أو الدين، ولا يكون قصد الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه البتة؛ لأن ذلك حرام، ومن ذلك ما روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه كان إذا أراد غزو قوم ورى بغيرهم. وقال: حديث أبى هريرة عام فى كسرى، وخاص فى قيصر. ومعناه: لا قيصر بعده فى أرض الشام، وقد دعا النبى لقيصر لما قرأ كتابه أن يثبت ملكه فلم يذهب ملك الروم أصلا إلا من الجهة التى جلى منها. وأما كسرى فمزق كتاب رسول الله فدعا عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يمزق ملكه كل ممزق، فانقطع إلى اليوم. وفيه: من علامات النبوة إخباره (صلى الله عليه وسلم) أن كنوزهما ستنفق فى سبيل الله، فكان كذلك. وفى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الحرب خدعة) لغات، قال سلمة بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 عاصم تلميذ الفراء: من قال الحرب خدعة فهو يخدع وإذا خدع أحد الفريقين صاحبه فكأنها خدعت هى، ومن قال: خدعة، فقد وصفها باسم المصدر، فيحتمل أن يكون فى معنى خدعة تخدعه أى: هى تخدع وصف المفعول بالمصدر، كما تقول: درهم ضرب الأمير، وإنما هو مضروب الأمير. وقال بعض أهل اللغة: معنى الخدعة: المرة الواحدة. أى: من خدع فيها مرة واحدة لم تقل العثرة بعدها. وقال ثعلب: الحرب خدعة، هذه أفصح اللغات بفتح الخاء وإسكان الدال، قال: وذكر لى أنها لغة النبى (صلى الله عليه وسلم) . 4 - باب: الكذب فى الحرب 854 / فيه: جَابِر، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ، فَإِنَّهُ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ) ؟ قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (نَعَمْ) ، قَالَ: فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا - يَعْنِى محمدًا - قَدْ عَنَّانَا، وَسَأَلَنَا الصَّدَقَةَ، قَالَ أَيْضًا: وَاللَّهِ لَتَمَلُّنَّهُ، قَالَ: فَإِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاهُ، فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُهُ، قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُهُ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنْهُ فَقَتَلَهُ. قال المؤلف: روى ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن، عن أم كلثوم قالت: (ما سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) رخص فى الكذب إلا فى ثلاث كان (صلى الله عليه وسلم) يقول: لا أعدهن كذبًا الرجل يصلح بين الناس، والرجل يحدث زوجته، والرجل يقول فى الحرب) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 فسألت بعض شيوخى عن معنى هذا الحديث، فقال لى: إن الكذب الذى أباحه (صلى الله عليه وسلم) فى الحرب هى المعاريض التى لا يفهم منها التصريح بالتأمين؛ لأن من السنة المجتمع عليها أن من أمن كافرا فقد حقن دمه، ولهذا قال عمر بن الخطاب: يتبع أحدكم العلج حتى إذا اشتد فى الجبل قال له: مترس، ثم قتله، والله لا أوتى بأحد فعل ذلك إلا قتلته. وقال المهلب: موضع الكذب من هذا الحديث قول محمد بن مسلمة: قد عنانا وسألنا الصدقة؛ لأن هذا الكلام يحتمل أن يتأول منه أن اتباعهم له إنما هو للدنيا على نية كعب ابن الأشرف، وليس هو بكذب محض بل هو تورية ومن معاريض الكلام؛ لأنه ورى له عن الحق الذى اتبعوه له فى الآخرة، وذكر العناء الذى يصيبهم فى الدنيا والنصب، أما الكذب الحقيقى فهو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به، وليس فى قول ابن مسلمة إخبار عن الشيء على خلاف ما هو به، وإنما هو تحريف لظاهر اللفظ، وهو موافق لباطن المعنى. ولا يجوز الكذب الحقيقى فى شيء من الدين أصلا، ومحال أن يأمر بالكذب وهو (صلى الله عليه وسلم) يقول: (من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) وإنما أذن له أن يقول ما لو قاله بغير إذن النبى (صلى الله عليه وسلم) وسمع منه لكان دليلا على النفاق، ولكن لما أذن له فى القول لم يكن معدودًا عليه أنه نفاق، وسيأتى فى كتاب الصلح زيادة فى هذا المعنى فى (باب ليس الكاذب الذى يصلح بين الناس) إن شاء الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 5 باب: الفتك فى الحرب 855 / - فيه: جَابِر، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ) ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: (نَعَمْ) ، قَالَ: فَأْذَنْ لِى فَأَقُولَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. الفتك فى الحرب على وجهين: أحدهما محرم، والثانى جائز، فالفتك الذى يحرم به الدم أن يصرح بلفظ يفهم منه التأمين. فإذا أمنه فقد حرم بذلك دمه والغدر به وعلى هذا جماعة العلماء، وأما الوجه المباح منه فهو أن يخادعه بألفاظ هى معاريض غير تصريح بالتأمين، فهذا يجوز؛ لأن الحرب خدعة. قال المؤلف: واختلف فى تأويل قتل ابن الأشرف على وجوه: فقيل: إن قتله هو من هذا الباب المباح؛ لأن ابن مسلمة لم يصرح له بشيء من لفظ التأمين، وإنما أتاه بمعاريض من القول فيجوز هذا أن يسمى: فتكًا على المجاز. وفيه وجه آخر قاله بعض شيوخنا قال: إن قتل ابن الأشرف هو من باب أن من آذى الله ورسوله قد حل دمه، ولا أمان له يعتصم به فقتله جائز على كل حال؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما قتله بوحى من الله وأذن فى قتله فصار ذلك أصلا فى جواز قتل من كان لله ولرسوله حربًا، عن الطبري. قال غيره: ألا ترى لو أن رجلا أدخل رجلا مشركًا فى داره فأمنه فسب عنده النبى (صلى الله عليه وسلم) حل بذلك للذى أمنه قتله، ونحو هذا ما حكاه ابن حبيب، قال: سمعت المدنيين من أصحاب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 مالك يقولون: إنما تجب الدعوة لكل من لم يبلغه الإسلام، ولا يعلم ما يقاتل عليه، فأما من قد بلغه الإسلام، وعلم ما يدعى إليه، ومن حارب وحورب مثل الروم والإفرنج، فالدعوة فيما بيننا وبينهم مطرحة ولا بأس بتبييت مثل أولئك بالغارة وتصبيحهم، وانتهاز الفرصة فيهم بلا دعوة، وقد بعث رسول الله عبد الله بن أنيس الجهنى إلى عبد الله ابن نبيح الهذلى فاغتاله بالقتل، وهو بعرفة من جبال عرفة، وبعث نفرًا من الأنصار إلى ابن أبى الحقيق، وإلى كعب بن الأشرف فهجموا عليهما بالقتل فى بيوتهما بخيبر. قال المؤلف: فلا يجوز أن يقال: إن ابن الأشرف قتل غدرًا؛ لأنه لم يكن معاهدًا، ولا كان من أهل الذمة، ومن قال: إنه قتل غدرًا فهو كافر ويقتل بغير استتابة؛ لأنه تنقص النبى (صلى الله عليه وسلم) ورماه بكبيرة، وهو الغدر وقد نزهه الله عن كل دنية، وطهره من كل ريبة. ألا ترى قول هرقل لأبى سفيان: سألتك: هل يغدر؟ فزعمت أن لا، وكذلك الرسل لا يغدرون، وإنما قال هذا هرقل؛ لأنه وجد فى الإنجيل صفته، وصفة جميع الأنبياء عليهم السلام أنه لا يجوز عليهم صفات النقص؛ لأنهم صفوة الله وهم معصومون من الكبائر، والغدر كبيرة، وسيأتى فى كتاب الرهون فى باب (رهن السلاح) زيادة فى معنى قتل كعب بن الأشرف إن شاء الله. وروى فى الأثر أن (تاس السبائى) قال فى مجلس على بن أبى طالب: إن ابن الأشرف قتل غدرًا. فأمر به على فضرب عنقه. وقد قال مالك: من تنقص النبى (صلى الله عليه وسلم) فإنه يقتل، ومن قال: إن زر النبى (صلى الله عليه وسلم) وسخة يريد بذلك الإزراء عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 قتل، قال: ومن سبه قتل بغير استتابة إن كان مسلمًا، وإن كان ذميا قتل قبل أن يسلم. وقال الكوفيون: من سب النبى فقد ارتد، وإن كان ذميا عزر ولم يقتل، وسيأتى تمام هذه المسألة، والحجة فيها فى موضعه إن شاء الله. 6 - باب مَا يَجُوزُ مِنَ الاحْتِيَالِ وَالْحَذَرِ مَعَ مَنْ يَخْشَى مَعَرَّتَهُ 856 / - فيه: ابْن عُمَرَ، انْطَلَقَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَمَعَهُ أُبَىُّ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ، فَحُدِّثَ بِهِ فِى نَخْلٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ طَفِقَ يَتَّقِى بِجُذُوعِ النَّخْلِ، وَابْنُ صَيَّادٍ فِى قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْرَمَةٌ، فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا صَافِ، هَذَا مُحَمَّدٌ، فَوَثَبَ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ) . قال المهلب: فيه الترجمة، وفيه ألا يجعل على من ظهر منه مكروه؛ حتى يتيقن أمره، وفيه أن الإمام إذا أشكل عليه أمر من جهة الشهادات عنده أن يلى ذلك بنفسه، فيباشره؛ حتى يسمع ما نقل إليه ويرى ما شهد به عنده، فبالعيان تنكشف الريب. وفيه نهوض السلطان راجلا ليعرف ما يحتاج إليه، وفيه زجر أهل الباطل بزجر الكلاب، وفيه ترك عقوبة غير البالغ من الرجال، وقد تقدم فى (كتاب الجنائز) فى باب: (هل يعرض على الصبى الإسلام) شيء من معنى هذا الحديث، وسيأتى شيء منه فى (كتاب الاعتصام) فى باب (من رأى ترك النكير حجة لا من غير الرسول) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 7 - باب الرَّجَزِ فِى الْحَرْبِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ فِى حَفْرِ الْخَنْدَقِ 857 / فيه: سَهْلٌ وَأَنَسٌ، عَنِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وَيَزِيدُ، عَنْ سَلَمَةَ. 1858 / وفيه: الْبَرَاءِ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَهُوَ يَنْقُلُ التُّرَابَ حَتَّى وَارَى التُّرَابُ شَعَرَ صَدْرِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الشَّعَرِ، وَهُوَ يَرْتَجِزُ بِرَجَزِ عَبْدِ اللَّهِ: اللَّهُمَّ لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا. . . إلى قوله: إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا. وَيَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ. قال المهلب: فيه ابتذال الإمام وتوليه المهنة فى التحصين على المسلمين لينشط الناس بذلك على العمل، ولذلك ارتجز هذا الرجز ليذكرهم ما يعملون ولمن يعملون ذلك، ويعرفهم أن الأمر أعظم خطرًا من ابتذالهم وتعبهم. وفيه أنه لا بأس برفع الصوت فى أعمال الطاعات إذا لم يكن مضعفًا عنها ولا قاطعًا دونها. 8 - باب: مَنْ لاَ يَثْبُتَ عَلَى الخَيْلِ 859 / فيه: جَرِيرٍ، مَا حَجَبَنِى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلا رَآنِى إِلا تَبَسَّمَ فِى وَجْهِى، وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ إِنِّى لا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِى صَدْرِى، وَقَالَ: (اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا) . فيه أن الرجل الوجيه فى قومه له حرمة ومكانة على من هو دونه؛ لأن جريرًا كان سيد قومه. وفيه أن لقاء الناس بالتبسم وطلاقة الوجه من أخلاق النبوة، وهو مناف للتكبر وجالب للمودة. وفيه فضل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 الفروسية وإحكام ركوب الخيل وأن ذلك مما ينبغى أن يتعلمه الرجل الشريف والرئيس. وفيه أنه لا بأس للعالم والإمام إذا أشار إلى إنسان فى مخاطبته أو غيرها أن يضع عليه يده، ويضرب بعض جسده، وذلك من التواضع وفيه استمالة النفوس. وفيه بركة دعوة النبى؛ لأنه قد جاء فى هذا الحديث أنه ما سقط بعد ذلك من الخيل. وقوله: (هاديًا مهديًا) من باب التقديم والتأخير الذى فى كلام العرب؛ لأنه لا يكون هاديًا لغيره إلا بعد أن يهتدى هو ويكون مهديًا. 9 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّنَازُعِ وَالاخْتِلافِ فِى الْحَرْبِ وَعُقُوبَةِ مَنْ عَصَى إِمَامَهُ وقوله: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا (الآية [الأنفال: 46] 860 / فيه: أَبُو مُوسى، بَعَثَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: (يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلا تَخْتَلِفَا) . 1861 / فيه: الْبَرَاءَ، جَعَلَ النَّبِىُّ، عَلَى الرَّجَّالَةِ يَوْمَ أُحُدٍ - وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلا - عَبْدَاللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: (إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ، فَلا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا، حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ، فَلا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ) ، فَهَزَمُوهُمْ، قَالَ: فَأَنَا وَاللَّهِ رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْدُدُنَ، قَدْ بَدَتْ خَلاخِلُهُنَّ وَسْوُقُهُنَّ، رَافِعَاتٍ ثِيَابَهُنَّ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 قَالَ أَصْحَابُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ: الْغَنِيمَةَ، أَىْ قَوْمِ الْغَنِيمَةَ، ظَهَرَ أَصْحَابُكُمْ، فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟ فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ، أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالُوا: وَاللَّهِ، لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ فَلَنُصِيبَنَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَلَمَّا أَتَوْهُمْ، صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ فَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ فَذَاكَ إِذْ يَدْعُوهُمْ الرَّسُولُ فِى أُخْرَاهُمْ، فَلَمْ يَبْق مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إلا اثْنَىْ عَشَرَ رَجُلا، فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ، وَكَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابُهُ أَصَابُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً، سَبْعِينَ أَسِيرًا، وَسَبْعِينَ قَتِيلا. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَفِى الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ؟ فَنَهَاهُمُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُجِيبُوهُ، ثُمَّ قَالَ: أَفِى الْقَوْمِ ابْنُ أَبِى قُحَافَةَ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ؟ ثُمَّ قَالَ: أَفِى الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ؟ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلاءِ، فَقَدْ قُتِلُوا، فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ، فَقَالَ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لأحْيَاءٌ كُلُّهُمْ، وَقَدْ بَقِىَ لَكَ مَا يَسُوءُكَ، قَالَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِى الْقَوْمِ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا، وَلَمْ تَسُؤْنِى، ثُمَّ أَخَذَ يَرْتَجِزُ: أُعْلُ هُبَلْ أُعْلُ هُبَلْ فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَفَلاَ تُجِيبُوه) ؟ قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: (قُولُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ) ، قَالَ: إِنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلا عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا تُجِيبُوه) ؟ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: (اللَّهُ مَوْلانَا وَلا مَوْلَى لَكُمْ) . قال المهلب: التنازع والخلاف هو سبب الهلاك فى الدنيا والآخرة؛ لأن الله تعالى قد عبر فى كتابه بالخلاف الذى قضى به على عباده عن الهلاك فى قوله: (ولا يزالون مختلفين (ثم قال: (ولذلك خلقهم (فقال قوم: خلقهم للخلاف. وقال آخرون: خلقهم ليكونوا: فريق فى الجنة وفريق فى السعير من أجل اختلافهم. وهذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 كثير فى كتاب الله، وقد أخبر الله تعالى - أن مع الخلاف يكون الفشل والكسل، فيتمكن العدو من المخالفين؛ لأنهم كانوا كلهم مدافعين دفاعًا واحدًا، فصار بعضهم يدافع بعضًا، فتمكن العدو. وفى حديث عبد الله بن جبير معاقبة الله على الخلاف، وعلى ترك الائتمار للرسول والوقوف عند قوله كما قال تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم (. وفى قوله: (حتى تخطفنا الطير) دليل على جواز الإغياء فى الكلام. وفيه بيان أن النبى لم ينهزم كل أصحابه. ونهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن جواب أبى سفيان تصاون عن الخوض فيما لا فائدة فيه، وإجابة عمر بعد نهى النبى إنما هى حماية للظن بالنبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قتل، وأن بأصحابه الوهن، فليس فى هذا عصيان للنبى فى الحقيقة، وإن كان عصيانًا فى الظاهر، فهو مما يؤجر به. وقوله: (قد بقى لك ما يسوؤك) أرهب عليه لما ظن به الوقيعة، وكسر شوكة الإسلام، وأنه قد مضى النبى وسادة أصحابه، فعرفهم أنهم أحياء، وأنه قد بقى له ما يسوؤه. و (هبل) صنم كانوا يعبدونه فى الجاهلية، وأمر النبى بجوابه؛ لأنه بعث بإعلاء كلمة الله تعالى وإظهار دينه، فلما كلم هذا الكلام لم يسعه السكوت عنه، حتى تعلو كلمة الله، ثم عرفهم فى جوابه أنهم يقرون أن الله أعلى وأجل لقولهم: (إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى (فلم يراجعه أبو سفيان، ولا نقض عليه كلامه، اعترافًا بما قال. ثم ذكر صنمًا آخر فقال: إن لنا العزى ولا عزى لكم. فأمر الرسول بمجاوبته، وعرف فى جوابه أن العزى ومثلها من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 الأصنام لا موالاة لها، ولا نصر. فقال: الله مولانا ولا مولى لكم. فعرف أن النصر من عند الله، وأن الموالاة والنصر لا تكون من الأصنام، فبكته بذلك، ولم يراجعه، وإنما ترك النبى مجاوبته بنفسه تهاونًا من خصام مثله، وأمر من ينوب عنه تنزهًا عنه. وقال الخطابى: (إن رأيتمونا تخطفنا الطير) مثل، والمعنى: إن رأيتمونا قد انهزمنا وولينا، فلا ترجعوا. يقال: فلان ساكن الطير، وواقع الطير إذا كان هاديًا وقورًا. وضرب المثل بالطير؛ لأنه لا يقع إلا على الشيء الساكن، ويقال للإنسان إذا طاش وأسرع: قد طار طيره. 0 - باب: مَنْ رَأَى العَدُوَّ فَنَادَى بِصَوْتِهِ يَا صَبَاحَاهْ حَتَى يُسْمِعَ النَّاسَ 862 / فيه: سَلَمَةَ، خَرَجْتُ مِنَ الْمَدِينَةِ ذَاهِبًا نَحْوَ الْغَابَةِ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِثَنِيَّةِ الْغَابَةِ لَقِيَنِى غُلامٌ لِعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَقُلْتُ: وَيْحَكَ، مَا بِكَ؟ قَالَ: قَدْ أُخِذَتْ لِقَاحُ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قُلْتُ: مَنْ أَخَذَهَا؟ قَالَ: غَطَفَانُ وَفَزَارَةُ، فَصَرَخْتُ ثَلاثَ صَرَخَاتٍ، أَسْمَعْتُ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا: يَا صَبَاحَاهْ، يَا صَبَاحَاهْ، ثُمَّ انْدَفَعْتُ حَتَّى أَلْقَاهُمْ، وَقَدْ أَخَذُوهَا، فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ، وَأَقُولُ: أَنَا ابْنُ الأكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعْ فَاسْتَنْقَذْتُهَا مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبُوا، فَأَقْبَلْتُ بِهَا أَسُوقُهَا، فَلَقِيَنِى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْقَوْمَ عِطَاشٌ، وَإِنِّى أَعْجَلْتُهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا سِقْيَهُمْ، فَابْعَثْ فِى إِثْرِهِمْ، فَقَالَ: (يَا ابْنَ الأكْوَعِ، مَلَكْتَ، فَأَسْجِحْ، إِنَّ الْقَوْمَ يُقْرَوْنَ فِى قَوْمِهِمْ) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 قال المهلب: فيه وجوب النذير بالعسكر والسرية بالصراخ بكلمة تدل على ذلك. وقوله: (يا صباحاه) معناه: قد أغير عليكم فى الصباح، أو قد صوبحتم فخذوا حذركم. وفيه جواز الأخذ بالشدة، ولقاء الواحد أكثر من المثلين؛ لأن سلمة كان وحده، وألقى بنفسه إلى التهلكة، وفيه تعريف الإنسان بنفسه فى الحرب شجاعته وتقدمه. وسيأتى فى الباب بعد هذا زيادة فى ذلك، وفيه فضل الرماية؛ لأنه وحده قاومهم بها ورد الغنيمة. وقوله: (واليوم يوم الرضع) فيه أقوال للعلماء: قيل: معناه أن من أرضعته الحرب من صغره، فهو الظاهر، وقيل: معناه أن اليوم يعرف من رضع كريمة أو من رضع لئيمة، فيبدو فعله فى الدفع عن حريمه. وقال الخطابى: معناه أن اليوم يوم هلاك اللئام من قولهم: لئيم رضع، وهو الذى يرضع الغنم لا يحلبها، فيسمع صوت الحلب. وقوله: (فاستنقذتها منهم قبل أن يشربوا) يعنى: الماء، وعلى ذلك يدل قوله: (إن القوم عطاش) يحضه على اتباعهم وإهلاكهم، فقال له (صلى الله عليه وسلم) : (ملكت فأسجح) أى: استنقذت الغنيمة فملكتها وملكت الحماية فأسجح. أى ارفق ولا تبالغ فى المطالبة، فربما عادت عليك كسرة من حيث لا تظن، فبعد أن كنت ظفرت يظهر بك، وقال ذلك (صلى الله عليه وسلم) رجاء توبة منهم، ودخول فى الإسلام. وقوله: إن القوم (يقرون) يعنى: أنهم سيلقون أول بلادهم فيطعمون ويسقون قبل أن تبلغ منهم ما تريد، ومن روى (يقرون) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 جعل القرى لهم أنهم يضيفون الأضياف، فراعى لهم (صلى الله عليه وسلم) حق ذلك ورجا أن يتوب الله عليهم. 1 - باب: مَنْ قَالَ أَنَا ابُن فُلانٍ وَقَالَ سَلَمَةُ: خُذْهَا، وَأَنَا ابْنُ الأكْوَعِ. 1863 / فيه: الْبَرَاءَ، أَمَّا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَمْ يُوَلِّ يوم حنين، كَانَ أَبُو سُفْيَانَ آخِذًا بِعِنَانِ بَغْلَتِهِ، فَلَمَّا غَشِيَهُ الْمُشْرِكُونَ، نَزَلَ فَجَعَلَ يَقُولُ: (أَنَا النَّبِىُّ لا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِالْمُطَّلِبْ) [قَالَ] : فَمَا رُئِىَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْهُ. قال المؤلف: فى (النوادر) قال محمد بن عبد الحكم: لا بأس بالافتخار عند الرمى، والانتماء بالقبائل، والرجز، وكل ذلك إذا رمى بالسهم فظنه مصيبًا أن يصيح عليه، وبالذكر لله أحب إلى، وإن قال: أنا الفلانى لقبيلته فذلك جائز كله مستحب. وفيه إغراء لبعضهم ببعض، وروى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (أنا ابن العواتك) ورمى ابن عمر بين الهدفين فقال: (أنا لها، أنا لها، وقال: أنا أبو عبد الرحمن. فقال: أنا الغلام الهذلي. وكان مكحول فارسيا وكانت لغته بالدال. وقوله: (خذها، وأنا ابن الأكوع) أى: أنا ابن المشهور فى الرمى بالإصابة عن القوس، وهذا على سبيل الفخر؛ لأن العرب تقول: أنا ابن نجدتها. أى: القائم بالأمر. وأنا ابن جلاء، يريد المنكشف للأمر الواضح الجلي. وقال الهذلى: فرميت فوق ملاءة محبوكة وأبنت للأشهاد حرة أدعى يقول: أبنت لهم قولى: خذها وأنا ابن فلان، و (حرة) يعنى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 ساعة أدعى إلى قومى، ولا يقول مثل هذا إلا الشجاع البطل، والعادة عند العرب أن يعلم الشجاع نفسه بعلامة فى الحرب بتميز بها من غيره ليقصده من يدعى الشجاعة، فأعلم النبى نفسه بالنبوة المعصومة، وبنسبه الطاهر فقال: أنا النبى لا كذب أنا ابن عبد المطلب ليقوى قلب من تمكن الشيطان منه فاستزله وانهزم، ولذلك نزل (صلى الله عليه وسلم) بالأرض؛ لأن النزول غاية ما يكون من الطمأنينة، والثقة بالله تعالى ليقتدى به المؤمنون فيثبتوا؛ لأن الرسول لا يجوز عليه من كيد الشيطان أن يقذف فى قلبه خوفا يزل به قدمه، أو ينكص على عقبيه فينهزم؛ لأنه على بصيرة من أمره، ويقين من نصر الله له، وإتمام أمره، ومنعه من عدوه، وقد تقدم هذا المعنى. قال الطبرى: وقد اختلف السلف: هل يعلم الرجل الشجاع نفسه عند لقاء العدو؟ فقال بعضهم: ذلك جائز على ما دل عليه هذا الحديث، وقد أعلم نفسه حمزة بن عبد المطلب يوم بدر بريشة نعامة فى صدره، وأعلم نفسه أبو دجانة بعصابة محضر النبى (صلى الله عليه وسلم) وكان الزبير يوم بدر معتم بعمامة صفراء، فنزلت الملائكة معتمين بعمائم صفر. وقال ابن عباس فى قوله تعالى: (بخمسة آلاف من الملائكة مسومين (إنهم أتوا محمدًا (صلى الله عليه وسلم) مسومين بالصوف، فسوم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف، وكره آخرون التسويم والإعلام فى الحرب، وقالوا: فعل ذلك من الشهرة، ولا ينبغى للرجل المسلم أن يشهر نفسه فى خير ولا شر، قالوا: وإنما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 ينبغى للمؤمن إذا فعل شيئًا لله أن يخفيه عن الناس؛ فإن الله لا يخفى عليه شيء، روى هذا عن بريدة الأسلمي. قال الطبرى: والصواب أنه لا بأس بالتسويم والإعلام فى الحرب إذا فعله الفاعل من أهل البأس والنجدة، وهو قاصد بذلك شد الناس على أن لا [. . . .] والصبر للعدو والثبات لهم فى اللقاء، وهو يريد ترهيب العدو إذا عرفوا مكانه، وإعلام من معه من المسلمين أنه لا يخذلهم ولا يسلمهم. وأما إذا لم يرد ذلك وقصد به الافتخار فهذا المعنى هو المكروه؛ لأنه ليس ممن قاتل لتكون كلمة الله هى العليا وإنما قاتل للذكر. 2 - باب: إِذَا نَزَلَ الَعُدُّو عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ 864 / فيه: أَبُو سَعِيد، لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ بْن مُعَاذٍ، بَعَثَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ، فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ) ، فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَى النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ لَهُ: (إِنَّ هَؤُلاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ) ، قَالَ: فَإِنِّى أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ، وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ، قَالَ: (لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ) . قال المهلب: فيه جواز التحكيم فى أمر الحرب وغيره، وذلك رد على الخوارج الذين أنكروا التحكيم على عليّ. وفيه: أن التحاكم فى الدنيا إلى رجل معلوم الصلاح والخير لازم للمتحاكمين. فكيف بيننا وبين عدونا فى الدين؟ وأن المال أخف مؤنة من النفس والأهل. وفيه: أمر السلطان والحاكم بإكرام السيد من المسلمين، وجواز إكرام أهل الفضل فى مجلس السلطان الأكبر والقيام فيه لغيره من أصحابه وسادة أتباعه، وإلزام الناس كافة القيام إلى سيدهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 وقد اعترض هذا من قال: إنما أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) الأنصار بهذا خاصة؛ لأنه سيد الأنصار، وهذا لا دليل عليه، بل هو سيد من حضر من أنصارى ومهاجرى؛ لأنه قال فيه قولا مجملا لم يخص فيه أحدًا ممن بين يديه من غيره، وسيأتى فى كتاب الاستئذان تأويل حديث أبى سعيد مع الحديث العارض إن شاء الله. قال الطبرى: فيه البيان عن أن لإمام المسلمين إذا حاصر العدو، فسألوهم أن ينزلوهم على حكم رجل من المسلمين، مرضية أمانته على الإسلام وأهله، موثوق بعقله ودينه أن يجيبهم إلى ذلك، وإن كان الرجل غائبًا عن الجيش؛ لأن سعدًا لم يشهد حصار رسول الله لبنى قريظة، حين سألوا النبى (صلى الله عليه وسلم) أن ينزلوا على حكمه، وكان بالمدينة يعالج كلمه الذى كلمه بالخندق، فأرسل فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) حتى حكم فيهم، فإن وافق حكمه حكم الله ورسوله أمضى، وإن خالف ذلك رد حكمه. وقيل للنازلين على حكمه: إن رضيتم حكم غيره يحكم فيكم بحكم يجوز فى ديننا أمضينا حكمه، وإن كرهتم ذلك رددناكم إلى حصنكم، والحكم الذى لا يجوز لأحد الفريقين الرجوع عنه هو أن يحكم بقتلهم، وسبى ذراريهم ونسائهم، وقسم أموالهم، إن كان ذلك هو النظر المسلمين، وإن حكم باسترقاق مقاتلتهم، أو المن عليهم، ووضع الخراج على رءوسهم فجائز بعد أن يكون نظرًا للمسلمين. وأما الحكم الذى يرد ولا يمضى: فهو أن يحكم أنهم يقروا فى أرض المسلمين كفار بغير خراج يؤدونه إلى الإمام ولا جزية؛ لأنه غير جائز أن يقيم كافر فى أرض الإسلام سنة بغير جزية يؤديها عن رقبته، وإن سألوهم أن ينزلهم على حكم الله أو يحكم فيهم بحكم الله؛ فإنه لا ينبغى أن يجيبهم إلى ذلك لصحة الخبر الذى رواه سفيان عن علقمة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 ابن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: (كان (صلى الله عليه وسلم) إذا بعث أميرًا على جيش وصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا وقال: اغزوا بسم الله فى سبيل الله قاتلوا من كفر إلى قوله وإن قاتلت أهل حصن فأرادوا أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة رسوله، واجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك؛ خير أن تخفر ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوا أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تعلم أصبت حكم الله فيهم أم لا) . فإن قيل: كيف جاز للإمام أن ينزلهم على حكم رجل، مرضى دينه لا يتجاوز فيهم حكم الله وحكم رسوله، ثم إنه يقول: لا يجوز للإمام أن يجيبهم إذا سألوه أن ينزلهم على حكم الله وحكم رسوله، وهذان قولان يفسد أحدهما صاحبه. قيل له: ليس كما توهمت، فأما كراهيتها للإمام أن يجيب من سأله النزول على حكم الله وحكم رسوله الذى هو الحق عنده، فإن ذلك لا يعلمه إلا علام الغيوب، وإنما يحكمون إذا كانوا أهل دين وأمانة بأصلح ما حضرهم فى الوقت، ولا سبيل إلى الحكم بعلم الله، فهذا معنى نهيه (صلى الله عليه وسلم) . وإن هم حكموا على حكم رجل من المسلمين ثم بدا لهم فى الرضا بحكمه قبل أن يحكم بينهم، وسألوا الإمام غيره ممن هو رضا، فللإمام أن يجيبهم إلى ذلك، وذلك أن رسول الله ذكر عنه أن بنى قريظة كانوا نزلوا على حكمه، ثم سألوه أن يجعل الحكم لسعد ابن معاذ، فأجابهم إلى ذلك، فأما إذا حكم بينهم الذى نزلوا على حكمه إذا لم يخالف حكمه ما يجوز فى ديننا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 وفيه أن الإمام إذا ظهر من قوم من أهل الحرب الذى بينه وبينهم مواعدة وهدنة على خيانة وغدر أن ينبذ إليهم على سواء وأن يحاربهم، وذلك أن قريظة كانوا أهل مواعدة للنبى قبل الخندق. فلما كان يوم الأحزاب ظاهروا قريشًا وأبا سفيان على رسول الله وراسلوهم: إنَّا معكم، وأثبتوا مكانكم. فأحل الله بذلك من فعلهم قتالهم ومنابذتهم على سواء، وفيهم نزلت هذه الآية: (وإما تخافن من قوم خيانة (الآية. فحاصرهم رسول الله والمسلمون معه، حتى نزلوا على حكم سعد. قال المهلب: وفيه أن الإنسان قد يوافق برأيه ما فى حكم الله ولا يعلم ذلك إلا على لسان نبى كما قال النبى لسعد. 3 باب: قَتْلِ الأَسِيرِ وَقَتَلِ الصَّبْرِ 865 / فيه: أَنَسِ، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ، جَاءَه رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ، مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: (اقْتُلُوهُ) . قد تقدم القول فى قتل الأسرى، وأن الإمام مخير بين القتل والمن، وكذلك فعل الرسول يوم فتح مكة؛ قتل ابن خطل ومقيس بن صبابة والقينتين ومن على الباقين. وفيه أن للإمام أن يقتل صبرًا من حاد الله ورسوله وكان فى قتله صلاحًا للمسلمين، كما قتل يوم بدر عقبة بن أبى معيط، قام إليه على بن أبى طالب فقتله صبرًا. فقال: من للصبية يا محمد؟ قال النار. وقتل النضر بن الحارث، وكذلك فعل سعد بن معاذ فى بنى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 قريظة، وهذا الحديث حجة لقول جمهور العلماء أن مكة فتحت عنوة، وقد تقدم ذلك فى كتاب الحج. ومن الآثار الدالة على ذلك ما ذكره أبو عبيد قال: حدثنا أبو النضر، عن سليمان بن المغيرة، حدثنا ثابت البنانى، عن عبد الله بن رباح، عن أبى هريرة أنه حدث بفتح مكة قال: (ثم أقبل رسول الله حين قدم مكة، فبعث الزبير على إحدى المجنبتين، وبعث خالد ابن الوليد على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة بن الجراح على الحسر، وأخذوا بطن الوادى، فأمرنى رسول الله، فناديت بالأنصار فلما طافت به قال: أترون أوباش قريش وأتباعهم؟ ثم قال: بيده إحداهما على الأخرى -: احصدوهم حصدًا، حتى توافونى بالصفا. قال أبو هريرة: فانطلقنا فما يشاء أحد منا أن يقتل منهم من شاء إلا قتله. فجاء أبو سفيان بن حرب فقال: يا رسول الله، أبيحت خضراء قريش، فلا قريش بعد اليوم. فقال رسول الله: من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن) . قال أبو عبيد: حدثنا هشيم، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة، قال: قال رسول اله يوم فتح مكة: (ألا لا يجهزن على جريح، ولا يتبع مدبر، ولا يقتلن أسير، ومن أغلق بابه فهو آمن) . وهذا بين فى دخولها عنوة، ومن خالف ذلك، واعتل بأن الرسول لم يحكم فيها بحكم العنوة من الغنم لها، واسترقاق أهلها، فلم تكن عنوة، فقد علم من تخصيص مكة، ومباينتها فى أحكامها لسائر البلاد، ما فيه مقنع من أنها حرام، وأنها مناخ من سبق فلا تباع رباعها، ولا تكرى بيوتها، ولا تحل لقطتها، ولا تحل غنائمها، فليست تشبه مكة شيئًا من البلاد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 4 - باب: هَلْ يَسْتَأْسِرُ الرَّجُلُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَأْسِرْ وَمَنْ رَكَعَ رَكْعَتَينِ عِنْدَ القَتْلِ 866 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الأنْصَارِىَّ؛ جَدَّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَأَةِ، وَهُوَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ، ذُكِرُوا لِحَىٍّ مِنْ هُذَيْلٍ، يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو لَحْيَانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَىْ رَجُلٍ كُلُّهُمْ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ تَمْرًا تَزَوَّدُوهُ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ، لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ، وَأَحَاطَ بِهِمُ الْقَوْمُ، فَقَالُوا لَهُمُ: انْزِلُوا، وَأَعْطُوا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ، وَلا نَقْتُلُ مِنْكُمْ أَحَدًا، قَالَ عَاصِمُ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ: أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ لا أَنْزِلُ الْيَوْمَ فِى ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِى سَبْعَةٍ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلاثَةُ رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأنْصَارِىُّ وَابْنُ دَثِنَةَ وَرَجُلٌ آخَرُ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ، فَأَوْثَقُوهُمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاللَّهِ لا أَصْحَبُكُمْ إِنَّ [لِى] فِى هَؤُلاءِ لأسْوَةً يُرِيدُ الْقَتْلَى، فَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ، فَأَبَى، فَقَتَلُوهُ، فَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ دَثِنَةَ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَابْتَاعَ خُبَيْبًا بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا، فَقَالَت ابْنَة الْحَارِثِ أَنَهُ اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا، فَأَعَارَتْهُ، فَأَخَذَ ابْنًا لِى، وَأَنَا غَافِلَةٌ حِينَ أَتَاهُ، قَالَتْ: فَوَجَدْتُهُ يُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ، وَالْمُوسَى بِيَدِهِ، فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ فِى وَجْهِى، فَقَالَ: تَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لأفْعَلَ ذَلِكَ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ فِى يَدِهِ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِى الْحَدِيدِ، وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرٍ، وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّهُ لَرِزْقٌ مِنَ اللَّهِ رَزَقَهُ خُبَيْبًا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِى الْحِلِّ، قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: ذَرُونِى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 أَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، فَتَرَكُوهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: لَوْلا أَنْ تَظُنُّوا أَنَّ مَا بِى جَزَعٌ لَأَصَلْتٌهَا، اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا: مَا أُبَالِى حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا وَذَلِكَ فِى ذَاتِ الإلَهِ وَإِنْ يَشَأْ عَلَى أَىِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ فَقَتَلَهُ ابْنُ الْحَارِثِ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ لِكُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لِعَاصِمِ يَوْمَ أُصِيبَ، فَأَخْبَرَ الرَّسُولُ أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ، وَمَا أُصِيبُوا، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمٍ حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ لِيُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبُعِثَ اللَّه عَلَى عَاصِمٍ مِثْلُ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ، فَحَمَتْهُ مِنْ رَسُولِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَقْطَعَ مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا. قال المهلب: فيه أنه جائز أن يستأنس الرجل إذا أراد أن يأخذ برخصة الله فى إحياء نفسه، كما فعل خبيب، وصاحباه. وقال الحسن البصرى: لا بأس أن يستأنس الرجل إذا خاف أن يغلب. وقال الأوزاعى: لا بأس للأسير بالشدة والإبائة من الأسر والأنفة من أن يجرى ملك كافر كما فعل عاصم وأحد صاحبى خبيب، حتى أبى من السير معهم، حتى قتلوه. وقال الثورى: أكره للأسير المسلم أن يمكن من نفسه إلا مجبورًا. وفيه استنان الركعتين لكل من قتل صبرًا. وفيه استنان الاستحداد لمن أسر، ولمن يقتل، والتنظيف لمن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 [. . . . .] بعد القتل لئلا يطلع منه على قبح عورة، وفيه: أداء الأمانة إلى المشرك وغيره، وفيه: التورع من قتل أطفال المشركين رجاء أن يكونوا مؤمنين. وفيه: الامتداح بالشعر فى حين ينزل بالمرء هوان فى دين أو ذلة ليسلى بذلك نفسه، ويرغم بذلك أنف عدوه، ويجدد فى نفسه صبرًا وأنفة. وأما قول جويرية: رأيت فى يده قطف عنب، وما بمكة من ثمرة، فهذا ممكن أن يكون آية لله تعالى على الكفار، وبرهانًا لنبيه، وتصحيحًا لرسالته عند الكافرة وأهل بلدها الكفار من أجل ما كانوا عليه من تكذيب الرسول. فأما من يذكر اليوم مثل هذا بين ظهرانى المسلمين فليس لذلك وجه؛ إذ المسلمون كلهم قد دخلوا فى دين الله أفواجًا، وآمنوا بمحمد، وأيقنوا به، فأى معنى لإظهار آية عندهم، وعلى ما يستشهد بها فيهم؛ لأنه قد يشك المرتاب ومن فى قلبه غرارة وجهل. يقول: إذا جاز ظهور هذه الآيات من غير نبى، فكيف يصدقها من نبى وغيره يأتى بها، فلو لم يكن فى هذا إلا رفع هذا الريب عن قلوب أهل التقصير والغرارة والجهل لكان قطع الذريعة واجبًا، والمنع منها لازمًا لهذه العلة، فكيف ولا معنى لها فى الإسلام بعد تأصله، وعند أهل الإيمان بعد تمكنه، إلا أن يكون من ذلك ما لا يخرق عادة، ولا يقلب عينًا، ولا يخرج عن معقول البشر، مثل أن يكرم الله عبدًا بإجابة دعوة من حينه فى أمر عسير وسبب ممتنع، ودفع بأس نازل وشنعة قد أظلت فيصرفها بلطفه عن وليه، فهذا ومثله مما يظهر فيه فضل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 الفاضل وكرامة الولى عند ربه، وقد أخبرنى أبو عمران الفقيه الحافظ بالقيروان أنه وقف أبا بكر بن الطيب الباقلانى على تجويزه لهذه المعجزات، فقال له: أرأيت إن قالت لنا المعتزلة: إن برهاننا على تصحيح مذهبنا، وما ندعيه من المسائل المخالفة لكم ظهور هذه الآية على يدى رجل صالح منا. قال أبو عمران: فأطرق عنى ومطلنى بالجواب، ثم اقتضيته فى مجلس آخر، فقال لى: كل ما أعترض من هذه الأشياء شيئًا من الدين أو السنن أو ما عليه صحيح العلم، فلا يقبل أصلا على أى طريق جاء. فهذا آخر ما رجع إليه ابن الطيب. أما حماية الله عاصمًا (من الدبر) فلئلا ينتهك حرمته عدوه، فهذه الكرامة التى تجوز، ومثل ذلك غير منكر؛ لأن الله حماه على طريق العادة، ولم يكن قلب عين ولا خرق عادة، فهذا ومثله جائز وفيه علامة من علامات النبوة بإجابة دعوة عاصم بأن أخبر الله نبيه (صلى الله عليه وسلم) بالخبر قبل بلوغه على ألسنة المخلوقين. والدبر جماعة النحل لا واحد لها، وكذلك الثوم والخشرم لا واحد لشيء منها، كما يقال لجماعة الجراد: رجل. ولجماعة النعام: خيط، ولجماعة الظباء: إجل، وليس لشيء من ذلك واحد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 5 - باب: فَكَاكِ الأَسِيرِ 867 / فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (فُكُّوا الْعَانِىَ، يَعْنِى الأسِيرَ، وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ) . 1868 / وفيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، قُلْتُ لِعَلِىٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَىْءٌ مِنَ الْوَحْىِ إِلا مَا فِى كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: لا، وَالَّذِى فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا أَعْلَمُهُ إِلا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلا فِى الْقُرْآنِ، وَمَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قُلْتُ: [وَمَا فِى الصَّحِيفَةِ؟] قَالَ: الْعَقْلُ، وَفَكَاكُ الأسِيرِ، وَأَنْ لا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. فكاك الأسير فرض على الكفاية؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : فكوا العاني. وعلى هذا كافة العلماء؛ وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: فكاك كل أسير من أسرى المسلمين من بيت المال. وبه قال إسحاق، وروى عن ابن الزبير أنه سأل الحسن بن على عن فكاك الأسير، قال: على الأرض التى يقاتل عليها. وروى أشهب وابن نافع عن مالك أنه سئل: أواجب على السلمين افتداء من أسر منهم؟ قال: نعم، أليس واجب عليهم أن يقاتلوا حتى يستنقذهم، فكيف لا يفدونهم بأموالهم؟ وقال أحمد: يفادون بالرءوس، وأما بالمال فلا أعرفه، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : فكوا العاني. عموم فى كل ما يفادى به، فلا معنى لقول أحمد، وقد قال عمر بن عبد العزيز: إذا خرج الذمى بالأسير من المسلمين فلا يحل للمسلمين أن يردوه إلى الكفر، ليفادوه بما استطاعوا. قال تعالى: (وإن يأتوكم أسارى تفادوهم (. وقوله: (أطعموا الجائع) هو فرض على الكفاية أيضًا، ألا ترى رجلا يموت جوعًا، وعندك ما تجيبه به، بحيث لا يكون فى ذلك الموضع أحد غيرك، الفرض عليك فى إحياء نفسه، وإمساك رمقه، وإذا ارتفعت حال الضرورة كان ذلك ندبًا، وسيأتى شيء من هذا المعنى فى كتاب الأطعمة إن شاء الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 وأما قوله: (وعودوا المريض) . فهو محمول على الحض والندب إلى التواخى والتآلف، ويحتمل أن يكون من فرض الكفاية كسائر الحديث. قال المهلب: وأما يمين على أن ما عنده إلا كتاب الله أو فهما يعطيه الله رجلا، فهو دليلا على صحة قول مالك: إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما هو نور وفهم يضعه الله فى قلب من يشاء. فمن أنكر هذا على مالك فلينكره على عليّ. وفيه أن كتاب الله أصل العلم، وأن الفهم إنما هو عنه، وعن حديث رسول الله المبين له، وقوله: والذى فلق الحبة وبرأ النسمة، هو من أيمان العرب. قال أبو عبيد: فلق الحبة: شقها فى الأرض حتى نبتت ثم أثمرت فكان منها حب كثير، وكل شيء شققته باثنين فقد فلقته، ومنه قوله: (فالق الحب والنوى (والنسمة: كل ذات نفس فهى نسمة، وسميت نسمة لتنسمها الهواء، وبرأ الله الخلق برءًا: خلقهم. 6 - باب: فِدَاءِ المشْرِكِينَ 869 / فيه: أَنَس، أَنَّ رِجَالا مِنَ الأنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لابْنِ أُخْتِنَا الْعَبَّاس فِدَاءَهُ، فَقَالَ: (لا تَدَعُونَ مِنْهَا دِرْهَمًا) . وَقَالَ أَنَسٍ، أُتِىَ (صلى الله عليه وسلم) بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَجَاءَهُ الْعَبَّاسُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِى، فَإِنِّى فَادَيْتُ نَفْسِى، وَفَادَيْتُ عَقِيلا، فَقَالَ: (خُذْ) ، فَأَعْطَاهُ فِى ثَوْبِهِ. 1870 / وفيه: جُبَيْرٍ بْنُ مطعم، وَكَانَ جَاءَ فِى أُسَارَى بَدْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، يَقْرَأُ فِى الْمَغْرِبِ: والطُّور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 قال المهلب: أسر العباس يوم بدر، وكان غنيا ففدى نفسه من القتل، وفدى عقيلا بمال، ثم بقى على حاله بمكة إلى زمن خيبر، وقيل: إنه أسلم سنة ثمان قبل الفتح، وإنما سأل الأنصار الذين أسروا العباس أن يتركوا فداءه بمكان عمومه من النبى (صلى الله عليه وسلم) إكرامًا للنبى بذلك، فأبى (صلى الله عليه وسلم) من ذلك، وأراد توهين المشركين بالغرم، وأن تضعف قوتهم بأخذ المال منهم. وقيل: إنه كان يداين فى ذلك العباس، وبقى عليه الدين إلى وقت إسلامه، ولذلك قال للنبى: أعطنى؛ فإنى فاديت نفسى وفاديت عقيلا، فغرم النبى (صلى الله عليه وسلم) ما تحمله العباس من ذلك بعد إسلامه مما أفاء الله على رسوله، والترجمة صحيحة فى جواز مفاداة المشركين من أيدى المسلمين، وأن ذلك مباح بعد الإثخان، ومفاداة العباس لنفسه ولعقيل كان قبل الإثخان، فعاتب الله نبيه على ذلك فلا تجوز المفاداة إلا بعد الإثخان، وقلة قوة المشركين على المسلمين، أو لوجه من وجوه الصلاح يراه الإمام للمسلمين فى ذلك. وكذلك حديث جبير بن مطعم فيه جواز فداء الأسرى المشركين؛ لأن جبيرًا جاء فى فداء أسارى بنى نوفل رهطه، فأطلقوا له بالفداء، وكان ذلك قبل الإثخان أيضًا، وقد تقدم اختلاف العلماء فى فداء الأسرى أو المن عليهم أو قتلهم فى باب) فإما منا بعد وإما فداء (. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: لم يأذن الرسول للأنصار فى أسرى بدر لكفرهم، وشدة وطأتهم، ألا ترى أنه عوتب فى الفداء حتى يثخن فى الأرض، فكيف يأذن فى [. . . .] حتى يثخن أدبًا لهم، وإن كانت الأنصار قد طابت أنفسها، وشفع لأهل هوازن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 للرضاع الذى كان له فيهم، كما مَنَّ على أهل مكة بإسلامهم وتركه مكة بما فيها من جميع الأموال للرحم. 7 باب: الحَرْبِىّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الإِسْلاَمِ بِغَيرِ أَمَانٍ 871 / فيه: سَلَمَةَ، أَتَى النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، عَيْنٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ فِى سَفَرٍ، فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ، ثُمَّ انْفَتَلَ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (اطْلُبُوهُ فَاقْتُلُوهُ) ، فَقَتَلَهُ، فَنَفَّلَهُ سَلَبَهُ. قال المهلب: هذا الحديث أصل أن الجاسوس الحربى يقتل، وعلى هذا جماعة العلماء، واختلفوا فى الحربى يدخل دار الإسلام بغير أمان، فقال مالك: هو فيء لجميع المسلمين. وهو قول أبى حنيفة، وأبى يوسف، وقال محمد: هو لمن وجده. وقال الشافعى: هو فيء إلا أن يسلم قبل أن يظفروا به. قال المؤلف: وظاهر الحديث يدل أنه لمن وجده؛ لأن نبى الله إنما أعطى سلبه لسلمة ابن الأكوع وحده؛ لأنه كان قتله. قال غيره: ومن قال: إنه فيء فلأنه مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، من باب الغنائم إلى باب الفيء، والفيء للإمام أن يصنع فيه ما شاء حيث شاء، ومن قال: هو لمن وجده حكم له بحكم الغنائم أنها لمن أخذها بعد الخمس. قال الطحاوى: القياس أن يكون لمن وجده، وفيه الخمس؛ لأنه لم يؤخذ بقوة من المسلمين، واختلفوا فى الحربى يدخل دار الإسلام، ويقول: جئت مستأمنا، فقال مالك: الإمام مخير فى ذلك بما يراه فيه. وهو قول الأوزاعي. وقال أبو حنيفة: هو فيء. وروى ابن وهب عن مالك فى مركب تطرحه الريح إلى ساحل بحر المسلمين، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 فيقولون: نحن تجار، أنهم فيء ولا يخمسون، واحتج الشافعى بحديث سلمة بن الأكوع فى أن السلب من رأس الغنيمة لا من الخمس. قال ابن القصار: وسلمة إنما كان مستحقا لكل الغنيمة لا الخمس منها؛ لأنه لم يكن من جملة عسكر، وإنها ابتعه وحده فله ما أخذ من الخمس، فترك الرسول له الخمس زيادة على الأربعة الأخماس التى له، وهذا يجوز عندنا، كما لو رأى (الخط فى دار الخمس) فى وقت من الأوقات على الغانمين لفعل؛ لأن الخمس إليه يصرفه على ما يؤدى إليه اجتهاده، فلا دليل لهم فى الحديث. 8 باب: يُقَاتِلُ عَنْ أَهْلِ الذِّمةِ وَلاَ يُسْتَرَقُونَ 872 / فيه: عُمَرَ، قَالَ: وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ، وَذِمَّةِ رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَلا يُكَلَّفُوا إِلا طَاقَتَهُمْ. لا خلاف بين العلماء فى القول بهذا الحديث؛ لأنهم إنما بذلوا الجزية على أن يأمنوا فى أنفسهم وأموالهم وأهليهم. 9 باب: جَوَائِز الوُفُود 873 / فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّهُ قَالَ: يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ؟ ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَجَعُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَقَالَ: (ائْتُونِى بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا) ، فَتَنَازَعُوا، وَلا يَنْبَغِى عِنْدَ نَبِىٍّ تَنَازُعٌ، فَقَالُوا: هَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (دَعُونِى، الَّذِى أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِى إِلَيْهِ) ، وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلاثَةٍ: (أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 الْوَفْودَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ) ، وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ. قَالَ الْمُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِالرَّحْمَنِ: جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ. قَالَ يَعْقُوبُ بْن محمد: وَالْعَرْجُ أَوَّلُ تِهَامَةَ. قال المهلب: فيه سنة إجازة الوفد، وهو من باب الاستئلاف. قال غيره: هذا عام فى جميع الوفود الواردين على الخليفة من الروم كانوا أو من المسلمين؛ لأنهم وإن كانوا من الروم فإنهم لا يأتون إلا بأمر فيه منفعة وصلاح للمسلمين، فلذلك أمر (صلى الله عليه وسلم) بالوصاة بإجازتهم. وأيضًا فإنهم ضيف، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) فى الضيف: جائزته يوم وليلة. ولم يخص فهو عام. قال المهلب: وأما الثالثة التى نسيها المحدث فهى: إنفاذ جيش أسامة، وكان المسلمون اختلفوا فى ذلك على أبى بكر، فأعلمهم أن النبى (صلى الله عليه وسلم) عهد بذلك عند موته. وفيه دليل أن الوصية المدعاة لعلى باطل؛ لأنه لو كان وصيا كما زعموا لعلم قصة جيش أسامة كما علم ذلك أبو بكر، وما جهله، وقوله: هجر رسول الله، قال ابن دريد: يقال: هجر الرجل فى المنطق إذا تكلم بما لا معنى له، وأهجر إذا أفحش. 0 - باب: التَّجَمُّل لِلوُفُود 874 / فيه: ابْنَ عُمَرَ، وَجَدَ عُمَرُ حُلَّةَ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِى السُّوقِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْتَعْ هَذِهِ الْحُلَّةَ، فَتَجَمَّلْ بِهَا لِلْوُفُودِ وَاِلْعِيدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 (إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ) ، فَلَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِجُبَّةِ دِيبَاجٍ، فَأَقْبَلَ بِهَا عُمَرُ إلى النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ: إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ، ثُمَّ أَرْسَلْتَ إِلَىَّ بِهَذِهِ، فَقَالَ: (تَبِيعُهَا، أَوْ تُصِيبُ بِهَا بَعْضَ حَاجَتِكَ) . فيه أن من السنة المعروفة التجمل للوفد والعيد بحسن الثياب؛ لأن فى ذلك جمالاً للإسلام وأهله، وإرهابًا على العدو، وتعظيمًا للمسلمين. وقول عمر: (تجمل بها للوفد) يدل أن ذلك من عادتهم وفعلهم. وقال الأبهرى: إنما نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن الحرير والذهب للرجال؛ لأنه من زى النساء وفعلهم. وقد نهى (صلى الله عليه وسلم) أن يتشبه الرجال بالنساء. وقيل: إنما نهى عن ذلك؛ لأنه من باب السرف والخيلاء، وقد جوز لباسه فى الحرب للترهيب على العدو، وقد تقدم اختلافهم فى ذلك، وسيأتى ما للعلماء فى ذلك فى كتاب اللباس. وفى قول عمر للنبى (صلى الله عليه وسلم) -: (أكسوتنيها يا رسول الله، وقد قلت فى حلة عطارد ما قلت) أنه ينبغى السؤال عما يشكل، وفى حديث النبى أنه كساها له لغير اللباس، فيه من الفقه أنه لا بأس بالتجارة والانتفاع بما لا يجوز لبسه. 1 - باب: كَيْفَ يُعْرَضُ الإِسْلاَمُ عَلَى الصَّبىِّ 875 / وذكر حديث ابْن عُمَرَ، أن الرسول أَقْبَلَ فِى رَهْطٍ قِبَلَ ابْن صَيَّادٍ، حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ. . . . وذكر الحديث. وقد تقدم هذا الباب فى (كتاب الجنائز) فأغنى عن إعادته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 2 - باب: إِذَا أَسْلَمَ قَوْمٌ فِى دَار الَحربِ وَلَهٌمْ مَالٌ وَأَرْضونَ فَهِىَ لَهَمْ 876 / فيه: أُسَامَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا - فِى حَجَّتِهِ؟ - قَالَ: (وَهَلْ تَرَكَ عَقِيلٌ لَنَا مَنْزِلا) ؟ ثُمَّ قَالَ: (نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِى كِنَانَةَ الْمُحَصَّبِ حَيْثُ قَاسَمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْكُفْرِ) ، وَذَلِكَ أَنَّ بَنِى كِنَانَةَ حَالَفَتْ قُرَيْشًا عَلَى بَنِى هَاشِمٍ: أَنْ لا يُبَايِعُوهُمْ وَلا يُؤْوُوهُمْ. قَالَ الزُّهْرِىُّ: وَالْخَيْفُ: الْوَادِى. 1877 / فيه: عُمَرَ، أنَّهُ اسْتَعْمَلَ مَوْلًى يُدْعَى هُنَيًّا، عَلَى الْحِمَى، فَقَالَ: يَا هُنَىُّ، اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَالْغُنَيْمَةِ، وَإِيَّاىَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ، وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ، فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَا إِلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ، وَإِنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَالْغُنَيْمَةِ إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَأْتِنِى بِبَنِيهِ، فَيَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا لا أَبَا لَكَ؟ فَالْمَاءُ وَالْكَلأ أَيْسَرُ عَلَىَّ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَايْمُ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَيَرَوْنَ أَنِّى قَدْ ظَلَمْتُهُمْ إِنَّهَا لَبِلادُهُمْ، فَقَاتَلُوا عَلَيْهَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِى الإسْلامِ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْلا الْمَالُ الَّذِى أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلادِهِمْ شِبْرًا. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: لما أسلم أهل مكة عام الفتح مَنَّ عليهم النبى (صلى الله عليه وسلم) وترك لهم أموالهم ودماءهم، ولم ينزل فى شيء منها لمنه عليهم بها، ونزل فى الوادى، وكذلك كان يفعل بهوازن لو بدرت بإسلامها، فلما استأنت قسم النبى (صلى الله عليه وسلم) الغنيمة بين أصحابه، فلما جاءوا بعد القسمة خيرهم فى إحدى الطائفتين: المال أو السبى، فقضى به رسول الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 لهم، واستطاب أنفس أصحابه، وقال: من لم تطب نفسه فليبق إلى أول مغنم يفيئه الله علينا، وقضى لأهل مكة بأموالهم، ولم يستطب نفوس أصحابه؛ لأنه مال الله على اجتهاده، لا شيء للغانمين فيه إلا أن يقسمه لهم لقوله: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (فآتاهم الرسول بهذه الآية أرض خيبر فقسمها بينهم، ونهاهم فى مكة فانتهوا، ونهاهم عمر عن الأرض المغنومة بالشام والعراق بهذه الآية فلم يقسمها لهم. قال المهلب: وإنما أدخل هنى تحت هذه الترجمة؛ لأن أهل المدينة أسلموا عفوًا فكانت لهم أموالهم؛ ألا ترى أنه ساوم بمكان المسجد بنى النجار وقال: (ثامنونى بحائطكم) فأوجبه لهم. وكذلك قال عمر: إنها لأرضهم قاتلوا عليها فى الجاهلية، وأسلموا عليها فى الإسلام. فأوجبها لهم، وهذا كله يشهد لهذه الترجمة أن من أسلم فى أرض الحرب فأرضه له ما لم يغلب عليها. وسئل مالك عن إمام قبل الجزية من قوم فأسلم منهم أحد، أتكون أرضه له وماله؟ فقال مالك: ذلك يختلف، أما الصلح فمن أسلم منهم فهو أحق بأرضه وماله، وأما أهل العنوة فمن أسلم منهم فماله وأرضه فيء للمسلمين؛ لأن أهل العنوة قد غلبوا على بلادهم فهى فيء لمن من عليهم، وأما أهل الصلح فإنهم قوم منعوا أنفسهم وأموالهم حتى صالحوا عليها فليس عليهم إلا ما صولحوا عليه. وقول مالك فى هذا إجماع من العلماء. واختلفوا إذا أسلم فى دار الحرب، وبقى فيها ماله وولده، ثم خرج إلينا مسلمًا، وغزا مع المسلمين بلده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 فقال الشافعى وأشهب وسحنون أنه قد أحرز ماله وعقاره حيث كان وولده الصغار؛ لأنهم تبع لأبيهم فى الإسلام، وحجتهم أنه إذا أسلم كان ماله حيث كان من دار الحرب أو غيرها على ملكه، فإذا غنمت دار الحرب كان حكم ماله كحكم مال المسلمين ولم تزل الغنيمة ملكه عنه. وقال مالك والليث: أهله وماله وولده فيء على حكم البلد كما كانت دار النبى (صلى الله عليه وسلم) على حكم البلد وملكهم ولم ير نفسه (صلى الله عليه وسلم) أحق بها. وفرق أبو حنيفة بين حكمها إذا أسلم فى بلده، ثم خرج إلينا؛ فأولاده الصغار أحرار مسلمون وما أودعه مسلمًا أو ذميا فهو له، وما أودعه حربيا فهو وسائر عقاره هنالك فيء. وإذا أسلم فى بلد الإسلام ثم ظهر المسلمون على بلده فكل ماله فيه فيء لاختلاف حكم الدارين عندهم. ولم يفرق مالك ولا الشافعى بين إسلامه فى داره أو فى دار الإسلام. قال المهلب: وفيه أن للإمام أن يحمى أراضى الناس المبورة لغنم الصدقة ومنفعة تشمل المسلمين، كما حمى عمر هذا الحمى لإبل الصدقة وغنمها، وهو الحمى الذى زاد فيه عثمان فأنكر عليه، وليس لأحد أن ينكر هذا على عثمان؛ لأنه لما رأى عمر فعل ذلك جاز لعثمان أن يحمى أكثر إذا احتاج إليه لكثرة الصدقة فى أيامه. وقوله: (اضمم جناحك عن الناس) أى: لا تشد على كل الناس فى الحمى؛ فإن ضعفاء الناس القليلى الغنم والإبل الذى لا تنتهك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 ماشيته الحمى إن حميته عنه كان ظلمًا، فاتق دعوته؛ فإنها لا تحجب من الله. وقوله: (وإياى ونعم ابن عوف وابن عفان) حذره أن يدخل الحمى؛ فإنها كثيرة، فإن دخلته أنهكته، فإن منعت الدخول وهلكت كان لأربابها عوض من أموالهم يعيشون فيه، ومن ليس له غير الصريمة القليلة إن هلكت أتى يستغيث أمير المؤمنين فى الإنفاق عليه وعلى بنيه من بيت المال. وفيه: جواز الحمل على من له مال ببعض المضرة الداخلة عليه فى ماله إذا كان فى ذلك نظر لغيره من الضعفاء. وقوله: (لولا المال) يريد الإبل التى يحمل عليها المجاهدون فى سبيل الله من نعم الصدفة التى حمى لها الحمى لترعى فيه مدة أيام النظر فى الحمل عليها. وفيه: دليل على أن مسارح القرى وعوامرها التى ترعى فيها مواشى أهلها من حقوق أهل القرية وأموالهم، وليس للسلطان منعه إلا أن تفضل منه فضلة. ومعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا حمى إلا لله ولرسوله) معناه: لا حمى لأحد يخص به نفسه، وإنما هو لله ورسوله، أو لمن ورث ذلك عنه (صلى الله عليه وسلم) من [. . . .] الشامل للمسلمين وما يحتاجون إلى حمايته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 3 باب: كِتَابَةِ الإِمَامِ النَّاسَ 878 / فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اكْتُبُوا لِى مَنْ تَلَفَّظَ بِالإسْلامِ مِنَ النَّاسِ) ، فَكَتَبْنَا لَهُ أَلْفًا وَخَمْسَ مِائَةِ رَجُلٍ، فَقُلْنَا: نَخَافُ وَنَحْنُ أَلْفٌ وَخَمْسُ مِائَةٍ؟ فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا ابْتُلِينَا حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّى وَحْدَهُ، وَهُوَ خَائِفٌ. وروى أَبُو حَمْزَةَ، عَنِ الأعْمَشِ: (خَمْسَ مِائَةٍ) . وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: (مَا بَيْنَ سِتِّ مِائَةٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةٍ) . 1879 / وفيه: ابْن عَبَّاس، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى كُتِبْتُ فِى غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وَامْرَأَتِى حَاجَّةٌ، قَالَ: (ارْجِعْ فاحجج مَعَ امْرَأَتِكَ) . قال المهلب: فيه أن كتابة الإمام الناس سنة من النبى (صلى الله عليه وسلم) عند الحاجة إلى الدفع عن المسلمين، فيتعين حينئذ فرض الجهاد على كل إنسان يطيق المدافعة إذا نزلت بأهل ذلك البلد مخافة. وفيه: أن وجوب ذلك لا يتعدى المسلمين، وليس على أهل الذمة بواجب؛ لأن المسلمين إنما يدافعون عن كلمة التوحيد، وليس على أهل الذمة بواجب؛ لأن المسلمين يدافعون عن أموالهم وذراريهم، ولصيانتها بذلوا لنا الجزية فعلينا حمايتهم والدفع عنهم. وفيه: العقوبة على الإعجاب بالكثرة. 4 باب: إِنَّ اللَّه يُؤِّيُد الدِّينَ بَالرَّجُلِ الفَاجِرِ 880 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَشَهِدْنَا مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ لِرَجُلٍ، مِمَّنْ يَدَّعِى الإسْلامَ: (هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ) ، فَقَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالا شَدِيدًا، وَأَصَابَتْهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 جِرَاحَةٌ، فَلَمْ يَصْبْر فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنِّى رسُول اللَّه، وَأَمَرَ بِلالا، يَنَادَى فِى النَّاسِ: (إِنَّهُ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا نَفْسٌ مُؤمنة، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ) . قال المهلب: هذا مما أعلمنا النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه ممن نفذ علينا الوعيد من الفجار المذنبين، لا أن كل من قتل نفسه أو غيره يقضى عليه بالنار ولا يعارض هذا الحديث قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنا لا نستعين بمشرك) لأن المشرك غير المسلم الفاجر، وقوله: (إنا لا نستعين بمشرك) قد يكون خاصا فى ذلك الوقت؛ لأنه قد استعان بصفوان بن أمية فى هوازن، واستعار منه (صلى الله عليه وسلم) مائة درع [. . . . .] ، وخرج معه صفوان بن أمية حتى قالت له هوازن: تقاتل مع محمد ولست على دينه؟ فقال: رب من قريش خير من رب من هوازن. وقد غدا معه المنافقون وهو يعلم نفاقهم وكفرهم. وقوله: (إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) يشتمل على المسلم والكافر، فيصح أن قوله: (لا نستعين بمشرك) خاص فى ذلك الوقت، والله أعلم. وفيه من أعلام النبوة إخباره (صلى الله عليه وسلم) بالغيب الذى لا يدرك مثله إلا بالوحى. وفيه جواز إعلام الرجل الصالح بفضيلة تكون فيه والجهر بها لتبلغ معانديه من أهل الباطل والقدح فى فضائله، فيحزنهم ذلك ويعلمون ثباته وشدته على الحق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 5 باب: مَنْ تَأَمَرَ فِى الحَرْبِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةِ إِذَا خَافَ العَدُوَّ 880 / فيه: أَنَس، خَطَبَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ، فَفُتِحَ عَلَيْهِ، وَمَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا) ، وَإِنَّ عَيْنَيْهِ لَتَذْرِفَانِ. قال المهلب: فى قوله: (ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح له) . فيه من الفقه أن من رأى للمسلمين عورة قد بدت أن يتناول سد خللها إذا كان مستطيعا لذلك وعلم من نفسه منة وجزالة وهذا المعنى امتثل على بن أبى طالب فى قيامه عند قتل عثمان بأمر المسلمين بغير شورى بينهم واجتماع لأنه خشى على الناس الضيعة وتفرق الكلمة التى آل أمر الناس أليها وعلم إقرار جميع الناس بفضله وأن أحدًا لا ينازعه فيه. قال غيره: وروى البخارى فى المغازى عن ابن عمر قال: أمر رسول الله فى غزوة مؤتة زيد بن حارثة فقال رسول الله: (إن قتل زيد فجعفر وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحه) فبان بهذا الحديث أن جعفرًا وعبد الله إنما تقدما إلى أخذ الراية بتقديم الرسول لهما وتوليته إياهما. ففى هذا من الفقه أن الإمام يجوز له أن يجعل ولاية العهد بعده لرجل، ثم يقول: فإن مات قبل موتى فإن الولاية لفلان رجل آخر يستحق ذلك فإن مات المولى أولا فالعقد الثانى ثابت. فإن قيل: كيف يصح ذلك ولا يخلو أن تنعقد ولاية الثانى فى الحال أو لا تنعقد. فإن كانت منعقدة صارت الإمامة ثابتة لإمامين، وذلك لا يجوز، وإن لم تنعقد للثانى فى الحال فقد جوزتم ابتداء عقدها على شرط وصفة. قيل: إنما جوزنا استخلاف الاثنين على سبيل الترتيب إذا ترتبا فى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 ولاية العهد. ولو قيل: إن عقد الولاية ينعقد لأحدهما لا بعينه وتتعين لمن انعقدت له عند موت الإمام القائد كان سابقًا، ألا ترى أن عمر لم يعين على أحد من الستة فى الشورى، وانعقدت لأحدهم الولاية من جهته، وتعين الواحد منهم بعد موته ووقوع الاختيار من بينهم عليه. فإن قيل: إن الولاية تنعقد للأول، وإن الثانى إنما وقع عليه الاختيار من غير أن تنعقد له ولاية فى الحال لتنعقد فى الثانى، فيلزم الأمة حينئذ اتباعه باختيار الإمام له، وإن اختياره لهم أولى من نظر من يولى الاختيار منهم لكافتهم كان له وجه، يتعلق ذلك بالمصلحة العامة والنظر للكافة، وقد وردت السنة بمثله، وأجمعت الأمة على استعماله. ولى رسول الله زيد بن حارثة على الجيش الذى جهزه إلى مؤتة، فإن قتل فأميره جعفر بن أبى طالب بعده، ثم إمارة عبد الله بن رواحة بعده، فإن ولى الإمام وليا بعده، وقال: إن مات بعد إفضاء الخلافة إليه بعدى لا قبل فالإمام بعده فلان انعقدت ولاية الأول وصار إمامًا عند موت المتخلف، فكان لولى العهد فى حياته أن يختار غيره لولاية العهد؛ لأن الحق فى الاختيار حينئذ يصير إليه بإفضاء الإمامة إليه، قاله بعض أهل العراق. 6 باب: العَوْن بِالمدَدِ 881 / فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، أَتَاهُ رِعْلٌ وَذَكْوَانُ وَعُصَيَّةُ وَبَنُو لَحْيَانَ، فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا، وَاسْتَمَدُّوهُ عَلَى قَوْمِهِمْ، فَأَمَدَّهُمُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 - عليه السلام - بِسَبْعِينَ مِنَ الأنْصَارِ، كُنَّا نُسَمِّيهِمُ الْقُرَّاءَ، يَحْتَطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ، فَانْطَلَقُوا بِهِمْ حَتَّى بَلَغُوا بِئْرَ مَعُونَةَ غَدَرُوا بِهِمْ فَقَتَلُوهُمْ، فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَليهم. قَالَ أَنَس: وقَرَءُوا بِهِمْ قُرْآنًا: أَلا بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا بِأَنَّا قَدْ لَقِيَنَا رَبَّنَا فَرَضِىَ عَنَّا وَأَرْضَانَا، ثُمَّ رُفِعَ بَعْدُ ذَلِكَ. قال المهلب: فيه أن السنة مضت من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى أن يمد ثغوره بمدد من عنده، وجرى بذلك العمل من الأئمة بعده. وفيه: الدعاء فى الصلاة على أهل العصيان والشرك، وإنما ذلك على قدر جرائمهم. وفيه: أنه قد يجوز النسخ فى الأخبار على صفة ولا تكون كليا، إما يكون نسخه ترك تلاوته فقط، كما أن نسخ الأحكام ترك العمل بها، فربما عوض من المنسوخ من الأحكام حكمًا غيره، وربما لم يعوض فى النسخ من الأحكام. منه أمره يعلى بالصدقة عند مناجاة الرسول، ثم عفى عنا بغير عوض من الشرع بنسخه، بل ترك العمل به، وكذلك الأخبار نسخها من القرآن رفع ذكرها، وترك تلاوتها لآثار تكتب بخبر آخر مضاد لها مثله. مما نسخ من الأخبار ما كان يقرأ فى القرآن: (لو أن لابن آدم واديين من ذهب لا بتغى لهما ثالثًا) . 7 - باب مَنْ غَلَبَ الْعَدُوَّ فَأَقَامَ عَلَى عَرْصَتِهِمْ ثَلاثًا 882 / فيه: أَنَس، عَنْ أَبِى طَلْحَةَ، أن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ، أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلاثَ لَيَالٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 قال المهلب: كان هذا منه والله أعلم ليريح الظهر والأنفس، هذا إذا كان فى أمن من عدو وطارق، وإنما قصد إلى ثلاث والله أعلم لأنه أكثر ما يريح المسافر؛ لأن الأربعة إقامة بحديث العلاء بن الحضرمى، وحديثه الآخر: (لا يبقين مهاجر بمكة بعد قضاء نسكه فوق ثلاث) ولقسمة الغنائم. 8 - باب مَنْ قَسَمَ الْغَنِيمَةَ فِى غَزْوِهِ وَسَفَرِهِ وَقَالَ رَافِعٌ: كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَأَصَبْنَا غَنَمًا وَإِبِلا، فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ. 1883 / فيه: أَنَس، اعْتَمَرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْجِعْرَانَةِ، حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ. قال المهلب: هذا إلى نظر الإمام واجتهاده يقسم حيث رأى الحاجة والأمن، ويؤخر إذا رأى فى المسلمين غنى، وخاف. وممن أجاز قسمة الغنائم فى دار الحرب: مالك والأوزاعى والشافعى وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: لا تقسم الغنائم فى دار الحرب. والصواب قول من أجاز ذلك للسنة الواردة فيه، روى ابن القاسم عن مالك قال: الشأن قسمة الغنيمة فى دار الحرب؛ لأنهم أولى برخصها، وما عدل من البعير بعشرة شياه فليس بأمر لازم. فى قوله: (عدل) دليل على أن المعادلة والنظر فيها فى كل بلد؛ لأن البعير فى الحجاز له قيمة زائدة ولأكل لحمه عادة جارية، وليس كذلك فى غيره من البلاد، وإنما هو إلى الاجتهاد فى كل بلدة. وفيه دليل على جواز بيع اللحم باللحم متفاضلا من غير جنسه أيضًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 9 باب: إِذَا غَنِمَ المشْرِكُونَ مَالَ المسْلِمِ ثُمَّ وَجَدُه المسْلِمُ 884 / فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ أَبَقَ له غلامٌ فَلَحِقَ بِالرُّومِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَرَدَّهُ عليه، وَأَنَّ فَرَسًا لَهُ عَارَ فَلَحِقَ بِالرُّومِ فَظَهَرَ عَلَيْهِ، فَرَدُّوهُ عليه. 1885 / وقال مرة: أَنَّهُ كَانَ عَلَى فَرَسٍ يَوْمَ لَقِىَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَمِيرهم يَوْمَئِذٍ خَالِدُ، بَعَثَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَهُ الْعَدُوُّ، فَلَمَّا هُزِمَ الْعَدُوُّ، رَدَّ خَالِدٌ فَرَسَهُ. اختلف العلماء فى ملك أهل الحرب، هل يملكون علينا؟ فإن غنمناه وجاء صاحبه قبل القسمة أخذه بغير شيء، وإن جاء بعد القسمة أخذه بالقيمة، وهو قول عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وزيد بن ثابت، ومن التابعين سعيد بن المسيب وعطاء والقاسم وعروة، وبه قال أحمد بن حنبل. وقال الحسن البصرى والزهرى: لا يرد إلى صاحبه قبل القسمة ولا بعدها. وقال الشافعى: لا يملك أهل الحرب علينا بالغلبة ولصاحبه أخذه قبل القسمة وبعدها بغير شىء. واحتج الشافعى بحديث حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبى قلابة، عن أبى المهلب، عن عمران بن حصين قال: (أغار المشركون على سرح المدينة وأخذوا العضباء وامرأة من المسلمين، فلما كان فى الليل قامت المرأة وقد ناموا، فركبت العضباء وتوجهت قبل المدينة، ونذرت لئن نجاها الله لتنحرنها، فلما قدمت المدينة عرفت الناقة، فأتوا بها النبى (صلى الله عليه وسلم) فأخبرته المرأة بنذرها فقال: بئسما جزيتها، لا نذر فيما لا يملك ابن آدم، ولا نذر فى معصية) وزاد عبد الوهاب الثقفى قال: قال أبو أيوب السختيانى: فأخذها النبى، (صلى الله عليه وسلم)) فهذا دليل على أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 أهل الحرب لا يملكون علينا بغلبة ولا غيرها، ولو ملكوا علينا لملكت المرأة الناقة كسائر أموالهم لو أخذت شيئًا منها، ولو ملكتها لصح فيها نذرها. وحجة مالك والجماعة حديث ابن عمر فى الغلام والفرس وأنهما رُدّا عليه قبل القسمة، وأيضًا ما رواه عبد الملك بن ميسرة، عن طاوس، عن ابن عباس: (أن رجلا وجد بعيرًا له كان المشركون أصابوه، فقال رسول الله: إن أصبته قبل أن يقسم فهو لك، وإن أصبته بعد ما قسم أخذته بالقيمة) . قال ابن القصار: فدل على أن أهل الحرب قد ملكوه على المسلمين وصارت لهم يد عليه، ألا ترى أنه لو كان باقيًا على ملك مالكه لم يختلف حكم وجوده قبل القسمة وبعدها، والذى يقوى هذا أن العدو لو أتلفه ثم أسلم لم يتبع بقيمته، ولو أتلفه مسلم على مسلم لزمه غرمه، ولما جاز أن يملك المسلم على الكافر بالقهر والغلبة جاز أن يملك الكافر عليه بذلك. ودليل آخر: وهو قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وهل ترك لنا عقيل منزلا) وكان عقيل استولى على دور النبى (صلى الله عليه وسلم) وباعها فلولا أن عقيلا ملكها بالغلبة وباعها لأبطل النبى (صلى الله عليه وسلم) بيعها ولم يجز تصرفه؛ لأن بيع ما لا يصح ملكه لا حكم له. فإن قيل: خبر ابن عباس رواه الحسن بن عمارة وهو ضعيف؛ فإن الطحاوى ذكر أن على بن المدينى روى عن يحيى عن شعبة أنه سأل مسعرًا عن هذا الحديث فقال: هو من حديث عبد الملك بن ميسرة فأثبته من حديثه فدل أنه قد رواه غير الحسن بن عمارة فاستغنى عن روايته بشهرته عن عبد الملك بن ميسره. وأما خبر الناقة والمرأة فلا حجة لهم فيه لأن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لانذر لابن آدم فيما لا يملك) إنما كان قبل أن تملك المرأة الناقة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 لأنها قالت ذلك وهى فى دار الحرب، وكل الناس تقول: إن من أخذ شيئًا من أهل الحرب فلم ينجح به إلى دار الإسلام أنه غير محرز له / ولا يقع عليه ملكه حتى يخرج به إلى دار الإسلام. فلهذا قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا نذر لابن آدم فيما لا يملكه) هذا وجه الحديث. وقال ابن القصار: ما أحرزه المشركون وخرج عن أيديهم إلى المسلمين، فإن لم يقع فى المقاسم ولا حصل بيد إنسان بعوض فإنه يعود إلى ملك صاحبه، فالمرأة لما أخذت الناقة بغير عوض انتقل ملكها عن المشركين وحصل للنبى (صلى الله عليه وسلم) فأما إذا قسمت الغنائم وحصل الشيء فى يد أحد حصلت له شبهة ملك لأجل أنه حصل له بعوض؛ لأن الغانمين قد اقتسموا وتفرقوا، فإن أعطاه الإمام القيمة جاز، وإن لم يعطه لم يأخذه صاحبه إلا بعوض؛ لأن القسم حكم الإمام مع كون شبهه يد الكفار فيصير للغانم بحكم الإمام. قال الطحاوى: والدليل أن المرأة لما أخذت الناقة انتقل ملكها للنبى (صلى الله عليه وسلم) ما رواه سفيان، عن سماك بن حرب، عن تميم بن طرفة: (أن رجلا أصاب العدو له بعيرًا، فاشتراه رجل منهم، فجاء به فعرفه صاحبه، فخاصمه إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فقال: إن شئت أعطه ثمنه الذى اشتراه به وهو لك، وإلا فهو له) فهذا وجه الحكم فى هذا الباب من طريق الآثار. وأما من طريق النظر فرأينا النبى (صلى الله عليه وسلم) حكم فى مشترى البعير من أهل الحرب أن لصاحبه أن يأخذه منه بالثمن وكان قد تملكه المشترى من الحربيين، كما يملك الذى يقع فى سهمه من الغنيمة ما يقع فى سهمه منها، فالنظر على ذلك أن يكون الإمام إذا قسم الغنيمة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 فوقع منها فى يد رجل شيء، وإن كان أسر ذلك من يد آخر أن يكون المأسور من يده من الذى وقع فى سهمه بقيمته، كما يأخذ من يد مشتريه بثمنه. وقوله: (إن فرسًا عار) قال صاحب العين: يقال: عار الفرس والكلب وغير ذلك عيارًا: أفلت وذهب فى الناس. قال الطبرى: يقال ذلك للفرس إذا فعله مرة بعد مرة، ومنه قيل للبطال من الرجال الذى لا يثبت على طريقة: عيار، ومنه سهم عائر: لا يدرى من أين أتى. 0 - باب مَنْ تَكَلَّمَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَالرَّطَانَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) [الروم: 22] 886 / فيه: جَابِر، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وَطَحَنْتُ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ، فَصَاحَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُؤْرًا، فَحَىَّ هَلا بِكُمْ) . 1887 / وفيه: أُمِّ خَالِدٍ، أَتَيْتُ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَعَ أَبِى، وَعَلَىَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (سَنَهْ، سَنَهْ) ، - وَهِىَ بِالْحَبَشِيَّةِ: حَسَنَةٌ - قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِى أَبِى، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (دَعْهَا) ، مرتين، ثُمَّ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَبْلِى وَأَخْلِقِى) ، ثلاث مرات، فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ، دكن. 1888 / الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِى فِيهِ، فَقَالَ له النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (كِخْ، كِخْ، أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ) . السؤر: الوليمة بالفارسية. قال المؤلف: معنى هذا الباب فى تأمين المسلمين لأهل الحرب بلسانهم ولغتهم أن ذلك أمان لهم؛ لأن الله تعالى يعلم الألسنة كلها. وأيضًا فإن الكلام بالفارسية يحتاج إليه المسلمون للتكلم به مع رسل العجم. قد أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) زيد بن ثابت أن يتكلم بلسان العجم، ولذلك أدخل البخارى عن الرسول أنه تكلم بألفاظ من الفارسية كانت متعارفة عندهم معلومة وفهمها عنه أصحابه، فالعجم أحرى أن يفهموها إذا خوطبوا بها؛ لأنها لغتهم. وسيأتى زيادة فى هذا المعنى فى باب (قوله: إذا قالوا صبأنا ولم يحسنوا أسلمنا) بعد هذا إن شاء الله. قال المهلب: أما دعاؤه بأهل الخندق أجمع لطعام جابر؛ فإنما فعله لأنه علم منهم حاجة إلى الطعام، وعلم أنه طعام قد أذن له فيه ببركته ليكون آية وعلامة للنبوة، فلذلك دعاهم أجمع، ولم يدع السادس إلى دار الخياط واستأذن الخياط أن يدخل معهم لتكون لنا سنة، ولأنه طعام لم يؤذن له فى إتيانه، وإن كان كل طعامه فيه بركة؛ ولكن بركة تكون آية وعلامة فليس هذا من ذلك الطعام. وفيه مداعبة النبى (صلى الله عليه وسلم) للأطفال فى اللعب بحضرة آبائهم وغيرهم، وكان (صلى الله عليه وسلم) على خلق عظيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 وقوله: (أبلى وأخلقي) هو كلام معروف عند العرب معناه الدعاء بطول البقاء، قال صاحب الأفعال: يقال: أبل وأخلقه: أى عش فخرق ثيابك وارقعها. وخلقت الثوب: أى أخرجت باليه ولفقته. وقوله: (فزبرني) يعنى: انتهرنى، عن أبى علي. وقد تقدم تفسير (كخ كخ) فى كتاب الزكاة فى باب (ما يذكر فى الصدقة للنبى (صلى الله عليه وسلم)) . وفيه: حمل الصبيان وتدريبهم على الشرائع، والتجنب بهم الحرام والمكروه، وقد تقدم هذا المعنى بزيادة فيه فى كتاب الزكاة فى باب (أخذ صدقة التمر عند صرام النخل) . وفيه: مخاطبة الصبيان بما يخاطب به الكبار الفهماء إذا فهموا، وهذه المخاطبة وإن كانت للحسن ففيها تعريف للسلمين أنه لا يأكل الصدقة. والرطانة كلام العجم، قال صاحب الأفعال: يقال: رطن رطانة، إذا تكلم بلسان العجم. وقوله: (فحى هلا بكم) قال الفراء: معنى (حي) عند العرب هلم وأهل. فالمعنى هلموا إلى طعام جابر وأقبلوا إليه، ومثله قول المؤذن: (حى على الصلاة) أى: أقبلوا إليها، وفتحت الياء من (حي) لسكونها وسكون الياء التى قبلها، كما قالوا: ليت ولعل. ومنه قول ابن مسعود: إذا ذكر الصالحون فحى هلا، وحى هَلَ، وحى هَلْ، وحى أهلا آل عمر، وحى هلا على عمر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 1 - باب الْغُلُولِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يوم القيامة) [آل عمران: 161] 889 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَامَ فِينَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَذَكَرَ الْغُلُولَ، فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، وَقَالَ: (لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ عَلَى رَقَبَتِهِ، فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِى، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. وَعَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِى، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. وَعَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِى، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ بْلَغْتُكَ. أَوْ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِى، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ بْلَغْتُكَ) . قال المهلب: هذا الحديث على سبيل الوعيد من الله لمن أنفذه عليه من أهل الغلول، وقد تكون العقوبة حمل البعير وسائر ما غله على رقبته على رءوس الأشهاد وفضيحته به، ثم الله مخير بعد ذلك فى تعذيبه بالنار أو العفو عنه، فإن عذبه بناره أدركته الشفاعة إن شاء الله، وإن لم يعذبه بناره فهون واسع المغفرة. وقوله: (لا أملك لك من الله شيئًا) أى: من المغفرة والشفاعة حتى يأذن الله فى الشفاعة لمن أراد، كما قال تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى (. وفيه: أن العقوبات قد تكون من جنس الذنوب. وهذا الحديث يفسر قوله: (يأت بما غل يوم القيامة (أنه يأتى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 يحمله على رقبته ليكون أبلغ فى فضيحته وليتبين للأشهاد جنايته، وحسبك بهذا تعظيمًا لإثم الغلول وتحذير أمته. وقوله: (صامت) هو الذهب والفضة. وقال ابن المنذر: وأجمع العلماء أن على الغال أن يرد ما غل إلى صاحب المقسم ما لم يفترق الناس. واختلفوا فيما يفعل بذلك إذا افترق الناس، فقالت طائفة: يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقى، هذا قول الحسن البصرى والليث والثورى، وروى معناه عن معاوية ابن أبى سفيان، وروى عن ابن مسعود أنه رأى أن يتصدق بالمال الذى لا يعرف صاحبه، وروى معناه عن ابن عباس. قال أحمد فى الحبة والقيراط [. . . . .] على الرحل ولا يعرف موضعه: يتصدق به. وكان الشافعى لا يرى الصدقة به وقال: لا أرى الصدقة به وجهًا، إنه إن كان ماله فليس عليه أن يتصدق به، وإن كان لغيره فليس عليه الصدقة بمال غيره. 2 - باب الْقَلِيلِ مِنَ الْغُلُولِ وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنَّهُ حَرَّقَ مَتَاعَهُ وَهَذَا أَصَحُّ. 1890 / فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: كِرْكِرَةُ، فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (هُوَ فِى النَّارِ) ، فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَجَدُوا عَبَاءَةً، قَدْ غَلَّهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 قال المهلب: هذا يشبه ما قبله، أى أنه فى طريق النار إن أنفذ الله عليه الوعيد. وقول البخارى: (وهذا أصح) يعى: حديث عبد الله بن عمرو (أن رسول الله لم يحرق رحل كركرة حين وجد فيه الغلول) . وحديث ابن عمر انفرد به صالح بن محمد بن زائدة عن سالم، وهو ضعيف مدنى، تركه مالك، وليس ممن يحتج بحديثه. وقد قال قوم من العلماء بحديث ابن عمر أنه يحرق رحل الغال. قال الحسن البصرى: يحرق متاعه كله إلا أن يكون حيوانًا أو مصحفًا. وقال مكحول وسعيد بن عبد العزيز والأوزاعى: يحرق متاعه كله. وقال الأوزاعى: إلا ما غل وسلاحه وثيابه التى عليه. وقال مالك وأبو حنيفة والليث والثورى والشافعى: إنه يعزر ولا يحرق رحله. وقد ذكرنا إجماع الفقهاء أن على الغال أن يرد ما غل إلى صاحب المقاسم وهى توبة له. وقال الطحاوى: ولو صح حديث ابن عمر لاحتمل أن يكون حيث كانت العقوبات فى الأموال، كما قال فى مانع الزكاة، وفى ضالة الإبل غرامتها مثليه وجلدات نكال، وهذا كله منسوخ. وفى هذا الحديث تحريم قليل الغلول وكثيره كما قال (صلى الله عليه وسلم) للذى أتاه بالشراك من المغنم قال: (شراك أو شراكان من نار) وقال فى الشملة: (إنها تشتعل عليه نارًا يوم القيامة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 3 - باب: مَا يُكْرَهُ مِنْ ذَبْحِ الإِبلِ والغَنَمِ فِى المَغَانمِ 891 / فيه: رَافِعٍ، كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، وَأَصَبْنَا إِبِلا وَغَنَمًا، وَكَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، فَعَجِلُوا، فَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَأَمَرَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ، فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ وَفِى الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ، فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: (هَذِهِ الْبَهَائِمُ لَهَا أَوَابِدُ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا) . قال المهلب: إنما أمر رسول الله بإكفاء القدور من لحوم الإبل والبقر وأكلها جائز، فيء دار الحرب بغير إذن الإمام عند العلماء. هذا قول مالك والليث والأوزاعى والشافعى وجماعة من العلماء رخصوا فى ذبح الأنعام فى بلاد العدو للأكل وفى أكل الطعام؛ لأن هؤلاء الذين أكفئت عليهم القدور إنما ذبحوه بذى الحليفة وهى أرض الإسلام، وليس لهم أن يأخذوا فى أرض الإسلام إلا ما قسم لهم؛ لأنها غنيمة فاضلة، وإباحة الأكل من المغنم إنما هو فى أرض العدو وقبل تخليص الغنيمة وإحرازها، فهذا الفرق بينهما. وقد قال الثورى والشافعى: إن ما أخذه المرء من الطعام فى أرض العدو فيفضل منه فضلة وتقدم بها إلى بلدة الإسلام أنه يردها إلى الإمام. وقال أبو حنيفة: يتصدق به، فكيف من يتسور فيه فى أرض الإسلام ويأخذه بغير إذن الإمام؟ ورخص مالك فى فضلة الزاد مثل الخبز واللحم إذا كان يسيرًا لا بال له. وهو قول أحمد بن حنبل. وقال الليث: أحب إلى إذا دنا من أهله أن يطعمه أصحابه. وقال الأوزاعى: يهديه إلى أهله. وأما البيع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 236 فلا يصلح، فإن باعه وضع ثمنه فى المغنم، فإن فات ذلك تصدق به عن الجيش، ورخص فيه سليمان بن موسى. قال المهلب: وأمرهم (صلى الله عليه وسلم) بإكفاء القدور ليعلمهم أن الغنيمة إنما يستحقونها بعد قسمته لها فلا يفتاتوا فى أخذ شيء قبل وجوبه لقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه (ولقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله (. قال الحسن: إن هذه الآية نزلت فى أهل، نحروا قبل أن يصل النبى (صلى الله عليه وسلم) فأمرهم أن يعيدوا الذبح. وقال مجاهد فى هذه الآية: لا تفتاتوا على رسول الله بشيء حتى يقضيه الله على لسانه. وقال الكلبى: لا تقدموا بين يدى الله ورسوله بقول ولا فعل. وفيها: قول آخر ذكره ابن المنذر، عن سماك بن حرب، عن ثعلبة بن الحكم قال: (أصبنا يوم خيبر غنمًا فانتهبناها، فجاء رسول الله وقدورهم تغلى فقال: إنها نهبة فأكفئوا القدور وما فيها؛ فإنها لا تحل النهبة) . قال بعض أهل العلم: هذا يدل أنهم كانوا قد خرجوا من بلاد العدو؛ لأن النهبة مباحة فى بلاد العدو وغير مباحة فى دار الإسلام، وهذه القصة أصل فى جواز العقوبة فى المال. وقوله: (فأكفئت) قال الطبرى: الأشهر والأفصح فى كلام العرب أن يقال: كفأ القوم القدور يكفئونها، وإن كانت الأخرى (أكفأت) محكية ذكرها ابن الأعرابى عن العرب. وسيأتى ما فى الحديث من الغريب فى (كتاب الذبائح) إن شاء الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 4 - باب: الْبِشَارَةِ فِى الْفُتُوحِ 892 / فيه: جَرِير، قَالَ لِى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا تُرِيحُنِى مِنْ ذِى الْخَلَصَةِ) ؟ وَكَانَ بَيْتًا فِى خَثْعَمُ، يُسَمَّى الكَعْبَةَ الْيَمَانِيَةِ، فَانْطَلَقْتُ فِى خَمْسِينَ وَمِائَةٍ فارس كلهم مِنْ أَحْمَسَ، فَكَسَرَهَا وَحَرقها وَأَرْسَلَ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يُبَشِّرُهُ. . . . الحديث. فيه: البشارة فى الفتوح وما كان فى معناه من كل ما فيه ظهور الإسلام واهله، ليبشر المسلمون بإعلاء الدين، ويبتهلوا إلى الله فى الشكر على ما وهبهم من نعمه ومن عليهم من إحسانه، فقد أمر الله تعالى عباده بالشكر ووعدهم المزيد فقال تعالى: (لئن شكرتم لأزيدنكم (. 5 - باب: لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ 893 / فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: (لا هِجْرَةَ، بعد الفتح وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ. . . . . الحديث. 1894 / وفيه: مُجَاشِعِ، أنَّهُ جَاءَ بِأَخِيهِ مُجَالِدِ بْنِ مَسْعُودٍ إِلَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: هَذَا مُجَالِدٌ، يُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: (لا هِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلَكِنْ أُبَايِعُهُ عَلَى الإسْلامِ) . 1895 / وفيه: عَائِشَةَ، انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ بَعْدَ فَتَحَ مَكَّةَ. 1896 / وروى البخارى عن عطاء قال: زرت عَائِشَة مَع عُبيد بْن عمير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 فَسَألها عن الْهِجْرَةِ، فَقَالَتْ: لاَ هِجْرَةَ اليوم، وَكَانَ المؤمنون يفر أحدهم بدينه إِلى اللَّه، وَإِلى رسوله مخافة أن يفتن عليه، وأما اليوم فقد أظهر الله الإِسْلامِ، وَالْمؤمن يعبد ربه كيف شاء، وَلكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ. فهذا بين أن الهجرة منسوخة بعد الفتح إلا أن سقوط فرضها بعد الفتح لا يسقطها عمن هاجر قبل الفتح، فدل أن قوله: (لا هجرة بعد الفتح) ليس على العموم؛ لأن الأمة مجمعة أن من هاجر قبل الفتح أنه يحرم عليه الرجوع إلى وطنه الذى هاجر منه، كما حرم على أهل مكة الرجوع إليها، ووجب عليهم البقاء مع النبى، والتحول معه حيث تحول لنصرته ومؤازرته وصحبته وحفظ شرائعه والتبليغ عنه، وهم الذين استحقوا اسم المهاجرين ومدحوا به دون غيرهم. ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) رثى بسعد بن خولة أن مات بمكة فى الأرض التى هاجر منها، ولذلك دعا لهم فقال: (اللهم أمض لأصحابى هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم) . وذكر أبو عبيد فى كتاب (الأموال) أن الهجرة كانت على غير أهل مكة من الرغائب ولم تكن فرضًا، يدل على ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) للذى سأله عن الهجرة: (إن شأنها شديد، فهل لك من إبل تؤدى زكاتها؟ قال: نعم. قال: فاعمل من وراء البحار؛ فإن الله لا يترك من عملك شيئًا) ولم يوجب عليه الهجرة. وقيل: إنما كانت الهجرة واجبة إذا أسلم بعض أهل البلد ولم يسلم بعضهم لئلا يجرى على من أسلم أحكام الكفار، فأما إذا أسلم كل من فى الدار فلا هجرة عليهم؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) لوفد عبد القيس حين أمرهم بما أمرهم به ولم يأمرهم بهجرة أرضهم: (وقد عذر الله المستضعفين من الرجال والنساء الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 سبيلا) يعنى: طريقًا إلى المدينة، وأما الهجرة الباقية إلى يوم القيامة فقوله (صلى الله عليه وسلم) : (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) . 6 - باب: إِذَا اضْطُرَّ الرَّجُلُ إِلىَ النَّظَرِ فِى شُعُورِ أَهْل الذِّمَّةِ والمؤُمِنَاتِ إِذَا عَصَيْنَ اللَّهِ وَتَجْرِيدِهِنَّ 897 / فيه: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ - وَكَانَ عُثْمَانِيًّا - قَالَ لابْنِ عَطِيَّةَ - وَكَانَ عَلَوِيًّا -: إِنِّى لأعْلَمُ مَا الَّذِى جَرَّأَ صَاحِبَكَ عَلَى الدِّمَاءِ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: بَعَثَنِى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَالزُّبَيْرَ، فَقَالَ: ائْتُوا رَوْضَةَ خاخ، تَجِدُونَ بِهَا امْرَأَةً أَعْطَاهَا حَاطِبٌ كِتَابًا، فَأَتَيْنَا الرَّوْضَةَ، فَقُلْنَا: الْكِتَابَ، قَالَتْ: لَمْ يُعْطِنِى، قُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ أَوْ لَنُجَرِّدَنَّكِ، فَأَخْرَجَتْ مِنْ حُجْزَتِهَا. . . . الحديث. قال المهلب: فى هذا الحديث من الفقه أن من عصى الله لا حرمة له، وأن المعصية تبيح حرمته وتزيل سترته، ألا ترى أن عليا والزبير أرادا كشف المرأة لو لم تخرج الكتاب؛ لأن حملها له ضرب من التجسس على المسلمين، ومن فعل ذلك فعليه النكال بقدر اجتهاد الإمام مسلمًا كان أو كافرًا. وقد أجمعوا أن المؤمنات والكافرات فى تحريم الزنا بهن سواء فكذلك فى تحريم النظر إليهن متجردات، فهن سواء فيما أبيح من النظر إليهن فى حق الشهادة أو إقامة الحد عليهن، وهذا كله من الضرورات التى تبيح المحظورات. وقول أبى عبد الرحمن: (إنى لأعلم ما الذى جرأ صاحبك على الدماء) ظن منه؛ لأن عليا على مكانته من الفضل والعلم لا يقتل أحدًا إلا بالواجب، وإن كان قد ضمن له الجنة بشهوده بدرًا وغيرها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 240 7 باب: اسْتِقْبَال الغُزَاةِ 898 / - فيه: ابْنُ الزُّبَيْر، قلت لابْنِ جَعْفَرٍ: أَتَذْكُرُ إِذْ لَقَّيْنَا النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنَا وَأَنْتَ وَابْنُ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَمَلَنَا وَتَرَكَكَ. 1899 / - قَالَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ: ذَهَبْنَا نَتَلَقَّى النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَعَ الصِّبْيَانِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ. قال المهلب: التلقى للمسافرين والقادمين من الجهاد والحج بالبشر والسرور أمر معروف، ووجه من وجوه البر. وبهذا الحديث ثبت تشييعهم؛ لأن ثنية الوداع إنما سميت بذلك؛ لأنهم كانوا يشيعون الحاج والغزاة إليها ويودعونهم عندها، وإليها كانوا يخرجون صغارًا وكبارًا عند التلقى، وقد يجوز تلقيهم بعدها وتشييعهم إلى أكثر منها، وفيه الفخر بإكرام النبى (صلى الله عليه وسلم) . 8 - باب: مَا يَقُولُ إِذَا رَجَعَ مِنَ الغَزْوِ 900 / وفيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا قَفَلَ كَبَّرَ ثَلاثًا، قَالَ: (آيِبُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَائِبُونَ عَابِدُونَ حَامِدُونَ لِرَبِّنَا سَاجِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ) . 1901 / وفيه: أَنَس، كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَقْفَلَهُ مِنْ عُسْفَانَ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَقَدْ أَرْدَفَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَىٍّ، فَعَثَرَتْ نَاقَتُهُ، فَصُرِعَا جَمِيعًا، فَاقْتَحَمَ أَبُو طَلْحَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: (عَلَيْكَ الْمَرْأَةَ) ، فَقَلَبَ ثَوْبًا عَلَى وَجْهِهِ، وَأَتَاهَا فَأَلْقَاهُ عَلَيْهَا، وَأَصْلَحَ لَهُمَا مَرْكَبَهُمَا، فَرَكِبَا وَاكْتَنَفْنَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمَّا أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ: (آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ) ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 قال المهلب: قد تقدم القول فى التكبير عند الصعود والإشراف على المدن والتسبيح عند الهبوط. وفيه إرداف المرأة خلف الرجل وسترها عن الناس، وفيه ستر من لا تجوز رؤيته وستر الوجه عنه. وفيه خدمة العالم والإمام وخدمة أهله. وفيه اكتناف الإمام والاجتماع حوله عند دخول المدن وتلقى الناس سنة ماضية وأمر جار. قال المؤلف: وفيه حمد الله للمسافر عند إتيانه سالمًا إلى أهله وسؤاله الله التوبة والعبادة، وتقدير الكلام: نحن آيبون عابدون حامدون لربنا ساجدون إن شاء الله على ما رزقنا من السلامة والنصر وصدق الوعد ولا تتعلق المشيئة بقوله: (آيبون) لوقوع الإياب، وإنما تتعلق بباقى الكلام الذى لم يقع بعد. وفيه: أنه يجوز للمتكلم أن يقدم المشيئة لله فى أول كلامه، ثم يصلها بما يحب إيقاعه من الفعل. وفيه: أن الرجل الفاضل ينبغى له عندما تجدد له نعمة وسلامة أن يقر لله بطاعته ويسأله أن يديم له حال توبته وعبادته له، وإن كان الرسول قد تقرر عنده أنه لا يزال تائبًا عابدًا ساجدًا حامدًا لربه، لكن هذا هو أدب الأنبياء أخذًا بقوله تعالى: (ولا تقولن لشيء إنى فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله (. ولعلمهم بمواقع نعم الله عندهم يعترفون له بها، ويرغبون ويبرءون إليه من الحول والقوة، ويظهرون الافتقار إليه مبالغة فى شكره تعالى، ولتقتدى بهم أممهم فى ذلك صلوات الله عليهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 9 - باب: الصَّلاَةِ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ 902 / فيه: جَابِر، كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى سَفَرٍ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، قَالَ لِى: (ادْخُلِ الْمَسْجِدَ، فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ) . 1903 / وفيه: كَعْب، كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ ضُحًى، دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ. قال المهلب: الصلاة عند القدوم سنة وفضيلة فيها معنى الحمد لله على السلامة والتبرك بالصلاة أول ما يبدأ به فى حضره، ونعم المفتاح هى إلى كل خير، وفيها يناجى العبد ربه تعالى وذلك هدى رسول الله وسنته، ولنا فيه أكرم الأسوة. 0 - باب الطَّعَامِ عِنْدَ الْقُدُومِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفْطِرُ لِمَنْ يَغْشَاهُ . 1904 / - فيه: جَابِر، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، نَحَرَ جَزُورًا أَوْ بَقَرَةً. وقال مرة: فَلَمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، أَمَرَنِى أَنْ آتِىَ الْمَسْجِدَ، فَأُصَلِّىَ فيه. (صرار) موضع فى نواحى المدينة. فيه: إطعام الإمام والرئيس أصحابه عند القدوم من السفر، وهو مستحب ومن فعل السلف. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: قوله: (كان ابن عمر يفطر لمن يغشاه) أى: إذا قدم من سفر أطعم من يغشاه وأفطر معهم، أى ترك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 قضاء رمضان؛ لأنه كان لا يصوم رمضان فى السفر أصلا، فإذا انقضى إطعامه وزاده ابتدأ قضاء رمضان الذى أفطره فى السفر، وقد جاء هذا مفسرًا فى (الأحكام) لإسماعيل. قال المؤلف: أما الذى ذكره إسماعيل عن ابن عمر فليس فيه ما يدل على صحة ما تأوله أبو عبد الله، والذى ذكر إسماعيل عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر (أنه كان إذا كان مقيمًا لم يفطر، وإذا كان مسافرًا لم يصم، فإذا قدم أفطر أيامًا لغاشيته ثم يصوم) فليس يدل هذا أن سفره كان أبدًا فى رمضان دون سائر الشهور، بل قوله: (إذا كان مقيمًا لم يفطر) يدل أن إفطاره لغاشيته قد يكون من صيامه التطوع، فيحتمل أن يبيت الفطر. فإن قيل: ويحتمل أن يبيت الصيام ثم يفطر لوراده بعد التبييت. قال أبو عبد الله: يرد ذلك قوله: (ذلك الذى يلعب بصومه) وقد زوج ابنته ولم يفطر، وقد دعاه عروة بن الزبير إلى وليمة فلم يفطر. وقال: (لو أخبرتنى، ولكنى أصبحت صائمًا) فكيف لم يغشاه؟ قال المهلب: فأما إفطار سلمان لأبى الدرداء إذ بات عنده؛ فإنما كان ذلك لأن أبا الدرداء كان اسرف على نفسه فى العبادة وسرمد الصوم، فأراد سلمان أن يأخذ به طريق الرخصة فى الإفطار بعد التبييت، ألا ترى أن ذلك جائز عند جماعة العلماء فى الفرض إذا بيته فى السفر ثم أدركته مشقة الصوم أن له أن يفطر، فكيف التطوع؟ فأخذ سلمان بالرخصة، وأخذ ابن عمر بالشدة؛ لأنه رأى التبييت من العقود التى أمره الله بالوفاء بها. وقد تقدم ما للعلماء فى ذلك فى كتاب الصيام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 - كِتَابُ الخُمُس فَرْضُ الخُمُسِ 905 / فيه: عَلِىّ، كَانَتْ لِى شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِى مِنَ الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) أَعْطَانِى شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنِىَ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَاعَدْتُ رَجُلا صَوَّاغًا مِنْ بَنِى قَيْنُقَاعَ أَنْ يَرْتَحِلَ مَعِىَ، فَنَأْتِىَ بِإِذْخِرٍ، أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ الصَّوَّاغِينَ، وَأَسْتَعِينَ بِهِ فِى وَلِيمَةِ عُرْسِى، فَبَيْنَا أَنَا أَجْمَعُ لِشَارِفَىَّ مَتَاعًا مِنَ الأقْتَابِ وَالْغَرَائِرِ وَالْحِبَالِ، وَشَارِفَاىَ مُنَاخَتَانِ إِلَى جَنْبِ حُجْرَةِ رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ، فَرَجَعْتُ، حِينَ جَمَعْتُ مَا جَمَعْتُ فَإِذَا شَارِفَاىَ قَدِ اجْتُبَّ أَسْنِمَتُهُمَا، وَبُقِرَتْ خَوَاصِرُهُمَا، وَأُخِذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا، فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَىَّ حِينَ رَأَيْتُ ذَلِكَ الْمَنْظَرَ مِنْهُمَا، فَقُلْتُ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ فَقَالُوا: فَعَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِالْمُطَّلِبِ، وَهُوَ فِى هَذَا الْبَيْتِ، فِى شَرْبٍ مِنَ الأنْصَارِ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَعَرَفَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى وَجْهِى الَّذِى لَقِيتُ، فَقَالَ: مَا لَكَ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ، عَدَا حَمْزَةُ عَلَى نَاقَتَىَّ؛ فَاجْتَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا، وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا، وَهَذا هُوَ ذَا فِى بَيْتٍ مَعَهُ شَرْبٌ، فَدَعَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِرِدَائِهِ، فَارْتَدَى، ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِى، وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ الَّذِى فِيهِ حَمْزَةُ، فَاسْتَأْذَنَ، فَأَذِنُوا لَهُمْ، فَإِذَا هُمْ شَرْبٌ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَلُومُ حَمْزَةَ فِيمَا فَعَلَ، فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ مُحْمَرَّةً عَيْنَاهُ، فَنَظَرَ حَمْزَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 فَنَظَرَ إِلَى رُكْبَتِهِ، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ، فَنَظَرَ إِلَى سُرَّتِهِ، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ، فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ: هَلْ أَنْتُمْ إِلا عَبِيدٌ لأبِى، فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَنَكَصَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى، وَخَرَجْنَا مَعَهُ. 1906 / وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ بنَت الرسول سَأَلَتْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَقْسِمَ لَهَا مِيرَاثَهَا، مِمَّا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا نُورَثُ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ) ، فَغَضِبَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَهَجَرَتْ أَبَا بَكْرٍ، فَلَمْ تَزَلْ مُهَاجِرَتَهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سِتَّةَ أَشْهُرٍ، قَالَتْ: وَكَانَتْ فَاطِمَةُ تَسْأَلُ أَبَا بَكْرٍ نَصِيبَهَا مِمَّا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ خَيْبَرَ وَفَدَكٍ وَصَدَقَتَهُ بِالْمَدِينَةِ، فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ عَلَيْهَا ذَلِكَ، وَقَالَ: لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَعْمَلُ بِهِ، إِلا عَمِلْتُ بِهِ فَإِنِّى أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ، فَأَمَّا صَدَقَتُهُ بِالْمَدِينَةِ، فَدَفَعَهَا عُمَرُ إِلَى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ، وَأَمَّا خَيْبَرُ وَفَدَكٌ، فَأَمْسَكَهَا عُمَرُ، وَقَالَ: هُمَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَتَا لِحُقُوقِهِ الَّتِى تَعْرُوهُ وَنَوَائِبِهِ وَأَمْرُهُمَا إِلَى مَنْ وَلِىَ الأمْرَ، قَالَ: فَهُمَا عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ. 1907 / وفيه: مَالِكِ بْنِ أَوْسِ، كنا عند عُمَر إذا جاء حَاجِبُهُ يَرْفَا، فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِى عُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ، يَسْتَأْذِنُونَ، قَالَ: نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا فَسَلَّمُوا وَجَلَسُوا، ثُمَّ جَلَسَ يَرْفَأ يَسِيرًا، ثُمَّ قَالَ: هَلْ لَكَ فِى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُمَا فَدَخَلا فَسَلَّمَا فَجَلَسَا، فَقَالَ عَبَّاسٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنِى وَبَيْنَ هَذَا، وَهُمَا يَخْتَصِمَانِ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ مَالِ بَنِى النَّضِيرِ، فَقَالَ الرَّهْطُ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنَهُمَا، وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنَ الآْخَرِ، قَالَ عُمَرُ: تَيْدَكُمْ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِى بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: لا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَفْسَهُ، قَالَ الرَّهْطُ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ، تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالا: قَدْ قَالَ ذَلِكَ، قَالَ عُمَرُ: فَإِنِّى أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأمْرِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) [الحشر 6] إِلَى قَوْلِهِ: (قَدِيرٌ (فَكَانَتْ هَذِهِ خَاصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ، وَلا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ، قَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِىَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ (صلى الله عليه وسلم) يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِىَ، فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ، فَعَمِلَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَيَاتَهُ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ لِعَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ، هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ، قَالَ عُمَرُ: ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ رَسُولَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِىُّ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ، تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، فَكُنْتُ أَنَا وَلِىَّ أَبِى بَكْرٍ، فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَتِى أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّى فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ جِئْتُمَا تُكَلِّمَانِى وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ، وَأَمْرُكُمَا وَاحِدٌ جِئْتَنِى يَا عَبَّاسُ تَسْأَلُنِى نَصِيبَكَ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، وَجَاءَنِى هَذَا - يُرِيدُ عَلِيًّا - يُرِيدُ نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا، فَقُلْتُ لَكُمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: لا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، فَلَمَّا بَدَا لِى أَنْ أَدْفَعَهُ إِلَيْكُمَا، قُلْتُ: إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَعْمَلانِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ وَبِمَا عَمِلْتُ فِيهَا مُنْذُ وَلِيتُهَا، فَقُلْتُمَا ادْفَعْهَا إِلَيْنَا، فَبِذَلِكَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا، فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ؟ قَالَ الرَّهْطُ: نَعَمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ، هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ؟ قَالا: نَعَمْ، قَالَ: فَتَلْتَمِسَانِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 مِنِّى قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ، فَوَاللَّهِ الَّذِى بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ لا أَقْضِى فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا، فَادْفَعَاهَا إِلَىَّ؛ فَإِنِّى أَكْفِيكُمَاهَا. قال المؤلف: أما قول على: أعطانى النبى (صلى الله عليه وسلم) شارفًا من الخمس: يعنى يوم بدر، فظاهره أن الخمس قد كان يوم بدر، ولم يختلف أهل السير أن الخمس لم يكن يوم بدر. ذكر إسماعيل ابن إسحاق قال: فى غزوة بنى قريظة حين حكم سعد بأن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية قيل: إنه أول يوم جعل فيه الخمس. قال: وأحسب أن بعضهم قال: نزل أمر الخمس بعد ذلك، ولم يأت فى ذلك من الحديث ما فيه بيان شاف، وإنما جاء أمر الخمس يقينًا فى غنائم حنين، وهى آخر غنيمة حضرها رسول الله. قال المؤلف: وإذا لم يختلف أن الخمس لم يكن يوم بدر فيحتاج قول على: أعطانى رسول الله شارفًا من الخمس إلى تأويل لا يعارض قول أهل السير، ويحتمل أن يكون معناه والله أعلم ما ذكره ابن إسحاق أن النبى بعث عبد الله بن جحش فى رجب فى السنة الثانية من الهجرة قبل بدر الأولى فى سرية إلى نخلة بين مكة والطائف فوجد بها قريشًا، فقتلوهم وأخذوا العير. قال ابن إسحاق: ذكر لى بعض آل عبد الله بن جحش أن عبد الله قال لأصحابه: إن لرسول الله مما غنمنا الخمس. وذلك قبل أن يفرض الله الخمس من المغنم فعزل لرسول الله خمس العير، وقسم سائرها بين أصحابه، فوقع فرض الله فى قسمة الغنائم على ما كان عبد الله صنع فى تلك العير، ثم خرج رسول الله فى رمضان بعد هذه السرية إلى بدر فقتل بها صناديد الكفار. فبان بهذا الخبر معنى قول على أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 الرسول أعطاه شارفًا من نصيبه من المغنم يوم بدر (وأعطانى رسول الله شارفًا من الخمس يومئذ) . واختلف العلماء فى الخمس كيف يقسمه الإمام، فقال مالك: يسلك الخمس مسلك الفيء، فإن رأى الإمام جعل ذلك لنوائب تنزل بالمسلمين فعل، وإن شاء قسمه فأعطى كل واحد على قدر ما يغنيه، ولا بأس أن يعطى أقرباء رسول الله على قدر اجتهاد الإمام، وكان يرى التفضيل فى العطاء على قدر الحاجة. وقال أبو حنيفة: الخمس على ثلاثة أسهم، يقسم سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل فيهم، ويؤخذ سهم ذوى القربى وسهم النبى فيردان فى الكراع والسلاح. واحتج أبو حنيفة بما رواه الثورى عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد ابن الحنفية أنهم اختلفوا فى سهم الرسول وسهم ذوى القربى، فقال: سهم الرسول للخليفة بعده. وقال بعضهم: سهم ذوى القربى هو لقرابة الرسول. وقال بعضهم: هو لقرابة الخليفة. فأجمع رأيهم أنهم جعلوا هذين السهمين فى العدة والخيل، فكان ذلك فى خلافة أبى بكر وعمر. قال إسماعيل بن إسحاق: ولا يجوز أن يبطل عمر ولا غيره سهم ذوى القربى؛ لأنه مسمى فى كتاب الله ولم ينسخه شيء، ومن أبطله فقد ركب أمرًا عظيمًا. وزعم الشافعى أن الخمس يقسم على خمسة أخماس، فيرد سهم النبى (صلى الله عليه وسلم) على من سمى معه من أهل الصدقات وهم ذوو القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وزعم أن قوله: (لله (مفتاح كلام. قال إسماعيل: ويسقط أبو حنيفة سهم ذوى القربى وأخذ فى طرف، وأخذ الشافعى فى طرف آخر وترك التوسط من القول الذى مضى عليه الأئمة. والاختلاف الذى اختلفوا فيه لم يكن على ما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 توهم أبو حنيفة وإنما روى ابن عباس أنهم ناظروا عمر فى سهم ذوى القربى على أن يكون لهم خمس الخمس فأبى عمر من ذلك، وذهب إلى أن الخمس يقسم فى ذوى القربى وغيرهم على الاجتهاد. قال إسماعيل: قوله: (لله (وقد ذكر الله فى كتابه: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول (وقال تعالى: (قل الأنفال لله والرسول (فأى كلام جاء بعد هذا فيكون هذا مفتاحًا له. وإذا قيل: (لله) فهو أمر مفهوم اللفظ والمعنى؛ لأنه يعلم أن الرجل إذا قال: فعلت هذا الشيء لله أنه فيما يقرب إلى الله، وهذا لا يحتاج أن يقال فيه: مفتاح كلام. وكذلك قوله: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول (معناه فيما يقرب من الله ورسوله، وكذلك قال عمر بن عبد العزيز فى قوله: (لله (قال: اجعلوه فى سبيل الله التى يأمر بها، ولو كان قوله: (الله (لا يوجب شيئًا لكان ما بعده لا يوجب شيئًا؛ لأن ما بعده معطوف عليه، فإن كان القول الأول لا يجب به شيء فكذلك ما عطف عليه لا يجب به شيء. وأما حديث تنازع على والعباس فلم يتنازعا فى الخمس، وإنما تنازعا فيما كان لرسول الله خاصا مما لم يوجف عليه بخيل ولاركاب فتركه الرسول صدقة بعد وفاته، فحكمه كحكم الفيء، ففيه حجة لمالك فى قوله: إن مجرى الخمس والفئ واحد، وهو خلاف قول الشافعى أن الفئ فيه الخمس، وأن خمس الفيء يقسم على خمسة أسهم وهم الذين قسم الله لهم خمس الغنيمة. وهذا لم يقله أحد قبل الشافعى، والناس على خلافه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 250 وقول عمر فى حديث مالك ابن أوس: (فكان الرسول ينفق على أهله منه نفقة سنتهم، ثم يأخذ ما بقى منه فيجعله مجعل ما لله) يعنى: مجعل الفيء، ولم يذكر أنه كان (صلى الله عليه وسلم) يلزمه إخراج الخمس منه حجة على الشافعى؛ لأنه يمكن أن يفضل له من سهمه بخيبر بعد نفقة سنته مثل الذى ينفقه أو أكثر أو أقل، ولو كان فيه الخمس لبين ذلك. وقال الطحاوى: وقول الشافعى فى الفيء أنه يخمس خطأ؛ لأن الله تعالى ذكر الغنائم فأوجب فيها الخمس، وذكر الفئ فقال تعالى: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى (فذكر فيه الرسول وذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كما قال تعالى فى آية الخمس، ثم قال تعالى: (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم () والذين جاءوا من بعدهم (فذكر فى الغنائم الخمس لأصناف مذكورين، وذكر فى آية الفيء الجميع فى جميع الفيء، حيث أن حكم الفيء غير حكم الغنيمة. قال المهلب: ووجه هجران فاطمة لأبى بكر أنها لم يكن عندها قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا نورث، ما تركنا صدقة) ولا علمته، ثم أنفت أن تكون لا ترث أباها كما يرث الناس فى الإسلام والجاهلية، مع احتمال الحديث عندها أنه (صلى الله عليه وسلم) أراد بعض المال دون بعض، وأنه لم يرد به الأصول والعقار، فانقادت وسلمت للحديث. وإنما كان هجرها له اقباضًا عن لقائه وترك مواصله وليس هذا من الهجران المحرم، وإنما المحرم من ذلك أن يلتقيا فلا يسلم أحدهما على صاحبه، ولم يرو أحد أنهما التقيا وامتنعا من التسليم، ولو فعلا ذلك لم يكونا بذلك متهاجرين إلا أن تكون النفوس مظهرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 251 للعداوة والهجران، لكنها وجدت عليه أن حرمها ما لم يحرم أحد. ولسنا نظن بهم إضمار الشحناء والعداوة، وإنما هم كما وصفهم الله) رحماء بينهم (وروى عن على أنه لم يغير شيئًا من سنة أبى بكر وعمر بعد ولايته فى تركة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بل أجرى الأمر على ما أجرياه فى حياتهما. فإن قيل: فما معنى حديث عائشة فى هذا الباب، وليس فيه ذكر الخمس؟ قيل: هو موافق للباب؛ وذلك أن فاطمة إنما جاءت تسأل ميراثها من الرسول من فدك وخيبر وغيرهما، وفدك مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فلم يجر فيها خمس. وأما خيبر فابن شهاب ذكر أن بعضها صلح وبعضها عنوة، فجرى فيها الخمس. وقد جاء هذا فى بعض طرق الحديث فى كتاب المغازى قالت عائشة: (إن فاطمة جاءت تسأل نصيبها مما ترك الرسول مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك، وإلى ما بقى من خمس خيبر) وإلى هذا إشارة البخارى، واستغنى بشهرة الأمر عن إيراده مكشوفًا بلفظ (الخمس) فى هذا الباب. وفى حديث مالك بن أوس من الفقه أنه يجب أن يولى أمر كل قبيلة سيدهم؛ لأنه أعرف باستحقاق كل رجل منهم لعلمه بهم. وفيه: أن للإمام أن ينادى الرجل الشريف باسمه وبالترخيم له، ولا عار على المنادى بذلك ولا نقيصة. وفيه: استعفاء الإمام مما يوليه، واستنزاله فى ذلك بألين الكلام؛ لقول مالك لعمر حين أمره بقسمة المال بين قومه: (لو أمرت به غيري) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 252 وفيه: الجلوس بين يدى السلطان بغير إذنه. وفيه: الشفاعة عند الإمام فى إنفاذ الحكم إذا تفاقمت الأمور وخشى الفساد بين المتخاصمين؛ لقول عثمان: (اقض بينهما، وأرح أحدهما من الآخر) وقد ذكر البخارى فى المغازى أن عليا والعباس استبا يومئذ. وفيه: تقرير الإمام من يشهد له على قضائه وحكمه، وبيان وجه حكمه للناس. وأما مجيء العباس وعلى إلى أبى بكر فإنما جاءا يطلبان الميراث من تركة النبى من أرضه من فدك وسهمه من خيبر وصدقته بالمدينة على ما ثبت من حديث عائشة فى هذا الباب، فأخبرهم أنه قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا نورث، ما تركنا صدقة) فسلما لذلك وانقادا، ثم جاءا بعد ذلك إلى عمر على اتفاق بينهما، يطلبان أن يوليهما العمل، والنظر فيما أفاء الله على رسوله من بنى النضير خاصة؛ ليقوما به، ويسبلاه فى السبل التى كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يسبله فيها؛ إذ كانت عند ذلك مصروفة فى تقوية الإسلام وأهله، وسد خلة أهل الحاجة منهم، فدفعه عمر إليهما على الإشاعة بينهما والتساوى والاشتراك فى النظر والأجرة. وأما مجيئهما إليه المرة الثانية فلا يخلو من أحد وجهين إما أن يطلب كل واحد منهما أن ينفرد بالعمل كله، أو ينفرد بنصيبه؛ فرا من الإشاعة؛ لما يقع بين العمال والخدم من التنازع، فأبى عمر أن يكون إلا على الإشاعة؛ لأنه لو أفرد واحدًا منهما بالعمل والنظر لكان وجهًا من وجوه الأثرة، فتناسخ القرون وهى بيد بعض قرابة الرسول دون بعض فيستحقها الذى هى بيده، ولم ير أن يجعلها نصفين على غير الإشاعة؛ لأن سنة الأوقاف ألا تقسم بين أهلها، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 وإنما يقسم علاتها، فلذلك حلف أن يتركها مجملة ولا يقسمها بينهم، فيشبه ذلك التوريث، والله أعلم. وقد ذكر البخارى فى المغازى أن عليا غلب العباس على هذه الصدقة ومنعه منها، ثم كانت بيد بنى على بعده يتداولونها. وجميع ما تركه الرسول من الأصول وما جرى مجراها مما يمكن بقاء أصله والانتفاع به، فحكمه حكم الأوقاف تجرى علاتها على المساكين، والأصل باق على ملك الموقف، فقوله: (ما تركنا صدقة) يعنى: صدقة موقوفة، وسيأتى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا نورث، ما تركنا صدقة) فى كتاب الفرائض إن شاء الله. وأما قوله: (إن الله خص رسوله) فخصه بإحلال الغنيمة ولم تحل لأحد قبله، وخصه بما أفاء الله عليه من غير قتال من أموال الكفار تكون له دون سائر الناس، وخصه بنصيبه فى الخمس، وهذا معنى ذكر هذا الحديث 4 فى باب فرض الخمس، وفيه أنه لا بأس أن يمدح الرجل نفسه ويطريها إذا قال الحق، وذلك إذا ظن بأحد أنه يريد تنقصه. وفيه: جواز ادخار الرجل لنفسه وأهله قوت السنة، وأن ذلك كان من فعل الرسول حين فتح الله عليه من النضير وفدك وغيرهما، وهو خلاف قول جملة الصوفية المنكرة للادخار، الزاعمين أن من أدخر فقد أساء الظن بربه ولم يتوكل عليه حق توكله. وفيه: إباحة اتخاذ العقار التى يبتغى منها الفضل والمعاش بالعمارة، وإباحة اتخاذ نظائر ذلك من المغنم وأعيان الذهب والفضة كسائر الأموال التى يراد بها النماء والمنافع لطلب المعاش وأصولها ثابتة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 وستأتى هذه المسألة فى باب (نفقة النبى بعد وفاته) بزيادة فيها، ويأتى أيضًا فى كتاب الأطعمة إن شاء الله. قال الطبرى: وفيه من الفقه أن أبا بكر قضى على العباس وفاطمة بقول رسول الله: (لا نورث) ولم يحاكمهما فى ذلك إلى أحد غيره، فكذلك الواجب أن يكون للحكام والأئمة الحكم بعلومهم، لأنفسهم كان ذلك أو لغيرهم، بعد أن يكون ما حكموا فيه بعلومهم مما يعلم صحة أمره رعيتهم، أو يعلمه منهم من أن يحتاجوا إلى شهادته إن أنكر بعض ما حكموا به من ذلك عليهم بعض رعيتهم، كان فى شهادتهم لهم براءة ساحاتهم، وثبوت الحجة لهم على المحكوم عليه. قال الطبرى: وفى حديث على أن المسلمين كانوا فى أول الإسلام يشربون الخمر ويسمعون الغناء حتى نهى الله عن ذلك بقوله: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان (إلى قوله: (فهل أنتم منتهون (وسيأتى ما فى سماع الغناء عن السلف فى كتاب الاستئذان وفى كتاب فضائل القرآن، وقد تقدم منه شيء في كتاب صلاة العيدين. وقوله: (رجع القهقرى) قال الأخفش: يعنى: رجع وراءه ووجهه إليك. وقوله فى حديث عمر: (متع النهار) قال صاحب العين: متع النهار متوعًا، وذلك قبل الزوال. وفى قوله: (تيدكم أنشدكم بالله) فذكر الكسائى فى كتابه الذى شرحه: رويد زيد وتيد زيدًا ورويدًا زيدًا بمعنى واحد، ومعناه: أمهل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 زيدًا، ومن روى: أتيدكم، فلا يجوز فى العربية؛ لأن أتاد لا يتعدى إلى مفعول، لا تقول: أتادت زيدًا، وإنما تقول: تدكم، كما تقول رويدكم، ومن روى: أجبت أسنمتها، فلا يعرف ذلك فى اللغة، إنما تقول العرب: جب الشيء إذا قطع منه، ومنه قيل للذى قطع إحليله فاستؤصل: مجبوب، ومن رواه: اجتبت فهو جائز. والثمل: السكران. وسأذكر ما فى هذا الحديث من الغريب فى كتاب المياه فى باب: بيع الحطب والكلأ إن شاء الله. قال الخطابى: وقد احتج بعض أهل العلم بهذا الحديث فى إبطال أحكام السكران وقالوا: لو لزم السكران ما يكون منه فى حال سكره كما كان يلزمه فى حال صحوه لكان المخاطب رسول الله بما استقبله به حمزة كافرًا مباح الدم. قال أبو سليمان: وقد ذهب على هذا القائل أن ذلك كان منه إنما كان قبل تحريم الخمر وفى زمان كان شربها مباحًا، وإنما حرمت الخمر بعد غزوة أحد. قال جابر: (اصطبح الناس الخمر يوم أحد، ثم قتلوا آخر النهار شهداء) فأما وقت شربت فشربها معصية، وما تولد منها لازم، ورخص الله ما تلحق العاصي. قال المهلب: ذهب الخطابى إلى أنه لما كانت الخمر مباحة وقت شربها كان ما تولد منها بالسكر من الجفاء على النبى لا تلزم فيه عقوبة، فعذره (صلى الله عليه وسلم) لتحليل الخمر مع أنه كان شديد التوقير لعمه والتعظيم له والبر به. فأما اليوم والخمر محرمة فيلزم السكران حد الفرية وجميع الحدود؛ لأنه سبب زوال عقله من فعل محرم عليه، وأما ضمان إتلاف الناقتين فلزم حمزة ضمانهما لو طالبه على بذلك ويمكن أن يعوضه النبى منهما؛ إذ العلماء لا يختلفون أن جنايات الأموال لا تسقط عن المجانين وغير المكلفين، ويلزمهم ضمانها فى كل حال كما يلزم العقلاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 فإن قيل: ما تقول فيمن سكر من لبن أو طعام أو دواء مباح فقذف غيره؟ والجواب: أن يحمل محمل المجنون والمغمى عليه والصبى يسقط حد القذف وسائر الحدود غير إتلاف الأموال؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (رفع القلم عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبى حتى يحتلم) فمن سكر من شيء حلال فحكمه حكم هؤلاء. وقد بلغنى عن الفقيه أبى عبد الله بن الفخار أنه كان يقول: من سكر من لبن أو طعام حلال أنه لا يلزمه طلاق إن طلق فى حاله تلك. وحكى الطحاوى أنه إجماع من العلماء. - باب: أَدَاءُ الخُمُسِ مِنَ الدِّين 908 / فيه: ابْن عَبَّاس، قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِالْقَيْسِ، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا هَذَا الْحَىَّ مِنْ رَبِيعَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ، فَلَسْنَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلا فِى الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَأْخُذُ بِهِ، وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا، قَالَ: (آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ، الإيمَانِ بِاللَّهِ وَشَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَعَقَدَ بِيَدِهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُؤَدُّوا لِلَّهِ خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ: الدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ) . قال المهلب: قد تقدم هذا الباب فى كتاب الإيمان وترجم له (باب أداء الخمس من الإيمان) وذلك بين؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) أمرهم بأربع فبدأ بالإيمان بالله وختم بأن تؤدوا إلى الله الخمس، فدخل ذلك فى جملة الإيمان، وإنما لم يأمرهم بالحج؛ لأنه لم يكن نزل حينئذ فرض الحج، وأمرهم بأداء الخمس؛ لأنه لا يكون الخمس إلا من جهاد، وأمرهم بالجهاد داخل فى أمرهم بالخمس، وإنما قصد إلى أداء الخمس؛ لأن كل من بايع لم يبايع إلا على الجهاد، وكان عبد القيس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 أهل غارات، ولم يعرفوا أن يؤدوا منها شيئًا؛ لأنهم كانوا من فتاك العرب، فقصد لهم (صلى الله عليه وسلم) إلى إنهاء ما كانوا عليه من الباطل فذمه لهم، ونهاهم عن أشياء كلها فى معنى الانتباذ؛ لأنهم كانوا كثيرًا يفعلونه، فقصد لهم إلى الظروف التى كانوا يتذرعون فيها إلى السكر لإسراع النبيذ إلى السكر فيها، ونسخ ذلك (صلى الله عليه وسلم) بعد هذا لما أمن منهم التذرع إلى الدباء والمزفت على ما يأتى فى كتاب الأشربة - إن شاء الله. قوله: (ولسنا نصل إليك إلا فى الشهر الحرام) إنما قال ذلك لأن كفار العرب كانوا لا يقاتلون فى الأشهر الحرم، ولا يحملون السلاح فيها. 3 - باب: نَفَقَةِ نِسَاءِ النَّبىِّ (صلى الله عليه وسلم) بَعْدَ وَفَاتِهِ 909 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِى دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِى، وَمَئُونَةِ عَامِلِى، فَهُوَ صَدَقَةٌ) . 1910 / وفيه: عَائِشَةَ، تُوُفِّىَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَمَا فِى بَيْتِى مِنْ شَىْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلا شَطْرُ شَعِيرٍ فِى رَفٍّ لِى، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَىَّ؛ فَكِلْتُهُ فَفَنِىَ. 1911 / وفيه: عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ، مَا تَرَكَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِلا سِلاحَهُ، وَبَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ، وَأَرْضًا تَرَكَهَا صَدَقَةً. قال الطبرى: قوله: (لا تقتسم ورثتى دينارًا ولا درهمًا) ليس بمعنى النهى؛ لأنه لم يترك (صلى الله عليه وسلم) دينارًا ولا درهمًا يقتسم؛ لأنه مات ودرعه مرهونة بوسق من شعير، ولا يجوز النهى عما لا سبيل إلى فعله، وإنما ينهى المرء عما يمكن وقوعه منه. ومعنى الخبر أنه ليس تقتسم ورثتى دينارًا ولا درهمًا؛ لأنى لا أخلفهما بعدي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 وقال غيره: إنما استثنى (صلى الله عليه وسلم) نفقة نسائه بعد موته؛ لأنهن حبوسات عليه لقوله تعالى: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله (الآية. وقوله: (مئونة عاملي) يريد عامل نخله فيما خصه الله به من الفيء فى فدك وبنى النضير، وسهمه بخيبر مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وكان له من ذلك نفقته ونفقة أهله وجعل سائره فى نفع المسلمين. وجرت النفقة بعده من ذلك على أزواجه وعلى عمال الحوائط إلى أيام عمر، فخير عمر أزواجه بين أن يتمادى على ذلك أو يقطع لهن قطائع، فاختارت عائشة وحفصة أن يقطع لهما قطائع فقطع لهما فى [. . . . .] وأخرجهما عن حصتهما من ثمرة تلك الحيطان، فملكتا ما أقطعهما عمر من ذلك إلى أن ماتتا وورث عنهما. قال الطبرى: وفيه من الفقه أن من كان مشتغلا من الأعمال بما فيه لله بر وللعبد عليه من الله أجر أنه يجوز أخذ الرزق على اشتغاله به إذا كان فى قيامه سقوط مئونة عن جماعة من المسلمين أو عن كافتهم، وفساد قول من حرم [. . . . .] أخذ الأجور على أعمالهم، والمؤذنين أخذ الأرزاق على تأذينهم، والمعلمين على تعليمهم. وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) جعل لولى الأمر بعده فيما كان أفاء الله عليه مؤنته، وإنما جعل ذلك لاشتغاله، فبان أن كل قيم بأمر من أمور المسلمين مما يعمهم نفعه سبيله سبيل عامل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى أن له المئونة فى بيت مال المسلمين والكفاية ما دام مشتغلا به، وذلك كالعلماء والقضاة والأمراء وسائر أهل الشغل بمنافع الإسلام. وفى حديث أبى هريرة من الفقه الدلالة البينة على أن الله أباح لعباده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 المؤمنين اتخاذ الأموال والضياع ما يسعهم لأقواتهم وأقوات أهليهم وعيالهم، ولما ينوب من النوائب ويفضل عن الكفاية؛ لأن الرسول جعل الفضل عن نفقة أهله للسنة ومئونة عامله صدقة، فكذلك كان هو يأخذ فى حياته، فكان يأخذ ما بقى فيجعله فيما أراه الله من قوة الإسلام، ومنافع أهله، والخيل والسلاح، وما يمكن صرفه فى ذلك فهو مال كثير. وفى ذلك الدليل الواضح على جواز اتخاذ الأموال واقتنائها؛ طلب الاستغناء بها عن الحاجة إلى الناس، وصونًا للوجه والنفس استنانًا برسول الله، وأن ذلك أفضل من الفقر والفاقة إذا أدى حق الله منها، ولو كان الفقر أفضل لما كان الرسول يختار أخس المنزلتين عند الله على أرفعهما، بل كان يقسم أمواله وأصوله على أصحابه ولا سيما بين ذوى الحاجة منهم، فبان فساد قول من منع اتخاذ الأموال وادخار الفضل عن قوت يوم وليلة، ووضح خطأ قول من زعم أن التوكل لا يصح لمؤمن على ربه إلا بعد ألا يحتبس بعد غدائه وعشائه شيئًا فى ملكه، وأن احتباسه ذلك يخرجه من معنى التوكل ويدخله فى معنى من أساء الظن بربه. ولا يجوز أن يقال أن أحدًا أحسن ظنا بربه من النبى (صلى الله عليه وسلم) ولا خفاء بفساد قولهم، فإن اعترضوا بما روى عن ابن مسعود أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (لا تتخذوا الضيعة فترغبوا فى الدنيا) فمعنى ذلك: لا تتخذوها إذا خفتم على أنفسكم باتخاذها الرغبة فى الدنيا، فأما إذا لم تخافوا ذلك فلا يضركم اتخاذها بدليل اتخاذ النبى (صلى الله عليه وسلم) لها. فإن قيل: فقد روى مسروق، عن عائشة قالت: (قال النبى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 260 عليه السلام لبلال: أطعمنا. قال: ماعندى إلا صبر تمر خبأناه لك. قال: أما تخشى أن يخسف الله به فى نار جهنم؟ قال: أنفق يا بلال ولا تخف من ذى العرش إقلالا) . قيل: كان هذا منه فى حال ضيق عندهم، فكان يأمر أهل السعة أن يعودوا بفضلهم على أهل الحاجة حتى فتح الله عليهم الفتوح ووسع على أصحابه فى المعاش، فوسع على أصحابه فى الاقتناء والادخار إذا أدوا حق الله فيه. قال المهلب: ومن أجل ظاهر حديث أبى هريرة والله أعلم طلبت فاطمة ميراثها فى الأصول؛ لأنها وجهت قوله: (لا تقتسم ورثتى دينارًا ولا درهمًا) إلى الدنانير والدراهم خاصة، لا إلى الطعام والأثاث والعروض وما يجرى فيه المئونة والنفقة. وفيه من الفقه أن الحبس لا يكون بمعنى الوقف حتى يقال فيه صدقة. وأما حديث عائشة فإن الشعير الذى كان عندها كان غير مكيل، فكانت البركة فيه من أجل جهلها بكيله، وكانت تظن كل يوم أنه سيفنى لقلة كانت تتوهمها فيه، فلذلك طال عليها، فلما كالته علمت مدة بقائه ففنى عند تمام ذلك الأمر، والله أعلم. 4 - باب مَا جَاءَ فِى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَمَا نُسِبَ مِنَ الْبُيُوتِ إِلَيْهِنَّ وقوله تَعَالَى: (وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ ولا تبرجن تبرج الجاهلية) [الأحزاب: 33] ، وقوله: (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) [الأحزاب: 53] . 1912 / فيه: عَائِشَةَ، لَمَّا ثَقُلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِى بَيْتِى، فَأَذِنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 لَهُ. وقالت: تُوُفِّىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى بَيْتِى، وَفِى نَوْبَتِى وَبَيْن سَحْرِى وَنَحْرِى، وَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ رِيقِى وَرِيقِهِ. 1913 / وفيه: صَفِيَّةَ، أَنَّهَا جَاءَتْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) تَزُورُهُ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ مَعَهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَ قَرِيبًا مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . . . . الحديث. 1914 / وفيه: ابْن عُمَرَ، ارْتَقَيْتُ فَوْقَ بَيْتِ حَفْصَةَ. 1915 / وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ حُجْرَتِهَا. 1916 / وفيه: ابْن عُمَرَ، قَامَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، خَطِيبًا، فَأَشَارَ نَحْوَ مَسْكَنِ عَائِشَةَ، فَقَالَ: (هُنَا الْفِتْنَةُ، ثَلاثًا، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ) . 1917 / وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) كَانَ عِنْدَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ إِنْسَانٍ يَسْتَأْذِنُ فِى بَيْتِ حَفْصَةَ. . . الحديث. قال الطبرى: فإن قال قائل: إن كان لم يورث (صلى الله عليه وسلم) لقوله: (ما تركنا صدقة) فكيف سكن أزواجه بعد وفاته فى مساكنه إن كن لم يرثنه إذا؟ وكيف لم يخرجن عنها؟ فالجواب فى ذلك أن طائفة من العلماء قالت: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما جعل لكل امرأة منهن كانت ساكنة فى مسكن مسكنها الذى كانت تسكنه فى حياته، فملكت ذلك فى حياته، فتوفى الرسول يوم توفى وذلك لها، ولو كان صار لهن ذلك من وجه الميراث عنه لم يكن لهن منه إلا الثمن، ثم كان ذلك الثمن أيضًا مشاعًا فى جميع المساكن لجميعهن. وفى ترك منازعة العباس وفاطمة إياهن فى ذلك وترك منازعة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 بعضهن بعضًا، فيه دليل واضح على أن الأمر فى ذلك كما ذكرناه. وقد قال تعالى لهن: (وقرن فى بيوتكن (لئلا يخرجن عن منازلهن بعد وفاة الرسول. وقال آخرون: إنما تركن فى المساكن التى سكنها فى حياة النبى؛ لأن ذلك كان من مئونتهن التى كان رسول الله استثناه لهن مما كان بيده أيام حياته، كما استثنى نفقاتهن حين قال: (ما تركت بعد نفقة نسائى ومئونة عاملى فهو صدقة) قالوا: ويدل على صحة ذلك أن مساكنهن لم يرثها عنهن ورثتهن، ولو كان ذلك ملكًا لهن كان لا شك يورث عنهن، وفى ترك ورثتهن حقوقهم من ذلك دليل أنه لم يكن لهن ملكًا، وإنما كان لهن سكناه حياتهن، فلما مضين بسبيلهن جعل ذلك زيادة فى المسجد الذى يعم المسلمين نفعه كما فعل ذلك فى الذى كان لهن من النفقات فى تركة رسول الله، صرفه فيما يعم نفعه. قال المهلب: وفى هذا من الفقه أن من سكن حبسًا حازه بالسكنى، وإن كان للمحبس فيه بعض السكنى والانتفاع أن ذلك جائز فى التحبس، ولا ينقض التحبس ما له فيه من الانتفاع اليسير؛ لأن الرسول كان ينتاب كل واحدة منهن فى نوبتها، فليلة من تسع ليال يسير. ولذلك قال مالك: إن المحبس قد يسكن البيت من الدار التى حبس ولا ينتقض بذلك حوزها. وقال صاحب العين: السحر والنحر: الرية وما يتعلق بالحلقوم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 5 - باب مَا ذُكِرَ مِنْ دِرْعِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَعَصَاهُ وَسَيْفِهِ وَقَدَحِهِ وَخَاتَمِهِ وَمَا اسْتَعْمَلَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ قِسْمَتُهُ، وَمِنْ شَعَرِهِ وَنَعْلِهِ وَآنِيَتِهِ مِمَّا يَتَبَرَّكُ أَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ . 1918 / فيه: أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا اسْتُخْلِفَ بَعَثَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَكَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ، وَكَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلاثَةَ أَسْطُرٍ: (مُحَمَّدٌ سَطْرٌ، وَرَسُولُ سَطْرٌ، وَاللَّهِ سَطْرٌ) . 1919 / وفيه: أَنَس، أَنَّهُ أَخْرَجَ نَعْلَيْنِ جَرْدَاوَيْنِ لَهُمَا قِبَالانِ، وهما نَعْلا النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) . 1920 / وفيه: أَبُو بُرْدَةَ، أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ كِسَاءً مُلَبَّدًا، وَقَالَتْ: فِى هَذَا نُزِعَ رُوحُ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) . وَقَالَ مرة: أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا إِزَارًا غَلِيظًا مِمَّا يُصْنَعُ بِالْيَمَنِ، وَكِسَاءً مِنْ مُلَبَّدًا. 1921 / وفيه: أَنَس، أَنَّ قَدَحَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، انْكَسَرَ، فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ. 1922 / - وفيه: عَلِىّ بْنَ حُسَيْنٍ، أنَّهُ لَقِى الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، حِينَ قَدِم الْمَدِينَةَ مِنْ عِنْدِ يَزِيدَ مَقْتَلَ حُسَيْنِ بْنِ عَلِىٍّ، فَقَالَ الْمِسْوَرُ: هَلْ لَكَ إِلَىَّ مِنْ حَاجَةٍ تَأْمُرُنِى بِهَا؟ فَقُلْتُ لَهُ: لا، فَقَالَ لَهُ: فَهَلْ أَنْتَ مُعْطِىَّ سَيْفَ النَّبِى، (صلى الله عليه وسلم) ، فَإِنِّى أَخَافُ أَنْ يَغْلِبَكَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ؟ وَايْمُ اللَّهِ لَئِنْ أَعْطَيْتَنِيهِ لا يُخْلَصُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا حَتَّى تُبْلَغَ نَفْسِى، إِنَّ عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ خَطَبَ ابْنَةَ أَبِى جَهْلٍ عَلَى فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلام فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَخْطُبُ النَّاسَ فِى ذَلِكَ عَلَى مِنْبَرِهِ هَذَا، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مُحْتَلِمٌ، فَقَالَ: إِنَّ فَاطِمَةَ مِنِّى، وَأَنَا أَتَخَوَّفُ أَنْ تُفْتَنَ فِى دِينِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ إِلىَ قَوْلِهِ: وَاللَّهِ لا تَجْتَمِعُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ابْنَةُ عَدُوِّ اللَّهِ أَبَدًا) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 23 / وفيه: ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: لَوْ كَانَ عَلِىٌّ ذَاكِرًا عُثْمَانَ ذَكَرَهُ يَوْمَ جَاءَهُ نَاسٌ فَشَكَوْا سُعَاةَ عُثْمَانَ، فَقَالَ لِى عَلِىٌّ: اذْهَبْ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَخْبِرْهُ أَنَّهَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَمُرْ سُعَاتَكَ يَعْمَلُوا بها، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ: أَغْنِهَا عَنَّا، فَأَتَيْتُ بِهَا عَلِيًّا، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: ضَعْهَا حَيْثُ أَخَذْتَهَا. وَقَالَ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا: أَرْسَلَنِى أَبِى، خُذْ هَذَا الْكِتَابَ، فَاذْهَبْ بِهِ إِلَى عُثْمَانَ، فَإِنَّ فِيهِ أَمْرَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى الصَّدَقَةِ. قال: اتفاق الأمة بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه لم يملك أحد درعه ولا عصاه وسيفه وقدحه وخاتمه ونعله، يدل أنهم فهموا من قوله: (لا نورث، ما تركنا صدقة) أنه عام فى صغير الأشياء وكبيرها فصار هذا إجماعًا معصومًا، لأنه لا يجوز على جماعة الصحابة الخطأ فى التأويل، وهذا رد على الشيعة الذين ادعو أن أبا بكر الصديق وعمر بن الحطاب حرما فاطمة والعباس ميراثهما من النبي. وقد روى الطبرى قال: حدثنا يعقوب ابن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا أبو إسحاق قال: قلت لأبى جعفر: أرأيت عليا حين ولى العراق وما كان بيده من سلطانه كيف صنع فى سهم ذى القربى؟ قال: سلك به والله طريق أبى بكر وعمر) . قال المهلب: إنما ذكر هذه الآثار كلها فى هذا الباب لتكون سنة للخلفاء فى الختم واتخاذ الخاتم لما يحتاج فيه إليه، واتخاذ السيف والدرع أيضًا للحرب، وأما الشعر فإنما استعمله الناس على سبيل التبرك به من النبى خاصة، وليس ذلك من غيره بتلك المنزلة، وكذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 النعلان من باب التبرك أيضًا ليس لأحد فى ذلك مزية رسول الله ولا يتبرك من غيره بمثل ذلك. وأما طلب المسور لسيف الرسول من على بن حسين، فإنه أراد التبرك به؛ لأنه من أحباس المسلمين، وكان بيدى الحسين، فلما قتل أراد أن يأخذه المسور لئلا يأخذه بنو أمية، ثم حلف إن أعطاه إياه أنه لا يخلص إليه أبدًا، بشاهد من فعل رسول الله على الحلف والقطع على المستقبل ثقة بالله فى إبراره، واشترط فى يمينه شريطة دون ما حلف عليه صلى الله عليه وهى قوله: (لا يخلص إليه حتى تخلص إلى نفسي) . وقوله: إن على بن أبى طالب خطب ابنة أبى جهل على بنت رسول الله، فكره رسول الله ذلك، وخطب الناس، وعرفهم أنه لا يحرم حلالا أحله الله مما يعرضه على من الخطبة على فاطمة، ولكنه أعز نفسه وبنته من أن تضارها بنت عدو الله، وأقسم على الله ألا يجتمعا عند رجل واحد ثقة بالله أنه يبر قسمه (صلى الله عليه وسلم) ، وقد قال: (رب أشعث ذى طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره) ، والرسول أولى الناس بهذه المنزلة، فأقسم على ذلك لعلمه أن الله قد منع المؤمنين أذاه؛ لقوله تعالى: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله (وقد قال (صلى الله عليه وسلم) في ابنته أنه يؤذيه ما يؤذيها، فليس لأحد من المؤمنين أن يفعل شيئًا يتأذى به النبى، وإن كان فعل ذلك له مباحًا، وسيأتى القول فى تمام هذا فى كتاب النكاح فى باب: ذب الرجل عن ابنته فى الغيرة إن شاء الله. وفى حديث ابن الحنفية من الفقه أن الإمام إذا نسب إلى خدمته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 أمر أنه يجب على أصحابه إعلامه بذلك، وإعلام الصواب فيما نسب إليهم، كما فعل على، وما قيل فى سعاة عثمان وشكى فيهم قد يمكن أن يكون باطلاً، كما شكى سعد بن أبى وقاص إلى عمر بالباطل، وقد يجوز أن يكون من بعض سعاة عثمان ما يكون من البشر. وأما رد الصحيفة وقوله: (أغنها عنا) فذلك لأنه كان عنده نظير منها ولم يجهلها، لا أنه ردها وليس عنده علم منها، ولأنه قد كان أمر بها سعاته فلا يجوز على عثمان غير هذا. وفيه: أن الصاحب إذا سمع عن السلطان أمرًا مكروهًا أن ينبه بألطف التنبيه، وأن يسند ذلك إلى من كان قبله كما أسند على أمر الصحيفة إلى رسول الله، وأسند عروة ابن الزبير فى إنكاره على عمر بن عبد العزيز تأخير الصلاة إلى أبى موسى، وأنه أنكر ذلك على المغيرة بن شعبة فاحتج بأسوة تقدمت له فى الإنكار على الأئمة، ثم أسند له الحديث حين رفعه عمر. وقوله: (لو كان على ذاكرًا عثمان) بشر ذكره فى هذه القصة، فدل أن عليا عذر عثمان بالتأويل، ولم يكن عنده مخطئًا ولا مذمومًا، وقد تقدم فعل أبى بكر وعمر فى باب: فرض الخمس. قال الطبرى: وأما فعل عثمان فى صدقة النبى (صلى الله عليه وسلم) فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة قال: (لما ولى عمر بن عبد العزيز جمع بنى أمية فقال: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) كانت له فدك فكان يأكل منها وينفق ويعود على فقراء بنى هاشم ويزوج منهم أيمهم، وأن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى، فكانت كذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 حياة الرسول حتى قبض، ثم ولى أبو بكر فكانت كذلك فعمل فيها بما عمله رسول الله حياته، ثم ولى عمر فعمل فيها مثل ذلك، ثم ولى عثمان فأقطعها مروان، فجعل مروان ثلثيها لعبد الملك وثلثها لعبد العزيز، فجعل عبد الملك ثلثًا للوليد، وثلثًا لسليمان، وجعل عبد العزيز ثلثه لى، فلما ولى الوليد جعل ثلثه لى، فلم يكن لى مال أعود على ولا أسد لحاجتى منها، ثم وليت أنا فرأيت أن أمرًا منعه النبى (صلى الله عليه وسلم) فاطمة ابنته أنه ليس لى بحق، وإنى أشهدكم أنى قد رددتها إلى ما كانت عليه فى عهد رسول الله) . قال الطبرى: وأما عثمان فإنه كان يرى فى ذلك أنه لقيم أمر المسلمين أن يصرفه فيما رأى صرفه فيه، ولذلك أقطعه مروان وذهب فى ذلك إن شاء الله إلى ما حدثنا أبو كريب قال: حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا الوليد بن جميع، عن أبى الطفيل قال: (جاءت فاطمة إلى أبى بكر فقالت: أنت ورثت رسول الله أم أهله؟ قال: بل ورثه أهله. قالت: فما بال سهم الرسول؟ قال: سمعت النبى - (صلى الله عليه وسلم) يقول: (إذا أطعم الله نبيا طعمة فقبض، فهو للذى يقوم بعده، فرأيت أن أجعلها فى الكراع والسلاح) . قالت: فأنت وما سمعت من رسول الله) وبهذا قال الحسن وقتادة. قال الطبرى: فإن قال قائل: فما وجه هذا الحديث وقد صح عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (ما تركت بعد نفقة نسائى ومئونة عاملى فهو صدقة) فكيف يكون وهو صدقة ملكًا لمن يقوم بعده؟ قيل: معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فهو للذى يقوم بعده) يعمل فيه ما كان (صلى الله عليه وسلم) يعمل ويسلك به المسلك الذى كان يسلك، لا أنه جعله ملكًا، وهذا التأويل يمنع الخبرين من التنافى. فإن قيل: وما ينكر أن يكون صدقة له من رسول الله تصدق بها عليه بعد وفاته؛ إذ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 كانت صدقة التطوع عندك حلال للغنى والفقير، وإنما الحرام منها ما كان فرضًا على الأغنياء؛ لأن الله جعلها لأهل السهمان فى كتابه؟ قيل: أنكرنا ذلك من أجل أنه لو كان كذلك صح أنه كان لأبى بكر ملكًا، ولوجب أن يكون بعد أبى بكر موروثًا عنه، إذ كان أبو بكر قد ورثه أهله، وقيام الحجة بأنه لم يورث عنه، للدلالة الواضحة على أنه لم يكن لولى الأمر من بعد رسول الله ملكًا، وإنما كان إليه صرف علات ذلك فى وجوها وسبلها. فإن قيل: فما معنى قول أبى بكر لفاطمة: بل ورثه أهله؟ قيل: معنى ذلك: بل ورثه أهله إن كان خلف شيئًا يورثه، ولم يترك شيئًا يورث عنه؛ لأن ما كان بيده من الأموال مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، إنما كان طعمة من الله له، على أن يأكل منه هو وأهله ما احتاج واحتاجوا، ويصرف ما فضل على ذلك فى تقوية الإسلام وأهله، فقبضه الله، ولم يخلف شيئًا هو له ملك يقتسمه أهله عنه ميراثًا. ويبين ذلك قول عائشة: (مات رسول الله، ولم يترك دينارًا ولا درهمًا ولا بعيرًا ولا شاة، ولقد مات وإن درعه لمرهونة بوسق من شعير) . وقول عثمان: (أغنها عنا) يقول: اصرفها عنا، يقال: أغنيت عنك كذا: صرفته عنك. ومنه قوله تعالى: (لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه (يعنى: يصرفه. قال صاحب الأفعال: أغنى عنك الشيء صرف عنك ما تكره. وفى القرآن: (ما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (و) ما أغنى عنى ماليه (وقوله: مما يتبرك أصحابه. المعنى: يتبرك به، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 وحذف (به) جائز، كحذفها من قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر (وحذف الأدوات موجود سائغ؛ لقوله: (يوم لا تجزى نفس عن نفس شيئًا (تقديره: تجزى فيه. قال الشاعر: إن الكريم وأبيك معتمل إن لم يجد يومًا على من يتكل يريد: يتكل عليه. 6 - باب الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِنَوَائِبِ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَالْمَسَاكِينِ وَإِيثَارِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَهْلَ الصُّفَّةِ وَالأرَامِلَ حِينَ سَأَلَتْهُ فَاطِمَةُ، وَشَكَتْ إِلَيْهِ الطَّحْنَ وَالرَّحَى أَنْ يُخْدِمَهَا مِنَ السَّبْىِ، فَوَكَلَهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى . 1924 / فيه: عَلِىٌّ، أَنَّ فَاطِمَةَ اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنَ الرَّحَى مِمَّا تَطْحَنُ، فَبَلَغَهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أُتِىَ بِسَبْىٍ، فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ خَادِمًا، فَلَمْ تُوَافِقْهُ، فَذَكَرَتْ لِعَائِشَةَ، فَجَاءَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لَهُ، فَأَتَانَا، وَقَدْ دَخَلْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ، فَقَالَ: عَلَى مَكَانِكُمَا، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِى، فَقَالَ: (أَلا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ، إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا، فَكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ) . قال إسماعيل بن إسحاق: هذا الحديث شاهد أن الإمام يقسم الخمس حيث رأى على الاجتهاد؛ لأن السبى الذى أتى النبى لا يكون والله أعلم إلا من الخمس؛ إذ كانت الأربعة الأخماس تدفع إلى من حضر الوقعة، ثم منع الرسول أقربيه وصرفه إلى غيرهم، وبهذا قال مالك والطحاوى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 وذهب قوم أن لذوى قرابة رسول الله سهم من الخمس مفروض، لقوله: (فإن لله خمسه وللرسول ولذى القربى (وهم: بنو هاشم، وبنو عبد المطلب خاصة، لإعطاء رسول الله إياهم دون سائر قرابته. هذا قول الشافعى، وأبى ثور. وذهب قوم إلى أن قرابة رسول الله لا سهم لهم من الخمس معلومًا ولا حظ لهم خلاف حظ غيرهم. وقالوا: وإنما جعل الله لهم ما جعل من ذلك فى الآية المذكورة بحال فقرهم وحاجتهم؛ فأدخلوهم مع الفقراء والمساكين، فكما يخرج الفقير والمسكين من ذلك بخروجهم من المعنى الذى استحقوا به ذلك، وهو الفقر، فكذلك قرابة رسول الله المذكورون معهم إذا استغنوا خرجوا من ذلك. قالوا: ولو كان لقرابة رسول الله حظ لكانت فاطمة ابنته بينهم؛ إذ كانت أقربهم إليه نسبًا، وأمسهم به رحمًا، فلم يجعل لها حظا فى السبى، ولا أخدمها، ولكن وكلها إلى ذكر الله وتحميده وتهليله الذى يرجو لها به الفوز من الله، والزلفى عنده. قال الطبرى: ولو كان قسمًا مفروضًا لذوى القربى لأخدم ابنته، ولم يكن (صلى الله عليه وسلم) ليدع قسمًا اختاره الله لهم وامتن به عليهم؛ لأن ذلك حيف على المسلمين، واعتراض لما أفاء الله عليهم، فأخدم منه ناسًا، وتركه ابنته، ثم لم تدع فيه رضى الله عنها حقا لقرابة حين وكلها إلى التسبيح، ولو كان فرضًا لبينه تعالى كما بين فرائض المواريث. قال الطحاوى: وبذلك فعل أبو بكر وعمر بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) قسما جميع الخمس، ولم يريا لقرابة رسول الله حقا، خلاف حق سائر الناس، ولم ينكره عليهما أحد من أصحاب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 رسول الله، ولا خالفهما فيها، إذا ثبت الإجماع من أبى بكر وعمر وجميع أصحاب النبى عليه السلام ثبت القول به، ووجب العمل به، وترك خلافه، وكذلك فعل على لما صار الأمر إليه، حمل الناس عليه، على ما ثبت فى الباب. قال المهلب: الأثرة بينة فى هذا الحديث، وذلك أن ابنة النبى لما استخدمته خادمًا، فعلمها من تحميده وتسبيحه وتكبيره ما هو أنفع لها بدوم النفع، وآثر بذلك الفقراء الذين كانوا فى المسجد؛ قد أوقفوا أنفسهم لسماع العلم، وضبط السنن على شبع بطونهم، لا يرغبون فى كسب مال ولا راحة عيال، فكأنهم استأجروا أنفسهم من الله بالقوت، فكان إيثار النبى لهم، وحرمان ابنته دليل واضح أن الخمس مرقوب للأوكد فالأوكد، وليس على من ذكر الله بالسوية كما زعم الشافعى لأنه آثر المساكين على ذوى القربى، وهم مذكورون فى الآية قبلهم، وإنما الأمر موكول فيه إلى اجتهاده (صلى الله عليه وسلم) ، له أن يحرم من يشاء، ويعطى من يشاء. وفيه: أن طلبة العلم مقدمون فى خمس الغنائم على سائر من ذكر الله له فيها اسمًا. وذكر إسماعيل بن إسحاق من حديث ابن عيينة وحماد بن سلمة عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن على بن أبى طالب أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لعلى وفاطمة: (لا أخدمكما وأدع أهل الصفة يطوون جوعًا، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعه فأنفقه عليهم) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 قال المهلب: وفيه من النفقه حمل الإنسان أهله على ما يحمل عليه نفسه من التقلل فى الدنيا، وتسليهم عنها بما أعد الله للصابرين فى الآخرة. وفيه: دخول الرجل على ابنته، وهى راقدة مع زوجها. وفيه: جواز جلوسه بينهما، وهما راقدان ومباشرة قدميه وبعض جسده جسم ابنته، وجواز مباشرة ذوى المحارم، وهو خلاف قول مالك، وقول من أجاز ذلك أولى لموافقة الحديث له. وفيه: أن أقل الأعمال الصالحة خير مكافأة فى الآخرة من عظيم من أمور الدنيا، أن يكون التسبيح وهو قول: خير أجرًا فى الآخرة من خادم فى الدنيا، وعنائها بالخدمة والسعاية عن مالكها، فكيف بالصلاة والحج وسائر الأعمال التى تستعمل فيها الأعضاء والبدن كله. 7 - باب قوله تَعَالَى: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال: 41] يَعْنِى: ولِلرَّسُولِ قَسْمَ ذَلِكَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَخَازِنٌ، وَاللَّهُ يُعْطِى . 1925 / فيه: جَابِر، وُلِدَ لِرَجُلٍ غُلامٌ، فَأَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ مُحَمَّدًا، فقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (سَمُّوا بِاسْمِى، وَلا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِى، إِنَّمَا جُعِلْتُ قَاسِمًا، أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ) . 1926 / وقال جابر: وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلامٌ، فَسَمَّاهُ الْقَاسِمَ، فَقَالَتِ الأنْصَارُ: لا نَكْنِيكَ أَبَا الْقَاسِمِ، وَلا نُنْعِمُكَ عَيْنًا، فَأَخبر النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَحْسَنَتِ الأنْصَارُ، سَمُّوا بِاسْمِى، وَلا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِى، فَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 27 / وفيه: مُعَاوِيَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ، وَاللَّهُ الْمُعْطِى، وَأَنَا الْقَاسِمُ) . 1928 / - وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ) . 1929 / وفيه: خَوْلَة، قَالَ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ رِجَالا يَتَخَوَّضُونَ فِى مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . وغرض البخارى فى هذا الباب أيضًا الرد على من جعل للنبى خمس الخمس ملكًا استدلالا بقوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول (وهو قول الشافعي. قال إسماعيل بن إسحاق: وقد قيل فى الغنائم كلها لله وللرسول، كما قيل فى الخمس لله وللرسول، أفكانت الأنفال كلها للنبى (صلى الله عليه وسلم) بل علم المسلمون أن الأمر فيها مردود إليه، فقسمها (صلى الله عليه وسلم) وكان فيها كرجل من المسلمين، بل لعل ما أخذ من ذلك أقل من حظ رجل، بلغنا أنه تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر، وقيل: جملا لأبى جهل، وقد علم كل عاقل أنه لا يشرك بين الله ورسوله وبين أحد من الناس، وأن ما كان لله ولرسوله، فالمعنى فيه واحد؛ لأن طاعة الله طاعة رسوله. وسئل الحسن بن محمد بن على عن قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه وللرسول (قال: هذا مفتاح كلام الله، الدنيا والآخرة. قال المهلب: وإنما خص بنسبة الخمس إليه (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن ليس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 للغانمين فيه دعوى، وإنما هو إلى اجتهاد الإمام، فإن رأى رفعه فى بيت المال لما يخشى أن ينزل بالمسلمين رفعه، أو يجعله فيما يراه، وقد يقسم منه للغانمين، كما أنه يعطى من المغانم لغير الغانمين، كما قسم لجعفر وغيره ممن لم يشهد الوقعة، فالخمس وغيره إلى قسمته (صلى الله عليه وسلم) واجتهاد، وليس له فى الخمس ملك، ولا يمتلك من الدنيا إلا قدر حاجته، وغير ذلك كله عائد على المسلمين، وهذا معنى تسميته بقاسم، وليست هذه التسمية بموجبة ألا تكون أثر فى اجتهاده لقوم دون قوم. وقوله: (أحسنت الأنصار) يعنى: فى تعزيز نبيها، وتوقيره من أن يشارك فى كنيته، فيدخل عليه النعت عند النداء بغيره لتشوفه إلى الداعى، كما عرض له فى السوق، فنهى عن كنيته، وأباح اسمه للبركة المرجوة منه [. . . .] فى التسمية من الفأل الحسن؛ لأنه من معنى الحمد؛ ليكون محمودًا من تسمى باسمه. وقوله: (لا أعطيكم، ولا أمنعكم) يقول: الله يعطى فى الحقيقة، وهو يمنع، وإنما أعطيكم بقدر ما يسرنى الله له. ومعنى حديث خولة فى هذا الباب، أن من أخذ من المقاسم شيئًا بغير قسم الرسول أو الإمام بعده، فقد تخوض فى مال الله بغير حق، ويأتى بما غل يوم القيامة. وفيه ردع للولاة والأمراء أن يأخذوا من مال الله شيئًا بغير حقه، ولا يمنعوه من أهله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 8 - باب قَوْلِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (أُحِلَّتْ لَكُمُ الْغَنَائِمُ) وقوله: (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا (الآية [الفتح: 20] فَهِىَ لِلْعَامَّةِ حَتَّى يُبَيِّنَهُ الرَّسُولُ (صلى الله عليه وسلم) . 1930 / فيه: عُرْوَةَ الْبَارِقِىِّ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِى نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ: الأجْرُ وَالْمَغْنَمُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . 1931 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا هَلَكَ كِسْرَى، فَلا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ، فَلا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ) . 1932 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِى سَبِيلِهِ بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ) . 1933 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (غَزَا نَبِىٌّ مِنَ الأنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لا يَتْبَعْنِى رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِىَ بِهَا، وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا، وَلا أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا، وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا، وَلا أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ، وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلادَهَا، فَغَزَا فَدَنَا مِنَ الْقَرْيَةِ صَلاةَ الْعَصْرِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِلشَّمْسِ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ، وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا، فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَجَمَعَ الْغَنَائِمَ، فَجَاءَتْ - يَعْنِى النَّارَ - لِتَأْكُلَهَا، فَلَمْ تَطْعَمْهَا، فَقَالَ: إِنَّ فِيكُمْ غُلُولا، فَلْيُبَايِعْنِى مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ، قَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ، فَلْيُبَايِعْنِى قَبِيلَتُكَ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ، فَجَاءُوا بِرَأْسٍ مِثْلِ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنَ الذَّهَبِ، فَوَضَعُوهَا، فَجَاءَتِ النَّارُ، فَأَكَلَتْهَا، ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا الْغَنَائِمَ رَأَى ضَعْفَنَا، وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 قال المهلب: قوله (فهى للعامة) يعنى: لجميع الناس، حتى يبين الرسول من يستحقها، وكيف تقسم، وقد بين الله بقوله: (واعلموا أنما غنمتهم من شيء فأن لله خمسه (إلى) السبيل (وأما قوله: (وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه (فإنما خاطب بهذه الآية أهل الحديبية خاصة، ووعدهم بها، فلما انصرفوا من الحديبية فتحوا خيبر، وهى التى عجل لهم. وقال ابن أبى ليلى: (وأثابهم فتحًا قريبًا (يعنى: خيبر) وأخرى لم تقدروا عليها (قال: فارس والروم. وقال مروان والمسور: انصرف رسول الله من الحديبية، فنزلت عليه سورة الفتح فيما بين مكة والمدينة، فأعطاه الله فيها خيبر، فقدم رسول الله المدينة فى ذى الحجة، وسار إلى خيبر فى المحرم، وقوله: (وكف أيدى الناس عنكم (وحيالكم بالمدينة حين ساروا إلى الحديبية وإلى خيبر. قال المهلب: فى حديث النبى الذى أمر ألا يتبعه من لم يتزوج: فيه دليل أن فتن الدنيا تدعو النفس إلى الهلع وتخيبها؛ لأن من ملك بضع امرأة، ولم يبن بها، أو بنى بها، وكان على طراوة منها، فإن قلبه متعلق بالرجوع إليها، وشغله الشيطان عما هو فيه من الطاعة، فرمى فى قلبه الجزع، وكذلك ما فى الدنيا من متاعها وقنيتها. وفى قوله للشمس: (إنك مأمورة) دليل فى الوم، وأصل فى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 العبادة على ضيق وقت العمل الذى الرأى فيه فى اليقظة، وثبات وقته، فيكون تنبيها على الأخذ بالحزم. وفيه: أن قتال آخر النهار وإذا هبت رياح النصر أفضل، كما كان (صلى الله عليه وسلم) يفعل. وقوله: (احبسها علينا) دعاء إلى الله أن يمد لهم الوقت حتى يفتحوا المدينة. وقيل: فى قوله: (احبسها علينا) أقوال: أحدها: أنها ردت على أدراجها. وقيل: أوقفت، فلم تبرح. وقيل: بطؤ تجريها وسيرها، وهو أولى الأقوال بجريها على العادة، وإن كان خرق العادة للأنبياء جائز، فكل الوجوه جائزة، وكانت المغانم للأنبياء المتقدمين يجمعونها فى برية، فتأتى نار من السماء فتحرقها، فإن كان فيها غلول أو مالاً يحل لم تأكلها، وكذلك كانوا يفعلون فى قربانهم، كان المتقبل تأكله النار وما لا يتقبل يبقى على حاله لا تأكله. ودعاء هذا النبى قومه بالمبايعة بمصافحة أيديهم، اختبار منه للقبيل الذى فيهم الغلول، من أجل ظهور هذه الآية، وهى لصوق يد المبايع بيد النبي. وفيه: أن الأنبياء قد يحكمون فى الأشياء المعجزات بآيات يظهرها الله على أيديهم شهادة على ما التبس من أمر الحكم، وقد يحكمون أيضًا بحكم لا يكون آية معجزة، ويكون النبى وغيره من الحكام سواء، أو يكون اجتهادهم على حسب ما يتأدى إليهم من مقالة الخصمين؛ فذلك إنما هو ليكون سنة لمن بعدهم. وفيه: أن الغنائم لم تحل لأحد غير محمد وأمته. وفيه: دليل على تجديد البيعة إذا احتيج إلى ذلك لأمر وقع، وقد فعل ذلك (صلى الله عليه وسلم) تحت الشجرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 وفيه: جواز إحراق أموال المشركين وما غنم منها. 9 - باب: الغَنِيمَةُ لمِنَ شَهِدَ الوَقْعَةَ 934 / - وفيه: عُمَرَ، قَالَ: لَوْلا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ، مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلا قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، خَيْبَرَ. فيه: الغنيمة لمن شهد الوقعة. وهو قول أبى بكر وعمر، وعليه جماعة الفقهاء. فإن قيل: فإن رسول الله قسم لجعفر بن أبى طالب، ومن قدم فى سفينة أبى موسى من غنائم خيبر، وهم لم يشهدوها؟ فالجواب: أن خيبر مخصوصة بذلك؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يقسم غير خيبر لمن لم يشهدها، فلا يجوز أن تجعل خيبر أصلا يقاس عليه. قال المهلب: وإنما قسم من خيبر لأصحاب السفينة؛ لشدة حاجتهم فى بدء الإسلام، بأنهم كانوا للأنصار تحت منح من النخيل والمواشى لحاجتهم، فضاقت بذلك إخوان الأنصار، وكان المهاجرون من ذلك فى شغل بال [. . . .] عوض الرسول المهاجرين، ورد إلى الأنصار منائحهم. قال الطحاوى: وقد يحتمل أنه (صلى الله عليه وسلم) استطاب أنفس أهل الغنيمة، وقد روى ذلك عن أبى هريرة، وسنذكره عن [. . . . .] ونذكر هناك وجوهًا أخر للعلماء فى إسهام النبى لأهل السفينة من غنائم خيبر. واما قول عمر: (لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 أهلها، كما فعل رسول الله بخيبر) فإن أهل العلم اختلفوا فى حكم الأرض، فقال أبو عبيد: وجدنا الآثار عن الرسول والخلفاء بعده قد جاءت فى افتتاح الأرض بثلاثة أحكام: أرض أسلم عليها أهلها فهى لهم ملك، وهى أرض عشر لا شيء عليهم فيها غيره، وأرض افتتحت صلحًا على خراج معلوم، فهم على ما صولحوا عليه، لا يلزمهم أكثر منه، وأرض افتتحت عنوة، فهى التى اختلف فيها المسلمون، فقال بعضهم: سبيلها سبيل الغنيمة، فتكون أربعة أخماسها حصصا بين الذين افتتحوها، والخمس الباقى لمن سمى الله. قال ابن المنذر: وهذا قول الشافعى، وأبى ثور، وبه أشار الزبير بن العوام على عمرو ابن العاص حين افتتح مصر. قال أبو عبيد: وقال بعضهم: بل حكمها والنظر فيها إلى الإمام، إن رأى أن يجعلها غنيمة فيخمسها ويقسمها كما فعل رسول الله بخيبر، فذلك له، وإن رأى أن يجعلها موقوفة على المسلمين ما بقوا، كما فعل عمر بالسواد، فذلك له. قال الطحاوى: وهذا قول أبى حنيفة والثورى وأبى يوسف ومحمد. وشذ مالك فى (المدونة) فى حكم أرض العنوة، وقال: يجتهد فيها الإمام، وقال فى العتبية، وكتاب ابن المواز من سماع ابن القاسم: العمل فى أرض العنوة على فعل عمر لا تقسم، وتقر بحالها، وقد ألح بلال وأصحاب له على عمر، فقسم الأرض بالشام، فقال: اللهم اكفنيهم فما أتى الحول، وبقى منهم أحد. قال مالك: ومن أسلم من أرض العنوة، فلا تكون له أرضه ولا داره. وأما من صالح على أرضه، ومنع أهل الإسلام من الدخول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 280 عليهم إلا بعد الصلح، فإن الأرض لهم، وإن أسلموا فهى لهم أيضًا، ويسقط عنهم خراج أرضهم و [. . . . .] . وقال ابن حبيب: من أسلم من أهل العنوة أحرز نفسه وماله، وأما الأرض فللمسلمين، وماله وكل ما كسب له؛ لأن من أسلم على شيء فى يده كان له، والحجة لقول الشافعى أن الأرض تقسم كما قسم رسول الله خيبر، وتأول قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه (فدخل فى هذا العموم الأرض وغيرها فوجب قسمها. قال ابن المنذر: وذهب الشافعى إلى أن عمر استطاب أنفس الذين افتتحوا الأرض، وأنكر أبو عبيد أن يكون استطاب أنفسهم. وذهب الكوفيون إلى أن عمر حدث عن الرسول أنه قسم خيبر، وقال: لولا آخر الناس لفعلت ذلك، فقد بين أن الحكمين جميعًا إليه، لولا ذلك ما تعدى سنة رسول الله إلى غيرها، وهو يعرفها. قال الطحاوى: ومن الحجة فى ذلك ما رواه إبراهيم بن طهمان، عن أبى الزبير، عن جابر قال: أفاء الله خيبر، فأقرهم على ما كانوا، وجعلها بينه وبينهم، وبعث ابن رواحة يخرصها عليهم، فثبت أن رسول الله لم يكن قسم خيبر بكمالها، ولكنه قسم منها طائفة على ما ذكره عمر، وترك منها طائفة لم يقسمها على ما روى جابر، وهى التى خرصها عليهم، والذى كان قسم منها وهو الشق النطاة، وترك سائرها فعلمنا أنه قسم منها وترك، فللإمام أن يفعل من ذلك ما رآه صلاحًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 281 واحتج عمر فى ترك قسمة الأرض بقوله: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول (إلى قوله: (للفقراء المهاجرين (،) والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم (إلى) والذين جاءوا من بعدهم (الآية. وقال عمر: هذه الآية قد استوعبت الناس كلهم، فلم يبق أحد إلا له فى هذا المال حق، حتى الراعى بعدله. قال أبو عبيد: وإلى هذه الآية ذهب على ومعاذ، وأشارا على عمر بإقرار الأرض لمن يأتى بعد. قال إسماعيل: فكان الحكم بهذه الآية فى الأرض أن تكون موقوفة كما تكون الأوقاف التى يقفها الناس أصلها محبوس، ويقسم ما يخرج منها، فكان معنى قول عمر: لولا الحكم الذى أنزل الله فى القرآن لقسمت الأصول، وهذا لا يشكل على ذى نظر، وعليه جرى المسلمون ورأوه صوابًا. قال إسماعيل: والذين قاتلوا حتى غنموا لم يكن لهم فى الأصل أن يعطوا ذلك؛ لأنهم إنما قاتلوا لله لا للمغنم، ولو قاتلوا للمغنم لم يكونوا مجاهدين فى سبيل الله. قال عمر: إن الرجل ليقاتل للمغنم، ويقاتل ليرى مكانه، وإنما المجاهد من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا. فلما كان أصل الجهاد أن يكون خالصًا لله، وكان إعطاؤهم ما أعطوا من المغانم، إنما هو تفضل من الله على هذه الأمة أعطوا ذلك فى وقت، ومنعوه فى وقت، فأعطوا من المغانم ما ليس له أصل يبقى فاشترك فيه المسلمون كلهم، ومنعوا الأصل الذى يبقى، فلم يكن فى ذلك ظلم لهم؛ لأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 282 ثواب الله الذى قصدوه جار لهم فى كل شيء ينتفع به من الأصول التى افتتحوها، ما دامت وبقيت. وحكى الطحاوى عن الكوفيين أن الإمام إذا أقرهم أرض العنوة أنها ملك لهم، يجرى عليهم فيها الخراج إلى الأبد أسلموا أو لم يسلموا، وإنما حملهم على هذا التأويل أنهم قالوا: إن عمر جعل على جريب النخل فى أرض السواد بالعراق شيئًا معلومًا فى كل عام، فلو لم تكن لهم الأرض لكان يبيع التمر قبل أن يظهر. قال أبو جعفر الداودى: ولا أعلم أحدًا من الصحابة قال بقول أهل الكوفة. واحتج من خالفهم بأن الأرض كلها كانت لا شجر فيها فإنما اعتبر ما يصلح أن يوضع فيها، فمن اكترى ما يصلح أن يزرع فيه البر جعل عليه بقدر ذلك، وإن اكترى ما يصلح أن يزرع فيه الشعير جعل عليه بقدر ذلك، ومن اكترى ما يصلح أن يجعل فيه الشجر جعل عليه بقدر ذلك، لا على أن الشجر كانت فى الأرض يومئذ. قال المؤلف: قول الكوفيين مخالف للكتاب والسنة؛ إذ حلت الغنائم للمسلمين، فإذا افتتحت الأرض فاسم الغنيمة واقع عليها كما يقع على المال سواء، فإن رأى الإمام أبقى الأرض لمن يأى بعد، فإنما يبقيها ملكًا للمسلمين من أجل أنها غنيمة، كما فعل عمر، فمن زعم أن الأرض تبقى ملكًا لمشركين فهو مضاد لحكم الله وحكم رسوله، فلا وجه لقوله. وروى الليث، عن يونس، عن ابن شهاب أن رسول الله افتتح خيبر عنوة بعد القتال، وكانت مما أفاء الله على رسوله، فخمسها وقسمها بين المسلمين، وترك من ترك من أهلها على الجلاء بعد القتال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 فدعاهم الرسول فقال: إن شئتم دفعت إليكم هذه الأموال على أن تعملوا بها، ويكون ثمرها بيننا وبينكم، وأقركم ما أقركم الله. فقبلوا الأموال على ذلك، وروى يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار أن رسول الله لما قسم خيبر عزل نصفها لنوائبه وما ينزل به، وقسم النصف الباقى بين المسلمين فلما صار ذلك بيد رسول الله لم يكن له من العمال ما يكفونه عملها، فدفعها رسول الله إلى اليهود ليعملوها على نصف ما يخرج منها، فلم يزل الأمر على ذلك حياة النبى، وحياة أبى بكر حتى كان عمر وكثر العمال فى أيدى المسلمين، وقروا على عمل الأرض، وأجلى عمر اليهود إلى الشام، وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم، فهذا كله يرد قول الكوفيين، ويبين أنهم إنما أبقوا فى الأرض عمالا للمسلمين فقط، فلما أغنى الله عنهم أخرجوا منها. - باب: مَنْ قَاتَلَ لِلْمَغنَمِ هَل يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ 935 / فيه: أَبُو مُوسَى،، قَالَ: قَالَ أَعْرَابِىٌّ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ، وَيُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، مَنْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) . قال المهلب: من قاتل فى سبيل الله ونوى بعد إعلاء كلمة الله ما شاء فهو فى سبيل الله، والله أعلم بمواقع أجورهم، ولا يصلح لمسلم أن يقاتل إلا ونيته مبنية على الغضب لله، والرغبة فى إعلاء كلمته، ويدل على ذلك أنه قد يقاتل من لا يرجو أن يسلبه من عريان، ولا شيء معه، فيغرر مهجته مستلذًا لذلك، ولو أعطى ملء الأرض على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 أن يغرر مهجته فى غير سبيل الله ما غرر، ولكن سهل عليه ركوب ذلك استلذاذا بإعلاء كلمة الله، ونكاية عدوه والغضب لدينه. وقد تقدم فى باب قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الأعمال بالنيات) فى كتاب الإيمان أن ما كان ابتداؤه فيه من الأعمال لله لم يضره بعد ذلك ما عرض فى نفسه، وخطر بقلبه من حديث النفس ووسواس الشيطان، ولا يزيله عن حكمه إعجاب المرء اطلاع العباد عليه بعد مضيه على ما ندبه الله إليه، ولا سروره بذلك، وإنما المكروه أن يبتدئه بنية غير مخلصة لله، فذلك الذى يستحق عامله عليه العقاب. - باب قِسْمَةِ الإمَامِ مَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ وَيَخْبَأُ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرْهُ أَوْ غَابَ عَنْهُ 936 / فيه: الْمِسْور: أُهْدِيَتْ للنَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَقْبِيَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرَةٌ بِالذَّهَبِ، فَقَسَمَهَا فِى نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَزَلَ مِنْهَا وَاحِدًا لِمَخْرَمَةَ، فَجَاءَ مَخْرَمَةَ إلى النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَسَمِعَ صَوْتَه، فَأَخَذَ قَبَاءً فَتَلَقَّاهُ بِهِ وَاسْتَقْبَلَهُ بِأَزْرَارِهِ، فَقَالَ: (يَا أَبَا الْمِسْوَرِ، خَبَأْتُ لَكَ هَذَا) ، مرتين، وَكَانَ فِى خُلُقِهِ شِدَّةٌ. قال المؤلف: ما أهدى للنبى من هدايا المشركين فحلال له أخذه؛ لأنه مخصوص بما أفاء الله عليه من غير قتال من أموال الكفار، ويكون له دون سائر الناس، وله أن يؤثر به من شاء، ويمنع منه من شاء، كما يفعل بالفيء، ولذلك خبأ القباء لمخرمة، ومن بعده من الخلفاء بخلافه فى ذلك لا يكون له خاصة دون المسلمين؛ لأنه إنما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 أهدى إليه؛ لأنه أميرهم، ويأتى القول فى هدايا المشركين فى باب: الهبة إن شاء الله. وفيه ما كان عليه النبى من كريم الخلق ولين الكلمة، والتواضع، ألا ترى أنه استقبل مخرمة بأزرار القباء، وكناه مرتين وألطف له فى القول، وأراه إيثاره باعتناءه به فى مغيبه؛ لقوله: (خبأت لك هذا) لما علم من شدة خلقه، فترضاه بذلك، فينبغى الاقتداء به فى فعله (صلى الله عليه وسلم) . - باب كَيْفَ قَسَمَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيَر، وَمَا أَعْطَى مِنْ ذَلِكَ فِى نَوَائِبِهِ 937 / فيه: أَنَس، كَانَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِلنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، النَّخَلاتِ، حَتَّى افْتَتَحَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ. قوله: (كان الرجل يجعل للنبى النخلات) والرجل: الثلاث، كل واحد على قدر جدته وطيب نفسه، مواساة للنبى ومشاركة له لقوته، وهذا من باب الهدية لا من باب الصدقة؛ لأنها محرمة عليه، أما سائر المهاجرين فكانوا قد نزل كل واحد منهم على رجل من الأنصار فواساه وقاسمه، فكانوا كذلك إلى أن فتح الله الفتوح على الرسول، فرد عليهم ثمارهم، فأول ذلك النضير كانت مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وانجلى عنها أهلها بالرعب فكانت خالصة لرسول الله دون سائر الناس، وأنزل الله فيهم: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ( الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 فحبس منها رسول الله لنوائبه وما يعروه، وقسم أكثرها فى المهاجرين خاصة دون الأنصار، وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال للأنصار: إن شئتم قسمت أموال بنى النضير بينكم وبينهم، وأقمتم على مواساتكم فى ثماركم، وإن شئتم أعطيتها المهاجرين دونكم، وقطعتم عنهم ما كنتم تعطونهم من ثماركم. قالوا: بل تعطيهم دوننا ونقيم على مواساتهم، وأعطى رسول الله المهاجرين دونهم فاستغنى القوم جميعًا، استغنى المهاجرون بما أخذوا، واستغنى الأنصار بما رجع إليهم من ثمارهم. وأما قريظة فإنها نقضت العهد بينها وبين النبى، وتحزبت مع الأحزاب، وكانوا كما قال الله فيهم: (إذ جاءوكم من فوقكم (قريظة، ولم يكن بينهم وبين النبى خندق) ومن أسفل منكم (الأحزاب) وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر (فأنزل الله نصره، وأرسل الريح على الأحزاب فلم تدع بناء إلا قلعته، ولا إناء إلا قلبته، فانصرفوا خائبين كما قال الله تعالى: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا (الآية. فلما انصرف رسول الله من الأحزاب سار إلى قريظة، فحاصرهم، حتى نزلوا على حكم سعد، فحكم فيهم بأن تقتل المقاتلة، وتسبى الذرية، فقسمها النبى فى أصحابه، وأعطى من نصيبه فى نوائبه. قال إسماعيل بن إسحاق: وزعموا أن هذه الغنيمة أول غنيمة قسمت على السهام جعل للفرس ولصاحبه ثلاثة أسهم، وللراجل سهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 - باب بَرَكَةِ الْغَازِى فِى مَالِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَوُلاةِ الأمْرِ 938 / فيه: ابْن الزُّبَيْر، لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الْجَمَلِ دَعَانِى، فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ: يَا بُنَىِّ، إِنَّهُ لا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ، وَإِنِّى لا أُرَانِى إِلا سَأُقْتَلُ الْيَوْمَ مَظْلُومًا، وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّى لَدَيْنِى أَفَتُرَى يُبْقِى دَيْنُنَا مِنْ مَالِنَا شَيْئًا، فَقَالَ: يَا بُنَىِّ، بِعْ مَالَنَا، فَاقْضِ دَيْنِى، وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ، وَثُلُثِهِ لِبَنِيهِ - يَعْنِى بَنِى عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ - يَقُولُ: ثُلُثُ الثُّلُثِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا فَضْلٌ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيْءٌ، فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ. قَالَ هِشَامٌ: وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِاللَّهِ قَدْ وَازَى بَعْضَ بَنِى الزُّبَيْرِ خُبَيْبٌ وَعَبَّادٌ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعَةُ بَنِينَ وَتِسْعُ بَنَاتٍ فَجَعَلَ يُوصِيى بِدَيْنِهِ، وَيَقُولُ: يَا بُنَىِّ، إِنْ عَجَزْتَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلاىَ، قَالَ: فَوَاللَّهِ، مَا دَرَيْتُ مَا أَرَادَ حَتَّى قُلْتُ: يَا أَبَةِ، مَنْ مَوْلاكَ؟ قَالَ: اللَّهُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا وَقَعْتُ فِى كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ إِلا قُلْتُ: يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ، اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ، فَيَقْضِيهِ، فَقُتِلَ الزُّبَيْرُ رَضِى اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَتْركْ دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا إِلا أَرَضِينَ مِنْهَا الْغَابَةُ وَإِحْدَى عَشْرَةَ دَارًا بِالْمَدِينَةِ وَدَارَيْنِ بِالْبَصْرَةِ وَدَارًا بِالْكُوفَةِ وَدَارًا بِمِصْرَ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ دَيْنُهُ الَّذِى عَلَيْهِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْتِيهِ بِالْمَالِ فَيَسْتَوْدِعُهُ إِيَّاهُ، فَيَقُولُ الزُّبَيْرُ: لا وَلَكِنَّهُ سَلَفٌ، فَإِنِّى أَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيْعَةَ، وَمَا وَلِىَ إِمَارَةً قَطُّ وَلا جِبَايَةَ خَرَاجٍ وَلا شَيْئًا إِلا أَنْ يَكُونَ فِى غَزْوَةٍ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَوْ مَعَ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِى اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: فَحَسَبْتُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَوَجَدْتُهُ أَلْفَىْ أَلْفٍ وَمِائَتَىْ أَلْفٍ، قَالَ: فَلَقِىَ حَكِيمُ ابْنُ حِزَامٍ عَبْدَاللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِى، كَمْ عَلَى أَخِى مِنَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 الدَّيْنِ؟ فَكَتَمَهُ، وَقَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ، فَقَالَ حَكِيمٌ: وَاللَّهِ مَا أُرَى أَمْوَالَكُمْ تَسَعُ لِهَذِهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُاللَّهِ: أَفَرَأَيْتَكَ إِنْ كَانَتْ أَلْفَىْ أَلْفٍ وَمِائَتَىْ أَلْفٍ، قَالَ: مَا أُرَاكُمْ تُطِيقُونَ هَذَا، فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَاسْتَعِينُوا بِى، قَالَ: وَكَانَ الزُّبَيْرُ اشْتَرَى الْغَابَةَ بِسَبْعِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ، فَبَاعَهَا عَبْدُاللَّهِ بِأَلْفِ أَلْفٍ وَسِتِّ مِائَةِ أَلْفٍ، ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ حَقٌّ، فَلْيُوَافِنَا بِالْغَابَةِ، فَأَتَاهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَكَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ أَرْبَعُ مِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ لِعَبْدِاللَّهِ: إِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا لَكُمْ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: لا، قَالَ: فَإِنْ شِئْتُمْ جَعَلْتُمُوهَا فِيمَا تُؤَخِّرُونَ، إِنْ أَخَّرْتُمْ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: لا، قَالَ: قَالَ: فَاقْطَعُوا لِى قِطْعَةً، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: لَكَ مِنْ هَاهُنَا إِلَى هَاهُنَا، قَالَ: فَبَاعَ مِنْهَا فَقَضَى دَيْنَهُ فَأَوْفَاهُ، وَبَقِىَ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ، فَقَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعِنْدَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ وَالْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: كَمْ قُوِّمَتِ الْغَابَةُ؟ قَالَ: كُلُّ سَهْمٍ مِائَةَ أَلْفٍ، قَالَ: كَمْ بَقِيَ؟ قَالَ: أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ، قَالَ الْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ، قَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَقَالَ ابْنُ زَمْعَةَ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: كَمْ بَقِيَ؟ قَالَ: سَهْمٌ وَنِصْفٌ، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ بِخَمْسِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ، قَالَ: وَبَاعَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ نَصِيبَهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِسِتِّ مِائَةِ أَلْفٍ، فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ، قَالَ بَنُو الزُّبَيْرِ: اقْسِمْ بَيْنَنَا مِيرَاثَنَا، قَالَ: وَاللَّهِ لا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ حَتَّى أُنَادِىَ بِالْمَوْسِمِ أَرْبَعَ سِنِينَ: أَلا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ دَيْنٌ، فَلْيَأْتِنَا، فَلْنَقْضِهِ، قَالَ: فَجَعَلَ كُلَّ سَنَةٍ، يُنَادِى بِالْمَوْسِمِ، فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ، قَسَمَ بَيْنَهُمْ، قَالَ: فَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وَرَفَعَ الثُّلُثَ، فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ، فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ. قال المؤلف: قوله: (لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم) معناه والله أعلم أن الصحابة فى قتال بعضهم بعضًا، كل له وجه من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 الصواب يعذر به عند الله، فلا يسوغ أن يطلق على أحد منهم أنه قصد الخطأ وقاتل على غير تأويل سائغ له، هذا مذهب أهل السنة، فكل واحد منهم مجتهد محق عند نفسه، والقاتل منهم والمقتول فى الجنة إن شاء الله. والله يوسع لكل منهم رحمته كما سبقت لهم الحسنى. فإن قيل: فما معنى قوله: إلا ظالم أو مظلوم؟ قيل: معناه: ظالم فى تأويله عند خصمه ومخالفه، ومظلوم عند نفسه إن قتل، وإنما أراد الزبير أن يبين بقوله هذا أن تقاتل الصحابة الذين هم خير أمة أخرجت للناس ليس كتقاتل أهل البغى والعصبية الذى القاتل والمقتول فيه ظالم؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار) لأنه لا تأويل لواحد منهم يعذر به عند الله، ولا شبهة له من الحق يتعلق بها، فليس منهم أحد مظلوم بل كلهم ظالم. وكان الزبير وطلحة وجماعة من كبار الصحابة خرجوا مع عائشة أم المؤمنين لطلب قتلة عثمان، وإقامة الحد عليهم، ولم يخرجوا لقتال على؛ لأنه لا خلاف بين الأمة أن عليا أحق بالإمامة من جميع أهل زمانه، وكان قتلة عثمان لجئوا إلى على، فرأى على أنه لا ينبغى إسلامهم للقتل على هذا الوجه حتى يسكن حال الأمة، وتجرى المطالب على وجوهها بالبينات وطرق الأحكام؛ إذ علم أنه أحق بالإمامة من جميع الأمة، ورجاء أن ينفذ الأمور على ما أوجب الله عليه، فهذا وجه منع على للمطلوبين بدم عثمان، فكان من قدر الله ما جرى به القلم من تقاتلهم. ولذلك قال الزبير لابنه ما قال لما رأى من شدة الأمر وأن الجماعة لا تنفصل إلا عن تقاتل. وقال: (لا أرانى إلا سأقتل مظلومًا) لأنه لم يبن على قتال ولا عزم عليه، ولما التقى الزحفان فر، فاتبعه ابن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 جرموز فقتله فى طريقه فى غير قتال ولا معركة، وقد يمكن الزبير أن يكون سمع قول الرسول: (بشر قاتل ابن صفية بالنار) فلذلك قال: (لا أرانى إلا سأقتل اليوم مظلومًا) والله أعلم. قال المهلب: قوله: (وثلثه لبنيه) يعنى: ثلث الثلث الموصى به لحفدته، وهم بنو ابنه عبد الله. وقوله: (فإن فضل فضل بعد قضاء الدين والوصية، فثلثه لولدك) . يعنى: ثلث ذلك الفضل الذى أوصى للمساكين من الثلث لبنيه. قوله: (وقد وازى بعض بنى الزبير) يجوز أن يكون وازاهم فى السن، ويجوز أن يكون وازى بنو عبد الله فى أنصبائهم من الوصية أولاد الزبير فيما حصل لهم من ميراث الزبير أبيهم، وهذا الوجه أولى. وإلا لم يكن لذكر كثرة أولاد الزبير معنى فى الموازاة فى السن. وفيه دليل على دفع تأويل المتشيعة على عائشة ومن تابعها أنها ظالمة؛ لأن الله لا يكون وليا للظالم. وأما قول الزبير للذين كانوا يستودعونه (لا ولكنه سلف) إنما يفعل ذلك خشية أن يضيع المال فيظن به ظن سوء فيه أو تقصير فى حفظه، فيرى أن هذا أبقى لمروءته، وأوثق لأصحاب الأموال؛ لأنه كان صاحب ذمة وافرة، وعقارات كثيرة، فرأى أن يجعل أموال الناس مضمونة عليه، ولا يبقيها تحت شيء من جواز التلف، ولتطيب نفس صاحب الوديعة على ذمته. وتطيب نفسه هو على ربح هذا المال. وقوله: (وما ولى إمارة قط ولا جباية خراج) فيكثر ماله من هذا الوجه فيكون عليه فيه ظن سوء ومغمز لظن عمر والمسلمين بالعمال، حتى قاسمهم، بل كان كسبه من الجهاد وسهمانه من الغنائم مع رسول الله وخليفتيه بعده، فبارك الله فى ماله لطيب أصله، وربح أرباحًا بلغت ألوف الألوف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 وقول عبد الله بن الحكيم بن جزام: إن دين أبى مائة ألف وكتمه ألفى ألف ومائة ألف، قهذا ليس بكذب، لأنه قصد فى البعض، وكتم بعضًا، وللإنسان إذا شئل عن خبر أن يخبر منه بما شاء، وله أن لا يخبر بشىء منه أصلا. وإنما كتمه لئلا يستعظم حكيم ما استدان الزبير، فيظن بالزبير سوء ظن وقلة حزم، ويظن بعبد الله فاقة إلى معونته، فينظر منه بعين الاحتياج إليه. وقوله: (لا أقسم حتى أنادى أربع سنين) ، فيه: أن الوصى له أن يمنع قسمة مال الميت الموصى، حتى ينفذ ديونه ووصاياه إذا كان الثلث يحملها، ولا يقسم ورثة الموصى مالا حتى يؤدى دينه وتستبرأ أمانته. وفيه: جواز الوصية للحفدة إذا كان لهم آباء فى الحياة يحجبونهم. وفيه: أن أجل المفقود والغالب أربع سنين كما قال مالك. وفيه: أن من وهب هبة ولم يثبلها الموهوب له أنها رد على واهبها، ولواهبها الاستمتاع بها؛ لأن ابن جعفر قال: إن شئتم تركتها لكم. ولا يلزمه قوله (صلى الله عليه وسلم) : (العائد فى هبته) لأنه ليس يعود، وإنما يعود فيها إذا قبلت منه. وفيه: أن سيد القوم قد يكون قوله وثبوله جائز على من إليه اتباع قومه، كما أن عبد الله لم يقبل الهبة وحده، وقد كان يجب أن يعرف ما عند ورثة أبيه كلهم، فكان قوله فى الرد جائزًا على ورثة أبيه، كما كان قول العرفاء عند سبى هوازن، فى هبة أنصبائهم من السبى جائزًا على من تبعهم. وليس هذا من الأمر المحكوم به فى شرف النفوس ومحاسن الأخلاق، ولا سيما فى ذلك الزمان المتقدم. وقوله: (فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائة ألف، غلط فى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 الحساب، والصحيح فجميع ماله سبعة وخمسون ألف ألف وتسعمائة ألف. - باب إِذَا بَعَثَ الإمَامُ رَسُولا فِي حَاجَةٍ أَوْ أَمَرَهُ بِالْمُقَامِ هَلْ يُسْهَمُ لَهُ 939 / (1) ابْنِ عُمَ، قَالَ: (إِنَّمَا تَغَيَّبَ عُثْمَانُ عَنْ بَدْرٍ، فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ) . اختلف العلماء فيمن لم يشهد الوقعة، هل يسهم له؟ فذهب أبو جنيفة وأصحابه إلى أنه من بعثه الإمام فى حاجة حتى غنم الإمام أنه يسهم له، وكذلك المدد يلحقون أرض الحرب بعد الغنيمة أنهم شركاؤهم فيها، وأخذوا بحديث ابن عمر. قالوا: وقد ذكر أهل السير أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعث سعيد بن زيد فى حاجة له وأمر طلحة بالمقام فى مكان ذكره له وأسهم لهما، وقال لهما: (لكما أجر من شهد) . وذهب مالك والثورى والليث والأوزاعى والشافعى وأحمد وأبو ثور إلى أنه لا يصل إلا لمن شهد القتال، وبذلك حكم عمر بن الخطاب وكتب به إلى عماله بالكوفة، واتج هؤلاء بحديث أبى هريرة: (أنه قدم على النبى (صلى الله عليه وسلم) وهو بخيبر بعد ما فتحوها، فقلت: أسهم لى. فقال بعض بنى سعيد بن العاص: لا تسهم له يا رسول الله. . .) فذكر الحديث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 قال الطحاوى: وحجة أهل المقالة الأولى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إن عثمان انطلق فى حاجة الله ورسوله) فضرب له بسهم ولم يضرب لأحد غيره. قال: أفلا ترى أنه لما كان غائبًا فى حاجة الله ورسوله جعله رسول الله كمن حضرها، فكذلك كل من غاب عن وقعة المسلمين بأهل الحرب لشغل شغله به الإمام من أمور المسلمين، فهو كمن حضرها. وأما حديث أبى هريرة فوجهه عندنا أن النبى (صلى الله عليه وسلم) وجه أبانًا إلى نجد قبل أن يتهيأ خروجه إلى خيبر، ثم حدث من خروج النبى إلى خيبر ما حدث، فكان ما غاب فيه أبان من ذلك، ليس هو لشغل شغله النبى عن حضور خيبر بعد إرادته إياها فيكون كمن حضرها، فهذان الحديثان أصلان لكل من أراد الخروج مع الإمام إلى قتال العدو فرده الإمام عن ذلك بأمر آخر من أمور المسلمين، فتشاغل به حتى غنم الإمام، فهو كمن حضر يسهم له، وكل من تشاغل بشغل نفسه أو شغل المسلمين مما كان دخوله فيه متقدمًا، ثم حدث للإمام قتال عدو، فتوجه له، فغنم، فلا حق للرجل فى الغنيمة، وهو ليس كمن حضرها. واحتج أهل المقالة الثانية فقالوا: إن إعطاء النبى لعثمان وهو لم يحضر بدرًا خصوص له؛ لأن الله تعالى جعل الغنائم لما غنمها والدليل على خصوصه قوله (صلى الله عليه وسلم) لعثمان: (لك أجر رجل ممن شهد بدرًا وسهمه) وهذا لا سبيل أن يعلمه غير النبي. وذكر الطبرى عن قوم من أهل العلم قالوا: إن النبى إنما أعطى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 294 عثمان يوم بدر من سهمه (صلى الله عليه وسلم) من الخمس، واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) يوم خيبر: (ما لى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود فيكم) فدل ذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يعط أحدًا ممن لم يشهد الوقعة من الغنيمة، وإنما أعطاه من نصيبه. - بَاب وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ، مَا سَأَلَ هَوَازِنُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، بِرَضَاعِهِ فِيهِمْ، فَتَحَلَّلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا كَانَ الرَّسُول يَعِدُ النَّاسَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنَ الْفَيْءِ وَالأنْفَالِ مِنَ الْخُمُسِ، وَمَا أَعْطَى الأنْصَارَ وَمَا أَعْطَى جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ مِنْ تَمْرَ خَيْبَرَ. 940 / وفيه: مَرْوَانَ، وَالْمِسْوَرَ، قَالَ، (صلى الله عليه وسلم) ، حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (اخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا السَّبْىَ وَإِمَّا الْمَالَ) ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ، وَقَدْ كَانَ انْتَظَرَهم بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، غَيْرُ رَادٍّ لَهُمْ إِلا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (إِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلاءِ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّى قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَيِّبَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى أُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِىءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ) ، فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ. . . . الحديث. 1941 / وفيه: أَبُو مُوسَى، أَتَيْتُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، فِى نَفَرٍ مِنَ الأشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ، فَقَالَ: (وَاللَّهِ لا أَحْمِلُكُمْ، وَمَا عِنْدِى مَا أَحْمِلُكُمْ) ، وَأُتِىَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِنَهْبِ إِبِلٍ، فَسَأَلَ عَنَّا، فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى. . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 42 / وفيه: ابْن عُمَرَ، بَعَثَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) سَرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَغَنِمُوا إِبِلا كَثِيرَةً، فَكَانَتْ سِهَامُهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ بَعِيرًا. 1943 / وفيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السَّرَايَا لأنْفُسِهِمْ خَاصَّةً، سِوَى قِسْمِ [عَامَّةِ] الْجَيْشِ. 1944 / وفيه: أَبُو مُوسَى، بَلَغَنَا مَخْرَجُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ، فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ أَنَا وَأَخَوَانِ لِى، أَنَا أَصْغَرُهُمْ، أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ، وَالآخَرُ أَبُو رُهْمٍ، إِمَّا قَالَ: فِى بِضْعٍ، أو ثَلاثَةٍ وَخَمْسِينَ، أَوِ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلا مِنْ قَوْمِى، فَرَكِبْنَا سَفِينَةً، فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِىِّ بِالْحَبَشَةِ، وَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِى طَالِبٍ وَأَصْحَابَهُ عِنْدَهُ، فَقَالَ جَعْفَرٌ: إِنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَنَا هَاهُنَا، وَأَمَرَنَا بِالإقَامَةِ، فَأَقِيمُوا مَعَنَا، فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا، فَوَافَقْنَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَأَسْهَمَ لَنَا، أَوْ قَالَ: فَأَعْطَانَا مِنْهَا، وَمَا قَسَمَ لأحَدٍ غَابَ عَنْ فَتْحِ خَيْبَرَ مِنْهَا شَيْئًا إِلا أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا [مَعَ] جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ قَسَمَ لَهُمْ مَعَهُمْ. 1945 / وفيه: جَابِر، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ قَدْ جَاءَنِى مَالُ الْبَحْرَيْنِ، أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا) ، فَلَمْ يَجِئْ حَتَّى قُبِضَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمَّا جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ مُنَادِيًا فَنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ، فَلْيَأْتِنَا. . . . . الحديث. 1946 / وفيه: جَابِر، بَيْنَمَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) يَقْسِمُ غَنِيمَةً بِالْجِعْرَانَةِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: اعْدِلْ، فَقَالَ لَهُ: (لَقَدْ شَقِيتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ) . قال المؤلف: غرض البخارى فى هذا الباب أن يبين أن إعطاء النبى فى نوائب المسلمين إنما هو من الفيء والخمس الذين أمرهما مردود إليه، يقسم ذلك بحسب ما يؤدى إليه اجتهاده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 296 ويرد على الشافعى فى قوله: إن الخمس مقسوم على خمسة أسهم، وهم الذين سمى الله الخمس لهم إلا سهم النبى؛ فإنه مردود على الأربعة الأسهم الباقية. وبيان الحجة عليه أن النبى حين تحلل المسلمين من سبى هوازن، واستطابهم، ووعدهم أن يعوضهم من أول ما يفيء الله عليه إنما أشار إلى الخمس، إذ معلوم أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين، فبان أن الخمس لو كان مقسومًا على خمسة أسهم لم يف خمس الخمس بما وعد المسلمين أن يعوضهم من سبى هوازن. ذكر أهل السير أن هوازن لما أبت القتال للنبى أتوا بالإبل والنساء والشاء والذرية وجميع أموالهم أفترى خمس الخمس يفى بما وعدهم من العوض من ذلك. وذهب البخارى إلى أنه إنما تحلل النبى المسلمين من سباياهم بعد ما كانوا فيئًا، فأطلقهم لما كان نساء بنى سعد ولوا من رضاعه، فراعى فى قبيلهم كله حرمة ذلك، كما روعى فى المرأة صاحبة المزادتين أنه لم يضرب على الحى الذى كانت منه لذمامها فى أخذ الماء منها حتى أسلم جميعهم. قال المهلب: وقد احتج بعض أصحاب مالك بقضية هوازن فى أنه يجوز قرض الجوارى إذا رد غيرها، ومنع من ذلك مالك؛ لأنه عنده من باب عارية الفروج، وذلك حرام. وكذلك الإبل التى حمل عليها النبى الأشعريين هى أيضًا من الخمس؛ إذ أربعة أخماس الغنيمة للغانمين. وحديث ابن عمر فيه أيضًا حجة واضحة أن النفل من الخمس كما قال مالك؛ لأنه إنما نفلهم بعيرًا بعيرًا بعد قسمة السهمان بينهم من غير ما وجبت فيه سهمانهم، وهو الخمس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 وقال الطحاوى: وذهب قوم إلى أنه ليس للإمام أن ينفل بعد إحراز الغنيمة إلا من الخمس، فأما من غير الخمس فلا؛ لأنه قد ملكته المقاتلة، فلا سبيل للإمام عليه. وقال ابن المنذر: روى هذا القول عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب، وهو قول مالك والكوفيين والشافعى ذكره أبو عبيد عن مكحول، وعمر بن عبد العزيز، وقال أبو عبيد: الناس اليوم على هذا، لا نفل من جملة الغنيمة حتى يخمس. قال الطحاوى: وخالفهم آخرون فقالوا: للإمام أن ينفل من الغنيمة ما أحب بعد إحرازه إياها قبل أن يقسمها، كما كان له قبل ذلك. وذكر ابن المنذر أن هذا قول القاسم بن عبد الرحمن، وفقهاء أهل الشام قالوا: الخمس من جملة الغنيمة، والنفل بعده، ثم الغنيمة بعد ذلك بين أهل العسكر. وهو قول الأوزاعى وأحمد وإسحاق. وحجة هذا المقالة: حديث سليمان بن موسى، عن زياد بن جارية، عن حبيب بن مسلمة (أن رسول الله نفل فى بدأته الربع قبل الخمس) فكذلك الثلث الذى ينفله فى الرجعة هو الثلث أيضًا قبل الخمس، وإلا لم يكن لذكر الثلث معنى. قال الطحاوى: فيقال لهم: بل له معنى صحيح، وذلك أن المذكور من نفله فى البدأة الربع، هو مما يجوز له النفل منه، وكذلك نفله فى الرجعة الثلث مما يجوز له النفل منه وهو الخمس. وروى حديث حبيب بلفظ يدل على هذا المعنى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 روى مكحول عن زياد بن جارية، عن حبيب بن مسلمة أن رسول الله كان ينفل الثلث بعد الخمس. قال الطحاوى: واحتجوا أيضًا بما رواه سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبى سلام، عن أبى أمامة الباهلى، عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله ينفلهم إذا خرجوا بادئين الربع، وينفلهم إذا قفلوا الثلث. قيل لهم: وهذا لا حجة فيه؛ لأنه محتمل أن يكون معناه: ينفلهم إذا قفلوا الثلث، فيكون ذلك على قفول من قتال إلى قتال، فيكون الثلث المنفل هو الثلث قبل الخمس، وذلك جائز عندنا؛ لأنه يرجى بذلك صلاح القوم وتحريضهم على قتال عدوهم. فأما إذا كان القتال قد ارتفع فلا يجوز النفل؛ لأنه لامنفعة للمسلمين فى ذلك. وقال أبو عبيد: النفل فى قوله الذى ذكره ابن عمر (ونفلوا بعيرًا بعيرًا) بعد ذكر السهام. ولا وجه له إلا أن يكون من الخمس وقد جاء مبينًا فى حديث مكحول: أن النبى نفل يوم حنين من الخمس. وروى ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال: بلغنى عن عبد الله بن عمر أنه قال: نفل رسول الله سرية بعثها قبل نجد من إبل جاءوا بها نفلا سوى نصيبهم من المغنم. قال الطحاوى: وقوله (صلى الله عليه وسلم) يوم حنين حين أخذ وبرة من جنب بعيره ثم قال: (أيها الناس، إنه لا يحل لى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود فيكم) . يدل أن ما سوى الخمس من المغنم للمقاتلة. ويدل على صحة ما قلنا ما رواه أبو عوانة، عن عاصم بن كليب، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 عن أبى الجويرية، عن معن بن يزيد السلمى قال: سمعت رسول الله يقول: (لا نفل إلا بعد الخمس) أى: حتى يقسم الخمس. وإذا قسم الخمس انفرد حق المقاتلة وهو أربعة أخماس، فكان ذلك النفل الذى ينفله الإمام من بعد أن آثر به هو من الخمس لا من الأربعة الأخماس التى هى حق المقاتلة، ولو أخذنا النفل قبل ذلك لكان حقهم قد بطل بعد وجوبه، وإنما يجوز النفل مما يدخل فى ملك المنفل من ذلك العدو. فأما ما قد زال عن ملك العدو قبل ذلك وصار فى ملك المسلمين فلا نفل فيه؛ لأنه من مال المسلمين، فثبت بذلك ألا نفل بعد إحراز الغنيمة. ومما احتج به أصحاب مالك قالوا: إنما لم يجعل مالك النفل من رأس الغنيمة؛ لأن أهلها معينون، وهم الموجفون، وجعله من الخمس؛ لأن قسمته مردودة إلى اجتهاد الإمام وأهله غير معينين. وفى حديث ابن عمر رد لقول من قال: إن النفل من خمس الخمس، وإنما فى الحديث أنه نفل نصف السدس؛ لأنه بلغت سهمانهم اثنا عشر بعيرًا ونفلوا بعيرًا بعيرًا. واما حديث أبى موسى وأهل السفينة، فإن للعلماء فى معناه تأويلات: أحدها ما ذكر موسى بن عقبة، قال إن النبى (صلى الله عليه وسلم) استطاب أنفس الغانمين بما أعطاهم كما فعل فى سبى هوازن، وقد روى ذلك عن أبى هريرة، روى خثيم بن عراك، عن أبيه، عن نفر من قومه أن أبا هريرة قدم المدينة هو ونفر من قومه فوجدوا النبى قد خرج إلى خيبر. قال: فقدمنا عليه وهو قد فتح خيبر، فكلم الناس، فأشركنا فى سهامهم. وقيل: إنما أعطاهم من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 خيبر ما لم يفتتح بقتال مما قد انجلى عنه أهله بالرعب فصار فيئًا؛ لأنه لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وبعض خيبر كانت هكذا. وقال آخرون: إنما أعطى من خيبر لأهل الحديبية خاصة، رواه حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن عمار بن أبى عمار، عن أبى هريرة قال: ما شهدت مغنمًا مع رسول الله إلا قسم لى إلا خيبر؛ فإنها كانت لأهل الحديبية خاصة شهدوها أو لم يشهدوها؛ لأن الله كان وعدهم بها لقوله تعالى: (وأخرى لم تقدروا عليه (بعد قوله: (وعدكم الله مغانم كثيرة (. وقال آخرون: إنما أعطاهم من خيبر من الخمس الذى حكمه حكم الفيء، وله أن يضعه باجتهاده حيث شاء، ويمكن أن يذهب البخارى إلى هذا القول، والله أعلم. وحديث جابر يحتمل أن يكون من الخمس أو من الفيء وكذلك حديث جابر، إذ قال الرجل للنبى: اعدل، يحتمل أن يكون من الخمس؛ لأنه إنما أنكر الأعرابى الجاهل ما رأى من التفضيل، وذلك لا يكون فى أربعة أخماس الغنيمة، وإنما يكون فى الخمس الذى هو موكول إلى اجتهاده (صلى الله عليه وسلم) . قال إسماعيل بن إسحاق: هذا مما لا يعلم أنه من الخمس، وقد قسمه رسول الله بغير وزن،، حدثنا بذلك ابن أبى أويس، حدثنا أبى، حدثنا يحيى بن سعيد، أخبرنى أبو الزبير أنه سمع جابرًا يقول: بصر عينى وسمع أذنى رسول الله بالجعرانة وفى ثوب بلال فضة يقبضها للناس يعطيهم فقال له رجل: اعدل الحديث. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: فعل الرسول فى سبى هوازن يدل أن الغنائم على حكم الإمام إن رأى أن يصرفها إلى ما هو أوكد وأعظم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 مصلحة للمسلمين من قسمتها على الغانمين صرفها ولم يعط الغانمين شيئًا، كما فعل بمكة فتحها عنوة ومَنَّ عليهم، ولم يعط أصحابه منها شيئًا، بل أبقاها للرحم التى كانت بينه وبينهم، وكذلك أراد أن يفعل بهوازن للرضاعة فيهم حين استأنى بالغنائم، فلما أبطئوا قسم، ثم لما جاءوا رد بعضًا وأبقى للغانمين بعضًا عن طيب أنفسهم، ولم يستطب أنفسهم بمكة؛ لأنه لم يملكهم، واستطاب أنفسهم بهوازن؛ لأنه قد كان قسم لهم وملكهم، فصح بهذا أنه لا شيء لهم إلا أن يملكوا، ولذلك قال مالك: يحد الزانى، ويقطع السارق وإن كان له فى الغنيمة سهم، إذا فعل ذلك قبل القسمة، فلو كان له فيها شبهة لدرأ الحد بها؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ادرءوا الحدود بالشبهات) . فدل أنه لا شبهة لهم فيها إلا أن يملكوها بالقسمة. وحكى الطبرى هذه المقالة عن بعض أهل العلم قالوا: حكم المغانم كلها لرسول الله فى مغازيه كلها، وله أن يصرفها إلى من شاء، ويحرمها على من حضر القتال، ومن لم يحضر، واعتلوا بقوله تعالى: (قل الأنفال لله والرسول (وبفعله (صلى الله عليه وسلم) فى هوازن، ولم يسم القائلين بذلك. وقال آخرون: أربعة أخماس الغنيمة حق للغانمين لا شيء فيه للإمام، وإنما هو (صلى الله عليه وسلم) كبعض من حضر الوقعة إلا ما كان خصه الله به من الفيء وخمس الخمس، وأما غير ذلك فلم يكن له فيه شيء. قالوا: والذى أعطى (صلى الله عليه وسلم) يوم حنين المؤلفة قلوبهم إنما كان من نصيبه وحقه من الغنيمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 وقوله تعالى: (قل الأنفال لله والرسول (معناه: له وضعها مواضعها التى أمره الله بوضعها فيها، لا أنه ملكها ليعمل فيها ما شاء. قالوا: وكيف يجوز أن يكون معنى قوله: (والرسول (ملكًا له، وهو (صلى الله عليه وسلم) يعزل يوم صدر من حنين، فتناول وبرة من الأرض وقال: (ما لى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود فيكم) . قالوا: فتبين بهذا الحديث أن ما أعطى النبى المؤلفة ومن لم يشهد الوقعة إنما كان من نصيبه وحقه من الغنيمة خاصة. قال أبو عبيد: مكة لا تشبه شيئًا من البلاد؛ وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) سن بمكة سننًا لم يسنها فى سائر البلاد. روى عن عائشة أنها قالت: (يا رسول الله، ألا تبنى لك بيتًا يظلك من الشمس بمكة؟ قال: لا، إنما هى مناخ من سبق) رواه عن ابن مهدى، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن يوسف بن ماهك، عن أمه، عن عائشة، وقال عبد الله بن عمرو: من أكل من أجور بيوت مكة، فإنما يأكل فى بطنه نار جهنم. وكره أهل العلم كراء بيوتها. وقال ابن عباس وابن عمر: الحرم كله مسجد. وقال مجاهد: مكة مناخ لا تباع رباعها، ولا تؤخذ أجور بيوتها، ولا تحل ضالتها إلا لمنشد. قال أبو عبيد: فإذا كان حكم مكة أنها مناخ لمن سبق، وأنها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 مسجد لجماعة المسلمين، ولا تباع رباعها، ولا يطيب كراء بيوتها، فكيف يقاس غيرها عليها. باب: المَنِّ عَلَى الأَسَارَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَمَّسُوا 947 / فيه: جُبَيْر، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ فِى أُسَارَى بَدْرٍ: (لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِىٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِى فِى هَؤُلاءِ السبى لَتَرَكْتُهُمْ) . هذا الحديث حجة فى جواز المن على الأسارى، وإطلاقهم بغير فداء، خلاف قول بعض التابعين؛ لأن النبى لا يجوز فى صفته أن يخبر عن شيء لو وقع لفعله وهو غير جائز. قال المهلب: وفيه جواز التشفيع للمذنبين الشريف على سبيل الاستئلاف، والانتفاع بإشفاعه فى رد عادته المشركين بأكثر ما يخشى من ضد المطلقين لطاعتهم لسيدهم المشفع بهم، وهو نظر من الرسول، وأن الانتفاع بالمن عليهم أكثر من قتلهم أو استرقاقهم. قال المؤلف: وقوله باب: (المن على الأسارى من غير أن يخمسوا) فيه حجة لما ذكره ابن القصار عن مالك وأبى حنيفة أن الغنائم لا يستقر ملك الغانمين عليها بنفس الغنيمة إلا بعد قسمة الإمام لها. وحكى عن الشافعى أنهم يملكون بنفس الغنيمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 قال المؤلف: والحجة للقول الأول هذا الحديث، وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) لو من على الأسارى سقط سهم من له الخمس كما سقط سهم الغانمين. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لتركتهم به) يقضى ترك جميعهم لا ترك بعضهم. واحتج ابن القصار فقال: لو ملكوا بنفس الغنيمة لكان من له أب أو ولد ممن يعتق عليه إذا ملكه يجب أن يعتق عليه بنفس الغنيمة، ويحاسب به من سهمه، وكان يجب لو تأخرت القسمة فى العين والورق ثم قسمت أن يكون حول الزكاة على الغانمين يوم غنموا. وفى اتفاقهم أنه لا يعتق عليهم من يلزمهم عتقه إلا بعد القسمة، ولا يكون حول الزكاة إلا من يوم حاز نصيبه بالقسمة أنه لا يملك بنفس الغنيمة، ولو ملك بنفس الغنيمة لم يجب عليه الحد إذا وطىء جارية من المغنم قبل القسمة. واحتج أصحاب الشافعى فقالوا: لو ترك السبى لمطعم بن عدى كان يستطيب أنفس أصحابه الغانمين، كما فعل فى سبى هوازن؛ لأن الله أوجب لهم ملك الغنائم إذا غنموها بقوله: (واعلموا أنما غنمتم من شىء (فأضافهم إليهم. وأما قولهم: لو ملكوا بنفس الغنيمة، فكان من له أب أو ولد يعتق بنفس الغنيمة، ولا حجة فيه؛ لأن السنة إنما وردت فيمن أعتق شقصًا له فى عبد معين قد ملكه وعرفه بعينه، فأما ما لا يعرف بعينه فلا يشبه عتق الشريك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 ألا ترى أن الشريك له أن يعتق كما يعتق صاحبه، وفى إجماعهم أنه يعتق على الشريك الموسر فى المعتق، وإجماعهم أنه لا يعتق عليه فى شركته فى الغنيمة دليل واضح على الفرق بينهما. وأما قوله أنه يجب أن يكون حول الزكاة من وقت الغنيمة لو كان ملكًا فخطأ بين على مذهب المالكيين وغيرهم؛ لأن العوائد لا يراعى حولها عندهم إلا من يوم يصير بيد صاحبه، وأما اعتلالهم بوجوب الحد على من وطىء من المغنم قبل القسمة فلا معنى له؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولا خلاف بين العلماء أنه لو وطىء جارية معينة بينه وبين غيره لم يحد، فكيف ما لا يتعين؟ - باب وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِلإمَامِ وَأَنَّهُ يُعْطِى بَعْضَ قَرَابَتِهِ دُونَ بَعْضٍ مَا قَسَمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِبَنِى الْمُطَّلِبِ وَبَنِى هَاشِمٍ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ: لَمْ يَعُمَّهُمْ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَخُصَّ قَرِيبًا دُونَ مَنْ هُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِى أَعْطَى لِمَا يَشْكُو إِلَيْهِ مِنَ الْحَاجَةِ وَلِمَا مَسَّهُمْ فِى جَنْبِهِ مِنْ قَوْمِهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ. 1948 / فيه: جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطَيْتَ بَنِى الْمُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَىْءٌ وَاحِدٌ) . قال الخطابِىّ: شىء أى مثل. قَالَ جُبَيْرٌ: وَلَمْ يَقْسِمِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِبَنِى عَبْدِ شَمْسٍ وَلا لِبَنِى نَوْفَلٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَعَبْدُ شَمْسٍ وَهَاشِمٌ وَالْمُطَّلِبُ إِخْوَةٌ لأمٍّ، وَأُمُّهُمْ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرَّةَ، وَكَانَ نَوْفَلٌ أَخَاهُمْ لأبِيهِمْ. قال المؤلف: هذا الباب رد لقول الشافعى أيضًا أن سهم ذى القربى خمس الخمس يقسم بينهم لا يفضل فقير على غني. قال إسماعيل بن إسحاق: وليس فى هذا الباب أنه (صلى الله عليه وسلم) قسم بينهم خمس الخمس، وقد يجوز أن يقسم بينهم أكثر وأقل؛ لأنه لم يخص فى الحديث مبلغ سهمهم كم هو، وإنما قصد فى الحديث الفرق بين بنى هاشم وبنى المطلب، وبين سائر بنى عبد مناف. وهذا الحديث يرد قول ابن عباس حين كتب إليه نجدة يسأله عن سهم ذى القربى ومن هم؟ قال: هم قرابة الرسول، ولكن أبى علينا قومنا فصبرنا، ألا ترى أن ابن عباس لم يظلم من أبى ذلك عليه، فدل أن ما أريد به مع ذلك بقرابة رسول الله بعضهم دون بعض، وجعل الرأى فى ذلك إلى رسول الله يضعه فيمن شاء منهم، وهم أهل الفقر والحاجة خاصة، وكذلك قال عمر بن الخطاب: إنما جعل الخمس لأصناف سماهم، فأسعدهم فيه حظا أشدهم فاقة وأكثرهم عددًا. وذكر الطحاوى بإسناذه عن الحسن بن محمد بن على قال: اختلف الناس بعد وفاة النبى (صلى الله عليه وسلم) فى سهم ذى القربى، فقال قوم: هو لقرابة الخليفة، وقال قوم: سهم النبى (صلى الله عليه وسلم) هو للخليفة من بعده ثم أجمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين فى العدة والخيل فى سبيل الله، فكان ذلك إمارة أبى بكر وعمر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 قال الطحاوى: أفلا ترى أن ذلك مما قد أجمع عليه الصحابة، ولو كان ذلك لقرابة رسول الله لما منعوا منه، ولما صرف إلى غيرهم، ولا خفى ذلك عن الحسن بن محمد مع علمه وتقدمه. وهذا يرد قول من زعم أن لذى القربى سهمًا مفروضًا من الخمس، وقد تقدم هذا المعنى فى باب (درع النبى وعصاه وسيفه) . وزعم الشافعى أنه يعطى الرجل من ذوى القربى سهمين والمرأة سهمًا. وخالفه أصحابه: المزنى، وأبو ثور، وجميع الناس وقالوا: الذكر والأنثى فى ذلك سواء. وهذا هو الصحيح؛ لأنهم إنما أعطوا بالقرابة، وذلك لا يوجب التفضيل، كما لو أوصى الرجل لقرابته بوصية، لم يعط الذكر مثل حظ الأثنيين؛ لأنهم إنما أعطوا باللفظ الذى أوجب لهم ذلك، فأما المواريث فإن الله تعالى قسمها بين أهلها على أمور مختلفة، جعل للوالدين فى حال شيئًا وفى حال غيره والأولاد إذا كانوا ذكورًا وإناثًا شيئًا، وإذا كن إناثًا غير ذلك، وكذلك الإخوة والأخوات. وهذا الحديث حجة للشافعى أن ذا القربى الذى يسهم لهم من الخمس هم بنو هاشم وبنو المطلب أخى هاشم خاصة دون سائر قرابته (صلى الله عليه وسلم) ، وبه قال أبو ثور، وقال ابن الحنفية: سهم ذى القربى هو لنا أهل البيت. وروى عمر بن عبد العزيز أنهم بنو هاشم خاصة. وقال أصبغ بن الفرج: اختلف فى ذلك، فقيل: هم قرابة الرسول، وقيل: قريش الجزء: 5 ¦ الصفحة: 308 كلها. قال: ووجدت معانى الآثار أنهم آل محمد. وقد تقدم فى كتاب الزكاة اختلافهم فى آل محمد الذين لا تحل لهم الصدقة. - باب مَنْ لَمْ يُخَمِّسِ الأسْلابَ وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلا فَلَهُ سَلَبُهُ مِنْ غَيْرِ الخَمِّسَ وَحُكْمِ الإمَامِ فِيهِ 949 / فيه: عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِى الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِى وَعَنْ شِمَالِى، فَإِذَا أَنَا بِغُلامَيْنِ مِنَ الأنْصَارِ، حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِى أَحَدُهُمَا، فَقَالَ: يَا عَمِّ، هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ، يَا ابْنَ أَخِى؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لا يُفَارِقُ سَوَادِى سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِى الآخَرُ، فَقَالَ لِى مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ أَبِى جَهْلٍ يَجُولُ فِى النَّاسِ، فَقُلْتُ: أَلا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِى سَأَلْتُمَانِى عَنْهُ، فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ قَالا: لا، فَنَظَرَ فِى السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ: كِلاكُمَا قَتَلَهُ، سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَكَانَا مُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ) . 1950 / وفيه: أَبُو قَتَادَةَ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، فَرَأَيْتُ رَجُلا مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلا رَجُلا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَدَرْتُ حَتَّى أَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ، حَتَّى ضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ، فَأَقْبَلَ عَلَىَّ فَضَمَّنِى ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 الْمَوْتُ، فَأَرْسَلَنِى، فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقُلْتُ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَمْرُ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا، وَجَلَسَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (مَنْ قَتَلَ قَتِيلا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُهُ) ، فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِى، ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ مِثْلَهَا، فَقُمْتُ، [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ) ؟ فَاقْتَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ] فَقَالَ رَجُلٌ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَسَلَبُهُ عِنْدِى، فَأَرْضِهِ عَنِّى، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: لاهَا اللَّهِ، إِذًا لا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) ، يُعْطِيكَ سَلَبَهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (صَدَقَ) ، فَأَعْطَاهُ، فَبِعْتُ الدِّرْعَ، فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِى بَنِى سَلِمَةَ، وَإِنَّهُ لأوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِى الإسْلامِ. ووقع هذا الحديث فى غزوة حنين من حديث الليث، عن يحيى بن سعيد (كلا لا نعطيه أضيبع من قريش، وندع أسدًا من أسد الله. . .) الحديث. اختلف الفقهاء فى السلب، هل يخمس؟ فقال الشافعى: كل شيء من الغنيمة يخمس إلا السلب؛ فإنه لا يخمس. وهو قول أحمد بن حنبل وجماعة من أهل الحديث. وذكر ابن خواز بنداذ عن مالك أن الإمام مخير فيه، إن شاء خمسه على الاجتهاد كما فعل عمر فى سلب البراء بن مالك، وإن شاء لم يخمسه، واختاره إسماعيل ابن إسحاق، وقال إسحاق بن راهويه: إذا كثرت الأسلاب، خمست كما فعل عمر بن الخطاب. وقال مكحول والثورى: السلب مغنم ويخمس. وفى مختصر الوقار، عن مالك أنه يخمس السلب. وهو قول ابن عباس، روى الزهرى، عن القاسم بن محمد، عن ابن عباس قال: السلب من النفل والنفل يخمس. وحجة من رأى تخميسها قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 شيء فأن لله خمسه} ولم يستثن سلبًا ولا غيره، وحجة من قال: لا يخمس حديث معاذ بن عمرو، وحديث أبى قتادة، وليس فى واحد منهما تخميس الأسلاب. وعموم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من قتل قتيلا فله سلبه) فملكه السلب ولم يستثن شيئًا منه. وإلى هذا ذهب البخاري. وحجة من رأى تخميسها على الاجتهاد إذا كثرت ما رواه سفيان عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك (أن البراء بن مالك بارز مرزبان الزاره فقتله، فقوم سلبه ثلاثين ألفًا، فلما صلينا الصبح غدا علينا عمر بن الخطاب فقال لأبى طلحة: إنا كنا لا نخمس الأسلاب وإن سلب البراء بلغ مالا، ولا أرانا خامسه، فقومنا ثلاثين ألفًا فدفعنا إلى عمر ستة آلاف، فكان أول سلب خمس فى الإسلام) فدل فعل عمر أن لهم أن يخمسوا إّذا رأى الإمام ذلك. واختلف العلماء فى حكم السلب، فقال مالك: لا يستحق القاتل سلب قتيله إلا أن يرى ذلك الإمام بحضرة القتال فينادى ليحرض الناس على القتال، أو يجعله مخصوصًا لإنسان إذا كان جهده. وبه قال أبو حنيفة والثوري. واحتج مالك بأن رسول الله إنما قال: (من قتل قتيلا فله سلبه) بعد أن برد القتال يوم حنين ولم يحفظ ذلك عنه فى غير يوم حنين، ولا بلغنى ذلك عن الخليفتين. فليس السلب للقاتل إلا أن يقول ذلك الإمام، وإلا فالسلب غنيمة، وحكمه حكم الغنائم؛ لأن الأربعة الأخماس للغانمين والنفل زيادة على الواجب، فلا تكون تلك الزيادة من الواجب بل من غيره وهو الخمس. وقال الأوزاعى والليث والشافعى وأبو ثور: السلب للقاتل على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 كل حال سواء قال ذلك الإمام أو لم يقله؛ لأنها قضية قضاها رسول الله فى مواطن شتى لا يحتاج إلى إذن الإمام فيها. وقد أعطى رسول الله سلب أبى جهل يوم بدر لمعاذ بن عمرو، فثبت أن ذلك كان قبل يوم حنين، خلاف قول مالك. واحتج أصحاب الشافعى بحديث معاذ بن عمرو أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان أعطاه السلب؛ لأنه كان أثخنه ومعاذ بن عفراء أجهز عليه. قالوا: وعندنا أنه إذا أثخن أحدهم المشرك بالضرب وذبحه الآخر، كان السلب للمثخن لا للذابح. قال المهلب: ونظره (صلى الله عليه وسلم) إلى سيفيهما واستدلاله منهما على أيهما قتله، دليل أنه لم يعط السلب إلا لمن أثخنه، وله مزية فى قتله، وموضع الاستدلال منه أنه رأى فى سيفيهما مبلغ الدم من جانبى السيفين، ومقدار عمق دخولهما فى جسم أبى جهل، ولذلك سألهما هل مسحاهما؛ لأنه لو مسحاهما لتغير مقدار ولوجهما فى جسمه. وقوله: (كلاكما قتله) فلو كان السلب مستحقًا بالقتل لكان يجعله بينهما؛ لأنهما اشتركا فى قتله، ولا ينتزعه من أحدهما. فلما قال لهما: (كلاكما قتله) ثم قضى بالسلب لأحدهما دون الآخر، دل ذلك على ما قلنا؛ ألا ترى أن الإمام لو قال: (من قتل قتيلا فله سلبه) فقتل رجلان قتيلا أن سلبه بينهما نصفين وأنه ليس للإمام أن يحرمه أحدهما ويدفعه للآخر؛ لأن كل واحد منهما له فيه من الحق مثلما لصاحبه، وهما أولى به من الإمام، فلما كان للنبى فى سلب أبى جهل أن يجعله لأحد قاتليه دل أنه كان أولى به منهما؛ لأنه لم يكن قال يومئذ: (من قتل قتيلا فله سلبه) قاله الطحاوي. وقال ابن القصار: لما خص به (صلى الله عليه وسلم) أحدهما علم أنه غير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 مستحق إلا بعطية الإمام؛ لأن عطاء الإمام عندنا من الخمس، فيكون معنى قوله: (من قتل قتيلا فله سلبه) يعنى: من الخمس لا من مال الغانمين. واحتج أصحاب الشافعى فقالوا: إنما أعطى السلب لأحدهما وإن كان قال: (كلاكما قتله) لأنه استطاب نفس صاحبه، ولم ينقل ذلك، ويشهد لصحة هذا ما ثبت عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه جعل السلب للقاتل يوم بدر وغيره، روى ذلك من حديث عبد الرحمن بن عوف، وحديث عوف بن مالك، وحديث أبى قتادة، وحديث ابن عباس، قالوا: لأنه محال أن يقول: (كلاكما قتله) ويقول: (من قتل قتيلا فله سلبه) ثم يعطى أحدهما إلا عن إذن صاحبه، كما فعل فى غنائم هوازن. وبهذا التأويل تسلم الحاديث من التعارض والاختلاف. قالوا: وحديث أبى قتادة، يدل أن السلب من رأس الغنيمة لا من الخمس؛ لأن الرسول أعطى أبا قتادة سلب قتيله قبل قسمة الغنيمة لأنه نفله حين برد القتال، ولم يقسم الغنيمة إلا بعد أيام كثيرة بالجعرانة. فأجابهم أصحاب مالك والكوفيون، فقالوا: هذا حجة لنا؛ وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما قال ذلك فى حديث أبى قتادة بعد تقضى الحرب وقد حيزت الغنائم وهذه حالة قد سبق فيها مقدار حق الغانمين وهو الأربعة الأخماس على ما فرضها الله لهم؛ فينبغى أن يكون من الخمس، وإذا تقرر أنه صلى الله عليه ابتدأ فأعطى القاتل السلب بعد أن قال: (ما لى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس وهو مردود فيكم) علم أن عطية ذلك وغيره من الخمس المضاف إليه، ولا يكون الخمس إلا بعد حصول الأربعة الأخماس للغانمين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 وما رأى الإمام أن يعطيه من أبلى واجتهد فى نكاية العدو، فهو ابتداء عطية منه؛ فينبغى ألا يكون من حق الغانمين، وأن يكون مما إليه صرفه على وجه الاجتهاد وهو الخمس، كما ينفل من الخمس، لا من حقوق الغانمين. واختلفوا فى الرجل يدعى أنه قتل رجلا بعينه، ويدعى سلبه، فقالت طائفة: يكلف على ذلك البينة، فإن جاء بشاهدين أخذه، وإن جاء بشاهد واحد حلف معه وكان له سلبه، واحتجوا بحديث أبى قتادة وبأنه حق يستحق مثله بشاهد ويمين، وهو قول الليث والشافعى، وجماعة من أهل الحديث. وقال الأوزاعى: يعطاه إذا قال إنه قتله ولا يسأل على ذلك بينة. وقال ابن القصار وغيره: إن النبى شرط البينة، وأعطى أبا قتادة سلبه على بينة، وذلك بشهادة رجل واحد دون يمين؛ فعلم أنه لم يعطه لأنه استحقه بالقتل لأن المغانم له أن يعطى منها مما يبقى لمن شاء، ويمنع من شاء؛ لقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه (الآية والمغانم خلاف الحقوق التى لا تستحق إلا بإقرار أو شاهدين. وقال أصحاب الشافعى: إن النبى لم يعطه أبا قتادة إلا ببينة؛ لأنه أقر له به من كان حازه لنفسه فى القتال، فصدق أبا قتادة، وقال أبو بكر الصديق ما قال، وأضاف السلب إليه؛ فحصل شاهدان له. وأيضًا فإن كل من فى يده شيء فإقراره به لغيره يقوم مقام البينة. قال المهلب: فى حديث أبى قتادة من الفقه جواز كلام الوزير ورد سائر الأمر قبل أن يعلم جواب الأمير، كما فعل أبو بكر حين قال: لا ها الله، وقال ثابت فى (غريب الحديث) : قال أبو عثمان المازنى: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 من قال: (لا ها الله إذا) فقد أحطأ، إنما هو: لا ها الله ذا. أى: ذا يمينى وذا قسمي. وقال أبو زيد: يقال: (لا ها الله ذا) ، و (ذا) صلة فى الكلام وليس من كلامهم: لا ها الله إذا. وقال غيره: هو مثل قول زهير: تعلمتها لعمر الله ذا قسمًا وقوله: فابتعت به مخرفًا. قال أبو حنيفة اللغوى: إذا اشترى الرجل نخلتين وثلاثًا إلى العشر يأكلهن قيل: قد اشترى مخرفًا جيدًا، والخرائف للنخل التى يخترفن، واحدها خروفة وخريفة والمخرف بكسر الميم - الزنبيل الذى يخترف فيه، والخارف اللاقط والحافظ للنخل. وقوله فى حديث عبد الرحمن بن عوف: (تمنيت أن أكون بين أصلح منهما) هكذا رواه مسدد، عن يوسف بن الماجشون، ورواه إبراهيم بن حمزة الزبيرى، وموسى بن إسماعيل، وعفان عن يوسف بن الماجشون (تمنيت أن أكون بين أضلع منهما) وهو أشبه بالمعنى. ورواية ثلاثة حفاظ أولى من رواية واحد خالفهم. وأماحديث إبراهيم بن حمزة فرواه الطحاوى عن أبى داود عنه. وحديث موسى بن إسماعيل رواه ابن سنجر عنه، وحديث عفان رواه ابن أبى شيبة عنه. وأما رواية الليث فى حديث أبى قتادة (كلا لا نعطيه أضيبع من قريش) فيمكن أن يكون معناها والله أعلم - ما ذكره الخطابى أن عتبة بن ربيعة نهى يوم بدر عن القتال وقال: يا قوم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 اعصبوها برأسى وقولوا: جبن عتبة، وقد تعلمون أنى لست بأجبنكم. فقال أبو بكر: الله لو غيرك قالها لأعضضته، قد ملىء جوفه رعبًا. فقال عتبه: أولى تعنى يا مصفر استه، ستعلم أينا اليوم أجبن. . .) فى حديث طويل. قال الخطابى: قوله: (يا مصفر استه) قيل: إنه نسبه إلى التوضيع والتأنيث، وقيل: إنه لم يرد به ذلك، وإنما هى كلمة تقال للرجل المترف الذى يؤثر الراحة ويميل إلى التنعيم. قال المؤلف: قال لى بعض أهل اللغة: إنما سمى أضيبع؛ لأنه كان له شامة يصبغها. - باب مَا كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُعْطِى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْخُمُسِ وَنَحْوِهِ رَوَاهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . 1951 / فيه: حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَعْطَانِى، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِى، ثُمَّ قَالَ لِى: (يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِى يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى) . قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا، حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، يَدْعُو حَكِيمًا، لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، إِنِّى أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ الَّذِى قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ هَذَا الْفَىْءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ. فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ شَيْئًا بَعْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى تُوُفِّىَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 52 / وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَ عَلَىَّ اعْتِكَافُ يَوْمٍ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَفِىَ بِهِ، وَأَصَابَ عُمَرُ جَارِيَتَيْنِ مِنْ سَبْىِ حُنَيْنٍ، فَوَضَعَهُمَا فِى بَعْضِ بُيُوتِ مَكَّةَ، قَالَ: فَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى سَبْىِ حُنَيْنٍ، فَجَعَلُوا يَسْعَوْنَ فِى السِّكَكِ، قَالَ عُمَرُ: يَا عَبْدَاللَّهِ، انْظُرْ مَا هَذَا؟ قَالَ: فَقَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى السَّبْىِ، قَالَ: اذْهَبْ فَأَرْسِلِ الْجَارِيَتَيْنِ. وَزَادَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: مِنَ الْخُمُسِ. 1953 / وفيه: عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ، أَعْطَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَوْمًا، وَمَنَعَ آخَرِينَ، فَكَأَنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: (إِنِّى أُعْطِى قَوْمًا أَخَافُ ظَلَعَهُمْ وَجَزَعَهُمْ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِى نُفُوسِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْغِنَى، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ) ، فَقَالَ عَمْرُو: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِى بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حُمْرَ النَّعَمِ. 1954 / وفيه: أَنَس، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى أُعْطِى قُرَيْشًا أَتَأَلَّفُهُمْ؛ لأنَّهُمْ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ) . 1955 / وفيه: أَنَسُ، أَنَّ نَاسًا مِنَ الأنْصَارِ قَالُوا لِلْنَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ: مَا أَفَاءَ، فَطَفِقَ يُعْطِى رِجَالا مِنْ قُرَيْشٍ الْمِائَةَ مِنَ الإبِلِ، فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُعْطِى قُرَيْشًا، وَيَدَعُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَحُدِّثَ بِمَقَالَتِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى الأنْصَارِ، فَجَمَعَهُمْ فِى قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ أَحَدًا غَيْرَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا، جَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (مَا كَانَ حَدِيثٌ بَلَغَنِى عَنْكُمْ) ؟ فَقَالَ لَهُ فُقَهَاؤُهُمْ: أَمَّا ذَوُو آَرَأَيَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا أُنَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ، فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُعْطِى قُرَيْشًا، وَيَتْرُكُ الأنْصَارَ وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى أُعْطِى رِجَالا حَدِيثِى عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأمْوَالِ، وَتَرْجِعُون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 317 إِلَى رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَوَاللَّهِ مَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ) ، قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ رَضِينَا، فَقَالَ لَهُمْ: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً شَدِيدَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْحَوْضِ) . قَالَ أَنَسٌ: فَلَمْ يَصْبِرْوا. 1956 / وفيه: جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، بَيْنَا هُوَ مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَمَعَهُ أُنَاسٌ مُقْفَلَه مِنْ حُنَيْنٍ، عَلِقَتْ بِرَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الأعْرَابُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ، فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَعْطُونِى رِدَائِى، فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لا تَجِدُونِى بَخِيلا وَلا كَذُوبًا وَلا جَبَانًا) . 1957 / وفيه: أَنَس، كُنْتُ أَمْشِى مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِىٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِىٌّ، فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: مُرْ لِى مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِى عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاه. 1958 / وفيه: ابْن مسعود، لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أُنَاسًا فِى الْغَنِمَةِ، وَأَعْطَى الأقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الإبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ، فَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِى الْقِسْمَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لأخْبِرَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَتَيْتُهُ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: (فَمَنْ يَعْدِلُ، إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِىَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ) . 1959 / وفيه: أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ قَالَتْ: كُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِى أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى رَأْسِى، وَهِىَ مِنِّى عَلَى ثُلُثَىْ فَرْسَخٍ. وَقَالَ عروة، عن أَسْمَاءَ: أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ أَرْضًا مِنْ أَمْوَالِ بَنِى النَّضِيرِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 60 / وفيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ الْيَهُودَ مِنْهَا، وَكَانَتِ الأرْضُ لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلْيَهُودِ وَلِلرَّسُولِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، فَسَأَلَ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَتْرُكَهُمْ عَلَى أَنْ يَكْفُوا الْعَمَلَ، وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (نُقِرُّكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا) ، فَأُقِرُّهم حَتَّى أَجْلاهُمْ عُمَرُ فِى إِمَارَتِهِ إِلَى تَيْمَاءَ وَأَرِيحَا. قال المؤلف: آثار هذا الباب ترد قول الشافعى؛ فإنه زعم أن النبى عليهه السلام إنما كان يعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من خمس الخمس؛ لأنه سهمه خاصة. قال إسماعيل بن إسحاق: وهذه قسمة لم يعدل فيها الشافعى؛ لأنه لا يتوهم أحد أن خمس الخمس يكون مبلغه ما أعطى المؤلفة من تلك العطايا الكثيرة، فإن كان ذلك كله من خمس الخمس، فإن أربعة أخماس الخمس أضعاف ذلك كله. قال إسماعيل: وأعطى النبى المؤلفة قلوبهم من الخمس وليس للمؤلفة قلوبهم ذكر فى الخمس ولا فى الفيء، وإنما ذكروا فى الصدقات فدل إعطاؤهم من غنائم حنين، أن الخمس يقسمه الإمام على ما يراه، وليس على الأجزاء التى قال الشافعى، وأبو عبيدة، ولو كان كذلك ما جاز أن يعطى المؤلفة قلوبهم من ذلك شيئًا. قال المؤلف: وآثار هذا الباب أيضًا ترد مقالة قوم ذكرهم الطبرى، زعموا أن إعطاء النبى (صلى الله عليه وسلم) المؤلفة قلوبهم كان من جملة الغنيمة لا من الخمس، وزعموا أنه كان له (صلى الله عليه وسلم) أن يمنع الغنيمة من شاء ممن حضر القتال ويعطيها من لم يحضر، وهو قول مردود بالآثار الثابتة، وبدلائل القرآن. قال المهلب: وكان حكيم ممن استؤلف بالمال؛ لأنه كان يحب المال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 وفيه: رد السائل إذا ألحف بالموعظة الحسنة، لا بالانتهار الذى نهى الله عنه. وفيه: أن الحرص على المال والإفراط فى حبه وطلبه يوجب المحق له، وأن النفس الشريفة هى سخية به إن أعطته وسخية به إن أخذته، ولم تكن عليه حريصة، يبارك لها فيه، كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، وقد تقدم كثير من معانى حديث حكيم فى كتاب الزكاة من التعفف عن المسألة. وفيه: ذم كثرة الأكل، وتقبيحه. وفى حديث أنس من الفقه أن على الإمام أن يمتحن ما يكره مما يبلغه من الأخبار، ولا يدع الناس يخوضون من أمره فيما يؤزرون به، فربما أورث ذلك نفاقًا فى قلوبهم فيجب امتحان ما سمعه من ذلك، واختباره بنفسه حتى يتبين وجه ما أنكر عليه، ومعنى مراده؛ لتذهب نزغات الشيطان من نفوسهم، كما فعل (صلى الله عليه وسلم) بالأنصار حين رضاهم بما لم يكونوا يرضون به من قبل من الأثرة عليهم لما بينه لهم. وفيه: أن الإمام إذا اختص قومًا بنفسه وجيرته، أن يعلم لهم حق الجوار على غيرهم من الناس. وفيه: شرف جيران الملك على سائر من بعد عن جيرته. وفيه: أن الرجل العالم والإمام العادل، خير من المال الكثير. وفيه: استئلاف الناس بالعطاء الجزيل لما فى ذلك من المنفعة للمسلمين والدفاع عنهم. وفيه: أن الأنصار لا حق لهم فى الخلافة؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) عرفهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 320 أنه سيؤثر عليهم، والمؤثر يجب أن يكون من غيرهم؛ ألا ترى قوله: (فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله) فعرفهم أن ذلك حالهم إلى انقضاء الزمان. وفى حديث جبير استعمال حسن الأخلاق والحلم لجهل الناس والأعراب وقلة ردهم بالخيبة. وفيه: سنة الأمراء أن يسكنوا عن رد السائل، ويتركوه تحت الرجاء ولا يؤيسوه ويوحشوه. وفيه: مدح الرجل نفسه إذا ألحف عليه فى المسألة فى المال والعلم وغيره. وفيه: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) مدح نفسه بالجود العظيم، ووصف نفسه بالشجاعة والبأس الذى بسببه كانت الأعراب تسأله، ووصف نفسه بالصدق فيما يعد به من العطايا. وفيه: أنه من أخلف وعد الله جاز أن يسمى: كاذبًا، وقد قال تعالى: (إنه كان صادق الوعد (. وقال ابن المنذر: فى حديث جبير دليل على أن الإمام بالخيار إن شاء قسم الغنائم بين أهلها قبل أن يرجع إلى بلاد الإسلام، وإن شاء أخر ذلك، على قدر فراغه وشغله إلى وقت خروجه، وعلى قدر ما يرى من الصلاح فيه. وقال المهلب: فى حديث الذى جبذ النبى معنى ما تقدم من صبر السلاطين والعلماء لجهال السؤال واستعمال الحلم لهم، والصبر على أذاهم فى المال والنفس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 وفى حديث ابن مسعود الأثرة فى القسمة نصا. وفيه: الإعراض عن الأذى إذا لم يعين قائلوه، والتأسى بما تقدم من الفضلاء فى الصبر والحلم. وفى حديث أسماء: عون المرأة للرجل فيما يمتهن فيه الرجل، وذلك من باب التطوع منها وليس بواجب عليها، وسيأتى فى كتاب النكاح ما يلزم المرأة من خدمة واختلاف العلماء فى ذلك عند ذكر هذا الحديث إن شاء الله. وأما قوله: (إن النبى (صلى الله عليه وسلم) أقطع الزبير أرضًا من بنى النضير) فليست من جملة الخمس؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أجلى بنى النضير حين أرادوا الغدر به وقتله [. . . .] كانت فيما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، فخمس منها رسول الله فى نوائبه وقسم أكثرها فى المهاجرين خاصة، فلم يجر فيها خمس. وأما خيبر فإن ابن شهاب قال: بعضها كان عنوة، وبعضها كان صلحًا، وما كان عنوة فجرى فيه الخمس. فأما قوله: (وكانت الأرض لما ظهر عليها لليهود وللرسول وللمسلمين) فقد اختلفت الرواية فى ذلك، فروى ابن السكن عن الفريرى: (وكانت الأرض لما ظهر عليها لله وللرسول وللمسلمين) . وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: بل الصواب لليهود، وهو الصحيح. وكذلك روى البيهقى عن الفربرى. وقوله: (لما ظهر عليها) أى: لما ظهر عليها بفتح أكثرها ومعظمها قبل أن يسأله اليهود أن يصالحوه بأن ينزلوا ويعطوه الأرض، ويسلمهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 فى أنفسهم فكانت لليهود، فلما صالحهم على أن يسلموا له الأرض، كانت الأرض لله ولرسوله، يريد هذه الأرض التى صالحه اليهود بها وخمس الأرض التى كان أخذها عنوة، وللمسلمين الأربعة الأخماس من العنوة، ولم يكن لليهود فيها شيء؛ لخروجهم عنها بالصلح، والدليل على ذلك أن عمر لما أخرجهم إنما أعطاهم قيمة الثمرة لا قيمة الأصول، فصح أنهم كانوا مساقين فيها بعد أن صولحوا على أنفسهم وبالله التوفيق. - باب مَا يُصِيبُ مِنَ الطَّعَامِ فِى أَرْضِ الْحَرْبِ 961 / فيه: ابْن مُغَفَّلٍ، قَالَ: كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْرَ خَيْبَرَ، فَرَمَى إِنْسَانٌ بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ، فَنَزَوْتُ لآخُذَهُ، فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ. 1962 / وفيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كُنَّا نُصِيبُ فِى مَغَازِينَا الْعَسَلَ وَالْعِنَبَ فَنَأْكُلُ منه، وَلا نَرْفَعُهُ. 1963 / وفيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ: أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ لَيَالِىَ خَيْبَرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَقَعْنَا فِى الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ، فَانْتَحَرْنَاهَا، فَلَمَّا غَلَتِ الْقُدُورُ نَادَى مُنَادِى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَنْ أَكْفِئُوا الْقُدُورَ، وَلاَ تَأْكُلُوْا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئًا) ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: فَقُلْنَا: إِنَّمَا نَهَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) عَنْهَا، لأنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ، قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ: حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ. وَسَأَلْتُ ابْن جُبَيْرٍ، فَقَالَ: حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ. جمهور العلماء متفقون على أنه لا بأس بأكل الطعام والعلف فى دار الحرب بغير إذن الإمام، ولا بأس بذبح الإبل والبقر والغنم قبل أن يقع فى المقاسم. هذا قول مالك والكوفيين والليث والأوزاعى والشافعى وأحمد. قال مالك: ولو أن ذلك لا يؤكل حتى يقسم فيهم أضر ذلك بهم. قال: وإنما يأكلون ذلك على وجه المعروف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 والحاجة، ولا يدخر أحد منهم شيئًا يرجع به إلى أهله، وقد احتج الفقهاء فى هذا بحديث ابن مغفل فى قصة الجراب، وقالوا: ألا ترى أن النبى لم ينكر عليه، وقد ورد فى بعض طرق حديث ابن مغفل قال: (فالتفت فإذا النبى (صلى الله عليه وسلم) يبتسم إلي) وشذ الزهرى فى هذا الباب، فقال: لا يجوز أخذ الطعام فى دار الحرب إلا بإذن الإمام. وأظنه رأى الخلفاء والأمراء كانوا يأذنون لهم فى ذلك، وهذا لا حجة فيه؛ لأن ما أذنوا فيه مرة علمت فيه الإباحة؛ لأنهم لا يأذنون فى استباحة غير المباح. وقول ابن عمر: (كنا نصيب فى مغازينا العنب والعسل فنأكله ولا نرفعه) هو كالإجماع من الصحابة. قال المهلب: وحديث ابن أبى أوفى حجة فى ذلك أيضًا، وأن العادة كانت عندهم فى المغازى انطلاق أيديهم على المطاعم والمستلحمات، ولولا ذلك ما تقدموا إلى شيء إلا بأمر الرسول. وسيأتى ما للعلماء فى تحريم لحوم الحمر فى كتاب الذبائح إن شاء الله. وكره جمهور العلماء أن يخرج شيئًا من الطعام إلى دار الإسلام إذا كانت له قيمة، وكان للناس فيه رغبة، وحكمةا فيه بحكم الغنيمة فإن أخرجه رده فى المقاسم إن أمكنه وإلا باعه وتصدق بثمنه. قال مالك: وإن كان يسيرًا أكله. وقال الأوزاعى: ما أخرجه إلى دار الإسلام فهو له أيضًا. قال ابن المنذر: وليس لأحد أن ينال من أموال العدو شيئًا سوى الطعام للأكل والعنف للدواب، وكل مختلف فيه بعد ذلك من ثمن طعام أو فضلة طعام يقدم به إلى أهله أو جراب أو حبل أو غير ذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 مردود إلى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أدوا الخائط والمخيط) . وإلى قوله: (شراك أو شراكان من نار) . وقال الطحاوى: وقد حدثنا سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن أبى يوسف، عن أبى إسحاق الشيبانى، عن محمد بن أبى المجالد، عن عبد الله بن أبى أوفى قال: (كنا مع رسول الله بخيبر يأتى أحدنا إلى الطعام من الغنيمة، فيأخذ منه حاجته) . قال: وقد خالف هذا حديث آخر رواه ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن أبى مرزوق التجيبى، عن حنش بن عبد الله، عن رويفع بن ثابت، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال عام خيبر: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذ دابة من المغنم فيركبها حتى إذا أنقصها ردها فى المغانم، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يليس ثوبًا من المغانم حتى إذا أخلقه رده فى المغانم) . وذهب قوم منهم الأوزاعى إلى أنه لا بأس أن يأخذ الرجل السلاح من الغنيمة فيقاتل به فى معمعة القتال ما كان إلى ذلك محتاجًا، ولا ينتظر برده الفراغ من الحرب، فيعرضه للهلاك وانكساد الثمن فى طول مكثه فى دار الحرب. واحتجوا بهذا الحديث، وخالفهم آخرون منهم أبو حنيفة، فقالوا: لا بأس أن يأخذ السلاح من الغنيمة إذا احتاج إليه بغير إذن الإمام، فيقاتل به حتى يفرغ من الحرب فيرده فى المغنم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 325 وقال أبو يوسف: ولحديث رسول الله معنى لا يفهمه إلا من أعانه الله عليه، ومعنى الحديث عندنا: على من يفعل ذلك وهو عنه غنى يبقى بذلك دابته أو ثوبه أو يأخذه يريد به الخيانة، فأما رجل مسلم فى دار الحرب ليس له دابة، وليس مع المسلمين فضل يحملونه إلا دواب الغنيمة، ولا يقدر على المشى، فلا يحل للمسلمين تركه، ولا بأس أن يركب شاءوا أو كرهوا، وكذلك الحال فى الثياب والسلاح. ألا ترى أن قومًا من المسلمين لو تكسرت سيوفهم أو ذهبت، ولهم غنى عن المسلمين أنه لا بأس أن يأخذوا سيوفًا من الغنيمة، فيقاتلوا بها ما داموا فى دار الحرب؟ أرأيت إن لم يحتاجوا إليها فى معمعة القتال، واحتاجوا إليها بعد ذلك بيومين أغار عليهم العدو يقومون فى وجوههم بغير سلاح أيستأسرون؟ هذا الرأى فيه توهين لمكيدة المسلمين، فكيف يحل هذا فى المعمعة ويحرم بعد ذلك؟ وحديث ابن أبى أوفى يبين أنه إذا كان الطعام لا بأس بأخذه وأكله واستهلاكه لحاجة المسلمين إليه، كذلك لا بأس بأخذ الدواب والثياب واستعمالها للحاجة إليها حتى يكون الذى أريد من حديث ابن أبى أوفى غير الذى أريد من حديث رويفع حتى لا تتضاد، وهذا قول أبى يوسف ومحمد وبه نأخذ، قاله الطحاوي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 - كتاب الجزية - باب الْجِزْيَةِ وَالْمُوَادَعَةِ مَعَ أَهْل الذمةِ وَالْحَرْبِ وقوله تَعَالَى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ (إلى قوله: (صَاغِرُونَ) [التوبة: 29] ، وَمَا جَاءَ فِى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالْعَجَمِ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِى نَجِيحٍ: قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ: مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّأْمِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ؟ قَالَ: جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْيَسَارِ. 1964 / فيه: جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عن بَجَالَةُ، قَالَ: كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ - عَمِّ الأحْنَفِ - فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ، فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِى مَحْرَمٍ مِنَ الْمَجُوسِ، وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ. 1965 / وفيه: عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، فَأْتِى بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) هُوَ صَالَحَ [أَهْلَ] الْبَحْرَيْنِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِىِّ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِى عُبَيْدَةَ، فَوَافَتْ صَلاةَ الصُّبْحِ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا صَلَّى بِهِمُ الْفَجْرَ انْصَرَفَ، يتَعَرَّضُون لَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 حِينَ رَآهُمْ، وَقَالَ: (أَظُنُّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدْ جَاءَ بِشَىْءٍ) ، قَالُوا: أَجَلْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ لا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ) . 196 / وفيه: جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ، قَالَ: بَعَثَ عُمَرُ النَّاسَ فِى أَفْنَاءِ الأمْصَارِ يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَسْلَمَ الْهُرْمُزَانُ، فَقَالَ: إِنِّى مُسْتَشِيرُكَ فِى مَغَازِىَّ هَذِهِ، قَالَ: نَعَمْ، مَثَلُهَا وَمَثَلُ مَنْ فِيهَا مِنَ النَّاسِ مِنْ عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ مَثَلُ طَائِرٍ لَهُ رَأْسٌ، وَلَهُ جَنَاحَانِ، وَلَهُ رِجْلانِ، فَإِنْ كُسِرَ أَحَدُ الْجَنَاحَيْنِ نَهَضَتِ الرِّجْلانِ بِجَنَاحٍ وَالرَّأْسُ، فَإِنْ كُسِرَ الْجَنَاحُ الآخَرُ نَهَضَتِ الرِّجْلانِ وَالرَّأْسُ، وَإِنْ شُدِخَ الرَّأْسُ، ذَهَبَتِ الرِّجْلانِ وَالْجَنَاحَانِ وَالرَّأْسُ، فَالرَّأْسُ كِسْرَى، وَالْجَنَاحُ قَيْصَرُ، وَالْجَنَاحُ الآخَرُ فَارِسُ، فَمُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَلْيَنْفِرُوا إِلَى كِسْرَى. وَقَالَ بَكْرٌ وَزِيَادٌ جَمِيعًا: عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ: فَنَدَبَنَا عُمَرُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْنَا النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَرْضِ الْعَدُوِّ، وَخَرَجَ عَلَيْنَا عَامِلُ كِسْرَى فِى أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَقَامَ تَرْجُمَانٌ لَهُ فَقَالَ: لِيُكَلِّمْنِى رَجُلٌ مِنْكُمْ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: سَلْ عَمَّا شِئْتَ، قَالَ: مَا أَنْتُمْ؟ قَالَ: نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ، كُنَّا فِى شَقَاءٍ شَدِيدٍ وَبَلاءٍ شَدِيدٍ نَمَصُّ الْجِلْدَ وَالنَّوَى مِنَ الْجُوعِ، وَنَلْبَسُ الْوَبَرَ وَالشَّعَرَ، وَنَعْبُدُ الشَّجَرَ وَالْحَجَرَ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأرَضِينَ، إِلَيْنَا نَبِيًّا مِنْ أَنْفُسِنَا، نَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا ورَسُولُ رَبِّنَا (صلى الله عليه وسلم) أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ، وَأَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا (صلى الله عليه وسلم) عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ وَنَعِيمٍ، لَمْ يَرَ مِثْلَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 قَطُّ، وَمَنْ بَقِىَ مِنَّا مَلَكَ رِقَابَكُمْ، فَقَالَ النُّعْمَانُ: رُبَّمَا أَشْهَدَكَ اللَّهُ مِثْلَهَا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمْ يُنَدِّمْكَ، وَلَمْ يُخْزِكَ، وَلَكِنِّى شَهِدْتُ الْقِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ فِى أَوَّلِ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الأرْوَاحُ، وَتَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ. اختلف العلماء، فيمن تؤخذ منه الجزية، فروى ابن القاسم عن مالك أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب، ومن المجوس وعبدة الأوثان، وكل المشركين غير المرتدين، وقريش. وفى مختصر ابن أبى زيد: وتقاتل جميع الأمم حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية. وحكى الطحاوى عن أبى حنيفة وأصحابه: أن الجزية تقبل من أهل الكتاب، ومن سائر كفار العجم، ولا يقبل من مشركى العرب إلا الإسلام أو السيف. وقال الشافعى: لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب عربًا كانوا أو عجمًا، وزعم أن المجوس كانوا أهل كتاب فلذلك تؤخذ منهم الجزية، وروى ذلك عن على بن أبى طالب. وقال الطحاوى: فى حديث عمرو بن عوف أن رسول الله بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتى بجزيتها، أن أهل البحرين كانوا مجوسًا من الفرس، ولم يكونوا من العرب، ولذلك قبل منهم الجزية، وأقرهم على مجوسيتهم. واحتج الشافعى بقوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 بالله ولا باليوم الآخر (إلى قوله: (من الذين أوتوا الكتاب (. قال: فدل هذا الخطاب أن من لم يؤت الكتاب ليس بمنزلتهم بدليل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) ولا يجوز أن يكون أهل الكتاب داخلين تحت هذه الجملة؛ لأنهم يقولون: لا إله إلا الله لإخباره (صلى الله عليه وسلم) أن هذه الكلمة يحقن بها الدم والمال، فدل أن بغيرها لا يحقن الدم. وحجة مالك حديث عبد الرحمن بن عوف (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أخذ الجزية من مجوس هجر) وقال فى المجوس: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب فى أخذ الجزية منهم) وأيضًا فإن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يبعث أمراء السرايا فيقول لهم: (إذا لقيتم العدو فادعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا فالجزية، فإن أعطوا وإلا فقاتلوهم) ولم ينص على مشرك دون مشرك، بل عم جميع المشركين؛ لأن الكفر يجمعهم، ولما جاز أن يسترقهم جاز أن يأخذ منهم الجزية، عكسه المرتد لما لم يجز أن يسترقه لم يجز أخذ الجزية منه. وليس فيما احتج به الشافعى من قوله: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر (دليل على أن الجزية لا يجوز أخذها من غير أهل الكتاب؛ لأن الله تعالى لم ينه أن تؤخذ الجزية من غيرهم، وللنبى (صلى الله عليه وسلم) أن يزيد فى البيان، ويفرض ما ليس بموجود فى الكتاب، ألا ترى أن الله حرم الأمهات ومن ذكر معهن فى الآية، وحرم النبى أن تنكح المرأة على عمتها وخالتها، وليس ذلك بخلاف لكتاب الله؛ فكذلك أخذ الجزية من جميع المجوس هو ثابت بالسنة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 330 الثابتة، وهذا ينتظم الرد على أبى حنيفة فى قوله أن مجوس العرب، لا يجوز أخذ الجزية منهم، ويؤخذ من سائر المجوس غيرهم؛ لإطلاقه (صلى الله عليه وسلم) أخذ الجزية من جميع المجوس بقوله: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) ومن ادعى الخصوص فى هذا وأن المراد بعضهم فعليه الدليل. وأما قول الشافعى: أن المجوس كانوا أهل كتاب فرفع فهو غير صحيح؛ لأنه لو كان كذلك لكان لنا أن نأكل ذبائحهم، وننكح نساءهم، وهذا لا يقوله أحد. وقوله: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) يدل أنه لا كتاب لهم، وأيضًا فإنه لو كانوا أهل كتاب فرفع كتابهم لوجب أن يصيروا بمنزلة من لا كتاب له؛ لأن الشيء إذا كان لمعنى فارتفع المعنى ارتفع الحكم. هذا قول ابن القصار. واختلف العلماء فى مقدار الجزية، فقال مالك: أكثر الجزية أربعة دنانير على أهل الذهب، وعلى أهل الورق أربعون درهمًا، ولا حد لأقلها، وأخذ فى ذلك مالك ما رواه عن نافع، عن أسلم (أن عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، وأهل الورق أربعين) . وقال الكوفيون: يؤخذ من الغنى: ثمانية وأربعون درهمًا، ومن الوسط أربعة وعشرون، ومن الفقير اثنا عشر درهمًا، وبه قال أحمد بن حنبل، وأخذوا فى ذلك بما رواه إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن عمر (أنه بعث عثمان بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 حنيف، فوضع الجزية على أهل السواد ثمانية وأربعين، وأربعة وعشرين، واثنى عشر) . قال أحمد بن حنبل: ويزاد فيه وينقص على قدر طاقتهم، على قدر ما يرى الإمام. وقال الشافعى: الجزية دينار على الغنى والفقير، واحتج أصحابه بما رواه أبو وائل عن مسروق، عن معاذ أن الرسول قال له حين بعثه إلى اليمن: (خذ من كل حالم دينارًا، وعد له معافري) وهو ثياب اليمن. وقال الثورى: قد اختلفت الروايات فى هذا عن عمر بن الخطاب، فللوالى أن ياخذ بأيها شاء، إذا كانوا أهل ذمة، وأما أهل الصلح فما صولحوا عليه لا غير، وما حكاه البخارى عن مجاهد أنه جعل على أهل الشام أربعة دنانير، وعلى أهل اليمن دينارًا من أجل اليسار فهو قول حسن. وقال عبد الوهاب بن نصر فى أمر النبى أن يأخذ من كل حالم دينارًا، يحتمل أن يكونوا لم يقدروا على أكثر منه. وقد روى عن مالك أنه لا يزاد على الأربعين درهمًا، ولا بأس بالنقصان منها إذا لم يطق. قال مالك: وأرى أن ينفق من بيت المال على كل من احتاج من أهل الذمة إن لم تكن لهم حرفة. ولا قوة على نفقة نفسه، وينفق على يتاماهم حتى يبلغوا. قال ابن حبيب: وحدثنى مطرف، عن مالك قال: بلغنى أن عمر بن الخطاب كان ينفق على رجل من أهل الذمة حين كبر وضعف عن العمل والخراج. قال المهلب: وأما قول عمر: (فرقوا بين كل ذى محرم من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 332 المجوس) فيحتمل وجهين: أحدهما: أن الله لم يأمر بأخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، وأهل الكتاب لا ينكحون ذوات المحارم، فإذا استعمل فيهم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) احتمل أن لا يقبل منهم الجزية إلا أن يسن بهم سنة أهل الكتاب فى مناكحتهم أيضًا، والوجه الآخر: أن يكون عمر غلب على المجوس عنوة ثم أبقاهم فى أموالهم عبيدًا يعملون فيها، والأرض للمسلمين، ثم رأى أن يفرق بين ذوات المحارم من عبيده الذين استبقاهم على حكمه واستبقاهم باجتهاده، وإن كان منعقدًا فى أصل استحيائهم واستبقائهم، ويكون اجتهاده فى تفريقه بين ذوات محارمهم مستنبطًا من قوله (صلى الله عليه وسلم) : (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) أى: ما كان أهل الكتاب يحملون عليه فى حرمهم ومناكحتهم، فاحملوا عليه المجوس، والله أعلم أى الوجهين أراد عمر. فيه: أنه قد يغيب عن العالم المنور بعض العلم. وفيه: قبول خبر الواحد والعمل به. وفيه: أن طلب العطاء من الإمام لا غضاضة فيه على طالبه؛ لقولهم: (أجل يا رسول الله) . وفيه: التبشير بالإسهام لهم بقوله: (أبشروا وأملوا) ومعنى ذلك: أى أملوا أكثر ما تطلبون من العطاء؛ لأنهم لم يعرفوا مقدار ما قدم به أبو عبيدة فسرهم بأكثر مما يظنون. وفيه: علامة النبوة؛ لأنه أخبرهم بما يخشى عليهم فيما يفتح عليهم من الدنيا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 وفيه: أن المنافسة فى الاستكثار من المال من سبل الهلاك فى الدنيا. وقوله فى حديث جبير بن حية: أفناء الأنصار فهم طوائف منهم لم يكونوا من فخذ واحد. وأما مشاورة عمر الهرمزان فبعد أن أسلم، وكان رجلا بصيرًا بالحرب له دربة ورأى فى المملكة وتدبيرها؛ فلذلك شاوره عمر. وفى هذا من الفقه: أن المشاورة سنة لا يستغنى عنها أحد، ولو استغنى عنها لكان النبى (صلى الله عليه وسلم) أغنى الناس عنها؛ لأن جبريل كان يأتيه بصواب الرأى من السماء، ومع ذلك فإن الله تعالى قال: (وشاورهم فى الأمر (ولو لم يكن في المشاورة إلا استئلاف النفوس، وإظهار المفاوضة والثقة بالمستشار لعلمه أن يبدو من الرأى ما لم يكن ظهر. وأما العزيمة والعمل فإلى الإمام لا يشركه فيه أحد؛ لقوله تعالى: (فإذا عزمت فتوكل على الله (فجعل العزيمة إليه، وجعله مشاركًا فى الرأى لغيره. وفى هذا من الفقه: جواز مشاورة غير الوزير إذا كان ممن يظن عنده الرأى والمعرفة. وفيه: ضرب الأمثال. وفيه: أن الرأى فى الحرب القصد إلى أعظم أهل الخلاف شوكة، كما أشار الهرمزان؛ لأنه إذا استؤصل الأقوى سلم الأضعف. وفيه: كلام الوزير دون رأى الأمير، كما كلم عمر يوم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 حنين لأبى سفيان، وكما كلم أبو بكر الصديق فى قصة سلاح قتل أبى قتادة. وقوله: (كنا فى شقاء شديد) ففى ذلك وصف أنفسهم بالصبر والثبات على مضض العيش. وقوله: (نعرف أباه وأمه) فإنه أراد شرفه ونسبه؛ لأن الأنبياء لا تبعث إلا من أشراف قومهم، فوصف شرف الطرفين من الأب والأم. وقول النعمان للمغيرة: (ربما أشهدك الله مثلها) يريد ربما شهدت مع النبى فيما سلف مثل هذه الأحوال الشديدة، وشهدت معه القتال، فلم يندمك ما لقيت معه من الشدة، ولم يحزنك لو قفلت معه؛ لعلمك بما تصير إليه من النعيم، وثواب الشهادة. وقوله: (ولكنى شهدت القتال مع رسول الله كثيرًا) فهذا ابتداء كلام، واستئناف قصة أخرى، أعلمهم أن الرسول كان إذا لم يقاتل أول النهار ترك حتى تهب الرياح، يعنى: رياح النصر، وتحضر أوقات الصلوات، وقد بين هذا المعنى حديث حماد بن سلمة عن النعمان بن مقرن قال: (كان النبى إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس، وتهب رياح النصر) وقد تقدم هذا الحديث وإسناده فى الجزء الأول من الجهاد فى باب (كان النبى إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس) ، وأيضًا فإن أفضل الأوقات أوقات الصلوات، وفيها الأذان وقد جاء فى الحديث (أن الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 - باب إِذَا وَادَعَ الإمَامُ مَلِكَ قَرْيَةِ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ لِبَقِيَّتِهِمْ 967 / فيه: أَبُو حُمَيْدٍ، غَزَوْنَا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) تَبُوكَ، وَأَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَسَاهُ بُرْدًا، وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ. قال المؤلف: ذكر ابن إسحاق فى السير قال: لما انتهى رسول الله إلى تبوك أتاه بحنة ابن رؤبة صاحب أيلة فصالح رسول الله، وأعطى الجزية، وكتب لهم رسول الله كتابًا فهو عندهم، وكتب لبحنة بن رؤبة: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة من الله ومحمد النبى رسول الله لبحنة بن رؤبة وأهل أيلة، سفنهم وسيارتهم فى البر والبحر لهم ذمة الله وذمة محمد النبى، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثًا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيبة لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا من ماء يردونه، ولا طريق يردونها من بر أو بحر) . والعلماء مجمعون على أن الإمام إذا صالح ملك القرية أنه يدخل فى ذلك الصلح بقيتهم؛ لأنه إنما صالح على نفسه ورعيته، ومن يلى أمره، وتشتمل عليه بلده وعمله، ألا ترى أن فى كتاب النبى تأمين ملك أيلة وأهل بلده. واختلفوا إذا أمن طائفة منهم هل يدخل فى ذلك الإمام العاقد للأمان؟ فذكر الفزارى عن حميد الطويل قال: حدثنى حبيب أبو يحيى - وكان مولاه مع أبى موسى - قال: حاصر أبو موسى حصنًا بتستر - أو بالسوس - فقال صاحبهم: أتؤمن لى مائة من أصحابى وأفتح لك الحصن؟ قال: نعم. فجعل يعزلهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 336 ويعدهم، فقال أبو موسى: أرجو أن يمكن الله به وينسى نفسه بعد مائة. فعد مائة وعزلهم، ونسى نفسه فأخذه فقال: إنك قد أمنتني. قال: لا، وأما إذ أمكن الله منك من غير غدر. فضرب عنقه) . وذكر أبو عبيد عن الفزارى، عن حميد الطويل، عن حبيب أبى يحيى عن خالد بن زيد قال: (حاصرنا السوس، فلقينا جهدًا، وأمير الجيش أبو موسى، فصالحه دهقانها) وذكر الحديث. وذكر عن النخعى قال: ارتد الأشعث بن قيس فى زمن أبى بكر الصديق مع ناس، وتحصنوا فى قصر، وطلب الأمان بسبعين رجلا فأعطاهم، فنزل فعد سبعين ولم يدخل نفسه منهم، فقال له أبو بكر: إله لا أمان لك إنا قاتلوك، فأسلم وتزوج أخت أبى بكر الصديق. وقال أصبغ وسحنون: يدخل العلج الآخذ للأمان للعدد المصالح عليهم فى الأمان، وإن لم يعد نفسه، ولا يحتاج أن يعد نفسه فيهم، ولا يذكرها؛ لأنه لم يأخذ الأمان لغيره إلا وقد صح الأمان لنفسه، ولم يريا فعل أبى موسى حجة. قال سحنون: وبأقل من هذا صح الأمان للهرمزان من عند عمر بن الخطاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 3 - باب الْوَصَاةِ بِأَهْلِ ذِمَّةِ النَّبىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَالذِّمَّةُ: الْعَهْدُ، وَالإلُّ: الْقَرَابَةُ 968 / فيه: عُمَرَ، قُلْنَا: أَوْصِنَا، قَالَ: أُوصِيكُمْ بِذِمَّةِ اللَّهِ، فَإِنَّها ذِمَّةُ نَبِيِّكُمْ، وَرِزْقُ عِيَالِكُمْ. قال المهلب: فيه الحض على الوفاء بالذمة، وما عوقدوا عليه من قبض الأيدى عن أنفسهم وأموالهم غير الجزية، وقد ذم النبى (صلى الله عليه وسلم) من إذا عاهد غدر، وجعل ذلك من أخلاق النفاق. 4 - باب مَا أَقْطَعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْبَحْرَيْنِ وَمَا وَعَدَ مِنْ مَالِ الْبَحْرَيْنِ، وَالْجِزْيَةِ، وَلِمَنْ يُقْسَمُ الْفَىْءُ وَالْجِزْيَةُ؟ 969 / فيه: أَنَس، دَعَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بالأنْصَارَ؛ لِيَكْتُبَ لَهُمْ بِالْبَحْرَيْنِ، فَقَالُوا: لا، وَاللَّهِ حَتَّى تَكْتُبَ لإخْوَانِنَا مِنْ قُرَيْشٍ بِمِثْلِهَا، فَقَالَ: (ذَلِكَ لَهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ) ، يَقُولُونَ لَهُ. قَالَ: (فَإِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِى عَلَى الْحَوْضِ) . 1970 / وفيه: جَابِر، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ قَدْ جَاءَنَا مَالُ الْبَحْرَيْنِ، قَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا) ، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَجَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عِدَةٌ فَلْيَأْتِنِى، فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ كَانَ قَالَ لِى: (لَوْ قَدْ جَاءَنَا مَالُ الْبَحْرَيْنِ، لأعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا) ، فَقَالَ لَهُ: احْثُهُ، فَحَثَوْتُ حَثْيَةً، فَقَالَ لِى: عُدَّهَا، فَعَدَدْتُهَا، فَإِذَا فِيهَا خَمْسُمِائَةٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 338 71 / وفيه: أَنَسٍ، أن النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أتى بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَ: (انْثُرُوهُ فِى الْمَسْجِدِ) ، فَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِىَ بِهِ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذْ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِى فَإِنِّى فَادَيْتُ نَفْسِى وَفَادَيْتُ عَقِيلا، قَالَ: خُذْ، فَحَثَا فِى ثَوْبِهِ. . . . . وذكر الحديث. قال المهلب: إنما أراد (صلى الله عليه وسلم) أن تخص الأنصار بهذا الإقطاع؛ لما كانوا تفضلوا به على المهاجرين، من مشاركتهم فى أموالهم، فقالت الأنصار: لا والله حتى تكتبه لإخواننا من قريش تعنى المهاجرين بمثلها إمضاء لما وصفهم الله به من الأثرة على أنفسهم، وحسن التمادى على الكرم. وفيه: جواز التردد على الإنسان بالقول فيما يأباه المرة بعد المرة، وجواز التردد بالإبانة عن الشيء، لما يكون فى ذلك من الفخر والعز، كما أبت الأنصار أن تقبل مال البحرين دون المهاجرين، فكان فى ذلك فخرهم وعزهم. وفيه: لزوم الوعد للأمراء وأشراف الناس، وأنه مما يقضى عنهم على طريق الفضل لمشاكلة ذلك لأخلاقهم، وسيأتى ما يلزم من العدة وما لا يلزم منها فى كتاب الهبة، فى باب: (إذا وعد أو وهب ثم مات قبل أن يصل إليه) إن شاء الله. وفيه: تأدية الإمام ديون من كان قبله من الأئمة والخلفاء. وفيه: أن ما كان أصله على سبيل التفضل أن يكون جزافًا بغير وزن؛ بخلاف البيوع وما فيه معنى التشاح. وأما الفيء والجزية والخراج فحكم ذلك واحد، وما اجتبى من أموال أهل الذمة مما صولحوا عليه من جزية رءوسهم التى بها حقنت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 339 دماؤهم، وحرمت أموالهم، ومنها وضيعة أرض الصلح التى منعها أهلها حتى صولحوا منها على خراج مسمى، ومنها خراج الأرضين التى فتحت عنوة، ثم أقرها الإمام فى أيدى أهل الذمة التى يمرون بها لتجارتهم، ومنها ما يؤخذ من أهل الحرب إذا دخلوا بلاد الإسلام للتجارة، فكل هذا من الفيء، وهو الذى يعم المسلمين غنيهم وفقيرهم، فيكون فى أعطية المقاتلة وأرزاق الذرية، وما ينوب الإمام من أمور الناس بحسن النظر للإسلام وأهله قاله أبو عبيد. واختلف الصحابة فى قسم الفيء، فروى عن أبى بكر الصديق التسوية بين الحر والعبد، والشريف والوضيع، وروى عنه أنه كلم فى أن يفضل بين الناس، فقال: (فضيلتهم عند الله، فأما هذا المعاش فالتسوية فيه خير) . وهو مذهب على بن أبى طالب، وإليه ذهب الشافعي. وأما عمر فكان يفضل أهل السوابق ومن له من رسول الله قرابة فى العطاء، وفضل أزواج النبى فى العطاء على الناس أجمعين، ففرض لكل واحدة اثنى عشر ألفًا؛ ولم يلحق بهن أحدًا إلا العباس، فإنه جعله فى عشرة آلاف، وذهب عثمان فى ذلك إلى التفضيل، وبه قال مالك، فلما جاء على بن أبى طالب سوى بين الناس، وقال: (لم أعب تدوين عمر الدواوين ولا تفضيله، ولكن أفعل كما كان خليلى رسول الله يفعل) فكان يقسم ما جاءه بين المسلمين، ثم يأمر ببيت المال فينضح، ويصلى فيه. واما الكوفيون فالأمر عندهم فى ذلك إلى اجتهاد الإمام، إن رأى التفضيل فضل، وإن رأى التسوية سوى. وأحاديث هذا الباب تدل على التفضيل، وهو حجة لمن قال به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 340 5 باب: إِثْم مَنْ قَتَلَ مُعَاهِدًا بِغَيرِ جُرمٍ 972 / فيه: ابْن عَمْرٍو، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا، لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا) . هذا على طريق الوعيد، والله تعالى فيه بالخيار، وسيأتى الكلام فى هذا الحديث فى الديات والعقول إن شاء الله فقد كرر فيه هذه الترجمة. 6 - باب إِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَقَالَ عُمَرُ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) : (أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ بِهِ) . 1973 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَيْنَمَا نَحْنُ فِى الْمَسْجِدِ، خَرَجَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ) فَخَرَجْنَا حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ، فَقَالَ: (أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الأرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأرْضِ، فَمَنْ يَجِدْ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلا فَاعْلَمُوا أَنَّ الأرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) . 1974 / وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: يَوْمُ الْخَمِيْس اشْتَدَّ بِالنَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَجَعُهُ، فَقَالَ: (ائْتُونِى بِكَتِفٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا، فَتَنَازَعُوا وَلا يَنْبَغِى عِنْدَ نَبِىٍّ تَنَازُعٌ) ، فَقَالُوا: مَا لَهُ أَهَجَرَ اسْتَفْهِمُوهُ، فَقَالَ: (ذَرُونِى، لَلَّذِى أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ، فَأَمَرَهُمْ بِثَلاثٍ، فَقَالَ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ كَمَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ) ، وَالثَّالِثَةُ نسيها سليمان الأحوال. أما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أقركم ما أقركم الله) فمعناه: أنه كان يكره أن يكون بأرض العرب غير المسلمين؛ لأنه امتحن فى استقبال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 341 القبلة حتى نزل: (قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها (فامتحن مع بنى النضير حين أرادوا الغدر به، وأن يلقوا عليه حجرًا، فأمره الله تعالى باجتلائهم وإخراجهم، وترك سائر اليهود. وكان لا يتقدم فى شيء إلا بوحى الله وكان يرجو أن يحقق الله رغبته فى إبعاده اليهود عن جواره فقال ليهود خيبر: (أقركم ما أقركم الله) منتظر للقضاء فيهم، فلم يوح إليه فى ذلك بشيء إلى أن حضرته الوفاة، فأوحى إليه فيه فقال: (لا يبقين دينان بأرض العرب) فأوصى بذلك عند موته، فلما كان فى خلافة عمر وعدوا على ابنه وفدعوه، فحص عن قول النبى فيهم، فأخبر أن نبى الله أوصى عند موته بإخراجهم من جزيرة العرب. فقال: من كان عنده عهد من رسول الله فليأت به، وإلا فإنى مجليكم. فأجلاهم. قال المهلب: وإنما أمر بإخراجهم والله أعلم خوف التدليس منهم، وأنهم متى ناوؤا عدوًا قويا صاروا معه كما فعلوا بالنبى يوم الأحزاب. قال الطبرى: فيه من الفقه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) بين لأئمة المؤمنين إخراج كل من دان بغير دين الإسلام من كل بلدة للمسلمين سواء كانت تلك البلدة من البلاد التى أسلم عليها أهلها أو من بلاد العنوة إذا لم لم يكن بالمسلمين ضرورة إليهم ولم يكن الإسلام يومئذ ظهر فى غير جزيرة العرب ظهور قهر، فبان بذلك أن سبيل بلدة قهر فيها المسلمون أهل الكفر، ولم يكن تقدم قبل ذلك من إمام المسلمين لهم عقد صلح على إقرارهم فيها أن على الإمام إخراجهم منها، ومنعهم القرار بها، إلا أن يكون بالمسلمين إليهم ضرورة الإقرار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 342 مسافرًا ومقام ظعن وأكثر ذلك ثلاثة أيام ولياليها، كالذى فعل الأئمة الأبرار عمر وغيره، فإن ظن ظان أن فعل عمر فى ذلك إنما هو خاص بمدينة الرسول، وسائر جزيرة العرب؛ لأمره (صلى الله عليه وسلم) بإخراجهم منها دون سائر بلاد الإسلام وقال: (لو كان) حكم غير جزيرة العرب كحكمها فى التسوية بين جميعها فى إخراج أهل الكفر منها، لما كان عمر يقر النصارى فى سواد العراق وقد قهرهم الإسلام وعلاهم ولكان قد أجلى نصارى الشام ويهودها عنه، وقد غلب الإسلام على بلادهم، ولما ترك مجوس فارس فى أرضهم، وقد غلبهم الإسلام وأهله، فإن الأمر فى ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن عمر لم يقر أحدًا من أهل الشرك فى أرض قد قهر فيها الإسلام، وغلب ولم يتقدم قبل ذلك قهره إياهم منه لهم أو من المؤمنين عقد صلح على الترك فيها إلا لضرورة المسلمين إلى إقرارهم فيها، كإقراره نبط سواد العرق فى السواد بعد غلبة المسلمين عليه، وكإقراره من أقر من نصارى الشام فيها بعد غلبتهم على أرضها دون حصونها؛ فإنه أقرهم للضرورة إليهم فى عمارة الأرض؛ إذ كان المسلمون فى الحرب مشاغيل، ولو أجلوا عنها لخربت الأرض، وبقيت بغير عامر. فكان فعلهم فى ذلك نظير فعله (صلى الله عليه وسلم) وفعل الصديق فى يهود خيبر بعد قهر المسلمين لهم، عمالا عمارا؛ إذ كانت بالمسلمين ضرورة لعمارة أرضهم، لاشتغالهم بالحرب فى مناوأة الأعداء. ثم أمر رسول الله بإجلائهم عند استغنائهم عنهم، وقد كانوا سألوه عند قهرهم على الأرض إقرارهم فيها عمالا لأهلها فأجابهم إلى إقرارهم فها ما أقرهم الله، وإجلائهم منها إذا رأى ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 343 وأقرهم الصديق على نحو ذلك. فأما إقرارهم مع المسلمين فى مصر لم يكن تقدم فى ذلك قبل غلبة المسلمين عليه عقد صلح بينهم وبين المسلمين بما لا نعلمه صح به عنه، ولا عن غيره من أئمة الهدى خبر ولا قامت بجواز ذلك حجة، بل الحجة فى ذلك عن الأئمة ما قلناه. حدثنى محمد بن يزيد الرفاعى، حدثنا محمد بن عبد الرحمن، عن قيس بن أبى الربيع، عن أبان بن تغلب، عن رجل قال: (كان منادى على ينادى كل يوم: لا يبيتن بالكوفة يهودى ولا نصرانى ولا مجوسى، الحقوا بالحيرة) . وحدثنا الرفاعى، حدثنا ابن فضيل، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس قال: (لا يساكنكم أهل الكتاب فى أمصاركم) قال أبو هشام الرفاعى: سمعت يحى بن آدم يقول: هذا عندنا على كل مصر اختطه المسلمون ولم يكن لأهل الكتاب فنزل عليهم المسلمون. قال الطبرى: وهذا قول لا معنى له؛ لأن ابن عباس لم يخصص بقوله: لا يساكنكم أهل الكتاب مصرًا سكانه المسلمون دون غيرهم، بل عم بذلك جميع أمصارهم، وإن دلالة أمره (صلى الله عليه وسلم) بإخراج اليهود من جزيرة العرب يوضح صحة ما قال ابن عباس وأن الواجب على الإمام إخراجهم من كل مصر غلب عليه الأسلام إذا لم يكن بالمسلمين إليهم ضرورة، ولا كانت من بلاد الذمة التى صولحوا على الإقرار فيها إلحاقا لحكمة بحكم جزيرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 344 العرب، وذلك أن خيبر لم تكن من البلاد التى اختطها المسلمون وكذلك نجران بل كانت لأهل الكتاب وهم كانوا عمارهم وسكانها فأمر رسول الله بإخراجهم منها حين غلب عليهم الإسلام، ولم يكن بهم إليهم ضرورة. وقد حدثنا أبو كريب حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: قال رسول الله: (لا تصح قبلتان فى أرض) فإذا صح ما قلناه فالواجب على إمام المسلمين إذا أقر بعض أهل الكتاب فى بعض بلاد المسلمين لحاجتهم إليهم لعمارتها أو غير ذلك ألا يدعهم فى مصرهم معهم أكثر من ثلاث، وأن يسكنهم خارجًا من مصرهم كالذى فعل عمر وعلى، وأن يمنعهم اتخاذ الدور والمساكن فى أمصارهم، فإن اشترى منهم مشتر فى مصر من أمصار المسلمين دارًا، أو ابتنى به مسكنًا، فالواجب على إمام المسلمين أخذه ببيعها عليه، كما يجب عليه لو اشترى مملوكًا مسلمًا أن يأخذه ببيعه؛ لأنه ليس للمسلمين إقرار مسلم فى ملك كافر، فكذلك غير جائز إقرار أرض المسلمين فى غير ملكهم. قال غيره: وكذلك الحكم فى الرجل المسلم الفاسق، إذا شهد عليه أنه مؤذ لجيرانه بالسفه والتسليط، ويشكى به جيرانه، وصح ذلك عند الحاكم، أن له أن يخرجه من بين أظهرهم، وإن كان له دار أكراها عليه، فإن لم يجد لها مكر باعها عليه، ودفع الأذى عن جيرانه، ورأيت لابن القاسم أنه قال فى المؤذى: تكرى عليه الدار ولا تباع، وسيأتى هذا المعنى فى كتاب الأحكام إن شاء الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 345 وقال أبو عبيد: قال الأصمعى: جزيرة العرب ما بين أقصى عدن إلى ريف العراق فى الطول. وأما فى العرض من جدة، وما والاها من ساحل البحر إلى أطوار الشام. وقال إسماعيل بن إسحاق: عقبة تبوك هو الفرق بين جزيرة العرب وأرض الشام. وقال أبو عبيد: جزيرة العرب ما بين حفر أبى موسى إلى أقصى اليمن فى الطول. وأما فى العرض فما بين رمل يبرين إلى منقطع السماوة. قال الطبرى: وإنما قيل لها: جزيرة العرب، وهى جزيرة البحر؛ تعريفا لها، وفرقًا بينها وبين سائر الجزائر، كما قيل: لأجأ وسلمى وهما جبلان من نجد: جبلا طيء؛ تعريفًا لهما بطيء، وفرقًا بينهما وبين سائر جبال نجد، وإنما قيل لها جزيرة؛ لانقطاع ما كان فائضًا عليها من ماء البحر، وأصل الجزر فى كلام العرب القطع، ومنه سمى الجزار: جزارًا؛ لقطعه أعضاء البهيمة. قال المهلب: فى حديث ابن عباس أن جوائز الوفود سنة. 7 - باب: إِذَا غَدَرَ المشْرِكُون بِالْمُسْلِمِينَ هَلْ يُعْفَى عَنْهُم؟ 975 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (اجْمَعُوا إِلَىَّ مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ يَهُودَ) ، فَجُمِعُوا لَهُ، فَقَالَ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 346 (إِنِّى سَائِلُكُمْ عَنْ شَىْءٍ، فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِىَّ عَنْهُ) ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، قَالَ لَهُمُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَبُوكُمْ) ؟ قَالُوا: فُلانٌ، قَالَ: (كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلانٌ) ، قَالُوا: صَدَقْتَ، قَالَ: (فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِىَّ عَنْ شَىْءٍ إِنْ سَأَلْتُ عَنْهُ، فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَا عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِى أَبِينَا، فَقَالَ لَهُمْ: (مَنْ أَهْلُ النَّار؟) قَالُوْا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا، ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا، فَقَال (صلى الله عليه وسلم) : اخْسَئُوا فِيهَا وَاللَّهِ لاَ نَخْلُفُكُم فِيهَا أَبَدًا. ثُمَّ قَالَ: (هَلْ جَعَلْتُمْ فِى هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا) ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ) ؟ قَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا نَسْتَرِيحُ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ. قال المهلب: ويعفى عن المشركين إذا غدروا بشيء يستدرك إصلاحه وجبره ويعصم الله تعالى منه إذا رأى الإمام ذلك، وإن رأى عقوبتهم عاقبهم بما يؤدى إليه اجتهاده، وأما إذا غدروا بالقتل أو بما لا يستدرك جبره وما لا يعتصم من شره؛ فلا سبيل إلى العفو، كما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى العرنيين عاقبهم بالقتل، وإن كان (صلى الله عليه وسلم) ، قال لعائشة: (ما زالت أكلة خيبر تعادنى فهذا أوان قطع أبهري) لكنه عفا عنهم حين لم يعلم أنه يقضى عليه؛ لأن الله تعالى دفع عنه ضر السم بعد أن أطلعه على المكيدة فيه بآية معجزة أظهرها له من كلام الذراع، ثم عصمه الله من ضره مدة حياته، حتى إذا دنا أجله بغى عليه السم، فوجد ألمه وأراد الله له الشهادة بتلك الأكلة؛ فلذلك لم يعاقبهم، وأيضًا فإن اليهود قالوا: أردنا أن نختبر بذلك نبوتك وصدقك، فإن كنت نبيا لم يضرك. فقد يمكن أن يعذرهم بتأويلهم، وأيضًا فإنه كان لا ينتقم لنفسه تواضعًا لله، وكان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 347 لا يقتل أحدًا من المنافقين المناصبين له بالعداوة والغوائل، لأنه كان على خلق عظيم من الصفح، والإغضاء والصبر، وأصل هذا كله أن الإمام فيه بالخيار إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه وفيه من علامات النبوة. 8 - باب: دُعَاءِ الإِمَامِ عَلَى مَنْ نَكَثَ عَهْدًا 976 / فيه: أَنَس، سُئل عَنِ الْقُنُوتِ، قَبْلَ الرُّكُوعِ، فَقُلْتُ: إِنَّ فُلانًا يَزْعُمُ أَنَّكَ قُلْتَ: بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَقَالَ: كَذَبَ، ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ، يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِى سُلَيْمٍ، قَالَ: بَعَثَ أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ - شُكُّ فِيهِ - مِنَ الْقُرَّاءِ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَعَرَضَ لَهُمْ هَؤُلاءِ، فَقَتَلُوهُمْ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) عَهْدٌ، فَمَا رَأَيْتُهُ وَجَدَ عَلَى أَحَدٍ مَا وَجَدَ عَلَيْهِمْ. قال المؤلف: كان النبى لا يدعو بالشر على أحد من الكفار ما دام يرجو لهم الرجوع والإقلاع عما هم عليه. ألا ترى أنه سئل أن يدعو على دوس، فدعا لها بالهدى، وإنما دعا على بنى سليم حين نكثوا العهد وغدروا ويئس من إنابتهم ورجوعهم عن ضلالتهم؛ فأجاب الله دعوته، وأظهر بذلك صدقه وبرهانه، وهذه القصة أصل فى جواز الدعاء فى الصلاة والخطبة على عدو المسلمين أومن خالفهم ومن نكث عهدًا وشبهه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 348 9 - باب: أَمَانَ النِسَّاءِ وَجِوَارِهنَّ 977 / فيه: أَبُو مُرَّة، مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ، عن أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِى طَالِبٍ، قَالَتْ: ذَهَبْتُ إِلَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) عَامَ الْفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ، وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: (مَنْ هَذِهِ) ؟ فَقُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِى طَالِبٍ، فَقَالَ: (مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ) ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ، قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِىَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ ابْنُ أُمِّى عَلِىٌّ أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلا قَدْ أَجَرْتُهُ فُلانُ بْنُ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ) ، وَذَلِكَ ضُحًى. فيه من الفقه: جواز أمان المرأة، وأن من أمنته حرم قتله، وقد أجارت زينب بنت رسول الله أبا العاص بن الربيع، وعلى هذا جماعة الفقهاء بالحجاز والعراق منهم: مالك، والثورى، وأبو حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأبو ثور، وأحمد، وإسحاق، وشذ عبد الملك بن الماجشون وسحنون عن الجماعة فقالوا: أمان المرأة موقوف على جواز الإمام، فإن أجازه جاز وإن رده رد. واحتج من أجاز ذلك بأمان أم هانىء؛ لو كان جائزا على كل حال دون إذن الإمام، ما كان على يريد قتل من لا يجوز قتله لأمان من يجوز أمانه، ولقال لها رسول الله: قد أمنت أنت وغيرك، فلا يحل قتله، فلما قال لها (صلى الله عليه وسلم) : (قد أجرنا من أجرت) . كان ذلك دليلا على أن أمان المرأة موقوف على إجازة الإمام أو رده. واحتج الآخرون بأن عليا وغيره لا يعلم إلا ما علمه الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأن إرادته لقتل ابن هبيرة كان قبل أن يعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم) . ولما وجدنا هذا الحديث من رواية على بن أبى طالب، ثبت ما قلناه، وكان من المحال أن يعلم على هذا من النبى ويرويه عنه، ثم يريد قتل من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 349 أجارته أخته، وعلى هذا القول يكون تأويل قوله: (قد أجرنا من أجرت) ، أى: فى سنتنا وحكمنا إجارة من أجرت أنت ومثلك، والدليل على صحة هذا التأويل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم) . والمرأة من أدناهم، وقد ذكر إسماعيل بن إسحاق من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن الرسول خطب بها عام الفتح على درجات الكعبة، وقال: (يد المسلمين واحدة على من سواهم) . - باب: ذِمةُ المسْلِمِينَ وَجِوَارُهُم وَاحِدةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُم 978 / فيه: عَلِىّ، قَالَ: مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ إِلا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ: فِيهَا الْجِرَاحَاتُ. . . . . إلى قوله: وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. قال المهلب: معنى قوله: (ذمة المسلمين واحدة) أى: من انعقدت عليه ذمة من طائفة من المسلمين أن الواجب مراعاتها من جماعتهم إذا كان يجمعهم إمام واحد، فإن اختلفت الأئمة والسلاطين فالذمة لكل سلطان لازمة لأهل عمله، وغير لازمة للخارجين عن طاعته؛ لأن النبى إنما قال ذلك فى وقت إجماعهم فى طاعته، ويدل على ذلك حديث أبى بصير، حين كان شارط النبى (صلى الله عليه وسلم) أهل مكة وقاضاهم على المهادنة بينهم وبين المسلمين، فلما خرج أبو بصير من طاعة النبى وامتنع، لم تلزم النبى ذمته، ولا طولب برد جنايته، ولا لزمه غرم ما انتهكه من المال. وقال ابن المنذر فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (يسعى بها أدناهم) قال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 350 الذمة: الأمان، يقول: إن كل من أمن أحدًا من الحربيين جاز أمانه على جميع المسلمين دنيا كان أو شريفًا، حرا كان أو عبدًا، رجلا أو امرأة، وليس لهم أن يخفروه. واتفق مالك والثورى والأوزاعى والليث والشافعى وأبو ثور على جواز أمان العبد قاتل أو لم يقاتل، واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (يسعى بذمتهم أدناهم) . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يجوز أمان العبد إلا أن يقاتل. وقولهما خلاف مفهوم الحديث. وأجاز مالك أمان الصبى إذا عقل الإسلام، ومنع ذلك أبو حنيفة والشافعى وجمهور الفقهاء، واحتج الشافعى بأن الصبى لا يصح عقده؛ فكذلك أمانه، والحجة لمالك عموم قوه (صلى الله عليه وسلم) : (يجير على المسلمين أدناهم) فدخل فى ذلك الصبى وغيره، وأيضًا فإن أحكام الصبى تطوع، وهو ممن يصح منه التطوع، ويفرض له سهمه إذا قاتل، وإنما الأمان مما اختص به من له حرمة الإسلام، فجعل لأدناهم كما جعل لأعلاهم، وعلى أن الصبى والعبد أحسن حالا من المرأة، لأنها ليست من جيش من يقاتل. قال المهلب: وقوله (فمن اخفر مسلمًا) يعنى: فيمن أجاره فعليه لعنة الله والملائكة. وهذا اللعن وسائر لعن المسلمين إنما هو متوجه إلى الإغلاظ والترهيب لهم عن المعاصى، والإيعاد لهم من قبل مواقعتها، فإذا وقعوا فيها دعى لهم بالتوبة، يبين هذا حديث النعمان. وقوله: (لا يقبل منه صرف ولا عدل) يعنى: فى هذه الجناية أى لا كفارة لها؛ لأنه لم يشرع فيها كفارة فهى إلى أمر الله إن شاء عذب فيها وإن شاء غفرها على مذهب أهل السنة فى الوعيد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 351 - باب إِذَا قَالُوا صَبَأْنَا وَلَمْ يُحْسِنُوا أن يقولوا أَسْلَمْنَا وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ) . وَقَالَ عُمَرُ: إِذَا قَالَ: مَتْرَسْ، فَقَدْ آمَنَهُ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الألْسِنَةَ كُلَّهَا، أَوَ قَالَ: تَكَلَّمْ، لا بَأْسَ. قال المؤلف: غرض البخارى فى هذا الباب نحو ما تقدم فيمن تكلم بالفارسية والرطانة، وقوله تعالى: (واختلاف ألسنتكم وألوانكم (فذكر فيه عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه تكلم بألفاظ الفارسية، وكانت متعارفة عندهم، خاطب بها أصحابه، وفهموها عنه. فالمراد من هذين البابين أن العجم إذا قالوا: صبأنا، وأرادوا بذلك الإسلام فقد حقنوا دماءهم ووجب لهم الأمان؛ ألا ترى قول عمر: (إذا قال: مترس، فقد آمنه، إن الله يعلم الألسنة كلها) فسواء خاطبنا العجم بلغتهم، أو خاطبناهم بها على معنى الأمان؛ فقد لزم الأمان وحرم القتل. ولا خلاف بين العلماء أن من أمنَّ حربيا بأى كلام يفهم به الأمان، فقد تم له الأمان وأكثرهم يجعلون الإشارة بالأمان أمانًا، وهو قول مالك والشافعى وجماعة. قال المهلب: ولم يفهم خالد من قوله: (صبأنا) أنهم يريدون به أسلمنا، ولكن حمل اللفظة على ظاهرها، وتأولها أنها فى معنى الكفر؛ فلذلك قتلهم، ثم تبين أنهم أرادوا بها أسلمنا فجهلوا فقالوا: صبأنا. وإنما قالوا ذلك؛ لأن قريشًا كانت تقول لمن أسلم مع النبى: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 352 صبأ فلان حتى صارت هذه اللفظة معروفة عند الكفار وعادة جارية، فقالها هؤلاء القوم، فتأولها خالد على وجهها، فعذره النبى بتأويله، ولم يقد منه، وسيأتى اختلاف العلماء فى الحاكم إذا أخطأ فى اجتهاده فقتل من لم يجب عليه القتل، على من ضمان ذلك؟ فى كتاب الأحكام فى باب: إذا قضى القاضى بجور أو خلاف أهل العلم فهو مردود إن شاء الله. وأما قول عمر فذكره مالك فى الموطأ أن عمر بن الخطاب كتب إلى عامل جيش: (بلغنى أن رجالا منكم يطلبون العلج حتى إذا اشتد فى الجبل وامتنع قال رجل: مترس. يقول: لا تخف، فإذا أدركه قتله، والذى نفسى بيده، لا أعلم أحدًا فعل ذلك إلا ضربت عنقه) . قال مالك: وليس على هذا العمل. قال المؤلف: يعنى فى قتل المسلم بالكافر، وعليه العمل فى جواز التأمين. وأما قول عمر: أو قال: تكلم. لا بأس. فإنه يعنى قول عمر: للهرمزان تكلم. لا بأس فكان ذلك له عهدًا وتأمينًا. ذكر ابن أبى شيبة، حدثنا مروان بن معاوية، عن حميد، عن أنس قال: (حاصرنا تستر فنزل الهرمزان فلم يتكلم، فقال عمر: تكلم فقال: كلام حى أو كلام ميت؟ فقال عمر تكلم فلا بأس. قال: إنا وإياكم معشر العرب ما خلا الله بيننا كنا نقتلكم ونغصبكم، فأما إذا كن معكم فلم يكن لنا بكم يدان، فقال عمر: نقتله يا أنس؟ قلت: يا أمير المؤمنين، تركت خلفى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 353 شوكة شديدة وعدوًا كثيرًا، إن قتلته يئس القوم من الحياة، وكان أشد لشوكتهم، وإن استحييته طمع القوم. فقال: يا أنس، أستحيى قاتل البراء بن مالك ومجزأة بن ثور؟ فلما خشيت أن ينبسط عليه قلت له: ليس لك إلى قتله سبيل، فقال: أعطاك شيئًا؟ قلت: ما فعلت، ولكنك قلت له: تكلم فلا بأس، قال: لتجيئن بمن يشهد معك وإلا بدأت بعقوبتك؟ فخرجت من عنده، فإذا أنا بابن الزبير بن العوام قد حفظ ما حفظت، فشهد عنده فتركه، وأسلم الهرمزان وفرض له) . - باب الْمُوَادَعَةِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَالِ وَغَيْرِهِ وَفَضْلُ الوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَإِثْمِ مَنْ لَمْ يَفِ بِهِ 979 / فيه: سَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ، قَالَ: انْطَلَقَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ، إِلَى خَيْبَرَ، وَهِىَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ، فَتَفَرَّقَا، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إِلَى عَبْدِاللَّهِ بْنِ سَهْلٍ، وَهُوَ يَتَشَمَّطُ فِى دَمِهِ قَتِيلا، فَدَفَنَهُ، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ، إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَذَهَبَ عَبْدُالرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ: كَبِّرْ، كَبِّرْ، وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ، فَسَكَتَ، فَتَكَلَّمَا، فَقَالَ: (تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ، أَوْ صَاحِبَكُمْ) ، قَالُوا: وَكَيْفَ نَحْلِفُ، وَلَمْ نَشْهَدْ، وَلَمْ نَرَ، قَالَ: (فَتُبْرِيكُمْ يَهُودُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 354 بِخَمْسِينَ) ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَأْخُذُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ، فَعَقَلَهُ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مِنْ عِنْدِهِ. قال المهلب: لا بأس بالموادعة والمصالحة للمشركين بالمال إذا كان ذلك بمعنى الاستئلاف للكفار، لا إذا كانت الجزية لأنها ذلة وصغار، وقد قال تعالى: (ولا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون (وإنما وداه النبى من عنده استئلافًا لليهود وطمعًا منه فى دخولهم الإسلام، وليستكف بذلك شرهم عن نفسه، وعن المسلمين مع إشكال القضية بإبائة أولياء القتيل من اليمين وإبائتهم أيضًا من قبول أيمان اليهود، فكان الحكم أن يكون مطلولا، ولكن أراد (صلى الله عليه وسلم) أن يوادع اليهود بالغرم عنهم؛ لأن الدليل كان متوجهًا إلى اليهود فى القتل لعبد الله، وأراد أن يذهب ما بنفوس أوليائه من العداوة لليهود، بأن غرم لهم الدية؛ إذ كان فى العرب جاريًا أن من أخذ جية قتيله فقد انتصف. وذكر الوليد بن مسلم قال: سألت الأوزاعى عن موادعة إمام المسلمين أهل الحرب على فدية أو هدنة يؤديها المسلمون إليهم فقال: لا يصلح ذلك إلا عن ضرورة وشغل من المسلمين عن حربهم من قتال عدوهم، أو فتنة (سلمت) المسلمين، فإذا كان ذلك وذكرت ذلك لسعيد بن عبد العزيز فقال: قد صالحهم معاوية أيام صفين، وصالحهم عبد الملك بن مروان لشغله بقتال ابن الزبير، يؤدى عبد الملك إلى طاغية الروم فى كل يوم ألف دينار، وإلى تراجمة الروم وأنباط الشام فى كل جمعة ألف دينار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 355 وقال الشافعى: لا يعطيهم المسلمون شيئا بحال إلا أن يخافوا أن يصطلحوا لكثرة العدد لأنه من معانى الضرورات أو يؤسر مسلم فلا يخلى إلا بفديه فلا بأس به لأن رسول الله قد فدا رجلا برجلين. قال المؤلف: ولم أجد لمالك وأصحابه ولا للكوفيين نصًا فى هذه المسألة، وقال الأوزاعى: لا بأس أن يصالحهم الإمام على غير خراج يؤدونه إليه، ولا فدية إذا كان ذلك نظرًا للمسلمين وإبقاء عليهم، وقد صالح رسول الله قريشًا عام الحديبية على غير خراج أدته قريش إلى رسول الله ولا فدية. - باب: فَضْلُ الوَفَاءِ بِالْعَهْدِ 980 / فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ، أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِى رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ فِى الْمُدَّةِ الَّتِى مَادَّ فِيهَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَبَا سُفْيَانَ فِى كُفَّارِ قُرَيْشٍ. قال المؤلف: قد جاء فضل الوفاء بالعهد وذم الختر فى غير موضع فى الكتاب والسنة، وإنما أشار البخارى فى هذا الحديث إلى سؤال هرقل لأبى سفيان: هل يغدر؟ إذ كان الغدر عند كل أمة مذمومًا قبيحًا، وليس هو من صفات رسل الله، فأراد أن يمتحن بذلك صدق النبى؛ لأن من غدر ولم يف بعهد لا يجوز أن يكون نبيًا؛ لأن الأنبياء والرسل عليهم السلام أخبرت عن الله بفضل من وفى بعهد وذم من غدر وختر ألا ترى قةله (صلى الله عليه وسلم) فى صفة المنافق: (إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر) وقال (صلى الله عليه وسلم) : (يرفع للغادر لواء يوم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 356 القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان) وهذه مبالغة فى العقوبة وشدة الشهرة والفضيحة. - باب مَا يُحْذَرُ مِنَ الْغَدْرِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ (الآية [الأنفال: 62] 981 / فيه: عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ، أَتَيْتُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهُوَ فِى قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَقَالَ: (اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ مَوْتِى، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ مُوْتَانٌ، تَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ، حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ، فَيَظَلُّ سَاخِطًا، ثُمَّ فِتْنَةٌ لا يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلا دَخَلَتْهُ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِى الأصْفَرِ، فَيَغْدِرُونَ، فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا) . قال المهلب: فى هذا الحديث علامات النبوة، وأن الغدر من أشراط الساعة، وفى الآية دليل أن الرسول معصوم من مكر الخديعة طول أيامه، وليس ذلك لغيره (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن الله قال: (والله يعصمك من الناس (وأجمع المسلمون أنه معصوم فى الرسالة، وقد عصم من مكر الناس وغدرهم له. وقوله: (كقعاص الغنم) قال صاحب العين: (القعاص) : هو داء يأخذ الدواب، فيسيل من أنوفها شيء، وقد قعصت الدابة. والغاية هاهنا: الراية؛ لأنها غاية المتبع، إذا وقفت وقف، وإذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 357 مشت تبعها. وهذه العلامات التى أنذر (صلى الله عليه وسلم) بها قد ظهر كثير منها، والفتنة لم تزل من زمن عثمان عصمنا الله من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن وقد دعا (صلى الله عليه وسلم) ألا يجعل بأس أمته بينهم فمنعها. فلم يزل الهرج إلى يوم القيامة. - باب هَلْ يُعْفَى عَنِ الذِّمِّىِّ إِذَا سَحَرَ وَسُئِلَ ابْن شِهَابٍ أَعَلَى مَنْ سَحَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ قَتْلٌ؟ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَدْ صُنِعَ لَهُ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقْتُلْ مَنْ صَنَعَهُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. 1982 / فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، سُحِرَ حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ صَنَعَ الْشَىْءِ وَلَمْ يَصْنَعْهُ. قال المؤلف: لا يقتل ساحر أهل الكتاب عند مالك؛ لقول ابن شهاب، ولكن يعاقب إلا أن يقتل بسحره؛ فيقتل، أو يحدث حدثًا؛ فيأخذ منه بقدر ذلك، وهو قول أبى حنيفة والشافعي. وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك أيضًا أنه لا يقتل ساحر أهل العهد إلا أن يدخل بسحره ضررًا على مسلم لم يعاهد عليه، فإذا فعلوا ذلك، فقد نقضوا العهد؛ يحل بذلك قتلهم. وعلى هذا القول لا حجة لابن شهاب فى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يقتل الهيودى الذ سحره؛ لوجوه، منها أنه قد ثبت عن الرسول أنه كان لا ينتقم لنفسه، ولو عاقبه لكان حاكمًا لنفسه. قال المهلب: وأيضًا فإن ذلك السحر لم يضره (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه لم يفقده شيئًا من الوحى، ولا دخلت عليه داخلة فى الشريعة، وإنما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 358 اعتراه شيء من التخيل والتوهم، ثم لم يتركه الله على ذلك، بل تداركه ثم عصمه وأعلمه بموضع السحر، وأمره باستخراجه وحله عنه، فعصمه الله من الناس ومن شرهم، كما وعده، وكما دفع عنه أيضًا ضر السم بعد أن أطلعه الله على المكيدة فيه، بأنه أظهرها إليه معجزة من كلام الذراع. وقد اعترض بعض الملحدين بحديث عائشة، وقالوا: وكيف يجوز السحر على النبى، والسحر كفر وعمل من أعمال الشياطين، فكيف يصل ضره إلى النبى مع حياطة الله له وتسديده إياه بملائكته، وصون الوحى من الشياطين؟ وهذا اعتراض يدل على جهل وغباوة من قائله وعناد للقرآن؛ لأن الله قال لرسوله: (قل أعوذ برب الفلق (إلى قوله: (ومن شر النفاثات فى العقد (والنفاثات: السواحر ينفثن فى العقد كما ينفث الراقى فى الرقية، فإن كانوا أنكروا ذلك؛ لأن الله لا يجعل للشياطين سبيلا على النبى، فقد قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته (يريد إذا تلا ألقى الشيطان. وقد روى عن النبى - (صلى الله عليه وسلم) أن عفريتًا تغلب عليه ليلة ليقطع عليه الصلاة حتى هم أن يربطه إلى سارية من سوارى المسجد فذكر قول سليمان: (رب اغفر لى وهب لى ملكًا لا ينبغى لأحد من بعدى (فرده خاسئًا. وليس فى جواز ذلك على النبى ما يدل أن ذلك يلزمه أبدًا، أو يدخل معه عليه داخلة فى شيء من حاله أو شريعته، وإنما ناله من ضر السحر ما ينال المريض من ضر الحمى والبرسام من غير سحر، من الضعف عن الكلام، وسوء التخيل، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 359 ثم زال ذلك عنه، وأفاق منه، وأبطل الله كيد السحرة، وقد أجمع المسلمون أنه معصوم فى الرسالة فسقط اعتراض الملحدة. - باب كَيْفَ يُنْبَذُ إِلَى أَهْلِ الْعَهْدِ وَقَوْل اللَّهِ: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً (الآيَةَ [الأنفال: 58] 983 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَعَثَنِى أَبُو بَكْرٍ فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى: أَلاَ لا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَيَوْمُ الْحَجِّ الأكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا قِيلَ: (الأكْبَرُ) مِنْ أَجْلِ قَوْلِ النَّاسِ (الْحَجُّ الأصْغَرُ) ، فَنَبَذَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّاسِ فِى ذَلِكَ الْعَامِ، فَلَمْ يَحُجَّ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّذِى حَجَّ فِيهِ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مُشْرِكٌ. أجمع العلماء أن للإمام أن يبدأ من يخاف خيانته وغدره بالحرب بعد أن يعلمه ذلك، وقيل: إن هذه الآية نزلت فى قريظة؛ لأنهم ظاهروا المشركين على حرب رسول الله ونقضوا العهد. وقال الكسائى وغيره فى قوله: (على سواء (السواء: العدل، وروى عن ابن عباس قال السواء: المثل، وقيل: انبده إليهم على سواء. أى: أعلمهم أنك حاربتهم حتى يصيروا مثلك فى العلم. قال المهلب: وإنما خشى الرسول من المشركين عند الطواف بالبيت خيانتهم ولم يأمن من مكرهم، فأراد تعالى أن يطهر البيت من نجاستهم بقوله: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا (وأراد تنظيف البيت ممن كان يطوف عريانًا، وفى هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 360 دليل أن حجة أبى بكر بالناس كانت حجة الإسلام؛ لأنه وقفه بعرفة ووقف فى ذى الحجة، والوقوف بعرفة بنص كتاب الله) ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس (يعنى: طواف العرب، وقد اتفق أهل السير أن العرب كانت تفترق فرقتين، فرقة تقف بعرفة، وكانت قريش تقف بالمشعر الحرام، وتقول نحن الحمس، ولا تعظم غير الحرم، فإذا كان يوم النحر اجتمعت القبائل كلها بمنى، وهو يوم الاجتماع الأكبر. وقول أبى هريرة: (يوم الحج الأكبر: يوم النحر؛ من أجل قول الناس: الأصغر) يريد العمرة أنها الحج الأصغر. ومذهب مالك وجماعة من الفقهاء أن يوم الحج الأكبر: يوم النحر وقال قوم: هو يوم عرفة. والحجة للقول الأول ما نصه أبو هريرة، ونادى به فى الموسم عن أبى بكر الصديق عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يوم الحج الأكبر: يوم النحر. وأما جهة النظر: يوم النحر يعظمه أهل الحج وسائر المسلمين بالتكبير، وفيه صلاة العيد والنحر، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أى يوم هذا؟) فجعل له حرمة على سائر الأيام كحرمة الشهر على سائر الشهور والبلد على سائر البلاد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 361 - باب : إِثمِ مَنْ عَاهَدَ ثُمَّ غَدَرَ 984 / فيه: ابْن عَمْرٍو قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَرْبَعُ خِلالٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ، كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا: مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ. . . . . .) الحديث. 1985 / وفيه: عَلِىّ، مَا كَتَبْنَا عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) إِلا الْقُرْآنَ، وَمَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الْمَدِينَةُ حَرَامٌ. . . . .) إلى قوله: (فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. . . . .) الحديث. 1986 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَمْ تَجْتَبُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ تَرَى ذَلِكَ كَائِنًا؟ قَالَ: إِى وَالَّذِى نَفْسُ أَبِى هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ، عَنْ قَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، قَالُوا: عَمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: تُنْتَهَكُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) فَيَشُدُّ اللَّهُ قُلُوبَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَيَمْنَعُونَ مَا فِى أَيْدِيهِمْ. قد تقدم معنى حديث ابن عمرو فى كتاب الإيمان. قال المهلب: ويحتمل أن تكون هذه الأربعة الخلال فى رجل اشتملت على معالم أحواله فسمى بالأغلب مما يظهر منه توبيحًا له، وتقبيحًا لحالة، لا على أنه منافق كافر، وفى السنة نظائر لهذا كثيرة من الحكم بالأغلب، والغدر حرام بالمؤمنين وبأهل الذمة، وفاعله مستحق لاسم النفاق وللعنة الله والملائكة والناس أجمعين، على ما رواه علي. ودل حديث أبى هريرة على أن الغدر لأهل الذمة لا يجوز أيضًا، ألا ترى ما أوصى به النبى من الذمة والوفاء بها لأهلها من أجل إنماء معاش المسلمين، ورزق عيالهم، فأعلمهم بهذا الحديث أنهم متى ظلموا منعوا ما فى أيديهم، واشتدوا وحاربوا وأعادوا الفتنة، وخلعوا ربقة الذمة، فلم يجتب المسلمون درهمًا، فضاقت أحوالهم وساءت. وفيه من علامات النبوة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 362 - باب 987 / فيه: الأعْمَشَ، سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ، شَهِدْتَ صِفِّينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، يَقُولُ: اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ، رَأَيْتُنِى يَوْمَ أَبِى جَنْدَلٍ، وَلَوْ أنى أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لَرَدَدْتُهُ، وَمَا وَضَعْنَا أَسْيَافَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا لأمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلا أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ غَيْرِ أَمْرِنَا هَذَا. 1988 / وفيه: أَبُو وَائِلٍ، كُنَّا بِصِفِّينَ، فَقَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ، فَإِنَّا كُنَّا مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَوْ نَرَى قِتَالا لَقَاتَلْنَا، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: (نعم) ، قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلانَا فِى الْجَنَّةِ، وَقَتْلاهُمْ فِى النَّارِ؟ قَالَ: (بَلَى) ، قَالَ: فَعَلامَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا، أَنَرْجِعُ ولَمْ يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: (يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِى اللَّهُ أَبَدًا) ، فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِى بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَوْل النَّبىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: (نَعَمْ) . 1989 / وفيه: أَسْمَاءَ، قَدِمَتْ عَلَىَّ أُمِّى، وَهِىَ مُشْرِكَةٌ فِى عَهْدِ قُرَيْشٍ، إِذْ عَاهَدُوا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَمُدَّتِهِمْ مَعَ أَبِيهَا، فَاسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّى قَدِمَتْ عَلَىَّ وَهِىَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، صِلِيهَا) . قال المهلب: قوله: (اتهموا رأيكم) يعنى: فى هذا القتال، يعظ الفريقين؛ لأن كل فريق منهم يقاتل على رأى يراه، واجتهاد يجتهده، فقال لهم سهل: اتهموا رأيكم فإنما تقاتلون فى الإسلام إخوانكم براى رأيتموه، فلو كان الرأى يقضى به لقضيت يوم أبى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 363 جندل برد أمر النبى يوم الحديبية، حين قاضى أهل مكة أن يرد إليهم من فر إلى النبى من المسلمين، فحرج أبو جندل يستغيب يجر قيوده، وكان قد عذب على الإسلام. فقال سهيل، والد أبى جندل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه. فرد إليه أبا جندل، وهو ينادى: أتردوننى إلى المشركين وأنا مسلم، وترون ما لقيت من العذاب فى الله؟ وقام سهيل إلى ابنه بحجر فكسر فمه، ففارت نفوس المسلمين حينئذ، وقال عمر: لسنا على الحق؟ ولذلك قال سهل ولو أستطيع أن أرد أمر النبى لرددته. وقوله: (فما وضعنا سيوفنا) يعنى: ما جردناها فى الله لأمر فظيع علينا عظيم إلا أسهلت بنا سيوفنا، أقضته بنا إلى أسهل من أمرنا، غير هذا الأمر، يعنى: أمر الفتن التى وقعت بين المسلمين فى صدر الإسلام؛ فإنها [. . . . .] لم تتبين السيوف فيها الحقيقة بل حلت المصيبة بقتل المسلمين، فنزع السيف أول من سله فى الفتنة. وغرض البخارى فى هذا الباب: أن يعرفك أن الصبر على المفاتن، والصلة للمقاطع أقطع للفتنة وأحمد عاقبة، فكأنه قال: باب الصبر على أذى المفاتنين وعاقبة الصابرين. ألا ترى أن النبى أحذ يوم الحدبيية فى قتال المشركين بالصبر لهم، والوقوع تحت الدنية التى ظنها عمر فى الدين؟ وكان ذلك الصبر واللين الذى فهمه رسول الله عن ربه فى بروك الناقة عن توجيهها إلى مكة أفضل عاقبة فى الدنيا والآخرة من القتال لهم، وفتح مكة على ذلك الحنق الذى قال المسلمين من تحكمهم على النبى، فكان عاقبة صبر النبى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 364 ولينه لهم أن أدخلهم الله الإسلام، وأوجب لهم أجرهم فى الآخرة. ألا ترى قوله: (لأن يهدى الله بك رجلا واحدًا خير لك من حمر النعم) فكيف بأهل مكة أجمعين، وهم الذين كانوا أئمة العرب وسادة الناس، وبدخولهم دخلت العرب فى دين الله أفواجًا. وفيه من الفقة: أن صلة المقاطع أنجع فى سياسة النفوس، وأحمد عاقبة، وعلى مثل هذا المعنى دل حديث أسماء فى صلة أمها وهى مشركة. قال الطبرى: وفى حديث سهل بن حنيف الدلالة البينة أن رسول الله كان يدير كثيرًا من حروبه بحسب ما يحضره من الرأى مما الأغلب عنده أنه الصواب، وإن كان الله تعالى قد كان عهد إليه فى جواز الصلح فى مثل الحال التى صالحهم عليها عهدًا، فمن ذلك الرأى كان، لولا ذلك كان عمر وسهل بن حنيف ومن كان ينكر الصلح ويرى قتال القوم أصلح فى التدبير والرأى لينكروا ذلك، ويؤثروا آراءهم بالقتال على تركة لو كان عندهم آية من أمر الله تعالى نبيه، ولكنه كان عندهم أنه رأى من النبى وإبقاء على من معه من الصحابة؛ لقلة عددهم، وكثرة عدد المشركين، وكان عمر والذين يرون قتال القوم لحسن تصابرهم وجميل نياتهم فى الإسلام إذ كانوا أهل الحق، والمشركون أهل الباطل يرون أن الحق لن يعلوه باطل، لا سيما عدد: الله وليهم ورسوله، فأيدهم، فعظم بذلك عليهم الانحطاط فى الصلح، ورأوه وهنا فى الدين، وكان رسول الله أعلم بما يؤدى إليه عاقبة ذلك الصلح منهم مما هو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 365 أجدى على الإسلام وأهله نفعًا، وأن الله أوحى إليه الأمر بترك قتال القوم؛ لأن ذلك أسد فى الرأي. وفيه الدلالة الواضحة على أن لأهل العلم الاجتهاد فى النوازل فى دينهم فيما لا نص فيه من كتاب الله ولا سنة. وذلك أن الذين أنكروا الصلح يوم أبى جندل أنكروه اجتهادًا منهم، ورسوله الله بحضرتهم يعلم ذلك من أمرهم، فلم ينههم عن القول بما أدى إليه اجتهادهم، وإن كان قد عرفهم خطأ رأيهم فى ذلك، وصواب رأيه، ولو كان الاجتهاد خطأ لكان حريا عليه (صلى الله عليه وسلم) أن يتقدم إليهم بالنهى عن القول بما أداهم إليه اجتهادهم أشد النهي. وفيه أيضًا: أن المجتهد عند نفسه مما يدرك بالاستنباط لا تبعة عليه فيما بينه وبين الله خطأ، إن كان منه فى اجتهاده، إذا كان اجتهاده على أصل، وكان من أهله؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يؤثم عمر ومن أنكر الصلح، والمعانى التى جرت بينهم فى كتاب الصلح مما كان خلافًا لرأى رسول الله، ولو كانوا فى ذلك مذنبين لأمرهم النبى بالتوبة، ولكنهم كانوا على اجتهادهم مأجورين، وإن كان الصواب فيما رأى رسول الله، وذلك نظير قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر) وستأتى زيادة فى هذا المعنى فى كتاب: الاعتصام إن شاء الله. وقال أبو الحسن بن القابسى: وقول عمر: أليس قتلادهم فى النار؟ فعلام نعطى الدنية فى ديننا؟ هذه المراجعة هى التى قال فيها عمر فى حديث مالك: نزرت رسول الله كل ذلك لا يجيبك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 366 - باب: المُصَالَحَةَ عَلَى ثَلاَثَةَ أَيَامٍ أَوْ وَقْتٍ مَعْلُومٍ 990 / فيه: الْبَرَاء، أَنَّ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يَسْتَأْذِنُهُمْ؛ لِيَدْخُلَ مَكَّةَ، فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ لا يُقِيمَ فِبهَا إِلا ثَلاثَ لَيَالٍ، وَلا يَدْخُلَهَا إِلا بِجُلُبَّانِ السِّلاحِ، وَلا يَدْعُوَ مِنْهُمْ أَحَدًا. فَلَمَّا مَضَتِ الأيَّامُ، أَتَوْا عَلِيًّا، فَقَالُوا: مُرْ صَاحِبَكَ، فَلْيَرْتَحِلْ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عَلِىٌّ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (نَعَمْ) ، ثُمَّ ارْتَحَلَ. ليس فى أمر المهادنة حد عند أهل العلم لا يجوز غيره، وإنما ذلك على حسب الحاجة، والاجتهاد فى ذلك إلى الإمام وأهل الرأي. وقال المهلب: إنما قاضاهم على ثلاثة أيام؛ لأنها ليست بعام وهى داخلة فى حكم السفر، والصلاة تقصر فيها. وفيه: الوفاء بالشرط، والمطالبة بما وقعت عليه العقود، وسيأتى هذا الحديث فى كتاب الصلح إن شاء الله. - باب: طَرْح جَيفِ المْشرِكِينَ فِى الْبِئرِ وَلاَ يُؤْخَذُ لَهَا ثَمنٌ 991 / فيه: ابْن مسعود: بَيْنَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) سَاجِدٌ وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؛ إِذْ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِى مُعَيْطٍ بِسَلَى جَزُورٍ فَقَذَفَهُ عَلَى ظَهْرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ، حَتَّى جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَخَذَته مِنْ ظَهْرِهِ، وَدَعَتْ عَلَى مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ عَلَيْكَ الْمَلأ مِنْ قُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ أَبَا جَهْلِ، وَعُتْبَةَ، وَشَيْبَةَ، وَعُقْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، أَوْ أُبَىَّ بْنَ خَلَفٍ) . فَلَقَدْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 367 رَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، فَأُلْقُوا فِى بِئْرٍ غَيْرَ أُمَيَّةَ - أَوْ أُبَىٍّ - فَإِنَّهُ كَانَ [رَجُلا] ضَخْمًا، فَلَمَّا جَرُّوهُ تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ، قَبْلَ أَنْ يُلْقَى فِى الْبِئْرِ. قال المؤلف: فى طرح جيف المشركين فى البئر دليل على جواز المثلة بهم إذا ماتوا؛ لأنهم جروه حتى تقطعت أوصاله، وهذا يدل أن نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن المثلة إنما هو فى الأحياء، والبئر التى ألقوا فيها يحتمل أن تكون للمشركين، فأراد (صلى الله عليه وسلم) إفسادها عليهم أو لا يكون لأحد عليها ملك، وكانت معطلة. وقوله: (ولا يؤخذ لها ثمن) أى: لا يجوز أخذ الفداء من المشركين إذ كان أصحاب القليب رؤساء مشركى مكة، ولو مكن أهلهم من إخراجهم من البئر، ودفنهم لبذلوا فى ذلك كثير المال، وإنما لم يجز أخذ الثمن فيها؛ لأنها ميتة لا يجوز تملكها، ولا أخذ عوض عنها، وقد حرم رسول الله ثمن الميتة والأصنام فى حديث جابر، وروى فى ذلك أثر عن النبى أخرجه أبو عيسى الترمذى قال: حدثنا محمود بن غيلان قال: حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان، عن ابن أبى ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس (أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين فأبى (صلى الله عليه وسلم) أن يبيعهم إياه) . قال أبو عيسى: وقد رواه أيضًا الحجاج بن أرطأة عن الحكم. وقال أحمد بن حنبل: لا يحتج بحديث ابن أبى ليلى. قال البخارى: هو صدوق، ولكن لا يعرف صحيح حديثه من سقيمه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 368 قال الترمذى: إنما يهم فى الإسناد. وقال الثورى: فقهاؤنا ابن أبى ليلى وابن شبرمة. وذكر ابن إسحاق فى السير قال: لما كان يوم الخندق اقتحمه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومى، فتورط فيه فقتل، فغلب المسلمون على جسده، فسألوا رسول الله أن يبيعهم جسده، فقال رسول الله: لا حاجة لنا بجسده، ولا ثمنه. فخلى بينهم وبينه. قال ابن هشام: أعطوا رسول الله فى جسده عشرة آلاف درهم فيما بلغنا عن الزهري. قال المهلب: وفيه من الفقه: جواز ستر عورات المشركين، وطرحهم فى الآبار المعطلة، وهو من باب ستر الأذى، ومواراة السوءة والعورة الظاهرة. وقال الطبرى: فيه من الفقه: أن من الحق مواراة جيفة كل ميت من بنى آدم عن أعين الناس ما وجد السبيل إلى ذلك، مؤمنًا كان الميت أو كافرًا؛ لأمره (صلى الله عليه وسلم) أن يجعلوا بقليب بدر ولم يتركهم مطرحين بالعراء، فالحق الاستنان به (صلى الله عليه وسلم) فيمن أصابه فى معركة الحرب أو غيرها من المشركين، فيوارون جيفته إن لم يكن لهم مانع من ذلك، ولا شيء يعجلهم عنه من خوف كرة عدو. وإذا كان ذلك من سنته (صلى الله عليه وسلم) فى مشركى أهل الحرب، فالمشركون من أهل العهد والذمة إذا مات منهم ميت بحيث لا أحد من أوليائه، وأهل ملته بحضرته، وحضره أهل الإسلام أولى أن تكون السنة فيهم، لسنته فى أهل بدر، وأن يواروا جيفته ويدفنوه، وقد أمر (صلى الله عليه وسلم) عليا فى أبيه أبى طالب إذ مات قال: (اذهب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 369 ره) فإن يفعلوا ذلك لشاغل أو مانع من ذلك، لم أرهم حرجين بتركهم ذلك؛ لأن أكثر مغازى رسول الله التى كان فيها القتال لم يذكر عنه فى ذلك ما ذكر عنه يوم بدر. - باب: إِثْمِ الْغَادِرِ للْبَرِّ وَالْفَاجِرِ 992 / فيه: أَنَسٍ قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - قَالَ أَحَدُهُمَا: يُنْصَبُ، وَقَالَ الآخَرُ: يُرَى - يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُعْرَفُ بِهِ) . 1993 / وفيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُنْصَبُ بِغَدْرَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . 1994 / وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: (إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ، يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأحَدٍ قَبْلِى، وَلَمْ يَحِلَّ لِى إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ، [بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ] ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلا يُخْتَلَى خَلاها. . .) . قال المهلب: أخبر (صلى الله عليه وسلم) أن عقوبة الغادر يوم القيامة أن يرفع له لواء ليعرف الناس بغدرته، فينظرون منه بعين المعصية، وهذه عقوبة من نوع ما قال الله فى عقوبة الكاذبين على الله: (ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم (وإنما قال البخارى: باب (إثم الغادر للبر والفاجر) لعموم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لكل غادر لواء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 370 يوم القيامة) فدخل فيه من غدر من بر أو فاجر، دل أن الغدر حرام لجميع الناس برهم وفاجرهم؛ لأن الغدر ظلم، وظلم الفاجر حرام كظلم البر التقي. فإن قال قائل: فما وجه موافقة حديث ابن عباس للترجمة؟ قيل: وجه ذلك والله أعلم أن محارم الله عهود إلى عباده، فمن انتهك منها شيئًا لم يف بما عاهد الله عليه، ومن لم يف فهو من الغادرين، وأيضًا فإن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما فتح مكة من على أهلها كلهم مؤمنهم ومنافقهم، ومعلوم أنه كان فيهم منافقون، ثم أخبر (صلى الله عليه وسلم) أن مكة حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وأنه لا يحل قتال أحد فيها، وإذا كان هذا فلا يجوز الغدر ببر منهم ولا فاجر؛ إذ شمل جميعهم أمان النبى وعفوه عنهم، والله الموفق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 371 - كتاب العقيقة - بَاب تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ غَدَاةَ يُولَدُ لِمَنْ لَمْ يَعُقَّ عَنْهُ وَتَحْنِيكِهِ 995 / فيه: أَبُو مُوسَى، وُلِدَ لِى غُلامٌ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ، وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ، وَدَفَعَهُ إِلَىَّ؛ وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ أَبِى مُوسَى. 1996 / وفيه: عَائِشَةَ، أن النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) أُتِىَ بِصَبِىٍّ يُحَنِّكُهُ، فَبَالَ عَلَيْهِ، فَأَتْبَعَهُ الْمَاءَ. 1997 / وفيه: أَسْمَاءَ، أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، قَالَتْ: فَخَرَجْتُ وَأَنَا مُتِمٌّ، فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلْتُ بقُبَاءً، فَوَلَدْتُ بِقُبَاءٍ، ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَوَضَعْتُهُ فِى حَجْرِهِ، ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ، فَمَضَغَهَا، ثُمَّ تَفَلَ فِى فِيهِ، فَكَانَ أَوَّلَ شَىْءٍ دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ حَنَّكَهُ بِتَّمْرَةِ، ثُمَّ دَعَا لَهُ فَبَرَّكَ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِى الإسْلام، فَفَرِحُوا بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا؛ لأنَّهُمْ قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ الْيَهُودَ قَدْ سَحَرَتْكُمْ فَلا يُولَدُ لَكُمْ. 1998 / وفيه: أَنَس، كَانَ ابْنٌ لأبِى طَلْحَةَ يَشْتَكِى، فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ، فَقُبِضَ الصَّبِىُّ، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ، قَالَ: مَا فَعَلَ ابْنِى؟ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: هُوَ أَسْكَنُ مَا كَانَ، فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ الْعَشَاءَ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَتْ: وَارُوا الصَّبِىَّ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ، أَتَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: (أَعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ) ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا) ، فَوَلَدَتْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 372 غُلامًا، قَالَ لِى أَبُو طَلْحَةَ: احْفَظْهُ حَتَّى تَأْتِىَ بِهِ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَتَى بِهِ النَّبِىَّ وَأَرْسَلَتْ مَعَهُ بِتَمَرَاتٍ، فَأَخَذَهَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَمَضَغَهَا، ثُمَّ أَخَذَ مِنْ فِيهِ، فَجَعَلَهَا فِى فِى الصَّبِىِّ وَحَنَّكَهُ بِهَا، وَسَمَّاهُ عَبْدَاللَّهِ. قال المهلب: تسمية المولود حين يولد، وبعد ذلك بليلة وليلتين وما شاء إذا لم ينو الأب العقيقة عنه يوم سابعه جائز، فإن أراد أن ينسك عنه فالسنة أن يؤخر تسميته إلى يوم النسك وهو السابع، لما روى الحسن، عن سمرة، عن الرسول أنه قال: (الغلام مرتهن بعقيقته يذبح عنه يوم السابع، ويحلق رأسه ويسمى) قال: ويحنكه بالتمر (تقال) له بالإيمان؛ لأنها ثمرة الشجرة التى شبهها الله تعالى بالمؤمن وبحلاوتها أيضًا. وفيه: أنه حسن أن يقصد بالمولود من أهل الفضل والعلماء والأثمة الصالحين ويحنكونهم بالتمر وشبهه، ويتبرك بتسميتهم إياهم، غير أنه ليس ريق أحد فى البركة كريق النبي. فمن وصل إلى جوفه من ريقه (صلى الله عليه وسلم) فقد أسعده الله وبارك فيه؛ ألا ترى بركة عبد الله بن الزبير وما حازه من الفضائل؛ فإنه كان قارئًا للقرآن عفيفًا فى الإسلام، وكذلك كان عبد الله بن أبى طلحة من أهل الفضل والتقدم فى الخير ببركة تحنيك النبى (صلى الله عليه وسلم) له، وقد تقدم فى كتاب الجنائز الكلام فى حديث أسماء فى باب (من لم يظهر حزنه عند المصيبة) فأغنى عن إعادته. وأما خوفهم أن اليهود سحرتهم فإن ذلك لصحة السحر عندهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 373 وخشية أن يفعل ذلك من لا يتقى الله من الكفار، كما سحر لبيد بن الأعصم النبى (صلى الله عليه وسلم) فلما ولد عبد الله بن الزبير أمنوا ذلك وفرحوا. وقولها: (وأنا متم) قال صاحب الأفعال: أتمت كل حامل: جاز أن تضع. - باب: إماطة الأذى عن الصبى فى العقيقة 999 / فيه: حديث سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَعَ الْغُلامِ عَقِيقَةٌ، فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأذَى) . 2000 / وفيه: حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، قَالَ: أَمَرَنِى ابْنُ سِيرِينَ أَنْ أَسْأَلَ الْحَسَنَ مِمَّنْ سَمِعَ حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: مِنْ سَمُرَةَ. قال المؤلف: حديث سمرة: رواه قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (كل غلام مرتهن بعقيقته، يذبح عنه يوم السابع، ويسمى) وقد ذكرته فى الباب قبل هذا، وإماطة الأذى عن الصبى هو حلق الشعر الذى على رأسه. وقال الأصمعى وغيره: العقيقة أصلها الشعر الذى يكون على رأس الصبى، وإنما سميت الشاة التى تذبح: عقيقة، لأنه يحلق رأس الصبى عند ذبحها. قال الطبرى: فسمت العرب الذبيحة التى يذبحونها عند حلق ذلك الشعر باسم ذلك الشعر، كما سموا النجو: عذرة، وإنما العذرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 374 فناء الدار؛ لأنهم كانوا يلقون ذلك بأفنيتهم، وكما قالوا الغائط للحدث، والغائط المطمئن من الأرض؛ لأنهم كانوا يفعلون ذلك فيما اطمأن من الأرض، وذلك كثير فى كلام العرب، أن ينقلوا اسم الشيء إلى ما صاحبه إذا كثرت مصاحبته له. وقوله: (أميطوا) يعنى: أزيلوا وأنفقوا. قال المهلب: ومعنى أمره (صلى الله عليه وسلم) بإماطة الأذى عنه، وإراقة الدم يوم سابعه نسيكة لله تعالى ليبارك فيه، تفاؤلا بطهرة الله له بذلك، وليس ذلك على الحتم لما تقدم من تسميته (صلى الله عليه وسلم) لابن أبى طلحة وابن الزبير وتحنيكه لهما قبل الأسبوع. وروى مالك فى الموطأ أن فاطمة بنت رسول الله وزنت شعر حسن وحسين فتصدقت بزنته فضة. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أميطوا عنه الأذى) رد لقول الحسن البصرى، وقتادة أن الصبى يطلى رأسه بدم العقيقة؛ لأن الدم من أكبر الأذى، فغير جائز أن ينجس رأس الصبى بدم. وقال الحسن: يعق عنه يوم سابعه، ثم يسمى، وهو قول مالك وأحمد وإسحاق. قال مالك: فإن جاوز السابع لم يعق عنه، ولا يعق عن كبير وروى عنه ابن وهب أنه إن لم يعق عنه يوم السابع عق عنه فى السابع الثانى، وهو قول عطاء. وعن عائشة: إن لم يعق عنه فى السابع الثانى عق عنه فى السابع الثالث، وهو قول ابن وهب وإسحاق. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (مع الغلام عقيقته) حجة لقول مالك أنه لا يعق عن الكبير، وعلى هذا أئمة الفتوى بالأمصار، واختلفوا فى وجوب العقيقة، فأوجبها الحسن البصرى وأهل الظاهر وتأولوا قوله (صلى الله عليه وسلم) : (مع الغلام عقيقته) على الوجوب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 375 وقال مالك والشافعى وأحمد وأبو ثور وإسحاق: العقيقة سنة يجب العمل بها ولا ينبغى تركها لمن قدر عليها. وقال الكوفيون: ليست بسنة. وقولهم خلاف ما عليه العلماء من الترغيب فيها والحض عليها، ألا ترى قول مالك أنها من الأمر الذى لم يزل عليه أمر الناس عندنا. وقال محمد بن الحسن: العقيقة تطوع ونسخها الأضحى. ولا أصل لقوله، إذ لاسلف له ولا أثر به. وروى أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: (أن الرسول عق عن الحسن والحسين بكبشين، كبش عن كل واحد منهما) . وروى حماد بن سلمة، عن عبد الله بن خثيم، عن يوسف بن ماهك، عن حفصة بنت عبد الرحمن، عن عائشة قالت: (أمرنا رسول الله أن نعق عن الغلام بشاتين وعن الجارية بشاة) وبه قال مكحول. فإن قيل: فأيهم الصحيح من هذه الآثار؟ قال الطبرى: كلاهما صحيح والعمل بأى ذلك شاء العامل فعل؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) لما صح عنه أنه عق عن الحسن والحسين شاة شاة عن كل واحد منهما، ولم يأتنا خبر أن ذلك خاص لهما، علم أن أمره بالعق عن الغلام بشاتين إنما هو أمر ندب لا أمر إيجاب، وأن لأمته الخيار فى أى ذلك شاءوا. وقد رأى قوم أن العقيقة سنة فى الذكور، غير سنة فى الإناث. روى ذلك عن أبى وائل والحسن. وإلا لما عق - عليه السلام -، عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 376 الحسن والحسين، فالسنة فى كل مولود من الذكران مثل السنة فيهما. وأما الإناث فلم يصح عندنا عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه أمر بالعقيقة عنهن ولا أنه فعل ذلك، إلا أن الذى مضى عليه السلف بالمدينة وانتشر فى بلدان المسلمين أن يعق عن الغلام والجارية. قال يحيى بن سعيد: أدركت الناس وما يدعون العقيقة عن الغلام والجارية. قال الطبرى: والدليل على أنها غير واجبة، ترك النبى (صلى الله عليه وسلم) بيان من يجب ذلك عليه فى المولود، هل هو الأب أو المولود أو إمام المسلمين؟ ولو كان ذلك فرضًا لبين (صلى الله عليه وسلم) من يلزمه ذلك، فمن عق عن المولود من والديه أو غيرهما كان بذلك محسنًا؛ ألا ترى أن الرسول عق عن الحسن والحسين دون أبيهما؟ ولو وجب ذلك على والد المولود لما أجزأ عن على عق النبى عن ابنيه، كما أن على لو لزمه هدى من جزاء صيد أو نذر لم يجزه إهداء مهد عنه إلا بأمره. وفى عقه (صلى الله عليه وسلم) عنهما من غير مسألة على إياه ذلك الدليل الواضح على أنها لم تجب على علىّ، وإذا لم تجب عليه فهو أبعد من وجوبها على فاطمة، ولا نعلم أحدًا من الأئمة أوجبها إلا الحسن البصرى، وقد أبطل وجوبها بقوله إن الأضحى يجزىء عنها؛ لأن الأضحى نسك غير العقيقة، ولو أجزأت منها صار الأضحى يجزىء من فدية حلق الرأس للمحرم، ومن هدى واجب عليه. وفى إجماع الجميع أن الأضحى لا يجزىء عن ذلك الدليل الواضح أنها لا تجزىء من العقيقة، وهى سنة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 377 3 - باب: الفرع 001 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا فَرَعَ وَلا عَتِيرَةَ) . وَالْفَرَعُ: أَوَّلُ النِّتَاجِ، كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِطَوَاغِيتِهِمْ، وَالْعَتِيرَةُ: فِى رَجَبٍ. وترجم له باب (العتيرة) . قال أبو عمرو: وهى الفرع بنصب الراء أول ولد تلده الناقة، كانوا يذبحونه فى الجاهلية لآلهتهم فنهوا عنها. قال أبو عبيد: وأما العتيرة فهى الرجبية كان أحدهم إذا طلب أمرًا نذر إن ظفر به أن يذبح من غنمه فى رجب كذا وكذا. فنسخ ذلك بعد. وكان ابن سيرين من بين سائر العلماء يذبح العتيرة فى رجب، وكان يروى فيها شيئًا لا يصح، وأظنه حديث ابن عون، عن أبى رملة، عن مخنف بن سليم، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (على كل أهل بيت أضحى وعتيرة) ولا حجة فيه؛ لضعفه، ولو صح لكان حديث أبى هريرة ناسخًا له. والعلماء مجمعون على القول بحديث أبى هريرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 378 - كتاب الصيد والذبائح - بَاب التَّسْمِيَةِ عَلَى الصَّيْدِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَىْءٍ مِنَ الصَّيْدِ (الآية. [المائدة 94] وَقَوْلِهِ: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غير محلى الصيد وأنتم حرام (إِلَى: (وَاخْشَوْنِ) [المائدة 1] . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعُقُودُ: الْعُهُودُ، مَا أُحِلَّ وَحُرِّمَ،) إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ (: الْخِنْزِيرُ،) يَجْرِمَنَّكُمْ (: يَحْمِلَنَّكُمْ،) شَنَآنُ (: عَدَاوَةُ،) الْمُنْخَنِقَةُ (: تُخْنَقُ فَتَمُوتُ،) الْمَوْقُوذَةُ (: تُضْرَبُ بِالْخَشَبِ، يُوقِذُهَا فَتَمُوتُ،) وَالْمُتَرَدِّيَةُ) [المائدة 3] تَتَرَدَّى مِنَ الْجَبَلِ،) وَالنَّطِيحَةُ (: تُنْطَحُ الشَّاةُ، فَمَا أَدْرَكْتَهُ يَتَحَرَّكُ بِذَنَبِهِ أَوْ بِعَيْنِهِ، فَاذْبَحْ وَكُلْ. 2002 / فيه: عَدِىّ، سَأَلْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ، قَالَ: (مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْهُ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَهُوَ وَقِيذٌ) ، وَسَأَلْتُهُ عَنْ صَيْدِ الْكَلْبِ، فَقَالَ: (مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُلْ فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاةٌ، وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ أَوْ كِلابِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ، فَخَشِيتَ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مَعَهُ، وَقَدْ قَتَلَهُ، فَلا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا ذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تَذْكُرْهُ عَلَى غَيْرِهِ) . اختلف العلماء فى التسمية على الصيد والذبيحة، فروى عن نافع مولى ابن عمر ومحمد ابن سيرين والشعبى أنها فريضة فمن تركها عامدًا أو ساهيًا لم تؤكل، وهو قول أبى ثور وأهل الظاهر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 379 وذهب مالك والثورى وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه إن ترك التسمية عامدًا لم تؤكل، وإن تركها ساهيًا أكل. وقال مالك: هو بمنزلة من ذبح ونسى أن يذكر اسم الله، يأكل ويسمي. وقال الشافعى: يؤكل الصيد والذبيحة فى الوجهين جميعًا تعمد ذلك أو نسيه. روى ذلك عن أبى هريرة وابن عباس، وقال ابن عباس: (لا يضرك إنما ذبحت بدينك) . واحتج أصحاب الشافعى بأن المجوسى لو سمى الله لم ينتفع بتسميته؛ لأن المراعى دينه، وكذلك المسلم إذا ترك التسمية عامدًا لا يضره؛ لأن المراعى دينه، وبهذا قال سعيد بن المسيب، وعطاء، وابن أبى ليلى. قال ابن القصار: وكان الأبهرى وابن الجهم يقولان: إن قول مالك أن من تعمد ترك التسمية لم تؤكل كراهية وتنزهًا. قال ابن القصار: والدليل على أن التسمية ليست واجبة قوله تعالى: (فكلوا مما أمسكن عليكم (فأمر بأكل ما أمسكن علينا، ثم عطفه على الأكل بقوله: (واذكروا اسم الله عليه (والهاء فى (عليه) ضمير الأكل؛ لأنه أقرب مذكور، فإن قيل: الهاء فى (عليه) : عائدة على الإرسال. قيل: لو كانت شرطًا لذكرها قبله، ولم يذكرها بعده. ولما قال: (فكلوا مما أمسكن عليكم (وقال بعد تقدم الأكل) واذكروا اسم الله عليه (لم يحل أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 380 يريد بالتسمية على الإمساك الذى قد حصل. فإذا أمسك علينا حينئذ يسمى أو يريد التسمية على الأكل فبطل أن يريد بالتسمية بعد الإمساك علينا من غير أكل؛ لأنه ليس بقول لأحد؛ لأن الناس على قولين: إما أن تكون التسمية قبل الإرسال وقبل الإمساك. أو يكون المراد بها عند الأكل. وإنما أراد تعالى نسخ أمر الجاهلية التى كانت تذكر اسم طواغيتها على صيدها وذبائحها. وقد روى مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: (سئل رسول الله فقيل: يا رسول الله، إن ناسًا من أهل البادية يأتوننا بلحمان لا ندرى أسموا الله عليها أم لا، فقال رسول الله: (سموا الله وكلوا) . واحتج من أوجب التسمية بحديث عدى بن حاتم، وأن النبى (صلى الله عليه وسلم) علل له بأن قال: (لأنك سميت على كلبك ولم تسم على غيره) فأباح كل الصيد الذى يجد عليه كلبه؛ لأنه ذكر الله عليه، فدليله أنه إذا لم يسم فلا يأكل فأجابهم الآخرون، فقالوا لحق بدليل الخطاب فإنا نقول: إن لم يسم فلا يأكل كراهية وتنزيها، لما ذكرناه من الدلائل المتقدمة. واختلف العلماء فى ذكاة المتردية والنطيحة والموقوذة والمنخنقة، فذكر ابن حبيب عن ابن الماجشون وابن عبد الحكم أن ما أصاب هذه من نثر الدماغ والحشوة أو قرض المصير، وشق الأوداج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 381 وانقطاع النخاع، فلا يؤكل وإن ذكيت، فأما كسر الرأس ولم تنتثر الدماغ، أو شق الجوف ولم تنتثر الحشوة، ولا انشق المصير، أو كسر الصلب، ولم ينقطع النخاع، فهذه تؤكل إن ذكيت إن أدرك الروح فيها، ولم تزهق أنفسها، فإن لم يكن من هذه المقاتل شيء، ويئس لها من الحياة وأشكل أمرها، فذبحت فلا تؤكل، وإن طرفت بعينها واستفاض نفسها عند الذبح، وقد كان أصبغ وابن القاسم يحلان أكلها، ولا يريان دق العنق مقتلا حتى ينقطع النخاع، قالا: وهو المخ الأبيض الذى فى داخل العنق والظهر، وليس النخاع عندنا إلا دق العنق، وإن لم ينقطع المخ. كذلك قال ابن الماجشون ومطرف عن مالك. قال ابن حبيب: وأما انكسار الصلب ففيه يحتاج إلى انقطاع المخ الذى فى الفقار، فإن انقطع فهو مقتل، وإن لم ينقطع فليس بمقتل؛ لأنه قد يبرأ على حدب ويعيش. وقال أبو يوسف والحسن بن حيى كقول ابن الماجشون وابن عبد الحكم قالا: إذا بلغ التردى وشبهه حالا لا يعيش من مثله لم يؤكل وإن ذكيت قبل الموت. واحتج ابن حبيب لهذا القول فقال: تأول قوله: (إلا ما ذكيتم (يعنى: فى الحياة القائمة فمات بتذكيتكم لا فى حال اليأس منها؛ لأن الذكاة لا تقع عليها وإن تحركت؛ لأن تلك الحركة من الموت وقد تسبق إليها؛ لأنه هو الذى أماتهم، فإجراء الشفرة عليها وتلك حالها لا يحلها ولا يذكيها، كما أن المذبوحة التى قد قطعت الشفرة حلقومها وأوداجها إذا سقط عليها جدار قبل زهق نفسها أو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 382 أصابها غرق أو تردى لا يضرها ولا يحرمها؛ لأن الذى سبق إليها من التذكية قبل التردى أو غيره هو الذى أماتها و [. . . .] . وفيها قول آخر: روى الشعبى، عن الحارث، عن على قال: (إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة وهى تحرك يدًا أو رجلا فكلها) وعن ابن عباس وأبى هريرة مثله. وإليه ذهب النخعى والشعبى وطاوس والحسن وقتادة، وأبو حنيفة والثورى وقالا: يدرك ذكاته وفيه حياة ما كانت فإنه ذكى إذا ذكى قبل أن يموت، وهو قول الأوزاعى والليث والشافعى وأحمد وإسحاق. وذكرنا تأويل قتادة وأصحابه فى قوله تعالى: (إلا ما ذكيتم (قالوا: يعنى: من هذه إذ طرفت بعينها أو حركت ذنبها أو أذنها أو ركضت برجلها فذك وكل. واحتج بعض الفقهاء لصحة هذا القول بأن عمر بن الخطاب كانت جراحته مثقلة، وصحت عهوده وأوامره، ولو قتله قاتل فى ذلك الوقت كان عليه القود. قال الطحاوى: ولم يختلفوا فى الأنعام إذا أصابتها الأمراض المثقلة التى قد تعيش معها مدة قصيرة أو طويلة أن ذكاتها الذبح، فكذلك ينبغى فى القياس أن تكون المتردية ونحوها. وقال إسماعيل بن إسحاق: بلغنى عن بعض من يتكلم فى الفقه أن قوله: (إلا ما ذكيتم (إنما هو على ما أكله السبع خاصة، وأحسبه توهم ذلك؛ لأن الاستثناء يلى ما أكل السوابع، وإنما وقع الاستثناء على كل ما ذكر فى الآية كما قال قتادة: (إلا ما ذكيتم ( الجزء: 5 ¦ الصفحة: 383 أى: ولكن ما ذكيتم. كما قال تعالى: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس (يعنى: ولكن قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم، وإنما كان أهل الجاهلية يأكلون كل ما مات وكل ما قتل؛ فأعلم الله المسلمين أن المقتولة لا تحل إلا بالتذكية، وأن المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع حرام كله، وهو لا يسمى: موقوذة حتى يموت بالذى فعل بها، وكذلك المتردية والنطيحة وما أكل السبع، ولو متردية تركت فلم تمت من ترديها أو شاة عضها سبع أو أكل من لحمها فلم تمت من ذلك، لما كانت داخلة فى هذا الحكم، ولما سميت أكيلة السبع؛ لأنه لم يقتلها، وإنما تسمى العرب أكيلة السبع التى قتلها السبع فأكل منها وبقى منها، فإن العرب تقول للباقى: هذه أكيلة السبع. فنهوا عن ذلك الباقى، وأعلموا أن قتل السبع وغيره مما ذكر لا يقوم مقام التذكية، وإن كان ذلك كله قتلا؛ لأن فى التذكية التى أمرهم الله بها خصوصًا فى تحليل الذبيحة. وقال أبو عبيد: أكيلة السبع هو الذى صاده السبع فأكل منه وبقى بعضه، وإنما هو فريسة، والنصب: حجارة حول الكعبة كان يذبح عليها أهل الجاهلية. - باب صَيْدِ الْمِعْرَاضِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فِى الْمَقْتُولَةِ بِالْبُنْدُقَةِ: تِلْكَ الْمَوْقُوذَةُ، وَكَرِهَهُ سَالِمٌ وَالْقَاسِمُ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ، وَكَرِهَ الْحَسَنُ رَمْىَ الْبُنْدُقَةِ فِى الْقُرَى وَالأمْصَارِ، وَلا يَرَى بَأْسًا فِيمَا سِوَاهُ. 2003 / فيه: عَدِىَّ، سَأَلْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، عَنِ الْمِعْرَاضِ، فَقَالَ: (إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 384 فَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ، فَإِنَّهُ وَقِيذٌ فَلا تَأْكُلْ) ، فَقُلْتُ: أُرْسِلُ كَلْبِى، قَالَ: (إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَكُلْ) ، قُلْتُ: فَإِنْ أَكَلَ؟ قَالَ: (فَلا تَأْكُلْ، فَإِنَّهُ لَمْ يُمْسِكْ عَلَيْكَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ) ، قُلْتُ: أُرْسِلُ كَلْبِى فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ، قَالَ: (لا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى آخَرَ) . وترجم له (باب: ما أصاب المعراض بعرضه) . وقال عدى: (قلت: يا رسول الله، إنا نرمى بالمعراض. قال: كل ما خزق، وما أصاب بعرضه فلا تأكل) . اختلف العلماء فى صيد المعراض والبندقة، فقال مالك والثورى والكوفيون والشافعى: إذا أصاب المعراض بعرضه وقتله لم يؤكل، وإن خزق جلده وبلغ المقاتل بعرضه أكل. وذهب مكحول والأوزاعى وفقهاء الشام إلى جواز أكل ما قتل المعراض خزق أم لا. وكان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد لا يريان به بأسًا. واحتج مالك بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم (قال: فكل شيء يناله الإنسان بيده أو رمحه أو بشيء من سلاحه، فأنفذه وبلغ مقاتله فهو صيد، كما قال تعالى. ولا حجة لأهل الشام لخلافهم لحديث عدى بن حاتم أن ما أصاب بعرضه فهو وقيذ، والحجة فى السنة لا فيما خالفها. وأما البندقة والحجر فأكثر العلماء على كراهة صيدها وهو عندهم وقيذ كقول ابن عباس، إلا أن يدرك ذكاته، وبه قال النخعى، وذهب إليه مالك والثورى وأبو حنيفة والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 385 ثور، ورخص فى صيد البندقة عمار بن ياسر، وهو قول سعيد بن المسيب وابن أبى ليلى وبه قال الشاميون. الأصل فى ذلك حديث عدى بن حاتم أن النبى أباح له أكل ما أصاب بحده ومنعه أكل ما أصاب بعرضه؛ لأنه وقيذ، ولا حجة لمن خالف السنة، وإنما كره الحسن البندقة للقرى والأمصار؛ لإمكان وجودهم للسكاكين وما تقع به الذكاة، وأجازها فى البرارى، وفى مواضع يتعذر وجود ذلك فيه. واختلفوا فيما قتلته الجوارح ولم تدمه. فقال الشافعى: لا يؤكل حتى يخزق؛ لقوله تعالى: (من الجوارح (وقال مرة: إنه حلال. واختلف ابن القاسم وأشهب فيها على هذين القولين. فقال ابن القاسم: لا يؤكل حتى يدميه ويجرحه. وقال أشهب: إن مات من صدمة الكلب أكل. والمعراض: السهم دون ريش، عن صاحب العين. وزاد الأصمعى: خزق يخزق خزوقا، وخسق يخسق خسوقا. وقال صاحب العين: كل شىء حاد رززته فى الأرض فارتز تقول: خزقته فانخزق والخسق يثبت، والخزق ما ينفذ. 3 - باب: صيد القوس وَقَالَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ: إِذَا ضَرَبَ صَيْدًا فَبَانَ مِنْهُ يَدٌ أَوْ رِجْلٌ، لا تَأْكُلُ الَّذِى بَانَ منه، وَتأكُلْ سَائِرَه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 386 قَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِذَا ضَرَبْتَ عُنُقَهُ أَوْ وَسَطَهُ فَكُلْهُ. وَقَالَ الأعْمَشُ، عَنْ زَيْدٍ: اسْتَعْصَى عَلَى رَجُلٍ مِنْ آلِ عَبْدِاللَّهِ حِمَارٌ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضْرِبُوهُ حَيْثُ تَيَسَّرَ، دَعُوا مَا سَقَطَ مِنْهُ وَكُلُوهُ. 2004 / فيه: أَبُو ثَعْلَبَةَ، قُلْتُ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ، إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَفَنَأْكُلُ فِى آنِيَتِهِمْ؟ وَبِأَرْضِ صَيْدٍ أَصِيدُ بِقَوْسِى وَبِكَلْبِى الَّذِى لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ؟ وَبِكَلْبِى الْمُعَلَّمِ فَمَا يَصْلُحُ لِى؟ قَالَ: (أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا، فَلا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا، وَكُلُوا فِيهَا، وَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ، فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ، فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ، فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرِ مُعَلَّمٍ، فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ) . أجمع العلماء أن السهم إذا أصاب الصيد فجرحه وأدماه فسقط على الأرض ميتًا ولم يدر أمات فى الهواء أو بعد ما صار إلى الأرض فإن سقط فمات، فقال مالك: إنه يؤكل إذا أنفذ السهم مقاتله. وهو قول أبى حنيفة والأوزاعى والشافعى وأبى ثور قالوا: وإن وقع على جبل فتردى فمات أو وقع فى ماء ولم ينفذ السهم مقاتله لم يؤكل، وإذا رمى الصيد بسهم مسموم أدرك ذكاته، فكان مالك يقول: لا يعجبنى أن يؤكل. وبه قال أحمد وإسحاق إذا علم أن السهم قتله، وقال غيره: إذا ذكاه فأكله جائز. واختلفوا فى الصيد يضرب فيبين منه عضو. فقالت طائفة: يطرح العضو الذى بان منه ويؤكل الباقى، هذا قول ابن مسعود وابن عباس وعطاء وقتادة. وقال مالك: إذا قطع وسطه أو ضرب عنقه أكل كله، وإن قطع فخذه لم يؤكل الفخذ وأكل الباقي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 387 وقال الشافعى: إن قطعه قطعتين أكله، وإن كانت إحداهما أقل من الأخرى إذا مات من تلك الضربة، وإن قطع يدًا أو رجلا أو شيئًا يمكن أن يعيش بعده ساعة أو أكثر ثم قتله بعد رميته أكل ما لم يبن، ولا يأكل ما بان وفيه الحياة، وهذا نحو قول مالك. وقال الثورى وأبو حنيفة: إذا قطعه نصفين أكلا جميعًا، وإن قطع الثلث مما يلى الرأس أكلا جميعًا، وإن قطع الثلث الذى يلى العجز أكل الثلثين مما يلى الرأس، ولا يأكل الثلث الذى يلى العجز. قال المهلب: وحجة القول الأول أن ما قطع من الصيد قبل أن تنفذ مقاتله فالمقطوع منه ميتة؛ لا شك فى ذلك. وكذلك كان أهل الجاهلية يقطعون أسنمة الإبل وهى أحياء ويأكلونها ثم تكبر الأسنمة وتعود على ما كانت، وقول الكوفيين لا أعلم له وجهًا. 4 - باب: الخذف والبندقة 005 / فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، أَنَّهُ رَأَى رَجُلا يَخْذِفُ، فَقَالَ لَهُ: لا تَخْذِفْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنِ الْخَذْفِ - أَوْ كَانَ يَكْرَهُ الْخَذْفَ - وَقَالَ: (إِنَّهُ لا يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ، وَلا يُنْكَى بِهِ عَدُوٌّ، وَلَكِنَّهَا قَدْ تَكْسِرُ السِّنَّ، وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ) ، ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَخْذِفُ، فَقَالَ لَهُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْخَذْفِ - أَوْ كَرِهَ الْخَذْفَ - وَأَنْتَ تَخْذِفُ، لا أُكَلِّمُكَ كَذَا وَكَذَا. والخذف عند أهل اللغة: الرمى بالحصاة والعصا. قال المهلب: وأباح الله الصيد فى كتابه على صفة اشترطها تعالى من الاصطياد بالأيدى والرماح بقوله: (تناله أيديكم ورماحكم ( الجزء: 5 ¦ الصفحة: 388 فمعنى الأيدى: الذبح، ومعنى الرماح: كل ما رميت به الصيد بنوع من أنواع فعل اليد من الخزق لجلد الصيد، وإنفاذ مقاتله، وليس البندقة والخذف بالحجر من ذلك المعنى، وإنما هو وقيذ، وقد حرم الله الموقوذة، وبين ذلك نبيه (صلى الله عليه وسلم) أن الخذف لا يصاد به صيد؛ لأنه ليس من المجهزات، فدل أن الحجر لا تقع به ذكاة. وأثمة الفتوى بالأمصار على أنه لا يجوز أكل ما قتلته البندقة والحجر، واحتجوا بحديث عبد الله بن مغفل، وأجاز ذلك الشاميون، فخالفوا حديث ابن مغفل، ولا حجة لمن خالف السنة، وإنما الحجة العمل بها، وقد ذكرنا ذلك فى باب (صيد المعراض) . قال المهلب: فيه من الفقه أن من خالف السنة أنه لا بأس بهجرانه وقطع الكلام عنه، وليس يدخل هجرانه تحت نهى النبى عن أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يدل على ذلك أمر الرسول بذلك فى كعب بن مالك وصاحبيه. وفيه: وجوب تغيير العالم ما خالف العلم. 5 - باب: من اقتنى كلبًا ليس بكلب صيد أو ماشية 006 / فيه: ابْن عُمَر، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، لَيْسَ بِكَلْبِ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِيَةٍ، نَقَصَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطَانِ) . وقال مرة: سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، إِلا كَلْبًا ضَارِيًا لِصَيْدٍ، أَوْ كَلْبَ مَاشِيَةٍ، فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ قِيرَاطَينِ) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 389 كان ابن عمر يجيز الكلب للصيد والماشية خاصة على نص حديثه، ولم يبلغه ما روى غيره فى ذلك. وقد روى مالك، عن يزيد بن خصيفة أن السائب بن يزيد أخبره أنه سمع سفيان بن أبى زهير يحدث (أنه سمع النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: من اقتنى كلبًا لا يغنى عنه زرعًا ولا ضرعًا نقص من عمله كل يوم قيراط) . ويدخل فى معنى الزرع الكرم والثمار وغير ذلك، ولم يختلف العلماء فى تأويل قوله تعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث (أنه كان كرمًا، وروى عبد الله بن مغفل أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من اتخذ كلبًا ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا حرث. . .) ويدخل فى معنى الزرع والكرم منافع البادية كلها من الطارق وغيره. وقد سئل هشام بن عروة عن اتخاذ الكلب للدار، فقال: لا بأس به إذا كانت الدار مخوفة. فأما ما روى عنه (صلى الله عليه وسلم) فى حديث سفيان بن أبى زهير: (قيراط) وفى حديث ابن عمر: (قيراطان) فيحتمل والله أعلم أنه (صلى الله عليه وسلم) غلظ عليهم فى اتخاذ الكلاب، لأنها تروع الناس، فلم ينتهوا؛ فزاد فى التغليظ فجعل مكان القيراط قيراطين. وقد روى حماد بن زيد، عن واصل مولى أبى عيينة قال: سأل سائل الحسن فقال: يا أبا سعيد، أرأيت ما ذكر فى الكلب أنه ينقص من أجر أهله كل يوم قيراط، بم ذلك؟ قال: لترويعه المسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 390 6 - بَاب إِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ) [المائدة: 4] الآية. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ، فَقَدْ أَفْسَدَهُ، إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ (فَيضْرَبُ وَيُعَلَّمُ حَتَّى يَتْرُكَ، وَكَرِهَهُ ابْنُ عُمَرَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ شَرِبَ الدَّمَ وَلَمْ يَأْكُلْ فَكُلْ. 2007 / - وفيه: عَدِىّ، سَأَلْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: إِنَّا قَوْمٌ نَصِيدُ بِهَذِهِ الْكِلابِ، فَقَالَ: (إِذَا أَرْسَلْتَ كِلابَكَ الْمُعَلَّمَةَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ، فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ، وَإِنْ قَتَلْنَ إِلا أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ، فَإِنِّى أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَطَهَا كِلابٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلا تَأْكُلْ) . اختلف العلماء فى الكلب المعلم إذا أكل من الصيد هل يجوز أكله أم لا؟ فقال ابن عباس: إذا أكل فقد أفسده وأمسك على نفسه. وقال بذلك من التابعين: الشعبى وعطاء وعكرمة وطاوس والنخعى وقتادة، وحجتهم حديث عدى بن حاتم، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور قالوا كلهم: إذا أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم، فلا يؤكل صيده. وفيها قول آخر روى عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم قالوا: كل وإن أكل الكلب ولو لم يبق إلا نصفه، وهذا قول على بن أبى طالب وابن عمر، وسعد بن أبى وقاص، وسلمان الفارسى، ومن التابعين سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والحسن، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 391 والزهرى، وربيعة، وهو قول مالك، والليث، والأوزاعى، وحجتهم ما رواه أبو داود، حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا هشيم، حدثنا داود بن عمرو، عن بسر بن عبيد الله عن أبى إدريس الخولانى، عن أبى ثعلبة الخشنى قال: قال رسول الله: (إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل، وإن أكل منه) . وقال لى بعض شيوخى: فى الظاهر أن حديث أبى ثعلبة ناسخ لحديث عدي. وقال إسماعيل بن إسحاق: إنما ذكر فى الحديث (إن أكل فلا تأكل) قال إسماعيل: ولما ثبت فى حديث عدى وغيره أن النبى (صلى الله عليه وسلم) جعل قتل الكلب للصيد تذكية. لم يضر ما حدث بعد التذكية من أكل الكلب أو غيره، كما أن البهيمة إذا ذبحت لم يضر لحمها ما حدث بعد التذكية، وإنما الكلب بمنزلة السهم إنما أرسلته؛ فذهب بإرسالى إلى الصيد فقتله فقلته، فكأنى أنا قتلته، فكذلك السهم إذا أرسلته من يدى فأصاب الصيد فكأنى أنا ذبحت الصيد؛ لأنى لا أنال الصيد الذى أناله بيدى إلا كذلك. والمعنى فى قوله تعالى: (فكلوا مما أمسكن عليكم (حبسه الصيد حتى جئت فأدركته مقتولا، فلا يضره ما صنع بلحمه بعد التذكية. قال المهلب: ويحتمل أن يكون معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإنى أخشى أن يكون قد أمسك على نفسه) إذا أكل الكلب قبل إنفاذ مقاتله وفوات نفسه. وقد أجمع العلماء أنه إن أكل الكلب وحياته قائمة حتى مات من أجل أكله أنه غير مذكى ولا يحل أكله، وهو فى معنى الوقيذ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 392 قال إسماعيل: والذين قالوا: إذا أكل الكلب فلا يؤكل. يقولون إذا أكل البازى والصقر فلا بأس أن يؤكل، قالوا: لأن الكلب ينهى فينتهى، والبازى والصقر إنما يعلمان بالأكل. قال إسماعيل: وهذا يفسد اعتلالهم، ولو كانت علتهم صحيحة لكان البازى والصقر إذا أكلا أمسكا على أنفسهما أيضًا؛ إذ الطير فى معنى الكلاب، لأنها جوارح، والجوارح عند العرب الكواسب على أهلها قال تعالى: (ويعلم ما جرحتم بالنهار (أى: كسبتم، وقوله: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات (. وروى عن ابن عمر ومجاهد قول شاذ أنه لا يكون جارح إلا كلبًا، وكرها صيد الطير، والناس على خلافهم لما دل عليه الكتاب من كونها كلها جوارح. 7 - باب: الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة 008 / فيه: عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ،، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (إِنْ رَمَيْتَ صيدًا، فَوَجَدْتَهُ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَلَيْسَ بِهِ إِلا أَثَرُ سَهْمِكَ، فَكُلْ، وَإِنْ وَقَعَ فِى الْمَاءِ، فَلا تَأْكُلْ) . وَقَالَ عَدِىّ أيضًا: إنا نَرْمِى الصَّيْدَ فَنَفْتَقِرُ أَثَرَهُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاثَةَ، ثُمَّ نَجِدُهُ مَيِّتًا، وَفِيهِ سَهْمُهُ؟ قَالَ: (يَأْكُلُ إِنْ شَاءَ) . اختلف العلماء فى الصيد يغيب عن صاحبه. فقال الأوزاعى: إذا وجده من الغد ميتًا ووجد فيه سهمه أو أثرًا من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 393 كلبه، فليأكله. وهو قول أشهب وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ، قالوا: إذا مات وأنفذت الجوارح أو السهم مقاتله، ولم يشك فى ذلك فليؤكل. وذكر ابن القصار أنه روى مثله عن مالك، والمعروف عنه خلافه. وقال مالك فى الموطأ والمدونة: لا بأس بأكل الصيد وإن غاب عنك مصرعه، إذا وجدت به أثرًا من كلبك، أو كان به سهمك، ما لم يبت، فإذا بات لم يؤكل. وقال أبو حنيفة: إذا توارى عنه الصيد والكلب فى طلبه فوجده قد قتله جاز أكله، وإن ترك الكلب الطلب واشتغل بعمل غيره، ثم ذهب فى طلبه فوجده مقتولا. والكلب عنده كرهت أكله. وقال الشافعى: القياس ألا يأكله إذا غاب عنه لأنه يمكن أن يكون غيره قتله، وقد قال ابن عباس: (كل ما أصميت ودع ما أنميت) . وقال أبو عبيد: الإصماء: أن يرميه فيموت بين يديه لم يغب عنه، والإنماء: أن يغيب عنه فيجده ميتًا. واحتج ابن القصار لأهل المقالة الأولى الذين أوقفوا حديث عدى قالوا: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) أجاز أكله بعد يومين وثلاثة إذا وجد فيه أثر سهمه، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) بين له أنه إنما يحل أكله بشرط أن يجد فيه أثر سهمه أو سهمه وهو يعلم أنه قتله، فإذا عدم الشرط لم يحل. واحتج الكوفيون بقول عدى: إنا نرمى الصيد، فنقتفوا أثره اليومين والثلاثة، يأكل إن شاء. قالوا: إنما أباح أكله لأجل افتقاده أثره، وهو أن يتبعه؛ لأنه إذا لم يتبعه ووجده مقتولا عسى أن يكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 394 قد صار مقدورًا عليه فلم يلحق ذكاته فلا يؤكل. فيقال لهم: قد جاء حديث عدى فى أول هذا الباب أنه قال: (إذا رميت صيدًا فوجدته بعد يوم أو يومين، وليس به إلا أثر سهمك فكل) ولم يذكر الاتباع فنستعمل الجميع، فيجوز أن يؤكل وإن لم يتبعه إذا كان فيه سهمه ولا أثر فيه غيره، ويستعمل خبركم إذا شاهده قد أنفذ مقاتله، ثم غاب الصيد عنه ثم وجده على حاله، واستعمال الأخبار أولى من إسقاط بعضها. وأما قولهم: إذا لم يتبعه لم يأمن أن يكون قد صار مقدورًا عليه. فإننا نقول: هذا حكم بشيء مظنون، وإنما يجوز أكله إذا لم ير فيه أثرًا غير كون سهمه فيه، ولو روعى هذا الذى ذكره لوجب أن يتوقف عن كل صيد؛ لأنه يجوز أن يكون مات خوفًا وفزعًا، وإن شاهدناه واتبعناه، فإذا وجدنا السهم فيه ولا أثر فيه غيره فالظاهر أنه مات منه. وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) (أنه مر بالروحاء فإذا هو بوحش عقير فيه سهم قد مات، فقال النبى: دعوه حتى يجيء صاحبه فجاء البهزى، فقال: يا رسول الله هى رميتي. فأمره أن يقسمه بين الرفقة وهم محرمون) . ولو كان الحكم يختلف بين أن يتبعه حتى يجده، أو يشتغل عنه ثم يطلبه ويجده، لاستفسره (صلى الله عليه وسلم) ، فلما لم يسأل عن ذلك وقال: (دعوه حتى يجيء صاحبه) ولم يزد: هل كان يتبعه؟ علم أن الحكم لا يختلف. والحجة لقول مالك: ما روى عن ابن عباس أنه سئل عن الرجل يرمى الصيد فيجد فيه سهمه من الغد، قال: لو أعلم أن سهمك قتله لأمرتك بأكله ولكن لا أدرى قتله هو أو غيره، وفى حديث آخر: (وما غاب عنك ليلة فلا تأكله) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 395 قال ابن القصار: وهذا عندى على الكراهية والله أعلم. واقتفوت الأثر: اتبعته. 8 - باب: إذا وجد مع الصيد كلبًا آخر 009 / فيه: عَدِىّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى أُرْسِلُ كَلْبِى وَأُسَمِّى، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ، وَسَمَّيْتَ فَأَخَذَ فَقَتَلَ فَأَكَلَ، فَلا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ) . قُلْتُ: إِنِّى أُرْسِلُ كَلْبِى أَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ لا أَدْرِى أَيُّهُمَا أَخَذَهُ؟ فَقَالَ: (لا تَأْكُلْ، إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ) . جمهور العلماء بالحجاز والعراق متفقون أنه إذا أرسل كلبه على الصيد ووجد معه كلبًا آخر لا يدرى أيهما أخذه؛ فإنه لا يؤكل ذلك الصيد، وأخذوا بحديث عدى بن حاتم. وممن قال ذلك: عطاء ومالك والكوفيون والشافعى وأحمد وأبو ثور، وقد بين الرسول (صلى الله عليه وسلم) المعنى فى ذلك فقال: إنما سميت على كلبك عند إرسالك له ولم تسم على غيره، فينبغى أن يكون الصيد بإرسال ونية لله تعالى عند إرساله. وكان الأوزاعى يقول: إذا أرسل كلبه المعلم فعرض له كلب آخر فقتلاه فهو حلال، وإن كان غير معلم فقتلاه لم يؤكل. وقال لى بعض من لقيت: إن كان الكلب المعلم قد أرسله صاحبه فالمسألة إجماع جواز أكله، ولو أن كلبًا معلمًا انطلق على صيد، وأخذه لم يرسله أحد عليه أنه لايجوز أكله لعدم الإرسال والنية، وهذا إجماع. قال ابن المنذر: وإذا اجتمع أصحاب كلاب وأطلقوا كلابهم على صيد وسمى كل واحد منهم، ثم وجدوا الصيد قتيلا، ولا يدرى من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 396 قتله منهم فكان أبو ثور يقول: إذا مات الصيد بينهم فإنه يؤكل، وهذا إجماع، فإن اختلفوا فيه وكانت الكلاب متعلقة به كان بينهم، وإن كان مع واحد منهم كان صاحبه أولى، وإن كان قتيلا والكلاب ناحية أقرع بينهم، فمن أصابته القرعة كان له. 9 - باب: ما جاء فى الصيد 010 / فيه: عَدِىِّ، قلت: يَا رسُول اللَّه، إِنَّا قَوْمٌ نَتَصَيَّدُ بِهَذِهِ الْكِلابِ. 2011 / وفيه: أَبُو ثَعْلَبَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابِ نَأْكُلُ فِى آنِيَتِهِمْ، وَأَرْضِ صَيْدٍ أَصِيدُ بِقَوْسِى، وَأَصِيدُ بِكَلْبِى الْمُعَلَّمِ، وَالَّذِى لَيْسَ مُعَلَّمًا. . . . الحديث. 2012 / وفيه: أَنَس، قَالَ: أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَوْا عَلَيْهَا حَتَّى تَعِبُوا، فَسَعَيْتُ عَلَيْهَا حَتَّى أَخَذْتُهَا، فَجِئْتُ بِهَا إِلَى أَبِى طَلْحَةَ، فَبَعَثَ إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِوَرِكَيْهَا أَوْ فَخِذَيْهَا، فَقَبِلَهُ. 2013 / وفيه: أَبُو قَتَادَةَ، أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ فَرَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا، فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ. . . الحديث. فقال (صلى الله عليه وسلم) : (إنما هى طعمة أطعمكموها الله) العلماء مجمعون على جواز الصيد للاكتساب وطلب المعاش. وقال مالك: إن من كان شأنه الصيد للذة أن شهادته غير جائزة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 397 وقد روى ابن عباس عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (من طلب الصيد غفل) إلا أن حال الذى يصيد للذة ينبغى أن يعتبر، وإن كان يضيع له فرائضه وما يلزمه من مراعاة أوقات الصلوات وشبهها فهذا هو الأمر المسقط لشهادته ولو لم يكن ثم صيد، وإن كان لا يضيع شيئًا يلزمه؛ فلا ينبغى أن ترد شهادته. وحديث ابن عباس رواه سفيان الثورى، عن أبى موسى التمار، عن وهب بن منبه، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله: (من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن لزم السلطان افتتن) . وقوله: (أنفجنا أرنبًا) يعنى: أجرينا، وفى كتاب الأفعال: نفج الأرنب وغيره نفوجًا: أسرع. وقال صاحب العين: وأنفجته وكل ما ارتفع فقد انتفج، ورجل نفاج بما لم يفعل. - باب: الصيد على الجبال 014 / فيه: أَبُو قَتَادَةَ، كنت مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَهُمْ مُحْرِمُونَ، وَأَنَا حِلٌّ عَلَى فَرَسى، وَكُنْتُ رَقَّاءً عَلَى الْجِبَالِ، فَبَيْنَا أَنَا عَلَى ذَلِكَ، إِذْ رَأَيْتُ النَّاسَ مُتَشَوِّفِينَ لِشَيْءٍ، فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ، فَإِذَا هُوَ حِمَارُ وَحْشٍ. . . . الحديث. التصيد على الجبال، كالصيد على السهل فى الإباحة والجواز. وفيه: أن الجرى على الخيل فى الجبال والأوعار جائز للحاجة إلى ذلك، وليس من تعذيب البهائم والتحامل عليها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 398 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) [المائدة 96] وَقَالَ عُمَرُ: صَيْدُهُ مَا اصْطِيدَ،) وَطَعَامُهُ (مَا رَمَى بِهِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الطَّافِى حَلالٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ،) طَعَامُهُ (: مَيْتَتُهُ إِلا مَا قَذِرْتَ مِنْهَا، وَالْجِرِّىُّ لا تَأْكُلُهُ الْيَهُودُ، وَنَحْنُ نَأْكُلُهُ. وَقَالَ شُرَيْحٌ صَاحِبُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : كُلُّ شَىْءٍ فِى الْبَحْرِ مَذْبُوحٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَمَّا الطَّيْرُ، فَأَرَى أَنْ تَذْبَحَهُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: صَيْدُ الأنْهَارِ وَقِلاتِ السَّيْلِ، أَصَيْدُ بَحْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ تَلا: (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ) [فاطر: 12] . وَرَكِبَ الْحَسَنُ عَلَى سَرْجٍ مِنْ جُلُودِ كِلابِ الْمَاءِ. وَقَالَ الشَّعْبِىُّ: لَوْ أَنَّ أَهْلِى أَكَلُوا الضَّفَادِعَ لأطْعَمْتُهُمْ، وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بِالسُّلَحْفَاةِ بَأْسًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ نَصْرَانِىٍّ أَوْ يَهُودِىٍّ أَوْ مَجُوسِىٍّ، وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: فِى الْمُرِى، ذَبَحَ الْخَمْرَ النِّينَانُ وَالشَّمْسُ. 2015 / فيه: جَابِر، غَزَوْنَا جَيْشَ الْخَبَطِ، وَأُمِّرَ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَجُعْنَا جُوعًا شَدِيدًا، فَأَلْقَى الْبَحْرُ حُوتًا مَيِّتًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، يُقَالُ لَهُ: الْعَنْبَرُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْر، فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَظْمًا مِنْ عِظَامِهِ، فَمَرَّ الرَّاكِبُ تَحْتَهُ. 2016 / - وقَالَ جَابِر مرة: بَعَثَنَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، ثَلاثَمِائَةِ رَاكِبٍ، وَأَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ، نَرْصُدُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ، فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ حَتَّى أَكَلْنَا الْخَبَطَ، فَسُمِّىَ جَيْشَ الْخَبَطِ، وَأَلْقَى الْبَحْرُ حُوتًا، يُقَالُ لَهُ: الْعَنْبَرُ، فَأَكَلْنَا نِصْفَ شَهْرٍ، وَادَّهَنَّا بِوَدَكِهِ حَتَّى صَلَحَتْ أَجْسَامُنَا، فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلاعِهِ فَنَصَبَهُ، فَمَرَّ الرَّاكِبُ تَحْتَهُ، وَكَانَ فِينَا رَجُلٌ، فَلَمَّا اشْتَدَّ الْجُوعُ نَحَرَ ثَلاثَ جَزَائِر، ثُمَّ ثَلاثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ نَهَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 399 اختلف العلماء فى تأويل قوله تعالى: (وطعامه متاعا لكم (فقال ابن عباس: طعامه ما لفظه فألقاه ميتًا. وقال ابن عباس: أشهد على أبى بكر الصديق لسمعته يقول: (السمكة الطافية حلال لمن أكلها) . وعن عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمرو وأبى هريرة، مثل قول ابن عباس فى تأويل الآية، وروى عن ابن عباس قول آخر قال: (طعامه مملوحه) وعن سعيد بن المسيب، والنخعى، ومجاهد، وابن جبير مثله، ومن قال: طعامه مملوحه كره أكل ما يلقى منه ميتًا، وروى ذلك عن جابر بن عبد الله، وابن عباس، وعن طاوس، وابن سيرين، والكوفيين: لا يؤكل الطافيء ولا يؤكل من البحر غير السمك. وقال مالك: يؤكل كل حيوان فى البحر، وهو حلال حيا كان أو ميتًا. وهو قول الأوزاعى، وأجاز الشافعى خنزير الماء، وكرهه مالك. قال ابن القصار: من غير تحريم. وقال ابن القاسم: لا أراه حرامًا. وحديث جابر حجة على الكوفيين ومن وافقهم؛ لأن أبا عبيدة فى أصحاب النبى أكلوا الحوت الذى لفظه البحر ميتًا، ولا يجوز أن يخفى عليهم وجه الصواب فى ذلك، ويأكلوا الميتة وهم ثلاثمائة رجل. وقال بعض المالكيين: إنهم لم يأكلوا ذلك الحوت على وجه ما يؤكل عليه الميتة عند الضرورة إليها، وذلك أنهم أقاموا عليه أيامًا يأكلون منه، والمضطر إلى الميتة إنما يأكل منها ثم ينتقل يطلب المباح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 400 وقوله تعالى: (أحل لكم صيد البحر (يقتضى عمومه إباحة كل ما فى البحر من جميع الحيوان حوتًا كان أو غيره مما صاد، خنزيرًا كان أو كلبًا أو ضفدعًا، ويشهد لذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فأطلق على جميع ميتته وأباحها؛ فسقط قول أبى حنيفة. قال ابن القصار: وقد قال أبو بكر الصديق: (كل دابة فى البحر فقد ذكاها الله لكم) ولم يخص، ولا مخالف له، وأيضًا فإن البحر لما عفى عن الذكاة فيما يخرج منه عفى عن مراعاة صورها، وبعضها كصور الحيات، وكذلك صورة الدابة التى يقال لها: العنبر خارجة عن عادات السمك ولم يحرم أكلها. وأيضًا فإن اسم سبع وكلب وخنزير لا يتناول حيوان الماء؛ لأنك تقول خنزير الماء وكلب الماء بالإضافة، والخنزير المحرم مطلق لا يتناول إلا ما كان فى البر خاصة، وكذلك البحرى داخل فى صيد البحر ولم يرو كراهته إلا عن على بإسناد لا يصح. وأجازه الكوفيون؛ لأنه داخل فى عموم السمك، وحرموا الضفادع، وبه قال الشافعي. وأما قول ابن عباس: كل ما صاد من البحر مجوسى أو غيره. فهو قول جمهور العلماء؛ لأن طعام البحر ميتة ولا يحتاج فيه إلى ذكاة. قال مالك: فإذا أكل ميته فلا يضر من صاده. وقال الحسن: أدركت سبعين من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) كلهم يأكل صيد المجوسى؛ الحيتان وما ينخلج فى صدورهم منه شيء. وروى ذلك عن عطاء، والنخعى، وهو قول مالك، والكوفيين، والليث والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: معنى قول أبى الدرداء: (ذبح الخمر النينان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 401 والشمس) أن الخمر تطرح فى الحيتان حتى تصير مريا فكأن الحيتان والشمس ذكاة الخمر وذبحها الذى يحللها. وهذا حجة فى جواز تخليل الخمر، وسيأتى ذلك فى كتاب البيوع فى باب: تحريم التجارة فى الخمر إن شاء الله. والقلات: جمع قلت والقلت نفرة بحجر يحفرها السيل وكل نقرة فى الجبل أو غيره: قلت؛ فإنما أراد ما سابق السيل من الماء وبقى فى الغدر الصفار فكان فيها حيتان. والجرى ضرب من سمك. والخبط: اسم ما خبط من القشر والورق. - باب: الجراد 017 / فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، غَزَوْنَا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) سَبْعَ غَزَوَاتٍ - أَوْ سِتًّا - كُنَّا نَأْكُلُ مَعَهُ الْجَرَادَ. اختلف الناس فى الجراد فقال الكوفيون: يؤكل الجراد كيفما مات وهو قول الشافعى، وقال مالك: إن وجده ميتًا لم يأكله حتى يقطع رءوسه أو يطرح فى النار وهو حى من غير أن تقطف رءوسه فهو حلال. ومن أجاز أكله ميتًا جعله من صيد البحر كطافى الحيتان يجوز أكلها. وذكر الطبرى عن ابن عباس أنه قال: الجراد ذكى حيه وميته. وذكر عبد الرزاق أن ابن عباس قال: كان عمر يأكل الجراد، ويقول: لا بأس به؛ لأنه لا يذبح. وعن على بن أبى طالب أنه قال: الجراد مثل صيد البحر وهو قول عطاء. وأما مالك فهو عنده من صيد البر، ولا يجوز أكله إلا بذكاة، وهو قول ابن شهاب وربيعة. وكان علقمة يكره الجراد ولا يأكله. قال الأبهرى: والدليل على أنه من صيد البر أن المحرم يجوز له الجزء: 5 ¦ الصفحة: 402 صيد البحر وهو ممنوع من صيد الجراد، وذلك لئلا يقتله، فعلم أنه من صيد البر، وإذا كان ذلك كذلك فيحتاج إلى ذكاة إلا أن ذكاته حسب ما تيسر كما يكون فى الصيد، ذكاته حسب ما يقدر عليه من الرمى، وإرسال الكلب؛ لأنه لا يتمكن من ذبحه من الحلق واللبة، كذلك الجراد تذكيته كيفما تيسر؛ لأنه لا حلق له ولا لبة، ولما كان يعيش فى البر وجب أن يفارق السمك فلا يستباح إلا بما يقوم مقام الذكاة من أخذه كيف تيسر؛ لأن صيد البر لم يسامح فيه بغير ذكاة كما سومح فى صيد البحر. - باب: آنية المجوسى والميتة 018 / فيه: أَبُو ثَعْلَبَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بِأَرْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَنَأْكُلُ فِى آنِيَتِهِمْ؟ فَقَالَ: (لا تَأْكُلُوا فِى آنِيَتِهِمْ، إِلا أَنْ لا تَجِدُوا بُدًّا، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا بُدًّا، فَاغْسِلُوا وَكُلُوا. . . .) الحديث. 2019 / وفيه: سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ، لَمَّا أَمْسَوْا يَوْمَ فَتَحُوا خَيْبَرَ، وَأَوْقَدُوا النِّيرَانَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (عَلامَ أَوْقَدْتُمْ هَذِهِ النِّيرَانَ) ؟ قَالُوا: لُحُومِ الْحُمُرِ الإنْسِيَّةِ، قَالَ: (أَهْرِيقُوا مَا فِيهَا، وَاكْسِرُوا قُدُورَهَا) ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: نُهَرِيقُ مَا فِيهَا وَنَغْسِلُهَا، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَوْ ذَاكَ) . قال المهلب: معنى ذكر آنية المجوسى فى هذه الترجمة، وذكر سؤال أبى ثعلبة للنبى (صلى الله عليه وسلم) عن آنية أهل الكتاب، من أجل أن أهل الكتاب لا يتحرزون من الميتة والخنزير والخمر، و [. . . . .] أعناق الحيوان وذلك ميتة كطعام المجوس، وقد جاء هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 403 المعنى مبينًا فى حديث أبى ثعلبة الخشنى قال: قلت: يا رسول الله، إن أرضنا أرض أهل كتاب وإنهم يأكلون لحم الخنزير، ويشربون الخمر، فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم؟ فقال: (إن لم تجدوا غيرها فارحضوها واطبخوا فيها واشربوا) فأباح (صلى الله عليه وسلم) غسل ما جعل فيه الخنزير والخمر، واستعمال الأواني. والعلماء مجمعون على أن الماء مطهر لكل نجاسة من جميع أوانى الشراب وغيرها إلا ما روى أشهب عن مالك فى زقاق الخمر أنها لا تطهر بالغسل؛ لأنها تشرب الخمر وذلك مخالف لجميع الظروف. وأما حديث تحريم الحمر فى هذا الباب فهو بين؛ لأن الحمر قد ثبت تحريمها فهى كالميتة، وأباح النبى (صلى الله عليه وسلم) القدور بعد غسلها، وكذلك آنية المجوس يجوز استعمالها بعد غسلها؛ لأن ذبائحهم ميتة، وذكر ابن حبيب، عن ابن عباس أنه قيل له: (إنا نغزو أرض الشرك، ونزل بالمجوس وقد طبخوا فى قدورهم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، فقال: (ما كان من حديد أو نحاس فاغسلوه بالماء ثم اطبخوا فيه، وما كان من فخار فاغلوا فيها الماء، ثم اغسلوها واطبخوا فيها، فإن الله جعل الماء طهورًا) وسيأتى الكلام فى ظروف الخمر هل تضمن إذا كسرت فى كتاب المظالم، إن شاء الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 404 - كتاب الذبائح - باب: التسمية على الذبيحة ومن ترك متعمدًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ نَسِىَ فَلا بَأْسَ، قَالَ تَعَالَى: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام: 121] وَالنَّاسِى لا يُسَمَّى فَاسِقًا،) وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ (الآية. 2020 / فيه: رَافِعِ، كُنَّا مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، فَأَصَبْنَا إِبِلا وَغَنَمًا، وَكَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، فَعَجِلُوا فَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَدُفِعَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِلَيْهِمُ، فَأَمَرَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ، فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ، وَكَانَ فِى الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ، فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ، فَحَبَسَهُ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا) ، وَقَالَ جَدِّى: إِنَّا لَنَرْجُو - أَوْ نَخَافُ - أَنْ نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَب. فَقَالَ: (مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ) ، وَسَأُحْدثُكُمْ عَنْهُ: (أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ) . قال المؤلف: اختلاف العلماء فى التسمية على الذبيحة كاختلافهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 405 على التسمية فى الصيد، وقد تقدم اختلاف العلماء فى ذلك، والحجة لأقوالهم فى أول كتاب الصيد فأغنى عن إعادته. وقال أبو الحسن بن القابسى: يمكن أن يكون أمره (صلى الله عليه وسلم) بإكفاء القدور من أجل أنهم استباحوا من الغنائم كما كانوا يعرفون فيما بعد عن بلاد الإسلام، وموضع الانقطاع عن مواضعهم، فهم مضطرون إلى ما وجدوه فى بلاد العدو كما جاء فى قصة خيبر أن قومًا أخذوا جرابًا فيه شحم فما عيب عليهم ولا طولبوا به، وقد مضى من سنن المسلمين فى الغنائم وأكلهم منها ما لاخلاف فيه. وكانوا فى هذه القسمة بذى الحليفة قريبًا من المدينة، ولم يكونوا مضطرين إلى أكل الغنيمة فأراهم النبى (صلى الله عليه وسلم) أن هذا ليس لهم، فمنعهم مما فعلوه بغير إذنه (صلى الله عليه وسلم) فكان فى باب الخوف من الغلول، وقد تقدم هذا المعنى في كتاب الجهاد فى باب (ما يكره من ذبح الإبل والغنم فى المغانم) وذكرت هناك وجهًا آخر. قال ابن القابسى: ولو قيل إن معنى ذلك من قبل أنهم بادروا قبل القسم كان داخلا فى المعنى الذى ذكره، ولو قيل: إنما كان ذلك من قبل أن الغنيمة كانت إبلا وغنمًا كلها لكان داخلا فى المعنى؛ لأن وجهه أنهم فعلوا ما ليس لهم. وقوله: (ثم قسم وعدل) ولم ينقل أحد أنه دخل فى ذلك قرعة، وما لم يدخله قرعة لا يضره اختلاف أجناسه فى القسمة فساووا فيه وتفاضلوا إذا رضوا بذلك. وقوله: (فند منها بعير) يقال: ند نديدًا وندادًا إذا شرد. وقوله: (فأهوى إليه رجل منهم بسهم فحبسه الله) يعنى: أن البعير حبسه الله بذلك السهم ومنعه من النفار الذى كان به حتى أدرك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 406 فذكى، وليس فى الحديث ما يمنع من هذا المعنى إذ لم يقل فيه: فحبسه الله فمات، لما أنه أدرك فذكى وذكاته ترفع التنازع فى أكله وتصير إلى الإجماع فى أكله، وهو قولنا فيما غلبنا من المواشى الإنسية أنا نحبسها بما استطعنا فما أدركنا منها لم تنفذ مقاتله فذكيناه أكلناه، وإذا أنفذنا مقاتله لم نحمله محمل الصيد؛ إذ لم يأتنا فى ذلك شيء من تتبعه، فنحن فى صيد الوحش على ما أذن الله ورسوله وفى ذكاة الإنسى على ما جاءنا به حكم الذكاة، وسيأتى اختلاف العلماء فى هذه المسألة فى بابها، وفى سائر الحديث فى الذبح بالسن والظفر فى بابه إن شاء الله. وقوله: (إن لهذه البهائم أوابد) قال أبو عمرو الشيبانى: قال النميرى: الآبد: التى تلزم الخلاء فلا تقرب أحدا، ولا يقربها. وقال أبو عمرو: قد أبدت الناقة تأبدًا وأبودًا إذا انفردت وحدها وتفردت، وتأبد أى: تفرد. وقال مرة: هى آبدة إذا ذهبت فى المرعى، وليس لها راعى فأبعدت شهرًا أو شهرين. وقال أبو على فى البارع فى باب وبد: قال ابن أبى طرفة: المستوبد: المستوحش. يقال: خلوت واستوبدت أى: استوحشت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 407 - باب: ما يذبح على النصب والأصنام 021 / فيه: ابْن عُمَرَ، عَنْ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنَّهُ لَقِىَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ - وَذَاكَ قَبْلَ أَنْ يُنْزَلَ عَلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) الْوَحْىُ - فَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سُفْرَةً فِيهَا لَحْمٌ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ: (إِنِّى لا آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ، وَلا آكُلُ إِلا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) . قال المؤلف: ظاهر هذا الحديث يدل أن زيدًا قال للنبى: إنى لا آكل مما تذبحون على أنصابكم. يوهم أن النبى كان يأكل ذلك، والنبى كان أولى باجتناب ذلك من زيد. وقد جاء هذا الحديث مبينًا فى مناقب زيد بن عمرو فى كتاب فضائل الصحابة، بينه فضيل بن سليمان عن موسى بن عقبة (أن النبى - (صلى الله عليه وسلم) - لقى زيد بن عمرو بأسفل بلدح - قبل أن ينزل الوحى على الرسول - فقدمت إلى النبى سفرة، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إنى لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه) فالسفرة إنما قدمتها قريش للنبى (صلى الله عليه وسلم) فأبى أن يأكل منها، فقدمها النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى زيد، فأبى أن يأكل منها، ثم قال لقريش الذين قدموها إلى النبى: (أنا لا آكل مما تذبحون على أنصابكم) . ولم يكن زيد فى الجاهلية بأفضل من النبى، فحين امتنع زيد فالنبى الذى كان حباه الله لوحيه واختاره ليكون خاتم النبيين وسيد المرسلين أولى بالامتناع منها فى الجاهلية أيضًا. قال الطبرى: أنصاب الحرم: أعلامه، وهو جمع نصب، وقد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 408 يجمع أيضًا: نصبًا. كما قال تعالى: (وما ذبح على النصب (. وكانت هذه النصب ثلاثمائة وستين حجرًا مجموعة عند الكعبة، كانوا يذبحون عندها لآلهتهم ولم تكن أصنامًا، وذلك أن الأصنام كانت تماثيل وصورًا مصورة، وأما النصب فكانت حجارة مجموعة. وقال ابن زيد: ما ذبح على النصب، وما أهل به لغير الله واحد، ومعنى (أهل به لغير الله) : ذكر عليه غير اسم الله من أسماء الأوثان التى كانوا يعبدونها، وكذلك المسيح وكل اسم سوى الله. قال الطبرى: ومعنى (ما أهل به لغير الله) : ما ذبح للآلهة والأوثان، فسمى عليه غير اسم الله. واختلف الفقهاء فى ذلك: فكره عمر، وابن عمر، وعائشة ما أهل به لغير الله. وعن النخعى والحسن مثله، وهو قول الثوري. وكره مالك ذبائح النصارى لكنائسهم وأعيادهم، وقال: لا يؤكل ما سمى عليه المسيح. وقال إسماعيل بن إسحاق: كرهه مالك من غير تحريم. وقال أبو حنيفة: لا يؤكل ما سمى عليه المسيح. وقال الشافعى: لا يحل ما ذبح لغير الله ولا ما ذبح للأنصاب. ورخص فى ذلك آخرون روى ذلك عن عبادة بن الصامت، وأبى الدرداء، وأبى أمامة، وقال عطاء والشعبى: قد أحل الله ما أهل به لغير الله؛ لأنه قد علم أنهم سيقولون هذا القول وأحل ذبائحهم، وإليه ذهب الليث وفقهاء أهل الشام: مكحول، وسعيد بن عبد العزيز، والأوزاعى قالوا: سواء سمى المسيح على ذبيحته، أو ذبح لعيد أو كنيسة، كل ذلك حلال؛ لأنه كتابى ذبح لدينه، وكانت هذه ذبائحهم قبل نزول القرآن، وأحلها الله فى كتابه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 409 قال المؤلف: وإذا ثبت أن ما ذبحوه لكنائسهم، وأعيادهم، وما أهلوا به لغير الله من طعامهم المباح لنا، فلا حجة لمن حرمه ومنعه. 3 - باب: قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : فليذبح على اسم الله 022 / فيه: جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ، ضَحَّيْنَا مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أُضْحِيَةً ذَاتَ يَوْمٍ، فَإِذَا نَاسٌ قَدْ ذَبَحُوا ضَحَايَاهُمْ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَآهُمُ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنَّهُمْ قَدْ ذَبَحُوا قَبْلَ الصَّلاةِ، فَقَالَ: (مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ حَتَّى صَلَّيْنَا، فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ) . قال المهلب: قد تقدم أن التسمية من سنن الذبح. وفيه العقوبة فى المال؛ لمخالفة السنة، والتعزير عليها كما عاقب الذين استعجلوا فى ذى الحليفة، وإنما اتجهت العقوبة بالمنع لهم كما استعجلوه قبل وقته، من أصل السنة أن من استعجل شيئًا قبل وجوبه أنه يحرمه، كمن استعجل الميراث حرمه أيضًا، ومن استعجل الوطء فنكح فى العدة حرم ذلك أبدًا، فكذلك هؤلاء الذين عجلوا بالضحايا قبل وقتها حرموها عقوبة لهم. 4 - باب: ما أنهر الدم من القصب والمروة والحديد 023 / فيه: كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ جَارِيَةً لَهُمْ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسَلْعٍ، فَأَبْصَرَتْ شَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا مَوْتًا، فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا، فَقَالَ لأهْلِهِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 410 لا تَأْكُلُوا حَتَّى آتِىَ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَسْأَلَهُ، فَأَتَى إِلَيْهِ، فَأَمَرَ (صلى الله عليه وسلم) بِأَكْلِهَا. 2024 / وفيه: رَافع أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ لَنَا مُدًى، فَقَالَ: (مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ، فَكُلْ، لَيْسَ الظُّفُرَ وَالسِّنَّ، أَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ، وَأَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ) . وترجم لحديث رافع باب (لا يذكى بالسن والعظم والظفر) . المروة: الحجارة البيض، وقيل: إنها الحجارة التى يقدح منها النار. واختلف العلماء فيما يجوز أن يذبح به. فقالت طائفة: كل ما ذكى به من شيء أنهر الدم وفرى الأوداج ولم يشرد جازت به الذكاة إلا السن والظفر؛ لنهى النبى عنهما، وإن كانا منزوعين، هذا قول النخعى والليث والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، واحتجوا بحديث نافع، وقال مالك وأبو حنيفة: كل ما فرى الأوداج وأنهر الدم تجوز الذكاة به، وتجوز بالسن والظفر المنزوعين، فأما إن كانا غير منزوعين، فإنه لا يجوز ذلك؛ لأنه يصير خنقًا، وفى ذلك ورد النهى، وكذلك قال ابن عباس: ذلك الخنق؛ لأن ما ذبح به إنما يذبح بكف لا بغيرها، فهو مخنوق، وكذلك ما نهى عنه من السن إنما هو المركبة؛ لأن ذلك يكون عضا، فأما إن كانا منزوعين وفريا الأوداج فجائز الذكاة بهما؛ لأن فى حكم الحجر كل ما قطع ولم يشرد. وإذا جازت التذكية بغير الحديد، جازت بكل شيء فى معناه. وذكر الطحاوى: أن طائفة ذهبت إلى أنه تجوز الذكاة بالسن والظفر المنزوعين وغير المنزوعين، واحتجوا بما روى سفيان عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 411 سماك بن حرب، عن مرى بن قطرى، عن رجل من بنى ثعلب، عن عدى بن حاتم (قلت: يا رسول الله، أرسل كلبى فيأخذ الصيد، فلا يكون معى ما يذكيه به إلا المروة والعصا. قال: أنهر الدم بما شئت، واذكر اسم الله) . وحديث رافع أصح من هذا الحديث فالمصير إليه أولى، ولو صح حديث عدى فكان معناه: أنهر الدم بما شئت إلا بالسن والظفر، وزاد الطبرى: وما كان نظيرًا لهما، وهو القرن. قالا: وهذه زيادة وتفسير لحديث عدى يجب الأخذ بها. وفى حديث عدى جواز ذبيحة المرأة، وهو قول جمهور الفقهاء وذلك إذا أحسنت الذبح، وكذلك الصبى عندهم إذا أحسن الذبح، واحتجوا بحديث كعب. واحتج الفقهاء بحديث كعب على جواز كل ما ذبح بغير إذن مالكه، وردوا بهذا الحديث على من أبى من أكل ذبيحة السارق، وهو قول يروى عن عكرمة وطاوس، وبه قال أهل الظاهر وإسحاق، وهو شذوذ لا يلتفت إليه، والناس على خلافه. وقال ابن المنذر: وليس بين ذبيحة السارق وذبيحة المحرم فرق. قال المهلب: فيه تصديق الراعى والأجير فيما اؤتمن عليه حتى يظهر عليه دليل الخيانة والكذب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 412 5 - باب: ذبيحة الأعراب ونحوهم 025 / فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ، لا نَدْرِى أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لا، فَقَالَ: (سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوهُ) ، قَالَتْ: وَكَانُوا حَدِيثِى عَهْدٍ بِالْكُفْرِ. قال المهلب: هذا أصل أن التسمية فى الذبح ليست بفرض، ولو كانت فرضًا لاشترطت على كل حال. والأمة مجمعة أن التسمية على الأكل مندوب إليه، وليست بفريضة، فلما نابت عن التسمية على الذبح دل أنها سنة؛ لأنه لا ينوب عن فرض، وهذا الحديث يدل أن حديث عدى بن حاتم وأبى ثعلبة محمولان على التنزه من أجل أنهما كانا صائدين على مذهب الجاهلية فعلمهما أمر الصيد والذبح دقيقه وجليله، لئلا يواقعا شبهة من ذلك، ويأخذا بأكمل الأمور فى بدو الأمر فعرفهم (صلى الله عليه وسلم) . وهؤلاء القوم جاءوا مستفتين لأمر قد وقع ويقع من غيرهم، ليس لهم فيه قدرة على الأخذ بالكمال فى بدئه، فعرفهم (صلى الله عليه وسلم) بأصل ما أحله الله لهم، ولم يقل لعدى: إنك إن فعلت فإنه حرام، ولكن قال له: (لا تأكل فإنى أخاف) فأدخل عليه الشبهة التى يجب التنزه عنها، والأخذ بالأكمل قبل مواقعتها. ويدل على صحة هذا المعنى أنه قد يشتد قبل وقوع الأمر ولا يشتد بعد وقوعه: قصة اللعن لشارب الخمر قبل شربها، ونهيه عن اللعنة بعد شربها بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تعينوا الشيطان على أخيكم) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 413 6 - بَاب ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَشُحُوم أَهْلِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهِمْ وَقَوْلِهِ: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) [المائدة: 5] . وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: لا بَأْسَ بِذَبِيحَةِ نَصَارَى الْعَرَبِ، وَإِنْ سَمِعْتَهُ يُسَمِّى لِغَيْرِ اللَّهِ، فَلا تَأْكُلْ، وَإِنْ لَمْ تَسْمَعْهُ، فَقَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ، وَعَلِمَ كُفْرَهُمْ. وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِىٍّ نَحْوُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ: لا بَأْسَ بِذَبِيحَةِ الأقْلَفِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَعَامُهُمْ: ذَبَائِحُهُمْ. 2026 / فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْرَ خَيْبَر، فَرَمَى إِنْسَانٌ بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ، فَنَزَوْتُ لآخُذَهُ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ. قال المؤلف: أباح الله لعباده المؤمنين ذبائح أهل الكتاب بقوله تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم (وأجمعوا أنه أريد بطعامهم فى هذه الآية ذبائحهم. اختلفوا فى شحومهم المحرمة عليهم إذا ذكروها، فكرهها مالك، وقال ابن القاسم وأشهب: إنها حرام. وأجاز أكلها الكوفيون والثورى والأوزاعى والليث والشافعى، واعتل من حرمها بأن الله إنما أباح لنا ما كان طعامًا لهم من ذبائحهم، والشحم ليس بطعام لهم فدليله أن ما ليس بطعام لهم فلا يحل لنا، وأيضًا فإنهم لا يقصدونه بالذكاة، والذكاة تحتاج إلى قصد، بدليل أنها لا تصح من المجنون والمبرسم، فجرت مجرى الدم الذى فى الشاة. قال المهلب: والحجة لمن أجازها: أن الشحوم محرمة عليهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 414 لا علينا؛ لأن ذبائحهم حلال لنا، فما وقع تحت ذبائحهم مما هو فى شريعتنا مسكوت عنه بالتحريم فهو حلال بإطلاق الله لنا. فإن قيل: لما لم تعمل ذكاتهم فى الدم شيئًا لم يجب أن تعمل فى الشحوم. قيل: الدم منصوص على تحريمه علينا، وعلى كل أمة. والشحوم محرمة عليهم لا علينا. ألا ترى قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما (الآية، وليس للشحوم فيها ذكر. قال ابن القصار: ومن حجة من لم يحرمها أن التذكية لا تقع على بعض الشاة دون بعض، ولما كانت الذكاة شائعة فى جميعها دخل الشحم فى التذكية؛ لأنها إذا ذكيت ذبحت كلها، ثم إذا فصل الشحم فهو المحرم عليهم، وكرهناه نحن بعد أن سبقت الذكاة فيه، وحديث ابن مغفل فى قصة جراب الشحم واضحة فى جوازه؛ لأنه لو كان حرامًا لزجره عنه (صلى الله عليه وسلم) ، وأعلمه تحريمه؛ لأنه يلزمه فرض التبليغ، وبيان ما أنزل إليه من ربه، إذ كان الأغلب أن يهود خيبر لا يذبح لهم مسلم، ويحتمل أن يكون ذلك الشحم الذى فى الجراب من الشحم الذى لم يحرم عليه؛ إذ الآية حرمت بعض الشحم دون بعض. وقوله: (فنزوت لآخذه) قال صاحب الأفعال: نزى نزوًا ونزا ونزوانًا: وثب. ونزى على الشيء: ارتفع. وقد تقدم الاختلاف فى ذبائح أهل الكتاب للأصنام فى باب: (ماذبح على النصب والأصنام) ويذكر ما لم يذكر هناك. ذكر البخارى عن على: أنه أجاز ذبائح نصارى العرب إن لم تسمعه يسمى لغير الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 415 وذكر الطبرى عن على فى نصارى بنى تغلب خلاف ما ذكره البخاري. روى عن عبيدة عن على أنه سأله عن ذبائح نصارى العرب فقال: لا تأكل ذبائحهم، فإنهم لم يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر، وهو قول ابن سيرين والنخعي. وقال مكحول: لا تأكلوا ذبائح بنى تغلب، وكلوا ذبائح تنوخ وبهذا [. . . .] فمن نهى عن أكل ذبائحهم، فيجب على مذهبه أن ينهى عن نكاح نسائهم. وقال آخرون: أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم حلال، روى ذلك عن ابن عباس وقرأ: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم (وعن الشعبى والحسن وعطاء والحكم مثله. قال الطبرى: فإذا كان الاختلاف بين بنى تغلب موجودًا بين السلف، وكانت تغلب تدين بالنصرانية، ولا تدفع الأمة أن عمر أخذ منها الجزية بين ظهرانى المهاجرين والأنصار من غير نكير، وكان أخذه ذلك بمعنى أنهم أهل كتاب، لا بمعنى أنهم مجوس، صح أنهم أهل كتاب، وأن ذبائحهم ونساءهم حلال للمسلمين. وأما ذبيحة الأقلف فروى عن ابن عباس أنها لا تؤكل. قال ابن المنذر: واتفق عوام أهل الفتيا من أهل الأمصار على جوازها؛ لأن الله أباح ذبائح أهل الكتاب، وفيهم من لا يختتن، فذبيحة المسلم الذى ليس بمختون أولى بالإباحة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 416 فإن قيل: فما معنى قوله: (وطعامكم حل لهم (وهم لا يؤمنون بالقرآن؟ قال ابن قتيبة: فالذى عندى أن القصد بالتحليل لنا، وإن كان القول لهم كأنه قال: أحل لكم طعام أهل الكتاب أن تأكلوه، وأحل لكم أن تطعموهم طعامكم، ولو لم يقل: (وطعامكم حل لهم (لم نعلم إن كان يجوز لنا أن نطعم الكفار طعامنا. 7 - بَاب مَا نَدَّ مِنَ الْبَهَائِمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَحْشِ وَأَجَازَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أَعْجَزَكَ مِنَ الْبَهَائِمِ مِمَّا فِى يَدَيْكَ فَهُوَ كَالصَّيْد، وَفِى بَعِيرٍ تَرَدَّى فِى بِئْرٍ مِنْ حَيْثُ قَدَرْتَ عَلَيْهِ فَذَكِّهِ، وَرَأَى ذَلِكَ عَلِىٌّ وَابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ. 2027 / فيه: رَافِع، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا ملاقُو الْعَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى، فَقَالَ: (اعْجَلْ - أَوْ أَرِنْ - مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، وَسَأُحَدِّثُكَ، أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ) ، وَأَصَبْنَا نَهْبَ إِبِلٍ وَغَنَمٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَإِذَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا) . اختلف العلماء فى الإنسى الذى لا يحل إلا بالذكاة فى الحلق واللبة إذا توحش فلم يقدر عليه، أو وقع فى بئر فلم يوصل إلى حلقه ولبته، فذهبت طائفة من العلماء إلى أنه يقتل بما يقتل به الصيد، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 417 ويجوز أكله. روى ذلك البخارى عن خمسة من الصحابة، وقاله من التابعين عطاء وطاوس، ومن الفقهاء: الثورى، وسائر الكوفيين، والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وقال ابن المسيب: لا يكون ذكاة كل إنسية إلا بالذبح والنحر، وإن شردت لاتحل بما يحل به الصيد. وهو قول ربيعة ومالك والليث. واحتج الكوفيون بحديث رافع بن خديج، وقالوا: موضع الدلالة من الحديث من وجهين: أحدهما: أنه لو كان رمى فلم ينكر النبى عليه الرمى؛ بل أقره عليه، وإباحة مثل ذلك الرمى بأن قال: (اصنعوا به هكذا) ومن خالفنا لا يجيز رميه. والدلالة الثانية: قوله: (إن لها أوابد كأوابد الوحش) ورسول الله لا يعلمنا اللغة، وإنما يعلمنا الحكم، فعلم أنه أراد أنه يصير حكمه حكم الوحشى فى الذكاة. قالوا: ومن جهة القياس أنه لما كان الوحشى إذا قدر عليه لم يحل إلا بما يحل به الإنسى؛ لأنه صار مقدورًا عليه، فكذلك ينبغى فى الإنسى إذا توحش وامتنع أن يحل بما يحل به الوحشي. واحتج الآخرون فقالوا: لا تلزم هذه الحجة؛ لو كان المستأنس إذا استوحش كالوحشى فى الأصل، لوجب أن يكون حكمه حكم الوحشى فى الجزاء فيه إذا قتله المحرم، وفى أنه لا يجوز فى الضحايا والعقيقة، ويجب أن يصير ملكًا لمن أخذه ولا شيء على قاتله. قال مالك: لو أن رجلا رماها فقتلها غرمها، ولم يحل له أكلها، ولو كانت بمنزلة الصيد حلت له، فلما أجمعنا على أن جميع أحكامه التى كانت عليه قبل أن يتوحش لم تزل ولم تتغير، وكانت كلها بخلاف الوحشى فى الأصل، كذلك الذكاة. وأما احتجاجهم بحديث رافع بن خديج فنقول: يجوز إذا ند ولم يقدر عليه أن يرميه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 418 ليحبسه ثم يلحقه فيذكيه، وهذا معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فاصنعوا به هكذا) أى: ارموه لتحبسوه، ثم ذكوه، ولم يرد قتله كما يقتل الوحشى، قاله ابن القصار، وقد تقدم بعض هذا المعنى فى أول كتاب الذبائح. وقوله: (أعجل أو أرنى ما أنهر الدم) وهكذا وقعت هذه اللفظة فى رواية الفربرى بالألف والراء والنون والياء بعدها. ولم أجد لها معنى يستقيم به الكلام، وأظنها مصحفة والله أعلم. وقال الخطابى: هذا حرف طالما استثبت فيه الرواة، وسألت عنه أهل العلم باللغة فلم أجد عند واحد منهم شيئًا يقطع بصحته، وقد طلبت له مخرجًا فرأيته يتجه لوجوه: أحدها: أن يكون ماخوذًا من قولهم: أران القوم فهم مرينون، إذا هلكت مواشيهم، فيكون معناه: أهلكها ذبحًا وأزهق أنفسها بكل ما أنهر الدم غير السن والظفر، هذا إذا رويته بكسر الراء على رواية أبى داود السجستاني. والوجه الثانى: أن يقال: أرأن القوم مهموز على وزن أعرن من أرن يأرن أرنا إذا نشط وخف، يقول: خف وأعجل لئلا يقتلها خنقًا، وذلك أن غير الحديد لا يمور فى الذكاة موره، والأرن الخفة والنشاط، يقال فى مثل سمن فأرن أى: بطر. والوجه الثالث: أن يكون أرن بمعنى: أدم الحز ولا تفتر من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 419 قولك: رنوت النظر إلى الشيء إذا أدمته أو يكون أراد: أدم النظر إليه وراعه ببصرك لا تزول عن المذبح. قال الخطابى: وأقرب من هذا كله: أن يكون أرز بالزاى من قولك: أرز الرجل أصبعه إذا أناخها فى الشيء، وأرزت الجرادة إرزازًا، إذا أدخلت ذنبها فى الأرض لكى تبيض. وارتز السهم فى الجدار إذا ثبت، هذا إن ساعدته رواية والله أعلم بالصواب. قال الخطابى: حدثنا به ابن داسة عن أبى داود قال: أرن مكسورة الراء على وزن عرِن، ورواه البخارى ساكنة الراء على وزن عرْن، هكذا حدثنى الخيام عن إبراهيم بن مغفل عنه. قال المؤلف: فعرضت قول الخطابى على بعض أئمة اللغة والنقد فى كلام العرب فقال لى: أما الوجه الأول الذى قال: هو مأخوذ من قولهم: أرن القوم فهم مرينون. فلا وجه له؛ لأن أران لا يتعدى إلى مفعول لا تقول أران الرجل غنمه ولا أرن غنمك. وقوله فى الوجه الثانى: أرأن على وزن أعرن خطأ؛ لاجتماع همزتين فى كلمة إحداهما ساكنة، وإنما تقول فى الأمر من هذه اللفظة ائرن، بياء بعد همزة الوصل بدلا من الهمزة التى هى فاء الفعل؛ لأن المستقبل منها يأرن، والأمر إنما يكون فى الفعل المستقبل. قال المؤلف: وهذا الوجه أولى بالصواب والله أعلم فكأنه قال (صلى الله عليه وسلم) : أعجل وانشط فى الذبح؛ لأن السنة فيه سرعة الإجهاز على المذبوح بخلاف فعل الجاهلية فى تعذيب الحيوان، ويمكن أن يكون (أو) جاءت لشك المحدث فى أى اللفظين قال - عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 420 السلام - لتقاربهما فى المعنى أو تكون (أو) جاءت بمعنى الواو للتأكيد والله أعلم. وقول الخطابى: وأقرب من هذا كله: أن يكون أرز بالزاء، فلا وجه له؛ لعدم الرواية به. 8 - بَاب النَّحْرِ وَالذَّبْحِ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ: لا ذَبْحَ وَلا مَنْحَرَ، إِلا فِى الْمَذْبَحِ وَالْمَنْحَرِ، قُلْتُ: أَيَجْزِى مَا يُذْبَحُ أَنْ أَنْحَرَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، ذَكَرَ اللَّهُ ذَبْحَ الْبَقَرَةِ، فَإِنْ ذَبَحْتَ شَيْئًا يُنْحَرُ جَازَ، وَالنَّحْرُ أَحَبُّ إِلَىَّ، وَالذَّبْحُ قَطْعُ الأوْدَاجِ، قُلْتُ: فَيُخَلِّفُ الأوْدَاجَ حَتَّى يَقْطَعَ النِّخَاعَ؟ قَالَ: لا إِخَالُ. وَنَهَى ابْنَ عُمَرَ عَنِ النَّخْعِ، يَقُولُ: يَقْطَعُ مَا دُونَ الْعَظْمِ، ثُمَّ يَدَعُ حَتَّى الْمُوتَ،) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) [البقرة: 54] وَقَالَ: (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة: 71] وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: الذَّكَاةُ فِى الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ: إِذَا قَطَعَ الرَّأْسَ فَلا بَأْسَ. 2028 / فيه: أَسْمَاءَ، نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) فَرَسًا، فَأَكَلْنَاهُ. هكذا رواه جماعة عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء: (ذبحنا على عهد رسول الله فرسًا ونحن بالمدينة فأكلناه) ذكره البخارى. قال المؤلف: غرضه فى هذا الباب أن يبين أن ما يجوز فيه النحر يجوز ذبحه، وما يجوز فيه الذبح يجوز نحره، فأما البقر فالأئمة مجمعون على جواز النحر والذبح فيها، قال تعالى: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة (وروت عمرة عن عائشة أنها قالت: (دخل علينا يوم النحر بلحم، فقيل: نحر رسول الله عن أزواجه البقرة) فجاز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 421 فيها الوجهان: وأراد البخارى أن يريك أن الفرس مما يجوز فيه النحر والذبح، لما جاء فيه من اختلاف الرواية، وسأذكر اختلاف العلماء فى أكله فى باب بعد هذا إن شاء الله. واختلفوا فى ذبح ما ينحر من الإبل ونحر ما يذبح من الغنم، فأجاز أكثر الفقهاء أى ذلك فعل المذكي. قال ابن المنذر: روى ذلك عن عطاء، والزهرى، وقتادة. وقال أبو حنيفة والثورى والليث والشافعى نحو ذلك ويكرهونه، ولم يكرهه أحمد وإسحاق وأبو ثور، وهو قول عبد العزيز بن أبى سلمة فى ذبح الإبل أو نحر ما يذبح من طير أو غيره من غير ضرورة. وقال أشهب: إن ذبح بعيرًا من غير ضرورة لم يؤكل، واعتل أصحابه بأن النبى (صلى الله عليه وسلم) بين وجه الذكاة فنحر الإبل وذبح الغنم والطير، ولا يجوز تحويل شيء من ذلك عن موضعه مع القدرة عليه إلا بحجة واضحة. وقال ابن المنذر: لا أعلم أحدًا حرم أكل ما نحر مما يذبح، أو ذبح ما ينحر، وإنما كره ذلك مالك ولم يحرمه، وقد يكره المرء الشيء ولا يحرمه، وحجة الجمهور أنه لما جاز فى البقر والخيل الذبح والنحر، جاز ذلك فى كل ما تجوز تذكيته؛ ألا ترى قول ابن عباس: (الذكاة جائزة فى الحلق واللبة) ولم يخص شيئًا من ذلك دون شيء فهو عام فى كل ذى حلق وكل ذى لبة، والناس على هذا ولم يخالف ذلك غير مالك وحده. وأما قول ابن عباس: إن الذكاة فى الحلق واللبة. فمعناه: أن الذكاة لا تكون إلا فى هذين الموضعين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 422 وقال صاحب العين: اللبة واللب من الصدر: أوسطه، ولبة القلادة واسطتها. واختلف العلماء فيما يكون بقطعه من الحلقوم الذكاة. فقال بعض الكوفيين: إذا قطع ثلاثة من الأوداج جاز. والأوداج أربعة وهى: الحلقوم والمريء وعرقان من كل جانب عرق. وقال الثورى: إذا قطع الأوداج جاز وإن لم يقطع الحلقوم وحكى ابن المنذر عن محمد بن الحسن: إذا قطع الحلقوم والمريء وأكثر من نصف الأوداج ثم يدعها تموت فلا بأس بأكلها وأكره ذلك، فإن قطع أقل من نصف الأوداج فلا خير فيها. وقال مالك والليث: يحتاج أن يقطع الودجين والحلقوم، وإن ترك شيئًا منها لم يجز. ولم يذكر المريء. وقال الشافعى: أقل ما يجزىء من الذكاة قطع الحلقوم والمريء، وينبغى أن يقطع الودجين، فإن لم يفعل فيجزىء؛ لأنهما يسلان من البهيمة والإنسان ويعيشان. وقال ابن جريح: قال عطاء: الذبح: قطع الأوداج. قلت: فإن ذبح ذابح فلم يقطع أوداجها؟ فقال: ما أراه إلا قد ذكاها، فليأكلها. وروى يحيى عن ابن القاسم فى الدجاجة والعصفور والحمام، إذا أجيز على أوداجه ونصف حلقه أو ثلثه فلا بأس بذلك إلا أن يتعمد. وفى العتبية: فى سماع أبى زيد عن ابن القاسم عن مالك فيمن ذبح ذبيحة فأخطأ بالغلصمة أن تكون فى الرأس أنها لا تؤكل، وقاله أشهب وأضبغ وسحنون ومحمد بن عبد الحكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 423 قال ابن حبيب: إنما لم يؤكل؛ لأن الحلقوم إنما هو من العقدة إلى ما تحتها، وليس فوق العقدة إلى الرأس حلقوم، وإنما العقدة طرف الحلقوم، فمن جهل فذبح فوق العقدة لم يقطع الحلقوم، إنما قطع الجلدة المتعلقة بالرأس، فلذلك لم يؤكل. وأجاز أكلها ابن وهب فى العتبية، وأجازه أشهب وأبو مصعب وموسى بن معاوية من رواية ابن وضاح. وذكر ابن أبى زيد، عن أبى لبابة، عن محمد بن عبد الحكم أنها تؤكل. قال ابن لبابة على قياس قول القاسم: إذا جازت فى البدن وبقى فى الرأس منها مقدار حلقة الخاتم أنها تؤكل إلا أن يبقى فى الرأس منها ما لا يستدير فلا تؤكل. وحكى ابن المنذر عن أبى حنيفة أنه لا بأس بالذبح فى الحلق كله، أسفله وأوسطه وأعلاه. وقال ابن وضاح: سألت موسى بن معاوية عن هذه المسألة، فغضب وقال: هذه من مسائل المريسى وابن علية يخلطون على الناس دينهم. قد علم رسول الله أصحابه كل شيء حتى الخراءة أفكان يدعهم لا يعرفهم الذبح؟ قال موسى: لقد كتبت بالعراق نحوًا من مائة ألف حديث، وبمكة كذا وكذا ألف وبمصر نحوًا من أربعين ألف حديث ما سمعت لرسول الله ولا لأصحابه ولا للتابعين فيها شيئًا، وكان يحيى بن يحيى وأصحابه يقولون: ما نعرف العقدة، ما فرى الأوداج فكل. قال ابن وضاح: ثم بلغنى عن أبى زيد بن أبى الغمر أنه روى عن ابن القاسم، عن مالك كراهتها، فلما قدمت مصر سألته عنها، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 424 فأنكرها وقال: ما أعرف هذا. قلت له: فما تقول فى أكلها؟ قال: لا بأس بذلك. قال ابن وضاح: ولم تعرف العقدة فى أيام مالك، ولا أيام ابن القاسم، وإنما أول ما سمعوا بها أن عبد الله بن عبد الحكم ذبح شاة فطرحت العقدة إلى الجسد، فأمر بها أن تلقى، فبلغ ذلك أشهب فأنكره، وأجاز أكلها. وسئل عنها أبو مصعب بالمدينة، وذلك أن أهل المدينة يطرحون العقدة فى ذبائحهم إلى الجسد بمعنى الجلود، فأجاز ذلك، فقيل له: إذا طرحها إلى الجسد لم يذبح فى الحلق إنما يذبح فى الرأس، فانتهره الشيخ، وقال: مغاربة برابر يأتوننا يريدون أن يعملونا هذه دار السنة والهجرة، وبها كان المهاجرون والأنصار، فكانوا لا يعرفون الذبح؟ ولم يذكروا عقدة ولم يعبئوا بها. قال ابن وضاح: ثم سألت بمكة يعقوب بن حميد بن كاسب ولم أر بالحجاز أعلم بقول المدنيين منه فقال: لا بأس بها، فرددت عليه، فنزع بحديث عائشة: (أن ناسًا سألوا النبى (صلى الله عليه وسلم) أن ناسًا يأتوننا بلحمان لا ندرى أسموا الله عليها أم لا، فقال رسول الله: سموا وكلوا) فقال ابن كاسب: فهلا قال لهم رسول الله: انظروا إن كانوا يصيبون العقدة إن كان الذبح إنما هو فيها، ونزع بحديث عطاء بن يسار: أن امرأة كانت ترعىغنمًا فرأت بشاة موتها، فذكتها بشظاظ، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) - (ليس بها بأس فكلوها) فهلا قال لهم (صلى الله عليه وسلم) : انظروا أين طرحت العقدة، أو هل كانت هذه تعرف العقدة. قال ابن وضاح: ما فرى الأوداج، وقطع الحلقوم فكل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 425 وأما قوله: فنهى ابن عمر عن النخع، فقال أبو عبيدة: الفرس هو النخع، يقال منه: فرست الشاة ونخعتها وذلك أن ينتهى الذبح إلى النخاع، وهو عظم فى الرقبة. قال أبو عبيد: أما النخع فكما قال أبو عبيدة، وأما الفرس فقد خولف فيه فقيل: هو كسر رقبة الذبيحة. وممن كره نخع الشاة إذا ذبحت سوى ابن عمر: عمر بن الخطاب وقال: لا تعجلوا الأنفس حتى تزهق. وكرهه إسحاق. وكرهت ذلك طائفة، وأباحت أكله، هذا قول النخعى والزهرى ومالك وأبى حنيفة والشافعى وأحمد وأبى ثور. وقال ابن المنذر: ولا حجة لمن منع أكلها؛ لأن القياس أنها حلال بعد الذكاة، والنخع لا يحرم الذكي. أما إذا قطع الرأس فأكثر العلماء على إجازته، وممن روى عنه سوى من ذكره البخارى: على بن أبى طالب وعمران بن حصين: ومن التابعين: عطاء والنخعى والشعبى والحسن والزهرى، وبه قال مالك والكوفيون والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وكرهها ابن سيرين ونافع والقاسم وسالم ويحيى بن سعيد وربيعة، والصواب: قول من أجازها. وقد قال فيها على بن أبى طالب: هى ذكاة وحية. إلا أنهم اختلفوا إن قطع رأسها من قفاها، فأجازه الكوفيون والشافعى وإسحاق وأبو ثور، وكره ذلك ابن المسيب وقال: لابد فى الذبح من المذبح. وهو قول مالك وأحمد بن حنبل، وقالوا: فاعل هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 426 فاعل غير ما أمر به، فإذا ذبحها من مذبحها فسبقت يده فأبان الرأس فلا شىء عليه. 9 - باب: ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة 029 / فيه: أَنَسٍ أنَّهُ َرَأَى صبيانًا قد نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا، فَقَالَ أَنَسٌ: نَهَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ. 2030 / وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَغُلامٌ مِنْ بَنِى يَحْيَى رَابِطٌ دَجَاجَةً يَرْمِيهَا، فَمَشَى بها ابْنُ عُمَرَ حَتَّى حَلَّهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهَا وَبِالْغُلامِ مَعَهُ، فَقَالَ: ازْجُرُوا غُلامَكُمْ عَنْ أَنْ يَصْبِرَ هَذَا الطَّيْرَ لِلْقَتْلِ، فَإِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، نَهَى أَنْ تُصْبَرَ بَهِيمَةٌ، أَوْ غَيْرُهَا لِلْقَتْلِ، وَإِنَّ النَّبىِّ لَعَنَ مِنْ فَعَلَ هَذَا. 2031 / - وَقَالَ مرةً: لَعَنَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوَانِ. وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ، مثله. 2032 / وقال ابْن عُمَرَ أيْضًا: إن النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، نَهَى عَنِ النُّهْبَةِ وَالْمُثْلَةِ. قال أبو عبيد: قال أبو زيد وابن عمرو وغيرهما فى نهيه (صلى الله عليه وسلم) أن تصبر البهائم: هو الطائر وغيره من ذوات الروح، يصبر حيا ثم يرمى حتى يقتل وأصل الصبر: الحبس، وكل من حبس شيئًا فقد صبره. ومنه قيل للرجل يقدم فيضرب عنقه: قتل صبرًا. عنى: أمسك للموت. قال أبو عبيد: فأما المجثمة فهى المصبورة أيضًا، ولكنها لا تكون إلا فى الطير والأرانب وأشباه ذلك مما يجثم بالأرض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 427 قال ابن المنذر: وقال أحمد وإسحاق: لا تؤكل المصبورة والمجثمة. قال غيره: ولا أعلم أحدًا من العلماء أجاز أكل المصبورة وكلهم يحرمها؛ لأنه لا ذكاة فى المقدور عليه إلا فى الحلق واللبة. قال المهلب: وهذا إنما هو نهى عن العبث فى الحيوان وتعذيبه من غير مشروع. وأما تجثيمها للنحر وما شاكله فلا بأس به، وإنما يكره العبث لحديث شداد بن أوس أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) وكره أبو هريرة أن تحد الشفرة والشاة تنظر إليها، وروى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) رأى رجلا أضجع شاة، فوضع رجله على عنقها، وهو يحد شفرته فقال له (صلى الله عليه وسلم) : (ويلك، أردت أن تميتها موتات؟ هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها) وكان عمر بن الخطاب ينهى أن تذبح الشاة عند الشاة، وكرهه ربيعة أيضًا، ورخص فيه مالك. وقال الطبرى: فى نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن صبر البهائم الإبانة عن تحريم قتل ما كان حلالا أكله من الحيوان إذا كان إلى تذكيته سبيل، وذلك أن رامى الدجاجة بالنبل ومتخذها غرضًا قد تخطىء رميته موضع الذكاة فيقتلها، فيحرم أكلها، وقاتله كذلك غير ذابحه ولا ناحره، وذلك حرام عند جميع الأمة، ومتخذه غرضًا مقدم على معصية ربه من وجوه: منها: تعذيبه ما قد نهى عن تعذيبه، وتمثيله ما قد نهى عن التمثيل به، وإماتته بما قد يحظر عليه إصابته به، وإفساده من ماله ما كان له إلى إصلاحه والانتفاع به سبيل بالتذكية، وذلك من تضييع المال المنهى عنه. وقال ابن عمر: من اتخذ شيئًا ممن فيه الروح غرضًا لم يخرج من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 428 الدنيا حتى تصيبه قارعة. وقال عبد الله بن عمر وقد أبصر قومًا يفعلون ذلك بطائر: أما إنهم سيقادون لها. وذكر الطبرى عن قتادة، وعن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبى نهى عن المجثمة. قال: المجثمة التى التصقت بالأرض، وحبست على القتل والرمى، فإذا جثمت من غير أن يفعل ذلك بها فهى جاثمة. وفى كتاب الأفعال: قال: جثم على ركبتيه جثومًا. ومنه قوله تعالى: (فأصبحوا فى ديارهم جاثمين (. قال الطبرى: ويحتمل قوله (صلى الله عليه وسلم) عن المجثمة معنين: أحدهما: أن يكون نهيًا عن رميها بعد تجثيمها فيكون المعنى فيها النهى عن تعذيبها بالرمى والضرب. والثانى: أن يكون معنى النهى عنها عن أكل لحمها إذا هى ماتت بالضرب والرمى؛ لأنها إذا ماتت كذلك بعد أن تجثم، فهى ميتة؛ لأنها لا تجثم إلا بعد أن تصاد، ولو كانت هى الجاثمة من قبل نفسها، ولم يقدر على صيدها إلا بالرمى، فرماها ببعض ما يخرجها ليحبسها، فماتت من رميه كانت حلالا؛ لأنها حينئذ جاثمة لا مجثمة، وهى صيد صيد بما يصاد به الوحش. ونهيه (صلى الله عليه وسلم) عن المجثمة نظير نهيه عن المصبورة، غير أن التجثيم عند العرب هو فى الممتنعات من الوحش والطير الذى ينبذ بالأرض ويجثم بها، وأن الصيد المصبر يكون فى ذلك وغيره، فإن وجه موجه معنى نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن المجثمة بالمعنى الأول؛ كان ذلك نظير نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن صبر البهائم، وذلك نهى عن تعذيبها، وإن وجهه إلى المعنى الثانى، وهو النهى عن أكل لحمها إذا ماتت من الرمى؛ كان ذلك نظير نهيه تعالى عن المنخنقة والموقوذة والمتردية، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 429 وتحريمه أكلها إذا ماتت من ذلك، وإن جثمت فرست ولم تمت فذبحها مجثمها كان حلالا أكلها بالتذكية. - باب: الدجاج 033 / فيه: أَبُو مُوسَى رَأَيْتُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، يَأْكُلُ دَجَاجة. 2034 / - وَقَالَ زَهْدَمٍ الجرمى: كُنَّا عِنْدَ أَبِى مُوسَى، وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذَا الْحَىِّ مِنْ جَرْمٍ إِخَاءٌ، فَأُتِىَ بِطَعَامٍ فِيهِ لَحْمُ دَجَاجٍ، وَفِى الْقَوْمِ رَجُلٌ جَالِسٌ أَحْمَرُ، لَمْ يَدْنُ مِنْ طَعَامِهِ، فَقَالَ: ادْنُ، فَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَأْكُلُ مِنْهُ. قَالَ: إِنِّى رَأَيْتُهُ أَكَلَ شَيْئًا فَقَذِرْتُهُ. . . . فذكر الحديث. قال الطبرى: كان ابن عمر لا يأكل الدجاجة حتى يقصرها أيامًا؛ لأنها تأكل العذرة. قال غيره: وكان يتأول أنها من الجلالة التى نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن أكلها. روى سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) نهى عن الإبل الجلالة) وكان ابن عمر إذا أراد أن يأكل بيض الدجاجة قصرها ثلاثة أيام. وكره الكوفيون لحوم الإبل الجلالة حتى تحبس أيامًا. وقال الشافعى: أكرهه إذا لم تكن أكلته غير العذرة، أو كانت أكثر أكله، وإذا كان أكثر علفها غيره لم أكرهه. وقال مالك والليث: لا بأس بلحوم الجلالة كالدجاج، وما يأكل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 430 قال أبو حنيفة: الدجاجة تخلط، والدجاجة لا تأكل إلا العذرة وهى التى تكره. فالعلماء مجمعون على جواز أكل الجلالة. وقد سئل سحنون عن خروف أرضعته خنزيرة؟ فقال: لا بأس بأكله. قال الطبرى: والعلماء مجمعون على أن حملا أو جديًا غذى بلبن كلبة أو خنزيرة أنه غير حرام أكله، ولا خلاف أن ألبان الخنازير نجسة، كالعذرة. قال غيره: والمعنى فيه أن لبن الخنزيرة لا يدرك فى الخروف إذا ذبح بذوق ولا شم ولا رائحة، فقد نقله الله وأحاله كما يحيل الغذاء، فإنما حرم الله أعيان النجاسات المدركات بالحواس، فالدجاجة والإبل الجلالة وما شاكلها لا يوجد فيها أعيان العذرات، وليس ذلك بأكثر من النبات الذى ينبت فى العذرة، وهو طاهر حلال بإجماع، ولا يخلو الزرع من ذلك. وإنما النهى عن الجلالة من جهة التقذر والتنزه لئلا يكون الشأن فى علف الحيوان النجاسات، والنهى عن الجلالة ليس بقوى الإسناد. - باب: لحوم الخيل 035 / فيه: أَسْمَاءَ، قَالَتْ: نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَأَكَلْنَاهُ. 2036 / وفيه: جَابِر، نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، وَرَخَّصَ فِى لُحُومِ الْخَيْلِ. اختلف العلماء فى أكل لحوم الخيل، فكرهه مالك وأبو حنيفة والأوزاعي. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعى: حلال أكلها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 431 واحتج من كره أكلها بما رواه ثور بن يزيد عن صالح بن يحيى بن المقدام، عن أبيه، عن جده، عن خالد بن الوليد (أن رسول الله نهى عن لحوم الخيل والبغال والحمير) . قالوا: ومن جهة النظر أنه لو كانت الخيل تؤكل لوجب أن يؤكل أولادها، فلما اتفقنا على أن الأم إذا كانت من الخيل والأب حمار لم يؤكل ما تولد منهما، علمنا أن الخيل لا تؤكل؛ ألا ترى أن ولد البقرة يتبع أمه فى جواز الأضحية به، وإن كان أبوه وحشيا فلو كانت الخيل تؤكل تبع الولد أمه فى ذلك. واحتج الذين أجازوا أكلها بتواتر الأخبار فى ذلك، وأن أحاديث الإباحة أصح من أحاديث النهي. قالوا: ولو كان ذلك مأخوذًا من طريق النظر لما كان بين الخيل الأهلية والحمر الأهلية فرق، ولكن الآثار عن النبى إذا صحت أولى أن يقال بها من النظر، لا سيما وقد أخبر جابر فى حديثه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أباح لهم لحوم الخيل فى وقت منعه إياهم لحوم الحمر، فدل ذلك على اختلاف حكم لحومها قاله الطحاوى. - بَاب لُحُومِ الْحُمُرِ الإنْسِيَّةِ فِيهِ سَلَمَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) 037 / فيه: ابْن عُمَرَ نَهَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 432 38 / وفيه: عَلِىّ، نَهَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْمُتْعَةِ عَامَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الإنْسِيَّةِ. 2039 / وفيه: جَابِر، نَهَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، وَرَخَّصَ فِى لُحُومِ الْخَيْلِ. 2040 / وفيه: الْبَرَاءِ، وَابْنِ أَبِى أَوْفَى نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ. 2041 / وفيه: أَبُو ثَعْلَبَةَ، قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لُحُومَ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ. رواه صالح والزُّبَيْدِىّ وَعُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَمَعْمَرٌ وَالْمَاجِشُونُ وَيُونُسُ وَابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِىِّ: نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ كُلِّ ذِى نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ. 2042 / وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، جَاءَهُ جَاءٍ، فَقَالَ: أُكِلَتِ الْحُمُرُ، ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ، فَقَالَ: أُفْنِيَتِ الْحُمُرُ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا، فَنَادَى فِى النَّاسِ: (إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ، فَإِنَّهَا رِجْسٌ) ، فَأُكْفِئَتِ الْقُدُورُ، وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ. 2043 / وفيه: عَمْرو، قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، نَهَى عَنْ لحم الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ. فَقَالَ: قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَاكَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِىُّ عِنْدَنَا بِالْبَصْرَةِ، وَلَكِنْ أَبَى ذَاكَ الْبَحْرُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَرَأَ: (قُلْ لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا (الآية [الأنعام: 145] . قال المؤلف: فقهاء الأمصار مجمعون على تحريم الحمر، وروى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 433 خلاف ذلك عن ابن عباس فأباح أكلها، وروى مثله عن عائشة، والشعبي. وقد روى عنهم خلافه. قال الطحاوى، وقد افترق الذين أباحوا أكل الحمر على مذاهب فى معنى نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن أكلها، فقال قوم: إنما نهى رسول الله عنها إبقاء على الظهر ليس على وجه التحريم. ورووا فى ذلك حديث يحيى بن سعيد، عن الأعمش قال: حدثت عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال: قال ابن عباس: (ما نهى رسول الله يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية إلا من أجل أنها ظهر) وابن جريح، عن نافع، عن ابن عمر قال: (نهى رسول الله عن أكل الحمار الأهلى يوم خيبر، وكانوا قد احتاجوا إليها) . قال الطحاوى: فكان من الحجة عليهم أن جابرًا قد أخبر أن النبى أطعمهم يومئذ لحوم الخيل، ونهاهم عن لحوم الحمر، فهم كانوا إلى الخيل أحوج منهم إلى الحمر. فدل تركه منعهم أكل لحوم الخيل أنهم كانوا فى بقية من الظهر، ولو كانوا فى قلة منه حتى احتيج لذلك أن يمنعوا من أكل لحوم الحمر لكانوا إلى المنع من أكل لحوم الخيل أحوج؛ لأنهم يحملون على الخيل كما يحملون على الحمر، ويركبون الخيل بعد ذلك لمعان لا يركبون لها الحمر، فدل أن العلة التى ذكروها ليست هى علة منعها. وقال آخرون: إنما منعوا منها لأنها كانت تأكل العذرة، ورووا فى ذلك حديث شعبة عن الشيبانى قال: (ذكرت لسعيد بن جبير حديث ابن أبى أوفى وأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بإكفاء القدور يوم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 434 خيبر، فقال: إنما نهى عنها، لأنها كانت تأكل العذرة) فكان من الحجة عليهم فى ذلك أنه لو لم يكن جاء فى هذا إلا الأمر بإكفاء القدور لاحتمل ما قالوا، ولكن قد جاء هذا وجاء النهى فى ذلك مطلقًا؛ حدثنا على بن معبد حدثنا شبابة بن سوار، حدثنا أبو زيد عبد الله بن العلاء، حدثنا مسلم بن مشكم كاتب أبى الدرداء قال: سمعت أبا ثعلبة الخشنى يقول: (أتيت النبى (صلى الله عليه وسلم) فقلت: يا رسول الله، حدثنى ما يحل لى مما يحرم عليّ فقال: لا تأكل الحمار الأهلى، ولا كل ذى ناب من السباع) فكان كلام الرسول فى هذا الحديث جوابًا لسؤال أبى ثعلبة إياه عما يحل له مما يحرم عليه، فدل ذلك أن نهيه (صلى الله عليه وسلم) عنها لا لعلة تكون فى بعضها دون بعض من أكل العذرة وشبهها ولكن لها فى أنفسها. وقال قوم: إنما نهى عنها رسول الله؛ لأنها كانت نهبة، واحتجوا بما روى يحيى بن أبى كثير عن النحاز الحنفى، عن سنان بن سلمة، عن أبيه (أن النبى - (صلى الله عليه وسلم) - مر يوم خيبر بقدور فيها الحمر حمر الناس فأمر بها فأكفئت، فكان من الحجة عليهم فى ذلك أن قوله: (حمر الناس) يحتمل أن تكون نهبوها من الناس، ويحتمل أن تكون نسبتها إلى الناس؛ لأنهم يركبوها فيكون وقع النهى عنها؛ لأنها أهلية لا لغير ذلك. وقد بين أنس فى حديثه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لهم: (أكفئوها، لأنها رجس) فدل أن النهى وقع عنها لأنها رجس لا لأنها نهبة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 435 وروى سلمة بن الأكوع أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لهم: (أكفئوا القدور واكسروها. قالوا: يا رسول الله أو نغسلها قال: (أو ذاك) فدل ذلك على أن النهى كان لنجاسة لحومها، لا لأنها نهبة؛ ألا ترى لو أن رجلا غصب شاة فذبحها وطبخ لحمها أن قدره التى طبخ فيها لا تنجس وأن حكمها حكم ما طبخ فيه لحم غير مغصوب، فدل أمره بغسلها على نجاسة ما طبخ فيها، وعلى أن الأمر بطرح ما كان فيها لنجاسته، وكذلك من غصب شاة فذبحها وطبخها أنه لا يؤمر بطرح لحمها فى قول أحد من الناس، فلما انتفى أن يكون نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن أكل لحوم الحمر بمعنى من هذه المعانى التى ادعاها الذين أباحوا لحمها، ثبت أن نهيه كان عنها فى أنفسها. فإن قيل: فقد رويتم عن ابن عباس ما احتج به من قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرمًا (الآية. قيل له: ما قاله رسول الله أولى مما قاله ابن عباس، وما قاله رسول الله هو مستثنى من الآية، وعلى هذا ينبغى أن يحمل ما جاء عن رسول الله مجيئًا متواترًا فى الشيء المقصود إليه بعينه مما قد أنزل الله فى كتابه آية مطلقة على ذلك الجنس، فيكون ما جاء عنه (صلى الله عليه وسلم) مستثنى من تلك الآية غير مخالف لها، حتى لا يضاد االقرآن السنة، ولا السنة القرآن. قال غيره: وأما حديث أبى ثعلبة فلا يصح فيه تحريم الحمر، إنما يصح فيه ما رواه مالك عن ابن شهاب أن النبى (صلى الله عليه وسلم) نهى عن أكل كل ذى ناب من السباع، ومن ذكر فيه بهذا الإسناد الحمر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 436 فقد وهم؛ لأن مالكًا ومعمرًا وابن الماجشون، ويونس ابن يزيد أثبت فى ابن شهاب من صالح بن كيسان والزبيدى وعقيل. - باب: أكل كل ذى ناب من السباع 044 / فيه: أَبُو ثَعْلَبَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِى نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ. اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فذهب الكوفيون والشافعى إلى أن النهى فيه على التحريم، ولا يؤكل ذو الناب من السباع ولا ذو المخلب من الطير، ولا تعمل الذكاة عند الشافعى فى جلود السباع شيئًا، ولا يجوز الانتفاع بها إلا أن تدبغ. وذكر ابن القصار أن الذكاة عاملة فى جلودها عند مالك وأبى حنيفة، فإن ذكى سبع فجلده طاهر، يجوز أن يتوضأ فيه، ويجوز بيعه وإن لم يدبغ، والكلب منها، إلا الخنزير خاصة. والشافعى يحلل من السباع الضبع والثعلب خاصة، وقال ابن القصار: إن محمل النهى فى هذا الحديث عن أكل ذى ناب من السباع عند مالك على الكراهية لا على التحريم. قال: والدليل على أن السباع ليست بمحرمة كالخنزير اختلاف الصحابة فيها، وقد كان ابن عباس وعائشة إذا سئلا عن أكلها احتجا بقوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرمًا (الآية. ولا يجوز أن يذهب التحريم على مثل ابن عباس وعائشة مع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 437 مكانهما من رسول الله ويدركه غيرهما. ولا يجوز أن ينسخ القرآن بالنسبة إلا بتاريخ متفق عليه، فوجب مع هذا الخلاف ألا نحرمها كالميتة، ونكرهها؛ لأنه لو ثبت تحريمها لوجب نقله من حيث يقطع العذر. وقد روى عن الرسول أنه أجاز أكل الضبع وهو ذو ناب. فبان بهذا أنه (صلى الله عليه وسلم) أراد بتحريم كل ذى ناب من السباع الكراهية. وقال الكوفيون والشافعى: ليس فى قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه (حجة لمن خالفنا؛ لأن سورة الأنعام مكية، وقد نزل بعد هذا قرآن فيه أشياء محرمات، ونزلت سورة المائدة بالمدينة وهى من آخر ما نزل، وفيها تحريم الخمر وتحريم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة. وحرم رسول الله من البيوع أشياء كثيرة. ونهيه (صلى الله عليه وسلم) عن أكل ذى ناب من السباع كان بالمدينة؛ لأنه رواه عنه متأخرو أصحابه: أبو هريرة، وأبو ثعلبة، وابن عباس. وقد حرم رسول الله نكاح المرأة على عمتها وخالتها، ولم يقل أحد من العلماء أن قوله: (وأحل لكم ما وراء ذلكم (يعارض ذلك؛ بل جعلوا نهيه عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها زيادة بيان على ما فى الكتاب. واختلفوا هل المراد بالنهى عن أكل كل ذى ناب من السباع جميعها أو بعضها، فقال الشافعى: إنما أراد رسول الله بالنهى ما كان يعدو على الناس، ويفترس مثل الأسد، والذئب، والنمر، والكلب العادى وشبهه مما فى طبعه فى الأغلب أن يعدو، وما لم يكن يعدو فلم يدخل فى النهى فلا بأس بأكله واحتج بحديث الضبع فى إباحة أكلها، وأنها سبع. ولابن حبيب شيء نحو هذا، قال فى جلود السباع العادية: إن ذكيت فلا تباع ولا يصلى عليها، وينتفع بها فى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 438 غير ذلك، وأما السبع الذى لا يعدو إذا ذكى جاز بيعه ولباسه والصلاة عليه. وعند الكوفيين النهى فى ذلك على العموم، فلا يحل عندهم أكل شيء من سباع الوحش كلها ولا الهر الوحشى ولا الأهلى؛ لأنه سبع، ولا الضبع ولا الثعلب؛ لعموم نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن أكل كل ذى ناب من السباع. قالوا: فما دخل عليه اسم (سبع) فهو داخل تحت النهي. قالوا: وليس حديث الضبع مما يعارض به حديث النهى؛ لأنه انفرد به عبد الرحمن بن أبى عمار عن جابر، وليس بمشهور بنقل العلم ولا هو حجة إذا انفراد فكيف إذا خالفه من هو أثبت منه؟ وقد قال سعيد بن المسيب: إن الضبع لا يصلح أكلها. وهو قول الليث. وقال ابن شهاب: الثعلب سبع لا يؤكل. ومالك يكره أكل ما يعدو من السباع وما لا يعدو من غير تحريم. ومن أجاز من السلف أكل الضبع والثعلب، روى عن ابن عمر بن الخطاب أنه كان لا يرى بأسًا بأكل الضبع ويجعلها صيدًا. وعن على بن أبى طالب، وسعد بن أبى وقاص، وجابر، وأبى هريرة مثله. وقال عكرمة: لقد رأيتها على مائدة ابن عباس. وبه قال عطاء، ومالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأجاز الثعلب: طاوس وقتادة واحتجا بأنه يؤذى، وقالا: كل شيء يؤذى فهو صيد. وأما الضب فقد ثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) جواز أكله. وقال ابن مسعود: لا بأس بأكل الوبر، وهو عندى مثل الأرنب؛ لأنه يغتذى البقول والنبات. وأجاز أكله طاوس، وعطاء. وأجاز عروة وعطاء اليربوع، وكره الحسن أكل الفيل؛ لأنه ذو ناب، وأجاز أكله أشهب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 439 واختلفوا فى سباع الطير فروى ابن وهب عن مالك أنه قال: لم أسمع أحدًا من أهل العلم قديمًا ولا حديثًا بأرضنا ينهى عن أكل كل ذى مخلب من الطير، وقال أبو حنيفة والشافعى: لا يؤكل. ورووا فى ذلك حديث شعبة، عن الحكم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) (أنه نهى عن أكل كل ذى ناب من السباع ومخلب من الطير) ودفع أصحاب مالك هذا الحديث وقالوا: لا يثبت. وقد أوقفه جماعة على ابن عباس ولم يسمعه منه ميمون، وإنما رواه عن سعيد بن جبير عنه. وقد روى عن ابن عباس خلافه، وما يدل على أنه ليس عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وإنما هو قول لابن عباس ثم رجع عنه. وقد روى عمرو بن دينار، عن أبى الشعثاء، عن ابن عباس أنه قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرًا، فبعث الله نبيه، وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه، وما سكت عنه يعنى لم ينزل فيه شيء فهو معفو وتلا: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرمًا (الآيتين. فإن صح حديث النهى فيجوز أن يكون نهى عنها؛ لأن النفس تعافها لأكلها الأنجاس فى الأغلب، والله أعلم. - باب: جلود الميتة 045 / فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ: (هَلا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا) ، قَالُوا: إِنَّهَا مَيِّتَةٌ، قَالَ: (إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا) . لم يذكر صالح بن كيسان فى حديث ابن شهاب الدباغ، وتابعه مالك، ومعمر، ويونس. وقد ذكر ابن عيينة، والأوزاعى، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 440 والزبيدى، وعقيل، عن ابن شهاب (الدباغ) فى هذا الحديث. وذكر الدباغ فى حديث ابن عباس من رواية ابن وعلة وعطاء عن ابن عباس ثابت محفوظ، فمعنى قوله: (هلا استمتعتم بإهابها) يعنى: بعد الدباغ؛ لأنه معلوم أن تحريم الميتة قد جمع إهابها وعصبها ولحمها، فإنما أباح الانتفاع بجلدها بعد دباغه بدليل ابن وعلة عن ابن عباس: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) وبدليل حديث عائشة: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر أن يستمتع بجلد الميتة إذا دبغ) وذكره مالك فى الموطأ، وعلى هذا جمهور العلماء وأئمة الفتوى. وذكر ابن القصار أن هذا آخر قول مالك. وهو قول أبى حنيفة والشافعي. وفى المسألة قول ثان. روى عن ابن شهاب أنه أجاز الانتفاع بجلود الميتة قبل الدباغ مع كونها نجسة. وفيها قول ثالث ذهب إليه أحمد بن حنبل وهو فى الشذوذ قريب من الذى قبله ذهب إلى تحريم الجلد وتحريم الانتفاع به قبل الدباغ وبعده، واحتج بحديث شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن عبد الله بن عكيم: قرىء علينا كتاب رسول الله: (لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) . ولمالك قول آخر فيه شبه من قول أحمد وليس به، وهو أن جلود الميتة لا تطهر بالدباغ، ولكنه أجاز استعمالها فى الأشياء اليابسة وفى الماء خاصة من بين سائر المائعات فخالفه فى استعمالها. وفيها قول آخر قاله الأوزاعى وأبو ثور قالا: يطهر جلد ما يؤكل لحمه بالدباغ دون ما لا يؤكل. ذكره ذلك ابن القصار. وحجة القول الأول الذى عليه الجمهور أنه معلوم أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا دبغ الإهاب) هو ما لم يكن طاهرًا من الأهب كجلود الجزء: 5 ¦ الصفحة: 441 الميتات وما لم تعمل فيه الذكاة من الدواب والسباع؛ لأن الطاهر لا يحتاج إلى الدباغ للتطهير، ومحال أن يقال فى الجلد الطاهر: إذا دبغ فقد طهر. وفى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) نص ودليل، فالنص منه طهارة الإهاب بالدباغ والدليل منه أن كل إهاب لم يدبغ فليس بطاهر، وإذا لم يكن طاهرًا فهو نجس، والنجس محرم، وإذا كان ذلك كذلك كان هذا الحديث مبينًا لحديث ابن عباس، وبطل بنصه قول من قال: إن جلد الميتة لا ينتفع به بعد الدباغ، وهو قول أحمد وما ضارعه، وبطل بالدليل منه قول من قال: إن جلد الميتة إن لم يدبغ ينتفع به، وهو قول الزهري. قال أبو عبد الله المروزى: وما علمت أحدًا قال هذا القول بعد الزهري. وقال الطحاوى: لم نجد عن أحد من الفقهاء جواز جلد الميتة قبل الدباغ إلا عن الليث رواه عنه ابن وهب. قال ابن القصار: وإنما اعتمد الزهرى فى ذلك على روايته فى حديث ابن عباس: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (ما على أهلها لو أخذوا إهابها فانتفعوا به) ولم يذكر (فدبغوه) قال: فدل أنه يجوز الانتفاع به قبل الدباغ، فيقال: قد روى عنه ابن عيينة والأوزاعى وغيرهم الحديث، وقالوا فيه: (فدبغوه وانتفعوا به) فإذا كان الزهرى الراوى للحديثين أخذنا بالزائد منهما، ومن أثبت شيئًا حجة على من قصر عنه ولم يحفظه. وأيضًا فإن الدباغ قد جاء من طرق متواترة عن ابن عباس، عن النبى (أنه مر بشاة مطروحة من الصدقة، فقال: أفلا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به) . وروى الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 442 عن عائشة قالت: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) -: (دباغ جلد الميتة ذكاته) . قال الطحاوى: وأما حديث ابن عكيم الذى أخذ به أحمد بن حنبل فيحتمل ألا يكون مخالفًا لأحاديث الدباغ، ويكون معناه: لا تنتفعوا به ما دام ميتة غير مدبوغ؛ فإنه قد كان (صلى الله عليه وسلم) سئل عن الانتفاع بشحم الميتة، فأجاب فيها مثل هذا. وروى ابن وهب، عن زمعة بن صالح، عن أبى الزبير، عن جابر: (أن ناسًا أتوا النبى (صلى الله عليه وسلم) فقالوا: يا رسول الله، إن سفينة لنا انكسرت، وإنا وجدنا ناقة سمينة ميتة، فأردنا أن ندهن بها. فقال رسول الله: لا تنتفعوا بشىء من الميتة) فأخبر جابر بالسؤال الذى كان قول النبى: (لا تنتفعوا من الميتة) جوابًا له أن ذلك كان على النهى عن الانتفاع بشحومها، فأما ما دبغ منها وعاد إلى معنى الإهاب فإنه مطهر بذلك على ما تواترت به الآثار، وعلى هذا لا تتضاد الآثار. قال المهلب: وحجة مالك فى كراهية الصلاة عليها وبيعها وتجويز الانتفاع بها فى بعض الأشياء أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أهدى حلة من حرير لعمر، وقال: (لم أعطكها لتلبسها، ولكن لتبيعها أو تكسوها) فأباح له (صلى الله عليه وسلم) التصرف فى الحلة فى بعض الوجوه، فكذلك جلد الميتة يجوز الانتفاع به فى بعض الوجوه دون بعض. قال ابن القصار: وأما قول الأوزاعى وأبى ثور أنه يطهر جلد ما يؤكل لحمه دون ما لا يؤكل، واحتجوا بما رواه أبو المليح الهذلى عن أبيه (أن النبى نهى عن افتراش جلود السباع) ولم يفرق بين أن تكون مدبوغة أو غير مدبوغة، وقال (صلى الله عليه وسلم) : (دباغ الأديم ذكاته) فأقام الدباغ مقام الذكاة، وأنه يعمل عملها، فلما لم تعمل الذكاة فيما لا يؤكل لحمه لم يعمل الدباغ فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 443 والحجة عليهما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أيما إهاب دبغ فقد طهر) وإنما نهى عن افتراش جلود السباع التى لم تدبغ. وأما قولهم إن الذكاة لا تعمل فى السباع. فإنها تعمل فيها، ويستغنى فيها عن الدباغ، إلا الخنزير وإنما لم يعمل فيه لأنه محرم العين، وحكى عن أبى يوسف وأهل الظاهر أن جلد الخنزير يطهره الدباغ، وهو قول سحنون ومحمد بن عبد الحكم، واحتجوا بعموم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أيما إهاب دبغ فقد طهر) والصواب قول الجمهور. والفرق بين الخنزير وغيره أن النص ورد بتحريمه، والإجماع حاصل على المنع من اقتنائه فلم تعمل الذكاة فى لحمه ولا جلده، فكذلك الدباغ لا يطهر جلده. وأجاز مالك والكوفيون الخرازة بشعره، ومنع ذلك الشافعى لتحريم عينه. - باب: المسك 046 / - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ إِلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَلْمُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ) . 2047 / وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ، إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ، إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً) . قال المؤلف: إنما أدخل المسك فى هذا الباب ليدل على تحليله إذ أصله التحريم؛ لأنه دم، فلما تغير عن الحالة المكروهة عن الدم، وهو الزهم وبفيح الرائحة صار حلالا بطيب الرائحة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 444 وانتقلت حاله وكانت حاله كحال الخمر تتحلل، فتحل بعد أن كانت حرامًا بانتقال الحال، وأصل هذا فى كتاب الله تعالى فى قصة موسى: (فألقاها فإذا هى حية تسعى قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى (فحكم لها بما انقلبت إليه وأسقط عنها حكم ما انقلبت عنه. قال: وحديث أبى موسى حجة فى طهارة المسك؛ لأنه لا يجوز حمل النجاسة، ولا يأمر (صلى الله عليه وسلم) بذلك، فدل على طهارته، وجل العلماء على هذا. قال ابن المنذر: وممن أجاز الانتفاع بالمسك: على بن أبى طالب وابن عمر وأنس بن مالك وسلمان، ومن التابعين: سعيد بن المسيب وابن سيرين وجابر بن زيد، ومن الفقهاء: مالك والليث والشافعى وأحمد وإسحاق. وخالف ذلك آخرون، ذكر ابن أبى شيبة عن عمر بن الخطاب أنه كره المسك، وقال: لا تحنطونى به. وكرهه عمر بن عبد العزيز وعطاء والحسن ومجاهد والضحاك. وقال أكثرهم: لا يصلح للحى ولا للميت؛ لأنه ميتة، وهو عندهم بمنزلة ما قطع من الميتة. قال ابن المنذر: ولا يصح ذلك إلا عن عطاء وهذا قياس غير صحيح؛ لأن ما قطع من الحى يجرى فيه الدم، وهذا ليس سبيل نافجة المسك؛ لأنها تسقط عند الاحتكاك لسقوط الشعر. وقد روى أبو داود قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا المستمر بن الريان، عن أبى نضرة، عن أبى سعيد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 445 الخدرى قال: قال رسول الله: (أطيب طيبكم المسك) وهذا نص قاطع للخلاف. قال ابن المنذر: وقد روينا عن النبى بإسناد جيد أنه كان له مسك يتطيب به. وقوله: (يحذيك) يعنى: يعطيك. تقول العرب: حذوته، وأحذيته: إذا أعطيته. والاسم: الحذيا مقصور. - باب: الأرنب 048 / فيه: أَنَس، أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا، وَنَحْنُ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغِبُوا، فَأَخَذْتُهَا، فَجِئْتُ بِهَا إِلَى أَبِى طَلْحَةَ، فَذَبَحَهَا، فَبَعَثَ بِوَرِكَيْهَا - أَوْ قَالَ بِفَخِذَيْهَا - إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَبِلَهَا. الأرنب أكلها حلال عند جمهور العلماء، وذكر عبد الرزاق، عن عمرو بن العاص أنه كرهها، وذكر الطبرى عن عبد الله بن عمر وابن أبى ليلى أنهما كرهاها، وعلتهم فى ذلك ما روى عن عبد الله بن عمرو أنه قال: (كنت قاعدًا عند النبى فجيء بها إليه، فلم يأمر بأكلها ولم ينه عنها، وزعم أنها تحيض) . قال الطبرى: وروى عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: سأل رجل أبى عن الأرنب أيحل أكلها؟ قال: وما الذى يحرمها؟ قال: زعموا أنها تطمث كما تطمث المرأة. فقال: هل يعلم متى تطهر؟ قال: لا. قال: فإن الذى يعلم متى طمثها يعلم متى طهرها، وإنها فإنما هى حاملة من الحوامل، إن الله لم يرد شيئًا نسيه، فما قال الله ورسوله فهو كما قالا، وما لم يقولاه فعفو من الله. قال المؤلف: وهذا مثل ما كره رسول الله الضب ولم يحرمه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 446 - باب الضب 049 / فيه: ابْن عُمَرَ، قال: قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (الضَّبُّ لَسْتُ آكُلُهُ، وَلا أُحَرِّمُهُ) . 2050 / وفيه: خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بَيْتَ مَيْمُونَةَ، فَأُتِىَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدِهِ، فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ: أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ، فَقَالُوا: هُوَ ضَبٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَقُلْتُ أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (لا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِى، فَأَجِدُنِى أَعَافُهُ) . قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ، فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَنْظُرُ. قال الطبرى: قال بهذا الخبر جماعة من السلف وأحلوا أكل الضب، روى ذلك عن عمر بن الخطاب وعائشة وابن مسعود، وقال أبو سعيد الخدرى: إن كان أحدنا لتهدى إليه الضب المكونة أحب إليه من أن تهدى إليه الدجاجة السمينة. رووى عن ابن سيرين، وهو قول مالك والأوزاعى والشافعي. وقال الكوفيون: أكلها مكروه وليست بحرام، وروى هذا القول عن أبى هريرة. وقال آخرون: أكل الضب حرام، واعتلوا بحديث الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن حسنة قال: (كنا مع النبى (صلى الله عليه وسلم) فنزلنا أرضًا كثيرة الضباب، فذبحنا منها، فبينما القدور تغلى خرج علينا رسول الله، فقال: إن أمة من بنى إسرائيل مسخت، وإنى أخشى أن تكون هذه. فأمرنا فأكفأناه وإنا لجياع) وروى سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) بعث إليه بضب، فأبى أن يأكله، فقلت: ألا أطعمه السؤال؟ فقال: لا تطعميهم مما لا نأكل منه) قالوا: والأخبار بالنهى عن أكلها صحيحة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 447 وروى عبد الرحمن البياضى، عن الحارث، عن على أنه نهى عن الضب. والصواب فى ذلك قول من قال: إنه حلال؛ للخبر الصحيح عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه أكل على مائدته وبحضرته. ولو كان حرامًا لم يترك (صلى الله عليه وسلم) أحدًا ياكله؛ إذ غير جائز أن يرى (صلى الله عليه وسلم) منكرًا ولا يغيره، ولا يقر أحدًا على انتهاك شيء من محارم الله، فدل أنه إنما تركه؛ لأنه عافه كما قال عمر، ولم يأت خبر صحيح بتحريمه، بل قال له عمر: (أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا) . وقد روى الثورى، عن علقمة بن مرثد، عن المغيرة بن عبد الله اليشكرى، عن المعرور بن سويد، عن أبى مسعود (أن النبى - (صلى الله عليه وسلم) - سألته أم حبيبة فقالت: يا رسول الله، القردة والخنازير الذين مسخوا؟ قال: إن الله لم يهلك - أو لم يمسخ - قومًا فيجعل لهم عاقبة ولا نسلا) . قال الطحاوى: فبين الرسول فى هذا الحديث: أن المسوخ لا يكون لها نسل ولا عقب، فعلمنا بذلك أن الضب لو كان مسخًا لم يبق. وروى عن ابن عباس أنه قال: لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب. وأما حديث الأسود عن عائشة، فلا حجة لهم فيه؛ لأنه يجوز أن يكون كره لها أن تطعمه؛ لأنها عافته، وكان ما تطعمه للسائل إنما هو لله تعالى فأراد (صلى الله عليه وسلم) أن يكون ما يتقرب به إلى الله من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 448 خير الطعام، كما نهى أن يتصدق بالبر والتمر الرديئين وفى ذلك نزل: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون (وبقول مالك قال الطحاوي. قال الطبرى: وليس فى الحديث أنه (صلى الله عليه وسلم) قطع أن الضب من الأمة التى مسخت بأعيانها، وإنما قال: أخشى أن تكون هذه، أو أخشى أن تكون مسخت على صورة هذه وخلقتها، لا أنها بعينها، فكرهها لشبهها فى الخلقة والصورة خلقًا غضب الله عليه فغيره عن صورته وهيئته، وعلى هذا التأويل يصح معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) أن المسخ لا يعقب، ومعنى قول ابن عباس أن المسخ لا يعيش أكثر من ثلاثة، إذ لم يمسخ الله تعالى خلقًا من خلقه على صورة دابة من الدواب إلا كره إلى نبينا وأمته أكل لحم تلك الدابة، أو حرمه لتحريمه عليهم أكل لحوم الخنازير التى مسخت على صورتها أمة من اليهود، وكتحريمه لحم القردة التى مسخت على صورتها منهم أمة أخرى. غير أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اخشى أن تكون هذه) بيان واضح أنه لم يتبين أن الضب من نوع الأمة التى مسخت، ولذلك لم يحرمها، ولو تبين له منها ما تبين من القردة والخنازير لحرمها، ولكنه (صلى الله عليه وسلم) رأى خلقًا مشكلا يشبه المسوخ فكرهه ولم يحرمه؛ إذ لم يأته وحى من الله بذلك. قال غيره: وفيه من الفقه أنه يجوز للمرء أن يترك أكل ما هو حلال إذا لم يجر له بأكله عادة، ويكون فى سعة من ذلك. وقوله: (فأجدنى أعافه) يقال: عاف الطعام يعافه عيافًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 449 وعيوفًا: إذا كرهه. المحنوذ: المشوى، فى التنزيل: (جاء بعجل حنيذ (أى: محنوذ، حنذت اللحم حنذًا: شويته. - باب: إذا وقعت الفأره فى السمن الجامد أو الذائب 051 / فيه: ابْن عَبَّاس، وَمَيْمُونَةَ، أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِى سَمْنٍ فَمَاتَتْ، فَسُئِلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْهَا، فَقَالَ: (أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ) . قيل لسفيان: فإن معمرًا يحدثه، عن االزهرى، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة. قال: ما سمعت الزهرى يقول إلا عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ولقد سمعته منه مرارًا. وسئل ابن شهاب عن الدابة تموت فى الزيت أو السمن وهو جامد أو غير جامد، الفأرة أو غيرها. قال: بلغنا أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر بفأرة ماتت فى سمن فأمر بما قرب منها فطرح، ثم أكل. عن حديث عبيد الله بن عبد الله. توقف البخارى فى إسناد معمر، عن الزهرى، عن سعيد، عن أبى هريرة؛ لأنه انفرد به معمر، عن الزهرى، وأما حديث الزهرى، عن عبيد الله، عن ابن عباس فرواه جماعة أصحاب ابن شهاب عنه بهذا الإسناد، وقد صحح الذهلى الإسنادين جميعًا عن ابن عباس، وإنما لم يدخل البخارى فى الحديث قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وإن كان مائعًا فلا تقربوه) لأنه من رواية معمر، عن الزهرى، واستراب انفراد معمر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 450 وفى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ألقوها وما حولها) دليل أن السمن كان جامدًا، لأنه لا يتمكن طرح ما حولها فى الذائب المائع؛ لأن فى الحركة يسرح بعضه بعضًا. والعلماء مجمعون أن هذا حكم السمن الجامد تقع فيه الميتة أنها تلقى وما حولها ويؤكل سائره؛ لأن رسول الله حكم للسمن الملاصق للفأرة بحكم الفأرة، لتحريم الله الميتة، فأمر بإلقاء ما مسها منه. وأما السمن المائع والزيت والخل والمرى والعسل وسائر المائعات تقع فيها الميتة، فلا خلاف أيضًا بين أئمة الفتوى أنه لا يؤكل منها شيء. واختلفوا فى بيعه والانتفاع به، فقالت طائفة: لا يباع ولا ينتفع بشيء منه، كما لا يؤكل. هذا قول الحسن بن صالح وأحمد بن حنبل، واحتجوا بما رواه معمر، عن الزهرى، عن سعيد، عن أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (فإن كان مائعًا فلا تقربوه) وبقوله: (لعن الله اليهود؛ حرمت عليهم الشحوم فباعوها، وأكلوا ثمنها) . وقال آخرون: يجوز الاستصباح به، والانتفاع فى الصابون وغيره، ولا يجوز بيعه وأكله. هذا قول مالك والثورى والشافعي. واحتجوا برواية عبد الواحد بن زياد، عن معمر، عن الزهرى، عن سعيد، عن أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (وإن كان مائعًا فاستصبحوا به) قالوا: وقد روى عن على بن أبى طالب وابن عمر وعمران بن حصين أنهم أجازوا الاستصباح به، وأمر ابن عمر أن تدهن به الأدم. وذكر الطبرى عن ابن عباس مثله، وذكر ابن المنذر عن ابن مسعود وأبى سعيد الخدرى وعطاء مثله. واحتجوا فى منع بيعه بقوله (صلى الله عليه وسلم) فى الخمر: (إن الذى حرم شربها حرم بيعها) وبحديث النبى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 451 عن بيع الشحوم، وأيضًا فإنه قد ينتفع بما لا يجوز بيعه؛ ألا ترى أنا ننتفع بأم الولد ولا يجوز بيعها، وينتفع بكلب الصيد ويمنع من بيعه، ونطفىء الحريق بالماء النجس والخمر ولا يجوز بيعه، وهذا كله انتفاع، ذكره ابن القصار. وقال آخرون: ينتفع بالزيت الذى تقع فيه الميتة بالبيع وبكل شيء ما عدا الأكل. قالوا: يجوز أن يبيعه ويبين؛ لأن كل ما جاز الانتفاع به جاز بيعه، والابتياع من الانتفاع. وهو قول أبى حنيفة وأصحابه والليث. وروى عن أبى موسى أنه قال: بيعوه وبينوا لمن تبيعونه منه، ولا تبيعونه من مسلم. وروى ابن وهب عن القاسم وسالم أنهما أجازا بيعه وأكل ثمنه بعد البيان. قال الكوفيون: ويحتمل ما قال معمر من قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وإن كان مائعًا فلا تقربوه أو فلا تقربوه) للأكل، وليس فى تحريم الشحوم على اليهود تحريم ثمنها حجة لمن منع بيع الزيت تقع فيه الميتة؛ لأن الحديث خرج على تحريم شحوم الميتة وهى نجسة الذات، ولا يجوز بيعها ولا أكلها ولا الانتفاع بها، والزيت والسمن الذى تقع فيه الميتة إنما تنجس بالجوار، ولا ينجس بالذات، كالثوب الذى يصيبه الدم، ولذلك رأى بعض العلماء غسله، ويجوز عندهم الاستصباح به، ولا يجوز بشحوم الميتة. قال ابن القصار: وقال أهل الظاهر: لا يجوز بيع السمن ولا الانتفاع به إذا وقعت فيه الفأرة، ويجوز بيع الزيت والخل والمرى وجميع المائعات تقع فيه الفأرة؛ لأن النهى إنما ورد فى السمن لا فى الزيت وغيره. وهذ إبطال للمعقول؛ لأن الرسول نص على السمن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 452 وهو مما يؤكل ويشرب، وهو من المائعات الطاهرات، كان فيه تنبيه على ما هو مثله؛ لأنه يثقل (صلى الله عليه وسلم) أن يقول: الثمن والزيت والشيرج والخل والمرى والدهن والمرق والعصير وكل مائع؛ لأنه أوتى جميع الكلم، وهذا كما قال تعالى: (فلا تقل لهما أف (فنبه بذلك على أن كل ما كان فى معناه من الانتهار والسب فما فوقه مثله فى التحريم. وكذلك كل مائع وقعت فيه نجاسة هو مثل السمن. قال المؤلف: ومما يبطل به مذهب أهل الظاهر أن يقال لهم: ما تقولون فى السمن تموتع فيه وزغة أو حية أو سائر الحيوان؟ فإن طردوا أصلهم وقالوا: لا ينجس السمن بموت سائر الحيوان [. . . . .] غير الفأرة التى ورد النص فيها، خرجوا من قول الأمة ومن المعقول، وإن سووا بين جميع ما يموت فى السمن من سائر الحيوان، لزمهم ترك مذهبهم. - باب: العلم والوسم فى الصورة 052 / فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ تُعْلَمَ الصُّورَةُ، وَقَالَ: نَهَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنْ تُضْرَبَ الصُّورَةُ. 2053 / وفيه: أَنَس، دَخَلْتُ عَلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِأَخٍ لِى يُحَنِّكُهُ - وَهُوَ فِى مِرْبَدٍ لَهُ - فَرَأَيْتُهُ يَسِمُ شَاةً، حَسِبْتُهُ قَالَ: فِى آذَانِهَا. معنى قوله: (الوسم والعلم فى الصورة) يريد فى الوجه وهو المكروه عند العلماء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 453 قال المهلب: إنما كرهه العلماء؛ لأنه من الشين وتغيير خلق الله، وأما الوسم فى غير الوجه للعلامة والمنفعة بذلك فلا بأس به إذا كان يسيرًا غير شائن؛ ألا ترى أنه يجوز فى الضحايا وغيرها. والدليل على أنه لايجوز الشائن من ذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) حكم أن من شان عبده أو مثل به باستئصال أنف أو أذن أو جارحة عتق عليه، وليس يعتق إن جرحه أو شق أذنه، ووسم النبى إبل الصدقة حجة على جواز ما لا يشين منه، وقد تقدم حيث يجوز الوسم من البهائم فى باب (وسم الإمام إبل الصدقة) فى كتاب الزكاة. - باب: إذا أصاب قوم غنيمة فذبح بعضهم إبلا أو غنمًا بغير أمر أصحابهم لم تؤكل لحديث رافع عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وقال طاوس وعكرمة فى ذبيحة السارق: اطرحوه 054 / فيه: رَافِع، إِنا لاقُو الْعَدُوَّ غَدًا - الحديث - وَتَقَدَّمَ سَرَعَانُ النَّاسِ، فَأَصَابُوا مِنَ الْغَنَائِمِ وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى آخِرِ النَّاسِ، فَنَصَبُوا قُدُورًا، فَأَمَرَ بِهَا، فَأُكْفِئَتْ وَقَسَمَ بَيْنَهُمْ، وَعَدَلَ بَعِيرًا بِعَشْرِ شِيَاهٍ. . . . الحديث. قال المؤلف: قوله فى الترجمة: فذبح بعضهم إبلا أو غنمًا بغير أمر أصحابهم هم سرعان الناس الذين فعلوه دون اتفاق من أصحابهم، وقد تقدم القول فى ذلك فى كتاب الجهاد، فى باب (ما يكره من ذبح الإبل والغنم فى المغانم) . ومعنى أمره (صلى الله عليه وسلم) بإكفاء القدور هو فى أول كتاب الذبائح فلا وجه لإعادته، وأما ذبيحة السارق فلا أعلم من تابع طاوسًا وعكرمة على كراهية أكلها غير إسحاق ابن راهويه، وجماعة الفقهاء على إجازتها، وأظن البخارى أراد نصر قول طاوس وعكرمة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 454 وجعل أمر النبى بإكفاء القدور حجة لمن كره ذبيحة السارق، ورأى الذين ذبحوا الغنائم بغير أمر أصحابهم فى معنى ذبيحة السارق حين ذبحوا ما ليس لهم؛ لأنهم إنما ذبحوا فى بلاد الإسلام بذى الحليفة قرب المدينة، وقد خرجوا من أرض العدو، فلم يكن لبعضهم أن يسأثر بشيء منها دون أصحابه، وليس فى ذلك حجة قاطعة؛ لأنه قد اختلف فى معنى أمره (صلى الله عليه وسلم) بإكفاء القدور، وقيل: إنها كانت نهبة، ولا يقطع على وجه من ذلك، واختلف أيضًا فى قطع من سرق من المغنم. - باب: إذا ند بعير لقوم فرمى بعضهم بسهم فقتله وأراد صلاحهم فهو جائز لخبر رافع عن النبى 055 / فيه: رَافِع، كُنَّا فِى سَفَرٍ، فَنَدَّ بَعِيرٌ مِنَ الإبِلِ، قَالَ: فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ لَهَا أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا، فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا) . قال المهلب: معنى قوله: أراد صلاحهم. يعنى: إذا علم مرادهم فأراد حبسه على أربابه، ولم يرد إفساده عليهم، فلذلك لم يضمن البعير وحل أكله؛ لأن هذا الحبس الذى حبسه بالسهم قد يكون فيه هلاكه من غير ذبح ولا نحر مشروع، وقد تقدم اختلاف العلماء فى ذلك. وأما من قتل بعيرًا لقوم بغير أمرهم فعليه ضمانه، إلا أن تقوم بينة بأنه صال عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 455 - بَاب إِذَا أَكَلَ الْمُضْطَرُّ لقوله تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ (إلى قوله: (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة: 172] وَقَالَ: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ (، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) [الأنعام: 118] ، وَقَوْلِهِ) قُلْ لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا (الآية، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُهْرَاقًا. إلى قوله: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ) [الأنعام: 145] . اختلف العلماء فى أكل المضطر الميتة، فقال مالك: أحسن ما سمعت فى المضطر يأكل من الميتة حتى يشبع، ويتزود منها، فإذا وجد عنها غنى طرحها. وهو قول ابن شهاب وربيعة. وقال أبو حنيفة والشافعى: لا يأكل منها إلا مقدار ما يمسك الرمق والنفس. وحجتهم أن المضطر إنما أبيح له أكل الميتة إذا خاف الموت على نفسه، فإذا أكل منها ما يزيل الخوف فقد زالت الضرورة وارتفعت الإباحة فلا يحل له أكلها. وحجة مالك أن المضطر قد أباح الله له الميتة، فقال تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه (يعنى: إذا أكل منها، ولم يفرق بين القليل والكثير؛ فإذا حلت له الميتة أكل منها ما شاء. واختلف أهل التأويل فى معنى قوله تعالى: (غير باغ ولا عاد (فقال ابن عباس: غير باغ: فى الميتة، ولا عاد: فى الأكل. وقال الحسن: غير باغ فيها ولا متعد بأكلها، وهو غنى عنها. وقال مجاهد: غير باغ: على الأئمة، ولا عاد: قاطع طريق سبيل. فإن خرج على الأئمة أو قطع الطريق فلا رخصة له فى الأكل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 456 فإن احتج الكوفيون والشافعى بتفسير ابن عباس، وأن معنى قوله تعالى: (غير باغ ولا عاد (يعنى غير متعد فى الأكل، وإذا شبع وتزود فهو متعد فيه. قيل: قد فسر مجاهد وغيره أن معنى الآية: غير متعد على الناس وقاطع سبيلهم، وإنما معنى قول ابن عباس أن الباغى والمتعدى لا يأكلها؛ لأنه غنى عنها غير مضطر إلها، فإذا اضطر إليها لم يكن متعديًا فى شبعه؛ لأنه لا يقدر على سفره وتصرفه إلا بشبع نفسه، والتزود أولى فى حفظ النفس وحياطتها؛ لأنه لا يأمن ألا يجد ما يمسك رمقه من طعام ولا ميتة، ولعله أن يطول سفره فيهلك نفسه، والله تعالى قد حرم على الإنسان أن يتعرض لإهلاك نفسه، وسيأتى اختلاف العلماء فى شرب الخمر والبول، عند الضرورة فى كتاب الأشربة، إن شاء الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 457 الجزء السادس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الأضاحى - بَاب سُنَّةِ الأضْحِيَّةِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ هِىَ سُنَّةٌ وَمَعْرُوفٌ / 1 - فيه: الْبَرَاءِ، قَالَ عليه السَّلام: (إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِى يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّىَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، مَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلُ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأهْلِهِ، لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِى شَىْءٍ) ، فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ، وَقَدْ ذَبَحَ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِى جَذَعَةً، فَقَالَ: (اذْبَحْهَا، وَلَنْ تَجْزِىَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ) . وَقَالَ الْبَرَاء مرة، عن النَّبِىّ عليه السَّلام: (مَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلاةِ تَمَّ نُسُكُهُ، وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ) . / 2 - وروى أَنَس عَن النَّبِىّ - عليه السَّلام - مثله. اختلف العلماء فى وجوب الأضحية، فقال أبو حنيفة ومحمد: إنها واجبة. وروى عن النخعى أنه قال: الأضحى واجب على أهل الأمصار ما خلا الحاج. وذكر ابن حبيب عن مالك أنه قال: الأضحية سنة لا رخصة لأحد فى تركها. وفى المدونة من اشترى أضحية فحبسها حية حتى ذهبت أيام الذبح أنه آثم؛ إذ لم يضح بها. وروى عنه أنه إن تركها بئس ما صنع، وهذا إنما يطلق فى ترك الواجب. وهو قول ربيعة والليث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 قال مالك: وإن وجد الفقير من يسلفه ثمنها فليستلف. وروى عن سعيد ابن المسيب وعلقمة والأسود أنه كانوا لا يوجبونها، وهو قول أبى يوسف. وقال الشافعى: الأضحية سنة وتطوع، وليست بواجبة، وهو قول أحمد وأبى ثور. وقال الثورى: لا بأس بتركها، وقد روى عن الصحابة ما يدل أنها ليست بواجبة ولا بأس بتركها. ذكر عبد الرزاق، عن الثورى، عن إسماعيل، عن الشعبى، عن أبى سريحة قال: رأيت أبا بكر وعمر وما يضحيان. وعن ابن عمر: من شاء ضحى ومن شاء لم يضح. وروى الثورى، عن أبى معشر عن مولى لابن عباس قال: أرسلنى ابن عباس أشترى له لحمًا بدرهم، وقال: قل: هذه أضحية ابن عباس. وقال النخعى: قال علقمة: لأن لا أضحى أحب إلى من أن أراه حتمًا على. وهو قول أبى مسعود البدرى وسعد، وبلال. واحتج الكوفيون على وجوبها بقوله عليه السلام لأبى بردة: (إنها تجزئ عنك، ولن تجزئ عن أحد بعدك) . قال الطحاوى: فإن قيل: كان أوجبها فأتلفها فلذلك أوجب عليه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 إعادتها. قيل له: أراد هذا ليعرفه قيمة المتلفة ليأمره بمثلها، فلما لم يتعرف ذلك دل أنه لم يقصد إلى ما ذكرت. واحتج من لم يوجبها بقوله عليه السلام: (أول ما نبدأ به فى يومنا هذا أن نصلى ثم ننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا) وما كان سنة فليس بواجب، وبقوله عليه السلام: (إذا دخل عشر ذى الحجة فأراد أحدكم أن يضحى. .) . قال ابن المنذر: فلو كانت واجبة لم يجعلها إلى إرادة المضحى. واختلفوا فى تفصيل الصدقة على الأضحية: فقال ربيعة وأبو الزناد والكوفيون: الضحية أفضل. وروى عن طاوس مثله. وروى عن بلال أنه قال: ما أبالى أن لا أضحى إلا بديك، ولأن أضعه فى فى يتيم قد ترب أحب إلى من أن أضحى به. وقال الشعبى: الصدقة أفضل. وهو قول مالك وأبى ثور، ذكره ابن المنذر، والمعروف من مذهب مالك عند أصحابه أن الضحية أفضل من الصدقة. وروى ابن وهب عن مالك أن الصدقة بثمنها أحب إلى للحاج من أن يضحى؛ فهذا يدل أن الضحية عنده لغير الحاج أفضل من الصدقة. قال ابن حبيب: هى أفضل من العتق ومن عظيم الصدقة؛ لأن إحياء السنة أفضل من التطوع. وقال ربيعة: هى أفضل من صدقة سبعين دينارًا. قال غيره: ولم يحفظ عن النبى - عليه السلام - أنه ترك الأضحى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 طول عمره وندب أمته إليها، فلا ينبغى لموسر تركها، وإنما قال: إن الصدقة بثمنها أفضل للحاج بمنى من أجل أنه لا يرى للحاجة أضحية. - بَاب قِسْمَةِ الإمَامِ الأضَاحِىَّ بَيْنَ النَّاسِ / 3 - فيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِر، قَسَمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بَيْنَ أَصْحَابِهِ ضَحَايَا، فَصَارَتْ لِعُقْبَةَ جَذَعَةٌ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَارَتْ لِى جَذَعَةٌ، قَالَ: (ضَحِّ بِهَا) . وأما قسمة الرسول الضحايا بين أصحابه، فإن كان قسمها بين الأغنياء لكانت من الفىء أو ما يجرى مجراه مما يجوز أخذها للأغنياء، وإن كان إنما قسمها بين فقرائهم خاصة فكانت من الصدقة. وإنما أراد البخارى بهذا الباب - والله أعلم - ليريك أن إعطاء النبى - عليه السلام - الضحايا لأصحابه دليل على تأكيدها وندبهم إليها. فإن قيل: لو كان كما زعمت لم يخف ذلك عن الصحابة الذين قصدوا تركها وهم موسرون. قيل: ليس كما توهمت ولم يتركها من تركها منهم؛ لأنها غير وكيدة ولا مرغب فيها، وإنما تركها لما روى عن معمر والثورى عن أبى وائل قال: قال أبو مسعود الأنصارى: إنى لأدع الأضحى وأنا موسر؛ مخافة أن يرى جيرانى أنه حتم على. وروى الثورى، عن إبراهيم، عن مهاجر، عن النخعى، عن علقمة قال: لأن لا أضحى أحب إلى من أراه حتما على. وهكذا ينبغى للعالم الذى يقتدى به إذا خشى من العامة أن يلتزموا السنن التزام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 الفرائض أن يترك فعلها ليتأسى به فيها ولئلا يخلط على الناس أمر دينهم فلا يفرقوا بين فرضه ونفله. وفى حديث عقبة من الفقه: أنه تجوز الضحايا بما تهدى إليك وبما لم تشتره بخلاف ما يعتقده عامة الناس. 3 - بَاب الأضْحِيَّةِ لِلْمُسَافِرِ وَالنِّسَاءِ / 4 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) دَخَلَ عَلَيْهَا وَحَاضَتْ بِسَرِفَ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ مَكَّةَ وَهِىَ تَبْكِى، فَقَالَ: (مَا لَكِ، أَنَفِسْتِ) ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: (إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِى مَا يَقْضِى الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِى بِالْبَيْتِ) ، فَلَمَّا كُنَّا بِمِنًى أُتِيتُ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ أَزْوَاجِهِ بِالْبَقَرِ. اختلف العلماء فى المسافر هل تجب عليه أضحية؟ فقال الشافعى: الضحية سنة على جميع الناس، وعلى الحاج بمنى. وبه قال أبو ثور. وقال مالك: الأضحية على المسافر، ولا يؤمر بتركها إلا الحاج بمنى. وذكر ابن المواز عن مالك: أن من لم يحج من أهل مكة ومنى فليضح. ومذهب ابن عمر أن الضحية تلزم المسافر وهو قول الأوزاعى والليث. وقال أبو حنيفة: لا تجب الضحية على المسافر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 وروى عن النخعى أنه قال: رخص للحاج والمسافر فى أن لا يضحى. وحجة الشافعى ظاهر هذا الحديث وهو قوله: (ضحى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن أزواجه) وكانوا فى الحج وفى حال سفر. قال الأبهرى: والحجة لمالك فى وجوبها على المسافرين: أن المسلمين كلهم مندوبون إليها وإلى غيرها من السنن فعليهم فعلها، ولا فرق فى ذلك بين حضرى ولا بدوى؛ كما لا فرق بنيهم فى الفرائض، وحجته أنها لا تلزم الحاج بمنى أن منى إنما تذبح فيها الهدايا لا الضحايا، وهى مخصوصة بالهدايا، والهدى هو ما سيق من الحل إلى الحرام، وليس كذلك الأضحية. وذكر ابن وهب، عن أفلح بن حميد، عن القاسم بن محمد قال: كنا نحج مع عائشة فلم يكن يضحى منا أحد. وعن عمر بن الخطاب أنه كان يحج ولا يضحى. وعن ابن عمر مثله. قال: وأخبرنى رجل من أهل العلم أن عبد الله بن عباس وسالم بن عبد الله وجماعة كانون يحجون ولا يضحون. وعن النخعى أن أبا بكر وعمر كانا يحجان ولا يضحيان. وحجة أبى حنيفة فى سقوطها عن المسافرين أنه لما سقطت الجمعة والعيدان عنهم سقطت الضحية، ورواه عن على بن أبى طالب أنه قال: لا جمعة ولا تشريق إلا فى مصر جامع. وأما النساء فإن من أوجب الضحايا أوجبها عليهن، ومن لم يوجبها استحبها لهن كالرجال، والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 4 - بَاب مَا يُشْتَهَى مِنَ اللَّحْمِ يَوْمَ النَّحْرِ / 5 - فيه: أَنَسِ، قَالَ النَّبِىُّ، عليه السلام، يَوْمَ النَّحْرِ: (مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ فَلْيُعِدْ) ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ، فَذَكَرَ من جِيرَانَهُ، وَعِنْدِى جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَىْ لَحْمٍ، فَرَخَّصَ لَهُ فِى ذَلِكَ، فَلا أَدْرِى بَلَغَتِ الرُّخْصَةُ مَنْ سِوَاهُ أَمْ لا؟ ثُمَّ انْكَفَأَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى كَبْشَيْنِ، فَذَبَحَهُمَا، وَقَامَ النَّاسُ إِلَى غُنَيْمَةٍ فَتَوَزَّعُوهَا، أَوْ قَالَ: فَتَجَزَّعُوهَا. قال المهلب: من استعجل شيئا قبل وقته فعقوبته أن يمنع ذلك الشىء، وهذا أبو بردة استعجل الذبح قبل وقته؛ فحرم أن تجزئ عنه مرة أخرى، ولولا أنه ذكر من جيرانه جوعة ومشقة أراد إطعامهم وسد جوعتهم وخلتهم لما عذره النبى - عليه السلام - وجوز له الضحية بجذعة من المعز ويدل على ذلك قوله عليه السلام فى غير هذه الرواية: (ولن تجزئ أحدا بعدك) فلم يكن فى الحديث شىء يمكن أن يتناول منه معنى اختصاص النبى - عليه السلام - إياه بإجازة الجذعة إلا ما ذكر من حاجة جيرانه وجوعهم. قال المؤلف: وفيه أن من اشتهى اللحم يوم النحر أنه لا حرج عليه، ولا يتوجه إليه ما قال عمر بن الخطاب حين لقى جابر بن عبد الله ومعه حمال لحم بدرهم، فقال له: ما هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قرمنا إلى اللحم. فقال له: أين تذهب هذه الآية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 ) أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا واستمتعتم بها (لأن يوم النحر مخصوص بأكل اللحم والالتذاذ بالحلال لقوله تعالى: (ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام (وأما فى غير وقت النحر فأكل اللحم مباح، إلا أن السلف كانوا لا يواظبون على أكله دائمًا، وستأتى سيرتهم فى أكلهم وأخذهم من الدنيا فى كتاب الأطعمة، وكتاب الرقائق - إن شاء الله. وفيه: ما كان عليه سلف هذه الأمة من مواساتهم لجيرانهم مما رزقهم الله، وترك الاستئثار عليهم، ألا ترى حرص أبى بردة تعجيل الذبح من أجل خلة جيرانه، ولم يتعرف إن كان ذلك يجزئ أم لا. قوله: (فتجزعوها) هو مثل توزعوها وتقسموها، قال صاحب العين الجزع: القطع. وقول أنس: (لا أدرى أبلغت الرخصة من سواه أم لا) فقد بين أن الرخصة لم تكن لأحد غيره؛ قوله عليه السلام فى حديث البراء: (ولن تجزئ أحدًا بعدك) . 5 - بَاب مَنْ قَالَ إن الأضْحَى يَوْمُ النَّحْرِ / 6 - فيه: أَبُو بَكْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِى بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، أَىُّ شَهْرٍ هَذَا) ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: (أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ) ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: (أَىُّ بَلَدٍ هَذَا) ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: (أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ) ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: (فَأَىُّ يَوْمٍ هَذَا) ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: (أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ) ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ. . . . .) . اختلف العلماء فى أيام الأضحى، فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والثورى وأحمد ابن حنبل: الأضحى يوم النحر ويومان بعده. روى ذلك عن عمر وعلى وابن عمر وابن عباس وأبى هريرة وأنس، ذكره ابن القصار، وذكره ابن وهب عن ابن مسعود. وقال عطاء والحسن البصرى والأوزاعى والشافعى وأبو ثور: الأضحى يوم النحر وثلاثة أيام بعده. وروى ذلك عن على وابن عباس قالا: أيام النحر الأيام المعلومات. وهو اختلاف من قولهما، وليس عن الصحابة غير هذين القولين، وبهما قال أئمة الفتوى، وللتابعين فيها شذوذ، قال ابن سيرين: الأضحى يوم واحد. يعنى يوم النحر، وبذلك ترجم البخارى. وقال سعيد بن جبير وجابر بن زيد: النحر فى الأمصار يوم واحد، وفى منى ثلاثة أيام. وروى عن الحسن البصرى: النحر إلى آخر يوم من ذى الحجة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 وقال قتادة: يوم النحر وستة أيام بعده. وهذه الأقوال لا أصل لها فى السنة، ولا فى أقوال الصحابة، وليس استدلال من استدل من قوله عليه السلام: (أليس يوم النحر) أنه لا يكون نحر ولا ذبح فى غيره بشىء؛ لأن النحر فى أيام منى قد نقله الخلف عن السلف، وجرى عليه العمل فى جميع الأمصار، فلا حجة بقوله تعالى: (ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام (قال فذكر الأيام دون الليالى. وقال أبو حنيفة والشافعى: لا بأس بالذبح ليلا فى أيام النحر؛ لأن الله - تعالى - إذا ذكر الأيام فالليالى تبع لها، وإذا ذكر الليالى فالأيام تبع لها، وبه قال أشهب وإسحاق وأبو ثور. وأجمعوا أنه لا يجوز أن يضحى قبل طلوع الفجر من يوم النحر، وقد تقدم فى كتاب صلاة العيدين اختلاف العلماء فى الأيام المعلومات والمعدودات، والحمد لله. وقال أبو عبيد: قوله عليه السلام: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض) يقال: إن بدء ذلك كان - والله أعلم - أن العرب كانت تحرم الشهور الأربعة، وكان هذا مما تمسكت به من ملة إبراهيم، فربما احتاجوا إلى تحليل المحرم للحرب تكون بينهم؛ فيكرهون أن يستحلوه ويكرهون تأخير حربهم، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 فيؤخرون تحريم المحرم إلى صفر، فيحرمونه ويستحلون المحرم، وهذا هو النسىء الذى قال الله تعالى: (إنما النسىء زيادة فى الكفر (الآية، وكان ذلك فى كتابه. والنسىء هو التأخير، ومنه قيل: بعت الشىء بنسيئة. فكانوا يحرمون صفر يريدون به المحرم، ويقولون: هو أحد الصفرين. قال أبو عبيد: وقد تأول بعض الناس فى قوله عليه السلام: (ولا صفر) على هذا، ثم يحتاجون أيضًا إلى تأخير صفر إلى الشهر الذى بعده كحاجتهم إلى تأخير المحرم، فيؤخرون تحريمه إلى ربيع، ثم يمكثون بذلك ما شاء الله، ثم يحتاجون إلى مثله، ثم كذلك، فكذلك يتدافع شهرًا بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها، فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذى وصفه الله به، وذلك بعد دهر طويل. وزعم بعض الناس أنهم كانوا يستحلون المحرم عاما، فإذا كان قابل ردوه إلى تحريمه، والتفسير الأول أحب إلى لقوله عليه السلام: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض) وليس فى التفسير الأخير استدارة، وعلى هذا الذى فسرناه يكون قوله تعالى: (يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا (مصدقا له؛ لأنهم إذا حرموا فى العام المحرم وفى قابل صفر، ثم احتاجوا بعد ذلك إلى تحليل صفر أيضا أحلوه، وحرموا الذى بعده، فهذا تأويل قوله تعالى: (يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا ( الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 قال أبو عبيد: وفى هذا تفسير آخر، يقال: إنه فى الحج، حدثناه سفيان بن عيينة، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد فى قوله تعالى: (ولا جدال فى الحج (قال: قد استقر الحج فى ذى الحجة لا جدال فيه. وفى غير حديث سفيان يروى عن معمر، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد قال: كانت العرب فى الجاهلية يحجون عامين فى ذى القعدة، وعامين فى ذى الحجة، فلما كانت السنة التى حج فيها أبو بكر قبل حجة النبى - عليه السلام - كان الحج فى السنة الثانية من ذى القعدة، فلما كانت السنة التى حج فيها النبى - عليه السلام - فى العام المقبل عاد الحج إلى ذى الحجة. وقال ثابت بن حزم: روى سفيان بن حسين قال: حدثنى أبو بشر، عن مجاهد قال: حج أبو بكر فى ذى الحجة. وذكر ثابت فى غريب الحديث حديث أبى بكرة وقال فيه: (أليس البلدة؟) بفتح اللام، قال: ومنى أيضًا يسمونها البلدة، وقد ذكر الله مكة فى كتابه فقال: (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة (بإسكان اللام، فلا أعرف ما قال ثابت إلا أن تكون لغة للعرب أيضا بفتح اللام. 6 - بَاب الأضْحَى وَالْمَنْحَرِ بِالْمُصَلَّى / 7 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَنْحَرُ فِى الْمَنْحَرِ، يَعْنِى مَنْحَرَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 / 8 - وقال ابْن عُمَرَ: إن النَّبِىّ، عليه السَّلام، كَانَ يَنْحَرُ وَيَذْبَحُ بِالْمُصَلَّى. إنما هذا سنة الإمام خاصة أن يذبح أضحيته أو ينحر بالمصلى، وعلى ذلك جرى العمل فى أمصار المسلمين، وكان ابن عمر يذبح بالمصلى، ولم ير ذلك مالك لغير الإمام. وقال المهلب: وإنما يذبح الإمام بالمصلى ليراه الناس فيذبحون على يقين بعد ذبحه، ويشاهدون صفة ذبحه؛ لأنه مما يحتاج فيه إلى العيان، وليتأخر الذبح بعد الصلاة كما قال فى الخطبة: (أول ما نبدأ به أن نصلى ثم ننصرف فننحر) . قال مالك: إنما يذبح الإمام فى المصلى لئلا يذبح أحد قبله. من رواية ابن وهب. 7 - بَاب فِى أُضْحِيَّةِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ وَيُذْكَرُ سَمِينَيْنِ وَقَالَ سَهْل بْن حنيف: كُنَّا نُسَمِّنُ الأضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ. / 9 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يُضَحِّى بِكَبْشَيْنِ، وَأَنَا أُضَحِّى بِكَبْشَيْنِ. / 10 - وَقَالَ أَنَس: انْكَفَأَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، إِلَى كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ. / 11 - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 وفيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى أَصَحَابِهِ ضَحَايَا، فَبَقِىَ عَتُودٌ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (ضَحِّ أَنْتَ بِهِ) . قال المؤلف: روى عن النبى - عليه السلام - أنه ضحى بكبشين، أحدهما عنه وعن أهل بيته، والثانى عن أمته، وروى عنه من طرق متواترة أنه ضحى بكبشين. وروى ابن وهب عن حيوة، عن أبى صخر، عن ابن نشيط، عن عروة، عن عائشة (أن النبى - عليه السلام - أمر بكبش أقرن يطأ فى سواد، وينظر فى سواد، ويبرك فى سواد، ثم ذبحه، وقال: بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمته، ثم ضحى به) ، ذكره ابن المنذر. وذكر ابن وهب عن يحيى بن عبد الله بن سالم ويعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو مولى المطلب، عن المطلب بن عبد الله، عن جابر بن عبد الله: (أن النبى - عليه السلام - دعا بكبشه فذبحه، وقال: بسم الله والله أكبر، اللهم عنى وعن من لم يضح من أمتى) . وذكر الطحاوى حديث عائشة وحديث جابر وذكر مثله من حديث أبى سعيد الخدرى، وهذه الآثار مبينة لمعنى حديث أنس، ومفسرة له واختلافها يدل على أن الأمر فى ذلك واسع، فمن أراد أن يضحى عن نفسه باثنين وثلاثة، فهو أزيد فى أجره إذا أراد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 بذلك وجه الله وإطعام المساكين، وذهب مالك والليث والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور إلى أنه يجوز للرجل أن يضحى بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، وروى مثله عن أبى هريرة وابن عمر، واحتج أحمد بن حنبل بذبح النبى عن أمته، قال ابن المنذر: وكره ذلك الثورى وأبو حنيفة وأصحابه. وقال الطحاوى: لا يجوز أن يضحى بشاة واحدة عن اثنين، وقالوا: إن ما روى عن النبى أنه ذبح عنه وعن أمته منسوخ أو مخصوص، ومما يدل على ذلك أنه لو كان الكبش يجزئ عن غير واحد، ولا وقت ولا عدد فى ذلك لكانت البدنة والبقرة أحرى أن تكونا كذلك، ولما رأينا النبى - عليه السلام - وقت فى البدن والبقر، فنحر فى الحديبية كل واحدة عن سبعة، دل أنه لا تجزئ فى البدنة والبقرة عن أكثر ممن ذبحت عنه يومئذ؛ وذلك سبعة، والشاة أحرى بذلك. قال ابن المنذر: والقول الأول أولى؛ للثابت عن النبى - عليه السلام. قال المؤلف: والنسخ لا يكون بالدعوى إلا بالنقل الثابت، واستعمال السنن أولى من إسقاط بعضها، ولا سلف للكوفيين فى قولهم بالنسخ فى ذلك، وقد تقدم حديث عقبة فى باب قسمة الإمام الأضاحى بين أصحابه. والعَتُود: الجذع من المعز، وهو ابن خمسة أشهر، ولا يجوز الجذع من المعز فى الضحايا، وإنما يجوز فيها الثنى، وهو بعد دخوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 فى السنة الثانية، والحديث خاص لعقبة لا يجوز لغيره إلا لأبى بردة بن نيار، والذى رخص له النبى فى مثله، ولا يجوز لغيرهما. وقوله: (أملحين) يعنى أنهما بلون الملح، عن الطبرى. وقال صاحب العين: الملحة والملح: بياض يشوبه شىء من سواد، وكبش أملح وعنب ملاحى: ضرب منه فى حبه طول. وقال أبو عبيد عن الكسائى وأبى زيد: الأملح الذى فيه بياض وسواد، ويكون البياض أكثر. وقول سهل: (كنا نسمن الأضحية بالمدينة) فقد قال ابن عباس فى قوله تعالى: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب (قال: فى الاستسمان والاستعظام والاستحسان. 8 - بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لأبِى بُرْدَةَ: (ضَحِّ بِالْجَذَعِ مِنَ الْمَعَزِ وَلَنْ تَجْزِىَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ / 12 - فيه: الْبَرَاء، قَالَ: ضَحَّى خَالٌ لِى يُقَالُ لَهُ: أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عِنْدِى دَاجِنًا جَذَعَةً مِنَ الْمَعَزِ، قَالَ: (اذْبَحْهَا وَلَنْ تَصْلُحَ لِغَيْرِكَ. . . .) الحديث. / 13 - وقال مرة: عَنَاقُ لَبَنٍ، وعَنَاقٌ جَذَعَة، قَالَ: (اجْعَلْهَا مَكَانَهَا، وَلَنْ تَجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ) . العلماء مجمعون على القول بظاهر هذا الحديث، وقد تقدم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 الكلام فيه فى باب ما يشتهى من اللحم يوم النحر، والعناق من المعز ابن خمسة أشهر أو نحوها، وهو جذعة، ولا يجوز فى الضحايا بإجماع، وإنما يجوز من المعز الثنى فما فوقه، وهو ثنى إذا تم له سنة ودخل فى الثانية، وإنما يجوز الجذع من الضأن فقط، وهو ابن سبعة أشهر، قيل: إذا دخل فيها. وقيل إذا أكملها. وعلامته أن يرقد صوف ظهره بعد قيامه، وإذا كان كذلك قالت العرب: إنه قد أجذع. ولا يجوز من سائر الأزواج الثمانية من الأنعام إلا الثنى فما فوقه، فثنى البقر إذا كمل له سنتان ودخل فى الثالثة، وثنى الإبل إذا كمل له خمس سنين ودخل فى السادسة. 9 - بَاب مَنْ ذَبَحَ الأضَاحِىَّ بِيَدِهِ / 14 - فيه: أَنَس، ضَحَّى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا يُسَمِّى وَيُكَبِّرُ، فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ. ذبح الرجل أضحيته بيده هى السنة، والعلماء يستحبون ذلك، قال أبو إسحاق السبيعى: كان أصحاب محمد يذبحون ضحاياهم بأيديهم. قال مالك: وذلك من التواضع لله - تعالى وأن رسول الله كان يفعله، فإن أمر بذلك مسلمًا أجزأته وبئس ما صنع. وكذلك الهدى، وقد كان أبو موسى الأشعرى يأمر بناته أن يذبحن نسكهن بأيديهن، وروى الزهرى عن النبى - عليه السلام - أنه قال لعائشة أو لفاطمة: (اشهدى نسيكتك، فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها) وترجم له باب وضع القدم على صفحة الذبيحة، ومعنى ذلك - والله أعلم - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 ليقوى على الإجهاز عليها، ويكون أسرع لموتها، لقوله عليه السلام: (إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) وليس ذلك من تعذيبها المنهى عنه، إذ لا يقدر على ذبحها إلا بتفاقها. وقال ابن القاسم: الصواب أن يضجعها على شقها الأيسر، وعلى ذلك مضى عمل المسلمين، فإن جهل فأضجعها على الشق الآخر لم يحرم عليه أكلها. وترجم له باب التكبير عند الذبح. قال المهلب: التكبير عند الذبح مما أمر الله به لقوله: (ولتكبروا الله على ما هداكم (وهذا على الندب والاستنان، ومعناه إحضار النية لله - تعالى - لا لشىء من المعبودات التى كانت الجاهلية تذبح لها، وكان الحسن البصرى يقول عند ذبح أضحيته: بسم الله والله أكبر، هذا منك ولك اللهم تقبل من فلان. وكره أبو حنيفة أن يذكر مع اسم الله غيره، أن يقول: اللهم تقبل من فلان عند الذبح، ولا بأس بذلك قبل التسمية وقبل الذبح. وقال ابن القاسم: ليقل الذابح: بسم الله والله أكبر، وليس بموضع صلاة على النبى، ولا يذكر هناك إلا الله وحده. وهو قول الليث، وكان ابن عمر يقول: بسم الله والله أكبر. قال ابن القاسم: وإن سمى الله أجزأه، وإن شاء قال: اللهم تقبل منى. وأنكر مالك قولهم: اللهم منك وإليك. وقال الشافعى: التسمية على الذبيحة بسم الله، فإن زاد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 بعد ذلك شيئًا من ذكر الله أو صلى على محمد لم أكرهه، وإن قال: اللهم تقبل منى، فلا بأس. وقال محمد بن الحسن: إن ذبح شاة فقال: الحمد لله، أو قال: سبحان الله والله أكبر، يريد بذلك التسمية، فلا بأس، وهذا كله تسمية، قال وإن قال: الحمد لله، يريد أن يحمده، ولا يريد به التسمية، فلا يجزئ شىء عن التسمية، ولا يؤكل وبه قال أبو ثور. - بَاب مَنْ ذَبَحَ ضَحِيَّةَ غَيْرِهِ وَأَعَانَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ فِى بَدَنَتِهِ، وَأَمَرَ أَبُو مُوسَى بَنَاتِهِ أَنْ يُضَحِّينَ بِأَيْدِيهِنَّ / 15 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِسَرِفَ وَأَنَا أَبْكِى، فَقَالَ: (مَا لَكِ، أَنَفِسْتِ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِى مَا يَقْضِى الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِى بِالْبَيْتِ) ، وَضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ. قال المهلب: فى هذا الحديث حجة لرواية ابن عبد الحكم عن مالك أنه إن ذبح لرجل أضحيته بغير أمره من يقوم بخدمته من الولد أو بعض عياله، وذبحها على وجه الكفاية، أنها تجزئ عنه، كما ذبح الرسول عن أزواجه البقر. وقال الأبهرى: إذا ذبحها من يقوم بأمره كالأخ والوكيل فيجوز، لأنه ناب عنه وذبح عنه. واختلفوا إن أمر بذبحها غير مسلم، فكره ذلك على بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 أبى طالب، وابن عباس، وجابر، ومن التابعين: ابن سيرين، والشعبى، والحسن، وربيعة، وقاله الليث. وقال مالك: أرى أن يبدلها بأخرى حتى يذبحها هو بنفسه صاغرًا، فإن ذلك من التواضع، وكان رسول الله يذبح بنفسه. وكره ذلك الثورى والكوفيون والشافعى وأشهب صاحب مالك، فإن وقع أجزأ ذلك عندهم، وأجاز ذلك عطاء. وجه هذه المقالة أن الله أباح لنا ذبائحهم، وإذا كان لنا أن نولى ذبائحنا من تحل لنا ذبيحته من المسلمين، كان جميع من حلت لنا ذبيحته من المسلمين، فى معناه فى أنه يقوم مقامه ولا فرق بين ذلك. قال ابن المنذر: ومن كرهه، فإنما هو على وجه الاستحباب لا على وجه التحريم. قال مالك: فإن ذبحها أجنبى مسلم بغير أمره، لم تجز عنه، وهو ضامن لها، وأجاز ذلك أبو حنيفة والشافعى. وحجة من أجازها أن من أصولهم أن الضحية تجب عندهم بالشراء قياسا على ما اتفقوا عليه من الهدى إذا بلغ محله فذبحه ذابح بغير أمره أنه يجزئ عنه، لأنه شىء خرج من ماله لله فكأن الذابح ذبحه للمساكين المستحقين له. وأما مالك فالهدى عنده مخالف للضحايا، فتجب الضحايا عنده بالذبح لا بالشراء، لأنه يجيز للمضحى أن يبدل أضحيته بأفضل منها وأسمن، فهى مفتقرة إلى نية، فلذلك لم يجز أن يذبحها أحد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 عنه بغير أمره، وقول مالك أولى بالحديث - والله أعلم - وليس لأحد عنده أن يبدل هديه. - بَاب الذَّبْحِ بَعْدَ الصَّلاةِ / 16 - فيه: الْبَرَاء، سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَخْطُبُ، فَقَالَ: (إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّىَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ هَذَا، فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا وَمَنْ نَحَرَ، فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ يُقَدِّمُهُ لأهْلِهِ لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِى شَىْءٍ) ، فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أُصَلِّىَ وَعِنْدِى جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ؟ قَالَ: (اجْعَلْهَا مَكَانَهَا وَلَنْ تَجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ) . وترجم له: باب: من ذبح قبل الصلاة أعاد. / 17 - وزاد فيه: حديث جُنْدَبَ ابْنَ سُفْيَانَ الْبَجَلِىَّ، قَالَ: شَهِدْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ: (مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّىَ فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ) . قال المؤلف: سنة الذبح بعد الصلاة، وأجمع العلماء أن من ذبح قبل الصلاة فعليه الإعادة، لأنه ذبح قبل وقته، واختلفوا فيمن ذبح بعد الصلاة وقبل ذبح الإمام، فذهب أبو حنيفة والثورى والليث إلى أنه يجوز ذلك، واحتجوا بحديث البراء أن النبى - عليه السلام - قال: (أول ما نبدأ به فى يومنا هذا أن نصلى، ثم نرجع فننجر) وبقوله فى حديث جندب ابن سفيان: (من ذبح قبل أن يصلى فليعد) قالوا: فإذا حل للإمام الذبح بتمام الصلاة، حل لغيرة، ولا معنى لانتظاره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 وقال مالك والأوزاعى والشافعى: لا يجوز لأحد أن يذبح قبل الإمام، واحتجوا بحديث ابن جريج، عن أبى الزبير، عن جابر: (أن النبى - عليه السلام - صلى يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبى قد نحر، فأمرهم أن يعيدوا) . وقال الحسن فى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله (قال: نزلت فى قوم نحروا قبل أن ينحر النبى - عليه السلام. ودفع الطحاوى حديث ابن جريج عن أبى الزبير، عن جابر، وقال: رواه حماد بن سلمة، عن أبى الزبير، عن جابر: (أن رجلا ذبح قبل أن يصلى النبى - عليه السلام - فنهى رسول الله أن يذبح أحد قبل الصلاة) قال: ففى هذا الحديث أن النهى من النبى - عليه السلام - إنما قصد به إلى النهى قبل الصلاة لا قبل ذبحه هو ولا يجوز أن ينهاهم عن الذبح قبل أن يصلى إلا وهو يريد بذلك إعلامهم إباحة الذبح لهم بعدما يصلى، وإلا لم يكن لذكر الصلاة معنى. قالوا: ويشهد لهذا قوله عليه السلام فى حديث البراء: (إن أول نسكنا فى يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة، ثم نرجع فنحر) فأخبر أن النسك يوم النحر إنما هو الصلاة، ثم الذبح بعدها، فدل ذلك على أن ما يحل به الذبح هو الصلاة لا نحر الإمام الذى يكون بعدها، وأن حكم النحر قبل الصلاة خلاف حكمه بعدها، وأما من طريق النظر فإنا رأينا الإمام لو لم ينحر أصلا لم يكن ذلك بمسقط عن الناس النحر، ولا مانع لهم منه، ولو أن إماما تشاغل يوم النحر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 بقتال عدو أو غيره فلم ينحر؛ أن لغيره ممن أراد الضحية أن يضحى، فإن قال: ليس له أن يضحى. خرج من قول جميع الأئمة، وإن قال: لهم أن يضحوا بعد زوال الشمس لذهاب وقت الصلاة. فدل أن ما حل به النحر ما كان وقت صلاة العيد، إنما هو الصلاة لا نحر الإمام، ألا ترى أن الإمام لو نحر قبل أن يصلى لم يجزئه ذلك؟ وكذلك سائر الناس، فكان حكم الإمام والناس فى الذبح قبل الصلاة سواء فى أن لا يجزئهم، فالنظر على ذلك أن يكون الإمام وسائر الناس سواء فى الذبح بعد الصلاة، أنه يجزئهم كلهم. قال المهلب: إنما كره الذبح قبل الإمام - والله أعلم - لئلا يشتغل الناس عن الصلاة ويحرمها المساكين مع المشتغلين بالذبح، ألا ترى أن النبى قد أمر بإخراج العوائق وغيرهن ليشهدوا بركة دعوة المسلمين؟ واختلفوا فى وقت ذبح أهل البادية، فقال مالك: يذبح أهل البوادى إذا نحر أقرب أئمة القرى إليهم فإن أخطئوا وذبحوا قبله أجزأهم. وقال عطاء: يذبح أهل القرى بعد طلوع الشمس. وقال الشافعى: وقت الذبح وقت صلاة النبى من حيث حلت الصلاة، وقد خطبتين، وأما صلاة من بعده فليس فيها وقت. وبه قال أحمد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 وقال أبو حنيفة وأصحابه: من ذبح من أهل السواد بعد طلوع الفجر أجزأه؛ لأنه ليس عليهم صلاة العيد. وهو قول الثورى وإسحاق. - بَاب إِذَا بَعَثَ بِهَدْيِهِ لِيُذْبَحَ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ شَىْءٌ / 18 - فيه: مَسْرُوق، أَنَّهُ أَتَى عَائِشَةَ، فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَجُلا يَبْعَثُ بِالْهَدْىِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَيَجْلِسُ فِى الْمِصْرِ، فَيُوصِى أَنْ تُقَلَّدَ بَدَنَتُهُ، فَلا يَزَالُ مِنْ ذَلِكِ الْيَوْمِ مُحْرِمًا حَتَّى يَحِلَّ النَّاسُ، قَالَ: فَسَمِعْتُ تَصْفِيقَهَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، فَقَالَتْ: لَقَدْ كُنْتُ أَفْتِلُ قَلائِدَ هَدْىِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَيَبْعَثُ هَدْيَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِمَّا حَلَّ لِلرِّجَالِ مِنْ امرأته حَتَّى يَرْجِعَ النَّاسُ. هذا الباب فيه رد على من قال: إن من بعث بهديه إلى الكعبة لزمه إذا قلده الإحرام، ويجتنب كل ما يجتنبه الحاج حتى ينحر هديه، روى هذا عن ابن عباس وابن عمر، وهو قول عطاء بن أبى رباح. وأئمة الفتوى على خلاف هذا القول، وقد تقدم بيان الحجة لهم فى ذلك فى كتاب الحج، وهذا الحديث يرد ما روى عن أم سلمة عن النبى أنه قال: (من رأى منكم هلال ذى الحجة وأراد أن يضحى، فلا يأخذ من شعره أو أظفاره حتى يضحى) . وأخذ بظاهر حديث أم سلمة سعيد بن المسيب، وأحمد، وإسحاق. وقال الليث: قد جاء هذا الحديث، وأكثر الناس على خلافه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 قال الطحاوى: حديث عائشة أحسن مجيئًا من حديث أم سلمة، لأنه جاء مجيئًا متواترًا، وحديث أم سلمة قد طُعن فى إسناده، وقيل: إنه موقوف على أم سلمة، رواه ابن وهب وعثمان بن عمر، عن مالك، عن عمر بن مسلم، عن سعيد بن المسيب، عن أم سلمة، ولم يرفعه. وأما من طريق النظر فرأينا الإحرام يحظر أشياء مما كانت حلالا قبله، منها الجماع والقبلة وقص الأظفار وحلق الشعر والصيد. فكل هذه الأشياء تحرم بالإحرام وأحكامها مختلفة، وذلك أن الجماع يفسد الإحرام، ولا يفسده ما سوى ذلك، ثم رأينا من دخلت عليه أيام العشر لا يحرم عليه الجماع، وهو أغلظ ما يحرم به الإحرام، فكان أحرى أن لا يمنع ما دون ذلك. - بَاب مَا يُؤْكَلُ مِنْ لُحم الأضَاحِىِّ وَمَا يُتَزَوَّدُ مِنْهَا / 19 - فيه: جَابِر، كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الأضَاحِىِّ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَ غَيْرَ مَرَّةٍ: لُحُومَ الْهَدْيِ. / 20 - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ، أَنَّهُ كَانَ غَائِبًا، فَقَدِمَ فَقُدِّمَ إِلَيْهِ لَحْمٌ، فَقَالُوا: هَذَا مِنْ لَحْمِ ضَحَايَانَا، فَقَالَ: أَخِّرُوهُ لا أَذُوقُهُ، ثُمَّ قُمْتُ فَخَرَجْتُ حَتَّى آتِىَ أَخِى أَبَا قَتَادَةَ - وَكَانَ أَخَاهُ لأمِّهِ - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ حَدَثَ بَعْدَكَ أَمْرٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 / 21 - وفيه: سَلَمَةَ، قال: قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلا يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ، وَبَقِىَ فِى بَيْتِهِ مِنْهُ شَىْءٌ) ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا عَامَ الْمَاضِى؟ قَالَ: (كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا، فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَانَ بِالنَّاسِ جَهْدٌ، فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فِيهَا) . / 22 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتِ: الضَّحِيَّةُ كُنَّا نُمَلِّحُ مِنْهُ، فَنَقْدَمُ بِهِ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: (لا تَأْكُلُوا إِلا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيْسَتْ بِعَزِيمَةٍ، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ نُطْعِمَ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ) . / 23 - وفيه: أَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ، أَنَّهُ شَهِدَ الْعِيدَ يَوْمَ الأضْحَى مَعَ عَلِىِّ ابْنِ أَبِى طَالِبٍ، فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: (إِنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَاكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا لحم نُسُكِكُمْ فَوْقَ ثَلاثٍ) . / 24 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ عليه السَّلام: (كُلُوا مِنَ الأضَاحِىِّ ثَلاثًا) . وَكَانَ ابْن عُمَرَ يَأْكُلُ بِالزَّيْتِ حِينَ يَنْفِرُ مِنْ مِنًى مِنْ أَجْلِ لُحُومِ الْهَدْىِ. واختلف العلماء فى هذا الباب، فذهب قوم إلى أن يحرموا لحوم الأضاحى بعد ثلاث، واحتجوا بحديث أبى عبيد عن على بن أبى طالب: (أن النبى نهى أن يؤكل من لحم الأضاحى بعد ثلاث) وبحديث ابن عمر: (أنه عليه السلام أباح لهم الأكل منها ثلاثًا) وإليه ذهب ابن عمر. وخالفهم فى ذلك آخرون ولم يروا بأكلها وادخارها بأسًا، وعليه الجمهور، واحتجوا بحديث جابر وحديث أبى سعيد الخدرى وحديث سلمة وقالوا: أحاديث الإباحة ناسخة للنهى فى ذلك، هذا قول الطحاوى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 وقال المهلب: والذى يصح عندى أنه ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وقد فسر ذلك فى الحديث بقوله: إنما كان ذلك من أجل الجهد، ومن أجل الدافة، فكان نظرًا منه عليه السلام لمعنى، فإذا زال المعنى سقط الحكم، وإذا ثبت المعنى ورأى ذلك الإمام عهد بمثل ما عهد به عليه السلام؛ توسعه على المحتاجين. وقول عائشة: (وليست بعزيمة ولكنه أراد أن يطعم منه) يبين أنه ليس بمنسوخ، ولا النهى عن ذلك بمعنى التحريم، وان للإمام والعالم أن يأمر بمثل هذا، ويحض عليه إذا نزل بالناس حاجة. وروى إسرائيل عن أبى إسحاق، عن عياش بن ربيعة قال: (أتيت عائشة فقلت: يا أم المؤمنين، أكان رسول الله يحرم لحوم الأضاحى فوق ثلاث؟ قالت: لا، ولكن لم يكن ضحى منهم إلا قليل، ففعل ذلك ليطعم من ضحى منهم من لم يضح، ولقد رأيتنا نخبئ الكراع ثم نأكلها بعد ثلاث) . رواه الطحاوى: عن فهد، عن أبى غسان، عن إسرائيل. قال الطحاوى: فإن قيل: قد روى عبد الوارث، عن على بن زيد قال: حدثنى النابغة ابن مخارق بن سليم، عن أبيه، عن على، عن النبى أنه قال: (إنى كنت قد نهيتكم عن لحوم الأضاحى أن تدخروها فوق ثلاث؛ فادخروها ما بدا لكم) وهذا يعارض ما روى عن على أنه خطب به الناس وعثمان محصور فى الدار فقال: (لا تأكلوا من لحوم أضاحيكم بعد ثلاثة أيام، فإن رسول الله كان يأمرنا بذلك) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 فدل هذا على أن النبى - عليه السلام - كان قد نهى عن ذلك بعد ما أباحه حتى تتفق معانى ما روى عن على فى ذلك ولا تتضاد. قيل: قد جاء فى الحديث بيان هذا، وذلك أنه قد كان عليه السلام نهى عنها لشدة كان الناس فيها، ثم ارتفعت تلك الشدة فأباح لهم ذلك، ثم عاد مثل ذلك فى وقت ما خطب على بالناس، فأمرهم بما كان رسول الله أمرهم به فى مثل ذلك. والدليل على ذلك حديث سلمة بن الأكوع أنه قال عليه السلام: (كلوا وادخروا؛ فإن ذلك العام كان بالناس جهد، فأردت أن تعينوا فيها) ، وقال: (إنما كنت نهيتكم من أجل الدافة التى دفت) فدل هذا القول أن النهى من رسول الله للعارض المذكور، فلما ارتفع ذلك العارض أباح لهم رسول الله ما كان حظر عليهم، فكذلك ما فعل على فى زمن عثمان، وأمر به الناس بعد علمه بإباحة رسول الله ما قد نهاهم عنه إنما كان لضيق بدا فيه مثلما كان فى زمن رسول الله فى الوقت الذى نهاهم عن لحوم الأضاحى. وبإباحة أكل لحوم الأضاحى وتزودها قال مالك والكوفيون والشافعى وجمهور الأئمة. فإن قال قائل: فقوله عليه السلام: (كلوا وأطعموا) هل فيه دليل على وجوب الأكل من الضحية؟ وهل هو كقوله: (ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها (. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 قال الطبرى: معناهما واحد، وهو أمر بمعنى الإطلاق والإذن للأكل، لا بمعنى الإيجاب، وذلك أنه لا خلاف بين سلف الأمة وخلفها أن المضحى غير حرج بتركه الأكل من أضحيته ولا آثم، فدل إجماعهم على ذلك أن الأمر بالأكل منها بمعنى الإذن والإطلاق. فإن قيل: اذكر لنا بعض من قال ذلك. قيل: سئل مجاهد وعطاء عن الذى لا يأكل من أضحيته، قالا: إن شاء لم يأكل منها، قال الله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا (أرأيت إن لم يصطد؟ . وقال إبراهيم: كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم، فرخص للمسلمين، فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل. وقال سفيان: لا بأس ألا يأكل منها ويطعمها كلها. قال الطبرى: وهو قول جميع أئمة الأمصار. فإن قيل: فهل روى عن أحد من السلف أنه كان يطعم منها غنيًا أو من ليس بمسلم؟ قيل: نعم، قد روى هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة قالت: كان عمر يبعث إلينا من فضول الأضاحى بالرءوس والأكارع. وقال الحسن: لا بأس أن تطعم من أضحيتك جارك اليهودى والنصرانى والمجوسى. فإن قيل: فكم مقدار ما يستحب له أن يأكل منها، ومقدار ما يتصدق به؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 قيل له: يستحب له أن يتصدق بثلثها، ويأكل ثلثها، وُيطعم الجيران ثلثها؛ لأن ذلك كان يفعله بعض السلف، وأما قدر ما ينبغى له أن لا يقصر فى أكله منها فبضعة؛ لأن النبى قد ورد عنه (أنه أمر أن يطبخ من كل بدنة من بدنه التى نحرها بضعة، فأكل منها وتحسى من مرقها) . وروى عن على (أنه ذبح أضحيته، فشوى كبدها وتصدق بسائرها، ثم أخذ رغيفًا وكبدًا بيده الأخرى فأكل) . وقال سفيان الثورى: إن أراد أن لا يتصدق من أضحيته بشىء، قال: لا ينبغى له، ولكن إن تصدق بلقمة أجزأه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الأشربة - بَاب قوله اللَّه تَعَالَى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ (الآية [المائدة: 90] / 1 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ عليه السَّلام: (مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِى الدُّنْيَا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِى الآخِرَةِ) . / 2 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أُتِىَ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا، ثُمَّ أَخَذَ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، وَلَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ. / 3 - وفيه: أَنَس، قَالَ عليه السَّلام: (مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيَقِلَّ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَتُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، وَتكْثُرَ النِّسَاءُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً قَيِّمُهُنَّ رَجُلٌ وَاحِدٌ) . / 4 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَزْنِى الزَّانِى حِينَ يَزْنِى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، [وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ] ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ. . . . .) الحديث. قال المهلب: تحريم الخمر فى الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: (إنما الخمر والميسر والأنصاب (الآيتين، ويبين الله فيها علة تحريم الخمر بقوله: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر (. قال ابن القصار وغيره: وهاتان الآيتان تتضمن دلائل كثيرة على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 تحريمها: فمنها: قوله تعالى: (رجس (يعنى نجسًا، ثم قال فى موضع آخر: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير فإنه رجس (، فبان فى هذه الآية أن الرجس المأمور باجتنابه فى الآية الأخرى حرام بنص الله - تعالى - على ذلك. والثانى: قوله) من عمل الشيطان (. والثالث: قوله) فاجتنبوه لعلكم تفلحون (أى: كونوا جانبًا منه، وهذا أمر كقوله: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان () واجتنبوا الطاغوت (وضد الفلاح الفساد، ثم قال تعالى: (فهل أنتم منتهون (. وهذه اللفظة يقال: إنها أبلغ لفظ للعرب فى النكير والمنع، وقال تعالى: (قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغى (والمراد بالإثم الخمر، قال الشاعر: شربت الإثم حتى زال عقلى كذلك الإثم يذهب بالعقول وقال تعالى: (ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما (فلما جعل الغلبة للإثم علم أن ذلك محرم. قال المهلب: وهذه الأحاديث التى ذكرها البخارى فى هذا الباب تدل على التحريم؛ لشدة الوعيد فيها، وهى قوله: (من شرب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 الخمر ثم لم يتب منها حُرِمَها فى الآخرة) ومعنى هذا عند أهل السنة إن أنفذ الله عليه الوعيد. وقوله فى حديث أبى هريرة: (لو أخذت الخمر غوت أمتك) دليل على تحريم الخمر؛ لأن الغى محرم، وفى هذا دليل على أن الأقدار عند الله بشروط، متى وقعت الشروط وقعت الأقدار، ومتى لم تقع الشروط لم يوقع الله تلك الأقدار على ما سبق من هدايته لعبده إلى تلك الشروط أو لغيرها من الأفعال التى أراد أن ينفذها عليه من هدى أو ضلال. وقوله فى حديث أنس: (إن من أشراط الساعة أن يظهر الزنا، ويُشرب الخمر) فقرن بينهما فى الرتبة فكذلك هما فى التحريم وأما قوله: (لا يزنى وهو مؤمن ولا يشرب الخمر وهو مؤمن) فهذا من أشد ما جاء فى شارب الخمر، وقد تعلق بظاهر هذا الحديث الخوارج؛ فكفروا المؤمنين بالذنوب. والذى عليه أهل السنة وعلماء الأمة أن قوله: (مؤمن) يعنى مستكمل الإيمان؛ لأن شارب الخمر والزانى أنقص حالا ممن لم يأت شيئًا من ذلك لا محالة، لا أنه كافر بذلك، وسأستقصى مذاهب العلماء فى تأويل هذا الحديث فى أول كتاب الحدود - إن شاء الله - وإنما أدخل البخارى هذه الأحاديث فى هذا الباب - والله أعلم - بالوعيد والتشديد فى الخمر؛ ليكون عوضًا من حديث ابن عمر أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 النبى - عليه السلام - قال: (كل مسكر حرام) ولم يخرجه فى كتابه؛ لأنه - يروى موقوفًا -؛ فلذلك تركه. قال الطبرى: وفى قوله تعالى: (إنما يريد الشيطان (الآية الدلالة على تحريم الله على عباد المؤمنين أن يعادى بعضهم بعضًا، والأمر منه لهم بالألفة والتواخى والتواصل، ودلت الآية على أن تحريم الخمر إنما كان من أجل إيجابه إثارة العداوة والبغضاء، ومعلوم أن الله - تعالى - إذا كان حرمه من أجل إيجابه العداوة والبغضاء بين عبادة، أن المعنى الذى حرم ذلك من أجله أوكد فى التحريم، وأبعد من التحليل، فالعداوة والبغضاء إذا بين المؤمنين أشد وأعظم عند الله، بدلالة هذه الآية، وكذلك التفريط فى الصلاة وتضييع وقتها أعظم عند الله من شرب الخمر والقمار. وفيه دليل أن عداوة المؤمن للمؤمن عدل تضييع وقت الصلاة والتفريط فيها وفى ذكر الله، لأن الله جمع بين جميع ذلك فى تحريمه السبب الذى يوجب لأجله ذلك، فحرم الله الخمر والميسر لمصلحة خلقه. - بَاب الْخَمْرُ مِنَ الْعِنَبِ وغيره / 5 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، لَقَدْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَىْءٌ. / 6 - وفيه: أَنَس قَالَ: حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الْخَمْرُ حِينَ حُرِّمَتْ، وَمَا نَجِدُ خَمْرَ الأعْنَابِ إِلا قَلِيلا، وَعَامَّةُ خَمْرِنَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 / 7 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: قَامَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِىَ مِنْ خَمْسَةٍ: الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. قال المؤلف: هذا الباب رد على الكوفيين فى قولهم: إن الخمر من العنب خاصة، وإن كل شراب يتخذ من غيره فغير محرم ما دون السكر منه. قال المهلب: وهذا التفسير من عمر مقنع، ليس لأحد أن يتسور فيقول: إن الخمر من العنب وحده، فهؤلاء أصحاب النبى وهم فصحاء العرب، والفقهاء عن الله ورسوله قد فسروا ما حرمه الله وقالوا: إن الخمر من خمسة أشياء، وقد أخبر عمر بذلك حكاية عما نزل من القرآن، وتفسيرًا للجملة، وقال: الخمر ما خامر العقل، وخطب بذلك على منبر النبى - عليه السلام - بحضرة الصحابة من المهاجرين والأنصار وغيرهم، ولم ينكره أحد منهم فصار كالإجماع، وهذا ابن عمر يقول: (حرمت الخمر وما بالمدينة منها شىء) يعنى خمر العنب. وقال أنس: (وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا) وممن روى عنه من الصحابة أن الخمر يكون من غير العنب - وان كان لا مخالف فيهم -: عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب وأبو موسى الأشعرى، وابن عباس، وابن عمر، وأبو هريرة، وسعد، وعائشة. ومن التابعين: سعيد بن المسيب، وعروة، وعمر بن عبد العزيز، فى تابعى أهل المدينة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 ومن أهل الكوفة ابن مسعود روى عنه فى نقيع التمر أنه خمر، وبه قال الشعبى، وابن أبى ليلى، والنخعى، والحسن البصرى، وعبد الله ابن إدريس الأدوى، وسعيد بن جبير، وطلحة بن مصرف، كلهم قالوا: المسكر خمر. وهو قول مالك، والأوزاعى، والثورى، وابن المبارك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وعامة أهل الحديث. وروى صفوان بن محرز قال: سمعت أبا موسى على المنبر يقول: (ألا إن خمر أهل المدينة: البسر والتمر، وخمر أهل فارس: العنب، وخمر أهل اليمن: البتع، وهو العسل، وخمر الحبشة: الإسكركة، وهو الأرز) . قال إسماعيل بن إسحاق: فإذا تبين أن الخمر يكون من هذا كله، وجب أن يجرى كله مجرى واحدًا وألا نفرق بين المسكر من العنب، والمسكر من غيره، والمزر يصنع من الشعير، وهو الجعة أيضًا. 3 - بَاب نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِىَ مِنَ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ / 8 - فيه: أَنَسِ، قَالَ: كُنْتُ أَسْقِى أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ مِنْ فَضِيخِ زَهْوٍ وَتَمْرٍ، فَجَاءَهُمْ آتٍ، فَقَالَ: إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: قُمْ يَا أَنَسُ، فَأَهْرِقْهَا، فَأَهْرَقْتُهَا. / 9 - وَقَال سليمان والد الْمُعْتَمِر لأَنَس: مَا شَرَابُهُمْ؟ قَالَ: رُطَبٌ وَبُسْرٌ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَنَسٍ: وَكَانَتْ خَمْرَهُمْ، فَلَمْ يُنْكِرْ أَنَسٌ. وَحَدَّثَنِى بَعْضُ أَصْحَابِى أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَتْ خَمْرَهُمْ يَوْمَئِذٍ. / 10 - وفيه: أَنَس، أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ، وَالْخَمْرُ يَوْمَئِذٍ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ. وهذا الباب أيضًا كالذى قبله حجة على العراقيين أن الخمر من العنب وحده؛ لأن الصحابة القدوة فى علم اللسان، ولا يجوز عليهم أن يفهموا أن الخمر إنما هى من العنب خاصة، ويهريقوا جرار الفضيخ وهى غير خمر، وقد نهى عن إضاعة المال، وإنما أهراقوها لأنها الخمر المحرمة عندهم من غير شك، ولو شكوا فى ذلك لسألوا النبى - عليه السلام - عن عينها وما يقع عليه أسمها، وقد قال أنس: إنهم لم يعودوا فيها حتى لقوا الله. قال إسماعيل بن إسحاق: جاء فى الآثار من تفسير الخمر ما هى واللغة المشهورة والنظر ما يعرفه ذوو الألباب بعقولهم، أن كل شىء أسكر فهو خمر، أما كتاب الله فقوله: (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرًا ورزقا حسنًا (فعلم أن السكر من العنب مثل السكر من النخيل، وقال تعالى: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون (فنهى عن الصلاة فى حال السكر، واستوى فى ذلك السكر من ثمرات الأعناب والسكر من ثمرات النخيل، فكما كان السكر من ثمرات النخيل والأعناب منهى عن الصلاة فيه، فكذلك كانت الخمر من ثمرات النخيل والأعناب محرمة بهذه الآية، والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 4 - بَاب الْخَمْرُ مِنَ الْعَسَلِ وَهُوَ الْبِتْعُ وَقَالَ مَعْنٌ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَنِ الْفُقَّاعِ، فَقَالَ: إِذَا لَمْ يُسْكِرْ فَلا بَأْسَ بهِ. وَقَالَ ابْنُ الدَّرَاوَرْدِىِّ: سَأَلْنَا عَنْهُ، فَقَالُوا: لا يُسْكِرُ لا بَأْسَ بِهِ. / 11 - وفيه: عَائِشَةَ، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) سُئِلَ عَنِ الْبِتْعِ، وَهُوَ نَبِيذ الْعَسَل، وَكَانَ أَهْل الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ فَقَالَ: (كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ) . / 12 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لا تَنْتَبِذُوا فِى الدُّبَّاءِ، وَالْمُزَفَّتِ) . وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُلْحِقُ مَعَهُمَا الْحَنْتَمَ وَالنَّقِيرَ. هذا الباب حجة لقول مالك وأهل الحجاز أن المسكر كله من أى نوع كان من غير العنب فهو الخمر المحرمة فى القرآن والسنة. قال إسماعيل بن إسحاق: ألا ترى أنه عليه السلام سئل عن البتع فقال: (كل شراب أسكر فهو حرام) . فعلمنا أن المسألة إنما وقعت على ذلك الجنس من الشراب، ودخل فيه كل ما كان فى معناه مما يسمى شرابًا مسكرًا، من أى نوع كان، فإن قال أهل الكوفة: إن قوله عليه السلام: (كل شراب أسكر) يعنى به الجزء الذى يحدث بعقبه السكر فهو حرام. قال ابن القصار: فالجواب أن الشراب اسم جنس، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 فيقتضى أن يرجع التحريم إلى الجنس، وهذا كما تقول: هذا الطعام مشبع، وهذا الماء مرو، يريد به الجنس، وكل جزء منه يفعل ذلك الفعل، فاللقمة تشبع العصفور، وما هو أكبر منها يشبع ما هو أكبر من العصفور، وعلى هذا حتى يشبع الكبير، وكذلك جنس الماء يروى الحيوان على هذا الحد، فكذلك النبيذ. قال الطبرى: يقال لهم: أخبرونا عن الشربة التى كان يعقبها السكر، أهى التى أسكرت شاربها دون ما تقدمها من الشربات أو أسكرت باجتماعها مع ما تقدمها، وأخذت كل شربة بحظها من الإسكار؟ . فإن قالوا: إنما أحدثت له السكر الشربة الآخرة، التى وُجد خبل العقل بعقبها. قيل لهم: وهل هذه التى حدث له ذلك عند شربها إلا كبعض ما تقدم من الشربات قبلها، حتى أنها لو انفردت دون ما تقدم قبلها كانت غير مسكرة وحدها، وإنها إنما أسكرت باجتماعها واجتماع غيرها فحدث عن جميعها السكر والخبل؟ ومما يبين صحة ذلك لو أن رطلاً من ماء العنب ألقيت فيه قطرة من خل فلم يتغير طعمه إلى الحموضة، ثم تابعنا ذلك بقطرات كثيرة كل ذلك لا يتغير له طعم الماء، ثم ألقينا آخر ذلك قطرة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 منه فتغير طعمه وحمض أترونه حمض من القطرة الآخرة أم حمض منها ومن سائر القطرات قبلها؟ فإن قالوا: حمض من القطرة الآخرة قالوا: ما تعلم العقلاء خلافه، فكابروا العقول؛ لأن أمثالها قد ألقيت فيه ولم يحدث ذلك فيه، فكان معلومًا بذلك أن الحموضة حدثت عن جميع ما ألقى من الخل، وأنه لولا قوة عمل ما تقدم من قطرات الخل المتقدمة مع عمل القطرة الآخرة فيه لم يحدث ذلك فيه. فإن قالوا: حمض باجتماع قوة عمل جميع ما ألقى فيه من أجزاء الخل، ولكنه ظهرت الحموضة عند آخر جزء من الخل الذى ألقى فيه. قيل لهم: فهلا قلتم كذلك فى الشراب الذى أسكر كثيرة أنه إنما أسكر باجتماع قوة عمل جميع ما شرب منه، ولكن السكر والخبل إنما ظهر فيه عند اجتماع قوة عمل أول الشربة مع سائرها، كما قلتم فى الماء الذى ظهرت فيه حموضة الخل، فعلموا بذلك أن كل شراب أسكر كثيره مستحق بذلك قليله اسم مسكر، وكذلك الزعفران المغير للماء، والكافور المغير ريحه فى أن قليل ذلك مستحق من الاسم والصفة فيما عمل فيه من التغير مثل الذى هو مستحق كثيره. قال المهلب: إنما دخل الوهم على الكوفيين من حديث رووه عن ابن عباس: (حرمت الخمر بعينها والسكر من غيرها) هكذا رواه أبو نعيم عن مسعر، وإنما الحديث: (والمسكر من غيرها) وكذلك رواه شعبة وسفيان عن مسعر، عن أبى عون الثقفى، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس ورواه ابن شبرمه عن ابن شداد (السكر) بغير ميم أيضًا على الوهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 قال الأصيلى: وشعبة وسفيان أضبط ممن أسقط الميم، على أن هذا الحديث لم يسمعه عبد الله بن شداد من ابن عباس، قاله أحمد بن حنبل، وقد بينه هشيم فقال: عن الثقة عن ابن عباس وقال مرة أخرى: عمن حدثه عن ابن عباس فهذا كله يدل على الوهم، وقال النسائى: لم يسمعه ابن شبرمة من ابن شداد، وسأزيد فى بيان هذه المسألة فى باب الباذق ومن نهى عن كل مسكر من الأشربة بعد هذا، إن شاء الله. فإن قيل: فإن حديث نافع عن ابن عمر، عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام) أوقفه مالك وغيره عن نافع، عن ابن عمر، فهم أقعد وأولى ممن أسنده عن نافع، قال الطبرى: وقد روى: (كل مسكر حرام) عن النبى جماعة، منهم أبو موسى الأشعرى، وأبو هريرة، وابن عباس، والنعمان بن بشير، وبريدة الأسلمى، ووائل بن حجر، وعبد الله بن مغفل، وعبد الله بن عمرو، وأبو سعيد الخدرى، ومعاوية، وأم سلمة، وعائشة، وابن مسعود، ذكر هؤلاء الطبرى فى تهذيب الآثار. وقال غيره: فإن احتج العراقيون فقالوا: الدليل على صحة قولنا فى التفريق بين عصير العنب وبين سائر الأنبذة أن الأمة كفرت مستحل عصير العنب، ولم تكفر مستحل نقيع التمر، فاعتلالهم بالتكفير ليس بشىء، لأن التكفير إنما يقع فيما يثبت بالإجماع، لا فيما ثبت من جهة أخبار الآحاد، ألا ترى أنه لا يكفر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 القائل بأن الصلاة تجوز بغير أم القرآن، ولا يكفر من أجاز النكاح بغير ولى، ولا من قال الوضوء جائز بغير نية، ومثله كثير لا يكفر القائل به، ويعتقد فيه التحليل والتحريم، ألا ترى أنه لا يكفر من قال لا يقطع سارق ربع دينار مع ثبوت ذلك عن الرسول من أخبار الآحاد، ولا يمتنع أحد من العلماء أن يحرم ما قام له الدليل على تحريمه من كتاب الله أو سنة رسوله، وإن كان غيره يخالفه فيه لدليل استدل به ووجه من العلم أداه إليه، وليس فى شىء من هذا خروج من الدين ولا يكفر بما فيه الخطأ والصواب. فإن قال قائل: فما معنى حديث أنس فى هذا الباب، وإنما فيه النهى عن الانتباذ؟ قال المهلب: هو موافق للتبويب، وذلك أن الخمر من العسل لا يكون إلا منتبذا فى الأوانى بالماء الأيام حتى يصير خمرًا، وأن الرسول إنما نهى عن الانتباذ فى الظروف المذكورة؛ لسرعة كون ما ينبذ فيها خمرًا من كل ما ينتبذ فيها. 5 - باب مَا جَاءَ فِى أَنَّ الْخَمْرَ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ مِنَ الشَّرَابِ / 13 - فيه: ابْن عُمَرَ، خَطَبَ عُمَرُ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وإنه مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: مِنَ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. . . . . . الحديث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 قال المهلب: قوله: (نزل تحريم الخمر وهى من خمسة أشياء) ففسر ما أنزل، وهذا يجرى مجرى المسندات، وإذا لم يجد مخالفًا له فى الصحابة وجب أن يكون هذا التفسير لكتاب الله ولما حرم فيه مجمعًا عليه فى الصحابة فيرتفع الإشكال عمن تلبس عليه أمره، إن أراد الله هدايته، ومن الدليل القاطع لهم إجماعنا وإياهم على تحريم قليل الخمر من العنب، ولا يخلو تحريمها أن يكون لمعنى أو لغير معنى، فإن قيل: إنه لغير معنى، فمعاذ الله أن يأمر بشىء عبثًا، وإذا كان ذلك لمعنى، فلا معنى لقليل الخمر من العنب إلا وهو موجود فى قليل الخمر من غيرها، فإذا صحت العلة فيهما جميعًا وجب أن يكون حكمهما واحدًا، وإن كان إلى المعقول والإنصاف سبيل ووجه العلة التى حرم بها قليل الخمر من العنب وغيرها: أن كل نقطة من الخمر تأخذ بنصيب من إسكار العقل؛ لأن من شرب عشرة كئوس فلم يسكر، وشرب كأسًا واحدًا بعدها فسكر منه، لم يجز أن يقال: إن ذلك الكأس وحده أسكره؛ لأنه قد شرب قبله تسعًا فلم يسكر، فوجب بهذا النظر أن لكل كأس جزءًا من السكر. ومثال ذلك لو أن سفينة رُمى فيها عشرة أقفزة فلم تغرق، فرمى فيها قفيز زائد فغرقت، لم يكن غرقها بالقفيز ولا بثقله وحده، بل إنما كان غرقها بالجميع؛ لأن القفيز الواحد قد رمى فيها أولا فلم تغرق به، وليس بين العقول وبين هذا حجاب. قال ابن القصار: وإنما احتاط الله - تعالى - على عباده بأن يمتنعوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 من قليل الخمر وإن لم يسكر؛ لأن ذلك داعى إلى كثيرها، ومثل هذا فى العبادات كثير. منه أن البيع يوم الجمعة وقت النداء منهى عنه خشية فوت الجمعة، فاحتيط عليهم بأن منعوا البيع فيه. ومنه سائق الهدى تطوعًا إذا عطب قبل محله أمر ألا يأكل منه، ولا يطعم أحدًا؛ خيفة أن يتطرق إلى نحره ويدعى عطبه. ومنه الخاطب فى العدة منع من التصريح؛ لما يدعو إليه التصريح من دواعى الشهوة. فكذلك كل ما وقع عليه اسم خمر فحكمه واحد فى التحريم، مع أن القدر الذى يحدث عنه السكر غير معلوم، فلا يجوز أن يتعلق به التحريم؛ لاختلاف طباع الناس، فربما أسكر القليل منه بعض الناس، ومنهم من لا يسكره إلا الكثير، فحسم الله المادة بتحريم قليله وكثيره خيفة مواقعة السكر. وقد ألزم الشافعى الكوفيين إلزامًا صحيحًا فقال: ما تقولون فيمن شرب القدر الذى لا يسكره؟ قالوا: مباح، قال لهم: فإن خرج فهبت عليه الريح فسكر مما شربه؟ قالوا: حرام، فقال: هل رأيتم شيئًا يدخل الجوف وهو حلال ثم يصير محرمًا؟ قال إسماعيل بن إسحاق: وقوله: (الخمر ما خامر العقل) فهو أن يصير على القلب من ذلك شىء يغطيه، ومن ذلك سمى الِخمَار؛ لأنه يغطى الرأس، ويقال للشجر الملتف الذى يغطى من تحته: الخمَر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 قال ابن المنذر: واختلف العلماء فى حد السكر والذى يلزم صاحبه اسم السكر، فقال مالك: إذا تغير من طباعه التى هو عليها، وهو قول أبى ثور. وقال الثورى: لا يجلد إلا فى اختلاط العقل، وهو أن يُستقرأ، فإن أقام القراءة وسئل فتكلم بما يعرف لم يحد، وإن لم يقم ذلك حُد. وقال أبو حنيفة: هو ألا يعرف الرجل من المرأة. وقال مرة: ألا يعرف قليلاً ولا كثيرًا. وقال أبو يوسف: لا يكون هذا، ولا يُحد سكران إلا وهو يعرف شيئًا، فإذا كان الغالب عليه اختلاط العقل واستقرئ سورة فلم يقمها وجب عليه الحد. وقال الشافعى: أقل السكر أن يغلب على عقله فى بعض ما لم يكن عليه قبل الشرب. قال ابن المنذر: وهذا أولى بالصواب؛ لقوله تعالى: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون (وقد كان الذين خوطبوا بهذه الآية قبل نزول تحريم الخمر يقربون الصلاة قاصدين لها فى حال سكرهم، عالمين بالصلاة التى لها يقصدون، وسموا سكارى؛ لأن فى الحديث أن أحدهم أمهم فخلط فى القراءة؛ فأنزل الله: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون (فقصدهم إلى الصلاة دلالة أن اسم السكران قد يستحق من عرف شيئًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 وذهب عليه غيره، ولو كان السكران لا يكون إلا من لا يعرف شيئًا ما اهتدى سكران لمنزله أبدًا، إذ معروف أن السكران يأتى منزله، ويقال: جاءنا وهو سكران. 6 - باب فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ وَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ / 13 م - وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ ابْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الْكِلابِىُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الأشْعَرِىُّ، قَالَ: حَدَّثَنِى أَبُو عَامِرٍ - أَوْ أَبُو مَالِكٍ الأشْعَرِىُّ - وَاللَّهِ مَا كَذَبَنِى، سَمِعَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَقُولُ: (لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِى أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ، وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ لِحَاجَةٍ، فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ، وَيَضَعُ الْعَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . قال المهلب: هذا الحديث لم يسنده البخارى من أجل شك المحدث فى الصاحب فقال: أبو عامر أو أبو مالك، أو لمعنى آخر لا أعلمه، وإنما أدخله البخارى على أنه جائز وقوعه من الله - تعالى - فى المسرفين على أنفسهم من أهل هذه الملة، وأنه مروى يجب أن يتوقع ما روى فيه من العقوبة، وليس فى هذا الحديث تسمية الخمر بغير اسمها، وقد جاء مبينًا من رواية ابن أبى شيبة فى هذا الحديث، قال ابن أبى شيبة: حدثنا زيد بن الخباب، عن معاوية بن صالح قال: حدثنا حاتم بن حريث، عن مالك ابن أبى مريم، عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 عبد الرحمن بن غنم قال: حدثنى أبو مالك الأشعرى، أنه سمع رسول الله يقول: (يشرب ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها، يضرب على رءوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير) . وقال ابن وهب: حدثنى عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبى هلال، عن محمد بن عبد الله: (أن أبا مسلم الخولانى حج فدخل على عائشة زوج النبى - عليه السلام - فجعلت تسأله عن الشام، وعن بردها، فقال: يا أم المؤمنين، إنهم يشربون شرابًا لهم يقال له الطلاء. فقالت: صدق الله وبلغ حبيبى، سمعت رسول الله يقول: إن ناسًا من أمتى يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها) . وروى ابن أبى شيبة من حديث عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله: (ليستحلن آخر أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها) . وأما الحر فهو الفرج، وليس كما تأوله من صحفه فقال: الخز، من أجل مقاربته للحرير فاستحل التصحيف بالمقارنة مع أنه ليس فى الخز تحريم، وقد جاء فى الحرير تحريم. ومعنى قوله: (يستحلون الحرير) أى: يستحلون النهى عنه، والنهى فى كتاب الله ومن الرسول متوعد عليه بقوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره (. وقوله: (ولينزلن أقوام) الحديث، إنما هو من الأخبار الدالة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 على الحدثان، فننظر فإن وقع ما أنذر به كان من علامات النبوة، وكان الحديث صحيحًا، وإن كان لم يقع فسيقع؛ لقوله فى حديث عبادة: (ليستحلن آخر أمتى الخمر) فدل هذا الحديث أن كل ما أنذر به عليه السلام من ذلك يكون فى آخر الإسلام. وقوله: (فيبيتهم الله) أى يهلكهم ليلاً، ومنه قوله تعالى: (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتًا وهم نائمون (. وقوله: (يضع العلم) إن كان العلم بناءً فيهدمه، وإن كان جبلاً فيدكدكه، وهكذا إن كان غيره. (ويمسخ آخرين قردة) يعنى ممن لم يهلكهم فى البيات، والمسخ فى حكم الجواز فى هذه الأمة إن لم يأت خبر يرفع جوازه، وقد رويت أحاديث لينة الأسانيد: (أنه يكون فى أمتى خسف ومسخ) عن النبى - عليه السلام - ولم يأت ما يرفع ذلك، وقال بعض العلماء: معنى ما ورى عن النبى - عليه السلام -: (أنه سيكون فى هذه الأمة مسخ) فالمراد به مسخ القلوب حتى لا تعرف معروفًا ولا تنكر منكرًا، وقد جاء عن النبى - عليه السلام - أن القرآن يرفع من صدور الرجال، وان الخشوع والأمانة تنزع منهم، ولا مسخ أكبر من هذا، وقد يجوز أن يكون الحديث على ظاهره، فيمسخ الله من أراد تعجيل عقوبته كما قد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 خسف بقوم وأهلكهم بالخسف والزلازل، وقد رأينا هذا عيانا؛ فكذلك يكون المسخ، والله أعلم. 7 - باب الانْتِبَاذِ فِى الأوْعِيَةِ وَالتَّوْرِ / 14 - فيه: سَهْل قَالَ: أَتَى أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِىُّ، فَدَعَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى عُرْسِهِ، فَكَانَتِ امْرَأَتُهُ خَادِمَهُمْ، وَهِىَ الْعَرُوسُ، قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ أَنْقَعْتُ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ فِى تَوْرٍ. قال ابن المنذر: كان التور الذى ينتبذ فيه لرسول الله تورًا من حجارة. قال المهلب: فالإنقاع حلال إذا لم يلبث حتى تخشى شدته، والشدة مكروهة؛ للجهل بموقعها من السكر أو غيره والأشياء المشكوك فيها والمشتبهات قد نص الرسول على تركها، وإنما كان ينقع للنبى من الليل ويشربه يومًا آخر، وينقع له بالنهار ويشربه من ليلته. وفيه: أن الحجاب ليس بفرض على نساء المؤمنين، وإنما هو خاص لأزواج النبى، كذلك ذكره الله فى كتابه بقوله: (وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب (. 8 - بَاب تَرْخِيصِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى الأوْعِيَةِ وَالظُّرُوفِ بَعْدَ النَّهْيِ / 15 - فيه: جَابِر، نَهَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَنِ الظُّرُوفِ، فَقَالَتِ الأنْصَارُ: إِنَّهُ لا بُدَّ لَنَا مِنْهَا، قَالَ: (فَلا إِذًن) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 / 16 - وفيه: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، لَمَّا نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنِ الأسْقِيَةِ، قِيلَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَجِدُ سِقَاءً، فَرَخَّصَ لَهُمْ فِى الْجَرِّ غَيْرِ الْمُزَفَّتِ. وَقَالَ مرة: عَن الأوْعِيَةِ. 2096 م / 17 - وفيه على: (نهى النبى عن الدباء والمزفت) . / 18 - وفيه: الأسْوَد، سَأَلْتَ عَائِشَةَ عَمَّا يُكْرَهُ أَنْ يُنْتَبَذَ فِيهِ؟ فَقَالَتْ: نَهى النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَنْ نَنْتَبِذَ فِى الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ، قُلْتُ: أَمَا ذَكَرَتِ الْجَرَّ وَالْحَنْتَمَ؟ قَالَتْ: إِنَّمَا أُحَدِّثُكَ مَا سَمِعْتُ، أَفَأُحَدِّثُ مَا لَمْ أَسْمَعْ. / 19 - وفيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنِ الْجَرِّ الأخْضَرِ، قُلْتُ: أَنَشْرَبُ فِى الأبْيَضِ؟ قَالَ: (لا) . اختلف العلماء فى هذا الباب على أقوال، فذهب مالك إلى جواز الانتباذ فى جميع الظروف غير الدباء والمزفت، فإنه كره الانتباذ فيهما، ولم ينسخ عنده، وأخذ فى ذلك بحديث على وحديث عائشة: (أن النبى - على السلام - نهى عن الدباء والمزفت) وروى مثله عن ابن عمر، وذهب الثورى والشافعى إلى كراهية الانتباذ فى الدباء والمزفت والحنتم والنقير، لنهى النبى - عليه السلام - عنها، ذكر ذلك البخارى فى باب الخمر من العسل وهو البتع من حديث الزهرى عن أنس، أن النبى قال: (لا تنتبذوا فى الدباء ولا فى المزفت) . وكان أبو هريرة يلحق معها الحنتم والنقير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 وقد روي النهى عن الانتباذ فى هذه الأربعة من حديث ابن عباس فى حديث وفد عبد القيس، وقد ذكره البخارى فى كتاب الإيمان والعلم. ومعنى النهى عندهم عن الانتباذ فيها - والله أعلم - لسرعة استحالة ما ينتبذ فيها، فيصير خمرًا وهم لا يظنون ذلك، فيواقعون ما نهى الله عنه. وذكر الطبرى عن القائلين بتحريم الشراب المتخذ فى الأوعية المذكورة المنكرين أن تكون منسوخة عن عمر بن الخطاب أنه قال: (لا أشرب فى قمقم محمى فيحرق ما أحرق، ويبقى ما أبقى، أحب إلى من أن أشرب من نبيذ الجر) . وعن على بن أبى طالب النهى عنه، وعن ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأبى هريرة، وأنس مثله، وقال ابن عباس لأبى جمرة: (لا نشرب نبيذ الجر وإن كان أحلى من العسل) وكرهه ابن المسيب والحسن البصرى. وقال إسماعيل بن إسحاق: قال سليمان بن حرب: كل شىء ذكر عمن كان يشرب نبيذ الجر أو يكرهه فإنما هو الحلو، فأما المسكر فهو حرام فى كل وعاء. وقال أبو حنيفة وأصحابه: الانتباذ فى جميع الأوعية كلها مباح. وقالوا: أحاديث النهى عن الانتباذ منسوخة بحديث جابر وغيره. ألا ترى أن النبى أطلقهم على جميع الأوعية والظروف حين قال له الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 الأنصار إنه لا بد لنا منها، فقال عليه السلام: (فلا إذن) ولم يستثن منها شيئًا، واحتجوا بما رواه إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا سعيد ابن أبى مريم قال: حدثنا نافع بن يزيد، قال: حدثنى أبو جمرة يعقوب بن مجاهد قال: حدثنى عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله عن أبيه أن النبى - عليه السلام - قال: (إنى كنت نهيتكم أن تنتبذوا فى الدباء والحنتم والمزفت فانتبذوا، ولا أُحل مسكرًا) ورواه ابن وهب عن أسامة بن زيد، عن محمد بن يحيى بن حيان، عن عمه واسع، عن أبى سعيد الخدرى، عن النبى - عليه السلام - مثله. قالوا: فثبت بهذه الآثار نسخ ما جاء فى النهى عن الانتباذ فى الأوعية، وثبتت إباحة الانتباذ فى الأوعية كلها. وذكر الطبرى عن ابن عمر: الأوعية لا تحل شيئًا ولا تحرمه. وعن ابن عباس قال: كل حلال فى كل ظرف حلال، وكل حرام فى كل ظرف حرام وهو قول النخعى والشعبى، قال الطبرى: وهذا القول أولى بالصواب، وقد تواترت الأخبار عن النبى بتحريم كل مسكر، وفى ذلك مقنع. وقال أبو جعفر الداودى: النهى عن الأوعية إنما كان قطعًا للذريعة، فلما قالوا للنبى - عليه السلام -: إنا لا نجد بدا من الانبتاذ فيها قال عليه السلام: (انتبذوا، وكل مسكر حرام) . وكذلك كل نهى كان بمعنى التطرق إلى غيره يسقط عند الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 الضرورة، وذلك كنهيه عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح، ويجوز أن يصلى على الجنائز فى تلك الساعتين لما بالناس من الضرورة إلى دفن موتاهم، وليس ذلك كصلاة النافلة، إذ لا ضرورة إلى صلاتها حينئذ، وكنهيه عليه السلام عن الجلوس فى الطرقات، فلما ذكروا أنهم لا يجدون بُدًا من ذلك؛ قال: (إذا أبيتم فأعطوا الطريق حقه) . وذلك غض البصر، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وعون الضعيف، وإرشاد الضال. وأما الجر الأبيض فهو مثل الأخضر؛ لأنه كله حنتم، وقال أبو عبيد: الحنتم: جرار خضر كانت تحمل إليهم. 9 - بَاب نَقِيعِ التَّمْرِ مَا لَمْ يُسْكِرْ / 20 - فيه: سَهْل، أَنَّ أَبَا أُسَيْدٍ، دَعَا النَّبِىَّ، عليه السَّلام، لِعُرْسِهِ، فَكَانَتِ امْرَأَتُهُ خَادِمَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَهِىَ الْعَرُوسُ، فَقَالَتْ: مَا تَدْرُونَ مَا أَنْقَعْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ أَنْقَعْتُ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ فِى تَوْرٍ. أجمع العلماء أن نقيع التمر وغيره ما لم يسكر فهو حلال شربه، وقالت عائشة: (كنا ننبذ لرسول الله غدوة ويشربه عشية، وننبذه عشيا فيشربه غدوة) . وفى حديث ابن عباس: (أن النبى كان ينبذ له فيشربه من الغد ومن بعد الغد فإذا كان اليوم الثالث أهريق) . قال ابن المنذر: الشراب فى المدة التى ذكرتها عائشة يشرب حلوا، وفى حديث ابن عباس: (فإذا كان فى اليوم الثالث أهريق) يعنى إذا غلا، وغير جائز أن يظن أحد أنه كان مسكرًا؛ لأنه حرم المسكر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 - بَاب الْبَاذَقِ وَمَنْ نَهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ مِنَ الأشْرِبَةِ وَرَأَى عُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَمُعَاذٌ شُرْبَ الطِّلاءِ عَلَى الثُّلُثِ، وَشَرِبَ الْبَرَاءُ وَأَبُو جُحَيْفَةَ عَلَى النِّصْفِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اشْرَبِ الْعَصِيرَ مَا دَامَ طَرِيًّا. وَقَالَ عُمَرُ: وَجَدْتُ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ رِيحَ شَرَابٍ، وَأَنَا سَائِلٌ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ. / 21 - فيه: ابْن عَبَّاس، أنه سُئل عَنِ الْبَاذَقِ، فَفَالَ: سَبَقَ مُحَمد الْبَاذَق، فَمَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ، قَالَ: الشَّرَابُ الْحَلالُ الطَّيِّبُ، قَالَ: لَيْسَ بَعْدَ الْحَلالِ الطَّيِّبِ، إِلا الْحَرَامُ الْخَبِيثُ. / 22 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ. شراب الطلاء على الثلث هو ما صنعه عمر لأهل الشام، وهو أن يطبخ العصير حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه، وحده أن يتمدد ويشبه طلاء الإبل، وبذلك شبهه عمر بن الخطاب، فهذا الذى تؤمن غائلته، والطلاء هو طبيخ العنب الثخين. واختلف العلماء فى شربه، فقال كثير من الصحابة والتابعين: إذا ذهب ثلثاه وبقى ثلثه فجائز شربه، هذا قول عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وأبى عبيدة، ومعاذ، وأبى طلحة، وأبى الدرداء، وأبى أمامة الباهلى، ومن التابعين: الحسن البصرى، وعكرمة، وسعيد بن المسيب، وهو قول مالك والثورى، والليث، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 وأحمد بن حنبل، وكلهم أجاز شربه إذا ذهب ثلثاه؛ لأنه لا يسكر كثيره. وفيه قول ثان: وهو أن يذهب نصفه بالطبخ، روى أنه أجاز شربه البراء، وأبو جحيفة، وجرير، وأنس، ومن التابعين: ابن الحنفية، وعبيدة، وشريح، والحكم بن عتيبة، والنخعى، وسعيد بن جبير، وأجازه أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، واحتجوا أنه لا يشرب أحد من الصحابة والتابعين ما يسكر؛ لأنهم مجمعون أن قليل الخمر وكثيرها حرام، وأما الذى كرهه فإنه تورع عنه. قال المهلب: وقوله: (سبق محمد الباذق) يعنى سبق محمد بالتحريم للخمر قبل تسميتهم لها بالباذق، وهو من شراب العسل، وليس تسميتهم لها بغير اسمها بنافع لها إذا أسكرت، ورأى ابن عباس أن سائله أراد استحلال الشراب المحرم بهذا الاسم فحسم منه رجاءه، وباعد منه أمله، وأخبره أن ما أسكره فهو حرام. وقوله: (ليس بعد الحلال الطيب إلا الحرام الخبيث) معناه أن المشتبهات تقع فى حيز الحرام، وهى الخبائث، قال إسماعيل ابن إسحاق: فى قول ابن عباس هذا رد لما روى عنه أنه قال: (حُرمت الخمر بعينها، والسكر من كل شراب) والصحيح عنه: (المسكر) كما رواه شعبة وسفيان، وقد روى عن ابن عباس من وجوه ما يضعف رواية الكوفيين عن مسعر. قال إسماعيل: وحدثنا حجاج بن منهال، قال: حدثنا أبو عوانة، عن ليث، عن عطاء وطاوس ومجاهد، عن ابن عباس قال: (قليلُ ما أسَكَر كَثِيُره حرام) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 وحدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد بن زيد، أبو جمرة قال: سمعت ابن عباس يقول: (لا يُشرب نبيذ الحر وإن كان أحلى من العسل) . قال إسماعيل: فإذا كان هذا فتيا ابن عباس، فكيف يقبل عنه خلافه؟ . قال المهلب: وأما قول عائشة: (إن النبى كان يحب الحلواء والعسل) فهذا الحلال الذى لا شك فى طيبه، فالحلواء تطبخ حتى تنعقد والعسل يمزج بالماء فيشرب من ساعته فهذا لا شك فى طيبه وحله. وفى حديث عمر من الفقه: الجلد فى ريح الشراب الذى يسكر كثيره؛ ألا ترى قوله: وأنا سائل عنه، فإن كان يسكر حددته. ولم يخص بذلك المسكر من خمر العنب، بل أطلق ذلك على كل ما يسكر من جميع الأشربة، وروى عن ابن مسعود أنه ورد حمص، فشم من رجل رائحة خمر فحده، ولا مخالف له من الصحابة، وعن عمر بن عبد العزيز مثله. قال ابن المنذر: وبه قال مالك، قال: إذا شهد عدلان ممن شرب الخمر فى كفره ثم أسلم، أو شربها فى إسلامه فحد ثم تاب منها، وقالا: إنها ريح مسكر، جلد الحد. وقال عطاء: لا حد إلا بالبينة؛ لأن الريح تكون من الشراب الذى ليس فيه بأس. وهو قول أبى حنيفة والشافعى، وقالوا: لا يحد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 الذى يوجد منه رائحة الشرب إلا أن يقول: شربت مسكرًا، أو يُشهد عليه بذلك. قالوا: لأن الروائح تتفق، فرائحة التفاح الشامى والخمر تتفق، درأ الحد بالشبهة أولى. وحجة مالك أن رائحة الخمر وإن تشابهت فإنه إذا تأملها من يعرفها لم تختلط مع غيرها وإن تقاربت وقد تشتبه الألسن والروائح ثم لا بد من الفرق بينها كما نقول فى شهادة الأعمى على الصوت. وقال ابن المنذر: روى عن عطاء: لا يُحد فى شىء من الشراب حتى يسكر إلا الخمر وبه قال أبو حنيفة. وعن ابن أبى ليلى والنخعى: لا يجلد السكران من النبيذ حدًا. وقال أبو ثور: من كان المسكر عنده حرامًا فشرب منه ما يسكر، حددته، ومن كان متأولا مخطئًا فى تأويله، فشربه على خبر ضعيف قلده أو اتبع أقوامًا؛ لم يكن عليه حد، وذلك أنه لا يحد إلا من فسق، إنما الحد على من علمه، وأما من أتى الشىء يظنه حلالا؛ فلا حد عليه. قال ابن المنذر: وقد ثبت عن النبى أنه قال: (من شرب الخمر فاجلدوه) فالحد على شاربه واجب سكر أم لا، على ظاهر الحديث، وكل شراب أسكر كثيره فهو خمر، وقليله حرام؛ للأخبار الثابتة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 - بَاب مَنْ رَأَى أَنْ لا يَخْلِطَ الْبُسْرَ وَالتَّمْرَ إِذَا كَانَ مُسْكِرًا وَأَلا يَجْعَلَ إِدَامَيْنِ فِى إِدَامٍ / 23 - فيه: أَنَس، إِنِّى لأسْقِى أَبَا طَلْحَةَ وَأَبَا دُجَانَةَ وَسُهَيْلَ بْنَ الْبَيْضَاءِ خَلِيطَ بُسْرٍ وَتَمْرٍ؛ إِذْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، فَقَذَفْتُهَا - وَأَنَا سَاقِيهِمْ وَأَصْغَرُهُمْ - وَإِنَّا نَعُدُّهَا يَوْمَئِذٍ الْخَمْرَ. / 24 - وفيه: جَابِر، نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ، وَالْبُسْرِ وَالرُّطَبِ. / 25 - وفيه: أَبُو قَتَادَة، نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّهْوِ، وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَلْيُنْبَذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ. وترجم لحديث أنس بن مالك باب: خدمة الصغار الكبار. قال المهلب: قوله: (من رأى ألا يخلط البُسر والتمر إذا كان مسكرًا) خطأ من البخارى، وليس مما قصد البخارى أنهما مما يسكران فى الحال، وإنما أراد أنهما ما يئول حالهما إلى السكر، وليس النهى عن الخليطين من جهة الإسكار؛ لأن المسكر مأمور بهرقه قليله وكثيره، وقد سئل الشافعى عن رجل شرب خليطين مسكرًا فقال: هذا بمنزلة رجل أكل لحم خنزير ميت، فهو حرام من جهتين: الخنزير حرام والميتة حرام، والخليطان حرام والمسكر حارم. وإنما نهى عن الخليطين وإن لم يسكر واحد منهما - والله أعلم - من أجل خيفة إسراع السكر إليهما، وحدوث الشدة فيهما، وأنهما يصيران خمرًا وهم لا يظنون، وقد روى هذا عن الليث، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 وجمهور العلماء قائلون بهذه الأحاديث فى النهى عن الخليطين من جميع الأشربة، وأن ينبذ كل واحد على حدته، وممن روى عنه ذلك من الصحابة: أبو مسعود الأنصارى، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدرى. ومن التابعين: عطاء، وطاوس. وبه قال مالك، والليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وروى عن الليث بن سعد أنه قال: لا بأس أن يخلط نبيذ الزبيب ونبيذ التمر ثم يشربان جميعًا، وإنما جاء الحديث فى النهى أن ينبذا جميعًا؛ لأن أحدهما يشد صاحبه. وخالفه مالك والشافعى، فلم يريا أن يخلطا عند شرب ولا انتباذ، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا بأس بشرب الخليطين من الأشربة، قالا: وكل ما لو طبخ على الانفراد حل، كذلك هو إذا طبخ مع غيره، قالوا: روى مثل قولنا عن ابن عمر، والنخعى. قال الطحاوى: ومعنى النهى عن الخليطين: على وجه السرف؛ لضيق ما كانوا فيه من العيش، كما روى حنظلة بن سحيم قال: (أصابتنا سنة فرآنا ابن عمر ونحن نأكل التمر، فقال لنا: لا تقرنوا؛ فإن رسول الله نهى عن القران، قال ابن عمر: إلا أن يستأذن الرجل أخاه) . وهذا معنى النهى عن الخليطين عندهم؛ لأن كل واحد على حياله يجوز شربه، كما يجوز أكل كل تمرة على حيالها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 قال غيره: والمعروف عن ابن عمر ما حكاه الطحاوى عنه؛ لأنه كان أشد الناس اتباعًا لآثار النبى - عليه السلام - فلم يكن ليخالفه، وقد روى عن ابن عمر أنه كان ينبذ التمر، فينظر إلى التمرة بعضها بُسرة وبعضها رطبة فيقعطها ولا ينبذها كلها؛ كراهية أن يواقع نهى النبى - عليه السلام - عن الخليطين. وأما قياسهم أن ما حل على الانفراد حل مع غيره، لا قياس لأحد، ولا رأى مع مخالفة السنة، ومن خالفها فمحجوج بها. قال ابن المنذر: يقال للكوفيين: إذا جاز نكاح المرأة ونكاح أختها منفردتين، فليس بالجمع بينهما بأس، فإن قال: حرم الله الجمع بين الأختين، قيل: وكذلك حرم النبى - عليه السلام - الجمع بين البُسر والتمر، والزبيب والتمر، وقال: (لينبذ كل واحد على حدة) وكذلك الجواب فى الجمع بين العمة وبين بنت أخيها. قال المهلب: ولا يصح عن النبى - عليه السلام - النهى عن خلط الأدم، وإنما روى ذلك عن عمر، وذلك من أجل السرف؛ لأنه كان يمكن أن يأتدم بأحدهما، ويرفع الآخر إلى مرة أخرى، وستأتى هذه المسألة فى كتاب الأطعمة - إن شاء الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 - بَاب شُرْبِ اللَّبَنِ، وَقَالَ تَعَالَى: (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا) [النحل: 11] الآية / 26 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أُتِىَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ، وَقَدَحِ خَمْرٍ. / 27 - وفيه: أُمِّ الْفَضْلِ، شَكَّ النَّاسُ فِى صِيَامِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ عَرَفَةَ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَن فَشَرِبَ. / 28 - وفيه: جَابِر، جَاءَ أَبُو حُمَيْدٍ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ مِنَ النَّقِيعِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا خَمَّرْتَهُ؟ وَلَوْ أَنْ تَعْرُضَ عَلَيْهِ عُودًا) . / / 29 - وفيه: الْبَرَاءَ، قَدِمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ مَكَّةَ وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَرَرْنَا بِرَاعٍ، وَقَدْ عَطِشَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَحَلَبْتُ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ فِى قَدَحٍ، فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ. الحديث. / 30 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (نِعْمَ الصَّدَقَةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِىُّ مِنْحَةً، وَالشَّاةُ الصَّفِىُّ مِنْحَةً، تَغْدُو بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِآخَرَ) . / 31 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) شَرِبَ لَبَنًا فَمَضْمَضَ، وَقَالَ: (إِنَّ لَهُ دَسَمًا) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 / 32 - وفيه: أَنَس،، قال: قال رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (رُفِعْتُ إِلَى السِّدْرَةِ، فَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ نَهَرَانِ ظَاهِرَانِ، وَنَهَرَانِ بَاطِنَانِ، فَأَمَّا الظَّاهِرَانِ: النِّيلُ وَالْفُرَاتُ، وَأَمَّا الْبَاطِنَانِ: فَنَهَرَانِ فِى الْجَنَّةِ، فَأُتِيتُ بِثَلاثَةِ أَقْدَاحٍ، قَدَحٌ فِيهِ لَبَنٌ وَقَدَحٌ فِيهِ عَسَلٌ وَقَدَحٌ فِيهِ خَمْرٌ، فَأَخَذْتُ الَّذِى فِيهِ اللَّبَنُ، فَشَرِبْتُ، فَقِيلَ لِى: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ) . قال المهلب: شرب اللبن حلال بكتاب الله، وليس قول من قال إنه يسكر الكثير منه بشىء؛ لأن كل ما أباح الله أكله وشربه فوقع منها لشاربه أو آكله سكر فهو غير مأثوم؛ إلا أن يتعمد شربه لذهاب عقله دون منفعة يقصدها، فهو آثم لقصده إلى ذهاب عقله. قال المؤلف: وإنما يكون السكر منه بصناعة تدخله، وإن وجد أحد منه فهى آفة فى خلقته، وهذا فى الشاذ والنادر، فلذلك لم يحكم فيه بحكم عام، وفى الآية دليل أن الماء إذا خالطته نجاسة فتغير ثم قعدت عنه حتى صفا وحلا وطابت رائحته، أنه طاهر يجوز الوضوء به لقوله تعالى: (من بين فرث ودم لبنًا خالصا (فوصفه بالخلوص مما خالطه من الدم وحثالة الفرث، وهذا دليل لازم، وقد روى عن مالك فى حباب تقع فيها الدابة فتموت وتروث فيها البقر والغنم والدواب حتى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 تنتن ثم تسعى عليها الرياح حتى تصفو وتطيب؛ أنه يجوز التوضؤ بمائها. والنهران الباطنان فى الجنة إذا بدلت الأرض ظهرا - إن شاء الله - وأما أخذه اللبن وما قيل له: (هُديت الفطرة) فهو من باب الفأل الحسن لأن اللبن أول ما يفتح الرضيع إليه فمه، فلذلك سمى فطرة؛ لأنه فطر جوفه أى: شقه أول شىء، فالفطور: الشقوق. وأما قوله: (لو أخذت الخمر غوت أمتك) فيه دليل على أن الخمر كلها قليلها وكثيرها مقرون بها الغى، فيجب أن تكون حراما كلها، وإنما أتى بثلاثة أقداح وقيل له: خذ أيها أحببت، ليريه الله - تعالى - فضل تيسيره له، ولو أتى بقدح واحد لخفى موضع التيسير عليه. وقوله: (فحلبت كثبة) قال صاحب العين: كل ما جمعته من قليل فقد كثبته، وهى الكثبة، وسيأتى تفسير اللقحة الصفى والشاة الصفى فى كتاب المنحة والعارية - إن شاء الله. - بَاب اسْتِعْذَابِ الْمَاءِ / 33 - فيه: أَنَس، كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِىٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ مَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران: 92] . . . . الحديث. شراب الماء العذب وطلبه مباح للصالحين والفضلاء، وليس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 شرب الماء الذعاق أفضل من شرب العذب؛ لأن النبى - عليه السلام - كان يشرب العذب ويوثره، وفيه القدوة والأسوة الحسنة، ومحال أن يترك الأفضل فى شىء من أفعاله، وفى هذا الحديث دليل على استعذاب الأطعمة وجميع المآكل جائز لأولى الفضل، وأن ذلك من أفعال الصالحين، ولو أراد الله ألا تؤكل لذيذ المطاعم لم يخلقها لعباده، ولا امتن بها عليهم، بل أراد تعالى منهم أكلها ومقابلتها من الشكر الجزيل عليها والحمد، بما مَنَّ به منها؛ بما ينبغى لكرم وجهه وعز سلطانه، وإن كانت نعمة لا يكافئ شكر أقلها إلا بتجاوزه عن تقصيرنا، وقد قال أهل التأويل فى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم (أنها نزلت فيمن حرم على نفسه لذيذ المطاعم، وسيأتى بيان هذا فى أول كتاب الأطعمة. - بَاب شَرْبِ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ / 34 - فيه: أَنَس، أَنَّهُ رَأَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، يشَرِبَ لَبَنًا، وَأَتَى دَارَهُ فَحَلَبْتُ شَاةً فَشُبْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ اللَّبَنِ، فَتَنَاوَلَ الْقَدَحَ فَشَرِبَ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِىٌّ، فَأَعْطَى الأعْرَابِىَّ فَضْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: (الأيْمَنَ، فَالأيْمَنَ) . / 35 - وفيه: جَابِر، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فِى شَنَّةٍ، وَإِلا كَرَعْنَا) ، قَالَ: وَالرَّجُلُ يُحَوِّلُ الْمَاءَ فِى حَائِطِهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِنْدِى مَاءٌ بَائِتٌ، فَانْطَلِقْ إِلَى الْعَرِيش، قَالَ: فَانْطَلَقَ بِهِمَا، فَسَكَبَ فِى قَدَحٍ ثُمَّ حَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ دَاجِنٍ لَهُ، قَالَ: فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ شَرِبَ الرَّجُلُ الَّذِى جَاءَ مَعَهُ. وترجم لحديث جابر: باب: الكرع فى الحوض وفيه: (فقال: يا رسول الله، بأبى أنت وأمى، وهى ساعة حارة) . يشرب اللبن بالماء، وهو أصل فى نفسه، وليس من باب الخليطين فى شىء. قال المهلب: والحكمة فى شرب الماء البارد ما فعله النبى من الجرع لاستلذاذه ببرودته، وكان ذلك فى يوم حر، ألا ترى قوله فى باب الكرع: (وهى ساعة حارة) . ولذلك صب له اللبن على الماء ليقوى برده، لاجتماع برد اللبن مع برد الماء البائت، وفيه أنه لا بأس بطلب الماء البارد فى سموم الحر، وقصد الرجل الفاضل بنفسه فيه حيث يعرف مواضعه عن إخوانه، وقد روى أبو هريرة عن النبى - عليه السلام - (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة أن يقال له: ألم أصح جسمك وأروك من الماء البارد؟) . وقوله: (وإلا كرعنا) يريد إن لم يكن عندك ماء بارد ولا عذب كان الأولى فى شربه الكرع؛ لئلا يعذب نفسه بكراهته فى كثره الجرعات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 والكرع: شرب الرجل بفيه، يقال: كرع كرعًا وكروعًا، وكرع فى الإناء: إذا مال نحوه بعنقه فشرب منه. وخلط اللبن بالماء إنما يجوز عند الشرب لطلب اللذة أو الحاجة إلى ذلك، وأما عند البيع فلا يجوز، لأنه غش. - بَاب شَرَابِ الْحَلْوَى وَالْعَسَلِ وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: لا يَحِلُّ شُرْبُ بَوْلِ النَّاسِ لِشِدَّةٍ تَنْزِلُ لأنَّهُ رِجْسٌ، قَالَ تَعَالَى: (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) [المائدة: 4] . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِى السَّكَرِ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ. / 36 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ. الحلوى: كل شىء حلو. وفيه من الفقه: أن الأنبياء والصالحين الفضلاء يأكلون الحلاوات والطيبات ولا يتركونها تقشفًا، وقد نزع ابن عباس فى أكل الطعام الطيب بقوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق (ومدار الآية على أن الطيبات الحلال، فكل ما كان حلالا حلوًا كان أو حامضًا فهو طيب لمن استطابه. وأما أبوال الناس فهى مثل الميتة والخمر فى التحريم، ولم يختلفوا فى جواز أكل الميتة عند الضرورة، فكذلك البول، والفقهاء على خلاف قول ابن شهاب، وإما اختلفوا فى جواز شرب الخمر عند الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 الضرورة، فقال مالك: لا يشربها؛ لأنها لا تزيده إلا عطشًا وجوعًا. وأجاز أبو حنيفة أن يشرب منها مقدار ما يمسك رمقه. واحتج من منع شربها بقول ابن مسعود: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم. وقد روى هذا عن النبى - عليه السلام. واحتج الكوفيون بأن الضرورة أباحت أكل ما حرمه الشرع من الميتة والدم والبول وما لا ينقلب إلى حالة أخرى، فأن تبيح الخمر أولى؛ لأنها قد تنقل من حالها إلى حال التخليل. قال ابن القصار: وكان الشيخ أبو بكر الأبهرى يقول: إن دفعته إليها ضرورة يغلب على ظنه أنه يتخلص بشربها جاز؛ لأنه لو تغصص بلقمة فى حلقة فلم يجد ما يدفعها به، واضطر أن يزردها بالخمر جاز له ذلك، ولم يجز أن يمنعه من حالة الحال فتصير كالميتة عند الضرورة. والأمر كما قال - إن شاء الله. - بَاب الشُّرْبِ قَائِمًا / 37 - فيه: عَلِىٌّ، أنه شَرِبَ قَائِمًا، فَقَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَشْرَبَ وَهُوَ قَائِمٌ، وَإِنِّى رَأَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِى فَعَلْتُ. / 38 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: شَرِبَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، قَائِمًا مِنْ زَمْزَمَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 إنما رسم البخارى هذا الباب؛ لأنه قد رويت عن النبى آثار فيها كراهية الشرب قائمًا، فلم تصح عنده، وصحت عنده أحاديث الإباحة فى ذلك، وعمل بهذا الخلفاء بعد النبى، وقال بها أئمة الفتوى، وروى الطبرى عن عمر بن الخطاب أنه شرب قائمًا، وعن على بن أبى طالب وسعد وابن عمر وعائشة وأبى هريرة مثله، وعن إبراهيم وطاوس وسعيد بن جبير مثله أيضًا. وروى عن أنس كره الشرب قائمًا، وعن أبى هريرة مثله، وبه قال الحسن البصرى. والدليل على جواز ذلك أن الأكل مباح قائمًا وعلى كل حال، فكذلك الشرب، ذكر ابن أبى شيبة قال: حدثنا حفص بن غياث، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: (كنا نشرب ونحن قيام، ونأكل ونحن نمشى على عهد رسول الله) . قال الطبرى: وأحاديث النهى عن ذلك ليست على وجه التحريم، وإنما هى على وجه التأديب والإرشاد، يدل على ذلك أنه عليه السلام شرب قائمًا، ولم يرد عنه أن أحد الخبرين ناسخ للآخر، ولا يجوز أن يكون منه عليه السلام تحريم شىء بعد إطلاقه، أو إطلاق شىء بعد تحريمه، ثم لا يُعلم أمته أى ذلك الواجب عليهم العمل به، وقد روى فى سبب نهيه عن ذلك خبر فى إسناده نظر؛ روى بقية عن إسحاق بن مالك، عن محمد بن إبراهيم، عن الحارث بن فضيل، عن جعفر بن عبد الله، عن ابن عمر قال: قال النبى - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 عليه السلام -: (من أصابه الجن فى إحدى ثلاث لم يشف: وهو يشرب قائمًا، أو يمشى فى نعل واحدة، أو يشبك بين أصابعه) وهذا الخبر وإن كان مما لا يعتمد عليه لضعفه، فإن فى إجماع الحجة على أن نهى النبى عن الشرب قائمًا على غير وجه التحريم له دليل على أنه نهى عنه كراهية له سبب هو غير التحريم. وروى عن النخعى أنه قال: إنما أكره الشرب قائمًا مخافة أن يأخذ منه الداء. وقال مرة: يأخذ منه ذا البطن، وقال غيره: النهى عنه - والله أعلم - نهى اختيار، لأن الشرب جالسًا أهنأ وأمرأ. - بَاب مَنْ شَرِبَ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ / 39 - فيه: أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ، أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ، عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَأَخَذَه وَشَرِبَهُ. زَادَ مَالِكٌ، عَنْ أَبِى النَّضْرِ: عَلَى بَعِيرِهِ. وترجم له: باب الشرب فى الأقداح. إذا جاز الشرب قائمًا بالأرض، فالشرب على الدابة أحرى بالجواز؛ لأن الراكب أشبه بالجالس. - بَاب الأيْمَنَ فَالأيْمَنَ فِى الشُّرْبِ / 40 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، أُتِىَ بِلَبَنٍ قَدْ شِيبَ بِمَاءٍ، وَعَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 يَمِينِهِ أَعْرَابِىٌّ، وَعَنْ شِمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَشَرِبَ، ثُمَّ أَعْطَى الأعْرَابِىَّ، وَقَالَ: (الأيْمَنَ فَالأيْمَنَ) . قال المهلب: التيامن فى الأكل والشرب وجميع الأشياء من السنن، وأصله ما أثنى الله به على أصحاب اليمين فى الآخرة، فكان رسول الله يحب التيامن استشعارً منه لما شرف الله به أهل اليمين، ولئلا تكون أفعاله كلها إلا مرادا بها ما عند الله، وليحتذى حكمة الله فى أفعاله فنبه أن سنة المناولة فى الطعام والشراب من على اليمين. قال غيره: وما روى عن مالك أنه قال ذلك فى الماء خاصة، فلا أعلم أحدا قاله غيره، وحديث عائشة (أن النبى - عليه السلام - كان يحب التيامن فى طهوره، وتنعله وترجله) يعم الماء وجميع الأشياء. - بَاب هَلْ يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ فِى الشُّرْبِ لِيُعْطِىَ الأكْبَرَ / 4 - وفيه: سَهْل، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أُتِىَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلامٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلامِ: (أَتَأْذَنُ لِى أَنْ أُعْطِىَ هَؤُلاءِ) ؟ فَقَالَ الْغُلامُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا أُوثِرُ بِنَصِيبِى مِنْكَ أَحَدًا، قَالَ: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى يَدِهِ. الغلام المذكور فى هذا الحديث: هو ابن عباس، والأشياخ: خالد بن الوليد، وقد نقل هذا من طرق، ورواه الحميدى عن سفيان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 قال: حدثنا على بن زيد بن جدعان، عن عمر ابن حرملة، عن ابن عباس قال: (دخلت مع رسول الله على خالتى ميمونة ومعنا خالد بن الوليد، فقدمت إلينا ضبابًا مشوية، فلما رآها رسول الله تفل ثلاث مرات ولم يأكل منها، وأمرنا أن نأكل، ثم أتى رسول الله بإناء فيه لبن فشرب وأنا عن يمنيه، وخالد عن يساره، فقال لى رسول الله: الشربة لك يا غلام وإن شئت آثرت بها خالدًا. فقلت: ما كنت لأوثر بسؤر رسول الله أحدًا. ثم قال رسول الله: من أطعمه الله طعامًا فليقل: اللهم بارك لنا فيه وأبدلنا به ما هو خير منه، ومن سقاه لبنًا فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه، فإنى لا أعلم شيئًا يجزئ من الطعام والشراب غيره) . وفيه من الفقه: أنه وجب له حق أنه لا يؤخذ منه إلا عن إذنه، فلذلك قال الغلام: (والله يا رسول الله، لا أوثر بنصيبى منك أحدًا) تبركًا بفضله صلى الله عليه. قال المهلب: واستئذانه صاحب اليمين من باب التأدب لفضل السن، فلو أذن الشاب الذى على اليمين لكان من المؤثرين على أنفسهم، وإذ لم يأذن وتشاح فى نصيبه من النبى فله ما شح عليه من شريف المكان وفى هذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 دليل أنه من يسبق إلى مجالسة الإمام والعالم أنه لا يقام لمن هو أسن منه، لأن النبى - عليه السلام - لما لم يقم ذلك الأعرابى لأبى بكر ولا الغلام للشيخ، علم أن من سبق إلى المواضع عند العالم أو المسجد أو غيره مما حقوق الناس فيه متساوية أنه أحق به. قال غيره: وقوله: (كبر كبر) فى غير هذا الحديث، إنما ذلك إذا استوت حال القوم فى شىء واحد، فحينئذ يبتدأ بالأكبر، وأما إذا كان لبعضهم على بعض فضل فى شىء فصاحب الفضل أولى بالتقدمة، وسيأتى فى كتاب المياه فى باب: من رأى صدقة الماء وهبته ووصيته جائزة شىء من الكلام فى حديث سهل، إن شاء الله. - بَاب تَغْطِيَةِ الإنَاءِ / 42 - فيه: جَابِر، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ - أَوْ أَمْسَيْتُمْ - فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ فَحُلُّوهُمْ، فَأَغْلِقُوا الأبْوَابَ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا، وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ أَنْ تَعْرُضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا، وَأَطْفِئُوا مَصَابِيحَكُمْ) . قال المهلب: خشى النبى - عليه السلام - على الصبيان عند انتشار الجن أن تلم بهم فتصرعهم، فإن الشيطان قد أعطاه الله قوة على هذا، وقد علمنا رسول الله أن التعرض للفتن مما لا ينبغى، فإن الاحتراس منها أحزم، على أن ذلك الاحتراس لا يرد قدرًا ولكن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 لتبلغ النفس عذرها، ولئلا يسبب له الشيطان إلى لوم نفسه فى التقصير. وأما قوله: (إن الشيطان لا يفتح غلقا) فهو إعلام من النبى أن الله لم يعطه قوة على هذا، وإن كان قد أعطاه ما هو أكثر منه، وهو الولوج حيث لا يلج الإنسان، وسيأتى هذا المعنى فى باب إغلاق الأبواب بالليل فى آخر كتاب الاستئذان - إن شاء الله. والوكاء والتخمير دلائل على أن الاستعاذة تردع الشيطان، وقيل: إنما أمر بتغطية الإناء لحديث القعقاع بن حكيم عن جابر أن الرسول قال: (غطوا الإناء وأوكوا السقاء؛ فإن فى السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس فيه غطاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء) قال الليث بن سعد - وهو راوى الحديث -: والأعاجم يتقون ذلك فى كانون الأول. قال المهلب: وأما إطفاء السراج فقد بينه فى غير هذا الحديث، وقال: من أجل الفويسقة - وهى الفأرة - فإنها تضرم على الناس بيوتهم. وإنما سماها فويسقة لفسادها وأذاها، وسيأتى زيادة فى هذا المعنى فى كتاب الاستئذان فى باب قوله: لا تترك النار فى البيت عند النوم. وفيه: أن أوامر النبى قد تكون لمنافعنا لا لشىء من أمر الدين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 - بَاب اخْتِنَاثِ الأسْقِيَةِ / 43 - فيه: أَبُو سَعِيد، نَهَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ اخْتِنَاثِ الأسْقِيَةِ - يَعْنِى أَنْ تُكْسَرَ أَفْوَاهُهَا - فَيُشْرَبَ مِنْهَا. قال المهلب: معنى هذا النهى - والله أعلم - على وجه الأدب لجواز أن تكون فى أفواهها حية أو بعض الهوام لا يراها الشارب فيدخل فى حلقه، وقد قيل: إن ذلك على سبيل التقذر؛ لأنه يدخلها فى فيه، وقد روى ذلك فى الحديث، روى ابن وهب عن أنس ابن عياض، عن هشام بن عروة، عن أبيه (أن النبى نهى أن يشرب من فم السقاء، وقال: إنه ينتنه) ، وقد أجاز مالك أن يشرب من أفواه الأسقية، وتقول العرب: خنث السقاء، وانخنث السقاء: إذا مال، ومنه قيل للمخنث مخنث لتكسره وميله إلى شبه النساء. - بَاب الشُّرْبِ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ / 44 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، نَهَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَنِ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ - أَو الْقِرْبَةِ. / 45 - وَعن ابْن عَبَّاس، مثله. قد تقدم فى الباب قبل هذا أن النهى عن الشرب من فم السقاء نهى أدب، لا نهى تحريم، روى عن أبى سعيد الخدرى: (أن رجلا شرب من فى السقاء فانساب جان فى بطنه؛ فنهى رسول الله عن اختناث الأسقية) ، وهذا يدل أن من فعل ذلك أنه ليس بحرام عليه شربه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 - بَاب التَّنَفُّسِ فِى الإنَاءِ / 46 - فيه: أَبُو قَتَادَة، قال عليه السَّلام: (إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلا يَتَنَفَّسْ فِى الإنَاءِ، وَإِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلا يَمْسَحْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا تَمَسَّحَ أَحَدُكُمْ فَلا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ) . قال المهلب: التنفس إنما نهى عنه عليه السلام كما نهى عن النفخ فى الطعام والشراب - والله أعلم - من أجل أنه لا يؤمن أن يقع فيه شىء من ريقه، فيعافه الطاعم له ويستقذر أكله؛ إذ كان التقذر فى باب الطعام والشراب، والتنظف فيه الغالب على طباع أكثر الناس، فنهاه عن ذلك؛ لئلا يفسد الطعام والشراب على من يريد تناوله هذا إذا أكل أو شرب مع غيره، وإذا كان الإنسان يأكل أو يشرب وحده أو مع أهله أو مع من يعلم أنه لا يقذر شيئا مما يأكل منه، فلا بأس بالتنفس فى الإناء، كما فعل النبى مع عمر بن أبى سلمة أمره أن يأكل مما يليه، وكان هو عليه السلام، يتتبع الدباء فى الصحفة، علما منه أنه لا يقذر منه شىء عليه السلام، وكيف يظن ذلك وكان إذا تنخم تبادر أصحابه نخامته فدلكوا بها وجوههم، وكذلك فضل وضوئه، فهذا فرق بين فعل النبى وأمره غيره بالأكل مما يليه. - بَاب الشُّرْبِ بِنَفَسَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ / 47 - فيه: أَنَس، أَنَّهُ كَانَ يَتَنَفَّسُ فِى الإنَاءِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَتَنَفَّسُ ثَلاثًا. قال المهلب: إن قال قائل: حديث أبى قتادة (أن النبى - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 عليه السلام - نهى عن التنفس فى الإناء) فى الباب قبل هذا يعارض حديث أنس هذا. قيل: لا تعارض بينهما بحمد الله، ويحتمل معنيين: أحدهما ذكره ابن المنذر قال: روى أبو هريرة عن النبى قال: (لا يتنفس أحدكم فى الإناء إذا شرب، ولكن إذا أراد أن يتنفس فليؤخره عن فيه، ثم يتنفس) فيحتمل أن يكون هذا الحديث مفسرًا لحديث أنس أنه عليه السلام كان يتنفس ثلاثًا يعنى أنه كان يزيل القدح عنه فيه كل مرة يتنفس؛ ليعلم أمته ذلك، حتى لا يختلف الحديثان. قال المؤلف: والمعنى الثانى: أن يكون نهيه عليه السلام عن التنفس فى الإناء فى حديث أبى قتادة إذا شرب مع من يكره تنفسه فيه ويتقذر الشرب منه، كما تقدم فى الباب قبل هذا وإذا شرب مع من لا يتقذر منه فالتنفس له مباح، ولذلك تنفس عليه السلام؛ لعلمه برغبة الناس فيما يتنفس فيه؛ ليدل أمته على إباحة ذلك ممن لا يتقذر بنفسه، ألا ترى أنه مج فى وجه محمود بن الربيع مجة فكانت له بذلك فضيلة، وهذا الوجه أولى بالصواب؛ لأن عامة الفقهاء لا يختلفون أنه لو تنفس فى الشراب لم يحرم بذلك. واختلفوا هل يجوز الشرب بنفس واحد، فروى عيسى عن ابن القاسم، أن مالكًا سئل عن قول الرجل للنبى (صلى الله عليه وسلم) : (إنى لا أروى من نفس واحد، فقال له عليه السلام: فأبن القدح عن فيك) فقال مالك: أرى ذلك رخصة أن يشرب من نفس واحد ما شاء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 يريد مالك أن النبى لما لم ينه الرجل أن يشرب من نفس واحد، وقال له: (أبن القدح عن فيك) عُلم أن ذلك كالإباحة، وقد روى عن سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبى رباح أنهما أجازا الشرب بنفس واحد. قال ميمون بن مهران: رآنى عمر بن عبد العزيز وأنا أشرب، فجعلت أقطع شرابى وأتنفس، فقال: إنما نُهى أن يتنفس فى الإناء، فأما إذا لم تتفس فى الإناء فاشربه إن شئت بنفس واحد. وروى عن ابن عباس وطاوس وعكرمة كراهية الشرب بنفس واحد، وقالوا: هو شرب الشيطان. وقول عمر بن عبد العزيز تفسير لهذا الباب وأصل له. - بَاب الشُّرْبِ فِى آنِيَةِ الذَّهَبِ / 48 - فيه: حُذَيْفَةُ، أنَّهُ اسْتَسْقَى، فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِقَدَحِ فِضَّةٍ، فَرَمَى بِهِ، فَقَالَ: إِنِّى لَمْ أَرْمِهِ إِلا أَنِّى نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ، وَإِنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) نَهَانَا عَنِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَالشُّرْبِ فِى آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَقَالَ: (هُنَّ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا، وَهُنَّ لَكُمْ فِى الآخِرَةِ) . العلماء متفقون أنه لا يجوز الأكل والشرب فى آنية الذهب والفضة؛ لأن ذلك من باب السرف، إذ جعل الله الذهب والفضة قوامًا للناس وأثمانًا لمعايشهم وقيمًا للأشياء، فكره استعمالها فى غير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 ذلك إلا ما أباحته السنة للرجال من السيف والخاتم والمصحف، والحلى للنساء. قال المهلب: وقوله عليها السلام: (هن لهم فى الدنيا وهن لكم فى الآخرة) وهو مثل قوله عليه السلام فى الحرير: (إنما يلبس هذه من لا خلاق له فى الآخرة) وهم الكفار؛ لأنه لما كان الحرير من لباسهم فى الدنيا، وآثروه على ما أعده الله فى الآخرة لأوليائه، وأحبوا العاجلة؛ ذمهم النبى بذلك، ونهى المسلمين أن يتشبهوا بالكفار المؤثرين الدنيا على الآخرة، ولئلا يدخلوا تحت قوله تعالى: (أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا (الآية، وقال مالك بن دينار: قرأت فيما أنزل الله - تعالى -: (أن قل لأوليائى لا يطعموا مطاعم أعدائى، ولا يلبسوا ملابس أعدائى، فيكونوا أعدائى كما هم أعدائى) . - بَاب آنِيَةِ الْفِضَّةِ / 49 - فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (لا تَشْرَبُوا فِى آنِيَةِ الْفِضَّةِ) . / 50 - وفيه: أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (الَّذِى يَشْرَبُ فِى آنِيَةِ الْفِضَّةِ، إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِى بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ) . / 51 - وفيه: الْبَرَاء، أَمَرَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ، عَنِ الشُّرْبِ فِى آنِيَةِ الْفِضَّةِ. . . . . الحديث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 قد تقدم فى الباب قبل هذا أنه لا يجوز الأكل والشرب فى آنية الفضة والذهب. واختلفوا فى الآنية المفضضة، فروى عن عائشة أنها نهت أن تضبب الآنية أو تحلقها بفضة. وكان ابن عمر لا يشرب فى آنية فيها حلقة أو ضبة فضة. وهو قول عطاء، وسالم، وعروة بن الزبير، وبه قال مالك والليث. ورخصت فى ذلك طائفة، روى ذلك عن عمران بن حصين وأنس بن مالك أنهما أجازا الشرب فى الإناء المفضض، وأجازه من التابعين: طاوس والحكم والنخعى والحسن البصرى. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا بأس أن يشرب الرجل بالقدح المفضض إذا لم يجعل فاه على الفضة كالشرب بيده وفيها الخاتم. وقال أحمد بن حنبل: لا بأس به إذا لم يجعل فاه على الفضة وهو مثل العلم فى الثوب، وبه قال إسحاق. وقال ابن المنذر: ثبت أن النبى - عليه السلام - نهى عن آنية الفضة، والمفضض ليس بإناء فضة وكذلك المضبب، فالذى يحرم فيه الشرب ما نهى عنه النبى ولا نُعصِّى من شرب فيما لم ينه عنه. وقال أبو عبيدة نحوه. وفعل ابن عمر إنما هو محمول على التورع لا على التحريم، كما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 روى عنه أنه كان ينضح الماء فى عينيه لغسل الجنابة، وليس ذلك بواجب عليه. وروى أبو نعيم قال: حدثنا شريك عن حميد قال: (رأيت عند أنس قدح النبى - عليه السلام - فيه فضة أو شد بفضة) . قال الطحاوى: لا يخلو ذلك أن يكون فى زمن النبى - عليه السلام - أو أحدثه أنس بعده، فأى ذلك كان، فقد ثبت عن أنس إباحته؛ لأنه كان يسقى الناس فيه تبركا برسول الله قال أبو عبيدة: الجرجرة: صوت وقوع الماء فى الجوف، وإنما يكون ذلك عند شدة الشرب، ومنه قيل للبعير إذا صاح: هو يجرجر. وقوله: (يجرجر فى بطنه نار جهنم) محمول عند أهل السنة على أن الله فى ذلك بالخيار لمن أراد أن ينفذ عليه الوعيد. 30 - بَاب الشُّرْبِ مِنْ قَدَحِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام وَآنِيَتِهِ قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: قَالَ لِى ابْن سَلام: أَلا أَسْقِيكَ فِى قَدَحٍ شَرِبَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فِيهِ. / 52 - فيه: سَهْل، ذُكِرَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) امْرَأَةٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِىَّ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَقَدِمَتْ، فَنَزَلَتْ فِى أُجُمِ بَنِى سَاعِدَةَ، فَخَرَجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى جَاءَهَا، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَإِذَا امْرَأَةٌ مُنَكِّسَةٌ رَأْسَهَا. . . . . الحديث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 إلى قوله: (اسْقِنَا يَا سَهْلُ) ، فَأَخذت هَذَا الْقَدَحِ، فَأَسْقَيْتُهُمْ فِيهِ، فَأَخْرَجَ لَنَا سَهْلٌ ذَلِكَ الْقَدَحَ فَشَرِبْنَا مِنْهُ، ثُمَّ اسْتَوْهَبَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ فَوَهَبَهُ لَهُ. / 53 - وفيه: عَاصِمٍ الأحْوَلِ، رَأَيْتُ قَدَحَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، عِنْدَ أَنَسِ، وَكَانَ قَدِ انْصَدَعَ فَسَلْسَلَهُ بِفِضَّةٍ، قَالَ وَهُوَ قَدَحٌ جَيِّدٌ عَرِيضٌ مِنْ نُضَارٍ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِنَّهُ كَانَ فِيهِ حَلْقَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَأَرَادَ أَنَسٌ أَنْ يَجْعَلَ مَكَانَهَا حَلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ: لا تُغَيِّرَنَّ شَيْئًا صَنَعَهُ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَتَرَكَهُ. الشرب من قدح النبى وآنيته من باب التبرك بالنبى وامتثال فعله، كما كان ابن عمر يصلى فى المواضع التى صلى فيها رسول الله، ويدور ناقته حيث أدارها، تبركا بالاقتداء به، وحرصًا على اقتفاء آثاره، ومن هذا الباب ما يفعله الناس إلى اليوم من الدخول فى الغار الذى اختفى فيه عليه السلام وأبو بكر الصديق على صعوبة الارتقاء إليه والدخول فيه، وهذا كله وإن كان ليس بواجب ولا لازم وإنما يحمل على فرط المحبة فى النبى - عليه السلام - والاغتباط بموافقته، وقد قال عليه السلام: (والله لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) . وقوله: (قدح عريض من نضار) قال صاحب العين: قدح من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 نضار - ويتخذ من أثل، ورسى اللون - وذهب نضار، والنضار: الخالص. والأجم: جمع أجمة، وهى الغياض، قال ابن الفاسى: النضار: عود أصفر يشبه لون الذهب، وهو أعمق العود. - بَاب شُرْبِ الْبَرَكَةِ وَالْمَاءِ الْمُبَارَكِ / 54 - فيه: جَابِر، رَأَيْتُنِى مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَقَدْ حَضَرَتِ الْعَصْرُ، وَلَيْسَ مَعَنَا مَاءٌ غَيْرَ فَضْلَةٍ، فَجُعِلَ فِى إِنَاءٍ، فَأُتِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِهِ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ، وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعَهُ، ثُمَّ قَالَ: (حَىَّ عَلَى أَهْلِ الْوُضُوءِ، والْبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ) ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَتَفَجَّرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، فَتَوَضَّأَ النَّاسُ، وَشَرِبُوا، فَجَعَلْتُ لا آلُوا مَا جَعَلْتُ فِى بَطْنِى مِنْهُ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ بَرَكَةٌ. قُلْتُ لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَلْفًا وَأَرْبَعَ مِائَةٍ وقَالَ جَابِر: خَمْس عَشْرَة مِائَةٍ. قال المهلب: قال البخارى: (باب شرب البركة) لقول جابر فى الحديث: (فعلمت أنه بركة) وهذا جائز سائغ فى لسان العرب أن يسمى الشىء المبارك فيه: بركة، كما قال أيوب النبى - عليه السلام -: (لا غنى بى عن بركتك) فسمى الذهب بركة، ومثله قوله تعالى: (هذا خلق الله (يعنى مخلوقاته، والخلق اسم الفعل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 وفيه من الفقه: أن الإسراف فى الطعام والشراب مكروه إلا الأشياء التى أرى الله فيها بركة غير معهودة وآية قائمة بينة، فلا بأس بالاستكثار منها، وليس فى ذلك سرف ولا كراهية، ألا ترى قول جابر: (فجعلت لا آلو ما جعلت فى بطنى منه) أى لا أقصر عن جهدى فى الاستكثار من شربه. وفيه: علم عظيم من أعلام النبوة، وقد تقدم بيان هذا المعنى وما فى نبع الماء من بين أصابع النبى من عظم الآية، وشرف الخصوصية فى باب التماس الوضوء إذا حانت الصلاة فى كتاب الوضوء، فأغنى عن إعادته. والحمد لله وحده وصلواته على خير خلقه محمد وآله وصحبه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 بسم الله الرحمن الرحيم - كِتَاب الأيْمَانِ وَالنُّذُورِ - باب قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ (الآية [المائدة: 89] / 1 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَكُنْ يَحْنَثُ فِى يَمِينٍ قَطُّ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ، وَقَالَ: لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتُ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلا أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِى. / 2 - وفيه: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ عليه السَّلام: (يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، لا تَسْأَلِ الإمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ) . / 3 - وفيه: أَبُو موسى، أَتَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فِى رَهْطٍ مِنَ الأشْعَرِيِّينَ أَسْتَحْمِلُهُ، فَقَالَ: (وَاللَّهِ، لا أَحْمِلُكُمْ وَمَا عِنْدِى مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) ، قَالَ: ثُمَّ لَبِثْنَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ نَلْبَثَ، ثُمَّ أُتِىَ بِثَلاثِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى، فَحَمَلَنَا عَلَيْهَا، فَلَمَّا انْطَلَقْنَا، قُلْنَا: - أَوْ قَالَ بَعْضُنَا - وَاللَّهِ، لا يُبَارَكُ لَنَا أَتَيْنَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) نَسْتَحْمِلُهُ، فَحَلَفَ أَنْ لا يَحْمِلَنَا، ثُمَّ حَمَلَنَا، فَارْجِعُوا بِنَا إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَنُذَكِّرُهُ، فَأَتَيْنَاهُ، فَقَالَ: (مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ، بَلِ اللَّهُ حَمَلَكُمْ، وَإِنِّى وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِى، وَأَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، أَوْ أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِى) . / 4 - وفيه: هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَاه أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَاللَّهِ لأنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِى أَهْلِهِ، آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِىَ كَفَّارَتَهُ الَّتِى افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ) . / 5 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (مَنِ اسْتَلَجَّ فِى أَهْلِهِ بِيَمِينٍ، هُوَ أَعْظَمُ إِثْمًا، لِيَبَرَّ) ، يَعْنِى الْكَفَّارَةَ. (ليبر) ، يعنى الكفارة، للنسفى، وكذا عند ابن الفاسى. قال المؤلف: حض النبى - عليه السلام - أمته على الكفارة إذا كان إتيانها خيرًا من التمادى على اليمين، وأقسم عليه السلام أنه كذلك يفعل هو، ألا ترى أنه حلف ألا يحمل الأشعريين حين لم يكن عنده ما يحملهم عليه، فلما أتى بالإبل حملهم عليها، وأقسم أيضًا أن التمادى على اليمين والاستلجاج فيها أشد إثمًا من إعطاء الكفارة. والاستلجاج فى أهله وهو أن يحلف ألا ينيلها خيرًا، أو لا يجامعها، أو لا يأذن لها فى زيارة قرابة أو مسير إلى المسجد، فتماديه فى هذه اليمين وبره فيها آثم له عند الله من إثمه أن لا يكفر يمينه؛ لأن من فعل ذلك دخل فى قوله: تألى ألا يفعل خيرًا، وهذا منهى عنه، وقد جاء مصداق هذه الأحاديث فى كتاب الله - تعالى - قال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا (الآية. قال أهل التفسير: نزلت هذه الآية فى الرجل يحلف أن لا يبر ولا يصل قرابته ورحمه، ولا يصلح بين اثنين، فأمروا بالصلة والمعروف والإصلاح بين الناس. والعرضة فى كلام العرب: القوة والشدة، يقال: هذا الأمر عرضة لك أى: قوة وشدة على أسبابك، فمعناه على هذا: لا تجعلوا يمينكم قوة لكم فى ترك فعل الخير. وأما قوله فى حديث أبى هريرة: (ليست تغنى الكفارة) . هكذا رواه جماعة، وروى أبو الحسن بن القابسى (ليبر، يعنى: الكفارة) وكذلك رواه النسفى، وهو الصواب، ومن روى: ليس تغنى الكفارة فلا معنى له؛ لأن الكفارة تغنى غناءً شديدًا، وقد جعلها الله تحلة الأيمان، ومعنى قوله: (ليبر) أى ليأت البر، ثم فسر ذلك البر ما هو بقوله: (يعنى الكفارة) خوفًا من أن يظن أنه من إبرار القسم والتمادى على اليمين، وهذا الحديث يرد قول مسروق وعكرمة وسعيد بن جبير، فإنهم ذهبوا إلى أنه يفعل الذى هو خير، ولا كفارة عليه، وقولهم خلاف الأحاديث، فلا معنى له. قال المهلب: وقوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم (الآية يدل أن الله لا يعذب إلا على ما كسبت القلوب بالقصد والعمل من الجوارح، لقوله: (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان (وبقوله عليه السلام: (الأعمال بالنيات) وسيأتى تفسير وجوه اللغو فى بابه - إن شاء الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 90 وقوله: (غُر الُذرى) يعنى بيض الأسنمة، والأغر: الأبيض فى حُسن، ومن ذلك قيل للثنايا إذا كانت بيضًا حسانًا: هن غُر، وذروة كل شىء أعلاه. - باب قَوْلِ النَّبِىِّ عليه السَّلام: (وَايْمُ اللَّهِ / 6 - فيه: ابْن عُمَرَ، بَعَثَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بَعْثًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِى إِمْرَتِهِ، فَقَامَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (إِنْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِى إِمْرَتِهِ، فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِى إِمْرَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَايْمُ اللَّهِ، إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلإمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ بَعْدَهُ) . اختلف أهل العلم بلسان العرب فى معنى (ايم الله) فقال أبو القاسم الزجاجى: ايم الله وايمن الله ومَ الله كل هذه لغات فيها، واشتقاقها عند سيبويه من اليمن والبركة، وألفها عنده ألف وصل، واستدل على ذلك بقول بعضهم وايمن الله بكسر الألف، ولو كانت ألف قطع لم تكسر، وسقوطها مع لام الابتداء قال الشاعر: وقال فريق ليمن الله ما ندرى وإنما التقدير لأيمن الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 وقال الفراء: ألفها ألف قطع، وهى جمع يمين عنده، ومعنى قولهم: يمين الله أى يمين الحالف بالله؛ لأن الله لا يجوز أن يوصف بأنه يحلف بيمين، وإنما هذه من صفات المخلوقين، وروى عن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يحلفان بايم الله، ورأى الحلف بها الحسن البصرى وإبراهيم النخعى، وذكر ابن خواز بنداد عن مالك أن ايم الله عنده يمين. وقال الطحاوى: (ايم الله) يمين عند أصحابنا، وهو قول مالك، وقال الشافعى: إن لم يرد بأيم الله يمينًا فليست بيمين، وقال إسحاق بن راهويه. إذا أراد بها يمينًا كانت يمينًا بالإرادة وعقد القلب. 3 - باب كَيْفَ كَانَتْ يَمِينُ النَّبِىِّ عليه السَّلام؟ قَالَ سَعْدٌ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ) . وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ النَّبِىِّ عليه السَّلام: لاهَا اللَّهِ، ويُقَالُ: وَاللَّهِ وَبِاللَّهِ وَتَاللَّهِ. / 7 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: كَانَتْ يَمِينُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا، وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ) . / 8 - وفيه: جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وأَبُو هُريرة، قَالَ عليه السَّلام: (إِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 / 9 - وفيه: عَائِشَةَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلا) . / 10 - وفيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ هِشَامٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ ابْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لأنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ إِلا نَفْسِى، فَقَالَ عليه السَّلام: (لا، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ) ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ لأنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ نَفْسِى، فَقَالَ عليه السَّلام: (الآنَ يَا عُمَرُ) . / 11 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، أنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (أَمَا وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ، فَرَدٌّ عَلَيْكَ. . . .) ، الحديث. / 12 - وفيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ أَسْلَمُ وَغِفَارُ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ خَيْرًا مِنْ بَمِّى تَمِيمٍ وَعَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَغَطَفَانَ وَأَسَدٍ خَابُوا وَخَسِرُوا) ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَهُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ) . / 13 - وفيه: أَبُو حُمَيْد، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، اسْتَعْمَلَ عَامِلا، فَجَاءَهُ الْعَامِلُ. . . . الحديث، فَقَالَ عليه السَّلام: (وَالَّذِى نَفْسى بِيَدِهِ، لا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا. . . . .) الحديث. / 14 - وفيه: أَبُو ذَرّ، انْتَهَيْتُ إِلى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: (هُمُ الأخْسَرُونَ، وَرَبِّ الْكَعْبَةِ) ، مرتين، يعنى الأكثرين. . . . . الحديث، إِلا مَنْ قَالَ: (هَكَذَا وَهَكَذَا) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 / 15 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ سُلَيْمَانُ: لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً، كُلُّهُنَّ تَأْتِى بِفَارِسٍ، يُجَاهِدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَمْ يَقُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَايْمُ الَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ) . / 16 - وفيه: الْبَرَاء، أُهْدِىَ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، سَرَقَةٌ مِنْ حَرِيرٍ، فَقَالَ عليه السَّلام: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَمَنَادِيلُ سَعْدٍ فِى الْجَنَّةِ خَيْرٌ من هذا) . / 17 - وفيه: عَائِشَةَ، إِنَّ هِنْدَ ابِنة عُتْبَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ أَهْلُ أَخْبَاءٍ - أَوْ خِبَاءٍ، شَكَّ يَحْيَى - أَحَبَّ إِلَىَّ من أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ أَخْبَائِكَ - أَوْ خِبَائِكَ - ثُمَّ مَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ أَهْلُ أَخْبَاءٍ - أَوْ خِبَاءٍ - أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ أَخْبَائِكَ - أَوْ خِبَائِكَ - قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَأَيْضًا، وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ) الحديث. / 18 - وفيه: ابْن مَسْعُود،، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لأصْحَابِهِ: (أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ) ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: (أَفَتَرْضُوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ) ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: (فَوَالَّذِى نَفْسى بِيَدِهِ، إِنِّى لأرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ) . / 19 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) للذى قرأ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ) . / 20 - وفيه: أَنَس، قَالَ عليه السَّلام: (أَتِمُّوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، إِنِّى لأرَاكُمْ مِنْ بَعْدِ ظَهْرِى إِذَا مَا رَكَعْتُمْ وَسَجَدْتُمْ) . / 21 - وفيه: أَنَس، أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأنْصَارِ أَتَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) مَعَهَا أَوْلاَدٌهَا، فَقَالَ: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، إِنَّكُمْ لأحَبُّ النَّاسِ إِلَىَّ) ، ثَلاثًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 قال المؤلف: أما قوله: (والذى نفسى بيده) و (لا ومقلب القلوب) فهذه أيمان النبى - عليه السلام - فالسنة أن يحلف بهما وبما شابههما من أسماء الله وصفاته - تعالى - وقد قال عليه السلام: (من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت) . وأجمع العلماء أنه من حلف فقال: والله أو بالله أو تالله أن عليه الكفارة؛ لأن الواو والباء والتاء هى حروف القسم عند العرب، والواو والباء يدخلان على كل محلوف به، ولا تدخل الفاء إلا على الله وحده. وقولهم: (لا ها الله) أصله لا والله، حذف حرف القسم وعوض منه (ها) التى للتنبيه، فصار واو القسم خافضًا مضمرًا مثله مظهرًا، غير أنه لا يجوز أن يظهر مع ما هو عوض منه. وأجمعوا أنه من حلف باسم من أسماء الله - تعالى - أن عليه الكفارة واختلفوا فيمن حلف بصفاته، وسيأتى ذلك فى بابه - إن شاء الله. واحتج من أوجب الكفارة فى الأيمان بالصفات كلها بحديث ابن عمر (أن النبى - عليه السلام - كانت يمينه لا ومقلب القلوب) ، وصفاته تعالى كلها منه، وليس شىء مخلوق. وقوله: (خباء أو أخباء) : فالمعروف فى جمع خباء أخبية، وكذلك تجمع فعال وفعيل فى القليل على أفعلة، كمثال وأمثلة، وسقاء وأسقية، ورغيف وأرغفة، وقد جمع فعيل على أفعال كيتيم وأيتام، وشريف وأشراف، ويمين وأيمان، وهذا قياس خباء وأخباء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 فإن قال قائل: بم يتعلق القسم فى قوله عليه السلام فى حديث هند (وأيضًا والذى نفسى بيده) ؟ قيل: قد فسر المعنى معمر فى روايته عن الزهرى قال معمر: (لتزدادن) . قال المؤلف: يعنى لتزدادن محبة فيما ذكرت إذا قوى إسلامك وتحكم الإيمان فى قلبك، كما قال عليه السلام: (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وولده ومن الناس أجمعين) يريد لا يبلغ حقيقة الإيمان وأعلى درجاته. 4 - باب لا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ / 22 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَدْرَكَ عُمَرَ، وَهُوَ يَسِيرُ فِى رَكْبٍ فَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ) . قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، ذَاكِرًا وَلا آثِرًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) [الأحقاف: 4] يَأْثُرُ عِلْمًا. / 23 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ عليه السَّلام: (لا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ) . / 24 - وفيه: أَبُو مُوسَى، (وَاللَّهِ لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا. . . .) الحديث. قال المهلب: كانت العرب فى الجاهلية تحلف بآبائها وآلهتها، فأراد الله أن ينسخ من قلوبها وألسنتها ذكر كل شىء سواه، ويبقى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 ذكره تعالى، لأنه الحق المعبود، فالسنة اليمين بالله، كما رواه أبو موسى وغيره عن النبى، والحلف بالمخلوقات فى حكم الحلف بالآباء، لا يجوز عند الفقهاء شىء من ذلك. قال الطبرى فى حديث عمر: إن الأيمان لا تصلح بغير الله - تعالى - كائنًا ما كان، وأن من قال والكعبة أو وجبريل وميكائيل أو آدم وحوا ونوح أو قال: وعذاب الله، أو ثواب الله أنه قد قال من القول هجرًا، وتقدم على ما نهى النبى - عليه السلام - عنه، ولزمه الاستغفار من قوله ذلك دون الكفارة، لثبوت الحجة أنه لا كفارة على الحالف بذلك. قال غيره: فإن قال قائل: فأين ما فى القرآن من الإقسام بالمخلوقات نحو قوله) والطور وكتاب مسطور () والتين والزيتون () والسماء والطارق (وما كان مثله؟ . قيل: المعنى فيه عند المفسرين: ورب السماء والطارق، ورب الطور، ورب النجم، فعلى هذا القول هى إقسام بالله - تعالى - لا بغيره. قال ابن المنذر: فالجواب أن الله أقسم بما شاء من خلقه، ثم بين الرسول ما أراد الله من عباده أنه لا يجوز لأحد أن يحلف بغيره، لقوله: (من كان حالفًا فليحلف بالله) . قال الشعبى: الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغى له أن يقسم إلا بالخالق، والذى نفسى بيده لأن أقسم بالله فأحنث أحب إلى من أن أقسم بغيره فأبر. وذكر ابن القصار مثله عن ابن عمر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 وقال قطرب: إنما أقسم الله بهذه الأشياء ليعجب منها المخلوقين، ويعرفهم قدرته فيها ليعظم شأنها عندهم، ولدلالتها على خالقها، فلا يجوز لأحد أن يقسم بهذه الأقسام وشبهها، لأجماع العلماء أنه من وجبت له يمين على رجل أنه لا يحلف له إلا بالله، ولو حلف له بالنجم أو بالسماء والطارق وقال: نويت رب ذلك، لم يكن عندهم يمينًا. وقال ابن المنذر: من حلف بغير الله وهو عالم بالنهى فهو عاص. قال: واختلف أهل العلم فى معنى نهى النبى عن الحلف بغير الله، أهو عام فى الأيمان كلها، أو هو خاص فى بعضها؟ فقالت طائفة: الأيمان النهى عنها، هى الأيمان التى كان أهل الجاهلية يحلفون بها تعظيما منهم لغير الله، كاليمين باللات والعزى والآباء والكعبة والمسيح وبملل الشرك، فهذه المنهى عنها ولا كفارة فيها، وأما ما كان من الأيمان مما يئول الأمر فيه إلى تعظيم الله فهى غير تلك، وذلك كقول الرجل: وحق النبى، وحق الإسلام، وكاليمين بالحج والعمرة والصدقة والعتق وشبهه، فكل هذا من حقوق الله ومن تعظيمه، وقال أبو عبيد: إنما ألفاظ الأيمان ما كان أصله يراد به تعظيم الله والقربة إليه، ومن القربة إليه اليمين بالعتق والمشى والهدى والصدقة. قال ابن المنذر: وقد مال إلى هذا القول غير واحد ممن لقيناه، واستدل بعضهم بما روى عن أصحاب النبى - عليه السلام - من إيجابهم على الحالف بالعتق وصدقة المال والهدى ما أوجبوه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 مع روايتهم هذه الأخبار التى فيها التغليظ فى اليمين بغير الله، أن معنى النهى فى ذلك غير عام، إذ لو كان عاما ما أوجبوا فيه من الكفارات ما أوجبوا، ولنهوا عن ذلك. وقوله: (ذاكرًا) يعنى متكلمًا به، كقولك: ذكرت لفلان حديثًا حسنا، وليس من الذكر الذى هو ضد النسيان. وقوله: (ولا آثرًا) يقول: ولا مخبرًا عن غيرى أنه حلف به. وقال الطبرى: ومنه حديث مأثور عن فلان، أى تحدث به عنه. 5 - باب لا يُحْلَفُ بِاللاتِ وَالْعُزَّى وَلا بِالطَّوَاغِيتِ / 25 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، (مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِى حَلِفِهِ: بِاللاتِ وَالْعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ، أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ) . قال المهلب: كان أهل الجاهلية قد جرى على ألسنتهم الحلف باللات والعزى، فلما أسلموا ربما جروا على عادتهم من ذلك من غير قصد منهم فكان من حلف بذلك فكأنه قد راجع حاله إلى حالة الشرك، وتشبه بهم فى تعظيمهم غير الله، فأمر النبى - عليه السلام - من عرض له ذلك بتجديد ما أنساهم الشيطان أن يقولوا: لا إله إلا الله، فهو كفارة له، إذ ذلك براءة من اللات والعزى ومن كل ما يعبد من دون الله. قال الطبرى: وقول ذلك واجب عليه مع إحداث التوبة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 والندم على ما قال من ذلك، والعزم على ألا يعود، ولا يعظم غير الله، وقد روى أبو إسحاق السبيعى، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: (حلفت باللات والعزى، فقال أصحابى: ما نراك قلت إلا هجرًا. فأتيت النبى فقلت: إن العهد كان قريبًا فحلفت باللات والعزى. فقال: قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شىء قدير، ثلاث مرات، وانفث عن شمالك ثلاثًا، وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا تعد) . قال الطبرى: وفيه الإبانة أن كل من أتى أمرًا يكرهه الله، ثم أتبعه من العمل بما يرضاه الله ويحبه بخلافه، وندم عليه، وترك العود له، فإن ذلك واضع عنه وزر عمله، وماح إثم خطيئته، وذلك كالقائل يقول: كفر بالله إن فعل كذا، فالصواب له أن يندم على قوله ندامة [.] على حلفه، وأن يحدث من قول الحق خلاف ما قال من الباطل، وكذلك أعمال الجوارح، كالرجل يهم بركوب معصية، فإن توبته ترك العزم عليه، والانصراف عن فعل ما هم به، وأن يهم بعمل طاعة لله مكان همه بالمعصية، كما قال عليه السلام لمعاذ فى وصيته: (إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة تمحها) . قال غيره: وأما قوله عليه السلام: (من قال لصاحبه: تعالى أقامرك، فليتصدق) فهو محمول عند الفقهاء على الندب لا على الإيجاب، بدليل أنه من أراد أن يعصى الله ولم يفعل ذلك فليس عليه صدقة ولا غيرها، وقد روى ابن عباس عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة) وروى أبو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 هريرة عن النبى أنه قال: (من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه شىء) . واحتج ابن عباس لروايته بقول الله - تعالى -) ولمن خاف مقام ربه جنتان (قال: هو العبد يهم بالمعصية ثم يتركها من خوف الله - تعالى - وستأتى زيادة فى معنى هذه الحديث فى آخر كتاب الاستئذان فى باب كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله، ومعنى قوله: (ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك) ، إن شاء الله. والطاغوت قد اختلف السلف فى معناه، فقال جماعة: هو الشيطان. روى ذلك عن عمر ومجاهد والشعبى وقتادة وجماعة. وقال آخرون: هو الساحر، روى ذلك عن أبى العالية وابن سيرين وغيرهما. وقال آخرون: هو الكاهن، روى ذلك عن جابر وسعيد بن جبير. قال الطبرى: وهو عندى فعلوت من الطغيان، كالجبروت من التجبر، والجلبوت من الجلب، قيل ذلك لكل من طغى على ربه، فعبد من دونه إنسانًا كان ذلك الطاغى أو شيطانًا أو صنمًا. 6 - باب مَنْ حَلَفَ عَلَى الشَّىْءِ وَإِنْ لَمْ يُحَلَّفْ / 26 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، وَكَانَ يَلْبَسُهُ، فَيَجْعَلُ فَصَّهُ فِى بَاطِنِ كَفِّهِ، ثُمَّ إِنَّهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَعَهُ، فَقَالَ: (إِنِّى كُنْتُ أَلْبَسُ هَذَا الْخَاتِمَ، وَأَجْعَلُ فَصَّهُ مِنْ دَاخِلٍ، فَرَمَى بِهِ) ، ثُمَّ قَالَ: (وَاللَّهِ لا أَلْبَسُهُ أَبَدًا فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 قال المهلب: إنما كان النبى يحلف على تضاعيف كلامه وكثير من فتواه، متبرعًا بذلك لينسخ ما كانت الجاهلية عليه من الحلف بآبائها وآلهتها من الأصنام وغيرها، ليعرفهم ألا محلوف به إلا الله، وليتدربوا على ذلك حتى ينسوا ما كانون عليه من الحلف بغير الله. وقوله: (لا ألبسه أبدًا) أراد بذلك تأكيد الكراهية فى نفوس الناس بيمينه؛ لئلا يتوهم الناس أنه كرهه لمعنى، فإن زال ذلك المعنى لم يكن بلبسه بأس، وأكد بالحلف ألا يلبسه على جميع وجوهه. وفيه من الفقه: أنه لا بأس بالحلف على ما يحب المرء تركه، أو على ما يحب فعله من سائر الأفعال. 7 - باب مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ سِوَى الإسْلامِ وَقَالَ النَّبِىُّ عليه السَّلام: (مَنْ حَلَفَ بِاللاتِ وَالْعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ) ، وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى الْكُفْرِ. / 27 - وفيه: ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ مِلَّةِ الإسْلامِ فَهُوَ كَمَا قَالَ) ، قَالَ: (وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَىْءٍ، عُذِّبَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ، وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ) . قال المهلب: قوله: (فهو كما قال) يعنى هو كاذب فى يمينه لا كافر؛ لأنه لا يخلو أن يعتقد الملة التى حلف بها، فلا كفارة له إلا الرجوع إلى الإسلام، أو يكون معتقدًا للإسلام بعد الحنث فهو كاذب فيما قاله، بمنزلة من حلف يمين الغموس لا كفارة عليه، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 ألا ترى قوله عليه السلام: (من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله) ، ولم ينسبه إلى الكفر. قال ابن المنذر: وفسر ابن المبارك الكفر فى هذه الأحاديث أن المراد به التغليظ وليس بالكفر، كما روى عن ابن عباس فى قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (أنه ليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وكذلك قال عطاء: كفر دون كفر، وفسق دون فسق وظلم دون ظلم، وكما قال عليه السلام: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) أى كفر بما أمر به ألا يقتل بعضهم بعضًا. قال غيره: والأمة مجمعة أن من حلف باللات والعزى فلا كفارة عليه، فكذلك من حلف بملة سوى الإسلام لا فرق بينهما، ومعنى الحديث عن الحلف بما حلف من ذلك والزجر عنه. فإن ظن ظان أن فى هذا الحديث دليلا على إباحة الحلف بملة غير الإسلام صادقًا، لاشتراطه فى هذا الحديث أن يحلف بذلك كاذبًا. قيل له: ليس كما توهمت؛ لورود نهى رسول الله عن الحلف بغير الله نهيًا مطلقًا، فاستوى الكاذب والصادق فى النهى، وقد تقدم معنى هذا الحديث فى آخر كتاب الجنائز فى باب قاتل النفس، وستأتى زيادة فى بيانه فى كتاب الأدب فى باب من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال - إن شاء الله. وقوله: (من قتل نفسه بشىء عذب به فى نار جهنم) هو على الوعيد، والله - تعالى - فيه بالخيار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 وقوله: (ولعن المؤمن كقتله) فيه تأويلان. قال المهلب: وهو معنى قوله الطبرى: اللعن فى اللغة هو الإبعاد. فمن لعن مؤمنًا فكأنه أخرجه من جماعة الإسلام، فأفقدهم منافعه وتكثير عددهم، فكان كمن أفقدهم منافعه بقتله، ويفسر هذا قوله للذى لعن ناقته: (انزل عنها فقد أجيبت دعوتك) فسرحها ولم ينتفع بها أحد بعد ذلك، فأفقد منافعها لما أجيبت دعوته، فكذلك يخشى أن تجاب دعوة اللاعن فيهلك الملعون. والتأويل الآخر: أن الله حرم لعن المؤمن كما حرم قتله فهما سواء فى التحريم، وهذا يقتضى تحذير لعن المؤمنين والزجر عنه؛ لأن الله - تعالى - قال: (إنما المؤمنون إخوة (فأكد حرمة الإسلام، وشبهها بإخوة النسب، وكذلك معنى قوله: (من رمى مؤمنًا بكفر فهو كقتله) يعنى فى تحريم ذلك عليه - والله أعلم. فإن قيل: هذا التأويل يعارض ما ثبت عن رسول الله أنه لعن جماعة من المؤمنين فلعن المخنثين من الرجال، ولعن شارب الخمر، ولعن فيه عشرة، ولعن المصورين، ولعن من غير تخوم الأرض، ولعن من انتمى إلى غير مواليه، ومن انتسب إلى غير أبيه، ولعن من سب والديه، وجماعة سواهم. قيل: لا تعارض فى شىء من ذلك، والمؤمن الذين حرم رسول الله لعنهم هم غير من لعنهم، فنهى عن لعن من لم يظهر الكبائر ولا استباح ركوب ما نهى الله عنه، وأمر بموالاتهم وموآخاتهم فى الله والتودد إليهم، ولعن من خالف أمره واستباح نهيه، وأمر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 بإظهار النكير عليهم، وترك موالاتهم والانبساط إليهم والرضا عن أفعالهم، فالحديثان مختلفان؛ فانتفى التعارض بحمد الله. واختلف العلماء فى الرجل يقول: أكفر بالله أو أشرك بالله ثم يحنث، فقال مالك: لا كفارة عليه، وليس بكافر ولا مشرك حتى يكون قلبه مضمرًا على الشرك والكفر، وليستغفر الله، وبئس ما صنع. وهو قول عطاء ومحمد بن على وقتادة، وبه قال الشافعى وأبو ثور وأبوعبيد. وقال أبو حنيفة وأصحابه، والثورى، والأوزاعى: من قال هو يهودى أو نصرانى أو كفرت بالله أو أشركت بالله أو برئت من الله أو من الإسلام؛ فهو يمين، وعليه الكفارة إن حنث؛ لأنه تعظيم لله، فهو كاليمين بالله. وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق. وممن رأى الكفارة على من قال هو يهودى أو نصرانى: عبد الله بن عمر، وعائشة، والشعبى، والحسن، وطاوس، والنخعى، والحكم. قال ابن المنذر: وقول من لم يرها يمينًا أصح؛ لقول النبى - عليه السلام -: (من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله) ولم يأمره بكفارة. قال ابن القصار: وبقوله عليه السلام: (من حلف بملة غير الإسلام فهو كما قال) ومعناه النهى عن مواقعة ذلك اللفظ والتحذير منه؛ لا أنه يكون كافرًا بالله بقول ذلك. قال ابن القصار: وإنما أراد التغليظ فى هذه الأيمان حتى لا يجترئ عليها أحد. وكذلك قال ابن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 عباس وأبو هريرة والمسور، ثم تلاهم التابعون فلم يوجبوا على من أقدم عليها الكفارة. قال: وأما قولهم: إذا قال أنا يهودى فقد عظم الإسلام وأراد الامتناع من الفعل، فالجواب أنهم يقولون: لو قال: وحق القرآن وحق المصحف ثم حنث أنه لا كفارة عليه، وفى هذا من التعظيم لله وللإسلام ما ليس لما ذكروه، فسقط قولهم، وأيضًا فإنه إذا قال: هو يهودى، أو كفر بالله، فليس من طريق التعظيم، وإنما هو من الجرأة والإقدام على المحرمات، كالغموس وسائر الكبائر، وهى أعظم من أن يكون فيها كفارة. 8 - بَاب لا يَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ وَهَلْ يَقُولُ: أَنَا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ / 28 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَقُولُ: (إِنَّ ثَلاثَةً فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ مَلَكًا فَأَتَى الأبْرَصَ، فَقَالَ: تَقَطَّعَتْ بِىَ الْحِبَالُ فَلا بَلاغَ لِى إِلا بِاللَّهِ، ثُمَّ بِكَ. . .) ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قال المهلب: إنما أراد البخارى أن يجيز (ما شاء الله ثم شئت) استدلالا بقوله عليه السلام فى حديث أبى هريرة: (ولا بلاغ لى إلا بالله ثم بك) وإنما لم يجز أن نقول: ما شاء الله وشئت؛ لأن الواو تشرك المشيئتين جميعًا، وقد روى هذا المعنى عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (لا يقولن أحدكم: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شاء فلان) وإنما أجاز دخول (ثم) مكان الواو؛ لأن مشيئة الله متقدمة على مشيئة خلقه، قال تعالى: (ما تشاءون إلا أن يشاء الله (. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 فهذا من الأدب، وذكر عبد الرزاق عن إبراهيم النخعى أنه كان لا يرى بأسًا أن يقول: ما شاء الله ثم شئت. وكان يكره أن يقول: أعوذ بالله وبك، حتى يقول: ثم بك. والحديث فى ذلك رواه محمد بن بشار، حدثنا أبو أحمد الزبيرى، قال: حدثنا مسعر عن معبد بن خالد، عن عبد الله بن يسار، عن قتيلة امرأة من جهينة قالت: (جاء يهودى إلى النبى - عليه السلام - فقال: إنكم تشركون وإنكم تجعلون لله ندا، تقولون: والكعبة، وتقولون ما شاء وشئت، فأمرهم النبى - عليه السلام - إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأمرهم أن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت) ، وهذا الحديث رأى البخارى ولم يكن من شرط كتابه، فترجم به واستنبط معناه من حديث أبى هريرة - والله أعلم. 9 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) [الأنعام: 109] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَتُحَدِّثَنِّى بِالَّذِى أَخْطَأْتُ فِى الرُّؤْيَا، قَالَ: (لا تُقْسِمْ) . / 29 - فيه: الْبَرَاء، أَمَرَنَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ. / 30 - وفيه: أُسَامَةَ، أَنَّ ابِنْة للنَّبِىّ، عليه السَّلام، أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ: أَنَّ ابْنِى قَدِ احْتُضِرَ فَاشْهَدْنَا، فَأَرْسَلَ يَقْرَأُ السَّلامَ، وَيَقُولُ: (إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلِلَّهِ مَا أَعْطَى. . . .) الحديث. فَأَرْسَلَتْ تُقْسِمُ عَلَيْهِ، فَقَامَ وَقُمْنَا مَعَهُ. الحديث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 / 31 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (لا يَمُوتُ لأحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فتَمَسُّهُ النَّارُ إِلا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ) . / 32 - وفيه: حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَقُولُ: (أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعَّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأبَرَّهُ، وَأَهْلِ النَّارِ كُلُّ جَوَّاظٍ عُتُلٍّ مُسْتَكْبِرٍ) . قال المؤلف: من روى (بإبرار المقسم) بفتح السين، فمعناه بإبرار الإقسام؛ لأنه قد يأتى المصدر على لفظ المفعول، كقوله: أدخلته مدخلا بمعنى إدخال، وأخرجته مخرجًا بمعنى إخراج. وقال المهلب: قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم (دليل على أن الحلف بالله - عز وجل - أكبر الأيمان كلها؛ لأن الجهد شدة المشقة. اختلف العلماء فى قول الرجل: أقسمت بالله، أو أقسمت ولم يقل بالله، فذهب أبو حنيفة والثورى أنها أيمان، سواء أريد بها اليمين أم لا. وقال مالك: (أقسم) لا تكون يميًا حتى يقول: أقسم بالله أو ينوى بقوله: (أقسم) اليمين، فإذا لم ينوه فليست بيمين. وروى مثله عن الحسن وعطاء وقتادة والزهرى. وقال الشافعى: (أقسم) ليست بيمين سواء أراد بها اليمين أم لا، و (أقسم بالله) يمين إن أراد بها اليمين. وروى عنه الربيع: إذا قال أقسم، ولم يقل: بالله فهو كقوله: والله. وحجة الكوفيين رواية من روى فى حديث أبى بكر: (أقسمت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 عليك يا رسول الله لتحدثنى فقال النبى: لا تقسم) واحتجوا بحديث البراء قال: (أمرنا النبى - عليه السلام - بإبرار المقسم) قالوا: ولم يقل: بالله، وبحديث أسامة (أن ابنة النبى أرسلت تقسم عليه) ولم يقل: بالله، وبقوله عليه السلام: (لو أقسم على الله لأبره) ولم يأت فى شىء من هذه الأحاديث ذكر اسم الله، قالوا: وقد جاء فى القرآن ذكر الله مع القسم فى موضع، ولم يأت فى موضع آخر؛ اكتفاء بما دل عليه اللفظ، قال تعالى: (وأقسموا بالله (فذكر اسمه، قال تعالى: (إذا أقسموا ليصرمنها مصبحين (، فحذف اسمه، فدل على أن أحد الموضعين يفيد ما أفاده الآخر. وقال السيرافى: لا تكون (أقسم) إلا يمينًا؛ لدخول اللام فى جوابها، ولو كانت غير يمين لما دخلت اللام فى الجواب؛ لأنك لا تقول: ضربت لأفعلن، كما تقول: أقسمت لأفعلن. وحجة مالك قوله عليه السلام: (الأعمال بالنيات وإنما لامرئ ما نوى) ومن لم ينو اليمين فلا يمين له، وأيضًا فإن العادة جرت بأن يحلف الناس على ضروب، فمنها اللغو يصرحون فيه باسم الله، ثم لا تلزمهم الكفارة؛ لعدم قصدهم إلى الأيمان، فالموضع الذى عدم فيه التصريح والقصد أولى ألا تجب فيه كفارة، قاله ابن القصار قال: وقال أصحاب الشافعى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 اليمين تكون يمينًا لحرمة اللفظ، وإذا قال: أقسمت، فلا لفظ هاهنا له حرمة، وكل ما احتج به الكوفيون فهو حجة على الشافعى. قال ابن القصار: ويقال للشافعى: قال الله - تعالى -: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم (فوصل القسم باسمه تعالى، فكان يمينًا وقال فى موضع آخر: (إذا أقسموا ليصرمنها مصبحين (فأطلق القسم ولم يقيده بشىء، فوجب أن يبنى المطلق على المقيد، كالشهادة قرنت بالعدالة فى موضع، وعريت فى موضع من ذكر العدالة، كالرقبة فى الكفارة، قيد فى موضع مؤمنة، وأطلق فى موضع، فبنى المطلق على المقيد. قال ابن المنذر: وأمر النبى - عليه السلام - بإبرار المقسم أمر ندب لا أمر وجوب؛ لأن أبا بكر أقسم على النبى فلم يبر قسمه، ولو كان ذلك واجبًا لم يشأ رجل أن يسأل آخر بأن يخرج له من كل ما يملك، ويطلق زوجته، ثم يحلف على الإمام فى حد أصابه أن يُسقط عنه؛ إلا تم له، وفى ذلك تعطيل الحدود وترك الاقتصاص مما فيه القصاص، وإذا لم يجز ذلك كان معنى الحديث الندب فيما يجوز الوقوف عنه دون ما لا يجوز تعطيله. وقال المهلب: إبرار القسم إنما يستحب إذا لم يكن فى ذلك ضرر على المحلوف عليه أو على جماعة أهل الدين؛ لأن الذى سكت عنه النبى - عليه السلام - من بيان موضع الخطأ فى تعبير أبى بكر، هو عائد على المسلمين بهم وغم؛ لأنه عبر قصة عثمان بأنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 يخلع ثم يراجع الخلافة، فلو أخبره النبى بخطئه لأخبر الناس بأنه يقتل ولا يرجع إلى الخلافة، فكان يُدخل على الناس فتنة بقصة عثمان من قبل كونها، وكذلك لو أقسم على رجل ليشربن الخمر ما وجب عليه إبرار قسمه، بل الفرض عليه ألا يبره. واختلف الفقهاء إذا أقسم على الرجل فحنثه، فروى عن ابن عمر أن الحالف يُكفر، وروى مثله عن عطاء وقتادة، وهو قول أهل المدينة والعراق والأوزاعى. وفيها قول ثان روى عن عائشة أم المؤمنين: (أن مولاة لها أقسمت لها فى قديدة تأكلها فأحنثتها عائشة، فجعل النبى تكفير اليمين على عائشة) قال ابن المنذر: وإسناده لا يثبت. وفيها قول ثالث روى عن أبى هريرة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أنهما لم يجعلا فى ذلك كفارة، قال عبيد الله، ألا ترى أن أبا بكر قال للنبى فى الرؤيا: (أقسمت عليك لتخبرنى بالذى أخطأت، فقال النبى: لا تقسم) قال: ولم يبلغنا أنه أمره بالتكفير. قال ابن المنذر: ويقال للذى قال: إن الكفارة تجب على المقسم عليه: ينبغى أن يوجب الكفارة على النبى حين أقسم عليه أبو بكر فلم يخبره. وقال أبو زيد الأنصارى: الجواظ: الكثير اللحم، المختال فى مشيته، يقال: جاظ يجوظ جوظانا، وقال الأصمعى مثله، وأنشد لرؤبة: وفى العين: يعلو به ذا العضل الجواظا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 وفي العين: الجواظ: الأكول، ويقال: الفاجر، والعتل: الأكول. - باب إِذَا قَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ، أَوْ شَهِدْتُ بِاللَّهِ / 33 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، سُئِلَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَىُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: (قَرْنِى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِىءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ) . قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَكَانَ أَصْحَابُنَا يَنْهَوْنَنَا - وَنَحْنُ غِلْمَانٌ - أَنْ نَحْلِفَ بِالشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ. قال المؤلف: إنما قصد البخارى من هذا الحديث إلى قول إبراهيم: وكان أصحابنا ينهوننا ونحن غلمان أن نحلف بالشهادة والعهد يريد: أشهد الله، وعلى عهد الله فدل نهيهم عن الحلف بذلك أنهما يمينان مغلظان، ووجه النهى عنهما - والله أعلم - أن قوله: أشهد بالله، يقتضى معنى العلم بالقطع وعهد الله لا يقدر أحد على التزامه بما يجب فيه، واختلف العلماء فى ذلك، فقال النخعى وهو قول أبى حنيفة والثورى -: أشهد وأحلف وأعزم كلها أيمان تجب فيها الكفارة. وقال ربيعة والأوزاعى: إذا قال: أشهد لا أفعل كذا ثم حنث، فهى يمين. وقال مالك: (أشهد) لا تكون يمينا حتى يقول أشهد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 بالله، وكذلك (أحلف) و (أعزم) إذا أراد الله، وإن لم يرد ذلك فليست بأيمان. قال ابن خواز بنداد: وضعف مالك (أعزم الله) وكأنه لم يره يمينًا إلا أن يريد به اليمين؛ لأنه يكون على وجه الاستعانة، فيقول الرجل: أعزم بالله وأصول بالله، كأنه يقول: أستعين بالله، ولا يجوز أن يقال: إن قول الرجل: (أستعين بالله) تكون يمينًا. وقال المزنى: قال الشافعى: (أشهد بالله) و (أعزم بالله) إن نوى اليمين فيمين. وروى عنه الربيع: إن قال: (أشهد) و (أعزم) ولم يقل: (بالله) فهو كقوله: والله، وإن قال: (أحلف) فلا شىء عليه إلا أن ينوى اليمين. واحتج الكوفيون بقوله تعالى: (والله يعلم إنك لرسوله (ثم قال: (اتخذوا أيمانهم جنة (فدل على أن قول القائل: (أشهد) يمين؛ لأن هذا اللفظ عبارة عن القسم بالله وإنما يحذف اسم الله اكتفاءً بما دل عليه اللفظ. واحتج أصحاب مالك أن قولك: أشهد لأفعلن كذا ليس بصريح يمين؛ لأنه يحتمل أن يريد أشهد عليك بشىء إن فعلت كذا، وقد تقول: أشهد بالكعبة وبالنبى، فلا يكون يمينًا. وأنكر أبو عبيد أن تكون (أشهد) يمينًا، وقال: (الحالف غير الشاهد) ، قال: وهذا خارج من الكتاب والسنة ومن كلام العرب. قال الطحاوى: وقوله عليه السلام: (ثم يجىء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) إنما أراد أنهم يكثرون الأيمان على كل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 شىء حتى تصير لهم عادة، فيحلف أحدهم حيث لا يراد منه اليمين وقبل أن يُستحلف، يدل على ذلك قول النخعى: وكانوا ينهوننا ونحن غلمان أن نحلف بالشهادة العهد. يعنى أن نحلف بالشهادة بالله وعلى عهد الله، كما قال تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم (والشهادة هاهنا اليمين بالله قال تعالى: (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله (أى أربع أيمان بالله. - باب عَهْدِ اللَّهِ / 34 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ، يَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ - أَوْ قَالَ: أَخِيهِ - لَقِىَ اللَّهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهُ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ () [آل عمران 77] . قَالَ سُلَيْمَانُ فِى حَدِيثِهِ: فَمَرَّ الأشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ. . . . الحديث. اختلف العلماء فيمن قال: على عهد الله، فقال مالك وأبو حنيفة والأوزاعى: من حلف بذلك وجبت عليه الكفارة سواء نوى اليمين أو لا، وروى هذه القول عن طاوس، والشعبى، والنخعى، والحكم، والحسن البصرى، وقتادة، ومجاهد. وروى عن عطاء: ليس ذلك بيمين إلا أن ينوى اليمين، وهو قول الشافعى وأبى ثور وأبى عبيد. والحجة للقول الأول قوله: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلاً (فخص عهد الله بالتقدمة على سائر الأيمان؛ فدل على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 تأكيد الحلف به ولذلك قال إبراهيم: كانوا ينهوننا عن الحلف بالعهد وليس ذلك إلا لغلظ اليمين به وخشية التقصير فى الوفاء به، فعهد الله ما أخذه على عباده وما أعطاه عباده قال تعالى: (ومنهم من عاهد الله (إلى قوله: (بما أخلفوا الله ما وعدوه (فذمهم على ترك الوفاء؛ لأن تاركه مُستخِف بمن كان عاهده فى منعه ما كان وعده. قال ابن القصار: واحتجوا بقوله تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم (فأمر بالوفاء بعهده ثم عطف عليه بقوله: (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها (ولم يتقدم ذكر غير العهد، فأعلمنا أنه يمين مؤكد، ألا ترى قوله: (وقد جعلتم الله عليكم كفيلا (. وقال يحيى بن سعيد فى قوله: (ولا تنقضوا الأيمان (قال: العهود. وقد روى عن جابر بن عبد الله فى قوله تعالى: (أوفوا بالعقود (قال: عقدة الطلاق، وعقدة البيع، وعقد الحلف، وعقد العهد، فإذا قال: علىَّ عهد الله، فقد عقد على نفسه عقدًا يجب الوفاء به؛ لقوله تعالى: (أوفوا بالعقود (وروى عن ابن عباس: إذا قال: علىَّ عهد الله، فحنث يعتق رقبة. فإن قال الشافعى: فإذا قال: علىَّ عهد الله، يحتمل أن يريد معهود الله، وهو ما ذكره تعالى فى قوله: (ألم أعهد إليكم يا بنى آدم ألا تعبدوا الشيطان (وإذا كان هذا معهود الله، وهو محدث فهو كقوله: فرض الله، يكون عبارة عن مفروض الله، ولا يكون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 يمينًا، لأنه يمين بمحدث؛ قيل: قوله: علىَّ عهد الله، غير قوله: معهود الله؛ لأنه لم يجر العرف والعادة بأن يقول أحد: علىَّ معهود الله، وإنما جرى بأن يراد بذلك اليمين. وقال مالك: إذا قال: علىَّ عهد الله وميثاقه، فعليه كفارتان إلا أن ينوى التأكيد فتكون يمينًا واحدةً. وقال الشافعى: عليه كفارة واحدة، وهو قول مطرف وابن الماجشون وعيسى بن دينار. والحجة لمالك أنه لما خالف بين اللفظين، وكل واحد يجوز أن يستأنف به اليمين كانت يمينين ووجب أن يكون لكل لفظ فائدة محددة. - باب الْحَلِفِ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلاَمِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يَقُولُ: (أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ) . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ عليه السَّلام: (يَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِى عَنِ النَّارِ، يَقُولُ: لا وَعِزَّتِكَ لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا) . وَقَالَ أَيُّوبُ: (وَعِزَّتِكَ لا غِنَى بِى عَنْ بَرَكَتِكَ) . / 35 - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (لا تَزَالُ جَهَنَّمُ: تَقُولُ: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) [ق: 30] حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ، فَتَقُولُ: قَطْ، قَطْ، وَعِزَّتِكَ، وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 اختلف العلماء فى اليمين بصفات الله، فقال مالك فى المدونة: الحلف بأسماء الله وصفاته لازم كقوله: والعزيز، والسميع، والبصير، والعليم، والخبير، واللطيف، أو قال: وعزة الله وكبريائه، وعظمة الله وقدرته، وأمانته، وحقه، فهى أيمان كلها تُكفر، وذكر ابن المنذر مثله عن الكوفيين أنه إذا قال: وعظمة الله، وعزة الله، وجلال الله، وكبرياء الله، وأمانة الله: وجبت عليه الكفارة، وكذلك فى كل اسم من أسمائه تعالى. وقال الشافعى فى جلال الله، وعظمة الله، وقدرة الله، وحق الله، وأمانة الله: إن نوى بها اليمين فهى أيمان، وإن لم ينو اليمين فليست بيمين؛ لأنه يحتمل: وحق الله واجب، وقدرة الله ماضية. وقال أبو بكر الرازى: عن أبى حنيفة أن قول الرجل: وحق الله، وأمانة الله. ليست بيمين. قال أبو حنيفة: قال الله - تعالى -: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها (الآية، المراد بذلك الإيمان والشرائع. وهو قول سعيد بن جبير، وقال مجاهد: الصلاة. وقال أبو يوسف: وحق الله يمين وفيها الكفارة. وحجة القول الأول أن أهل السنة أجمعوا على أن صفات الله أسماء له، ولا يجوز أن تكون صفاته غيره، فالحلف بها كالحلف بأسمائه تجب فيها الكفارة، ألا ترى أن النبى - عليه السلام - كثيرًا ما كان يحلف: (لا ومقلب القلوب) وتقليبه لقلوب عبادة صفة من صفاته، ولا يجوز على النبى أن يحلف بما ليس بيمين؛ لأنه قال: (من كان حالفًا فليحلف بالله) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 قال أشهب: من حلف بأمانة الله التى هى صفة من صفاته، فهى يمين، وإن حلف بأمانة الله التى بين العباد، فلا شىء عليه، وكذلك عزة الله التى هى صفة ذاته، وأما العزة التى خلقها فى خلقه فلا شىء عليه. وقال ابن سحنون: معنى قوله: (سبحان ربك رب العزة (أنها العزة التى هى غير صفته التى خلقها فى خلقه، التى يتعازون بها، قال: وقد جاء فى التفسير أن العزة هاهنا يراد بها الملائكة. قال المؤلف: وإنما ذهب ابن سحنون إلى هذا القول - والله أعلم - فرارًا من أن تكون العزة التى هى صفة الله مربوبة، فيلزمه الحدث؛ وليس كما توهم لأن لفظ الرب قد يأتى فى كلام العرب لصاحب الشىء ومستحقه، ولا يدل ذلك على الحدث والخلق، فتقول لصاحب الدابة: رب الدابة، ولصاحب الماشية: رب الماشية، ولا تريد بذلك معنى الخلق، قال تعالى: (وتعز من تشاء وتذل من تشاء (فليس إعزازه بعلة، ولا إذلاله بعلة، بل هما حاصلان بالقضاء والمشيئة، وقوله تعالى: (من كان يريد العزة فلله العزة جميعًا (وقوله: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين (فكيف الجمع بينهما، فإن إحدى الآيتين توجب انفراده تعالى بالعزة، والثانية تشير إلى أن لغيره عزا؟ قيل: لا منافاة بينهما فى الحقيقة؛ لأن العز الذى للرسول وللمؤمنين فهو لله ملكًا وخلقًا، وعزه سبحانه له وصفًا، فإذن العز كله - لله تعالى - فقوله: (سبحان ربك رب العزة (يريد صاحب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 118 العزة ومستحقها، وهى نهاية العزة وغايتها التى لم يزل موصوفا بها قبل خلقه الخلق، التى لا تشبه عزة المخلوقين، ألا ترى أنه تعالى نزه نفسه بها فقال: (سبحان ربك رب العزة عما يصفون (ولا ينزه نفسه تعالى إلا بما يباين به صفات عباده، ويتعالى عن أشباهم، إذا ليس كمثله شىء. واختلفوا فيمن حلف بالقرآن أو المصحف، أو بما أنزل الله فحنث، فروى عن ابن مسعود: أن عليه بكل آية كفارة يمين. وهو قول الحسن البصرى وأحمد بن حنبل، وقال ابن القاسم فى العتبية: عليه إذا حلف بالمصحف كفارة يمين. وهو قول الشافعى فيمن حلف بالقرآن، قال: لأن القرآن كلام الله. وإليه ذهب أبو عبيد. وقال أبو حنيفة: من حلف بالقرآن فلا كفارة عليه. وهو قول عطاء، وروى عن على ابن زياد عن مالك نحوه، غير أن المعروف من أصل مذهبه ما يخالف هذه الرواية؛ روى إسماعيل بن أبى أويس عن مالك أنه قال: القرآن كلام الله وكلام الله من الله وليس من الله شىء مخلوق، فهذا القول منه يقطع أن الحالف بالقرآن إذا حنث أن عليه الكفارة، كما إذا حلف بالله أو باسم من أسمائه، وهذا مذهب جماعة أهل السنة. , وذكر ابن المنذر عن بعض أهل العلم أنهم قالوا: إذا كانوا يوجبون الكفارة على من حلف بعظمة الله، وعزة الله، وجلال الله، وكبرياء الله، فلم لا يوجبون على من حلف بكلام الله وهو صفة الله، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 وما الفرق بين ذلك؟ ويسألون عمن حلف بوجه الله فحنث. فإن قالوا: عليه الكفارة. قيل: وكذلك تجب الكفارة على من حلف بصفة من صفات الله فحنث. وأما قول ابن مسعود: عليه لكل آية كفارة يمين، فهو منه على التغليظ، ولا دليل على صحته، لأنه لا فرق ببينه وبين آخر لو قال: إن عليه لكل سورة كفارة، وآخر لو قال: عليه لكل كلمة كفارة. وهذا لا أصل له، وحسبه إذا حلف بالقرآن فقد حلف بصفة من صفات الله. قال المهلب: وقوله فى حديث أنس: (يضع فيها قدمه) أى ما قدم لها من خلقه، وسبق لها به مشيئته ووعده ممن يدخلها ومثله قوله تعالى: (لهم قدم صدق عند ربهم (أى متقدم صدق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ لَعَمْرُ اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَعَمْرُكَ: لَعَيْشُكَ. / 36 - فيه: عَائِشَةَ، حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإفْكِ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ، فَقَامَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أُبَىٍّ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: (لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ) . قال أبو القاسم الزجاجى: (لعمر الله) كأنه حلف ببقائه تعالى، وقوله: لعمرك، مرفوع بالابتداء، والخبر مضمر، والتقدير لعمرك ما أُقسم به، وكذلك (لعمر الله) . واختلف الفقهاء فى قول الرجل: لعمر الله، فقال مالك والكوفيون: هى يمين. وقال الشافعى: إن لم يرد بها اليمين فليست بيمين، وهو قول إسحاق. والحجة لمالك والكوفيين أن أهل اللغة قالوا: إنها بمعنى بقاء الله، وبقاؤه صفة ذاته، فهى لفظة موضوعة لليمين فوجب فيها كفارة. وأما قولهم: (العمرى) فقال الحسن البصرى: عليه كفارة إذا حنث فيها، وسائر الفقهاء لا يرون فيها كفارة؛ لأنها ليست بيمين عندهم. قال ابن المنذر: وأما قوله تعالى: (لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون (فإن الله يقسم بما شاء من خلقه، وقد نهى النبى عن الحلف بغير الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 - باب) لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ (الآية [البقرة: 225] / 37 - فيه: عَائِشَةَ،) لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ (قَالَتْ: أُنْزِلَتْ فِى قَوْلِهِ: لا وَاللَّهِ، وبَلَى وَاللَّهِ. اختلف العلماء فى لغو اليمين، فذهب إلى قول عائشة: ابن عمر، وابن عباس - فى رواية - وروى ذلك عن القاسم، وعطاء، وعكرمة، والحكم، وطاوس، والحسن، والنخعى. وروى حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبى قلابة قال: لا والله، وبلى والله لغة من لغات العرب لا يراد بها اليمين، وهى من صلة الكلام. وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه والشافعى، إلا أن أبا حنيفة قال: اللغو قول الرجل: لا والله، وبلى والله، فيما يظن أنه صادق فيه على الماضى، وعند الشافعى سواء كانت فى الماضى أو المستقبل. وفيها قول ثان روى عن ابن عباس أنه قال: لغو اليمين أن يحلف الرجل على الشىء يعتقد أنه كما حلف عليه، ثم يوجد على غير ذلك. وروى هذا القول أيضًا عن عائشة، ذكره ابن وهب عن عمر بن قيس، عن عطاء، عن عائشة. وروى مثله أيضًا إسماعيل القاضى عن النخعى، والحسن وقتادة، وهو قول ربيعة، ومكحول، ومالك، والليث، والأوزاعى. وقال أحمد بن حنبل: اللغو: الوجهان جميعًا. وجعل مالك لا والله، وبلى والله موضوعة لليمين، ورأى فيها الكفارة إلا ألا يراد به اليمين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 وجعلها الشافعى ومن لم ير فيها الكفارة موضوعة لغير اليمين إلا أن يراد بها اليمين، ورأى الشافعى فى اللغو الذى عند مالك الكفارة؛ لأن حقيقة اللغو عند الشافعى ما لم يقصد له الحالف لكن سبق لسانه، كأنه يريد أن يتكلم بشىء فتبدر منه اليمين. قال إسماعيل: وأعلى الرواية وأمثلها فى تأويل الآية أن ما جاء فى قول الرجل: لا والله، وبلى والله، وهو لا يريد اليمين فلم يكن عليه يمين؛ لأنه لم ينوها، وقال رسول الله: (الأعمال بالنيات) وما جرى على لسان الرجل من قول لم يقصده ولا نواه سقطت عنه الكفارة؛ إذا جعل بمنزلة من لم يحلف، ألا ترى قول أبى قلابة فى قوله: لا والله، وبلى والله، أنهما من لغة العرب ليست بيمين. وقال غيره: فى اللغو ثلاثة أقوال غير هذين. أحدهما: ما رواه طاوس عن ابن عباس قال: اللغو أن يحلف الرجل وهو غضبان. والثانى: قال الشعبى: اللغو فى اليمين كل يمين على معصية فليس لها كفارة، ثم قال لمن يُكفر، للشيطان؟ والثالث: قول سعيد بن جبير: هو تحريم الحلال، كقول الرجل: هذا الطعام علىَّ حرام فيأكله، فلا كفارة عليه. قال إسماعيل بن إسحاق: وقول سعيد بن جبير ليس على مجرى ما ذهب إليه أهل العلم فى ذلك. ولا حجة له. وإنما يرجع معنى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 قوله إلى معنى الحديث الذى فيه: (فليأت الذى هو خير، وليكفر عن يمينه) ، لأن من حلف ألا يأكل طعامًا، أو لا يدخل على أخيه؛ فقد حرم على نفسه ما أحل الله له. قال غيره: وأما قول ابن عباس اللغو يمين الغضبان، فإنما يشبه الغاضب بمن لم يقصد إلى اليمين ولا أراده، وكأنه غلبه الغضب، فهو كمن لم ينو اليمين فلا كفارة عليه وهذا معنى ضعيف؛ لأن جمهور الفقهاء على أن الغاضب عندهم قاصد إلى أفعاله، والغضب يزيده تأكيدًا وقوة فى قصده، وستأتى مذاهب العلماء فيمن حلف على معصية أو نذرها فى باب النذر فيما لا يملك، ولا نذر فى معصية بعد هذا - إن شاء الله. - باب إِذَا حَنِثَ نَاسِيًا وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ) [الأحزاب: 5] وَقَالَ: (لا تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ) [الكهف: 73] / 38 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، يَرْفَعُهُ، قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأمَّتِى عَمَّا وَسْوَسَتْ - أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ - أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ) . / 39 - وفيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرِو، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبنا فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: كُنْتُ أَحْسِبُ كَذَا قَبْلَ كَذَا، ثُمَّ قَامَ إليه آخَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنْتُ أَحْسِبُ كَذَا، فَقَالَ عليه السَّلام: (افْعَلْ وَلا حَرَجَ. . . .) الحديث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 / 40 - وفيه: ابن عباس مثله. / 41 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يُصَلَّى، وَالنَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: (ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ) ، فَرَجَعَ فَصَلَّى ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَالَ: (وَعَلَيْكَ ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ) ، فَقَالَ فِى الثَّالِثَةِ: علِمْنِى، فَقَالَ: (إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ، فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، وَكَبِّرْ، وَاقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِىَ وَتَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِىَ قَائِمًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِى صَلاتِكَ كُلِّهَا) . / 42 - وفيه: عَائِشَةَ، هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ هَزِيمَةً تُعْرَفُ فِيهِمْ، فَصَرَخَ إِبْلِيسُ: أَىْ عِبَادَ اللَّهِ، أُخْرَاكُمْ، فَرَجَعَتْ أُولاهُمْ، فَاجْتَلَدَتْ هِىَ وَأُخْرَاهُمْ، فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ ابْنُ الْيَمَانِ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ، فَقَالَ: أَبِى، أَبِى، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا انْحَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ. قَالَ عُرْوَةُ: فَوَاللَّهِ مَا زَالَتْ فِى حُذَيْفَةَ مِنْهَا بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى لَقِىَ اللَّهَ. / 43 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا، وَهُوَ صَائِمٌ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ) . / 44 - وفيه: ابْن بُحَيْنَةَ، صَلَّى بِنَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَقَامَ فِى الرَّكْعَتَيْنِ الأولَيَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ، فَمَضَى فِى صَلاتِهِ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ، انْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ، فَكَبَّرَ وَسَجَدَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَسَلَّمَ. / 45 - وفيه: ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، صَلَّى بِهِمْ صَلاةَ الظُّهْرِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 فَزَادَ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا فقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ أَمْ نَسِيتَ؟ قَالَ: (وَمَا ذَاكَ) ؟ قَالُوا: صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَسَجَدَ بِهِمْ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: (هَاتَانِ السَّجْدَتَانِ لِمَنْ لَمْ يَدْرِ زَادَ فِى صَلاتِهِ أَمْ نَقَصَ، فَيَتَحَرَّى الصَّوَابَ، فَيُتِمُّ مَا بَقِىَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ) . / 46 - وفيه: أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (لا تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْرًا) [الكهف: 73] قَالَ: (كَانَتِ الأولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا) . / 47 - وفيه: الْبَرَاء، كَانَ عِنْدَهُمْ ضَيْفٌ، فَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يَذْبَحُوا قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ؛ لِيَأْكُلَ ضَيْفُهُمْ، فَذَبَحُوا قَبْلَ الصَّلاةِ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الذَّبْحَ. / 48 - وفيه: جُنْدَب، شَهِدْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، صَلَّى يَوْمَ عِيدٍ، ثُمَّ خَطَبَ، فَقَالَ: (مَنْ ذَبَحَ فَلْيُعد مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ، فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ) . اختلف العلماء فيمن حنث ناسيًا، هل تجب عليه كفارة أم لا؟ فقال عطاء وعمرو بن دينار فى الرجل يحلف بالطلاق على أمر لا يفعله ففعله ناسيًا: لا شىء عليه. وبه قال إسحاق. وأوجبت طائفة الكفارة عليه فى كل شىء، هذا قول سعيد بن جبير، وقتادة، والزهرى، وربيعة، وبه قال مالك والكوفيون. واختلف قول الشافعى، فمرة قال: لا يحنث، ومرة قال: يحنث. وقاله أحمد بن حنبل فى الطلاق خاصة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 واحتج من أسقط الكفارة بقوله تعالى: (ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم (فبين أنه لا جناح علينا إلا فيما تعمدت قلوبنا، واحتجوا بقوله عليه السلام: (رُفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) فوجب أن يكون مرفوعًا من كل وجه إلا أن يقوم دليل، قالوا: ووجدنا النسيان لا حكم له فى الشرع، مثل كلام الناسى فى الصلاة، فوجب أن يُحمل عليه كلامه إذا حنث ناسيًا. فعارضهم من أوجب الكفارة فقال: قوله تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به (لا ينفى وجوب الكفارة؛ لأنه قد أوقع الحنث، فلا يكون عليه جناح والكفارة تجب، وإنما أراد برفع الجناح الضيق والإثم، ألا ترى أن الكفارة تجب فى قتل الخطأ مع رفع الجناح والإثم. قال المهلب: وهذه الأحاديث التى أدخل البخارى فى هذه الباب إنما حاول فيها إثبات العذر بالجهل والنسيان وإسقاط الكفارة، وجعلها كلها فى معنى واحد عند الله، واستدل بأفعال النبى وأقواله، وما بسطه من عذر من جهل أو تأول فأخطأ، وبما حكم به فى النسيان فى الصلاة وغيرها، والذى يوافق تبويبه قوله عليه السلام: (إن الله تجاوز لأمتى عما حدثت به أنفسها) وحديث أبى هريرة: (من أكل ناسيًا فليتم صومه) ولم يأمره بالإعادة، وحديث ابن بحينة فيما نسيه النبى - عليه السلام - من الجلوس فى الصلاة فلم يعد عليه السلام على حسب ما نسيه، ولا قضاه، وكذلك نسيان موسى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 لم يطالبه به الخضر بعد أن كان شرط عليه ألا يسأله عن شىء، فلما سمح له الخضر وهو عبد من عباد الله؛ كان الله أولى بالعفو عن مثل ذلك، فصدر البخارى على سبيل قوة الرجاء فى عفو الله، وكذلك قوله: (ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به (يعنى فى قضية التبنى الذى قد كان لصق بقلوب العرب، وغلب عليهم من نسبة المتبنين إلى من تبناهم لا لآبائهم، فعذرهم الله بغلبة العادة وآخذهم بما تعمدوه من ذلك. وأما غير ذلك مما ذكره من المعانى فى هذا الباب فإنما هى على التشبيه، فأما قوله: (لا حرج) فيما قدم من النسك، فإنما عذرهم بالجهالة لحدود ما أنزل الله فى كتابه، وكان فرض الحج لم تنتشر كيفيته عند العرب حتى كان عليه السلام هو تولى بيانه عملا بنفسه، فلم يوجب على المخطئ فى التقديم والتأخير فدية لغلبة الجهالة. فإن قيل: فإن فى الأحاديث التى ذكرها البخارى فى هذا الباب ما يدل على سقوط الكفارة فى النسيان، ومنها ما يدل على إثباتها، فأما ما يدل على إثباتها فقوله عليه السلام: (ارجع فصل فإنك لم تصل) ومنها حديث ابن مسعود أنه عليه السلام قال: (من لم يدر ما صلى فليتحر الصواب فيتم ما بقى ثم يسجد سجدتين) ، ومنها حديث ابن نيار فى إعادة الأضحية. قيل: أما قوله عليه السلام: (ارجع فصل فإنك لم تصل) فإنه قد كان تقدم العلم بحدود الصلاة من النبى عيانًا، فلم يعذر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 الناقص منها، فأمره بالإعادة لصلاته تلك ثم أوسعه لما حلف له أنه لا يعرف غير هذا ما أوسع أهل الجهالة من أن لم يأمره بعد يمينه بالإعادة لصلاته تلك ولا لما سلف من صلاته قبلها. وأما ما ذكره لحديثى السهو فمعناهما مختلف؛ لأن المتروك من السنن نسيانًا لا يرجع إليه، بل يجبره بغيره من السنن، كما جبر الجلسة المتروكة بالسجدتين المسنونتين، وأما ما ترك من الفرائض فلا بد من الإتيان به، وإرغام أنف الشيطان بالسجود لله الذى بتركه خلده الله فى الجحيم، وذلك لتقدم المعرفة بهيئة الصلاة سننًا وفرائض. وأما إعادة الأضحية فعذر النبى ابن نيار بما توهمه جائزًا له من أجل إكرام الضيف وإطعام جاعة الجيران، فجوز عنه ما لا يجزئ عن أحد بعده، وأوجب عليه الإعادة لتقدم المعرفة بالسنن، وقطع الذريعة إلى الاشتغال بالأكل عن الصلاة الفاضلة التى أمر عليه السلام بإخراج ذوات الخدور والحيض من النساء إليها، لما فى شهودها من الخير وبركة دعوة المسلمين، وأما حديث حذيفة فإنه أسقط الدية عن قاتلى أبيه، وعذرهم بالجهالة؛ لأن دية الخطأ كانت عليهم بنص القرآن، وبقيت الكفارة عليهم فيما بينهم وبين ربهم. وقد يدخل البخارى نصوص الأحاديث المختلفة الألفاظ؛ لاختلاف الناس فيها، وينشرها لأهل النظر والفقه، وليستنبط كل واحد منهم ما يوافق مذهبه، كحديث جابر فى بيع الجمل فيه لفظ اشتراط الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 ظهره، ولفظ إفقار ظهره، والإفقار تفضل، والاشتراط كراء وكحديثه فيما دون الحد من العقوبات، فكذلك أدخل فى هذا الباب أحاديث فى ظاهرها ما يتعارض لينظر الناظر ويتدبر المستبحر فالله أعلم. وإنما يصح معنى الحديث فى نسيان اليمين إذا فات بالموت، فحينئذ يمكن أن يعذر بالنسيان، ويرجى له تجاوز الله وعفوه، وأما متى ذكره فالكفارة تلزمه فيه والله الموفق. - باب الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَقَوْلِ اللَّه: (َلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا (الآية [النحل: 94] دَخَلا: مَكْرًا وَخِيَانَةً. / 49 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِىّ عليه السلام: (الْكَبَائِرُ: الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ) . اليمين الغموس هو أن يحلف الرجل على الشىء وهو يعلم أنه كاذب؛ ليرضى بذلك أحدًا، أو يقتطع بها مالا، وهى أعظم من أن يكفر، وجمهور العلماء لا يرى فيها الكفارة، وهو قول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 النخعى والحسن البصرى ومالك ومن تبعه من أهل المدينة، والأوزاعى فى أهل الشام، والثورى وسائر أهل الكوفة، وأحمد وإسحاق وأبى ثور وأبى عبيد وأصحاب الحديث. وفيها قول ثانٍ روى عن الحكم بن عتيبة وعطاء: أن اليمين الغموس فيها كفارة. قال عطاء: ولا يريد بالكفارة إلا خيرًا. وهو قول الشافعى، واحتج الشافعى بأن قال: جاءت السنة فيمن حلف ثم رأى خيرًا مما حلف عليه أن يُحنث نفسه ثم يكفر، وهذا قد تعمد الحنث وأمر بالكفارة، فقيل له: النبى أمره أن يحنث فعلم أن ذلك طاعة فينبغى أن يُجوز للحالف باليمين الغموس أن يحلف ويكون ذلك طاعة فلما كان عاصيًا والحانث مطيعًا؛ افترق حكمهما. قال ابن المنذر: وقوله عليه السلام: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذى هو خير ويكفر) يدل أن الكفارة إنما تجب فيمن حلف على فعل يفعله فيما يستقبل فلا يفعله، أو على فعل لا يفعله فيما يستقبل ففعله، وليس هذا المعنى فى اليمين الغموس، ألا ترى أن الرجل إذا حلف على المستقبل أو قاله من غير أن يحلف عليه، فإنما عقد شيئًا قد يكون وقد لا يكون، فخرج من باب الكذب. قال إسماعيل: وينبغى للشافعى ألا يسمى من تعمد الحلف على الكذب آثمًا إذا كفر يمينه؛ لأن الله جعل الكفارة فى تكفير اليمين، وقد قال تعالى: (ويحلفون على الكذب وهم يعلمون أعد الله لهم عذابًا شديدًا إنهم ساء (الآية. وقال ابن مسعود: كنا نعد الذنب الذى لا كفارة له اليمين الغموس أن يحلف الرجل على مال أخيه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 كاذبًا ليقتطعه - ولا مخالف له من الصحابة، فصار كالإجماع، وقد أخبر عليه السلام أن من فعل ذلك فقد حرم الله عليه الجنة، وأوجب له النار. قال ابن المنذر: وأما قوله: (وإنهم ليقولون منكرًا من القول وزورًا (فلا يجوز أن يقاس ذلك على اليمنى الغموس؛ لأنه لا يقاس أصل على أصل، ولو جاز قياس أحدهما على الآخر لكان أحدهما فرعًا، وللزم أن يكون على الحالف بهذه اليمين التى شبهت بالظهار كفارة الظهار، وليس لأحد أن يوجب كفارة إلا حيث أوجبها الله ورسوله. ومن الحجة فى إسقاط الكفارة حديث عبد الله بن عمرو وقد أجمعت الأمة أن الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس لا كفارة فيها، وإنما كفارتها تركها والتوبة منها فكذلك اليمين الغموس حكمها حكم ما ذكر معها فى الحديث فى سقوط الكفارة. والدليل على أن الحالف بها لا يسمى عاقدًا ليمينه قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان (والعقد فى اللغة عبارة عن الإلزام والتوثق، يقال: عقدت على نفسى أن أفعل أى: التزمت، فمن قال: لقيت زيدًا. وما لقيه، فلم يلزم نفسه شيئًا، ولا ألزم غيره أمرًا يجب الامتناع منه أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 132 الإقدام عليه، فلا يسمى عاقدًا، ومعنى الاستيثاق: وهو أن يستوثق بالعقد حتى لا يواقع المحلوف عليه، وهذا معنىُ لا يحصل فى اليمين الغموس؛ لأنها منحلة بوجود الحنث معها، فلا يسمى عقدًا، ألا ترى أن اللغو لما لم يكن يمينًا معقودة لم تجب فيها كفارة، كذلك اليمين الغموس، عن ابن القصار. - باب قوله تَعَالَى) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ (الآية [آل عمران: 77] وَقَوْلِهِ: (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ) [البقرة: 224] وَقَوْلِهِ: (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا (إلى) كَفِيلا) [النحل: 91] / 50 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِىَ اللَّهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ (الآيَةِ، وذكر الحديق. وبهذه الآيات والحديث احتج جمهور العلماء فى أن اليمين الغموس لا كفارة فيها؛ لأنه عليه السلام ذكر فى هذه اليمين المقصود بها الحنث والعصيان العقوبة والإثم ولم يذكر هاهنا كفارة، ولو كان هاهنا كفارة لذكرها كما ذكر فى اليمين المعقودة فقال: (فليكفر عن يمينه وليأت الذى هو خير) ويقوى هذا المعنى قوله عليه السلام فى المتلاعنين بعد تكرار أيمانهما: (الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟) ولم يوجب كفارة، ولو وجبت لذكرها كما قال: (هل منكما تائب؟) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 قال ابن المنذر: والأخبار دالة على أن اليمين التى يحلف بها الرجل يقتطع بها مالا حرامًا هى أعظم أن يكفرها ما يكفر اليمين، ولا نعلم سنةً تدل على قول من أوجب فيها الكفارة، بل هى دالة على قول من لم يوجبها، قال تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقووا وتصلحوا بين الناس (قال ابن عباس: هو الرجل يحلف ألا يصل قرابته، فجعل الله له مخرجًا فى التفكير، وأمره ألا يعتل بالله، ويكفر يمينه ويبر. ويمين الصبر هو أن يحبس السلطان الرجل على اليمين حتى يحلف بها، ويقال: صبرت يمينه أى: حلفته بالله. - باب الْيَمِينِ فِيمَا لا يَمْلِكُ وَفِى الْمَعْصِيَةِ وَفِى الْغَضَبِ / 51 - فيه: أَبُو مُوسَى، أَرْسَلَنِى أَصْحَابِى إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَسْأَلُهُ الْحُمْلانَ، فَقَالَ: (وَاللَّهِ لا أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَىْءٍ) ، وَوَافَقْتُهُ، وَهُوَ غَضْبَانُ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ، قَالَ: (انْطَلِقْ إِلَى أَصْحَابِكَ، فَقُلْ: إِنَّ اللَّهَ، أَوْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَحْمِلُكُمْ) . / 52 - وفيه: عَائِشَةَ، حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإفْكِ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِى قَالَ لِعَائِشَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا) [النور: 22] ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى، وَاللَّهِ إِنِّى لأحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِى، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِى كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لا أَنْزِعُهَا مَنْهُ أَبَدًا. / 53 - وفيه: أَبُو مُوسَى، أَتَيْتُ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فِى نَفَرٍ مِنَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 134 الأشْعَرِيِّينَ، فَوَافَقْتُهُ، وَهُوَ غَضْبَانُ، فَاسْتَحْمَلْنَاهُ، فَحَلَفَ أَنْ لا يَحْمِلَنَا، ثُمَّ قَالَ: (وَاللَّهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلا أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، وَتَحَلَّلْتُهَا) . واليمين فيما لا يملك فى حديث الأشعريين معناه أن النبى حلف ألا يحملهم، فكان ظاهر هذه اليمين الإطلاق والعموم، ثم آنسهم بقوله: (وما عندى ما أحملكم عليه) ومثال هذا أن يحلف رجل ألا يهب ولا يتصدق ولا يعتق، وهو فى حال يمينه لا يملك، ثم يطرأ له بعد ذلك مال، فيهب أو يتصدق أو يعتق، فعند جماعة الفقهاء تلزمه الكفارة إن فعل شيئًا من ذلك، كما فعل عليه السلام بالأشعريين، أنه تحلل من يمينه، وأتى الذى هو خير، ولو حلف ألا يهب ولا يتصدق ما دام معدمًا، وجعل العدم عله لامتناعه من ذلك، ثم طرأ له بعد ذلك مال، لم يلزمه عند الفقهاء كفارة إن وهب أو تصدق أو أعتق، لأنه إنما أوقع يمينه على حالة العدم لا على حالة الوجود، هذا ما فى حديث أبى موسى من معنى اليمين فيما لا يملك. واختلفوا من هذا المعنى إذا حلف الرجل يعتق ما لا يملك إن ملكه فى المستأنف، فقال مالك: إن عين أحدًا أو قبيلة أو جنسًا لزمه العتق، وإن قال: كل مملوك أملكه أبدًا حر، لم يلزمه عتق، وكذلك فى الطلاق إن عين قبيلة أو بلدة أو صفة ما، لزمه الحنث، وإن لم يعين لم يلزمه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يلزمه الطلاق والعتق سواء عم أو خص. وقال الشافعى: لا يلزمه ما خص ولا ما عم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 وحجة مالك أن الله نهى عباده أن يحرموا ما أحل لهم، ومن استثنى موضع نكاح أو عتق، فلم يحرم على نفسه كل ما أحل الله له. وحجة الكوفيين أنها طاعة لله يلزمه الوفاء بها إن قدر عليها، ومخرجها مخرج النذر كما يقول مالك فى الأيمان. وحجة الشافعى قوله عليه السلام: (لا نذر فى معصية، ولا فيما لم يملك ابن آدم) . وإذا لم يلزمه النذر فيما لا يملك فاليمين أولى ألا تلزمه، وأما الطلاق فإن الله - تعالى - إنما جعله فى كتابه بعد النكاح، فقال تعالى) إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن (و (ثم) لا توجب غير التعقيب. وأجمعوا إذا حلف بعتق عبيد غيره، أنه لا يلزمه شىء من ذلك، إلا ابن أبى ليلى فإنه كان يقول: إن كان موسرًا بأثمانهم لزمه عتقهم. ثم رجع عن ذلك. وإن حلف على غيره مثل: أن يحلف على امرأته النصرانية أن تسلم، أو حلفه على رجل ليسلفنه مالا، أو حلف على غريمه ليقضينه حقه، فإن ضرب لذلك أجلا وكان الدين إلى أجل أُخر إلى الأجل وإن لم يقض، وإلا تلوم له على قدر ما يراه. هذا قول ابن القاسم عن مالك قال مالك: إن لم يضرب لذلك أجلا، فلا يكون من امرأته موليًا إن حلف بالطلاق، ولكن يتلوم له على قدر الطلبة إلى المحلوف عليه بفعل ما حلف عليه. وروى ابن الماجشون عن مالك وغيره من علماء المدينة: إن حلف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 136 بالطلاق، أو بالعتاق على فعل غيره مثل حلفه على فعل نفسه فى جميع وجوه ذلك، ويدخل عليه الإيلاء فى حلفه بالطلاق. وأما حديث عائشة فى يمين أبى بكر ألا ينفق على مسطح، فإنما هى يمين فى ترك طاعة وفضيلة فى حال غضبه، ولا خلاف بين علماء المدينة فى وجوب الكفارة على من حلف أن يمتنع من فعل الطاعة إذا رأى غير ما حلف عليه، وكذلك فعل أبو بكر كفر عن يمينه. وجمهور الفقهاء يلزمون الغاضب الكفارة، ويجعلون غضبه مؤكدًا ليمينه، وقد روى عن ابن عباس أن الغضبان يمينه لغو، ولا كفارة فيها. وروى عن مسروق، والشعبى، وجماعة أن الغضبان لا يلزمه يمين ولا طلاق ولا عتق، واحتجوا بقوله عليه السلام: (لا طلاق فى إغلاق، ولا عتق قبل ملك) وفى حديث الأشعريين رد لهذه المقالة، لأن النبى - عليه السلام - حلف وهو غاضب ثم قال: (والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذى هو خير وتحللتها) وهذه حجة قاطعة، وكذلك فعل أبو بكر. وأما الحديث (لا طلاق فى إغلاق) فليس بثابت، ولا مما يعارض به مثل هذه الأحاديث الثابتة، وتأول المدنيون والكوفيون معنى هذا الحديث (لا طلاق فى إغلاق) يعنى لا طلاق فى إكراه، هذا معنى الحديث عندهم. وأما اليمين فى المعصية فليس هذا الباب موضعه، وسيأتى عند قوله عليه السلام: (من نذر أن يعصى الله فلا يعصه) ، إن شاء الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 137 - باب إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لا أَتَكَلَّمُ الْيَوْمَ، فَصَلَّى، أَوْ قَرَأَ، أَوْ سَبَّحَ، أَوْ كَبَّرَ، أَوْ حَمِدَ، أَوْ هَلَّلَ، فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ وَقَالَ عليه السَّلام: (أفْضَلُ الْكَلامِ أَرْبَعة: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ) . وقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: كَتَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى هِرَقْلَ: (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) [آل عمران 64] ، قَالَ مُجَاهِدٌ: كَلِمَةُ التَّوحيد: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ. / 54 - فيه: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ، جَاءَهُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (قُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ) . / 54 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِى الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ) . / 56 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، كَلِمَةً وَقُلْتُ أُخْرَى، قَالَ: (مَنْ مَاتَ يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا أُدْخِلَ النَّارَ) ، وَقُلْتُ أُخْرَى: مَنْ مَاتَ لا يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا أُدْخِلَ الْجَنَّةَ. أما قول البخارى: فهو على نيته. فالمعنى عند العلماء فى الحالف ألا يتكلم اليوم أنه محمول على كلام الناس لا على التلاوة والتسبيح، وقد أجمعوا أن الكلام محرم فى الصلاة، وأن تلاوة القرآن وفيها من القربات إلى الله - تعالى - وقال زيد بن أرقم: لما نزلت: (وقوموا لله قانتين (أمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام، فتراه نهى عن القراءة؟ . وقال عليه السلام: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شىء من كلام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 138 الناس، إنما هو التهليل والتحميد وتلاوة القرآن) ، فحكم للذكر كله والتلاوة بغير حكم كلام الناس، والحالف إذا حلف ألا يتكلم، فإنما هو محمول عند العلماء على كلام الناس، لا على الذكر والتلاوة وهذا لا أعلم فيه خلافا، إلا أنه إذا نوى ألا يقرأ ولا يذكر الله فهو على نيته كما قال البخارى. وأجمعوا أنه إذا حلف ألا يتكلم وتكلم بالفارسية أو بأى لغة تكلم أن حانث، ويشبه معنى هذا الباب إذا حلف ألا يكلم رجلا فكتب إليه أو أرسل إليه رسولا، فقال مالك: يحنث فيهما جميعًا إلا أن تكون له نية على المشافهة، ثم ذكر أنه رجع بعد ذلك فقال: لا ينوى فى الكتاب، وأراه حانثًا إلا أن يرتجع الكتاب قبل وصوله فلا يحنث. وحكى ابن أبى أويس أنه قال: الرسول أهون من الكتاب؛ لأن الكتاب سر لا يعلمه إلا هو وصاحبه، وإذا أرسل إليه رسولا علم ذلك الرسول. وقال الكوفيون والليث والشافعى: لا يحنث فيهما. وهو قول ابن أبى ليلى، وقال أبو ثور: لا يحنث فى الكتاب. واختلفوا إذا أشار إليه بالسلام، فقال مالك: يحنث. واحتج ابن حبيب فى أن الإشارة بالسلام كلام بقوله تعالى لزكريا: (ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا (. وقال عيسى عن ابن القاسم: ما أرى الإشارة بالسلام كلامًا. وقال محمد بن عبد الحكم: لا يحنث فى الإشارة بالسلام، ولا فى الرسول، ولا فى الكتاب؛ لأنه لم يكلمه فى ذلك كله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 139 واحتج أبو عبيد فقال: الكلام غير الخط والإشارة، وأصل هذا - قال -: أن الله قال لزكريا: (آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا (. وقال فى موضع آخر: (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا (والرمز: الإشارة بالعين والحاجب. والوحى: الخط والإشارة، ويقال: كتب إليهم وأشار إليهم وفى قصة مريم: (إنى نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيا (ثم قال: (فأشارت إليه (فصار الإيماء والخط خارجين من معنى النطق. واختلفوا لو سلم على قوم هو فيهم، فقال مالك والكوفيون: قد حنث، قال ابن القاسم عن مالك: علم أنه فيهم أو لم يعلم إلا أن يحاشيه. وقال الشافعى: لا يحنث إلا أن ينويه بالسلام. واحتج أبو عبيد لقول مالك والكوفيين فقال: ومما يبين أن السلام كلام أن إمامًا لو سلم بين ركعتين متعمدًا كان قاطعًا للصلاة، كما يقطعها المتكلم، وقد نهى النبى عن الهجرة وأمر بإفشاء السلام، فبان بأمره بهذا ونهيه عن هذا أنهما متضادان، وأن المسلم على صاحبه ليس بهاجر له. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 140 ولو صلى ورآه فرد عليه السلام، فقال ابن القاسم: لا يحنث؛ لأن رده السلام من سنة الصلاة، وليس من معنى، المكالمة. وقال ابن وهب: يحنث؛ لأنه كان قادرًا على أن يجتزئ بتسليمه عن يمينه وأخرى عن يساره ولا يرد على الإمام، وقالوا: لو تعايا ففتح عليه الحالف حنث، ولو كتب إليه المحلوف عليه، فروى عيسى وأبو زيد عن ابن القاسم أنه إذا قرأ كتابه حنث. وقال ابن حبيب: لا يحنث، وكذلك روى أصبغ عن ابن القاسم. - باب مَنْ حَلَفَ أَنْ لا يَدْخُلَ عَلَى أَهْلِهِ شَهْرًا فَكَانَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ / 57 - فيه: أَنَسٍ، آلَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ نِسَائِهِ، وَكَانَتِ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ، فَأَقَامَ فِى مَشْرُبَةٍ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آلَيْتَ شَهْرًا؟ فَقَالَ: (إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ) . قال الطحاوى: ذهب قوم إلى أن الرجل إذا حلف ألا يكلم رجلا شهرًا، فكلمه بعد مضى تسعة وعشرين يومًا أنه لا يحنث، واحتجوا بهذا الحديث، وخالفهم فى ذلك آخرون فقالوا: إن حلف مع رؤية الهلال فهو على ذلك الشهر كان ثلاثين يومًا أو تسعة وعشرين، وإن كان حلف فى بعض شهر فيمينه على ثلاثين يومًا. وهو قول مالك والكوفيين والشافعى، واحتجوا بقوله عليه السلام: (الشهر تسعة وعشرون يومًا، فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين) ، أفلا تراه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 141 أوجب عليهم ثلاثين يومًا وجعله على الكمال حتى يروا الهلال قبل ذلك؟ وأخبر أنه إنما يكون تسعة وعشرين برؤية الهلال قبل الثلاثين، وقد روى هذا عن الحسن البصرى، ودل نزوله من المشربة لتسع وعشرين أنه كان حلف مع غرة الهلال، هذا وجه الحديث، ومن هذا الحديث قال مالك وأبو حنيفة والشافعى: إنه من نذر صوم شهور بغير عينها فله أن يصومها للأهلة أو لغير الأهلة، فإن صامها للأهلة فكان الشهر تسعة وعشرين يومًا أجزأه، وما صام لغير الأهلة أكملها ثلاثين يومًا. وروى ابن وهب عن مالك: من أفطر رمضان كله فى سفر أو مرض فكان تسعة وعشرين يومًا، فأخذ فى قضائه شهرًا فكان ثلاثين يومًا؛ أنه يصومه كله، وإن كان شهر القضاء تسعة وعشرين يومًا ورمضان ثلاثين يومًا أجزأه. وقال محمد بن عبد الحكم: إنما يصوم عدد الأيام التى أفطر. وفى رواية ابن وهب مراعاة شهر القضاء، وعلى قول ابن عبد الحكم مراعاة الشهر الفائت، وهو أصح فى القياس؛ لأن الله افترض عليه عدد الأيام التى أفطر. - باب من حَلَفَ أَنْ لا يَشْرَبَ النَبِيذ فَشَرِبَ الطِلاء، أَوْ سَكَرًا، أَوْ عَصِيرًا، لَمْ يَحْنَثْ فِى قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِأَنْبِذَةٍ عِنْدَهُ / 58 - فيه: سَهْل، أَنَّ أَبَا أُسَيْدٍ صَاحِبَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، عرَسَ، فَدَعَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) لِعُرْسِهِ، فَكَانَتِ الْعَرُوسُ خَادِمَهُمْ، فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ: هَلْ تَدْرُونَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 142 مَا سَقَتْهُ؟ قَالَ: أَنْقَعَتْ لَهُ تَمْرًا فِى تَوْرٍ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى أَصْبَحَ عَلَيْهِ، فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ. / 59 - وفيه: ابْن عَبَّاس، عَنْ سَوْدَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَتْ: مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ، فَدَبَغْنَا مَسْكَهَا، ثُمَّ مَا زِلْنَا نَنْبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا. قال المؤلف: زعم أبو حنيفة أن الطلاء والعصير ليسا بنبيذ فى الحقيقية، وإنما النبيذ ما نبذ فى الماء ونقع فيه، ومنه سمى المنبوذ منبوذًا، لأنه نبذ أى: طرح. ومعنى قوله: من شرب سكرًا يعنى ما يسكر مما يعصر ولا ينبذ، ويعنى قوله: ما كان عصيرًا: ما كان حديث العصر من العنب ولم يبلغ حد السكر، وبالطلاء ما طبخ من عصير العنب حتى بلغ إلى ما لا يسكر، فلا يحنث عند أبى حنيفة فى شرب شىء من هذه الثلاثة، لأنها لم تنبذ، وإنما يحنث عنده بشرب ما نبذ فى الماء من غير العنب، سواء أسكر أو لم يسكر. قال المهلب: والذى عند جمهور الفقهاء أنه إذا حلف ألا يشرب النبيذ بعينه دون سائر المشروبات أنه لا يحنث بشرب العصير والطبيخ وشبهه، وإن كان إنما حلف على النبيذ خشية منه لما يكون من السكر وفساد العقل كان حانثًا فى كل ما شرب مما يكون فيه المعنى الذى حلف عليه، ويجوز أن تسمى سائر الأشربة من الطبيخ والعصير نبيذًا لمشابهتها له فى المعنى، ومن حلف عندهم ألا يشرب شرابًا ولا نية له، فأى شراب شربه مما يقع عليه اسم شراب فهو حانث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 143 قال المؤلف: ووجه تعلق البخارى من حديث سهل فى الرد على أبى حنيفة هو أن سهلا إنما عرف أصحابه بأنه لم يسق النبى إلا نبيذًا قريب العهد بالانتباذ مما يحل شربه، ألا ترى قوله: (أنقعت له تمرًا فى تور من الليل حتى أصبح عليه فسقته إياه) وكان ينتبذ له عليه السلام ليلا ويشربه غدوة، وينتبذ له غدوة ويشربه عشية، ولو كان بعيد العهد بالانتباذ مما بلغ حد السكر لم يجز أن يسقيه النبى - عليه السلام - ففهم من هذا أن ما بلغ حد السكر من الأنبذة حرام كالمسكر من عصير العنب، وأن من شرب مسكرًا من أى نوع سواء كان معتصرًا أو منتبذًا فإنه يحنث لاجتماعهما فى حدوث السكر، وكونها كلها خمرًا. ووجه استدلاله من حديث سودة: أنهم حبسوا مسك الشاة للانتباذ فيه الذى يجوز لهم شربه غير المسكر، ووقع عليه اسم نبيذ، ولو ذكر حديث أنس حين كسر الجرار من نبيذ التمر كان أقرب للتعلق وأوضح للمعنى، لأنهم لم يكسروا جرار نبيذ التمر المسكر، وهم القدوة فى اللغة والحجة فيها، إلا أن معنى نبيذ التمر المسكر فى معنى عصير العنب المسكر فى التحريم، لأنهم كانوا أتقى لله من أن يتلفوا نعم الله ويهريقوها استخفافًا بها، وقد نهى النبى عن إضاعة المال، ولو كان المسكر غير خمر لجاز ملكه وبيعه وشربه وهبته وكانت إراقته من الفساد فى الأرض. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 144 - باب إِذَا حَلَفَ أَلاَّ يَأْتَدِمَ فَأَكَلَ تَمْرًا بِخُبْزٍ وَمَا يَكُونُ مِنْهُ الأدْمِ؟ / 60 - فيه: عَائِشَةَ، مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ. / 61 - وفيه: أَنَس، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لأمِّ سُلَيْمٍ: لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَىْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخرجت خِمَارًا لَهَا، فَلَفَّتِ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ، وَأَرْسَلَتْنِى إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَذَهَبْتُ بِهِ، فَوَجَدْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْمَسْجِدِ، وَمَعَهُ النَّاسُ. . . . الحديث. . فَأَتَتْ بالْخُبْزِ، وأَمَرَ بِهَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَفُتَّ وَعَصَرَتْ عُكَّةً لَهَا، فَأَدَمَت، ثُمَّ قَالَ فِيهِ النَّبِىّ، عليه السَّلام، مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ. . . . . الحديث. اختلف العلماء فيمن حلف ألا يأكل إدامًا فأكل لحمًا مشويًا، فقال مالك والشافعى، قد حنث كما لو أكل زيتًا وخلا. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: الإدام ما يصطبغ به مثل الزيت والعسل والخل، فأما ما لا يصطبغ به مثل اللحم المشوى والجبن والبيض فليس بإدام. وقال محمد: ما كان الغالب فيه أنه يؤكل بالخبز فهو إدام. واحتج الكوفيون أن حقيقة الإدام هو اسم للجمع بين شيئين، قال عليه السلام: (إذا أراد أحدكم أن يتزوج المرأة فلينظر إليها قبل أن يتزوجها، فإنه أحرى أن يؤدم بينهما) معناه يجمع بينهما، وليس كل اسم يتناوله إطلاق الاسم، بدليل أن من جمع بين لقمتين لا يسمى بهذا الاسم، وإنما المراد أن يستهلك فيه الخبز ويكون تابعًا له بأن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 145 تتداخل أجزاؤه بأجزاء غيره، وهذا لا يحصل إلا فيما يصطبغ به وهذا الوجه مجمع عليه، وما سواه مختلف فيه؛ فلا يصح إثباته إلا بلغة أو عادة، وقد قال تعالى: (وصبغ للآكلين (. قال ابن القصار: فيقال لهم: لا خلاف بين أهل اللغة أن من أكل خبزًا بلحم مشوى انه قد ائتدم به، ولو قال: أكلت خبزى بلا أدم لكان كاذبًا. ولو قال: أكلت خبزى بإدام كان صادقا. فيقال لهم: أما قولكم: إن الأدم اسم للجمع بين شيئين، فكذلك نقول، وليس الجمع بين الشيئين هو امتزاجهما واختلاطهما، بل هو صفة زائدة على الجمع؛ لأننا نعلم أن الخبز بالعسل ليس يستهلك أحدهما صاحبه، ولا الخبز مع الزيت أيضًا، فلم يراع فى الشريعة فى الجمع الاستهلاك، وأما الخل والزيت فهو وإن يشربه فليس يستهلك فيه ولو كان كذلك لم يبن لونه ولا طعمه، وإنما المراعى فى الجمع بين الشيئين فى الأكل هو أن يؤكل هذا بهذا على طريق الائتدام به، سواء كان مائعًا أو غير مائع كالسمن الذائب والعسل. قال غيره: والدليل على أن كل ما يؤتدم به يسمى إدامًا ما روى عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (تكون الأرض خبزة يوم القيامة، إدامها زائدة كبد نون وثور) ، فجعل الكبد إدامًا، فكذلك التمر، وكل شىء غير مائع فهو إدام كالكبد. وروى حفص بن غياث عن محمد بن أبى يحيى الأسلمى، عن يزيد الأعور، عن ابن أبى أمية، عن يوسف، عن عبد الله بن سلام قال: (رأيت النبى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 146 - عليه السلام - أخذ كسرة من خبز شعير، فوضع عليها تمرة وقال: هذه إدام هذه، فأكلها) . وروى القاسم بن محمد عن عائشة قالت: (دخل على رسول الله والبرمة تفور بلحم، فقربت إليه أدمًا من أدم البيت، فقال: ألم أر برمة فيها لحم. . .) الحديث، فدل هذا الحديث أن كل ما فى البيت مما جرت العادة بالائتدام به فهو إدام، مائعًا كان أو جامدًا. - باب النِّيَّةِ فِى الأيْمَانِ / 62 - فيه: عُمَرَ، قَالَ عليه السَّلام: (إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) . قال المهلب وغيره: إذا كانت اليمين بين العبد وربه وأتى مستفتيًا، فلا خلاف بين العلماء أنه ينوى ويحمل على نيته، وأما إذا كانت اليمين بينه وبين آدمى وادعى فى نية اليمين غير الظاهر لم يقبل قوله، وحمل على ظاهر كلامه إذا كانت عليه بينة بإجماع. وإنما اختلفوا فى النية إذا كانت نية الحالف أو نية المحلوف له، فقالت طائفة: النية فى حقوق الآدميين نية المحلوف له على كل حال، وهو قول مالك. وقال آخرون: النية نية الحالف أبدًا، وله أن يورى ويورك، واحتجوا بقوله: (الأعمال بالنيات) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 147 وحجة مالك أن الحالف إنما ينبغى أن تكون يمينه على ما يدعى عليه صاحبه؛ لأنه عليه يحلفه. وقد أجمعوا على أنه لا ينتفع بالتورية إذا اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه، فكذلك لا ينتفع بالتورية فى سائر الأيمان، وسيأتى اختلافهم فى يمين المكره، وحيث تجوز التورية فى آخر كتاب الإكراه وأول كتاب ترك الحيل - إن شاء الله - وشىء منه مذكور فى باب المعاريض مندوحة عن الكذب فى آخر كتاب الأدب أيضًا. - باب إِذَا أَهْدَى مَالَهُ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ أوَ التَّوْبَةِ / 63 - فيه: كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، فِى حَدِيثِهِ: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) [التوبة: 118] ، فَقَالَ فِى آخِرِ حَدِيثِهِ: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِى أَنِّى أَنْخَلِعُ مِنْ مَالِى. اختلفوا فى الرجل يقول: مالى فى سبيل الله. فقالت طائفة: لا شىء عليه. هذا قول الشعبى، وابن أبى ليلى، والحكم، وطاوس. وفيها قول ثان: أن عليه كفارة يمين. روى عن عمر، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة، وهو قول عطاء، وإليه ذهب الثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وفيها قول ثالث: وهو أن يتصدق من ماله بقدر الزكاة. روى هذا القول أيضًا عن ابن عمر وابن عباس، وبه قال ربيعة. وفيها قول رابع: وهو أن يخرج ثلث ماله فيتصدق به، وهو قول مالك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 148 وفيها قول خامس: وهو أن يخرج ماله كله، روى هذا عن النخعى، وهو قول أبى حنيفة وزفر، إلا أن أبا حنيفة قال: يتصدق بالأموال التى تجب فيها الزكاة خاصة، وقال زفر: يحبس لنفسه من ماله قوت شهرين ثم يتصدق بمثله إذا أفاد. وحجة من قال: لا يلزمه شىء أنه لو قال: مالى حرام، لم يحرم عليه بإجماع، فكذلك فى هذه المسألة. واحتج الشافعى بما رواه أبو الخير عن عقبة بن عامر أن النبى - عليه السلام - قال: (كفارة النذر كفارة يمين) فظاهره يقتضى أن كل نذر كفارته كفارة يمين إلا ما قام دليله. وذهب ربيعة إلى أن الزكاة جعلها الله طهرًا للأموال، فكذلك هذا الحالف بصدقة ماله يطهره ما تطهر الزكاة. واحتج أبو حنيفة بقوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن (الآية، فبين تعالى أنه لما لم يفوا بما عاهدوا الله عليه استحقوا الوعيد والذم، فلزمهم الوفاء به. واحتج ابن شهاب لمن قال: يجزئه الثلث بأن النبى - عليه السلام - قال لكعب بن مالك حين قال: إن من توبتى أن أنخلع من مالى صدقة لله قال: (أمسك عليك بعض مالك) وقال عليه السلام لأبى لبابة فى مثل ذلك: (يكفيك الثلث) . فكان حديث أبى لبابة مبينًا لما أجمل فى حديث كعب من مقدار الجزء المتصدق به، فثبت التقدير بحديث أبى لبابة، وسقطت سائر الأقاويل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 149 قال ابن القصار: ومن الحجة لمالك قوله: (ولا تنس نصيبك من الدنيا (فأمر الله - تعالى - نبيه بأن لا ينسى نصيبه من الدنيا لما بالخلق ضرورة إليه من القوت وما لا بد منه، ووجب الاقتصار على إخراج الثلث، لحديث أبى لبابة، ويدل على صحة هذا القول أن المريض لما منع من إخراج ماله إلا الثلث، نظرًا لورثته وإبقاء عليهم، وجب أن يبقى المرء على نفسه قصد إخراج ماله كله. وأما من قال: يخرج زكاة ماله. فلا وجه له، لأن الزكاة تجب على الإنسان سواء نذرها أم لا. وأما قول أبى حنيفة أنه لا يخرج إلا الأموال التى تجب فيها الزكاة فقط، فإننا نقول: إن الأموال تشتمل على ما فيه الزكاة وعلى ما لا زكاة فيه، قال تعالى: (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم (ولم يفرق بين عبيدهم وعروضهم، وبين العين والورق، والحرث والماشية. - باب إِذَا حَرَّمَ طَعَامًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ) [التحريم: 1] ، وَقَوْلُهُ: (لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) [المائدة: 87] . / 64 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلا، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلْتَقُلْ له: إِنِّى أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ، فَدَخَلَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 150 عَلَى إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: لا، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ، فَنَزَلَتْ: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ (، إلى) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ (لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ،) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا) [التحريم: 3] لِقَوْلِهِ: بَلْ شَرِبْتُ عَسَلا. وقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، عَنْ هِشَامٍ: وَلَنْ أَعُودَ لَهُ، وَقَدْ حَلَفْتُ فَلا تُخْبِرِى بِذَلِكِ أَحَدًا. اختلف العلماء فيمن حرم على نفسه طعامًا أو شرابًا أحله الله له، فقالت طائفة: لا يحرم عليه ذلك وعليه كفارة يمين. هذا قول أبى حنيفة وأصحابه والأوزاعى. وقال مالك: لا يكون الحرام يمينًا فى طعام ولا شراب إلا فى المرأة فإنه يكون طلاقًا يحرمها عليه. وروى الربيع عن الشافعى: إن حرم على نفسه طعامًا أو شرابًا فهو حلال له ولا كفارة عليه، كقول مالك. وروى عن بعض التابعين أن التحريم ليس بشىء، وسواء حرم على نفسه زوجته أو شيئًا من ماله لا تلزمه كفارة فى شىء من ذلك، وهو قول أبى سلمة ومسروق والشعبى. وحجة من لم يوجب الكفارة حديث عائشة أن الآية نزلت فى شرب العسل الذى حرمه النبى (صلى الله عليه وسلم) على نفسه لم تذكر فى ذلك كفارة. وحجة من أوجب الكفارة فى ذلك أنه زعم أن سبب نزل الآية أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حرم جاريته القبطية على نفسه؛ لأنه أصابها فى بيت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 151 حفصة وفى يومها، وقيل: كان فى بيت عائشة، ذكره الزجاج فوجدت حفصة من ذلك وقالت: يا رسول الله، لقد جئت إلى شيئًا ما جئته إلى أحد من أزواجك فى يومى، وفى بيتى وعلى فراشى، فقال: ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها، فحرمها وقال لها: لا تذكرى ذلك لأحد، فذكرت ذلك لعائشة، فأظهره الله عليه، فنزلت الآيات، وكفر النبى يمينه وأصاب جاريته، هذا قول قتادة وغيره. قال إسماعيل بن إسحاق: والحكم فى ذلك واحد؛ لأن الأمة لا يكون فيها طلاق فتطلق بالتحريم، فكان تحريمها كتحريم ما يؤكل ويشرب، ولعل القصتين كانتا جميعًا فى وقتين مختلفين، غير أن أمر الجارية فى هذا الموضع أشبه، لقوله تعالى: (تبتغى مرضات أزواجك (ولقوله تعالى: (وإذ أسر النبى إلى بعض أزواجه حديثا (فكان ذلك فى الأمة أشبه؛ لأن الرجل يغشى أمته فى ستر، ولا يشرب العسل فى ستر، وتحريم الأمة فيه مرضاة لهن، وتحريم الشراب إنما حرمه للرائحة، وقد يمكن أن يكون حرمها وحلف كما روى، ويمكن أن يكون حرمها بيمينه بالله؛ لأن الرجل إذا قال لأمته: والله لا أقربك. فقد حرمها على نفسه باليمين فإذا غشيها وجبت عليه اليمين، وإذا قال لأمته: أنت على حرام، فلم يحلف وإنما أوجب على نفسه شيئًا لا يجب فلم تحرم عليه، ولم تكن كفارة؛ لأنه لم يحلف، وقوله لامرأته: أنت على حرام مثل قوله: أنت طالق، فلا تحرم به، وكذلك أنت خلية وبرية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 152 وبائن، ليس فى شىء منه يمين، وإنما هو فراق أوجبه الإنسان على نفسه، فإن كان شيئًا يجب وجب، وإن كان شيئًا لا يجب لم يجب، وقد قال عليه السلام: (من نذرك أن يعصى الله فلا يعصه) ، فلم يوجب عليه كفارة كما أوجبها فى قوله: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليكفر عن يمينه) . قال المهلب: والتحريم إنما هو لله - تعالى - ولرسوله، فلا يحل لأحد أن يحرم شيئًا، وقد وبخ الله من فعل ذلك فقال تعالى: (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم (الآية فجعل ذلك من الاعتداء، وقال: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب (فهذا كله حجة فى أن تحريم الناس ليس بشىء. وقال الكسائى وأبو عمرو المغافير: شىء شبيه بالصمغ يكون فى الرمث، وفيه حلاوة. وقال غيره: وهو شىء ينضحه العُرفط، حلو كالناطف، وله ريح منكرة. وقال أبو عمرو: يقال منه: أغفر الرمث: إذا ظهر ذلك فيه. وفال الكسائى: يقال: قد خرج الناس يتمغفرون: إذا خرجوا يجنونه من ثمره، وواحد المغافير مغفور. وقال غيره: ويقال: مغثور - بالثاء - أيضًا كما يقال: فوم وثوم، وجدف وجدث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 153 بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب - باب الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (يُوفُونَ بِالنَّذْر) [الإنسان: 7] / 65 - فيه: ابْن عُمَرَ، رَضِى اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ عليه الصلاة والسَّلام: (إِنَّ النَّذْرَ لا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلا يُؤَخِّرُ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِالنَّذْرِ مِنَ الْبَخِيلِ) . وَقَالَ مرة: لاَ يرد شيئًا. / 66 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، رضى الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَأْتِى بنِى آدَمَ النَّذْرُ بِشَىْءٍ لَمْ أَكُنْ قَدَّرَتَهُ، وَلَكِنْ يُلْقِيهِ النَّذْرُ إِلَى الْقَدَرِ قَدْ قَدَّرَتَهُ، فَيَسْتَخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ، فَيُؤْتِى عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ يُؤْتِى عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) . العلماء متفقون أن الوفاء بالنذر إذا كان طاعة واجب لازم لمن قدر عليه؛ لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود (وقوله: (يوفون بالنذر (فمدحهم بذلك، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من نذر أن يطع الله فليطعه) وإنما اختلفوا فى اليمين بالطاعة، كالصدقة بالمال أو المشى إلى مكة، فذهب مالك - رحمة الله - إلى أن اليمين بذلك كالنذر، وان كفارتها الوفاء بها، ورأى بعض العلماء أنها أيمان يكفرها ما يكفر اليمين، وليست فى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 154 معنى النذر فيلزم الوفاء بها، لأن النذر قصد به التبرر والطاعة لله - عز وجل - وهذه الأيمان إنما قصد بها إلى أشياء من أمور الدنيا، كقولهم: مالى صدقة إن فعلت كذا. فافترقا لهذه العلة - والله أعلم. قال المهلب: وقوله: (لا يقدم شيئًا ولا يؤخره) يعنى من قدر الله ومشيئته. وقوله: (يستخرج به من البخيل) يعنى: من الناس من لا يسمح بالصدقة والصوم إلا إذا نذر شيئًا لخوف أو طمع، فكأنه لولا ذلك الشىء الذى طمع فيه أو خافه لم يسمح بإخراج ما نذره لله تعالى ولا يفعله، فهو بخيل، وسيأتى تفسير هذا الحديث مستوعبًا فى كتاب القدر، إن شاء الله تعالى. وقوله: (فيؤتينى عليه) يعنى فيؤتى ما يجعله الناذر على نفسه لله - تعالى - مما لم يكن يفعله بغير نذر. - باب إِثْمِ مَنْ لا يَفِى بِالنَّذْرِ / 67 - فيه: عِمْرَانَ، رضى الله عنه، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (خَيْرُ الْقٌرُونِ قَرْنِى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِىءُ قَوْمٌ يَنْذِرُونَ وَلا يَفُونَ، وَيَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 155 هذا الحديث يوجب الذم والنقص لمن لم يف بالنذر، وهذا من أشراط الساعة، وقرن النبى (صلى الله عليه وسلم) ذم من لم يف بالنذر بخيانة الأمانة شهد به كتاب الله العزيز وجاء به على لسان الرسول، وذلك أن من لم يف لله بما عاهده فقد خان أمانته فى نقضه ما جعل لربه - عز وجل - على نفسه فأشبه ذلك من خان غيره فيما ائتمنه عليه، والأول أعظم خيانة وأشد إثمًا، وأثنى الله - تعالى - على أهل الوفاء فقال: (يوفون بالنذر ويخافون (الآية. فدل هذا أن الوفاء بالنذر مما يدفع به شر ذلك اليوم، وقوله: (ويظهر فيهم السمن) هو كناية عن رغبتهم فى الدنيا، وإيثارهم شهواتها على الآخرة وما أعد الله فيها لأوليائه من الشهوات التى تنفد، والنعيم الذى لا يبيد، فهم يأكلون فى الدنيا كما تأكل الأنعام، ولا يقتدون بمن كان قبلهم من السلف الذين كانت همتهم من الدنيا فى أخذ القوت والبلغة، وتوفير الشهوات إلى الآخرة. - باب النَّذْرِ فِى الطَّاعَةِ / 68 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ) . النذر فى الطاعة واجب الوفاء به عند جماعة الفقهاء لمن قدر عليه، وإن كانت تلك الطاعة قبل النذر غير لازمة له فنذره لها قد أوجبها عليه؛ لأنه ألزمها نفسه لله - تعالى - فكل من ألزم نفسه شيئًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 لله فقد تعين عليه فرض الأداء فيه، وقد ذم الله من أوجب على نفسه شيئًا ولم يف به، قال تعالى: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم (الآية، وسيأتى اختلاف العلماء فى النذر فى المعصية فى بابه، إن شاء الله. - باب إِذَا نَذَرَ أَوْ حَلَفَ أَنْ لا يُكَلِّمَ إِنْسَانًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ أَسْلَمَ / 69 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى نَذَرْتُ فِى الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ قَالَ: (أَوْفِ بِنَذْرِكَ) . اختلف العلماء فيمن نذر فى الجاهلية نذرًا مما يوجبه المسلمون لله ثم أسلم، فقال الشافعى وأبو ثور: واجب عليه الوفاء بنذره، وإن حنث بعد إسلامه فعليه الكفارة. وهو قول الطبرى. واحتجوا بقوله عليه السلام لعمر: (أوف بنذرك) قالوا: وأوامر الرسول على الوجوب، وهو قول المغيرة المخزومى، والى هذا ذهب البخارى، وحمل قوله: (أوف بنذرك) على الوجوب، فقاس اليمين على النذر، فإن كان النذر مما الوفاء به طاعة فى الإسلام لزمه الوفاء به، وإن كان النذر واليمين مما لا ينبغى الوفاء به، كيمينه ألا يكلم إنسانًا، فعليه الكفارة فى الإسلام، وكذلك يقول الشافعى وأبو ثور فيمن نذر معصية أن عليه كفارة يمين. وقال آخرون: لا يجب عليه شىء من ذلك، وكل من حلف فى كفره فحنث بعد إسلامه فلا شىء عليه فى كل الأيمان. هذا قول مالك والثورى والكوفيين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 157 قال الطحاوى: والحجة فى ذلك قوله عليه السلام: (ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه) وقالوا: لما كانت النذور إنما تجب إذا كانت مما يتقرب بها إلى الله - تعالى - ولا تجب إذا كانت معاصى، وكان الكافر إذا قال: لله على اعتكاف أو صيام، ثم فعل ذلك، لم يكن بذلك متقربًا إلى الله، فأشبه ذلك قوله عليه السلام: (لا نذر فى معصية) لأن ما لم يصح أن يكون طاعة لا يلزم الوفاء به، وقد يجوز أن يكون قول رسول الله لعمر: (أوف بنذرك) ليس على طريق الوجوب، ولكن لما كان عمر قد سمح فى حال نذره أن يفعله، استحب له عليه السلام أن يفى به؛ لأن فعله الآن طاعة لله، فكان ما أمره به خلاف ما أوجبه هو على نفسه؛ لأن الإسلام يهدم أمر الجاهلية وقد تقدم فى كتاب الاعتكاف شىء من معنى هذا الباب فى باب الاعتكاف ليلا. 30 - باب مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ وَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَةً جَعَلَتْ أُمُّهَا عَلَى نَفْسِهَا صَلاةً بِقُبَاءٍ، فَقَالَ: صَلِّى عَنْهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. / 70 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فِى نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا، فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدُه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 158 / 71 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أُخْتِى قَدْ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ،؟ فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَاقْضِ اللَّهَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ) . اختلف العلماء فى وجوب قضاء النذر عن الميت على ورثته، فقال أهل الظاهر: يقضيه عنه وليه، وهو واجب عليه صومًا كان أو مالا. وقال جمهور العلماء: ليس ذلك فى الوارث بواجب، وإن فعل أحسن إن كان صدقة أو عتقًا، واختلفوا فى الصوم. واختلفوا أيضًا إذا أوصى به، فقالت طائفة: هو فى ثلثه. وهو قول مالك، وقال آخرون: كل واجب إذا أوصى به فهو من رأس ماله. وأما أمر ابن عمر وابن عباس بالصلاة بقباء، فهو على وجه الرأى لا على وجه الإلزام، وقد روى عن ابن عمر وابن عباس خلاف ما حكى البخارى عنهما، ذكر مالك فى الموطأ أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يقول: لا يصلى أحد عن أحدٍ ولا يصوم أحد عن أحد. وروى أيوب بن موسى عن عطاء بن أبى رباح، عن ابن عباس قال: لا يصلى أحد عن أحدٍ ولا يصوم أحد عن أحد. وأجمع الفقهاء أنه لا يصلى أحد عن أحد فرضًا وجب عليه من الصلاة ولا سنة، لا عن حى ولا عن ميت. قال المهلب: لو جاز أن يصلى أحد عن أحد؛ لجاز ذلك فى جميع ما يلزم الأبدان من الشرائع، ولجاز أن يؤمن إنسان عن آخر، وما كان أحد أحق بذلك من النبى - عليه السلام - أن يؤمن عن أبويه وعمه أبى طالب ولما نهى عن الاستغفار لمن استغفر له، ولبطل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 159 معنى قوله تعالى: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها (وإنما أراد - والله أعلم - كسب الفرائض، وأما النوافل فقد أمر عليه السلام الأعقاب بقضائها عن الأموات وغيرهم تبرعًا بذلك. وقوله: (كانت سنة) أى سنة فى الحض على التبرر عن الميت. قال ابن القابسى: وهذا يدل أن الموتى ينفعهم العمل الصالح، وإن كان من غير أموالهم، وقد قال تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (لكن فعل هذا سنة لمن فعله. واختلف العلماء فى النذر الذى كان على أم سعد بن عبادة، فقال: قوم كان صيامًا. واستدلوا بحديث الأعمش عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: (جاء رجل إلى النبى فقال: إن أمى ماتت وعليها صوم، أفأصوم عنها؟ قال: نعم) . قال بعض العلماء: لا يصح أن يجعل حديث الأعمش مفسرًا لحديث الزهرى؛ لأنه قد اختلف فيه على الأعمش، فقال فيه قوم عنه: (إن امرأة جاءت إلى النبى فقالت: يا رسول الله، إن أمى ماتت وعليها صيام) . وهذا يدل أنه ليس السائل عن ذلك سعد بن عبادة، وأنها كانت امرأة، وقد ذكرنا أن ابن عباس كان يفتى بألا يصوم أحد عن أحد. وقال آخرون: إن النذر الذى كان على أم سعد كان عتقا، واستدلوا على ذلك بحديث القاسم بن محمد أن سعد بن عبادة قال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 160 (يا رسول الله، إن أمى هلكت، فهل ينفعها أن أعتق عنها؟ قال: نعم) ، قالوا: وهذا يفسر النذر المجمل فى حديث ابن عباس. وقال آخرون: كان النذر صدقة، واستدلوا بحديث مالك عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة، عن أبيه، عن جده (أن سعد بن عبادة خرج فى بعض المغازى فحضرت أمه الوفاة، فقيل لها: أوصى، فقالت: فيم أوصى، وإنما المال مال سعد؟ فتوفيت قبل أن يقدم سعد، فلما قدم سعد ذُكر ذلك له، فقال سعد: يا رسول الله، هل ينفعها أن أتصدق عنها؟ فقال: نعم) ، وليس فى هذا بيان النذر المذكور بل الظاهر فى الحديث أنه وصية، والوصية غير النذر، ولا خلاف بين العلماء فى جواز صدقة الحى عن الميت نذرًا كان أو غيره. وقال آخرون: كان نذر أم سعد نذرًا مطلقًا، لا ذكر فيه لصيام ولا عتق ولا صدقة. قالوا: ومن جعل على نفسه نذرًا مبهما فكفارته كفارة يمين. روى هذا عن ابن عباس وعائشة وجابر، وهو قول جمهور الفقهاء. وروى عن سعيد بن جبير وقتادة أن النذر المبهم أغلظ الأيمان، وله أغلظ الكفارات: عتق أو كسوة أو إطعام. والصحيح قول من جعل فيه كفارة يمين، لما رواه ابن أبى شيبة عن وكيع، عن إسماعيل ابن رافع عن خالد بن يزيد، عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 161 عقبة بن عامر قال: قال رسول الله: (من نذر نذرًا لم يسمه فكفارته كفارة يمين) . وأما الحج عن الميت فهو مذكور فى كتاب الحج. قال المهلب: وقوله: (أرأيت لو كان عليها دين) هو تمثيل من النبى (صلى الله عليه وسلم) وتعليم لأمته القياس والاستدلال، ويبين ذلك أن الديون لازمة للأموات فى ذمته، فإن لم تكن لهم ذمة من المال لم يلزمهم الدين إلا فى الآخرة، فحذر النبى - عليه السلام - من أن يبقى على الميت تباعة من دين كان لخلقه أو من طاعة كان نذرها، وعرف أن ما لزمه لله أحق أن يقضى مما لزمه لأحدٍ من عباده حضا وندبًا - والله الموفق. 31 - باب النَّذْرِ فِيمَا لا يَمْلِكُ وَلاَ نَذْرٍ فِى مَعْصِيَةٍ / 72 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ) . / 73 - وفيه: أَنَس، قَالَ عليه السَّلام: (إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ، وَرَآهُ يَمْشِى بَيْنَ ابْنَيْهِ) . / 74 - وفيه: ابْن عَبَّاس: أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) رَأَى رَجُلا يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِزِمَامٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَقَطَعَهُ. وَقَالَ مرة: يَقُودُ إِنْسَانًا بِخِزَامَةٍ فِى أَنْفِهِ، فَقَطَعَهَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِيَدِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقُودَهُ بِيَدِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 162 / 75 - وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ مرة: بَيْنَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يَخْطُبُ، إِذ هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلا يَقْعُدَ، وَلا يَسْتَظِلَّ، وَلا يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ، فَقَالَ عليه السَّلام: (مُرْهُ، فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ) . ليس فى هذه الأحاديث شىء من معنى النذر فيما لا يملك، وقد تقدم قبل هذا شىء منه، وإنما فى هذه الأحاديث من نذر معصية أو ما ليس بطاعة. وقد اختلف العلماء فى ذلك، فقال مالك: من نذر معصية كقوله: لله على أن أشرب الخمر أو أزنى أو أسفك دمًا، فلا شىء عليه وليستغفر الله، استدلالا بقوله عليه السلام: (ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه) ولم يذكر كفارة. قال مالك: وكذلك إذا نذر ما ليس لله بطاعة ولا معصية كقوله: لله على أن أدخل الدار أو آكل أو أشرب، فلا شىء عليه أيضًا؛ لأنه ليس فى شىء من ذلك لله طاعة، استدلالا بحديث أبى إسرائيل. قال مالك: ولم أسمع رسول الله أمره بكفارة. وقد أمره أن يتم ما كان لله طاعة، ويترك ما خالف ذلك. وقول الشافعى كقول مالك. وقال أبو حنيفة والثورى: من نذر معصية كان عليه مع تركها كفارة يمين، واحتجوا بحديث عمران بن حصين وأبى هريرة أن الرسول قال: (لا نذر فى معصية الله، وكفارته كفارة يمين) ، وهذا حديث لا أصل له؛ لأن حديث أبى هريرة إنما يدور على سليمان بن أرقم، وهو متروك الحديث، وحديث عمران بن حصين يدور على زهير بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 163 محمد عن أبيه، وأبوه مجهول، لم يرو عنه غير ابنه زهير، وزهير أيضًا عنده مناكير. وفى قوله عليه السلام: (من نذر أن يعصى الله فلا يعصه) حجة لمن قال: إن من نذر ينحر ابنه فلا كفارة عليه؛ لأنه لا معصية أعظم من إراقة دم مسلم بغير حق، ولا معنى للاعتبار فى ذلك بكفارة الظهار فى قول المنكر والزور، كما اعتبر ذلك ابن عباس؛ لأن الظهار ليس بنذر، والنذر فى المعصية قد جاء فيه نص عن النبى - عليه السلام. قال مالك: من نذرك أن ينحر ابنه ولم ولم يقل عند مقام إبراهيم، فلا شىء عليه، وكذلك إن لم يرد أن يحجه، وإن نوى وجه ما ينحر فعليه الهدى. وقال أبو حنيفة: علية شاة إذا حلف أن ينحر ولده. وقال أبو يوسف: لا شىء عليه. وبه يأخذ الطحاوى. وفى حديث أبى إسرائيل دليل على السكوت عن المباح أو عن ذكر الله ليس من طاعة الله، وكذلك الجلوس فى الشمس، وفى معناه كل ما يتأذى به الإنسان مما لا طاعة لله فيه ولا قربة بنص كتاب أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 164 سنة كالجهاد وغيره، وإنما الطاعة ما أمر الله ورسوله مما يُتقرب بعمله لله، ألا ترى أنه عليه السلام أمره بإتمام الصيام لما كان لله طاعة. 32 - باب مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ أَيَّامًا فَوَافَقَ يَوْم الْفِطْرَ أَو النَّحْرَ / 76 - فيه: ابْن عُمَرَ، أن رَجلا سَأله عَنْ رَجُل نَذَرَ أَنْ لا يَأْتِىَ عَلَيْهِ يَوْمٌ إِلا صَامه، فَوَافَقَ يَوْمَ الأَضْحًى أَوْ فِطْرٍ، فَقَالَ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21] لَمْ يَكُنْ يَصُومُ يَوْمَ الأضْحَى وَالْفِطْرِ، وَلا يَرَى صِيَامَهُمَا. / 77 - وَقَالَ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ: سَأَل ابْنِ عُمَرَ رَجُلٌ، فَقَالَ: نَذَرْتُ أَنْ أَصُومَ كُلَّ يَوْمِ ثَلاثَاءَ - أَوْ أَرْبِعَاءَ - مَا عِشْتُ، فَوَافَقْتُ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ فَقَالَ: (أَمَرَ اللَّهُ بِوَفَاءِ النَّذْرِ، وَنُهِينَا أَنْ نَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ) ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ مِثْلَهُ، لا يَزِيدُ عَلَيْهِ. العلماء مجمعون أنه لا يجوز لأحد صوم يوم الفطر والنحر، وأن صومهما محرم على قاضٍ فرضًا أو ناذر، ومن نذر صومهما فقد نذر معصية، وهو داخل تحت قوله عليه السلام: (من نذر أن يعصى الله فلا يعصه) . واختلفوا فى قضائهما لمن نذر صيام يوم بعينه فوافقهما، وقد تقدم فى كتاب الصيام، فأغنى عن إعادته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 165 33 - باب هَلْ يَدْخُلُ فِى الأيْمَانِ وَالنُّذُورِ الأرْضُ وَالْغَنَمُ وَالزُّرُوعُ وَالأمْتِعَةُ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ عُمَرُ لِلنَّبِىِّ عليه السَّلام: أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ، قَالَ: (إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا) . وَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَحَبُّ أَمْوَالِى إِلَىَّ بَيْرُحَاءَ لِحَائِطٍ لَهُ مُسْتَقْبِلَةِ الْمَسْجِدِ. / 78 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، خَرَجْنَا مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ خَيْبَرَ، فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلا فِضَّةً، إِلا الأمْوَالَ وَالثِّيَابَ وَالْمَتَاعَ، فَأَهْدَى رَجُلٌ مِنْ بَنِى الضُّبَيْبِ، يُقَالُ لَهُ: رِفَاعَةُ إلى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) غُلامًا، يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ. . . الحديث. قال المهلب: إنما أراد البخارى أن يبين أن المال يقع على كل متملك، ألا ترى قول عمر للنبى: (إنى أصبت أرضًا لم أصب مالا قط أنفس منه) وقول أبى طلحة: (أحب أموالى إلى بيرحاء) . وهم القدوة فى الفصاحة ومعرفة لسان العرب. وأما قوله فى حديث أبى هريرة: (فلم نغنم ذهبًا ولا فضة إلا الأموال والثياب والمتاع) . فقد اختلفت الرواية فى ذلك عن مالك، فروى ابن القاسم عنه مثل رواية البخارى، وروى يحيى بن يحيى وجماعة عن مالك: (إلا الأموال والمتاع والثياب) وإنما تخرج هذه الرواية على لغة دوس قبيل أبى هريرة، فإنها لا تسمى العين مالا، وإنما الأموال عندهم العروض والثياب، وعند غيرهم المال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 166 الصامت من الذهب والفضة خاصة، والمعروف من كلام العرب أن كل ما تمول وتملك فهو مال، وإنما أراد البخارى - والله أعلم - الرد على أبى حنيفة فإنه يقول إن من حلف أو نذر أن يتصدق بمال كله، فإنه لا يقع يمينه ولا نذره من الأموال إلا على ما فيه الزكاة خاصة، وعند مالك ومن تبعه تقع يمينه على جميع ما يقع عليه اسم مال، وأحاديث هذا الباب تشهد لقول مالك، وهو الصحيح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 167 بسم الله الرحمن الرحيم - كِتَاب كَفَّارَة الأيْمَانِ وقَوْلِ اللَّهِ: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) [المائدة: 89] ، وَمَا أَمَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ نَزَلَتْ: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة: 196] . وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ: مَا كَانَ فِى الْقُرْآنِ (أَوْ) ، فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ، وَقَدْ خَيَّرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) كَعْبًا فِى الْفِدْيَةِ. / 1 - فيه: كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ: أَتَيْتُهُ - يَعْنِى النَّبِىَّ، عليه السَّلام - فَقَالَ: (ادْنُ) ، فَدَنَوْتُ، فَقَالَ: (أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ) ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ نُسُكٍ) . وَقَالَ أَيُّوبَ: صِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وَالنُّسُكُ شَاةٌ، وَالْمَسَاكِينُ سِتَّةٌ. والعلماء متفقون أن (أو) تقتضى التخيير، وأن الحانث فى يمينه بالخيار إن شاء كسا، وإن شاء أطعم، وإن شاء أعتق. واختلفوا فى مقدار الإطعام فى كفارة الأيمان، فقالت طائفة: يجزئه لكل إنسان مد من طعام بمد النبى - عليه السلام - وروى ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبى هريرة، وهو قول عطاء، والقاسم، وسالم، والفقهاء السبعة، وبه قال مالك، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد وإسحاق، غير أن مالكًا قال: إن أطعم بالمدينة فمدًا لكل مسكين؛ لأنه وسط عيشهم وسائر الأمصار وسطًا من عيشتهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 168 وقال ابن القاسم: يجزئه مد بمد النبى حيث ما أخرجه. وقالت طائفة: يطعم لكل مسكين نصف صاع حنطة، وإن أعطى تمرًا أو شعيرًا فصاعًا صاعًا، روى هذا عن عمر بن الخطاب، وعلى، ورواية عن زيد بن ثابت، وهو قول النخعى، والشعبى، والثورى، وسائر الكوفيين. واحتجوا بحديث كعب بن عجرة أن النبى أمره أن يطعم لكل مسكين نصف صاع حنطة فى فدية الأذى على ما ثبت فى كتاب الحج فى حديث كعب. والحجة للقول الأول أن النبى - عليه السلام - أمر فى كفارة الواقع على أهله فى رمضان بإطعام مد لكل مسكين، وإنما ذكر البخارى حديث كعب بن عجرة فى فدية الأذى فى باب كفارة اليمين من أجل التخيير فى كفارة الأذى كما هى فى كفارة اليمين. قال ابن القصار: ومن الحجة لهذه المقالة قوله تعالى: (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم (وأوسط ما نطعم أهلينا ما غلب فى العرف، وهو ما يغدى ويعشى ويشبع، وليس فى العرف أن يأكل الواحد صاعًا من شعير أو تمر، الذى هو عندهم ثمانية أرطال، ولا نصف صاع من بر، وهو أربعة أرطال، والحكم معلق على الغالب لا على النادر، ويجوز أن يغدى المساكين ويعشيهم عند مالك والكوفيين، وقال الشافعى: لا يعطيهم المد إلا دفعة واحدة. قال ابن القصار: والجميع عندنا يجوز لقوله: (فكفارته إطعام ( الجزء: 6 ¦ الصفحة: 169 ولم يخص، فإن أطعم بالغداة والعشى فقد أطعم، وعلى أصل مالك يجوز أن يغديهم ويعشيهم دون إدام؛ لأن الأصل عنده مد دون إدام. وذهب مالك فى الأدم إلى الزيت، قال إسماعيل: وأحسبه ذهب إلى الزيت؛ لأنه الوسط من أدم أهل المدينة، وقال غيره: من ذهب إلى مد بمد النبى تأول قوله: (من أوسط ما تطعمون (أنه أراد الوسط من الشبع، ومن ذهب إلى مدين من بر أو صاع من شعير ذهب إلى الشبع، وتأول فى أوسط ما تطعمون الخبز واللبن، والخبز والسمن، والخبز والزيت، قالوا: والأعلى الخبز واللحم، والأدون خبز دون إدام، ولا يجوز عندهم الأدون لقوله: (من أوسط (. واختلف فيما يجزئ من الكسوة فى الكفارة، فقال مالك: ما يستر عورة المصلى، فالرجل يستره القميص، والمرأة قميص ومقنعة؛ لأنها عورة لا يجوز أن يظهر فى الصلاة إلا وجهها وكفاها. وقال أبو حنيفة والشافعى يجزئه ما يقع عليه اسم كسوة. وحجة مالك قوله تعالى) من أوسط (فعطف بالكسوة على الأوسط، فكما يطعم الأوسط، فكذلك يكسو الأوسط. وذهب مالك إلى أنه إذا عدم فى الكفارة العتق والإطعام والكسوة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 حتى وجب عليه صيام ثلاثة أيام أنه يجوز له تفريق صومها، وأحب إليه متابعتها، وعند أبى حنيفة لا يجزئه إذا فرقها، وهو أحد قولى الشافعى، وحجة مالك أن الله ذكر صيامًا ولم يشترط فيه التتابع، كما لم يشترط فى فدية الأذى، وحجة الكوفيين أن ابن مسعود قرأ: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات (. - باب قَوْلِهِ تَعَالَى: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) [التحريم: 2] ومَتَى تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْغَنِىِّ وَالْفَقِيرِ / 2 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: هَلَكْتُ، قَالَ: (وَمَا شَأْنُكَ) ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِى فِى رَمَضَانَ، قَالَ: (تَسْتَطِيعُ تُعْتِقُ رَقَبَةً) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: (فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: (فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: (اجْلِسْ) ، فَجَلَسَ، فَأُتِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِعَذَقٍ فِيهِ تَمْرٌ - وَالْعَذَقُ الْمِكْتَلُ الضَّخْمُ - قَالَ: (خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ. . .) الحديث. أراد البخارى أن يعرفك أن الكفارة تجب بعد الحنث وانتهاك الذنب، وستأتى مذاهب العلماء فى الكفارة قبل الحنث أو بعده، بعد هذا - إن شاء الله - وقد تقدم ما للعلماء فى الفقير تجب عليه الكفارة ولا يجد ما يكفر، هل تسقط عنه أو تبقى فى ذمته إلى حال يسره فى كتاب الصيام. واستدل مالك والشافعى بهذا الحديث أن الإطعام فى كفارة الأيمان مُد لكل مسكين؛ لأن المكتل الذى أتى به عليه السلام وقال للواطئ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 171 خذه فتصدق به. كان فيه خمسة عشر صاعًا، وذلك ستون مدا، فالذى يصيب كل مسكين منهم مُد. وزعم الكوفيون أنه قد يجوز أن يكون النبى لما علم حاجة الرجل أعطاه المكتل من التمر بالخمسة عشر صاعًا ليستعين به فيما وجب عليه لا على أنه جميع ما وجب عليه، كالرجل يشكو إلى الرجل ضعف حاله وما عليه من الدين، فيقول له خذ هذه العشرة دراهم فاقض بها دينك، ليس على أنها تكون قضاء عن جميع دينه، ولكن على أن تكون قضاء لمقدارها من دينه. وهذه دعوى لا دليل عليها إلا الظن، والظن لا يغنى من الحق شيئًا، وقول مالك أولى بالصواب، وهو ظاهر الحديث؛ لأن النبى - عليه السلام - لم يذكر مقدار ما تبقى عليه من الكفارة بعد الخمسة عشر صاعًا ولم يكن يسعه السكوت عن ذلك حتى يبينه؛ لأنه بُعث معلمًا. - باب يُعْطِى فِى الْكَفَّارَةِ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا / 3 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ لَهُ: (أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ) . قال المهلب: قال تعالى: (فكفارته إطعام عشرة مساكين (فجاء هذا اللفظ مبهمًا بغير شرط قريب ولا بعيد، وبين النبى - عليه السلام - فى كفارة المفطر فى رمضان أنه جائز فى الأقارب لقوله: (أطعمه أهلك) فقاس البخارى بذلك المبهم من كفارة الأيمان بالله؛ لأنه مفسر، والمفسر يقضى على المجمل، إلا أن أكثر العلماء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 172 على أن الفقير تبقى الكفارة فى ذمته، فمن قال هذا لا يجيز أن يعطى الكفارة أحدًا من أهله ممن تلزمه نفقته إلا وتكون باقية فى ذمته، وإن كان ممن لا تلزمه نفقتهم فيجوز أن يعطيهم، ويجزئه فى الكفارة، وقد تقدم بيان هذا فى كتاب الصيام. 3 - باب صَاعِ الْمَدِينَةِ وَمُدِّ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَبَرَكَتِهِ وَمَا تَوَارَثَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذَلِكَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ / 4 - فيه: السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمُ الْيَوْمَ، فَزِيدَ فِيهِ فِى زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِالْعَزِيزِ. / 5 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يُعْطِى زَكَاةَ رَمَضَانَ بِمُدِّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) الْمُدِّ الأوَّلِ، وَفِى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِمُدِّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . وَقَالَ مَالِكٌ: لَوْ جَاءَكُمْ أَمِيرٌ، فَضَرَبَ لكم مُدًّا أَصْغَرَ مِنْ مُدِّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، بِأَىِّ شَىْءٍ كُنْتُمْ تُعْطُونَ؟ قُلْتُ: كُنَّا نُعْطِى بِمُدِّ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: أَفَلا تَرَى أَنَّ الأمْرَ إِنَّمَا يَعُودُ إِلَى مُدِّ النَّبِىِّ، عليه السَّلام. / 6 - وفيه: أَنَس، قَالَ عليه السَّلام: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِى مِكْيَالِهِمْ وَمُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ) . وقوله: (كان الصاع على عهد النبى مدا وثلثًا) يدل أن مدهم ذلك الوقت حين حدث به السائب وزنه أربعة أرطال، وإذا زيد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 173 عليه ثلثه، وذلك رطل وثلث قام منه خمسة أرطال وثلث، وهو الصاع بدليل أن مد النبى - عليه السلام - فيه رطل وثلث، وصاعه أربعة أمداد بمده عليه السلام، وأما مقدار ما زيد فيه فى زمن عمر بن عبد العزيز فلا يعلم ذلك إلا بخبر. وقوله: إن ابن عمر كان يعطى زكاة رمضان وفى كفارة اليمين بمد النبى - عليه السلام - الأول، فإنما وصف مد النبى - عليه السلام - بالأول ليفرق بينه وبين مد هشام الحادث الذى أحدثه أهل المدينة فى كفارة الظهار، ليغلظها على المتظاهرين الذين شهد الله عليهم أنهم يقولون منكرًا من القول وزورًا، فجعلوها بمد هشام، وهو أكبر من مد النبى بثلثى مد، ولم يكن للنبى - عليه السلام - إلا مد واحد، وهو الذى نقله أهل المدينة، وعمل به الناس إلى اليوم. والفقهاء على قولين فى كفارة الأيمان، فطائفة تقول: إن الكفارات كلها بمد النبى - عليه السلام - مد مد لكل مسكين، وكذلك الإطعام عمن فرط فى صيام رمضان حتى يأتى رمضان آخر، وهو قول مالك والشافعى على ما ثبت فى هذه الأحاديث وحديث الواقع على أهله فى رمضان. وقال أهل العراق: الكفارات كلها مدان مدان لكل مسكين قياسًا على ما أجمعوا عليه من فدية الأذى فى حديث كعب بن عجرة أن النبى أمره أن يطعم كل مسكين نصف صاع. قال المهلب: وإنما دعا النبى - عليه السلام - لهم بالبركة فى مكيالهم وصاعهم ومدهم، فإنه خصهم من بركة دعوته بما أضطر أهل الأرض كلها أن يشخصوا إلى المدينة ليأخذوا هذا المعيار المدعو له الجزء: 6 ¦ الصفحة: 174 بالبركة، وينقلوه إلى بلدانهم، ويكون ذلك سنة فى معايشهم وما افترض الله عليهم لعيالهم، وقد تقدم فى كتاب الوضوء والغسل الحجة لمقدار مده وصاعه عليه السلام بما فيه مقنع. 4 - باب قَوْلِ اللَّهِ: (فتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مؤمنة (وَأَىُّ الرِّقَابِ أَزْكَى؟ / 7 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ، حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ) . اختلف العلماء فى عتق غير المؤمنة فى كفارة اليمين، فقال مالك والأوزاعى والشافعى: لا تجزئ إلا برقبة مؤمنة، وأجاز عطاء بن أبى رباح عتق غير المؤمنة، وهو قول الكوفيين وأبى ثور، واحتج الكوفيون أن الله إنما شرط الرقبة المؤمنة فى كفارة قتل الخطأ خاصة، ولم يشترط المؤمنة فى كفارة اليمين بالله، ولا فى كفارة الظهار، فلا يجب أن يتعدى بالمؤمنة غير الموضع الذى ذكرها الله فيه. قال الطحاوى: فلا تقاس الرقبة على الرقبة، كما لم يقس الصوم المطلق على المتتابع، وكما لم يجعل الإطعام فى القتل بدلا من الصوم قياسًا على الظهار. وحجة القول الأول أن الله - تعالى - لما شرط فى كفارة قتل الخطأ الرقبة المؤمنة، وكانت كفارة ثم ذكر فى كفارة اليمين وكفارة الظهار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 175 رقبة، ولم يذكر مؤمنة ولا غير مؤمنة، وكانت كفارات كلها، وجب اعتبار المؤمنة فى كل موضع، ألا ترى أن الله شرط العدالة فى الشهادة بقوله: (ممن ترضون من الشهداء (ثم قال فى موضع آخر: (وأشهدوا إذا تبايعتم (ولم يختلف العلماء أن العدالة من شرط الإشهاد فى التبايع، وجب أن يكون مثل ذلك فى الرقبة، وهذا عندهم من باب المجمل الذى يقضى عليه المفسر، فلما فسر أمر الرقبة فى الموضع الواحد استغنى عن إعادتها فى كل موضع، ألا ترى أن النبى إنما حض على عتق المؤمن، لأنه أزكى وأطهر، ولم يختلف العلماء فى جواز عتق الكافر فى التطوع، واحتج مالك فى ذلك بقول الله تعالى: (فإما منا بعد وإما فداء (فالمن: العتق للمشركين، وقد من رسول الله على جماعة منهم. 5 - باب عِتْقِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ فِى الْكَفَّارَةِ وَعِتْقِ وَلَدِ الزِّنَا وَقَالَ طَاوُسٌ: يُجْزِئُ الْمُدَبَّرُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ. / 8 - فيه: جَابِر، أَنَّ رَجُلا مِنَ الأنْصَارِ دَبَّرَ مَمْلُوكًا لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَلَغَ النَّبِىَّ عليه السَّلام، فَقَالَ: (مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّى) ؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ. اختلف العلماء فى هذا الباب فقال مالك: لا يجوز أن يعتق فى الرقاب الواجبة مكاتب ولا مدبر ولا أم ولد ولا معتق إلى سنين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 176 وهو قول الكوفيين والأوزاعى والشافعى، إلا أن الشافعى أجاز عتق المدبر. وأن الكوفيين والأوزاعى قالوا: إن كان المكاتب قد أدى شيئًا من كتابته فلا يجوز عتقه فى الكفارة، وإن لم يؤد شيئًا جاز عتقه وبه قال الليث وأحمد وإسحاق. وفيه قول ثالث: أن عتقه يجزئ وإن أدى بعض كتابته، قال: لأن المكاتب عبد ما بقى عليه درهم فهو يباع، وقد اشترت عائشة بريرة بأمر النبى عليه السلام. وهذا قول أبى ثور. وحجة مالك ومن وافقه أن المكاتب والمدبر وأم الولد قد ثبت لهم عقد حرية لا سبيل إلى دفعها، والله - تعالى - إنما ألزم من عليه عتق رقبة واجبة أن يبتدئ عتقها من غير عقد حرية تقدمت فيها قبل عتقه فقال تعالى: (فتحرير رقبة (ولم يقل بعض رقبة. واحتج الشافعى فى المدبر يجزئ عتقه فى الكفارة بحديث جابر أن النبى - عليه السلام - باع المدبر على الذى لم يكن له مال غيره من نعيم النحام، وقال: لما جاز بيعه جاز عتقه فى الكفارة وغيرها؛ لأنه لو كانت فيه شعبة من الحرية لم يبعه النبى - عليه السلام. وقال المالكيون: من جعل جواز البيع حجة على جواز عتقه فقوله غير صحيح؛ لأن كثيرًا ممن يجوز بيعه لا يجوز عتقه مثل الأعمى والمقعد وشبهه. وقال مالك والكوفيون: إنما بيع المدبر فى حديث جابر؛ لأن تدبيره الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 كان سفهًا، وكان من الإعلان بسوء النظر لنفسه، فلذلك رده النبى - عليه السلام - لأن تدبيره كلا تدبير، وبهذا الحديث احتج بعض العلماء فى جواز نقض أفعال السفيه قبل أن يولى عليه، وأما التدبير الصحيح بخلاف هذا، لا يجوز أن يباع من ثبت له ذلك؛ لأنه قد ثبت له شرط الحرية بعد الموت. وأما عتق أم الولد فى الرقاب الواجبة، فإن فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز عتقها فى ذلك من أجل أنه قد ثبت لها شرط الحرية بعد موت سيدها، على ما حكم به عمر بن الخطاب بحضرة الصحابة، وما ذكره البخارى عن طاوس أنه أجاز عتقها فى الرقاب الواجبة، فهو قول النخعى والحسن البصرى، وحجتهم الإجماع على أن أحكامها فى جراحها وحدودها أحكام أمة، لا أحكام حرة. وأما عتق ولد الزنا فى الرقاب الواجبة، فأجاز عتقه جمهور الفقهاء روى ذلك عن عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب، وعائشة، وجماعة من الصحابة - رضى الله عنهم - وقال عطاء والشعبى والنخعى: لا يجوز عتقه، وهو قول الأوزاعى وما روى عن أبى هريرة أن النبى عليه السلام - قال فيه: (إنه شر الثلاثة) . فقد روى عن ابن عباس وعائشة إنكار ذلك، قال ابن عباس: لو كان شر الثلاثة ما استوى بأمه حتى تضعه، وقالت عائشة: ما عليه من ذنب أبويه شىء، ثم قرأت: (ولا تز وازرة وزر أخرى (. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 178 6 - باب إِذَا أَعْتَقَ عبدًا بينه وبين آخر فِى الْكَفَّارَةِ، لِمَنْ يَكُونُ وَلاؤُهُ؟ / 9 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِىَ بَرِيرَةَ، فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهَا الْوَلاءَ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (اشْتَرِيهَا، فَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) . اختلف العلماء فى هذه المسألة، فقال مالك والأوزاعى: إذا أعتق أحد الشريكين عبدًا بينه وبين غيره عن الكفارة، إن كان موسرًا أجزأه ويضمن لشريكه حصته، وإن كان معسرًا لم يجزئه، وهو قول محمد وأبى يوسف والشافعى وأبى ثور. وقال أبو حنيفة وبعض أصحابه: لا يجزئه عن الكفارة موسرًا كان أو معسرًا. وحجة مالك أن للمعتق الموسر إذا لم يكن شريكه يعتق نصيبه، فالعبد كله على الموسر حر، فلذلك أجزأ عنده، وحجة من لم يجز العتق أنه أعتق نصف عبد لا عبدًا كاملا؛ لأن أصل أبى حنيفة أن الشريك مخير، إن شاء قوم على شريكه، وإن شاء استسعى العبد فى نصف قيمته، وإن شاء أعتق فيكون الولاء بينهما نصفين. وأما الولاء فهو للمكفر المعتق عند جمهور العلماء؛ لأنه لما أعتق نصيبه وكان موسرًا أوجب عليه عتقه كله، وقد قال عليه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 السلام: (الولاء لمن أعتق) فلذلك أدخل البخارى حديث بريرة فى هذا الباب. 7 - باب الاسْتِثْنَاءِ فِى الأيْمَانِ / 10 - فيه: أَبُو مُوسَى، أَتَيْتُ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فِى رَهْطٍ مِنَ الأشْعَرِيِّينَ أَسْتَحْمِلُهُ، فَقَالَ: (وَاللَّهِ لا أَحْمِلُكُمْ، مَا عِنْدِى مَا أَحْمِلُكُمْ) ، ثُمَّ لَبِثْنَا مَا شَاءَ اللَّهُ، فَأُتِىَ بِإِبِلٍ، فَأَمَرَ لَنَا بِثَلاثَةِ ذَوْدٍ، فقلنا: لا يُبَارِكُ اللَّهُ لَنَا، فَأَتَيْنَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فأخبرناه، فَقَالَ: (مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ، بَلِ اللَّهُ حَمَلَكُمْ إِنِّى وَاللَّهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرِهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِى، وَأَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، أَوْ أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِى. / 11 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ سُلَيْمَانُ: لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً، كُلٌّهن تَلِدُ غُلامًا، يُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ - يَعْنِى الْمَلَكَ -: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَنَسِىَ، فَطَافَ بِهِنَّ، فَلَمْ تَأْتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ بِوَلَدٍ إِلا وَاحِدَةٌ بِشِقِّ غُلامٍ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: تَرَوْنَهُ لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرَكًا لَهُ فِى حَاجَتِهِ. وَقَالَ مَرَّةً: قَالَ عليه السَّلام: (لَوِ اسْتَثْنَى) . اختلف العلماء فى الوقت الذى إذا استثنى فيه الحالف سقطت عنه الكفارة، فقال مالك والكوفيون والأوزاعى والليث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 180 والشافعى وجمهور العلماء: الثُنَيا لصاحبها فى اليمين ما كان من ذلك نسقًا يبتع بعضه بعضًا، ولم يقطع كلامه قطعًا يشغل عن الاستثناء ما لم يقم عن مجلسه، فإذا سكت وقطع كلامه فلا ثنيا له. وقال الحسن البصرى وطاوس: للحالف الاستثناء ما لم يقم من مجلسه. وقال قتادة: أو يتكلم. وقال أحمد: يكون له الاستثناء ما دام فى ذلك الأمر. وكذلك قال إسحاق، إلا أن يكون سكوت ثم عود إلى الأمر، وعن عطاء رواية أخرى، وهو أن له ذلك قدر حلب الناقة الغزيرة، وقال سعيد بن جبير: له ذلك بعد أربعة أشهر. وقال مجاهد: له ذلك بعد سنتين. وروى عن ابن عباس أنه قال: يصح له الاستثناء ولو بعد حين. فقيل: أراد به سنة. وقال ابن القصار: وقيل: أراد به أبدًا. وروى وكيع، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: يستثنى فى يمينه متى ذكر، واحتج بقوله تعالى: (واذكر ربك إذا نسيت (. واحتج من أجاز الاستثناء بعد السكوت بما روى قيس، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبى - عليه السلام - قال: (والله لأغزون قريشًا - ثلاثًا - ثم سكت، ثم قال: إن شاء الله) . قال ابن القصار: ولا حجة فى هذا؛ لأن حديث ابن عباس رواه شريك عن سماك عن عكرمة، عن النبى، فالحديث مرسل، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 181 ولو صح عن ابن عباس لم يرد به إسقاط الحنث، وإنما أراد - والله أعلم - أن الله - تعالى - أوجب الاستثناء على كل قائل أنه يفعل شيئًا بقوله: (ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله (يقول: فإذا نسى: إن شاء الله، فليقله أى وقت ذكره ولو بعد سنةٍ، حتى يخرج بذلك عن المخالفة، لا أنه يجوز هذا فى اليمين، ولو صح الخبر عن النبى - عليه السلام - احتمل أن يكون ناويًا للاستثناء وسكوته ليتذكر شيئًا أراده فى اليمين حتى إذا تممه استثنى، ويجوز أن يكون لانقطاع نَفَسٍ، أو لشىء شغله عن اتصال الاستثناء حتى يتمكن منه. ومن حجة أهل المقالة الأولى أيضًا قوله عليه السلام: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذى هو خير وليكفر عن يمينه) ولو أمكنه أن يخرج من هذه اليمين بقوله: إن شاء الله، لما أوجب كفارة على حانث أبدًا، ولقال له عليه السلام: إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فاستثن وائت الذى هو خير ولم يذكر كفارة، ولبطل معنى قوله تعالى: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم (وكذلك معنى حديث سليمان أن كان حلف بالله ليطوفن على نسائه، فإن الاستثناء بعد يمينه متى أرادها كانت تخرجه من الحنث، لو كان كما زعم من خالف أئمة الفتوى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 182 وقد قيل: إن قوله: (لأطوفن) لم يكن يمينًا على ما يأتى بيانه فى هذا الباب - إن شاء الله. قال المهلب: وإنما جعل الله الاستثناء فى اليمين رفقًا منه بعباده فى أموالهم؛ ليوفر بذلك الكفارة عليه إذا ردوا المشيئة إليه تعالى. واختلفوا فى الاستثناء فى الطلاق والعتق، فقال مالك، وابن أبى ليلى، والليث، والأوزاعى: لا يجوز فيه الاستثناء وروى مثله عن ابن عباس، وابن المسيب، والشعبى، والحسن، وعطاء، ومكحول، وقتادة، والزهرى. وأجاز الاستثناء فيهما طاوس والنخعى والحكم ورواية عن عطاء، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعى وإسحاق، واحتج لهم بعموم قوله عليه السلام فى حديث سليمان: (لو قال: إن شاء الله، لم يحنث) وأن قول الحالف: إن شاء الله، عامل فى جميع الأيمان، لأنه لم يخص بعض الأيمان من بعض، فوجب أن يرفع الاستثناء الحنث فى الطلاق والعتق وجميع الأيمان. وحجة من أوجب الطلاق والعتق ومنع دخول الاستثناء فيهما، أن الاستثناء لا يكون إلا فى اليمين بالله وحده، وبذلك ورد الأثر عن النبى أنه قال: (من حلف بالله ثم قال: إن شاء الله، فلا حنث عليه) أسنده أيوب السختيانى، وكثير بن فرقد، وأيوب بن موسى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 183 عن نافع، عن ابن عمر - فى اليمين - عن النبى - عليه السلام - وذكره مالك فى الموطأ عن نافع، عن ابن عمر من قوله. قال الأبهرى: فكان ذكره الاستثناء إنما هو فى اليمين بالله دون غيرها من الأيمان، ولم يجز تعدى ذلك إلى غيرها بغير دليل، وأما من جهة القياس، فلما كان الطلاق والعتق لا تحله الكفارة التى هى العتق والإطعام والكسوة، وهى أقوى فعلا وأغلظ على النفوس من الاستثناء الذى هو القول لم يحله القول، لأن ما لا يحله الأوكد لم يحله الأضعف، ولا تعلق لهم بحديث سليمان، لأن ظاهر قوله: (لأطوفن) لم يكن معه يمين، وإنما كان قولاً جعل فيه المشيئة لنفسه حين لم يقل: إن شاء الله، فعاقبه الله بالحرمان، كما قال تعالى لمحمد نبيه: (ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله (وأدب عباده بذلك ليتبرءوا إليه تعالى من الحول والقوة، ولم يكن قول سليمان يمينا بالله يوجب عليه الكفارة فتسقط عنه بالاستثناء. فإن قيل: قوله عليه السلام: (لو قال: إن شاء الله، لم يحنث) يدل أنه كان يمينًا. قيل: معنى قوله: (لم يحنث) لم يأثم على تركه استثناء مشيئة الله - تعالى - فلما أعطى لنفسه الحول عاقبه الله بالحرمان وخيبه، فكأنه تحنيث لقوله، والحنث فى لسان العرب: الإثم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 184 ومن لم يرد المشيئة إلى الله - تعالى - فى جميع أموره فقد أثم وحرج، والحنث أيضًا أن لا يبر ولا يصدق. ووقع فى رواية أبى زيد: (بشائل) مكان قوله: (بإبل) وأظنه (بشوائل) إن صحت الرواية، وقال أبو عبيد عن الأصمعى: إذا أتى على الناقة من يوم حملها سبعة أشهر جف لبنها، فهى حينئذ شائل، وجمعها: شوائل. وفى كتاب العين: ناقة شائلة، ونوق شول للتى جف لبنها. وشولت الإبل: لزقت بطونها بظهورها. 8 - باب الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ / 12 - فيه: حديث أَبِى مُوسَى، إلى قوله عليه السَّلام: (إِنِّى وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلا أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، وَتَحَلَّلْتُهَا) . / 13 - وفيه: عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لا تَسْأَلِ الإمَارَةَ. . . . . .) إلى قوله: (وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَأْتِ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ) . اختلف العلماء فى جواز الكفارة قبل الحنث، فقال ربيعة ومالك والثورى والليث والأوزاعى: تجزئ قبل الحنث. وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور، وروى مثله عن ابن عباس وعائشة وابن عمر. وقال الشافعى: يجوز تقديم الرقبة والكسوة والإطعام قبل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 185 الحنث، ولا يجوز تقديم الصوم. وقال أبو جنيفة وأصحابه: لا تجزئ الكفارة قبل الحنث. قال ابن القصار: ولا سلف لأبى حنيفة فى ذلك. واحتج له الطحاوى بقوله تعالى: (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم (والمراد إذا حلفتم فحنثتم. ولم يذكر البخارى فى حديث أبى موسى ولا فى حديث عبد الرحمن بن سمرة فى هذا الباب تقديم الكفارة قبل الحنث، وقد ذكر ذلك فى باب الاستثناء فى الأيمان، وفى أول كتاب الأيمان، وهو قوله عليه السلام: (إلا كفرت عن يمينى وأتيت الذى هو خير، أو أتيت الذى هو خير وكفرت عن يمينى) . وقال ابن المنذر: قد قال بعض أصحابنا: إنه ليس فى اختلاف ألفاظ هذه الأحاديث إيجاب لتقديم أحدهما على الآخر، إنما أمر الحالف بأمرين: أمر بالحنث والكفارة، فإذا أتى بهما جميعًا فقد أطاع وفعل ما أمر به كقوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله (فأيهما قدم على الآخر فقد أتى بما عليه، كذلك إذا أتى بالذى هو خير وكفر فقد أتى بما عليه. قال ابن القصار: وقد رأى جواز تقديم الكفارة قبل الحنث أربعة عشر من الصحابة، وهم: ابن مسعود، وعائشة، وابن عباس، وابن عمر، وأبو الدرداء، وأبو أيوب، وأبو موسى، وأبو مسعود، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 186 وحذيفة، وسلمان، ومسلمة بن مخلد، وابن الزبير، ومعقل، ورجل لم يذكر، وبعدهم من التابعين: سعيد بن المسيب وعطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، والحسن، وابن سرين، وعلقمة، والنخعى، والحكم بن عتيبة، ومكحول. فهؤلاء أعلام أئمة الأمصار، ولا نعلم لهم مخالفًا إلا أبا حنيفة، على أن أبا حنيفة يقول ما هو أعظم من تقديم الكفارة، وذلك لو أن رجلا أخرج عنزا من الظباء من الحرم، فولدت له أولادًا ثم ماتت فى يده هى وأولادها، أن عليه الجزاء عنها وعن أولادها، وإن كان حين أخرجها أدى جزاءها ثم ولدت أولادًا ثم ماتت هى وأولادها لم يكن عليه فيها ولا فى أولادها شىء. ولا شك أن الجزاء الذى أخرجه عنها وعن أولادها كان قبل أن تموت هى وأولادها، ومن قال هذا لم ينبغ له أن ينكر تقديم الكفارة قبل الحنث. وأما قوله: تقدير الآية: ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتهم فحنثتم؛ فتقدير الآية عندنا: ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم فأردتم أن تحنثوا. وأما قول الشافعى: لا يجوز تقديم الصيام على الحنث، فيرد عليه قوله عليه السلام: (فليكفر عن يمينه، وليأت الذى هو خير) ولم يخص شيئًا من جنس الكفارة فى جواز التقديم، فإن قال: إن الصيام من حقوق الأبدان، ولا يجوز تقديمها قبل وقتها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 187 كالصلاة، والعتق والكسوة والإطعام من حقوق الأموال فهى كالزكاة يجوز تقديمها. قيل له: ليس كل حق يتعلق بالمال يجوز تقديمه قبل وقته، ألا ترى أن كفارة القتل وجزاء الصيد لا يجوز تقديمه قبل وجوبه، وقد جاز تقديم العتق والإطعام والكسوة فى كفارة اليمين قبل وجوبه، فكذلك يجوز تقديم صيامها. وقال الأبهرى: وأما جواز تقديم ذلك من طريق النظر؛ فلأن عقد اليمين لما كان يحله الاستثناء إذا اتصل باليمين وإنما هو قول؛ كانت الكفارة بأن تحل عقد اليمين أولى؛ لأنها أقوى؛ لأنها ترفع حكم الحنث حتى كأنه لم يكن فكذلك ترفع حكم العقد حتى كأنه لم يكن وتشبيهه الإطعام والكسوة والعتق بالزكاة يجوز تقديمها فغير صحيح؛ لأن الزكاة لما كان وجوبها معلقًا بوقت لم يجز تقديمها، كما لا يجوز فى الصلاة والصيام، ووقت الكفارة غير معلق بوقت، وإنما هو على حسب ما يريده المكفر من الحنث، فكان فعلها جائزًا قبل الحنث وبعده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 188 بسم الله الرحمن الرحيم - كِتَاب الْبُيُوعِ - بَاب مَا جَاءَ فِى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِى الأرْضِ (إلى آخر السورة وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) [الجمعة: 10] / 1 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَتَقُولُونَ: مَا بَالُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ لا يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِى هُرَيْرَةَ؟ وَإِنَّ إِخْوَتِى مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ صَفْقٌ بِالأسْوَاقِ، وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى مِلْءِ بَطْنِى، فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا، وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا، وَقَدْ قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (إِنَّهُ لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِىَ مَقَالَتِى هَذِهِ، ثُمَّ يَجْمَعَ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ إِلا وَعَى مَا أَقُولُ) ، فَبَسَطْتُ نَمِرَةً عَلَىَّ حَتَّى إِذَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَقَالَتَهُ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِى، فَمَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) تِلْكَ مِنْ شَىْءٍ. / 2 - وفيه: عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنِى وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ: إِنِّى لأَكْثَرُ الأنْصَارِ مَالا، فَأَقْسِمُ لَكَ نِصْفَ مَالِى، وَانْظُرْ أَىَّ زَوْجَتَىَّ هَوِيتَ نَزَلْتُ لَكَ عَنْهَا، فَإِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ: لا حَاجَةَ لِى فِى ذَلِكَ، هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: سُوقُ قَيْنُقَاعٍ، قَالَ: فَغَدَا إِلَيْهِ عَبْدُالرَّحْمَنِ، فَأَتَى بِأَقِطٍ وَسَمْنٍ. . . الحديث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 189 / 3 - وفيه: ابْن عَبَّاس كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاء الإسْلامُ كَأَنَّهُمْ تَأَثَّمُوا فِيهِ، فَنَزَلَتْ: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة: 198] فِى مَوَاسِمِ الْحَجِّ. قال المؤلف: أباح الله التجارة فى كتابه وأمر بالابتغاء من فضله، وكان أفاضل الصحابة يتجرون ويتحرفون فى طلب المعاش، وقد نهى العلماء والحكماء عن أن يكون الرجل لا حرفة له ولا صناعة؛ خشية أن يحتاج إلى الناس فيذل لهم، وقد روى عن لقمان أنه قال لابنه: يا بنى، خذ من الدنيا بلاغك، وأنفق من كسبك لآخرتك، ولا ترفض الدنيا كل الرفض فتكون عيالا وعلى أعناق الرجال كلا. وروى عن حماد بن زيد أنه قال: كنت عند الأوزاعى فحدثه شيخ كان عنده أن عيسى ابن مريم - عليه السلام - قال: إن الله يحب العبد يتعلم المهنة يستغنى بها عن الناس، وإن الله - تعالى - يبغض العبد يتعلم العلم يتخذه مهنة. وقال أبو قلابة لأيوب السختيانى: إنى يا أيوب ألزم السوق؛ فإن الغنى من العافية. قال المهلب: وفى حديث عبد الرحمن من الفقه أنه لا بأس للشريف أن يتصرف فى السوق فى البيع والشراء، ويتعفف بذلك عما يبذل له من المال وغيره. وفيه: الأخذ بالشدة على نفسه فى أمر معاشه، وأن العيش الجزء: 6 ¦ الصفحة: 190 من الصناعات أولى بنزاهة الأخلاق من العيش من الهبات والصدقات وشبهها. وفيه: بركة التجارة، وفيه: المؤاخاة فى الإسلام على التعاون فى أمر الله، وبذل المال لمن يؤاخى عليه. وفيه معان ستأتى فى كتاب النكاح - إن شاء الله. وفى حديث أبى هريرة: الحرص على التعلم وإيثار طلبه على طلب المال. وفيه: فضيلة لأبى هريرة وهى أن النبى - عليه السلام - خصه بأن يبسط له رداءه، وقال: ضمه، فما نسى من مقالة النبى - عليه السلام - تلك من شىء، وقد تقدم فى كتاب العلم. وأما قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم (فإن إسماعيل بن إسحاق قال: كل شىء حرمه الله من القمار ومن البيوع الفاسدة فهو من أكل المال بالباطل؛ لأن المقامر يقول لصاحبه: إن كان كذا فلى كذا، وإن لم يكن فلك كذا، وكذلك البيع الفاسد من الغرر؛ لأنه يبيع صاحبه البيع الذى فيه غرر، فإن سلم غلبه المشترى، وإن لم يسلم غلبه البائع. وأما الربا فليس فساده من وجه القمار والغرر، ولكنه أخذ من صاحبه عوضًا للتأخير الذى لم يجعله الله له ثمنًا، والقرض الذى يجر منفعة، وما أشبه ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 191 وقوله: (من مساكين الصفة) فإن العرب تقول: صففت البيت وأصففته: جعلت له صفة، وهى السقيفة أمامه، وأصحاب الصفة: الملازمون لمسجد النبى - عليه السلام - وقوله: (فبسطت نمرة) النمرة: ثوب مخمل من وبر أو صوف. - باب الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ / 4 - فيه: النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، قَالَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام: (الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ، كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإثْمِ، أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ وَالْمَعَاصِى حِمَى اللَّهِ، فَمَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ) . قال المؤلف: ما نص الله على تحليله فهو الحلال البين، كقوله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم () وأحل الله البيع () وأحل لكم ما وراء ذالكم (وما نص على تحريمه فهو الحرام البين، مثل قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم (إلى آخر الآية) وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا (وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وكل ما جعل الله فيه حدًا أو عقوبة أو وعيدًا فهو الحرام، كأكل أموال اليتامى، وأكل أموال الناس بالباطل، وهذا باب يتسع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 192 القول فيه، وهو واضح يغنى عن تدبره وطلبه. وأما المشتبهات فكل ما تنازعته الأدلة من الكتاب والسنة وتجاذبته المعانى فوجه منه يعضده دليل الحرام ووجه منه يعضده دليل الحلال، فهذا الذى قال فيه عليه السلام: (وبينهما أمور مشتبهة) ، وقال فيه: (من ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) ، فالإمساك عنه ورع، والإقدام عليه لا يقطع عالم بتحريمه؛ لأن الحرام ما عرف بعينه منصوصًا عليه أو فى معنى المنصوص. وقد اختلف العلماء فى معنى الشبهات، فقالت طائفة: الشبهات التى أشار إليها عليه السلام فى هذا الحديث حرام أو فى حيز الحرام، واستدلوا بقوله عليه السلام: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) ، قالوا: ومن لم يستبرئ لدينه وعرضه فقد واقع الحرام. وقال آخرون: الشبهات المذكورة فى هذا الحديث حلال بدليل قوله عليه السلام فيه: (كالراعى حول الحمى) فجعل الشبهات ما حول الحمى، وما حول الحمى غير الحمى، فدل أن ذلك حلال وأن تركه ورع، والورع عند ابن عمر ومن ذهب مذهبه ترك قطعة من الحلال خوف مواقعة الحرام. وقال آخرون: الشبهات لا نقول إنها حلال ولا إنها حرام، لأن النبى - عليه السلام - قال: (الحلال بين والحرام بين) وجعل الشبهات غير الحلال البين والحرام البين، فوجب أن نتوقف عندها، وهذا من باب الورع أيضًا، ويقضى عليه قوله عليه السلام: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 193 (لا يعلمها كثير من الناس) فدل أن منهم من يعلمها، فمن علمها فهى عنده فى أحد الحيزين الحلال أو الحرام، وسأتقصى الكلام فى هذا المعنى فى الباب بعد هذا - إن شاء الله تعالى. وقال أبو الحسن بن القابسى: افهموا تكرير أسانيد هذا الحديث، ذكر فى الإسنادين الأولين الشعبى سمعت النعمان، سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) وفى الإسناد الثالث النعمان عن النبى، وفى الرابع النعمان قال النبى (صلى الله عليه وسلم) وإنما ذكر هذا، لأن يحيى بن معين قال: قال أهل المدينة: إن النعمان بن بشير لا يصلح له سماع من النبى (صلى الله عليه وسلم) حديث علنى، أى فلا بد أنه عقل عن النبى (صلى الله عليه وسلم) مجاوبته لأبيه. 3 - باب تَفْسِيرِ الْمُشَبَّهَاتِ وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ أَبِى سِنَانٍ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَهْوَنَ مِنَ الْوَرَعِ، دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ. / 5 - فيه: عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ جَاءَتْ فَزَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا، فَذَكَرَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَتَبَسَّمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ) ؟ وَقَدْ كَانَتْ تَحْتَهُ ابْنَةُ أَبِى إِهَابٍ. / 6 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّى فَاقْبِضْهُ، فَلَمَّا كَانَ عَامَ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ، وَقَالَ: ابْنُ أَخِى، قَدْ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ، فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِى وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِى، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ) ، ثُمَّ قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ) ، (واحْتَجِبِى مِنْهُ يَا سَوْدَة لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِىَ اللَّهَ) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 194 / 7 - وفيه: عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ، سَأَلْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْمِعْرَاضِ، فَقَالَ: (إِذَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَلا تَأْكُلْ، فَإِنَّهُ وَقِيذٌ) ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُرْسِلُ كَلْبِى، وَأُسَمِّى فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ عَلَى الصَّيْدِ لَمْ أُسَمِّ عَلَيْهِ، وَلا أَدْرِى أَيُّهُمَا أَخَذَ، قَالَ: (لا تَأْكُلْ، إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى الآخَرِ) . قد تقدم فى الباب قبل هذا أن الشبهات ما تنازعته الأدلة، وتجاذبته المعانى، وتساوت فيه الأدلة، ولم يغلب أحد الطرفين صاحبه، وبيان ذلك فى حديث عقبة بن الحارث، وذلك أن جمهور العلماء ذهبوا إلى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أفتاه بالتحرر من الشبهة، وأمره بمجانبة الريبة خوفًا من الإقدام على فرج يُخاف أن يكون الإقدام عليه ذريعة إلى الحرام؛ لأنه قد قام دليل التحريم بقول المرأة: أنها أرضعتهما، لكنه لم يكن قاطعًا ولا قويا لإجماع العلماء أن شهادة امرأة واحدة لا تجوز فى مثل ذلك، لكن أشار عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالأحوط. وأما حديث ابن وليدة زمعة فإنه عليه السلام حكم فيه بالولد للفراش لزمعة على الظاهر، وأنه أخو سودة على سبيل التغلب لا على سبيل القطع أنه لزمعة عند الله - عز وجل - ثم أمر سودة بالاحتجاب منه؛ للشبهة الداخلة عليه وهى ما رأى من شبهه بعتبة فاحتاط لنفسه وذلك فعل الخائفين لله عز وجل إذ لو كان ابن زمعة فى علم الله فى حكمه هذا لما أمر سودة بالاحتجاب منه كما لم يأمرها بالاحتجاب من سائر إخوتها. وأما حديث عدى بن حاتم فإن النبى (صلى الله عليه وسلم) أفتاه بالتنزه عن الشبهة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 195 أيضًا خشية أن يكون الكلب الذى قتله غير مسمى عليه، فكأنه أهل به، وقد قال الله - تعالى - فى ذلك: (وإنه لفسق (فكأن فى فتياه عليه السلام باجتناب الشبهات دلالة على اختيار القول فى الفتوى، والاحتياط فى النوازل والحوادث المحتملات للتحليل والتحريم التى لا يقف العالم على حلالها وحرامها؛ لاشتباه أسبابها، وهذا معنى قوله عليه السلام: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) يقول: دع ما تشك فيه ولا تتيقن إباحته، وخذ ما لا شك فيه ولا التباس. وقال ابن المنذر: قال بعضهم: الشبهات تنصرف على وجوه: فمنها شىء يعلمه المرء محرمًا ثم يشك فيه هل حل ذلك أم لا، فما كان من هذا النوع فهو على أصل تحريمه، لا يحل التقدم عليه إلا بيقين، مثل الصيد حرام على المرء أكله قبل ذكاته، وإذا شك فى ذكاته لم يزل عن التحريم إلا بيقين الذكاة، والأصل فيه حديث عدى بن حاتم أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال له: (إذا أرسلت كلبك فخالطه كلب لم تسم عليه فلا تأكل؛ فإنك لا تدرى أيهما قتله) ، وهذا أصل لكل محرم أنه على تحريمه حتى يعلم أنه قد صار حلالا بيقين، ومن ذلك أن يكون للرجل أخ له ولا وارث له غيره، فتبلغه وفاته ولأخيه جارية، فهى محرمه عليه حتى يوقن بوفاته، ويعلم أنها قد حلت له. وكذلك لو أن شاتين ذكية وميتة سلختا فلم يدر أيهما الذكية؛ كانتا محرمتين بقين على أصل التحريم حتى يعلم الذكية من الميتة، ولا يحل أن يأكل منهما واحدة بالتحرى؛ لأنهما كانتا محرمتين بيقين، فلا يجوز الانتقال من يقين التحريم إلى شك الإباحة. والوجه الثانى: أن يكون الشىء حلالا فيشك فى تحريمه، فما كان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 196 من هذه الوجه فهو على الإباحة حتى نعلم تحريمه بيقين، كالرجل تكون له الزوجة فيشك فى طلاقها، أو يكون له جارية فيشك فى وقوع العتق عليها، فالأصل فى هذا حديث عبد الله بن زيد أن من شك بالحدث بعد أن أيقن بالطهارة فهو على يقين طهارته؛ لقوله عليه السلام: (فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا) . والوجه الثالث: أن يُشكل الشىء فلا يدرى أحرام هو أو حرام، ويحتمل الأمرين جميعًا ولا دلالة على أحد المعنيين، فالأحسن التنزه عنه كما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى التمرة الساقطة. 4 - باب مَا يُتَنَزَّهُ عَنْهُ مِنَ الشُّبُهَاتِ / 8 - فيه: أَنَس، مَرَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِتَمْرَةٍ مَسْقُوطَةٍ، فَقَالَ: (لَوْلا أَنْ تَكُونَ مِنْ صَدَقَةٍ لأكَلْتُهَا) . وقال أبو هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أجد تمرة ساقطة على فراشى) . قال المهلب: إنما ترك النبى (صلى الله عليه وسلم) أكل التمرة تنزهًا عنها؛ لجواز أن تكون من تمر الصدقة، وليس على أحد بواجب أن يتبع الجوازات؛ لأن الأشياء مباحة حتى يقوم حتى يقوم الدليل على التحظير، فالتنزه عن الشبهات لا يكون إلا فيما أشكل أمره ولم يدر أحلال هو أو حرام واحتمل المعنيين، ولا دليل على أحدهما، ولا يجوز أن يحكم على أحد من مثل ذلك أنه أخذ حرامًا؛ لاحتمال أن يكون حلالا، غير أنا نستحب من باب الورع أن نقتدى برسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيما فعل فى التمرة، وقد قال عليه السلام لوابصة بن معبد حين سأله عن الِبرَ والإثم فقال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 197 (البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك فى الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك) ، وقال ابن عمر: لا يبلغ أحد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك فى الصدر. وقال أبو الحسن بن القابسى: إن قال قائل: إذا وجد التمرة فى بيته فقد بلغت محلها وليست من الصدقة. قيل له: يحتمل أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يقسم الصدقة ثم ينقلب إلى أهل، فربما علقت تلك التمرة بثوبه فسقطت على فراشه؛ فصارت شبهة. قال غيره: وفيه من الفقه: تحريم قليل الصدقة وكثيرها على النبى (صلى الله عليه وسلم) وآله، وقد تقدم اختلاف العلماء فى ذلك فى كتاب الزكاة. وفيه أيضًا: أن أموال المسلمين لا يحرم منها إلا ما له قيمة ويتشاح فى مثله، وأما التمرة واللبابة من الخبز أو التينة أو الزبيبة، وما أشبه ذلك، فقد أجمعوا على أخذها ورفعها من الأرض، وإكرامها بالأكل دون تعريفها، استدلالا بقوله عليه السلام: (لأكلتها) ، وأنها مخالفة لحكم اللقطة، وسيأتى ذلك فى كتاب اللقطة. 5 - باب مَنْ لَمْ يَرَ الْوَسَاوِسَ وَنَحْوَهَا مِنَ الشُّبُهَاتِ / 9 - فيه: عبد الله بن زيد، شُكِىَ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) الرَّجُلُ يَجِدُ فِى الصَّلاةِ شَيْئًا، أَيَقْطَعُ الصَّلاةَ؟ قَالَ: (لا، حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 198 وَقَالَ الزُّهْرِىِ: لا وُضُوءَ إِلا فِيمَا وَجَدْتَ الرِّيحَ أَوْ سَمِعْتَ الصَّوْتَ. / 10 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ أقَوْمًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ، لا نَدْرِى أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (سَمُّوا اللَّهَ عَلَيْهِ وَكُلُوهُ) . إنما لم يدخل الوسواس فى حكم الشبهات المأمور باجتنابها لقوله عليه السلام: (إن الله تجاوز لأمتى عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم) ، فالوسوسة ملغاة مطرحة لا حكم لها ما لم تستقر وتثبت، وحديث عبد الله بن زيد محمول عند الفقهاء [. . . . .] الذى يعتريه ذلك كثيرًا، بدليل قوله: (شكى إلى النبى) ذلك، لأن الشكوى إنما تكون من علة، فإذا كثر الشك فى مثل ذلك وجب إلغاؤه وإطراحه، لأنه لو أوجب له عليه السلام حكمًا لما انفك صاحبه من أن يعود إليه مثل ذلك التخيل والظن، فيقع فى ضيق وحرج وقد قال الله - تعالى -: (وما جعل عليكم فى الدين من حرج (وكذلك حديث عائشة مثل هذا المعنى، لأنه لو حمل ذلك الصيد على أنه لم يذكر اسم الله عليه لكان فى ذلك أعظم الحرج، والمسلمون محمولون على السلامة، ولا ينبغى أن يظن بهم ترك التسمية، فضعفت الشبهة فيه فلذلك لم يحكم بها النبى - عليه السلام - وغلب الحكم بضدها؛ لأن المسلمين فى ذلك الزمن كانوا من القرن الذين أُثنى عليهم، فلا يتوجه إليهم سوء الظن فى دينهم. فإن قيل: فما معنى قوله عليه السلام: (سموا لله وكلوا) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 199 ؟ قيل: هذا منه عليه السلام من الأخذ بالحزم فى ذلك خشية أن ينسى الذى صاده التسمية، وإن كانت التسمية عند الأكل غير واجبة لما قدمناه من فضل أهل ذلك القرن، وبعدهم عن مخالفة أمر الله ورسوله فى ترك التسمية على الصيد. 6 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا) [الجمعة: 11] / 11 - فيه: جَابِر، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّى مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) إِذْ أَقْبَلَتْ مِنَ الشَّأْمِ عِيرٌ تَحْمِلُ طَعَامًا، فَالْتَفَتُوا إِلَيْهَا حَتَّى مَا بَقِىَ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) إِلا اثْنَا عَشَرَ رَجُلا، فَنَزَلَتْ: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا (. تقدير الآية عند المبرد: وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، وإذا رأوا لهوًا انفضوا إليه، ثم حذف ضمير الثانى، وأخر ضمير الأول، والمعنى وإذا رأوا ذلك أسرعوا إليه. واللهو ما يصنع عند النكاح من الدف، وقيل: هو الطبل. وقال قتادة: (وتركوك قائما (. قال الحسن: قال النبى - عليه السلام -: (لو اتبع آخرهم أولهم التهب الوادى عليهم نارًا) وقال قتادة: لم يبق مع النبى إلا اثنا عشر رجلا وامرأة. وقال الحسن: إن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء سعر، فلذلك خرجوا إلى العير حين قدمت.) قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة (أى ما عند الله من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 200 الثواب والأجر خير من ذلك لمن جلس واستمع الخطبة) والله خير الرازقين (فارغبوا إليه فى سعة الأرزاق. 7 - باب مَنْ لَمْ يُبَالِ مِنْ حَيْثُ كَسَبَ الْمَالَ / 12 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (يَأْتِى عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالِى الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الْحَلالِ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ) . هذا يكون لضعف الدين وعموم الفتن، وقد أخبر عليه السلام أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، وأنذر كثرة الفساد، وظهور المنكر، وتغير الأحوال، وذلك من علامات نبوته عليه السلام، وقد روى عنه عليه السلام أنه قال: (من بات كالا من عمل الحلال بات والله عنه راضٍ، وأصبح مغفورًا له) و (طلب الحلال فريضة على كل مؤمن، وهو مثل مقارعة الأبطال فى سبيل الله) . 8 - باب التِّجَارَةِ فِى الْبَرِّ وَقَوْلِهِ تعالى: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) [النور: 37] وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الْقَوْمُ يَتَبَايَعُونَ وَيَتَّجِرُونَ وَلَكِنَّهُمْ إِذَا نَابَهُمْ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ لَمْ تُلْهِهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ حَتَّى يُؤَدُّوهُ إِلَى اللَّهِ. / 13 - فيه: الْبَرَاء، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، كُنَّا تَاجِرَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 201 (صلى الله عليه وسلم) ، فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الصَّرْفِ، فَقَالَ: (إِنْ كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ نَسَاءً فَلا يَصْلُحُ) . وأما التجارة فى البر فليس فى الباب ما يقتضى تعيينها من بين سائر التجارات، غير أن قوله تعالى: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله (يدخل فى عمومه جميع أنواع التجارات من البر وغيره، وهذا الحديث يدل أن اسم الصرف إنما يقع على بيع الورق بالذهب، وأما الذهب بالذهب، أو الورق بالورق فإنما يسمى مراطلة ومبادلة. وفيه: أن الصرف لا يكون إلا يدًا بيد، وفى الآية نعت تجار سلف الأمة، وما كانوا عليه من مراعاة حقوق الله، والمحافظة عليها، والتزام ذكر الله فى حال تجارتهم، وصبرهم على أداء الفرائض وإقامتها وخوفهم سوء الحساب والسؤال يوم عرض القيامة، ورأيت فى تفسير قوله تعالى: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله (قال: كانوا حدادين وخرازين، فكان أحدهم إذا رفع المطرقة أو غرز الإشفى فسمع الأذان لم يخرج الإشفى من الغرزة، ولم يوقع المطرقة، ورمى بها وقام إلى الصلاة. 9 - باب الْخُرُوجِ فِى التِّجَارَةِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَانْتَشِرُوا فِى الأرْضِ) [الجمعة: 10] / 14 - فيه: أَبُو مُوسَى، أنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ وَكَانَ مَشْغُولا، فَرَجَعَ أَبُو مُوسَى فَفَرَغَ عُمَرُ، فَقَالَ: أَلَمْ أَسْمَعْ صَوْتَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 202 عَبْدِاللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، ائْذَنُوا لَهُ، قِيلَ: قَدْ رَجَعَ، فَدَعَاهُ، فَقَالَ: كُنَّا نُؤْمَرُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: تَأْتِينِى عَلَى ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ، فَانْطَلَقَ إِلَى مَجْلِسِ الأنْصَارِ، فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: لا يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا إِلا أَصْغَرُنَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ، فَذَهَبَ بِأَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ فَقَالَ عُمَرُ: أَخَفِىَ هَذَا عَلَىَّ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ أَلْهَانِى الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ، يَعْنِى الْخُرُوجَ إِلَى تِجَارَةٍ. وقوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض وابتغوا من فضل الله (وهو إباحة بعد حظر مثل قوله: (وإذا حللتم فاصطادوا (. قال المهلب: أما قوله: (ألهانى الصفق بالأسواق) مأخوذ من قوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهوًا انفضوا إليها (فقرن التجارة باللهو، فسماها عمر لهوًا مجازًا؛ لأن اللهو المذكور فى الآية غير التجارة؛ لأنه تعالى فصل بينهما بالواو، وهو الدف عند النكاح وشبهه، فدل هذا أنما أراد شغلنى البيع والشراء عن ملازمة النبى - عليه السلام - فى كل أحيانه، حتى حضر من هو أصغر منى ما لم أحضره من العلم. وفيه: أن الصغير قد يكون عنده العلم ما ليس عند الكبير. وفيه: أنه يجب البحث وطلب الدليل على ما ينكره من الأقوال حتى يثبت عنده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 203 - باب التِّجَارَةِ فِى الْبَحْرِ وَقَالَ مَطَرٌ: لا بَأْسَ بِهِ وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِى الْقُرْآنِ إِلا بِحَقٍّ ثُمَّ تَلا: (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [النحل: 14] . / 15 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ، عليه السَّلام، ذَكَرَ رَجُلا مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ خَرَجَ إِلَى الْبَحْرِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ. استدلال مطر الوراق من الآية حسن؛ لأن الله - تعالى - جعل تسخيره البحر لعباده لابتغاء فضله من نعمه التى عددها عليه، وأراهم فى ذلك عظيم قدرته، وسخر الرياح باختلافها تحملهم وتردهم، وهذا من عظيم آياته وكبير سلطانه، ونبههم على شكره عليها بقوله: (ولعلكم تشكرون (وهذا يرد قول من منع ركوب البحر فى أبان ركونه، وهو قول يروى عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى عمرو بن العاص يسأله عن البحر، فقال: خلق عظيم يركبه خلق ضعيف، دود على عود. فكتب إليه عمر ألا يركبه أحد طوله حياته. فلما كان بعد عمر لم يزل يركب حتى كان عمر بن عبد العزيز، فاتبع فيه رأى عمر بن الخطاب، وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب الجهاد فى باب ركوب البحر، وذكرت هناك قول من منع ركوبه للحج، وإذا كان الله قد أباح ركوبه للتجارة، فركوبه للحج والجهاد أجوز، ولا حجة لأحد مع مخالفة الكتاب والسنة، فأما إذا كان أبان ارتجاجه فالأمة مجمعة أنه لا يجوز ركوبه؛ لأنه تعرض للهلاك، وقد نهى الله عباده عن ذلك بقوله: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة (وبقوله: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا (ولم يزل البحر يركب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 204 فى قديم الزمان، ألا ترى ما ذكر فى هذا الحديث أنه ركب فى زمن بنى إسرائيل، فلا وجه لقول من منع ركوبه. - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) [البقرة: 267] / 16 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا) . / 17 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِهِ) . ومعنى هذه الآية أن الله أمر عباده بالأكل والصدقة من حلال كسبهم وتجارتهم، والآية التى ترجم بها وقع فيها غلط من الناسخ - والله أعلم - وصوابها) يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم (وقال فى موضع آخر: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم (. وأما صدقة المرأة من بيت زوجها بغير إذنه فإنما يباح لها أن تتصدق منه بما تعلم أن نفسه تطيب به ولا تشح بمثله، فيؤجر كل واحد منهم لتعاونهم على الطاعة، وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب الزكاة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 205 - باب مَنْ أَحَبَّ الْبَسْطَ فِى الرِّزْقِ / 18 - فيه: أَنَس، قَالَ عليه السَّلام:: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِى رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِى أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) . فى هذا الحديث إباحة اختيار الغنى على الفقر، وسيأتى الكلام فى ذلك فى كتاب الرقائق - إن شاء الله تعالى. فإن قيل: هذا الحديث يعارض قوله عليه السلام: (يجمع خلق أحدكم فى بطن أمه أربعين يومًا مضغة: وفيه: (فيكتب رزقه وأجله) . قال المهلب: اختلف العلماء فى وجه الجمع بينهما على قولين: فقيل: معنى البسط فى رزقه هو البركة؛ لأن صلته أقاربه صدقة، والصدقة تُربى المال وتزيد فيه، فينمو بها ويزكو. ومعنى قوله: (وينسأ فى أثره) أى: يبقى ذكره الطيب وثناؤه الجميل مذكورًا على الألسنة، فكأنه لم يمت، والعرب تقول الثناء يضارع الخلود، قال الشاعر: إن الثناء هو الخلود كما يسمى الذم موتًا قال سابق البريرى: قد مات قوم وهم فى الناس أحياء يعنى بسوء أفعالهم وقبح ذكرهم. والقول الثانى: أنه يجوز أن يكتب فى بطن أمه أنه إن وصل رحمه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 206 فإن رزقه وأجله كذا، وإن لم يصل رحمه فكذا، بدلالة قوله تعالى فى قصة نوح: (أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى (يريد أجلا قد قضى به لكم إن أطعتم يؤخركم إليه لأن أجل الله إذا جاء فى حال معصيتكم لا يؤخر عنكم قال تعالى: (إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى فى الحياة (وهو الهلاك على الكفر) ومتعناهم إلى حين (فهذا كله من المكتوب فى بطن أمه، أى الأجلين استحق لا يؤخر عنه، ويؤيد هذا قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (وقد روى عن عمر بن الخطاب ما هو تفسير لهذه الآية، روى أنه كان يقول فى دعائه: اللهم إن كنت كتبتنى عندك شقيا، فامحنى واكتبنى سعيدًا، فإنك تقول: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (وستأتى جملة من هذا فى كتاب الأدب فى باب من بُسط له فى الرزق لصلة الرحم، إن شاء الله. - باب شِرَاءِ النَّبِىِّ عليه السَّلام بِالنَّسِيئَةِ / 19 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِىٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ. / 20 - وفيه: أَنَس، أنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، رَهَنَ دِرْعًا لَهُ عِنْدَ يَهُودِىٍّ، وَأَخَذَ مِنْهُ شَعِيرًا لأهْلِهِ. . . الحديث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 207 العلماء مجمعون على جواز البيع بالنسيئة لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) اشترى الشعير من اليهودى نسيئة. وقال ابن عباس: البيع بالنسيئة فى كتاب الله وقرأ: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين (الآية. وسيأتى ما للعلماء فى الرهن والسلم فى موضعه إن شاء الله. وقال أبو عبيدة: الإهالة: الشحم والزيت. وفيه: جواز معاملة من يخالط ماله الحرام ومبايعته؛ لأن الله - تعالى - ذكر أن اليهود أكالون السحت، وقد اشترى النبى من اليهودى طعامًا ورهنه درعه، وقد تقدم اختلاف العلماء فى ذلك فى كتاب الزكاة فى باب من أعطاه الله شيئًا من غير مسألة ولا إشراف نفس، فتأمله هناك. - باب كَسْبِ الرَّجُلِ وَعَمَلِهِ بِيَدِهِ / 21 - فيه: عَائِشَةَ، لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: لَقَدْ عَلِمَ قَوْمِى أَنَّ حِرْفَتِى لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ عَنْ مَئُونَةِ أَهْلِى، وَشُغِلْتُ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَيَأْكُلُ آلُ أَبِى بَكْرٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَيَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ. / 22 - وفيه: عَائِشَة، كَانَ أَصْحَابُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ لَهُمْ أَرْوَاحٌ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَوِ اغْتَسَلْتُمْ؟ . / 23 - وفيه: الْمِقْدَامِ، عَنْ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 208 خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِىَّ اللَّهِ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلام، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ) . / 24 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لأنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا، فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ) . قال المهلب: الحرفة هاهنا التصرف فى المعاش والمتجر فلما اشتغل أبو بكر عنه بأمر المسلمين ضاع أهله، فاحتاج أن يأكل هو وأهله من بيت مال المسلمين، لاستغراقه وقته فى أمورهم واشتغاله عن تعيش أهله. وقوله: (وأحترف لهم فيه) أى: أتجر لهم فى مالهم حتى يعود عليهم من ربحه بقدر ما آكل أو أكثر. وليس بواجب على الإمام أن يتجر فى مال المسلمين بقدر مؤنته، إلا أن يتطوع بذلك كما تطوع أبو بكر؛ لأن مؤنته مفروضة فى بيت مال المسلمين بكتاب الله؛ لأنه رأس العاملين عليها. وفى حديث عائشة: ما كان عليه أصحاب النبى من التواضع واستعمال أنفسهم فى أمور دنياهم. وقوله: (لو اغتسلتم) يبين ما روى أبو سعيد الخدرى أن النبى قال: (غسل الجمعة واجب على كل مسلم) . أنه ليس بواجب فرضًا، وأن المراد بذلك الندب إلى النظافة، وتأكيد الغسل عليهم؛ لفضل الجمعة ومن يشهدها من الملائكة والمؤمنين، وقد تقدم ما للعلماء فى ذلك فى كتاب الجمعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 209 وفى حديث المقدام: أن أفضل الكسب من عمل اليد، ألا ترى أن نبى الله داود كان يأكل من عمل يديه، وقال أبو الزاهرية: كان داود يعمل القفاف، ويأكل منها. قال ابن المنذر: وإنما فُضل عمل اليد على سائر المكاسب، إذا نصح العامل بيده، وروى أبو سعيد المقبرى عن أبى هريرة، أن النبى عليه السلام قال: (خير الكسب يد العامل إذا نصح) وروى عن النبى (أن زكريا كان نجارًا) وقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (وهل من نبى إلا وقد رعى الغنم) . وقد ذكر معمر عن سليمان أنه كان يعمل الخوص، فقيل له: أتعمل هذا وأنت أمير المدائن، يجرى عليك رزق؟ قال: إنى أحب أن آكل من عمل يدى. - باب السُّهُولَةِ وَالسَّمَاحَةِ فِى الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَمَنْ طَلَبَ حَقًّا فَلْيَطْلُبْهُ فِى عَفَافٍ / 25 - فيه: جَابِر، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى) . فيه: الحضُ على السماحة وحسن المعاملة، واستعمال معالى الأخلاق ومكارمها، وترك المشاحة والرقة فى البيع، وذلك سبب إلى وجود البركة فيه لأن النبى عليه السلام لا يحض أمته إلا على ما فيه النفع لهم فى الدنيا والآخرة، فأما فضل ذلك فى الآخرة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 210 فقد دعا عليه السلام بالرحمة لمن فعل ذلك، فمن أحب أن تناله بركة دعوة النبى - عليه السلام - فليقتد بهذا الحديث ويعمل به. وفى قوله عليه السلام: (إذا اقتضى) حض على ترك التضييق على الناس عند طلب الحقوق وأخذ العفو منهم، وقد روى يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن أبى جعفر، عن نافع، عن ابن عمر وعائشة، أن النبى - عليه السلام - قال: (من طلب حقا فليطلبه فى عفاف واف أو غير واف) ، قال ابن المنذر: وفى هذا الحديث الأمر بحسن المطالبة وإن قبض هذا الطالب دون حقه، وقد جاء فى إنظار المعسر من الفضل ما يذكر فى الباب بعد هذا - إن شاء الله. - باب مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا / 26 - فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (تَلَقَّتِ الْمَلائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، قَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُ فِتْيَانِى أَنْ يُنْظِرُوا وَيَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعسِرِ، قَالَ: فَتَجَاوَزُوا عَنْهُ) . وقال أبو مالك، عن ربعى قال: كنت أيسر على الموسر وأنظر المعسر، وتابعه الملك، عن ربعى: أنظر الموسر وأتجاوز عن المعسر. / 27 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا، قَالَ، لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 211 قال المهلب: فيه أن الله يغفر الذنوب بأقل حسنة توجد للعبد، وذلك - والله أعلم إذا خلصت النية فيها لله - تعالى - وان يريد بها وجهه، وابتغاء مرضاته، فهو أكرم الأكرمين، ولا يجوز أن يخيب عبده من رحمته، وقد قال فى التنزيل: (من ذا الذى يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له وله أجر كريم (. وروى أبو عيسى الترمذى هذا الحديث، وزاد فيه: (أنه ينظر فلا يجد حسنة ولا شيئًا، فيقال له، فيقول: ما أعرف شيئًا إلا أنى كنت إذا داينت معسرًا تجاوزت عنه، فيقول الله: أنت معسر، ونحن أحق بهذا منك) . قال ابن المنذر: فى هذا الحديث: دليل أن المؤمن يلحقه أجر ما يأمر به من أبواب البر والخير، وإن لم يتول ذلك بنفسه. - باب إِذَا بَيَّنَ الْبَيِّعَانِ وَلَمْ يَكْتُمَا وَنَصَحَا وَيُذْكَرُ عَنِ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: كَتَبَ لِىَ النَّبِىُّ عليه السَّلام: (هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ، بَيْعَ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمُسْلِمِ، لا دَاءَ وَلا خِبْثَةَ وَلا غَائِلَةَ) . وَقَالَ قَتَادَةُ: الْغَائِلَةُ: الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَالإبَاقُ. وَقِيلَ لإبْرَاهِيمَ: إِنَّ بَعْضَ النَّخَّاسِينَ يُسَمِّى آرِىَّ خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ، فَيَقُولُ: جَاءَ أَمْسِ مِنْ خُرَاسَانَ، جَاءَ الْيَوْمَ مِنْ سِجِسْتَانَ، فَكَرِهَهُ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 212 وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: لا يَحِلُّ لامْرِئٍ بِيعُ سِلْعَةً يَعْلَمُ أَنَّ بِهَا دَاءً إِلا أَخْبَرَهُ. / 28 - فيه: حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ، مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ قَالَ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِى بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) . وترجم له (باب ما يمحق الكذب والكتمان فى البيع) . وأصل هذه الباب أن نصيحة المسلم للمسلم واجبة، وقد كان رسول الله يأخذها فى البيعة على الناس كما يأخذ عليهم الفرائض، قال جرير: (بايعت رسول الله على السمع والطاعة، فشرط على والنصح لكل مسلم) وأمر المؤمنين بالتحاب والمؤاخاة فى الله، قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) فحرم بهذا كله غش المؤمنين وخديعتهم، ألا ترى قول عقبة بن عامر: (لا يحل لامرئ بيع سلعة يعلم بها داءً إلا أخبره) وقد رواه عن النبى - عليه السلام - ذكره ابن المنذر، وذكر مثله من حديث واثلة بن الأسقع عن النبى - عليه السلام. قال ابن المنذر: فكتمان العيوب فى السلع حرام، ومن فعل ذلك فهو متوعد بمحق بركة بيعه فى الدنيا والعذاب الأليم فى الآخرة. وقال ابن قتيبة: قوله: (لا داء) يعنى لا داء فى العبد من الأدواء التى يرد منها مثل الجنون، والجذام، والبرص، والسل، والأوجاع المتقادمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 213 وقوله: (لا غائلة) هو من قولك: اغتالنى فلان، إذا احتال عليك بحيلة يتلف بها بعض مالك، يقال: غائلت فلانًا غولا: إذا أتلفته، والمعنى: لا حيلة عليك فى هذا البيع يغتال بها مالك. و (الخبثة) يريد الأخلاق الخبيثة مثل: الإباق والسرف، والعرب أيضًا تدعو الزنا خبثًا وخبثةً، وقال صاحب العين: الخبثة: الزنية. وقوله: (كان بعض النخاسين يسمى آرى) يريد يسمى موضوع الدابة فى داره ومربطها خراسان وسجستان، ويريد بذلك الخديعة والغرر بالمشترى منه، واختلف أهل اللغة فى تفسير الآرى فقال ابن الأنبارى: الآرى عند العرب الأِخيةُ التى تُحبس بها الدابة وتلزم بها موضعًا واحدًا، وهو مأخوذ من قولهم: قد تأرى الرجل بالمكان، إذا أقام به. قال الأعشى: لا يتأرى لما فى القدر يرقبه فالعامة تخطئ فى الآرى فتظن أنها المعلف. هذا قول ابن الأنبارى. وقال صاحب العين: الآرى: المعلف، وآرت الدابة إلى معلفها تأرى: إذا ألفته. - باب بَيْعِ الْخِلْطِ مِنَ التَّمْرِ / 29 - فيه: أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: كُنَّا نُرْزَقُ تَمْرَ الْجَمْعِ، وَهُوَ الْخِلْطُ مِنَ التَّمْرِ، وَكُنَّا نَبِيعُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا صَاعَيْنِ بِصَاعٍ، وَلا دِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 214 فقه هذا الباب: أن التمر كله جنس واحد رديئه وجيده، لا يجوز التفاضل فى شىء منه، ويدخل فى معنى التمر جميع الطعام، فلا يجوز فى الجنس الواحد منه التفاضل ولا النسيئة بإجماع، فإذا كانا جنسين جاز فيهما التفاضل ولم تجز النسيئة، هذا حكم الطعام المقتات كله عند مالك؛ وعند الشافعى الطعام كله المقتات وغير المقتات، وعند الكوفيين الطعام المكيل والموزون. وفى حديث أبى سعيد من الفقه: أن من لم يعلم بتحريم الشىء فلا حرج عليه حتى يعلمه، والبيع إذا وقع محرمًا فهو مفسوخ مردود لقوله عليه السلام: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) . - باب مَا قِيلَ فِى اللَّحَّامِ وَالْجَزَّارِ / 30 - فيه: أَبُو مَسْعُود، جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، يُكْنَى أَبَا شُعَيْبٍ، فَقَالَ لِغُلامٍ لَهُ قَصَّابٍ: اجْعَلْ لِى طَعَامًا يَكْفِى خَمْسَةً، فَإِنِّى أُرِيدُ أَنْ أَدْعُوَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام - خَامِسَ خَمْسَةٍ، فَإِنِّى قَدْ عَرَفْتُ فِى وَجْهِهِ الْجُوعَ، فَدَعَاهُمْ فَجَاءَ مَعَهُمْ رَجُلٌ، فَقَالَ النَّبِىُّ عليه السَّلام: (إِنَّ هَذَا قَدْ تَبِعَنَا فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ، فَأْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ يَرْجِعَ رَجَعَ، فَقَالَ: لا، بَلْ قَدْ أَذِنْتُ لَهُ) . قال المهلب: إنما صنع طعام خمسة لعلمه أن النبى - عليه السلام - سيتبعه من أصحابه غيره، فوسع فى الطعام لكى يبلغ النبى شبعه. وفى هذا الحديث من الأدب ألا يدخل المدعو مع نفسه غيره. وفيه: كراهية طعام الطفيلى؛ لأنه مقتحم غير مأذون له، وقيل: إنما استأذن النبى - عليه السلام - للرجل؛ لأنه لم يكن بينه وبين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 215 القصاب الذى دعاه من الذمام والمودة ما كان بينه وبين أبى طلحة، إذ قام هو وجميع من معه، وقد قال الله: (أو صديقكم (. وفيه: الشفاعة؛ لأن النبى - عليه السلام - شفع للرجل عند صاحب الطعام بقوله: (إن شئت أن تأذن له) . وفيه: الحكم بالدليل لقوله: (فإنى قد عرفت فى وجهه الجوع) . وفيه: أكل الإمام والعالم والشريف طعام الجزار، وإن كان فى الجزارة شىء من الضعة؛ لأنه يمتهن فيها نفسه فإن ذلك لا ينقصه ولا يسقط شهادته إذا كان عدلا. والقصاب: الجزار، عن صاحب العين. - باب قَوْلِ اللَّهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا (الآية [آل عمران: 130] / 31 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالِى الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ، مِنْ حَلالٍ أَوْ مِنْ حَرَامٍ) . نهى الله عباده المؤمنين أن يأكلوا الربا بعد إسلامهم، والربا: هو الزيادة على أصل المال بالتأخير عن الأجل الحال، عن عطاء ومجاهد. وتدخل فيه كل زيادة محرمة فى المعاملة لا تجوز من جهة المضاعفة، وكان أهل الجاهلية يعطون الدرهم بالدرهمين، والدينار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 216 بالدينارين إلى أجل، فإذا حل الأجل قال: إما أن تقضى وإما أن تربى، وكان كلما أخر عن الأجل إلى غيره زيد زيادة على المال الثانى أضعافًا مضاعفة، فحرم الله ذلك على المؤمنين. وأما وجه حديث أبى هريرة فى هذا الباب، فإن الربا محرم فى القرآن متوعد عليه، فمن لم يبال عن الحرام من أين أخذه، لم يبال عن الربا، لأنه نوع من الحرام. - باب آكِلِ الرِّبَا وَشَاهِدِهِ وَكَاتِبِهِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ (الآية [البقرة: 275] / 32 - فيه: عَائِشَةَ، لَمَّا نَزَلَتْ آخِرُ سُورَة الْبَقَرَةِ قَرَأَهُنَّ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فِى الْمَسْجِدِ، ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِى الْخَمْرِ. / 33 - وفيه: سَمُرَةَ، قَالَ النَّبِىُّ عليه السَّلام: (رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِى، فَأَخْرَجَانِى إِلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ، وَعَلَى وَسَطِ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِى فِى النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْرُجَ، رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِى فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِى فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: الَّذِى رَأَيْتَهُ فِى النَّهَرِ آكِلُ الرِّبَا) . أكل الربا من الكبائر، متوعد عليه بمحاربة الله ورسوله، وبما ذكره فى الحديث، وأما شاهداه وكاتبه، فإنما ذكروا مع آكله، لأن كل من أعان على معصية الله - تعالى - فهو شريك فى إثمها بقدر سعيه وعمله إذا علمه، وكان يلزم الكاتب ألا يكتب ما لا يجوز، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 217 والشاهدين ألا يشهدا على جواز ما حرم الله رسوله إذا علموا ذلك، فكل واحد منهما له حظه من الإثم، ألا ترى أن النبى لم يشهد لأبى النعمان بن بشير حين تبين له إيثاره للنعمان وقال: (لا أشهد على جور) وقد روى معمر، عن الزهرى، عن ابن المسيب، أن النبى - عليه السلام قال: (لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه) فسوى بينهم فى الإثم، ولهذا الحديث ترجم البخارى بهذه الترجمة. ومعنى قوله تعالى: (الذين يأكلون الربا (يعنى فى الدنيا) لا يقومون (فى الآخرة إذا بعثوا من قبورهم إلا مثل قيام المجانين. والمس: الجنون، وعن مجاهد وقتادة وغيرهم قالوا: يقوم الخلق من قبورهم مسرعين كما قال تعالى: (يخرجون من الأجداث سراعًا (إلا أكلة الربا، فإن الربا يربو فى بطونهم، فيقومون ويسقطون، يريدون الإسراع فلا يقدرون، فهم بمنزلة المتخبط من الجنون، وقال ابن جبير: يبعث أحدهم حين يبعث ومعه شيطان يخنقه. والمراد فى هذه الآية بالأكل من أخذ الربا، أكله أم لم يأكله، ودخل فى معناه كل ما شابهه فى البيوع والدين وغير ذلك مما بينته السنة، كقرض جر منفعة وشبهه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 218 - باب مُوكِلِ الرِّبَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَا (إلى) وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 278] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام. - 34 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، رَأَيْتُ أَبِى اشْتَرَى عَبْدًا حَجَّامًا، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَثَمَنِ الدَّمِ، وَنَهَى عَنِ الْوَاشِمَةِ وَالْمَوْشُومَةِ، وَآكِلِ الرِّبَا وَمُوكِلِهِ، وَلَعَنَ الْمُصَوِّرَ. سوى النبى - عليه السلام - بين آكل الربا وموكله فى النهى، تعظيمًا لإثمه كما سوى بين الراشى والمرشى فى الإثم، وموكل الربا هو معطيه، وآكله هو آخذه، وأمر الله عباده بتركه والتوبة منه بقوله: (اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله (وتوعد تعالى من لم يتب منه بمحاربة الله ورسوله وليس فى جميع المعاصى ما عقوبتها محاربة الله ورسوله غير الربا، فحق على كل مؤمن أن يجتنبه، ولا يتعرض لما لا طاقة له به من محاربة الله ورسوله، ألا ترى فهم عائشة هذا المعنى حيث قالت للمرأة التى قالت لها: بعت من زيد من أرقم جارية إلى العطاء بثمانمائة درهم، ثم ابتعتها منه بستمائة درهم نقدًا، فقالت لها عائشة: بئس ما شريت، أبلغى زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله إن لم يتب. ولم تقل لها: إنه أبطل صلاته ولا صيامه ولا حجه، فمعنى ذلك - والله أعلم - أن من جاهد فى سبيل الله فقد حارب عن الله، ومن فعل ذلك ثم استباح الربا، فقد استحق محاربة الله، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 219 ومن أربى فقد أبطل حربه عن الله، فكانت عقوبته من جنس ذنبه قال المهلب: هذه الأشياء المنهى عنها فى الحديث مختلفة الأحكام، فمنها على سبيل التنزه مثل: كسب الحجام، وثمن الكلب، وهو مكروه غير محروم، وإنما كره للضعة والسقوط فى بيعه، ومنها حرام بين مثل الربا، وإنما اشترى أبو جحيفة العبد الحجام، ثم قال: نهى النبى عن ثمن الدم ليحجمه ويخلص من إعطاء الحجام أجر حجامته خشية أن يواقع نهى النبى عن ثمن الدم على ما تأوله فى الحديث، وقد جاء هذا بينا فى باب: ثمن الكلب بعد هذا، قال عون ابن أبى جحيفة: (رأيت أبى اشترى حجامًا، فأمر بمحاجمه فكسرت، فسألته عن ذلك، فقال: (إن رسول الله نهى عن ثمن الدم) وإنما فعل ذلك على سبيل التورع والتنزه، وسيأتى القول فى كسب الحجام بعد هذا - إن شاء الله. - باب) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ) [البقرة: 267] / 35 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىّ، عليه السَّلام، يَقُولُ: (الْحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ) . قال المهلب: سئل بعض العلماء عن معنى قوله تعالى: (يمحق الله الربا ويربى الصدقات (وقيل له: نحن نرى صاحب الربا يربو ماله، وصاحب الصدقة ربما كان مقلا قال: متى يربى الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 220 الصدقات؟ إن الصدقة يجدها صاحبها مثل أحد يوم القيامة، كذلك صاحب الربا يجد عمله كله ممحوقًا إن تصدق منه، أو وصل رحمه لم يكتب له بذلك حسنة، وكان عليه إثم الربا بحاله. وقالت طائفة: إن الربا يمحق فى الدنيا والآخرة على عموم اللفظ، واحتجوا على ذلك بقوله عليه السلام: (الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة) فلما كان نفاق السلعة بالحلف الكاذبة فى الدنيا كان ممحقًا للبركة فيها فى الدنيا فكذلك محق الربا يكون أيضًا فى الدنيا وذكر عبد الرزاق عن معمر قال: سمعنا أنه لا يأتى على صاحب الربا أربعون سنه حتى يمحق. - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الْحَلِفِ فِى الْبَيْعِ / 36 - فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، أَنَّ رَجُلا أَقَامَ سِلْعَةً، وَهُوَ فِى السُّوقِ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا مَا لَمْ يُعْطِ؛ لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا (الآيَةَ [آل عمران 77] . وهو وعيد شديد فى اليمين الغموس، وذلك قوله تعالى: (أولئك لا خلاق لهم فى الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (فجمع الله هذه العقوبات كلها فى هذه اليمين الغموس لما جمعت من المعانى الفاسدة، وذلك كذبه فى اليمين بالله - تعالى - وهو أجل ما يحلف به، ومنها غروره فى سلعته من يقع فيها من أجل يمينه تلك، ومنها استحلاله ماله بالباطل، وهو الثمن القليل الذى لا يدوم له فى الدنيا لتسمية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 221 الله له قليلا عوضًا مما كان يلزمه من تعظيم حق الله - تعالى - والوفاء بعهده، والوقوف عند نهيه وأمره، فخاب تجره، وخسرت صفقته. - باب مَا قِيلَ فِى الصَّوَّاغِ وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِىُّ عليه السَّلام: (لا يُخْتَلَى خَلاهَا) . وَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِلا الإذْخِرَ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، فَقَالَ: (إِلا الإذْخِرَ) . وَقَالَ أَيْضًا: فِإنَهُ لِصَاغَتِهُمْ. / 37 - فيه: عَلِىّ، كَانَتْ لِى شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِى مِنَ الْمَغْنَمِ، وَكَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَعْطَانِى شَارِفًا مِنَ الْخُمْسِ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنِىَ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَاعَدْتُ رَجُلا صَوَّاغًا مِنْ بَنِى قَيْنُقَاعَ أَنْ يَرْتَحِلَ مَعِى، فَنَأْتِىَ بِإِذْخِرٍ أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ مِنَ الصَّوَّاغِينَ وَأَسْتَعِينَ بِهِ فِى وَلِيمَةِ عُرُسِى. فيه أن الصياغة صناعة جائز التكسب منها، وأن الصياغ إذا كان عدلا لا تضره صناعته، لأن الرسول قد أقره. قال المهلب: وفيه: جواز بيع الإذخر وسائر المباحات، والاكتساب منها للرفيع والوضيع. وفيه: الاستعانة بأهل الصناعة فيما ينفق عندهم. وفيه: السعاية على الولائم والتكسب لها من طيب الكسب. وفيه: أن إطعام الوليمة على الناكح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 222 - باب ذِكْرِ الْقَيْنِ وَالْحَدَّادِ / 38 - فيه: خَبَّاب، قَالَ: كُنْتُ قَيْنًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ لِى عَلَى الْعَاصِ ابْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، قَالَ: لا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: لا أَكْفُرُ بمحمد حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ، ثُمَّ يبْعَثَك، قَالَ: دَعْنِى حَتَّى أَمُوتَ وَأُبْعَثَ، فَسَأُوتَى مَالا وَوَلَدًا فَأَقْضِيكَ، فَنَزَلَتْ: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا) [مريم 77] . وهذا الباب كالذى قبله أن الحداد لا تضره مهنته فى صناعته إذا كان عدلا. وفيه: أن الكلمة من الاستهزاء قد يتكلم بها المرء فيكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة، ألا ترى وعيد الله له على الاستهزاء بقوله: (سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردًا (. يعنى المال والولد بعد إهلاكنا إياه، ويأتينا فردا أى: نبعثه وحده تكذيبًا لظنه، وكان العاص بن وائل لا يؤمن بالبعث، فلذلك قال له خباب: والله لا أكفر بمحمد حتى تموت وتبعث، ولم يرد خباب أنه إذا بعثه الله بعد الموت أن يكفر بمحمد؛ لأن حينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين، ويتمنى العاص ابن وائل وغيره أن لو كانوا ترابًا ولم يكن كافرًا، وبعد البعث يستوى يقين المكذب مع يقين المؤمن، ويرتفع الكفر وتزول الشكوك، فكان غرض خباب فى قوله إياس العاص من كفره، وذكر ابن الكلبى عن جماعة فى الجاهلية أنهم كانوا زنادقة منهم: العاص بن وائل، وعقبة بن أبى معيط، والوليد ابن المغيرة، وأبى بن خلف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 223 وفيه: جواز الإغلاظ فى اقتضاء الدين لمن خالف الحق، وظهر منه الظلم والتعدى. قال صاحب العين: القين: الحداد، والتقين: التزين بألوان الزينة. وقال ابن دريد: أصل القين: الحداد، ثم صار كل صانع عند العرب قينًا، وجمعه أقيان وقيون، وقد قان الحديدة قينًا: ضربها بالمطرقة، وقان الشىء قيانةً: أصلحه، وقالت أم أيمن: أنا قينت عائشة لرسول الله: أى زينتها. وقان الله الإنسان على الشىء: جعله عليه قينةً، عن صاحب الأفعال. - باب الْخَيَّاطِ / 39 - فيه: أَنَس، إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا النَّبِىّ، عليه السَّلام، لِطَعَامٍ صَنَعَهُ، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَقَرَّبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خُبْزًا وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ، فَرَأَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَىِ الْقَصْعَةِ، قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ. قال المهلب: فيه جواز أكل الشريف طعام الخياط والصانع، وإجابته إلى دعوته. وفيه: مؤاكلة الخدم. وفيه: أن المؤاكل لأهله وخدمه مباح له أن يتبع شهوته الجزء: 6 ¦ الصفحة: 224 حيث رآها إذا علم أن ذلك لا يُكره منه، وإذا لم يعلم ذلك فلا يأكل إلا مما يليه، وقد سئل مالك عن هذه المسألة، فأجاب بهذا الجواب. - باب النَّسَّاجِ / 40 - فيه: سَهْلَ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ بِبُرْدَةٍ، قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟ قِيلَ لَهُ: نَعَمْ، هِىَ الشَّمْلَةُ مَنْسُوجٌ فِى حَاشِيَتِهَا، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِى أَكْسُوكَهَا، فَأَخَذَهَا رسُول اللَّه، عليه السَّلام، مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اكْسُنِيهَا، فَقَالَ: (نَعَمْ) ، فَجَلَسَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْمَجْلِسِ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ سَأَلْتَهَا إِيَّاهُ، لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لا يَرُدُّ سَائِلا، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلا لِتَكُونَ كَفَنِى يَوْمَ أَمُوتُ، قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ. قال المهلب: فيه: جواز قبول الهدية من الضعيف إذا كان له مقصدًا من التبرك وشبهه. وفيه: الهبة لما يسأله الإنسان من ثوب أو غيره. وفيه: الأثرة على نفسه وإن كانت به حاجة إلى ذلك الشىء. وفيه: التبرك بثوب الإمام والعالم، رجاء النفع به فى استشعاره كفنًا وشبه ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 225 - باب النَّجَّارِ / 41 - فيه: سَهْل، سأله رجل عَنِ الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: بَعَثَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، إِلَى فُلانَةَ، أَنْ مُرِى غُلامَكِ النَّجَّارَ يَعْمَلُ لِى أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ إِذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ، فَأَمَرَتْهُ يَعْمَلُهَا مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَوُضِعَتْ، فَجَلَسَ عَلَيْهَا. / 42 - وقال جَابِر: أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأنْصَارِ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ لِى غُلامًا نَجَّارًا، قَالَ: (إِنْ شِئْتِ) ، قَالَ: فَعَمِلَتْ لَهُ الْمِنْبَرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ قَعَدَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْمِنْبَرِ الَّذِى صُنِعَ، فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ الَّتِى كَانَ يَخْطُبُ عِنْدَهَا حَتَّى كَادَتْ تَنْشَقُّ، فَنَزَلَ، عليه السَّلام، حَتَّى أَخَذَهَا فَضَمَّهَا إِلَيْهِ، فَجَعَلَتْ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِىِّ الَّذِى يُسَكَّتُ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ، قَالَ: (بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ) . قال المهلب: هذان الحديثان متعارضان فى الظاهر، وإنما يصح المعنى فيهما أن تكون المرأة هى ابتدأت النبى بسؤال ذلك، ثم أضرب عليه السلام عنه حتى رآه من الصواب، فبعث إليها فيما كانت تبرعت به. وفيه: المطالبة بالوعد، والاستنجاز فيه. وفيه: تكليف العبد ما يفعله العبد، ولا يسأل عن طيب نفس العبد بما عمل. وفيه: كلام ما لا يعرف له كلام من الجمادات وشبهها إذا أتانا ذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 226 من طريق النبوة، وكانت هذه آية معجزة أراد الله أن يريها عبادة ليزدادوا إيمانًا، وما جرى على مجرى الإعجاز فهو خرق للعادة، وأما بيننا، فلا يجوز كلام الجمادات بيننا. 30 - باب شِرَاءِ الْحَوَائِجَ بِنَفْسِهِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: اشْتَرَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، جَمَلا مِنْ عُمَرَ، وَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ بِنَفْسِهِ وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِى بَكْرٍ: جَاءَ مُشْرِكٌ بِغَنَمٍ فَاشْتَرَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، مِنْهُ شَاةً وَاشْتَرَى مِنْ جَابِرٍ بَعِيرًا. / 43 - فيه: عَائِشَةَ، اشْتَرَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، مِنْ يَهُودِىٍّ طَعَامًا نَسِيئَةٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ. فيه من الفقه: مباشرة الشريف والإمام والعالم شراء الحوائج بنفسه وإن كان له من يكفيه؛ إيثارًا للتواضع، وخروجًا عن أحوال المتكبرين؛ لأنه لا يشك أحد أن جميع المؤمنين كانوا حراصًا على كفاية النبى - عليه السلام - ما يعن له من أموره، وما يحتاج إلى التصرف فيه؛ رغبة منهم فى دعوة منه، وتبركًا بذلك. 31 - باب شِرَاءِ الدَّوَابِّ وَالْحُمُرِ، وَإِذَا اشْتَرَى دَابَّةً أَوْ جَمَلا وَهُوَ عَلَيْهِ، هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ قَبْضًا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ قَالَ النَّبِىُّ عليه السَّلام لِعُمَرَ: (بِعْنِيهِ) ، يَعْنِى جَمَلا صَعْبًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 227 / 44 - فيه: جَابِر، كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ عليه السَّلام فِى غَزَاةٍ، فَأَبْطَأَ بِى جَمَلِى وَأَعْيَا، فَأَتَى عَلَىَّ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (يَا جَابِرٌ) ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، وقَالَ: (مَا شَأْنُكَ) ؟ قُلْتُ: أَبْطَأَ عَلَىَّ جَمَلِى وَأَعْيَا، فَتَخَلَّفْتُ، فَنَزَلَ يَحْجُنُهُ بِمِحْجَنِهِ، ثُمَّ قَالَ: (ارْكَبْ) ، فَرَكِبْتُ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ أَكُفُّهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (أَتَبِيعُ جَمَلَكَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَاشْتَرَاهُ مِنِّى بِأُوقِيَّةٍ، ثُمَّ قَدِمَ النَّبِى، عليه السَّلام، قَبْلِى وَقَدِمْتُ بِالْغَدَاةِ، فَجِئْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدْتُهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، قَالَ: (الآنَ قَدِمْتَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (فَدَعْ جَمَلَكَ، فَادْخُلْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ) ، فَدَخَلْتُ فَصَلَّيْتُ، فَأَمَرَ بِلالا أَنْ يَزِنَ لَهُ أُوقِيَّةً، فَوَزَنَ لِى بِلالٌ، فَأَرْجَحَ لِى فِى الْمِيزَانِ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى وَلَّيْتُ، فَقَالَ: (ادْعُ لِى جَابِرًا) ، قُلْتُ: الآنَ يَرُدُّ عَلَىَّ الْجَمَلَ، وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ أَبْغَضَ إِلَىَّ مِنْهُ، قَالَ: (خُذْ جَمَلَكَ وَلَكَ ثَمَنُهُ) . اختلف أهل العلم فى البيع، هل القبض شرط فى صحته أم لا؟ فذهب مالك وأحمد وإسحاق إلى أن البيع يتم بالقول، وليس القبض شرطًا فى صحته، غير الصرف وبيع الطعام بالطعام، وسيأتى فى موضعه - إن شاء الله. وقال أبو حنيفة والشافعى: من تمام العقد القبض، فإن تلف قبل قبض المبتاع فمن مال البائع، وسيأتى حكم تلفه قبل القبض فى موضعه - إن شاء الله. قال ابن المنذر: قد وهب رسول الله الجمل لجابر قبل أن يقبضه، فإذا جاز أن يهب المشترى الشىء المشترى للبائع قبل أن يقبضه؛ جاز أن يهبه لغير البائع، وجاز بيعه، وأن يفعل فيما اشتراه ما يفعله المالك فيما ملك، وليس مع من خالف هذا سنة يدفع بها هذه السنة الثابتة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 228 وأما قوله: (فوزن لى بلال فأرجح) فذهب مالك والكوفيون والشافعى إلى أن الزيادة فى المبيع من البائع والمشترى، والحط من الثمن يجوز سواء قبض الثمن أم لا على حديث جابر، وهى عندهم هبة مستأنفة. وقال ابن القاسم: الزيادة هبة، فإن وجد بالمبيع عيبًا رجع بالثمن فى الهبة. وقال أبو حنيفة: إن كانت الزيادة فاسدة لحقت بالعقد وأفسدته. وخالفه أبو يوسف ومحمد. وقال الطحاوى: لا تجوز الزيادة فى البيع، وترك أصحابنا فيه القياس، وصاروا إلى حديث جابر. وسأزيد فى بيان هذه المسألة فى كتاب الاستقراض وأداء الديون فى باب استقراض الإبل - إن شاء الله. إلا أنهم اختلفوا فى أحكام الهبة، فعند مالك أنها تجوز وإن لم تقبض، وعند الكوفيين والشافعى لا تجوز حتى تقبض، وهى عندهم هبة، وستأتى أحكام الهبة فى موضعها - إن شاء الله. وقوله: (فنزل يحجنه بمحجنه) ، قال صاحب العين: المحجن: عصا فيها عقافة، والحجن والحجنة: الاعوجاج، ويحجنه بها: يصرفه، يقال: حجنته عن الشىء: صرفته ومنعته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 229 32 - باب الأسْوَاقِ الَّتِى كَانَتْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ فَتَبَايَعَ بِهَا النَّاسُ فِى الإسْلامِ / 45 - فيه: ابْن عَبَّاس، كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الإسْلامُ تَأَثَّمُوا مِنَ التِّجَارَةِ فِيهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) [البقرة: 198] فِى مَوَاسِمِ الْحَجِّ، قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَذَا. فقه هذا الباب: أن الناس تجروا قبل الإسلام وبعده، وأن التجارة فى الحج وغيره جائزة، وأن ذلك لا يحط أجر الحج إذا أقام الحج على وجهه، وأتى بجميع مناسكه؛ لأن الله - تعالى - قد أباح لنا الابتغاء من فضله. وفيه: أن مواضع المعاصى وأفعال الجاهلية لا يمنع من فعل الطاعة فيها، بل يستحب توخيها وقصدها بالطاعة وبما يرضى الله - تعالى - ألا ترى أن النبى أباح دخول حجر ثمود لمن دخله متعظا باكيًا خائفًا من نقمة الله ونزول سطوته لمن عصاه. 33 - باب شِرَاءِ الإبِلِ الْهِيمِ أَوِ الأجْرَبِ الْهَائِمُ الْمُخَالِفُ لِلْقَصْدِ فِى كُلِّ شَىْءٍ قَالَ عَمْرٌو: كَانَ هَاهُنَا رَجُلٌ اسْمُهُ نَوَّاسٌ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ إِبِلٌ هِيمٌ، فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ فَاشْتَرَى تِلْكَ الإبِلَ مِنْ شَرِيكٍ لَهُ، فَجَاءَ إِلَيْهِ شَرِيكُهُ، فَقَالَ: بِعْنَا تِلْكَ الإبِلَ، فَقَال: َ مِمَّنْ بِعْتَهَا، قَالَ: مِنْ شَيْخٍ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: وَيْحَكَ ذَاكَ وَاللَّهِ ابْنُ عُمَرَ فَجَاءَهُ، فَقَالَ: إِنَّ شَرِيكِى بَاعَكَ إِبِلا هِيمًا، وَلَمْ يَعْرِفْكَ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 230 قَالَ: فَاسْتَقْهَا، قَالَ: فَلَمَّا ذَهَبَ يَسْتَاقُهَا، قَالَ: دَعْهَا رَضِينَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لا عَدْوَى. فيه من الفقه: أنه يجوز شراء الشىء المعيب وبيعه إذا كان البائع قد عرف المبتاع بالعيب فرضيه، وليس ذلك من الغش إذا بين له، وأما ابن عمر فرضى بالعيب والتزمه، فصحت الصفقة فيه. وقال صاحب العين: الهيام كالمجنون، ويقال الهيوم: أن يذهب على وجهه، والهيمان: العطشان. 34 - باب بَيْعِ السِّلاحِ فِى الْفِتْنَةِ وَغَيْرِهَا وَكَرِهَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ بَيْعَهُ فِى الْفِتْنَةِ / 46 - فيه: أَبُو قَتَادَةَ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَامَ حُنَيْنٍ، [فَأَعْطَاهُ، يَعْنِى دِرْعًا] ، فَبِعْتُ الدِّرْعَ، فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِى بَنِى سَلِمَةَ، فَإِنَّهُ لأوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِى الإسْلامِ. إنما كره بيع السلاح من المسلمين فى الفتنة؛ لأنه من باب التعاون على الإثم والعدوان، وذلك مكروه منهى عنه، ومن هذا الباب منع مالك بيع العنب ممن يعصره خمرًا، وذهب إلى فسخ البيع فيه، وكره الشافعى، وأجازه إذا وقع؛ لأنه باع حلالا بحلال، وقال الثورى: لا يكره شىء منه، وقال: بع حلالك ممن شئت. أما بيعه فى غير الفتنة من المسلمين فمباح، وداخل فى عموم قوله تعالى: (وأحل الله البيع (. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 231 35 - باب فِى الْعَطَّارِ وَبَيْعِ الْمِسْكِ / 47 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ وَكِيرِ الْحَدَّادِ، لا يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ الْمِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ أَوْ ثَوْبَكَ أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً) . وقد تقدم فى كتاب الذبائح اختلاف العلماء فيمن كره المسك ومن استحبه، وهذا الحديث حجة فى جوازه؛ لأن النبى ضرب مثل الجليس الصالح بصاحب المسك، وقال: لا تعدم منه أن تشتريه أو تجد ريحه. فأخبر عليه السلام بعادة الناس فى شرائه، ورغبتهم فى شمه، ولو لم يجز شراؤه لبين ذلك عليه السلام، وقد حرم الله بيع الأنجاس، واستعمال روائح المنتة فلا معنى لقول من كرهه، وإنما خرج كلامه عليه السلام فى هذا الحديث على المثل فى النهى عن مجالسة من يتأذى بمجالسته، كالمغتاب والخائض فى الباطل، والندب إلى مجالسة من ينال فى مجالسته الخير من ذكر الله - تعالى - وتعلم العلم وأفعال البر كلها، وقد روى عن إبراهيم الخليل أنه كان عطارًا. 36 - باب ذِكْرِ الْحَجَّامِ / 48 - فيه: أَنَس، قَالَ: حَجَمَ أَبُو طَيْبَةَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا مِنْ خَرَاجِهِ. / 49 - وَقَالَ ابْن عَبَّاس: احْتَجَمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَأَعْطَى الَّذِى حَجَمَهُ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 232 فى هذا الباب بيان أن أجر الحجام حلال كما تأوله ابن عباس، وفيه دليل أنه لا وجه لكراهة أبى حنيفة لأجر الحجام، واستدلاله على ذلك بنهيه عليه السلام عن ثمن الدم، وهذا النهى عن العلماء ليس كنهيه عن ثمن الخمر والميتة، وليس من كسب الحجام فى شىء، بدليل حديث أنس وابن عباس ولو أراد عليه السلام بنهيه عن ثمن الدم النهى عن كسب الحجام لكان منسوخًا بحديث أنس وابن عباس، أو يكون نهيه عنه على سبيل التنزه، لأن قريشًا فى الجاهلية كانت تتكرم عن كسب الحجام، وهو كنهيه عن عسب الفحل وهو خسة وضعة، فأراد عليه السلام أن يرفع أمته عن الصناعات الوضيعة، وسيأتى فى كتاب الإجازات مذاهب العلماء فى كسب الحجام. 37 - باب التِّجَارَةِ فِيمَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ / 50 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَرْسَلَنى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى عُمَرَ بِحُلَّةِ حَرِيرٍ، أَوْ سِيَرَاءَ فَرَآهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: (إِنِّى لَمْ أُرْسِلْ بِهَا إِلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا، إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لا خَلاقَ لَهُ إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ لِتَسْتَمْتِعَ بِهَا) ، يَعْنِى تَبِيعَهَا. / 51 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَامَ عَلَى الْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْهُ، فَعَرَفْتُ فِى وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) ، مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ) ؟ قُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، فَقَالَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 233 رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعَذَّبُونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ) ، وَقَالَ: (إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِى فِيهِ الصُّوَرُ لا تَدْخُلُهُ الْمَلائِكَةُ) . التجارة فيما يكره لبسه جائزة إذا كان فى المبيع منفعة لغير اللباس وأما إذا لم يكن فيه منفعة لشىء من المنافع فلا يجوز بيعه ولا شراؤه؛ لأن أكل ثمنه من أكل المال بالباطل، وأما بيع الثياب التى فيها الصور المكروهة، فظاهر حديث عائشة يدل بأن بيعها لا يجوز، لكن قد جاءت آثار مرفوعة عن النبى تدل على جواز بيع ما يوطأ ويمتهن من الثياب التى فيها الصور، روى وكيع عن أسامة بن زيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: (سترت سهوة لى بستر فيه تصاوير، فلما قدم النبى - عليه السلام - هتكه، فجعلته مسندتين فرأيت النبى - عليه السلام - متكئًا على إحداهما) وإذا تعارضت الأخبار فالأصل الإباحة حتى يرد الحظر، ويحتمل أن يكون معنى حديث عائشة فى النمرقة لو لم يعارضه غيره محمولا على الكراهية دون التحريم، بدليل أن النبى - عليه السلام - لم يفسخ البيع فى النمرقة التى اشترتها عائشة - والله أعلم. قال صاحب العين: السيراء: برود يخالطها حرير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 234 38 - باب صَاحِبُ السِّلْعَةِ أَحَقُّ بِالسَّوْمِ / 52 - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (يَا بَنِى النَّجَّارِ ثَامِنُونِى بِحَائِطِكُمْ) ، وَفِيهِ خِرَبٌ وَنَخْلٌ. لا خلاف بين الأمة أن صاحب السلعة أحق الناس بالسوم فى سلعته، وأولى بطلب الثمن فيها، ولا يجوز ذلك إلا له أو لمن وكله على البيع. 39 - باب كَمْ يَجُوزُ الْخِيَارُ / 54 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (إِنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ فِى بَيْعِهِمَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَكُونُ الْبَيْعُ خِيَارًا) . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَارَقَ صَاحِبَهُ. / 54 - وفيه: حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا) . اختلف الفقهاء فى أمد الخيار، فقالت طائفة: البيع جائز والشرط لازم إلى الأمد الذى اشترط إليه الخيار، هذا قول ابن أبى ليلى والحسن بن صالح وأبى يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبى ثور، عن ابن المنذر. وقال مالك: يجوز شرط الخيار فى بيع الثوب اليوم واليومين، والجارية الخمسة أيام والجمعة، وفى الدابة تركب اليوم وشبهه، ويسار عليها البريد ونحوه، وفى الدار الشهر لتختبر ويستشار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 235 فيها، وما بعد من أجل الخيار فلا خير فيه، لأنه غرر ولا فرق بين شرط الخيار للبائع والمشترى. وقال الثورى: يجوز شرط الخيار للمشترى عشرة أيام وأكثر، ولا يجوز شرطه للبائع. وقال الأوزاعى: يجوز أن يشترط الخيار شهرًا وأكثر. وقال أبو حنيفة وزفر والشافعى: الخيار فى البيع ثلاثة أيام، ولا تجوز الزيادة عليها، فإن زاد فسد البيع، واحتجوا بأن حبان ابن منقذ كان يخدع فى البيوع، فقال له النبى - عليه السلام -: (قل: لا خلابة) وجعل له الخيار ثلاثًا فيما ابتاع، وفى حديث المصراة إثبات الخيار ثلاثًا، قالوا: ولولا الحديث فى الثلاثة الأيام ما جاز الخيار ساعة واحدة. وحجة أهل المقالة الأولى ظاهر قوله عليه السلام: (المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا إلا بيع الخيار) فبان بهذا أن الخيار على الإطلاق دون توقيت مدة، ولم يخص من بيع الخيار بشرط الثلاث أو أكثر، فهو على ما اشترطاه، وقد قال عليه السلام: (المسلمون عند شروطهم) . والحجة لقول مالك أن العبد والجارية لا يعرف أخلاقهما ولا ما هما عليه من الطبائع فى مدة الثلاث، لأنهما يتكلفان ما ليس من طبعهما فى مدة يسيرة، ثم يعودان بعد ذلك إلى الطبع، فوجب أن يكون الخيار مدة يختبران فى مثلها، ليكون المبتاع داخلا على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 236 بصيرة، ومما يدل على صحة هذا أن أجل العنين سنة، لأن حاله يختبر فيها، فكذلك ينبغى أن يكون كل خيار على حسب تعرف حال المختبر، ويقال لأبى حنيفة والشافعى: إن خيار الثلاث فى حديث حبان من رواية ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر، وليس فى رواية الثقات الحفاظ، وأما حديث المصراة فهو حجة لنا، لأن المصراة لما كان لا يختبر أمرها فى أقل من ثلاث، جعل فيها هذا المقدار الذى يختبر فى مثله، فوجب أن يكون الخيار فى كل مبيع على قدر المدة التى يختبر فى مثلها. قال الطحاوى: وأما تفريق الثورى بين البائع والمشترى فى جواز الخيار إذا شرط المشترى، وإبطاله للبائع، فلم يقل به أحد من أهل العلم. 40 - باب إِذَا لَمْ يُوَقِّتْ فِى الْخِيَارِ هَلْ يَجُوزُ الْبَيْعُ / 55 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام قَالَ: (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ، وَرُبَّمَا قَالَ: أَوْ يَكُونُ بَيْعَ خِيَارٍ) . اختلف العلماء إذا اشترط فى الخيار مدة غير معلومة، فقالت طائفة: البيع جائز والشرط باطل. هذا قول ابن أبى ليلى والأوزاعى، واحتجا بحديث بريدة. وقالت طائفة: البيع جائز والشرط لازم، وللذى شرط الخيار أبدًا وهذا قول أحمد وإسحاق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 237 وقال مالك: البيع جائز، ويجعل له من الخيار مثل ما يكون له فى تلك السلعة. وقال أبو يوسف ومحمد: له أن يختار بعد الثلاث. وقال أبو حنيفة والثورى والشافعى: إذا شرط الخيار بغير مدة معلومة فالبيع فاسد، فإن أجازه فى الثلاث جاز، وإن مضت الثلاث لم يكن له أن يجيزه. وظاهر هذا الحديث يرد هذا القول، ويدل أن الخيار يجوز اشتراطه بغير توقيت، لأن النبى - عليه السلام لما قال: (البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر) لم يذكر أمد الخيار فى ذلك، وسوى عليه السلام بين تمام البيع بعد التفرق وبعد الأخذ بالخيار إذا شرطاه دون ذكر توقيت مدة، فلا معنى لقول من خالفه. 41 - باب الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِىُّ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ. / 56 - فيه: حَكِيم، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِى بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) . / 57 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلا بَيْعَ الْخِيَارِ) . وترجم لهما (باب إذا كان البائع بالخيار هل يجوز البيع) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 238 اختلف العلماء فى معنى التفرق المذكور فى هذا الحديث، فذهبت طائفة إلى أن المراد به التفرق بالأبدان، وأن المتبايعين إذا عقدا بيعهما، فكل واحد منهما بالخيار فى إتمامه وفسخه ما داما فى مجلسهما لم يفترقا بأبدانهما. روى هذا القول عن ابن عمر وأبى برزة الأسلمى وجماعة من التابعين، ذكرهم البخارى وقد روى عن سعيد بن المسيب والزهرى، وبه قال الليث وابن أبى ذئب والثورى والأوزاعى وأبو يوسف والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وذهبت طائفة إلى أن البيع يتم بالقول دون الافتراق بالأبدان، ومعنى قوله عليه السلام: (البيعان بالخيار ما لم يفترقا) أن البائع إذا قال له: قد بعتك، فله أن يرجع ما لم يقل المشترى: قد قبلت. والمتبايعان هما المتساومان. روى هذا القول عن النخعى، وهو قول ربيعة ومالك وأبى حنيفة ومحمد. واحتج من جعل التفرق بالأبدان بأن ابن عمر راوى الحديث، وهو أعلم بمخرجه، وقد روى عنه أنه بايع عثمان بن عفان قال: فرجعت على عقبى كراهة أن يُرادنِى البيع. قالوا: فالتفرق عند ابن عمر بالبدن لا باللفظ. وقالوا: إن من جعل المتبايعين فى هذا الحديث المتساومين لا وجه له؛ لأنه معقول أن كل واحد فى سلعته بالخيار قبل السوم، وما دام متساومًا حتى يمضى البيع ويعقده، وكذلك المشترى بالخيار قبل الشراء وفى حال المساومة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 239 وإذا كان هذا كذلك بطلت فائدة الخبر، وقد جل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن أن يخبر بما لا فائدة فيه. واحتج عليهم من جعل التفرق بالقول فقال: أما قولكم أن من جعل المتبايعين المتساومين لا وجه له؛ لأنه لا يكون فى الكلام فائدة، فالجواب عن ذلك أن فائدته صحيحة، وذلك أن المتبايعين لا يبعد أن يختلفا قبل الافتراق بالأبدان، فلو كان كل واحد منهما بالخيار لم يجب على البائع ثمن ولا ترد؛ لأن التراد إنما يكون فيما تم من البيوع. قال الطحاوى: ومن لم يسم المتساومين متبايعين فقد أغفل سعة اللغة؛ لأنه يحتمل أن يتسميا متبايعين لقربهما من التبايع وإن لم يتبايعا، كما سمى إسحاق ذبيحًا لقربه من الذبح وإن لم يكن ذبح، وقد سمى النبى - عليه السلام - المتساومين متبايعين، فقال عليه السلام: (لا يسوم الرجل على سوم أخيه) وقال: (لا يبع الرجل على بيع أخيه) ومعناهما واحد، ووهو اللازم لهم، والتفرق فى لسان العرب بالكلام معروف كعقد النكاح، وكوقوع الطلاق الذى سماه الله فراقًا، قال تعالى: (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته (وأجمعت الأمة أن التفرق فى هذه الآية أن يقول لها: أنت طالق. وقال عليه السلام: (تفترق أمتى) ولم يرد التفرق بالأبدان. وأجمعوا أن رجلا لو اشترى قرصًا أو [. . . . .] ماء، فأكل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 240 القرص أو شرب الماء قبل التفرق؛ لكان ذلك له جائزًا، وكان قد أكل ماله، وسيأتى عند ذكر مبايعة ابن عمر لعثمان بعد هذا - إن شاء الله - فبان مذهب ابن عمر، وأنه حجة لم قال التفرق بالكلام. قال ابن المنذر: وإثبات النبى الخيار للمتبايعين ما لم يفترقا إنما هو على ما سوى بيع الخيار لقوله عليه السلام: (المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يفترقا إلا بيع الخيار) . فاستثنى بيع الخيار فيما قد تم فيه البيع بالتفرق، وبقى الخيار فى بيع الخيار بعد التفرق حتى يتم أمد الخيار، فيختار البيع أو يرد. 42 - باب إِذَا خَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ / 58 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَكَانَا جَمِيعًا أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ يَتَبَايَعَا وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ) . ذهب أكثر العلماء الذين يرون الافتراق بالأبدان إلى أنه إذا خير أحدهما صاحبه بعد البيع، فاختار إمضاء البيع فقد تم البيع وإن لم يفترقا بالأبدان، إلا أحمد بن حنبل، فإنه قال: هما بالخيار حتى يفترقا، خيرا أحدهما صاحبه أو لم يُخيره. وأما الذين يجيزون البيع بالكلام دون افتراق الأبدان، فهو عندهم بيع جائز، قال: اختر أو لم يقله، فتحصل من ذلك اتفاق الجميع غير أحمد بن حنبل وحده، وقوله خلاف الحديث، فلا معنى له. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 241 43 - باب إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا فَوَهَبَ مِنْ سَاعَتِهِ قَبْلَ التفرق وَلَمْ يُنْكِرِ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِى أَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ وَقَالَ طَاوُسٌ، فِيمَنْ يَشْتَرِى السِّلْعَةَ عَلَى الرِّضَا ثُمَّ بَاعَهَا: وَجَبَتْ لَهُ، وَالرِّبْحُ لَهُ. / 59 - فيه: ابْن عُمَرَ، كُنَّت مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى سَفَرٍ، فَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ لِعُمَرَ، فَكَانَ يَغْلِبُنِى فَيَتَقَدَّمُ أَمَامَ الْقَوْمِ، فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ، وَيَرُدُّهُ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ عليه السَّلام لِعُمَرَ: (بِعْنِيهِ) ، قَالَ: هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (بِعْنِيهِ) ، فَبَاعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (هُوَ لَكَ يَا عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ تَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْتَ) . / 60 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: بِعْتُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ مَالا بِالْوَادِى بِمَالٍ لَهُ بِخَيْبَرَ، فَلَمَّا تَبَايَعْنَا، رَجَعْتُ عَلَى عَقِبِى حَتَّى خَرَجْتُ مِنْ بَيْتِهِ خَشْيَةَ أَنْ يُرَادَّنِى الْبَيْعَ، وَكَانَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: فَلَمَّا وَجَبَ بَيْعِى وَبَيْعُهُ رَأَيْتُ أَنِّى قَدْ غَبَنْتُهُ بِأَنِّ سُقْتُهُ إِلَى أَرْضِ ثَمُودَ بِثَلاثِ لَيَالٍ، وَسَاقَنِى إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلاثِ لَيَالٍ. هذا الباب حجة لمن يقول الافتراق بالكلام فى قوله عليه السلام: (البيعان بالخيار ما لم يفترقا) ، وحديث ابن عمر بين فى ذلك، ألا ترى أن النبى وهب الجمل من ساعته لابن عمر قبل التفرق من عمر، ولو لم يكن الجمل للنبى لما جاز له أن يهبه لابن عمر حتى يحب له بافتراق الأبدان، وأما حديث ابن عمر فى مبايعته لعثمان، فقد احتج به من قال: إن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 242 الافتراق بالأبدان، واحتج به من قال: إن الافتراق بالكلام، وكان من حجة الذين جعلوا الافتراق بالكلام أن قالوا: لو كان معنى الحديث التفرق بالأبدان، لكان المراد به الحض والندب إلى حسن المعاملة من المسلم للمسلم، وألا يفترسه فى البيع على استخباره عن الداء والغائلة، وقد قال عليه السلام: (من أقال نادمًا أقال الله عثرته يوم القيامة) من حديث أبى هريرة، ألا ترى قول ابن عمر: وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار ما لم يفترقا فحكى ابن عمر أن الناس كانوا يلتزمون حينئذ الندب؛ لأنه كان زمن مكارمة، وأن الوقت الذى حدث ابن عمر هذا الحديث كان التفرق بالأبدان متروكًا، ولو كان التفرق بالأبدان على الوجوب ما قال ابن عمر: وكانت السنة بل كان يقول: وكانت السنة، ويكون أبدًا فلذلك جاز أن يرجع على عقبيه؛ لأنه فهم أن المراد بالحديث الحض والندب، لا سيما وهو الذى حضر فعل النبى فى هبته البكر له بحضرة البائع قبل التفرق. وقال الطحاوى: يحتمل قول ابن عمر الوجهين جميعًا، فنظرنا فى ذلك فروينا عنه ما يدل أن رأيه كان فى الفرقة بخلاف ما ذهب إليه من قال: إن البيع لا يتم إلا بها، وهو ما حدثنا سليمان بن شعيب، حدثنا بشر بن بكر، حدثنا الأوزاعى، حدثنى الزهرى، عن حمزة ابن عبد الله، أن ابن عمر قال: ما أدركت الصفقة حيا فهو من مال المبتاع. قال ابن المنذر: يعنى فى السلعة تتلف عند البائع قبل أن يقبضها المشترى بعد تمام البيع. قال ابن المنذر: هى من مال المشترى؛ لأنه لو كان عبدًا فأعتقه المشترى كان عقته جائزًا ولو أعتقه البائع لم يجز عتقه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 243 قال الطحاوى: فهذا ابن عمر قد كان يذهب فيما أدركت الصفقة حيا فهلك بعدها، أنه من مال المشترى، فدل ذلك أنه كان يرى أن البيع يتم بالأقوال قبل الفرقة التى تكون بعد ذلك، وأن المبيع ينتقل بالأقوال من ملك البائع إلى ملك المبتاع حتى يهلك من ماله إن هلك، وهذا من ابن عمر دال على مذهبه فى الفرقة التى سمعها من النبى - عليه السلام - فيما ذكروا، وقد وجدنا عن رسول الله ما يدل على أن المبيع يملكه المشترى بالقول دون التفرق بالأبدان، وذلك أن النبى قال: (من ابتاع طعامًا، فلا يبعه حتى يقبضه) فكان ذلك دليلا على أنه إذا قبضه حل له بيعه، ويكون قابضًا له قبل افتراق بدنه من بدن بائعه، وروى عن سعيد بن المسيب قال: سمعت عثمان يخطب على المنبر ويقول: (كنت أشترى التمر فأبيعه بربح الآصع فقال لى رسول الله: إذا اشتريت فاكتل، وإذا بعت فكل) ، فكان من ابتاع طعامًا مكايلة فباعه قبل أن يكتاله لا يجوز بيعه، فإذا ابتاعه فاكتاله وقبضه، ثم فارق بائعه فكل قد أجمع أنه لا يحتاج بعد الفرقة إلى إعادة الكيل، وخولف بين اكتياله إياه بعد البيع قبل التفرق وبين اكتياله إياه قبل البيع، فدل ذلك أنه إذا اكتاله اكتيالا يحل له به بيعه، فقد كان ذلك الاكتيال له وهو له مالك، وإن اكتاله اكتيالا لا يحل به بيعه، فقد كاله وهو غير مالك له، فثبت بما ذكرنا وقوع ملك المشترى فى المبيع بابتياعه إياه قبل فرقة تكون بعد ذلك، فهذا وجه من طريق الآثار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 244 وأما من طريق النظر فرأينا الأموال تملك بعقود فى أبدان، وفى أموال، وفى أبضاع، وفى منافع، فكان ما يملك من الأبضاع هو النكاح، فكان يتم بعقده لا بفرقة بعد العقد، وكان ما يملك به المنافع هو الإجارات، فكان ذلك أيضًا مملوكًا بالعقد لا بفرقة بعد العقد، فالنظر على ذلك أن تكون كذلك الأموال المملوكة بسائر العقود من البيوع وغيرها، تكون مملوكة بالأقوال لا بفرقة بعدها قياسًا ونظرًا. وفى حديث ابن عمر جواز بيع الشىء الغائب على الصفة، وسيأتى ذلك بعد هذا - إن شاء الله. وأجمع العلماء أن البائع إذا لم ينكر على المشترى ما أحدثه من الهبة أو العتق أنه بيع جائز، واختلفوا إذا أنكر ولم يرض بما أحدثه المشترى، فالذين يرون أن البيع يتم بالكلام يجيزون هبته وعتقه، ومن يرى التفرق بالأبدان لا يجيز شيئًا من ذلك إلا بعد التفرق، وحديث عمر حجة عليهم - والله الموفق. 44 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الْخِدَاعِ فِى الْبَيْعِ / 61 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ رَجُلا ذَكَرَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ يُخْدَعُ فِى الْبُيُوعِ، فَقَالَ: (إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لا خِلابَةَ) . قال المهلب: قوله: (فقل: لا خلابة) أى: لا تخلبونى فإنه لا يحل، فإن اطلعت على عيب رجعت به. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 245 وفى كتاب العين: الخلابة: المخادعة، ورجل خلوب وخلبوب: خداع. وقال غيره: هذا الرجل المذكور فى الحديث منقذ بن عمرو الأنصارى جد واسع بن حبان، روى ذلك ابن عيينة عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر: (أن منقذًا ضرب فى رأسه مأمومة فى الجاهلية فحبلت لسانه، وكان يخدع فى البيوع. فقال له رسول الله: (بع وقل: لا خلابة، وأنت بالخيار ثلاثًا. قال ابن عمر: فسمعته يقول إذا بايع: لا خلابة لا خلابة) وقيل: إن حبان بن منقذ هو الذى كان يخدع، وفيه جاء الحديث، والأول أصح. واختلف الفقهاء فيمن باع بيعًا غبن فيه غبنًا لا يتغابن الناس بمثله، فقال مالك: إن كانا عارفين بتلك السلعة، وبأسعارها وقت البيع، لم يفسح البيع كثيرًا كان الغبن أو قليلا، وإن كانا أو أحدهما غير عارف بتقلب السعر وبتغيره وتفاوت الغبن، فسخ البيع، إلا أن يريد أن يمضيه. ومن أصحاب مالك من اعتبر مقدار ثلث قيمة السلعة، ولم يحد مالك فى ذلك حدا، ومذهبه إذا خرج عن تغابن الناس فى مثل تلك السلعة أنه يفسخ، وبهذا قال أبو ثور. وقال أبو حنيفة والشافعى: ليس له أن يفسخ فى الغبن الكثير، كما لا يفسخ فى القليل، وقد قال ابن القاسم فى العتبية: إنه لا يفسخ فى الغبن الكثير. واحتج الكوفيون فقالوا: إن حبان بن منقذ أصابته آفة فى رأسه فكان يخدع فى البيوع، فقال له النبى: (إذا بايعت فقل: لا خلابة، ولك الخيار ثلاثًا) قالوا: فموضع الدليل منه هو أنه كان يخدع فى البيع، ومن كان يخدع فى عقله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 246 بضعف يلحقه الغبن فى عقوده، فجعل له النبى الخيار لما يلحقه من ذلك، فلو كان الغبن شيئًا يملكه به فسخ العقد لما احتاج إلى شرط الخيار مع استغنائه عنه، وقال مالك: هذه الحجة لنا، لأنه عليه السلام قال له: لك الخيار، ولم يقل له: اشترط الخيار، وإنما قال له قل: لا خلابة أى: لا خديعة، فلو كان الغبن مباحًا لم يكن لقوله: لا خلابة معنى، ولم ينفعه ذلك، فلما كان ذلك ينفعه جعل له النبى - عليه السلام - الخيار بعد ذلك لينظر فيما باعه، ويسأل عن سعره، ويرى رأيه فى ذلك وإنما جعل ذلك فى حبان ليعلمنا الحكم فى مثله، وإنما تعرف الأحكام بما بينه عليه السلام، فبين عليه السلام حكم من يغبن فى بيعه إذا لم يكن عارفًا بما يبيعه، ودليل آخر وهو قوله عليه السلام: (لا تلقوا الركبان للبيع، فمن تلقاها فهو بالخيار إذا دخل السوق) . وإنما جعل له الخيار فى ذلك لأجل الغبن الذى يلحقه، لأنه لم يدخل السوق، ولا عرف سعر ما باع، ومن يتلقاه فإنما يقصد الغبن والاسترخاص، فعلم بهذا أن الغبن يوجب الخيار، وأيضًا فإنه لو ابتاع سلعة فوجد بها عيبًا كان له الخيار فى الرد، لأجل النقص الموجود بها، فلا فرق بين أن يجد النقص بالسلعة أو بالثمن، لأنه فى كلا الموضعين قد وجد النقص الذى يخرج به عن القصد. فإن قيل: يلزمكم أن تفسدوا البيع وإن كان غبنًا يسيرًا. قيل: البيع لا يخلو من الغبن اليسير، لأن كل واحد منهما يقصد الاسترخاص، فأجيز على حسب تعارفهم فيه فإذا خرج عن عرفهم ثبت فيه الخيار، ذكر هذا كله ابن القصار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 247 وذكر ابن حبيب قال: سئل مالك عن رجل جاهل باع حجرًا أو درة بدرهمين، فألفاه المشترى ياقوتة، فلم ير فيه رجوعًا، لأن الغلط ماض على البائع والمبتاع فى البيع على المساومة، وإنما يرد فى البيع على المرابحة، إلا أن يبيعه بائعه على أنه زجاج، فألفاه المشترى ياقوتة فإنه يرد البيع، وكذلك لو باعه على أنه ياقوت فألفاه المشترى زجاجًا يرده أيضًا. 45 - باب مَا يذُكِرَ فِى الأسْوَاقِ وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، قُلْتُ: هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: سُوقُ قَيْنُقَاعَ. وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ: دُلُّونِى عَلَى السُّوقِ، وَقَالَ عُمَرُ: أَلْهَانِى الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ. / 62 - فيه: عَائِشَةُ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ، [فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأرْضِ] يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ) ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: (يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ) . / 63 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: النَّبِىّ، عليه السَّلام: (صَلاةُ أَحَدِكُمْ فِى جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلاتِهِ فِى سُوقِهِ وَبَيْتِهِ. . .) الحديث. / 64 - وفيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فِى السُّوقِ، - وَقَالَ مَرَةٍ: فِى الْبَقِيع -: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: إِنَّمَا دَعَوْتُ هَذَا، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (سَمُّوا بِاسْمِى، وَلا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِى) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 248 / 65 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، خَرَجَ النَّبِىُّ عليه السَّلام فِى طَائِفَةِ النَّهَارِ لا يُكَلِّمُنِى وَلا أُكَلِّمُهُ، حَتَّى أَتَى سُوقَ بَنِى قَيْنُقَاعَ، فَجَلَسَ بِفِنَاءِ بَيْتِ فَاطِمَةَ، فَقَالَ: (أَثَمَّ لُكَعُ، أَثَمَّ لُكَعُ) ، فَحَبَسَتْهُ شَيْئًا، فَظَنَنْتُ أَنَّهَا تُلْبِسُهُ سِخَابًا أَوْ تُغَسِّلُهُ، فَجَاءَ يَشْتَدُّ حَتَّى عَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ. . . . الحديث. / 66 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مِنَ الرُّكْبَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَيَبْعَثُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَمْنَعُهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ حَيْثُ اشْتَرَوْهُ، حَتَّى يَنْقُلُوهُ حَيْثُ يُبَاعُ الطَّعَامُ. قَالَ: وَحَديث ابْن عُمَرَ: نَهَى النَّبِىُّ عليه السَّلام أَنْ يُبَاعَ الطَّعَامُ إِذَا اشْتَرَاهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ. إنما أراد بذكر الأسواق إباحة المتاجر ودخول السوق، والشراء فيه للعلماء والفضلاء، وكأنه لم يصح عنده الحديث الذى روى (شر البقاع الأسواق، وخيرها المساجد) وهذا إنما خرج على الأغلب؛ لأن المساجد يذكر فيه اسم الله - تعالى - والأسواق قد غلب عليها اللغط واللهو والاشتغال بجمع المال، والكلب على الدنيا من الوجه المباح وغيره، وأما إذا ذكر الله فى السوق فهو من أفضل الأعمال، روى عن محمد بن واسع أنه قال: سمعت سالم بن عبد الله يقول: (من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير يحيى ويميت، وهو على كل شىء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، وبنى له بيت فى الجنة) وكذلك إذا لغا فى المسجد أو لغط فيه، أو عصى ربه لم يضر المسجد، ولا نقص من فضله، وإنما أضر بنفسه، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 249 وبالغ فى إثمه. وقد روى عن على بن أبى طالب أنه قال: من عصى الله فى المسجد فكأنما عصاه فى الجنة، ومن عصاه فى الحمام فكأنما عصاه فى النار، ومن عصاه فى المقبرة فكأنما عصاه فى عرصات القيامة، ومن عصاه فى البحر فكأنما عصاه على أكف الملائكة. قال المهلب: وفى حديث عائشة أن من كثر سواد قوم فى معصية أو فتنة أن العقوبة تلزمه معهم إذا لم يكونوا مغلوبين على ذلك؛ لأن الخسف لما أخذ السوقة عقوبة لهم شمل الجميع. واستنبط منه مالك أن من وجد مع قوم يشربون الخمر، وهو لا يشرب أنه يعاقب، ويؤيد أن المغلوبين على تكثير السواد ليسوا ممن يستحق العقوبة قوله تعالى: (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم (. وفيه: علم من أعلام النبوة، وهو إخباره عليه السلام بما يكون. وقوله فى حديث أبى هريرة: (ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة) النهز: الدفع، وقوله: (أثم لكع) ، فإنما أراد الحسن بن على. فيه من الفقه: أنه لا بأس بمهازلة الصبى وغيره إذا كان واقعًا تحت السن والفضل لا سيما إن عضد ذلك أبوه؛ لأن النبى أبوه، والجد أب، واللكع: اللئيم، تقول العرب: لكع الرجل لكعًا ولكعة: إذا لؤم، وهو لكع ولكيع وألكع، والمرأة لكاع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 250 46 - باب الْكَيْلِ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُعْطِى وقوله تَعَالَى: (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين: 3] كَالُوا لَهُمْ وَوَزَنُوا لَهُمْ، كَقَوْلِهِ: (يَسْمَعُونَكُمْ) [الشعراء: 72] يَسْمَعُونَ لَكُمْ. وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اكْتَالُوا حَتَّى تَسْتَوْفُوا) ، وَيُذْكَرُ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام قَالَ: (إِذَا بِعْتَ فَكِلْ، وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ) . / 67 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ) . / 68 - وفيه: جَابِر، تُوُفِّىَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَاسْتَعَنْتُ النَّبِىَّ، عليه السلام، عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يَضَعُوا مِنْ دَيْنِهِ، فَطَلَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَفْعَلُوا، فَقَالَ لِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اذْهَبْ فَصَنِّفْ تَمْرَكَ أَصْنَافًا: الْعَجْوَةَ عَلَى حِدَةٍ، وَعَذْقَ زَيْدٍ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَىَّ) ، فَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَرْسَلْتُ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السلام، فَجَاءَ فَجَلَسَ عَلَى أَعْلاهُ، أَوْ فِى وَسَطِهِ، ثُمَّ قَالَ: (كِلْ لِلْقَوْمِ) ، فَكِلْتُهُمْ حَتَّى أَوْفَيْتُهُمِ الَّذِى لَهُمْ، وَبَقِىَ تَمْرِى كَأَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَىْءٌ. وَقَالَ جَابِر مرة: فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّاهُ. وَقَالَ جَابِر، عن النَّبِىّ عليه السلام: (جُذَّ لَهُ فَأَوْفِ لَهُ) . الذى عليه الفقهاء أن الكيل والوزن فيما يكال ويوزن من المبيعات على البائع، ومن كان عليه الكيل أو الوزن فعليه أجرة ذلك، وهو قول مالك وأبى حنيفة والثورى والشافعى وأبى ثور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 251 وقال الثورى: كُل بيع فيه كيل أو وزن أو عدد، فهو على البائع حتى يوفيه إياه، فإن قال: أبيعك هذه النخلة، فجذاذها على المشترى، قال: وكل بيع ليس فيه كيل ولا وزن ولا عدد فجذاذه عليه ونقصه على المشترى. قال المهلب: كتاب الله يشهد لقوله صلى الله عليه: (إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل) ، وهو قوله تعالى: (ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون (فدل هذا على أن يكيل له غيره إذا اشترى، ويكيل لغيره إذا باع، وفى قصة يوسف - عليه السلام - أن البائع عليه الكيل، قال الله - تعالى - عنه: (ألا ترون أنى أوفى الكيل وأنا خير المنزلين (وكذلك فى قصة جابر، قال له عليه السلام: (كل للقوم) وجابر هو الغارم عن أبيه، وهذا هو الذى يعطيه النظر، لأنه من باع شيئًا مسمى، ومقدارًا معروفًا من طعام، فعليه أن يعينه ويميزه مما سواه، وكذلك من ابتاع إنما يبتاع بدراهم موزونة معلومة يعطيها للبائع فى سلعته، فعليه الوزن والانتقاء، لأن عليه تعيين ما باعه من الدراهم بالسلعة - والله الموفق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 252 47 - باب بَرَكَةِ صَاعِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَمُدِّهِ / 96 - فيه: عَائِشَةَ، عن النَّبِىّ - عليه السَّلام. / 70 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِىِّ عليه السَّلام: (أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا، وَحَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَدَعَوْتُ لَهَا فِى مُدِّهَا وَصَاعِهَا مِثْلَ مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ) . قوله عليه السلام: (اللهم فى صاعهم ومدهم) ، يعنى ما يكال بالصاع والمد، وأضمر ذلك لفهم السامع، وهذا من باب تسمية الشىء باسم ما يقاربه، وكان مد أهل المدينة صغيرًا، لقلة الطعام عندهم، فدعا لهم النبى بالبركة فى طعامهم، ويستحب أن يتخذ ذلك المكيال رجاء لبركة دعوة النبى - عليه السلام - والاستنان بأهل البلد الذين دعا لهم، وقد قال عليه السلام: (كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه) . 48 - باب كَرَاهِيَةِ الصَّخَبِ فِى السُّوقِ / 71 - فيه: عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، لَقِيتُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرِو، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِى عَنْ صِفَةِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى التَّوْرَاةِ، قَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِى التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِى الْقُرْآنِ: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) [الأحزاب: 45] وَحِرْزًا لِلأمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِى وَرَسُولِى، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلا غَلِيظٍ، وَلا سَخَّابٍ فِى الأسْوَاقِ، وَلا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 253 ابن سلام: غلف كل شىء فى غلاف، سيف أغلف، وقوس غلفاء، ورجل أغلف: إذا لم يكن مختونًا، قاله البخارى فى رواية السرخسى. الصخب عند أهل اللغة: الصياح، قال صاحب العين: صخب صخبًا: إذا صاح، ذكره فى حرف الصاد، ولم يذكره فى حرف السين، فهو فى بعض نسخ البخارى بالسين، وقال أبو حاتم: ما كان مع الخاء من الحروف فيجوز كتابته بالسين والصاد. فى هذا الحديث مدح النبى - عليه السلام - ببعض صفاته الشريفة، التى خصه الله - تعالى - بها وجبله عليها. قال المهلب: وقوله: (سميتك المتوكل) لقناعته باليسير من الرزق، واعتماده على الله تعالى بالتوكل عليه فى الرزق والنصر، والصبر على انتظام الفرج، والأخذ بمحاسن الأخلاق. وقوله: (ولا يدفع بالسيئة السيئة) أى: لا يسيئ إلى من أساء إليه على سبيل المجازاة المباحة ما لم تنتهك لله حرمة، لكن يأخذ بالفضل كما قال تعالى: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور (وقوله: (الملة العوجاء) المعوجة وهى ملة الكفر، فأقام الله بنبيه عوج الكفر حتى ظهر دين الإسلام، ووضحت أعلامه، وأيد الله نبيه بالصبر والأناة، والسياسة لنفوس العالمين، والتوكل على الله، وقد وصفه الله فى آخر سورة براءة بنحو هذه الصفة. وفى هذا الحديث ذم الأسواق وأهلها إذ كانوا بهذه الصفة المذمومة من الصخب واللغط والزيادة فى المديحة أو الذم لما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 254 يتبايعونه والأيمان الحانثة، وفى مثل هذا المعنى قال عليه السلام: (شر البقاع الأسواق) لما يغلب على أهلها من هذه الأحوال المذمومة. 49 - باب مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الْكَيْلِ / 72 - فيه: الْمِقْدَامِ، قَالَ عليه السَّلام: (كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ فيه) . / 73 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا فِى مُدِّهَا وَصَاعِهَا، وَحَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَدَعَوْتُ لَهَا فِى مُدِّهَا وَصَاعِهَا) . / 74 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِى مِكْيَالِهِمْ، وَبَارِكْ لَهُمْ فِى صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ، يَعْنِى أَهْلَ الْمَدِينَةِ) . الكيل مندوب إليه فيما ينفقه المرء على عياله ونَدبُ النبى أمته إليه يدل على البركة فيه. قال المهلب: ويحتمل المعنى - والله أعلم - أنهم كانوا يأكلون بلا كيل، فيزيدون فى الأكل فلا يبلغ لهم الطعام إلى المدة التى كانوا يقدرونها، فقال لهم عليه السلام: (كيلوا) أى: أخرجوا بكيل معلوم يبلغكم إلى المدة التى قدرتم مع ما وضع الله من البركة فى مد أهل المدينة بدعوته عليه السلام. فإن قيل: فما معنى قول عائشة: (كان عندى شطر شعير، نأكل منه حتى طال على فكلته ففنى) ، وهذا معارض لحديث المقدام. قال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 255 المهلب: ليس بينهما تعارض بحمد الله، ومعناه: أنها كانت تخرج قوتها بغير كيل، وهى متقوتة باليسير، فبورك لها فيه مع بركة النبى الباقية عليها وفى بيتها فلما كالته علمت المدة التى يبلغ إليها، ففنى عند انقضائها، لا أن الكيل وكد فيه أن يفنى. 50 - باب مَا يُذْكَرُ فِى بَيْعِ الطَّعَامِ وَالْحُكْرَةِ / 75 - فيه: ابْن عُمَرَ، رَأَيْتُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مُجَازَفَةً يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَبِيعُوهُ حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ. / 76 - وفيه: ابْن عَبَّاس، نَهَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ طَعَامًا حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ، قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ، وَالطَّعَامُ مُرْجَأٌ. اختلف العلماء فى بيع الطعام جزافًا قبل أن يقبض، فذهب أبو حنيفة وأصحابه والثورى والشافعى وأحمد وأبو ثور إلى أنه لا يجوز بيعه قبل قبضه وروى الوقار عن مالك مثله، وقال ابن عبد الحكم: إنه استحسان من قوله. وقالت طائفة: يجوز بيع الطعام الجزاف قبل قبضه. روى ذلك عن عثمان بن عفان، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن البصرى والحكم وحماد، وهو المشهور عن مالك، وبه قال الأوزاعى وإسحاق. وحجة القول الأول ظاهر حديث ابن عمر، وعموم نهيه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 256 عليه السلام عن بيع الطعام قبل استيفائه، فدخل فيه الجزاف والمكيل، وقد أشار ابن عباس إلى أنه إذا باعه قبل قبضه أنه دراهم بدراهم، والطعام لغو فأشبه عنده العينة، وقال الأبهرى: العينة عنده من باب سلف جر منفعة. والحجة لقول مالك ومن وافقه أن من ابتاع جزافًا فلم يبع إلا ما وقعت حاسة العين عليه، ولذلك سقط الكيل عن البائع والاستيفاء إنما يكون بالكيل أو الوزن، هذا هو المشهور عند العرب، ويشهد لذلك قوله - تعالى -: (فأوف لنا الكيل () وأوفوا الكيل إذا كلتم (وقوله: (الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون (فإنما عنى بالاستيفاء فى المكيل والموزون خاصة، وما عدا هذه الصفة فلم يبق فيه إلا التسليم، فبه يستوفى من جزاف الطعام كالعقار وشبهه. فإن قيل: لو كان كما زعمتم لم يتأكد النهى عن ذلك حتى يضرب الناس عليه، فدل على أن حكم الجزاف كحكم المكيل. فالجواب: أنهم إنما أمروا بانتقال طعامهم وإن كان جزافًا، لأنهم كانوا بالمدينة يتبايعون بالعينة، وكذلك يجب أن يؤمر بانتقال الجزاف فى كل موضع يشتهر فيه العمل بالعينة؛ ليكون حاجزًا بين دراهم بأكثر منها، كان الطعام لغوًا وكانت دراهم بأكثر منها، وقد روى عن ابن عمر أن النهى إنما ورد فى المكيل خاصة، ذكر ابن وهب قال: حدثنى عمرو بن الحارث عن المنذر بن عبيد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 257 المدينى، أن القاسم بن محمد حدثه، أن عبد الله بن عمر حدثه: (أنه عليه السلام نهى أن يبيع أحد طعامًا اشتراه بكيل حتى يستوفيه) . وفى حديث ابن عمر: (رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد النبى حتى يئووه إلى رحالهم) إباحة الحكرة؛ لأنه لو لم يجز لهم احتكاره لتقدم إليهم فى بيعه، ولم يؤذن لهم فى حبسه، هذا قول أئمة الأمصار. ورخصت طائفة لمن رفع الطعام من أرضه أو من جلبه من مكان فى جنبه، ومنعت من ذلك لمشتريه من السوق للحكرة وروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعن الحسن البصرى وبه قال الأوزاعى. وقال مالك فيمن رفع طعامًا فى ضيعته فرفعه فليس بحكرة. وقال أحمد بن حنبل: إنما يحرم احتكار الطعام الذى هو قوت دون سائر الأشياء. وقالت طائفة: احتكار الطعام فى الحرم إلحاد فيه روى هذا عن عمر بن الخطاب ومجاهد. فإن قيل: قد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لا يحتكر إلا خاطئ) من حديث سعيد بن المسيب عن معمر بن عبد الله بن نضلة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وروى عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان أنهما نهيا عن الحكرة. قيل: معنى هذا النهى عند الفقهاء فى وقت الشدة وما ينزل بالناس من الحاجة، يدل على ذلك أن ابن المسيب روى هذا الحديث وكان يحتكر الزيت، فقيل له فى ذلك، فقال: كان معمر يحتكر. وقد علما مخرج الحديث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 258 وقال أبو الزناد: قلت لابن المسيب: أنت تحتكر قال: ليس هذا بالذى قال رسول الله إنما قال: أن يأتى الرجل السلعة عند غلائها فيغالى بها وأما أن يشتريه إذا أبضع ثم يرفعه، فإذا احتاج الناس إليه أخرجه، فذلك خير، فبان أن معنى النهى عن الحكرة فى وقت حاجة الناس. روى ابن القاسم عن مالك أنه قال: من اشترى طعامًا فى قوت لا يضر بالناس شراؤه لا يضره إن تربص به ما شاء، وهو قول الكوفيين والشافعى. قال مالك: وجميع الأشياء فى ذلك كالطعام. وقال الأوزاعى: لا بأس أن يشترى فى سنة الرخص طعامًا لسنين لنفسه وعياله مخافة الغلاء قال مالك: وأما إذا قل الطعام فى السوق، فاحتاج الناس إليه، فمن احتكر منه شيئًا فهو مضر بالمسلمين، فليخرجه إلى السوق وليبعه بما ابتاعه ولا يزدد فيه، فعلى هذا القول تتفق الآثار، ألا ترى أن الناس إذا استوت حالتهم فى الحاجة، فقد صاروا شركاء، ووجب على المسلمين المواساة فى أموالهم فكيف لا يمنع الضرر عنهم وقد جمع النبى - عليه السلام الأزواد بالصهباء عند الحاجة، ونهى عن ادخار اللحوم بعد ثلاث للدافة، وجمع أبو عبيدة أزواد السرية وقسمها بين من لم يكن له زاد وبين من كان له زاد، وأمر عمر أن يحمل فى عام الرمادة على أهل كل بيت مثلهم من الفقراء، وقال: إن المرء لا يهلك عن نصف شبعه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 259 51 - باب بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ / 77 - فيه: مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ عِنْدَهُ صَرْفٌ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا، حَتَّى يَجِىءَ خَازِنُنَا مِنَ الْغَابَةِ، فقَالَ عُمَرَ: قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلا هَاءَ وَهَاءَ) . قال المؤلف: لا يجوز بيع ما ليس عندك ولا فى ملكك وضمانك من الأعيان المكيلة والموزونة والعروض كلها، لنهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك. وروى النهى عن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن عن النبى (صلى الله عليه وسلم) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومن حديث حكيم بن حزام، ولم يكن إسناده من شرط البخارى، فاستنبط معناه من حديث مالك بن أوس، وذلك أنه يدخل من باب بيع ما ليس عندك بالمعنى ما يكون فى ملكك غائبًا من الذهب والفضة، لا يجوز بيع غائب منها بناجز، وكذلك البر والتمر والشعير لا يباع شىء منها بجنسه ولا بطعام مخالف لجنسه إلا يدًا بيد، وكذلك ما كان فى معناها من سائر أنواع الطعام، لا يباع منها طعام بطعام إلا يدًا بيد، لقوله عليه السلام: (إلا هاء وهاء) ، يعنى خذ وأعط حياطة من الله - تعالى - لأصول الأموال وحرزًا لها إلا ما خصت السنة بالجواز من بيع ما ليس عندك ومن ربح ما لم يضمن وهو السلم، فجوزت فيه بيع ما ليس عندك مما يكون فى الذمة من غير الأعيان، توسعة من الله - تعالى - لعباده ورفقًا بهم. قال ابن المنذر: وبيع ما ليس عندك يحتمل معنيين: يحتمل أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 260 يقول: أبيعك عبدًا لى أو دارًا مغيبة عنى فى وقت البيع، فلعل الدار أن تتلف أو لا يرضاها، وهذا يشبه بيع الغرر، ويحتمل أن يقول: أبيعك هذه الدار بكذا على أن أشتريها لك من صاحبها، أو على أن يسلمها لك صاحبها، وهذا مفسوخ على كل حال، لأنه غرر، إذ قد يجوز أن لا يقدر على تلك السلعة، أو لا يسلمها إليه مالكها، وهذا أصح القولين عندى، لأنى لا أعلمهم يختلفون أنه يجوز أن أبيع جارية رآها المشترى ثم غابت عنى وتوارت بجدار وعقدنا البيع ثم عادت إلى، فإذا أجاز الجميع هذا البيع لم يكن فرق بين أن تغيب عنى بجدار أو تكون بينى وبينها مسافة وقت عقد البيع. وقال غيره: ومن بيع ما ليس عندك العينة، وهى ذريعة إلى دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل، كأن رجلا سأل رجلا أن يسلفه دراهم بدراهم أكثر منها فقال له: هذا لا يحل، ولكن أبيعك فى الدراهم التى سألتنى سلعة كذا ليست عندى، أبتاعها لك فبكم تشتريها منى؟ فيوافقه على الثمن يبتاعها ويسلمها إليه، فهذه العينة المكروهة، وهى بيع ما ليس عندك وبيع ما لم تقبضه، فإن وقع هذا البيع فسخ عند مالك فى مشهور مذهبه وعند جماعة العلماء، وقيل للبائع: إن أعطيت السلعة لمبتاعها منك بما اشتريتها جاز ذلك، وكأنك إنما أسلفته الثمن الذى ابتاعها به. وقد روى عن مالك أنه لا يفسخ البيع، لأن المأمور كان ضامنًا للسلعة لو هلكت. قال ابن القاسم: وأحب إلى لو تورع عن أخذ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 261 ما ازداده عليه. وقال عيسى بن دينار: بل يفسخ البيع إلا أن تفوت السلعة، فتكون فيها القيمة، وعلى هذا سائر العلماء بالحجاز والعراق. 52 - باب بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ / 78 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: أَمَّا الَّذِى نَهَى عَنْهُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَهُوَ الطَّعَامُ أَنْ يُبَاعَ حَتَّى يُقْبَضَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلا أَحْسِبُ كُلَّ شَىْءٍ إِلا مِثْلَهُ. / 79 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، قَالَ: (مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ) ، وَقَالَ مرة: (حَتَّى يَقْبِضَهُ) . أجمع العلماء أن كل ما يكال أو يوزن من الطعام كله مقتاتًا أو غير مقتات، وكذلك الإدام والملح والكسبر وزريعة الفجل الذى فيه الزيت المأكول، فلا يجوز بيع شىء منه قبل قبضه، ومعنى نهيه عليه السلام عن بيع الطعام قبل قبضه عند مالك فيما بيع منه مكيلا أو موزونًا لا فيما بيع منه جزافًا على ما تقدم ذكره قبل هذا. واختلفوا فى بيع العروض قبل قبضها، فذهب ابن عباس وجابر إلى أنه لا يجوز بيع شىء منها قبل قبضها قياسًا على الطعام، وهو قول الكوفيين والشافعى، وحملوا نهيه عليه السلام عن ربح ما لم يضمن على العموم فى كل شئ، إلا الدور والأرضين عند أبى حنيفة، فأجاز بيعها قبل قبضها، لأنها لا تنقل ولا تحول. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 262 وحمل مالك نهيه عليه السلام عن ربح ما لم يضمن على الطعام وحده، قال عيسى: سألت ابن القاسم عن ربح ما لم يضمن. فقال: ذكر مالك أن ذلك بيع الطعام قبل أن يستوفى، لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) نهى عنه فربحه حرام. وأما العروض والحيوان فربحها حلال، لأن بيعها قبل استيفائها حلال. قال ابن المنذر: والحجة لهذا القول أن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما نهى عن بيع الطعام قبل قبضه خاصة، فدل أن غير الطعام ليس كالطعام، ولو لم يكن كذلك ما كان فى تخصيص الطعام فائدة. وقد أجمعوا أن من اشترى جارية وأعتقها فى تلك الحال قبل قبضها، أن عتقه جائز وكذلك يجوز له بيعها قبل قبضها، وقال أبو ثور كقول مالك. 53 - باب إِذَا اشْتَرَى مَتَاعًا أَوْ دَابَّةً فَوَضَعَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ أَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا أَدْرَكَتِ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنَ الْمُبْتَاعِ. / 80 - فيه: عَائِشَةَ، لَقَلَّ يَوْمٌ كَانَ يَأْتِى عَلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، إِلا يَأْتِى فِيهِ بَيْتَ أَبِى بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَىِ النَّهَارِ، فَلَمَّا أُذِنَ لَهُ فِى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 263 الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ لَمْ يَرُعْنَا إِلا وَقَدْ أَتَانَا ظُهْرًا، فَخُبِّرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: مَا جَاءَنَا النَّبِىُّ عَلَيّهِ السَّلاَم فِى هَذِهِ السَّاعَةِ إِلا لأمْرٍ حَدَثَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، قَالَ لأبِى بَكْرٍ: (أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ) ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَاىَ، يَعْنِى عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ، قَالَ: (أَشَعَرْتَ أَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِى فِى الْخُرُوجِ) ، قَالَ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (الصُّحْبَةَ) ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عِنْدِى نَاقَتَيْنِ أَعْدَدْتُهُمَا لِلْخُرُوجِ، فَخُذْ إِحْدَاهُمَا قَالَ: (قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ) . اختلف العلماء فى هلاك المبيع قبل أن يقبض، فذهب أبو حنيفة والشافعى إلى أن ضمانه إن تلف من البائع، وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور: تلافه من المشترى. وفرق مالك بين الثياب والحيوان، فقال: ما كان من الثياب والطعام، وما يعاب عليه فهلك قبل القبض، فضمانه من البائع. قال ابن القاسم: لأنه لا يعرف هلاكه ولا بينة عليه، ويتهم أن يكون ندم فيه فعيبه، وأما الدواب والحيوان والعقار فضمانه من المشترى. وقال ابن حبيب: اختلف العلماء فيمن باع عبدًا واحتبسه بالثمن، وهلك فى يديه قبل أن يأتى المشترى بالثمن، وكان سعيد بن المسيب وربيعة والليث يقولون: وهو من البائع. وأخذ به ابن وهب، وكان مالك قد أخذ به أيضًا، وقال سليمان بن يسار: مضيته من المشترى سواء حبسه البائع وثيقة من الثمن أم لا. ورجع مالك إلى قول سليمان بن يسار، واحتج الكوفيون والشافعى بفساد بيع الصرف قبل القبض، فدل أنه فى ضمان البائع، قالوا: ولا خلاف أنه من اشترى طعامًا مكايلة، فهلك قبل القبض فى يد البائع، أنه من مال البائع، فكذلك ما سواه فى القياس، واحتجوا بأن النبى - عليه السلام - نهى عن بيع ما لم يقبض وربح ما لم يضمن، قالوا: ألا ترى أنه عليه السلام نهى عن بيع ما لم يقبض وربح ما لم يضمن، فكأنه نهى عن بيع ما لم يقبض؛ لأنه لم يضمن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 264 وقال ابن القصار: والحجة عليهم فى قياسهم على الصرف، بأن البيع يتم فيه بالعقد، ثم يبطل بالتفرق قبل القبض؛ لأنه عقد خص بألا يفترقا وبينهما معاملة؛ لأن سنة الصرف يدًا بيد، وهاء بهاء، لوجود الربا فى كل واحد من العوضين، وأما الطعام إذا اشترى مكايلة فإن البيع قد تم بالقول، ثم وجب على البائع حق التوفية، وهو الكيل الذى يلزمه بإجماع، وكذلك المبيع إذا كان فيه حق يوفيه من وزن أو عدد وتلف قبل القبض فضمانه من البائع، وأما احتجاجهم بنهيه عليه السلام عن بيع ما لم يقبض، فالجواب: عليه أنه نهى عن بيع ما لم يقبض إذا لم يضمن، بدليل أن المشترى لو أتلف المبيع كان ضمانه فيه بالثمن لا بالقيمة لأنه بحكم الملك أتلفه، فيجب إذا تلف المبيع من قبل الله - تعالى - أن يكون من ضمانه. قال المهلب: ووجه استدلال البخارى بحديث عائشة فى هذا الباب أن قول الرسول لأبى بكر فى الناقة: (قد أخذتها) لم يكن أخذًا باليد، ولا بحيازة شخصها، وإنما كان التزامه لابتياعها بالثمن، وإخراجها من ملك أبى بكر، لأن قوله: (قد أخذتها) يوجب أخذًا صحيحًا، وإخراجًا واجبًا للناقة من ذمة أبى بكر إلى ذمة النبى بالثمن الذى يكون عوضًا منها، فهل يكون الضياع أو التصرف بالبيع قبل القبض إلا لصاحب الذمة الضامنة لها. قال ابن المنذر: ولا مخالف لابن عمر فى الصحابة، فهو كالإجماع. قال المهلب: وفيه من الفقه: إخفاء السر فى أمر الله إذا خشى من أهل الفجر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 265 وفيه: أن أبا بكر أوثق الناس عند رسول الله، وأنه آمن الُناس عليه فى صحبته وماله؛ لأنه لم يرغب بنفسه عنه فى حضر ولا سفر، ولا استأثر بماله دونه، ألا ترى أنه أعطاه إحدى ناقتيه بلا ثمن، فأبى رسول الله إلا بالثمن، وفى استعداد أبى بكر بالناقتين دليل على أنه أفهم الناس لأمر الدين؛ لأنه أعدهما قبل أن ينزل الإذن فى الخروج من مكة إلى المدينة، كأنه قبل ذلك قد رجا أنه لا بد أن يؤذن له فأعد لذلك. وفيه: أن الافتراق الذى يتم به البيع فى قوله عليه السلام: (البيعان بالخيار ما لم يفترقا) إنما يكون بالكلام لا بالأبدان؛ لقول النبى لأبى بكر: (قد أخذتها بالثمن) قبل أن يفترقا، وتم البيع بينهما، وسيتأتى بعض معانى هذا الحديث فى كتاب اللباس فى باب التقنع، إن شاء الله. 54 - باب لا يَبِعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلا يَسُومُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ أَوْ يَتْرُكَ / 81 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لا يَبِعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ) . / 82 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، نَهَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَلا تَنَاجَشُوا، وَلا يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ. . . .) الحديث. قال أبو عبيد: كان أبو عبيدة وأبو زيد وغيرهما من أهل العلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 266 يقولون: إنما النهى فى قوله عليه السلام: (لا يبع على بيع أخيه) . إنما هو لا يشتر على شراء أخيه، فإنما وقع النهى على المشترى لا على البائع؛ لأن العرب تقول: بعت الشىء، بمعنى اشتريته، قال أبو عبيد: وليس للحديث عندى وجه غير هذا؛ لأن البائع لا يكاد يدخل على البائع، هذا قليل فى معاملة الناس، وإنما المعروف أن يعطى الرجل الرجل بسلعته شيئًا فيجىء مشترٍ آخر فيزيد عليه، ومما يبين ذلك أنهم كانوا يتبايعون فى مغازيهم فيمن يزيد، فالمعنى هاهنا للمشترى، ومنه النهى عن الخطبة على خطبة أخيه كما نهى عن البيع، بعد علمنا أن الخاطب هو الطالب بمنزلة المشترى، وقد فسره مالك فى الموطأ بنحو هذا، قال مالك: وتفسير قوله عليه السلام: (لا يبع بعضكم على بيع بعض) إنما نهى أن يسوم الرجل على سوم أخيه إذا ركن البائع للمشترى، وجعل يشترط وزن الذهب، ويتبرأ من العيوب وشبه هذا مما نعرف به أن البائع قد أراد مبايعة السائم، فهذا الذى نهى عنه - والله أعلم - ونحوه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقال الشافعى مثله فى قوله عليه السلام: (لا يسوم الرجل على سوم أخيه) ، وخالفهم فى قوله: (لا يبع على بيع أخيه) . فقال: معناه: أن يبتاع سلعة فيقبضها وهو مغتبط بها، فيأتيه قبل الافتراق من يعرض عليه سلعة خيرًا منها بأقل من ذلك الثمن، وهذا فساد، وقال الثورى نحوه. والفقهاء كلهم يكرهون أن يسوم على سوم أخيه بعد السكون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 267 والرضا، والبيع عندهم مع ذلك صحيح؛ لأن سوم المساوم لم يتم به عقد البيع، كان لكل واحد منهما أن لا يتمه إن شاء، وأهل الظاهر يفسخونه، وقد روى عن مالك وعن بعض أصحابه فسخه ما لم يفت وفسخ النكاح ما لم يفت بالدخول، وأنكر ابن الماجشون أن يكون مالك قاله فى البيع، وقال: إنما قاله فى الخطبة. واختلفوا فى دخول الذمى فى معنى قوله: (لا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا يسم على سوم أخيه) فقال الأوزاعى: لا بأس بدخول المسلم على الذمى فى سومه؛ لأن النبى إنما خاطب المسلمين بذلك، فلا يدخل فيه غيرهم. وقال مالك والثورى وأبو حنيفة والشافعى: لا يجوز أن يبيع المسلم على بيع الذمى، وحجتهم أنه كما دخل الذمى فى النهى عن النجش، وعن ربح ما لم يضمن، وفى الشفعة وغيرها مما الذمى فيه تبع للمسلم، فكذلك يدخل فى هذا، وقد يقال: هذا طريق المسلمين، ولا يمنع ذلك من سلوك أهل الذمة فيه. وقد أجمع العلماء على كراهة سوم الذمى على سوم الذمى، يدل أنهم داخلون فى ذلك - والله أعلم. 55 - باب بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ وَقَالَ عَطَاءٌ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ لا يَرَوْنَ بَأْسًا بِبَيْعِ الْمَغَانِمِ فِيمَنْ يَزِيدُ. / 83 - فيه: جَابِر، أَنَّ رَجُلا أَعْتَقَ غُلامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَاحْتَاجَ، فَأَخَذَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّى) ؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بِكَذَا وَكَذَا، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 268 اختلف الفقهاء فى بيع المزايدة، فأجازها مالك والكوفيون والشافعى وأحمد، وكان الأوزاعى يكره المزايدة إلا فى المغانم والمواريث، وهو قول إسحاق. وروى عن أبى أيوب وعقبة بن عامر كراهية الزيادة، وعن إبراهيم النخعى أنه كره بيع من يزيد، واحتج مالك لقوله: لا بأس بالسلعة، توقف للبيع فيسوم بها غير واحد، قال: ولو ترك الناس السوم عند أول من يسوم بها، أُخذت بشبه الباطل من الثمن، ودخل على الباعة فى سلعهم المكروه، ولم يزل الأمر عندنا على ذلك. وحديث جابر حجة على من كره ذلك؛ لأنه عليه السلام قال فى المدبر: (من يشتريه منى؟) فعرضه للزيادة، وأحب أن يستقصى فيه للمفلس الذى باعه عليه، وهذا الحديث يفسر نهيه عليه السلام أن يسوم الرجل على سوم أخيه، أو يبيع على بيع أخيه، أنه أراد بذلك إذا تقاربا من تمام البيع كما قال جمهور الفقهاء، وعلى هذا المعنى حمل العلماء ما روى عن أبى أيوب وعقبة بن عامر أن ذلك بعدما رضى البائع ببيعه الأول. 56 - باب النَّجْشِ ومن قال لا يجوز ذلك البيع وَقَالَ ابْنُ أَبِى أَوْفَى: النَّاجِشُ آكِلُ رِبًا خَائِنٌ، وَهُوَ خِدَاعٌ بَاطِلٌ، لا يَحِلُّ. قَالَ عليه السَّلام: (الْخَدِيعَةُ فِى النَّارِ، وَمَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ) . / 84 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنِ النَّجْشِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 269 قال ابن الأنبارى: النجش: أن يزيد الرجل فى ثمن السلعة، وهو لا يريد شراءها، ولكن ليسمعه غيره فيزيد بزيادته. وذكر مثله صاحب العين، وقال أبو عبيد: النجش: استثارة الشىء، والنجاشى والناجش: الذى ينجش الشىء نجشاُ فيستخرجه. وقال بعضهم: النجش: أن ينفر الناس عن الشىء إلى غيره قال وأصل: النجش: تنفير الوحش من مكان إلى مكان. وذكره ابن الأنبارى وذكر عن ابن عباس أنه قال: نجاشوا سوق الطعام من هذا أخذوا. وذكر أيضا عن الأصمعى أن النجش: مدح الشىء وإطراؤه، وأنشد النابغة الشيبانى: ويعدى كرمها عند النجش وأجمع العلماء أن الناجش عاص بفعله. واختلفوا فى البيع إذا وقع على ذلك، فذهب أهل الظاهر إلى أن البيع فى النجش مفسوخ، لأنه طابق النهى ففسد، وقال مالك المشترى بالخيار، وهو عيب من العيوب، وحجته أن النبى - عليه السلام - نهى عن التصرية، ثم جعل المشترى بالخيار إذا علم أنها مصراة، ولم يقض بفساد البيع، ومعلوم أن التصرية غش وخديعة، فكذلك النجش يصح فيه البيع، ويكون المشترى بالخيار. وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعى: البيع فى النجش لازم، ولا خيار للمبتاع فى ذلك، لأنه ليس بعيب فى نفس البيع، وإنما هى خديعة فى الثمن، وقد كان على المشترى أن يتحفظ ويحضر من يميز الجزء: 6 ¦ الصفحة: 270 إن لم يكن ممن يميز، وقول مالك أعدل الأقوال فى ذلك وأولاها بالصواب. 57 - باب بَيْعِ الْغَرَرِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ / 85 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَكَانَ بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ، ثُمَّ تُنْتَجُ الَّتِى فِى بَطْنِهَا. قال مالك: هذا الحديث أصل فى النهى عن البيوع إلى الآجال المجهولة، لقوله: (إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التى فى بطنها) ، واختلف العلماء فى معنى نهيه عليه السلام عن بيع حبل الحبلة، فقال مثل قول مالك الشافعى، ولا خلاف بين الأمة أن البيع إلى مثل هذا الأجل المجهول غرر لا يجوز، وإنما يجوز إلى أجل معلوم، لأن الله قد جعل الأهلة مواقيت للناس والحج، وهى معلومة، فما كان من الآجال لا يختلف، ولا يجهل وقته فجائز البيع إليه بإجماع. وقال آخرون: معنى بيع حبل الحبلة: هو النهى عن بيع الجنين فى بطن أمه، فلا يجوز بيع ما لم يخلق، ولا بيع ما لا تقع عليه العين، ولا يحيط به العلم. هذا قول أحمد وإسحاق وأبى عبيد. قال ابن المنذر: فأى ذلك كان فالبيع فيه باطل من وجوه، وكذلك يبطل كل ما كان فى معناه مما يحتمل أن يكون موجودًا أو غير موجود، وهذا كله من أكل المال بالباطل، وقد نهى الله عن ذلك. فإن قيل: فقد ذكر الطبرى عن ابن عون، عن ابن سيرين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 271 قال: لا أعلم ببيع الغرر بأسًا. وذكر ابن المنذر عن ابن سيرين قال: لا بأس ببيع العبد الآبق إذا كان علمهما فيه واحد، وحكى مثله عن شريح، وذكر عن ابن عمر أنه اشترى من بعض ولده بعيرًا شاردًا. فالجواب: أن الغرر هو ما يجوز أن يوجد وأن لا يوجد كحبل الحبلة وشبهه، وكل شىء لا يعلم المشترى هل يحصل له أم لا، فشراؤه غير جائز، لأنه غرر، وكل شىء حاصل للمشترى أو يعلم فى الغالب أنه يحصل له فشراؤه جائز، هذا أصل البيوع، إذا كان الغرر فيها الغالب لم يجز، وإذا كان يسيرًا تبعًا جاز، لأنها لا تخلو منه، ولو منع البيع حتى لا يكون فيه غرر وإن قل لأضر ذلك بالناس، وقد منع رسول الله بيع الثمرة قبل بدو صلاحها على التبقية، ولو بدا صلاحها جاز بيعها على التبقية لأن الغرر قد قل فيها. فإن قيل: يحتمل قول ابن سيرين: أنه لا بأس ببيع الغرر إن سلم. فالجواب: أن السلامة وإن كانت فإنما هى فى المال، والمال لا يراعى فى البيوع فى الأكثر من مذاهب أهل العلم، وإنما تراعى السلامة فى حال عقد البيع، وقد ذكرنا أن الغرر هو ما يجوز أن يوجد وألا يوجد، وهذا المعنى موجود فى عقد الغرر وإن سلم ماله، فلذلك لم يجز، وقد يمكن أن يكون ابن سيرين ومن أجاز بيع الغرر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 272 لم يبلغهم نهى النبى - عليه السلام - عن ذلك، ولا حجة لأحد خالف السنة. 58 - باب بَيْعِ الْمُلامَسَةِ قَالَ أَنَسٌ: نَهَى النَّبِىُّ عليه السَّلام عَنْهُ / 86 - فيه: أَبُو سَعِيد، نَهَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَنِ الْمُنَابَذَةِ، وَهِىَ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالْبَيْعِ إِلَى الرَّجُلِ قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ، أَوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَنَهَى عَنِ الْمُلامَسَةِ، وَالْمُلامَسَةُ لَمْسُ الثَّوْبِ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِ. / 87 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، نُهِىَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ اللِّمَاسِ وَالنِّبَاذِ. وترجم له (باب بيع المنابذة) . لا يجوز بيع الملامسة والمنابذة عند جماعة العلماء، وهو من بيع الغرر والقمار، لأنه إذا لم يتأمل ما اشتراه ولا علم صفته فلا يدرى حقيقته، وهو من أكل المال بالباطل، وكان مالك يقول: المنابذة أن ينبذ الرجل ثوبه وينبذ الآخر إليه ثوبه على غير تأمل منهما، ويقول كل واحد منهما لصاحبه: هذا بهذا. ومن هذا الباب بيع الشىء الغائب واختلف العلماء فى ذلك، وقال مالك: لا يجوز بيع الغائب حتى يتواصفا فإن وجد على الصفة لزم المشترى، ولا خيار له إذا رآه، وإن كان على غير الصفة فله الخيار. وهو قول أحمد وإسحاق وأبى ثور والمروزى، وروى مثله عن محمد بن سيرين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 273 وقال أبو حنيفة وأصحابه والثورى: يجوز بيع الغائب على الصفة وغير الصفة، وللمشترى خيار الرؤية إن وجده على الصفة. وروى مثله عن ابن عباس والشعبى والنخى والحسن البصرى. وللشافعى قولان: أحدهما كقول أبى حنيفة. والثانى: لا يجوز شراء الأعيان الغائبة. وهو قول الحكم وحماد، واحتج الشافعى بأن مالكًا لم يجز بيع الثوب المدرج فى جرابه ولا الثوب المطوى فى طيه حتى ينشر أو ينظر إلى ما فى جوفهما، وذلك من الغرر، وأجاز بيع الأعدال على الصفة والبرنامج، فأجاز الغرر الكثير ومنع اليسير، فيقال له: قد سئل مالك عن هذا فقال: فرق ما بين ذلك الأمر المعمول به وما مضى من عمل الماضين أن بيع البرنامج لم يزل من بيوع الناس الجائزة بينهم، وأنه لا يراد به الغرر ولا يشبه الملامسة. واحتج الكوفيون فى جواز بيع ما لم ير بأن النبى - عليه السلام - نهى عن بيع الحب حتى يشتد، فدل ذلك على إباحة بيعه بعدما يشتد، وهو فى سنبله؛ لأنه لو لم يكن كذلك لقال: حتى يشتد ويزال من سنبله، فلما جعل الغاية فى النهى عنه هى شدته ويبوسته، دل على أن البيع بعد ذلك بخلاف ما كان عليه فى أول مرة، ودل ذلك على جواز بيع ما لا يراه المتبايعان إذا كانا يرجعان منه إلى معلوم، كما يرجع فى الحنطة المبيعة المغيبة فى السنبل إلى حنطة معلومة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 274 واحتجوا أيضًا بأن الصحابة تبايعوا الأشياء الغائبة، فباع عثمان من طلحة دارًا بالكوفة بدار بالبصرة، وباع عثمان من عبد الرحمن فرسًا بأرض له، وباع ابن عمر من عثمان مالا له بالوادى بمال له بخيبر، وليس فى الأحاديث عنهم صفة شىء من ذلك. واحتج أهل المقالة الأولى أن قالوا: إن تبايع الصحابة للأشياء الغائبة محمول إما على الصفة، وإما على خيار الرؤية، وفى الخبر أن عثمان قيل له: غُبنِت. فقال: لا أبالى، لى الخيار إذا رأيت. فترافعا إلى جبير بن مطعم فقضى بالبيع، وجعل الخيار لعثمان لأجل الغبن. قالوا: وقد صحت الأخبار بنهيه عليه السلام عن بيع الملامسة والمنابذة، وإنما كان سبب بطلان ذلك أن المبيع كان يدخل فى ملك المبتاع قبل تأمله إياه ووقوفه على صفته، فكل ما اشترى كذلك من غير صفة ولا رؤية فحكمه حكم بيع الملامسة والمنابذة. وإما قول الشافعى: إن البيع على الصفة وبيع البرنامج من بيوع الغرر. فالجواب عنه: أن الصفة تقوم مقام المعاينة؛ لأن العلم يقع بحاسة السمع والشم والذوق كما يقع بحاسة العين. وقد أجاز الجميع بيع الطعام المصبر، والجوز فى قشره، والحب فى سنبله للحاجة إلى ذلك؛ ولأن القصد لم يكن إلى الغرر، فكذلك يجوز بيع الأعدال على الصفة والبرنامج لضرورة الناس إلى البيع لأنهم لو منعوا منه منعوا من وجه يرتفقون به من فتح الأعدال ونشرها؛ لمشقة ذلك عليهم، فإنه قد لا يشتريها من يراها، فجاز بيعها على الصفة؛ لأنها تقوم مقام العيان، كما تقوم فى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 275 السلم، وجواز بيعه كجواز بيع العين، وليس الأعدال كالثواب الواحد المطوى أو الثوبين؛ لأن نشرهما وطيهما لا مؤنة فيه ولا ضرر، وقد قال عليه السلام: (لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها) ، فأقام الصفة مقام الرؤية. 59 - بَاب النَّهْىِ لِلْبَائِعِ أَنْ لاَ يُحَفِّلَ الإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَكُلَّ مُحَفَّلَةٍ وَالْمُصَرَّاةُ الَّتِى صُرِّىَ لَبَنُهَا وَحُقِنَ فِيهِ وَجُمِعَ فَلَمْ يُحْلَبْ أَيَّامًا، وَأَصْلُ التَّصْرِيَةِ حَبْسُ الْمَاءِ يُقَالُ مِنْهُ صَرَّيْتُ الْمَاءَ إِذَا حَبَسْتَهُ / 88 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (لاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ) . وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلاَثًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ ثَلاَثًا، وَالتَّمْرُ أَكْثَرُ. قال المهلب: هذا الحديث أصل فى الرد بالعيب والدلسة؛ لأن اللبن إذا حبس فى ضرعها أيامًا فلم تحلب، ظن المشترى أنها هكذا كل يوم، فاغتر به، وقد روى أبو الضحى عن مسروق قال ابن مسعود: (أشهد على الصادق المصدوق أبى القاسم صلى الله عليه أنه قال: بيع المحفلات خلابة، ولا تحل خلابة مسلم) ، وقال بحديث المصراة جمهور العلماء، منهم: ابن أبى ليلى ومالك والليث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 276 وأبو يوسف والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، قالوا: إذا بان لمشتريها أنها مصراة ردها بعد الثلاث، ورد معها صاعًا من تمر، ورد أبو حنيفة ومحمد الحديث وقالا: ليس له أن يردها بالعيب، ولكنه يرجع على البائع بنقصان العيب، قالوا: لأنه لو ابتاع شيئًا به عيب فإنما يأخذ الأرش ولا خيار له فى الرد البتة، ألا ترى لو ابتاع عبدًا فقطعت يده عند المشترى، ثم ظهر على عيب كان عند البائع لم يكن له رد العبد، وإنما يأخذ الأرش بقدر العيب. وزعموا أن حديث المصراة منسوخ بحديث الغلة بالضمان، قالوا: ومعلوم أن اللبن المحلوب فى المرة الأولى هو لبن التصرية، وقد خالطه جزء من اللبن الحادث فى ملك المبتاع، وكذلك المرة الثانية والثالثة غلة طارئة فى ملك المشترى، فكيف يرد له شيئًا؟ قالوا: فالأصول المجتمع عليها فى المستهلكات أنها لا تضمن إلا بالمثل أو بالقيمة من الذهب أو الورق، فكيف يجوز أن يضمن لبن التصرية الذى هو فى ملك البائع فى حين البيع بصاع تمر فات عند المشترى أو لم يفت، وقد وقعت عليه الصفقة كما وقعت على الشاة، فيكون صاعًا دينًا بلبن دين، وهذا يبين أن حديث المصراة منسوخ بتحريم الرباء؛ لأن النبى - عليه السلام - جعل الطعام بالطعام ربًا إلا هاء وهاء. قال المهلب: وما ادعوه من نسخ حديث المصراة فباطل، والصاع المردود إنما هو عبادة، وتحلل من اللبن الذى صرى الذى وقعت عليه الصفقة، وما حدث بعده من اللبن فهو للمشترى بالضمان، ولبن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 277 التصرية لم يبعه صاحب الشاة على أنه مصرى، وإنما باعه على أنه غلة حادثة فى الحلاب، فليس له فى الحقيقة رجوع بقيمته، ولا أخذ عوض فيه؛ لأنه لم تكن نيته عند البيع أن يأخذ فيه عوضًا، ولا أنه مبيع، فلما ظهر العيب بالاختبار علم أنه عين قائمة باعه مع الشاة على أنه غلة وهو غيرها، فأمر بالصاع على وجه التحلل. قال غيره: وأجمع العلماء على أنه إذا ردها بعيب التصرية لم يرد اللبن الحادث فى ملكه، ولم يجز أن يرد لبنا مثل لبن التصرية، لأنه لا يعلم مقداره، وإذا لم يعلم ذلك دخله بيع اللبن باللبن متفاضلا والى أجل، وذلك لا يجوز، ولما كان لبن التصرية مغيبًا لا يعلم مقداره، لأن لبن ناقة أو بقرة أكثر من لبن شاة، وأمكن التداعى فى قيمته، قطع النبى الخصومة فى ذلك بما حده من الصاع، كما فعل فى دية الجنين، قطع فيه بالغرة حسمًا لتداعى الموت فيه والحياة، لأن الجنين لما أمكن أن يكون حيا فى حين ضرب بطن أمه، فتكون فيه دية كاملة، وأمكن أن يكون ميتًا فلا تكون فيه دية كاملة، قطع النبى - عليه السلام - التنازع والخصام بأن جعل فيه غرة عبدًا أو أمة وفى اتفاق العلماء على القول بدية الجنين دليل على أن لزوم القول بحديث المصراة اتباعًا للسنة وتسليمًا لها، ومما يشهد لصحة هذا التأويل أنها لو كانت عشر شياه أو أكثر لما رد معها إلا صاعًا واحداُ كما يرد عن الواحدة فثبت أنه ليس على سبيل القيمة والمماثلة، وإنما هو على سبيل التحليل. قال ابن القصار: وأما قولهم فى العبد تقطع يده عند المشترى ثم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 278 يظهر على عيب أنه لا يرده، ويأخذ أرش العيب. فمذهب مالك أن المشترى بالخيار فى أن يتمسك ويأخذ أرش العيب الذى كان عند البائع، أو يرده ومعه أرش العيب الذى عنده، وهذا أصلنا، ولا يمنع حدوث العيب من الرد، كما لو اشترى العدل من المتاع ثم نشره له، ثم ظهر على عيب أنه يرده كله وكذلك يرد البيضة إذا كسرت وفيها العيب، ولو اشترى عبدين من رجل فمات أحدهما، ووجد بالآخر عيبًا فإنه يرد العبد الباقى، ومع هذا فإنه قد دخل النقص فى المبيع بموت الآخر. وقولهم: إن التمر ليس من جنس اللبن. فنقول: إن الأصول على ضربين: مضمون بالمثل، ومضمون بالقيمة، ثم لما جاز أن يكون المضمون بالقيمة غير مضمون بالقيمة فى موضع، كذلك يجوز أن يكون المضمون بالمثل غير مضمون بجنسه، ألا ترى أن الجنين فيه غرة عبد أو أمة، وليست مثلا له ولا قيمة، وأيضاُ فإن الشىء المكيل لا يكون مضمونا بالمثل والجنس إلا فى المواضع التى يمكن اعتبار ذلك فيها فأما الموضع الذى لا يمكن اعتبار مثله، فإنه يجوز أن يضمن بغير مثله، ألا ترى أننا قد اتفقنا على أن اللبن المضمون بمثله إذا تلف عليه فى وعاء أنه يمكن اعتبار المثل فيه، ثم لو أتلف عليه شاة لبونًا جعلنا بإزاء ذلك اللبن الذى أتلف فى ضرعها زيادة قيمة فيها، ولم يضمنه بالمثل إذ لا يمكن اعتباره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 279 قال غيره: فى حديث المصراة دلالة على أن من اشترى نخلا وفيها نخل قد أبر، أو أمة حاملا، فأكل التمر أو هلك الابن ثم رد النخل أو الأمة بعيب، أنه يرد قيمة المبيع معها، لأنه قد وقع له حصة من الثمن، كما فعل النبى بالمصراة، وهو قول ابن القاسم، وخالفه أشهب فى التمرة، وقال: التمرة للمشترى بالضمان، وقول ابن القاسم يشهد له الحديث. وقال أبو عبيد: أصل التصرية حبس الماء وجمعه، يقال: منه صريت الماء وصريته. قال الزبيدى: الكلمة من الثلاثى المعتل اللام من صرى يصرى: إذا جمع وقد غلط أبو على البغدادى فذكره فى باب الثنائى المضاعف وأنشد الفراء: رأت غلامًا قد صرى فى فقرته ماء الشباب عنفوان تحرته قال المؤلف: أى: جمع الماء فى ظهره قال أبو عبيد: ويقال: إنما سميت المصراة كأنها مياه اجتمعت. قال المؤلف: فينبغى أن يكون لا تصروا: بضم التاء وفتح الصاد، كما تقول: ربيت، فهى مرباة، ولا يجوز أن تقول: لا تصروا بفتح التاء وضم الصاد، وإنما كان يجوز ذلك إذا قيل للشاة: مصرورة، واختلف فى لفظه عن مالك، فقيل هكذا، وقيل: لا تصروا. قال أبو عبيد: المحفلة: هى المصراة بعينها، وإنما سميت محفلة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 280 لأن اللبن حفل فى ضرعها واجتمع وكل شىء كثرته فقد حفلته، يقال: قد احتفل القوم: إذا اجتمعوا، ولهذا سمى محفل القوم، وجمع المحفل: محافل، وذكر النبى الإبل والغنم فى حديث المصراة، ويدخل فى ذلك البقر بالمعنى، هذا قول مالك. 60 - بَاب إِنْ شَاءَ رَدَّ الْمُصَرَّاةَ وَفِى حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ / 89 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَنِ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً فَاحْتَلَبَهَا، فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا فَفِى حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ. اختلف العلماء فيما يرد مع المصراة، فذهب الليث والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور إلى أنه لا يرد معها إلا صاعًا من تمر لا من بر ولا غيره على ظاهر الحديث، واحتجوا أيضًا بحديث هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبى هريرة، أن النبى - عليه السلام - قال: (يرد المصراة صاعًا من تمر لا سمراء) ، وقال مالك: يرد مع المصراة صاعًا من قوت بلده تمرًا كان أو برًا أو غيره، وحجته أن النبى - عليه السلام - إنما جعل التمر فى حديث المصراة؛ لأنه كان عيشهم، فوجب أن يخرج كل واحد من قوته. وقال ابن أبى ليلى وأبو يوسف: يرد مع الشاة قيمة صاع من تمر. وقال زفر: يرد صاعًا من تمر أو نصف صاع من بر. وقال غيره: لا يرد غير التمر. ويجىء على أصله أن التمر إذا عدم وجب رد قيمته لا قيمة اللبن. وقال عيس بن دينار: لو حلبها مرة وثانية فنقص لبنها ردها ورد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 281 معها صاعًا من تمر لحلبته الأولى، ولو جاء باللبن بعينه كما حلبه لم يقبل منه، ولزمه غرم الصاع؛ لأن الصاع قد وجب عليه فليس عليه أن يعطى فيه لبنًا فيدخله بيع الطعام قبل يسُتوفى، وأجاز ذلك سحنون وقال: هى إقالة إذا جاء باللبن بعينه؛ لحدثان ذلك. وقال عيسى بن دينار: من اشترى عدة محفلات فى صفقة، فإنما يرد عن الجميع صاعًا واحدًا على ظاهر قوله: (من اشترى غنمًا مصراة ففى حلبتها صاع من تمر) على هذا عامة العلماء، وحكى عن بعض المتأخرين أنه يرد صاعًا عن كل واحدة، والذى عليه الجماعة أولى بدليل هذا الحديث. 61 - بَاب بَيْعِ الْعَبْدِ الزَّانِى وَقَالَ شُرَيْحٌ: إِنْ شَاءَ رَدَّ مِنَ الزِّنَا . / 90 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبىُّ، عليه السَّلام: (إِذَا زَنَتِ الأَمَةُ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا وَلاَ يُثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا، وَلاَ يُثَرِّبْ ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَلْيَبِعْهَا، وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ) . / 91 - وَقَالَ مرة: إِنَّ النَّبِى، عليه السَّلام، سُئِلَ عَنِ الأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصِنْ، قَالَ: (إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَبِيعُوهَا، وَلَوْ بِضَفِيرٍ) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لاَ أَدْرِى بَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ. قال المهلب: فقه هذا الحديث على بيع العبد الزانى والندب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 282 إلى مباعدة الزانية، وقوله: (ولو بحبل من شعر) معناه المبالغة فى التزهيد فيها، وليس هذا من وجه إضاعة المال؛ لأن أهل المعاصى مأمور بقطعهم ومنابذتهم. وقوله: (ثم إن زنت الثالثة فبيعوها) ولم يذكر الحد اكتفاء بما تقدم من تقرر الحد ووجوبه، وقد قال تعالى: (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب (يعنى: الجلد؛ لأن الرجم لا يتنصف، وإحصان الأمة إسلامها عند مالك والكوفيين والشافعى وجماعة. قوله: (ولا يثرب) أى لا يلومن ولا يعددن بعد الجلد، ويؤيد هذا أن توبة كعب بن مالك ومن فر يوم حنين حين تاب الله عليهم كانت شرفًا لهم، ولم تكن لهم ملامة، فبان بهذا أن اللوم والتثريب لا يكون إلا قبل التوبة أو الحد وأوجب أهل الظاهر بيع الأمة إذا زنت الرابعة وجلدت، والأمة كلها على خلافهم، وكفى بقولهم جهلا خلاف الأمة له. اختلف العلماء فى العبد إذا زنى، هل الزنا عيب يجب الرد به أم لا؟ فقال مالك: الزنا عيب فى العبد والأمة. وهو قول أحمد وإسحاق وأبى ثور. وقال الشافعى: كل ما ينقص من الثمن فهو عيب. وقال الكوفيون: الزنا فى الأمة عيب؛ لأنها تستولد وليس بعيب فى الغلام، وذلك ولد الزنا عيب يرد به. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 283 وقال مالك: إذا كانت الجارية ولد زنا فهو عيب، وإنما جعل الزنا عيب؛ لأنه ربما بلغ الحد به مبلغ تلف النفس، وان المنايا قد تكون من القليل والكثير، وإذا صح أنه عيب وجب على البائع أن يبينه، فإذا رضى به المبتاع صح البيع كسائر العيوب، وإذا لم يبينه كان للمبتاع رده إن شاء. فان قيل: فما معنى أمره عليه السلام ببيع الأمة الزانية والذى يشتريها يلزمه من اجتنابها ومباعدتها ما يلزم البائع. قيل: إن فائدة ذلك - والله أعلم - المبالغة فى تقبيح فعلها، والإعلام أن الأمة الزانية لا جزاء لها إلا البيع أبدًا، وأنها لا بقاء لها عند سيد، وذلك زجر لها عند معاودة الزنا، وأدب بالغ. 62 - بَاب الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَعَ النِّسَاءِ / 92 - فيه: عَائِشَة، دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَذَكَرْتُ لَهُ، فَقَالَ لها رَسُولُ اللَّه: (اشْتَرِى وَأَعْتِقِى، فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) . / 93 - وَقَالَ ابْن عُمَرَ: أَنَّ عَائِشَةَ سَاوَمَتْ بَرِيرَةَ، فَخَرَجَ النَّبِىّ إِلَى الصَّلاَةِ، فَلَمَّا جَاءَ، قَالَتْ: إِنَّهُمْ أَبَوْا أَنْ يَبِيعُوهَا إِلاَ أَنْ يَشْتَرِطُوا الْوَلاَءَ، فَقَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) . والأمة مجمعة على أن المرأة إذا كانت مالكة أمر نفسها جاز لها أمرها أن تبيع وتشترى، وليس لزوجها عليها فى ذلك اعتراض، فإن كان فى البيع محاباة قصدت إليها، فالمحاباة كالعطية. وقد اختلف العلماء فى عطية المرأة بغير إذن زوجها، وهو مذكور الجزء: 6 ¦ الصفحة: 284 فى كتاب الزكاة فى حديث ابن عباس حين أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) النساء بالصدقة يوم العيد، فأغنى عن إعادته. 63 - بَاب هَلْ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِغَيْرِ أَجْرٍ وَهَلْ يُعِينُهُ أَوْ يَنْصَحُهُ؟ وَقَالَ عليه السَّلام: (إِذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَنْصَحْ لَهُ) . وَرَخَّصَ فِيهِ عَطَاءٌ. / 94 - فيه: جَرِير، بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَ اللَّهُ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. مختصرًا. / 95 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ عليه السَّلام: (لاَ تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ، وَلاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ) ، فَقُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: مَا قَوْلُهُ: (لاَ يَبِعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ) ؟ قَالَ: لاَ يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا. نهى النبى أن يبيع حاضر لباد عند العلماء أريد به نفع أهل الحضر، لما روى سفيان عن أبى الزبير، عن جابر أن النبى عليه السلام، قال: (لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) . قال الطحاوى: فعلمنا من هذا أن الحاضر إنما نهى أن يبيع للبادى لأن الحاضر يعلم أسعار الأسواق، فيستقصى على الحاضرين فلا يكون لهم فى ذلك ربح، وإذا باعهم أعرابى على غرته وجهله بأسعار الأسواق ربح عليه الحاضرون، فأمر النبى أن يخلى بين الأعراب والحاضرين فى البيوع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 285 واختلف العلماء فى ذلك، فأخذ قوم بظاهر الحديث، كرهوا أن يبيع الحاضر للبادى، روى ذلك عن أنس وأبى هريرة وابن عمر، وهو قول مالك والليث والشافعى. ورخص فى ذلك آخرون، روى ذلك عن عطاء ومجاهد، وقال مجاهد: إنما نهى رسول الله عن ذلك فى زمانه، فأما اليوم فلا. وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، وقالوا: قد عارض هذا الحديث قوله عليه السلام: (الدين النصيحة) لكل مسلم. فيقال لهم: (الدين النصيحة) عام، و (لا يبع حاضر لباد) خاص، والخاص يقضى على العام؛ لأن الخصوص استثناء، كأنه قال عليه السلام: الدين النصيحة إلا أنه لا يبع حاضر لباء. فيستعملان جميعًا، فيستعمل العام منهما فيما عدا الخاص. وقال مالك فى تفسير الحديث: لا أرى أن يبيع الحاضر للبادى ولا لأهل القرى، وأما أهل المدن من أهل الريف فليس بالبيع لهم بأس إلا من كان منهم يشبه أهل البادية فإنى لا أحب أن يبيع لهم حاضر، وقال فى البدوى يقدم المدينة فيسأل الحاضر عن السعر: أكره أن يخبره. وقال مرة أخرى: لا بأس أن يشير عليه. روى عنه ابن القاسم القولين جميعًا. وقال ابن المنذر: قد تأول قوم نهيه عليه السلام أن يبيع حاضر لباد على وجه التأديب لا على معنى التحريم؛ لقوله عليه السلام: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) قال: وليس يبين عندى أن هذا الكلام يدل على أنه نهى تأديب، بل هو عندى على الحظر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 286 واختلفوا هل يفسخ البيع، فروى عيسى عن ابن القاسم أنه يفسخ، فإن فات فلا شىء عليه، وروى سحنون عنه أنه يمضى البيع، وهو قول ابن وهب والشافعى. واحتج الشافعى على جواز البيع بقوله عليه السلام: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) ولم يقع الفساد فى ثمن ولا مثمون ولا فى عقد البيع، فلا ينبغى فسخه. 64 - بَاب مَنْ كَرِهَ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِأَجْرٍ، وَبَهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ / 96 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: نَهَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ. أراد البخارى فى هذا الباب والذى قبله أن يجيز بيع الحاضر للباد بغير أجر، ويمنعه إذا كان بأجر، واستدل على ذلك بقول ابن عباس: لا يكون له سمسارًا. فكأنه أجاز ذلك لغير السمسار إذا كان ذلك من طريق النصح للمسلم وقد أجاز الأوزاعى أن يشير الحاضر على البادى، وقال: ليست الإشارة بيعًا. وقد روى عن مالك الرخصة فى الإشارة عليه، وقال الليث: لا يشير عليه؛ لأنه إذا أشار عليه فقد باع له، ولم يراع الفقهاء فى السمسار أجرًا ولا غيره، والناس فى تأويل هذا الحديث على قولين: فمن كره بيع الحاضر للباد كره بأجر وغير أجر، ومن أجازه أجازه بأجر وغير أجر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 287 65 - بَاب لاَ يَشْتَرِى حَاضِرٌ لِبَادٍ بِالسَّمْسَرَةِ وَكَرِهَهُ ابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِى. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ الْعَرَبَ يقولون: بِعْ لِى ثَوْبًا وَهِىَ تَعْنِى الشِّرَاءَ. / 97 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ) . اختلف العلماء فى شراء الحاضر للبادى، فكرهته طائفة كما كرهت البيع له، واحتجوا بأن البيع فى اللغة يقع على الشراء، كما يقع الشراء على البيع؛ لقول الله: (وشروه بثمن بخس (يعنى باعوه، وهو من الأضداد، وروى ذلك عن أنس. وأجازت طائفة الشراء لهم، وقالوا: إن النهى إنما جاء فى البيع خاصة ولم يعدوا ظاهر اللفظ، روى ذلك عن الحسن البصرى. واختلف قول مالك فى ذلك، فمرة قال: لا يشترى له ولا يشير عليه، ومرة أجاز الشراء له. وبهذا قال الليث والشافعى. واحتج الشافعى لجواز الشراء له بقوله عليه السلام: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) . 66 - بَاب النَّهْىِ عَنْ تَلَقِّى الرُّكْبَانِ، وَبَيْعَهُ مَرْدُودٌ لأَنَّ صَاحِبَهُ عَاصٍ آثِمٌ إِذَا كَانَ بِهِ عَالِمًا، وَهُوَ خِدَاعٌ فِى الْبَيْعِ وَالْخِدَاعُ لاَ يَجُوزُ / 98 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنِ التَّلَقِّى، وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ. وَقَالَ طَاوُس: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عن مَعْنَى قَوْلِهِ: (لاَ يَبِيعَنَّ حَاضِرٌ لِبَادٍ؟) فَقَالَ: لاَ يَكُنْ لَهُ سِمْسَارًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 288 / 99 - وفيه: ابْن مسعود: نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ تَلَقِّى الْبُيُوعِ. / 100 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (لاَ تَلَقَّوُا السِّلَعَ حَتَّى يُهْبَطَ بِهَا إِلَى السُّوقِ) . قال ابن المنذر: كره تلقى السلع للمشترى مالك والليث والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق، وأجاز ذلك أبو حنيفة. واختلفوا فى معنى التلقى: فذهب مالك إلى أنه لا يجوز تلقى السلع حتى تصل إلى السوق، ومن تلقاها فاشتراها منهم شركه فيها أهل السوق إن شاءوا، فكان واحدًا منهم. قال ابن القاسم: وإن لم يكن للسلعة سوق عرضت على الناس فى المصر فيشتركون فيها إن أحبوا، فإن أخذوها، وإلا ردوها عليها، ولم أردها على بائعها. وقال غير ابن القاسم: يفسخ البيع فى ذلك. وقال الشافعى: من تلقى فقد أساء، وصاحب السلعة بالخيار إذا قدم بها السوق فى إنفاذ البيع أو رده؛ لأنهم يتلقونهم فيخبرونهم بكساد السلع وكثرتها، وهم أهل غرة، وهذا مكر وخديعة. وحجته ما رواه أيوب، عن ابن سيرين، عن أبى هريرة: (أن النبى - عليه السلام - نهى عن تلقى الجلب، فإن تلقاه فاشتراه، فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق) فذهب مالك أن نهيه عليه السلام عن التلقى إنما أريد به نفع أهل السوق، لا نفع رب السلعة، وعلى ذلك يدل مذهب الكوفيين والأوزاعى. وقال الأبهرى: معنى النهى عن التلقى لئلا يستبد الأغنياء وأصحاب الأموال بالشراء دون أهل الضعف؛ فيؤدى ذلك إلى الضرر بهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 289 فى معايشهم، ولهذا المعنى قال مالك: إنه يشرك بينهم إذا تلقوا السلع ليشترك فيها من أرادها من أهل الضعف، ولا ينفرد بها الأغنياء. ومذهب الشافعى أنه إنما أريد بالنهى نفع رب السلعة لا نفع أهل السوق، وهذا أشبه بمعنى قوله عليه السلام: (فإن تلقاها فصاحبها بالخيار) فجعل النبى (صلى الله عليه وسلم) الخيار للبائع؛ لأنه المغرور، فثبت أن المراد بذلك نفع رب السلعة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا كان التلقى فى أرض لا يضر بأهلها فلا بأس به، وإن كان يضرهم فهو مكروه وعن الأوزاعى نحوه. واحتج الكوفيون بحديث ابن عمر قال: (كنا نتلقى الركبان فنشترى منهم الطعام، فنهانا النبى - عليه السلام - أن نبيعه حتى نبلغ به سوق الطعام) . وقال الطحاوى: فى هذا الحديث إباحة التلقى، وفى الأحاديث الأولى النهى عنه، فأولى بنا أن نجعل ذلك على غير التضاد، فيكون ما نهى عنه من التلقى لما فى ذلك من الضرر على غير المتلقين المقيمين فى السوق، وما أبيح من التلقى هو ما لا ضرر عليه فيه. قال المؤلف: وتأويل هذا الحديث يأتى ذكره فى باب منتهى التلقى بعد هذا. قال الطحاوى: والحجة فى إجازة الشراء مع التلقى المنهى عنه ما حدثنا على بن معبد، حدثنا عبد الله بن أبى بكر السهمى، حدثنا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 290 هشام، عن محمد، عن أبى هريرة، قال رسول الله: (لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فهو بالخيار إذا أتى السوق) . ففى هذا الحديث عن الرسول النهى عن تلقى الجلب، ثم جعل للبائع الخيار فى ذلك إذا دخل السوق، والخيار لا يكون إلا فى بيع صحيح؛ لأنه لو كان فاسدًا لأجبر بائعه ومشتريه على فسخه. 67 - بَاب مُنْتَهَى التَّلَقِّى / 101 - فيه: ابْن عُمَرَ، كُنَّا نَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ فَنَشْتَرِى مِنْهُمُ الطَّعَامَ، فَنَهَانَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى يُبْلَغَ بِهِ سُوقُ الطَّعَامِ. / 102 - قَالَ عُبَيْدِاللَّهِ، عَن نَافِعٌ، عَنْ ابْن عُمَرَ: كَانُوا يَبْتَاعُونَ الطَّعَامَ فِى أَعْلَى السُّوقِ، فَيَبِيعُونَهُ فِى مَكَانِهِ، فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَبِيعُوهُ فِى مَكَانِهِ حَتَّى يَنْقُلُوهُ. وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: هَذَا فِى أَعْلَى السُّوقِ، يُبَيِّنُهُ حَدِيثُ عُبَيْدِاللَّهِ. قال المهلب: قول البخارى: هذا فى أعلى السوق. يعنى قول ابن عمر فى الحديث الأول: (كنا نتلقى الركبان فنشترى منهم) يريد أنهم كانوا يتلقونهم فى أعلى السوق، وذلك جائز، وبين ذلك عبد الله بن عمر بقوله: (كانوا يتبايعون الطعام فى أعلى السوق) . وأن ما كان خارجًا عن السوق فى الحاضرة أو قريبًا منها بحيث يجد من يسأله عن سعرها، أنه لا يجوز الشراء هنالك؛ لأنه داخل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 291 فى معنى التلقى، وأما الموضع البعيد الذى لا يقدر فيه على ذلك فيجوز فيه البيع، وليس بتلق. قال مالك: وأكره أن يشترى فى نواحى المصر حتى يهبط به السوق. قال ابن المنذر: وبلغنى هذا القول عن أحمد وإسحاق، أنهما نهيا عن التلقى خارج السوق، ورخصا فى ذلك فى أعلى السوق، واحتجا بحديث مالك عن نافع، عن ابن عمر: (أن النبى - عليه السلام - نهى عن تلقى السلع حتى يهبط بها الأسواق) . ومذاهب العلماء فى حد التلقى متقاربة، روى عن يحيى بن سعيد أنه قال فى مقدار الميل فى المدينة أو آخر منازلها: هو من تلقى البيوع المنهى عنه. وروى ابن القاسم، عن مالك أن الميل من المدينة تلقى. قيل له: فإن كان على ستة أميال؟ فقال: لا بأس بالشراء وليس بتلق. وروى أشهب عن مالك فى الصحافين الذين يخرجون إلى الأجنة فيشترون الفاكهة قال ذلك تلق وقال أشهب: لا بأس بالشراء وليس ذلك؛ لأنهم يشترون فى مواضعه من غير جالب. وقال ابن حبيب: لا يجوز للرجل فى الحضر أن يشترى ما مر به من السلع وإن كان على بابه إذا كان لها مواقف فى السوق تباع فيها، وهو متلق إن فعل ذلك، وما لم يكن لها موقف وإنما يطاف بها فأدخلت أزقة الحاضرة، فلا بأس أن يشترى وإن لم تبلغ السوق. وقال الليث: من كان على بابه أو فى طريقه، فمرت به سلعة فاشتراها، فلا بأس بذلك، والمتلقى عنده الخارج القاصد إليه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 292 قال ابن حبيب: ومن كان موضعه فى غير الحاضرة قريبًا منها أو بعيدًا فلا بأس أن يشترى ما مر به للأكل خاصة لا للبيع، رواه أشهب عن مالك. 68 - بَاب إِذَا شرط فِى الْبَيْعِ شُرُوطًا لاَ تَحِلُّ / 103 - فيه: حديث بَرِيرَةُ، وقول النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِى كِتَابِ اللَّهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) . أجمع العلماء على أنه من اشترط فى البيع شروطًا لا تحل أنه لا يجوز شىء منها؛ لقوله عليه السلام: (من اشترط شرطًا ليس فى كتاب الله فهو باطل) . واختلفوا فى غيرها من الشروط فى البيع على مذاهب مختلفة، فذهبت طائفة إلى أن البيع جائز والشرط باطل على نص حديث بريرة وهو قول ابن أبى ليلى والحسن البصرى والشعبى والنخعى والحكم، وبه قال أبو ثور، قالوا: ودل هذا الحديث أن الشروط كلها فى البيوع تبطل وتثبت البيوع. وذهبت طائفة إلى أن البيع جائز والشرط جائز، واحتجوا بحديث جابر: (أن النبى اشترى منه جملا وشرط ركوبه إلى المدينة) ، روى ذلك عن ابن شبرمة وبعض التابعين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 293 وذهبت طائفة إلى أن البيع باطل والشرط باطل، واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: (أن النبى - عليه السلام - نهى عن بيع وشرط) ، وهو قول الكوفيين والشافعى، فحملوا هذه الأحاديث التى نزعوا بها على العموم، ولكل واحد منها موضع لا يتعداه، ولها عند مالك أحكام مختلفة، وقد يجوز عنده البيع والشرط فى مواضع فأما إجازته للبيع والشرط، فمثل أن يشرط المشترى على البائع شيئًا مما فى ملك البائع مما لم يدخل فى صفقة البيع، وذلك أن يشترى منه زرعًا ويشترط على البائع حصاده، أو يشترى منه دارًا ويشترط البائع سكناها مدة يسيرة، أو يشترط ركوب الدابة يومًا أو يومين، وقد روى عنه أنه لا بأس أن يشترط سكنى الدار الأشهر والسنة. ووجه إجازته لذلك أن البيع وقع على الشيئين معًا: على الزرع، وعلى الحصاد، والحصاد إجارة، والإجارة بيع، منفعة، وكذلك وقع البيع على الدار غير سكنى المدة، وعلى الدابة غير الركوب، وأبو حنيفة والشافعى لا يجيزان هذا البيع كله؛ لأنه عندهم بيع وإجارة، ولا يجوز؛ لأن الإجارة عندهم بيع منافع طارئة فى ملك البائع لم تخلق بعد، وهو من باب بيعتين فى بيعة، ومما أجاز فيه مالك البيع والشرط شراء العبد على أن يعتق؛ اتباعًا للسنة فى بريرة، وهو قول الليث، وبه قال الشافعى فى رواية الربيع، ولم يقس عليه غيره من أجل نهيه عليه السلام عن بيع والشرط، وأجاز ابن أبى ليلى هذا البيع وأبطل الشرط، وبه قال أبو ثور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 294 وأبطل أبو حنيفة البيع والشرط، وأخذ بعموم نهيه عليه السلام عن بيع وشرط، إلا أن أبا حنيفة يقول: إن المبتاع إذا أعتقه كان مضمونًا عليه بالثمن، وهذا خلاف أصوله؛ لأنه كان ينبغى أن يكون مضمونًا عليه بالقيمة، كما قال وقلنا فى البيع الفاسد، ومضى أبو يوسف ومحمد على القياس فقالا: يكون مضمونًا عليه بالقيمة. قال ابن المنذر: وما قالوه خطأ؛ لأن البيع إن كان غير جائز والعبد فى ملك البائع لم يزل ملكه عنه، وعتق المشترى له باطل؛ لأنه أعتق ما لا يملك. ومما أجاز فيه مالك البيع وأبطل الشرط، وذلك شراء العبد على أن يكون الولاء للبائع، وهذا البيع أجمعت الأمة على جوازه، وإبطال الشرط فيه لمخالفته السنة فى أن الولاء لمن أعتق، وأن النبى - عليه السلام - أجاز هذا البيع وأبطل الشرط، وكذلك من باع سلعة وشرط أنه إن لم ينفذه المشترى إلى ثلاثة أيام أو نحوها مما يرى، أنه لا يريد تحويل الأسواق والمخاطرة، فالبيع جائز والشرط باطل عند مالك. وأجاز ابن الماجشون البيع والشرط وحمله محمل بيع الخيار إلى وقت مسمى، فإذا جاز الوقت فلا خيار له، وممن أجاز هذا البيع والشرط الثورى ومحمد بن الحسن وأحمد وإسحاق، ولم يفرقوا بين ثلاثة أيام أو أكثر منها، وأجاز أبو حنيفة البيع والشرط إلى ثلاثة أيام، فإن قال: إلى أربعة أيام بطل البيع عنده لأن الخيار لا يجوز عنده اشتراطه أكثر من ثلاثة أيام، وبه قال أبو ثور. ومما يبطل فيه عند مالك البيع والشرط، وذلك مثل أن يبيعه جارية على ألا يبيعها ولا يهبها أو على أن يتخذها أم ولد، فالبيع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 295 عنده فاسد، وهو قول أبى حنيفة والشافعى، واعتلوا فى فساد البيع بفساد الشرط فيه، وذلك عدم تصرف المشترى فى المبيع، وكما لا يجوز عند الجميع أن يشترط المبتاع على البائع عدم التصرف فى الثمن، فكذلك لا يجوز أن يشترط البائع على المبتاع عدم التصرف فيما اشتراه، وهذا عندهم معنى نهيه عليه السلام عن بيع وشرط. وأجازت طائفة هذا البيع وأبطلت الشرط، هذا قول النخعى والشعبى والحسن وابن أبى ليلى وبه قال أبو ثور، وقال حماد والكوفيون البيع جائز والشرط لازم. قال ابن المنذر: وقد أبطل النبى - عليه السلام - ما اشترطه أهل بريرة من الولاء وأثبت البيع، ومثال هذا أن كل من اشترط فى المبيع شرطًا خلاف كتاب الله وسنة رسول الله أن الشرط باطل والبيع ثابت استدلالا بحديث بريرة، واشتراطُ البائع على المشترى ألا يبيع ولا يهب ولا يطأ شروط ينبغى إبطالها وإثبات البيع؛ لأن الله - تعالى - أحل وطء ما ملكت اليمين، وأحل للناس أن يبيعوا أملاكهم ويهبوها، فإذا اشترط البائع شيئًا من هذه فقد اشترط خلاف كتاب الله، فهو مثل اشتراط موالى بريرة ولاءها لهم، فأجاز عليه السلام ذلك البيع وأبطل الشرط، فكذلك ما كان مثله. ومما يبطل فيه عند مالك والكوفيين والشافعى البيع والشرط: بيع الأمة والناقة واستثناء ما فى بطنها، وهو عندهم من بيوع الغرر؛ لأنه لا يعلم مقدار ما يصلح أن يحط من ثمنها قيمة الجنين، وقد أجاز هذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 296 البيع والشرط النخعى والحسن، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور، واحتجوا بأن ابن عمر أعتق جارية واستثنى ما فى بطنها. قال ابن المنذر: وهذا البيع معلوم، ولا يضرهما أن يجهلا ما لم يدخل فى البيع، ولا أعلمهم يختلفون أنه يجوز بيع جارية وقد أعتق ما فى بطنها ولا فرق بين ذلك؛ لأن المبيع فى المسألتين جميعًا الجارية دون الولد. قال المهلب: وحديث بريرة أصل فى العقوبة فى الأموال؛ لأن مواليها أبوا الوقوف عند حكم الله وحكم السنة، فلما عرفت عائشة النبى - عليه السلام - بإبائهم واستمرارهم على خلاف الحق باشتراطهم ما لا يجوز قال لها: (اشترطى لهم ذلك) فإن ذلك غير نافعهم، ولا ناقض لبيعهم فعاقبهم فى المال بتخسيرهم ما وضعوا من الثمن من أجل اشتراط الولاء واستبقائه لهم، ولم يعطهم قيمته عقوبة لهم. قال أبو عبد الله: فلو وقع اليوم مثل هذا وباع رجل جارية على أن يتخذها المشترى أم ولد أو على ألا يبيعها ولا يهبها ثبت البيع ورجع البائع بقيمة ما وضع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 297 69 - بَاب بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ / 104 - فيه: عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (الْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلاَ هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلاَ هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلاَ هَاءَ وَهَاءَ) . وترجم له (باب بيع الشعير بالشعير) . معنى هاء وهاء فى كلام العرب: خذ وأعط، يعنى: لا يجوز بيع شىء من البر والشعير والتمر بجنسه إلا يدًا بيد، قال ثابت: فإعرابه هاء وهاء، وقال صاحب العين هى كلمة تستعمل عند المناولة وهى ممدودة: وقال ابن السكيت: يقال: هاء يا رجل، وهاؤما يا رجلان، وهاؤهم يا رجال. قال الله - تعالى -: (هاؤم اقرءوا كتابيه (وهاء يا امرأة. مكسورة الهمزة بلا ياء، وهاؤما يا امرأتان، وهاؤن يا نسوة. وقال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا تباع الحنطة بالحنطة، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الحنطة بالتمر، ولا شىء من الطعام كله بعض بعضه إلا يدًا بيد، فإن دخل شيئًا من ذلك الأجلُ فلا يصلح وكان حرامًا، قال: وكذلك حكم الإدام كله وعلى هذا عامة علماء الأمة بالحجاز والعراق، أن الطعام بالطعام من صنف واحد كان أو من صنفين، فإنه لا يجوز فيه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 298 النسيئة؛ فإنه بمنزلة الذهب والورق، وذلك حكم كل ما يكال أو يوزن مما يؤكل أو يشرب حكم ما ذكره النبى - عليه السلام - من البر والشعير والتمر فى ذلك، قال مالك: وإذا اختلف ما يكال أو يوزن مما يؤكل أو يشرب، فلا بأس باثنين منه بواحد يدا بيد، لا بأس أن يؤخذ صاع من تمر بصاعين من حنطة، وصاع من تمر بصاعين من زبيب، وصاع من حنطة بصاعين من تمر فإن دخل ذلك الأجل فلا يحل. قال: ولا تباع صبرة الحنطة بصبرة الحنطة، ولا بأس بصبرة الحنطة بصبرة التمر يدًا بيد. قال مالك: وكل ما اختلف من الطعام أو الإدام فبان اختلافه فلا بأس أن يشترى بعضه ببعضه جزافًا يدًا بيد، وشراء بعض ذلك ببعض جزافًا كشراء بعض ذلك بالذهب والورق جزفًا. واتفق أهل الحجاز والعراق على أن التفاضل جائز فى كل ما اختلف أجناسه من الطعام؛ لأنه إذا اختلتف أجناسه اختلفت أغراض الناس فيه؛ لاختلاف منافعه، فلذلك جاز بيعه متفاضلا، وكل ما جاز فيه التفاضل جاز بيع بعضه ببعض جزافًا معلومًا بمجهول، ومجهولا بمجهول، ما لا يجوز فيه التفاضل فلا يجوز بيعه جزافًا، ولا يباع معلوم بمجهول، إلا أن مالكًا يجعل البر والشعير والسلت صنفًا واحدًا لا يجوز فيه التفاضل أحدهما لصاحبه، وهو قول الليث والأوزاعى. وعند الكوفيين والثورى والشافعى يجوز بيع البر بالشعير متفاضلا، وهما جنسان عندهم، وهو قول أحمد وإسحاق وأبى ثور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 299 70 - بَاب بَيْعِ الزَّبِيبِ بِالزَّبِيبِ وَالطَّعَامِ بِالطَّعَامِ / 105 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيْلاً، وَبَيْعُ الزَّبِيبِ بِالْكَرْمِ كَيْلاً. / 106 - وَقَالَ مرة: الْمُزَابَنَةُ أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَ بِكَيْلٍ إِنْ زَادَ فَلِى، وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَىَّ. سندخل الكلام فى هذا الباب فى معنى المزابنة فلا معنى لتكريره. 71 - بَاب بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ / 107 - فيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَالْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إِلاَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ، وَالْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْتُمْ) . وترجم له باب بيع الذهب بالورق يدًا بيد. أجمع أئمة الأمصار أنه لا يجوز بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة تبرهما وعينهما ومصنوعهما إلا مثلا بمثل يدًا بيد، ولا يحل التفاضل فى شىء منهما، وعلى هذا مضى السلف والخلف، وبذلك كتب أبو بكر الصديق إلى عماله، وروى مثله عن على بن أبى طالب وروى مجاهد عن ثلاثة عشر من أصحاب النبى - عليه السلام - مثله، وإنما حرم الله الربا حراسة للأموال وحفظًا لها، فلا يجوز واحد باثنين من جنس واحد؛ لاتفاق أغراض الناس فيه، ويجوز الجزء: 6 ¦ الصفحة: 300 واحد باثنين إذا اختلف الصنفان؛ لاختلاف الأغراض والمنافع، ولذلك قال عليه السلام: (وبيعوا الذهب بالفضة، والفضة بالذهب كيف شئتم) . 72 - بَاب بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ / 108 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالْوَرِقُ بِالْوَرِقِ مِثْلاً بِمِثْلٍ) . / 109 - وَقَالَ مرة عَن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلاَ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ) . قوله: (لا تشفوا بعضها على بعض) يرد ما رواه أهل مكة عن ابن عباس أنه كان يجيز الدرهم بالدرهمين يدًا بيد، ويقول: إنما الربا فى النسيئة. وستأتى مذاهب العلماء فى هذا الباب بعد هذا - إن شاء الله. وقوله: (ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز) فالناجز: الحاضر، يقال: نجز المال: إذا حضر، ومنه قوله أنجز فلان ما وعد: إذا وفى له به وأحضره. وقوله: (ولا تشفوا بعضها على بعض) يقتضى تحريم قليل الزيادة وكثيرها، يقول: لا تبيعوا إحداهما زائدًا على الأخرى. تقول العرب: قد أشف فلان بعض بنيه على بعض: إذا فضل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 301 بعضهم على بعض، ويقال ما أقرب شف ما بنيهما، أى: فضل ما بينهما، وفلان حريص على الشف، يعنى: الربح عن الطبرى. 73 - بَاب بَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارِ نَسَاءً / 110 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ: الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، قَالَ أَبُو صالح: قُلْتُ لَهُ: فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لاَ يَقُولُهُ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَأَلْتُهُ، فَقُلْتُ: سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، أَوْ وَجَدْتَهُ فِى كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: كُلَّ ذَلِكَ لاَ أَقُولُ، وَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنِّى، وَلَكِنْ أَخْبَرَنِى أُسَامَةُ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، قَالَ: (لاَ رِبًا إِلاَ فِى النَّسِيئَةِ) . اختلف العلماء فى تأويل قوله عليه السلام فى حديث أسامة: (لا ربا إلا فى النسيئة) فروى عن قوم السلف أنهم أجازوا بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة يدًا بيد متفاضلة، رواه سعيد بين جبير عن ابن عباس، قال: (ما كان ربًا قط فى هاء وهاء. ورواية عن ابن عمر وهو قول عكرمة وشريح. واحتجوا بظاهر حديث أسامة بن زيد: (لا ربا إلا فى النسيئة) فدل أن ما كان نقدًا فلا بأس بالتفاضل فيه وخالف جماعة العلماء بعدهم هذا التأويل، وقالوا: قد عارض ذلك حديث أبى سعيد الخدرى وحديث أبى بكرة عن النبى - عليه السلام - أنه حرم التفاضل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 302 فى الذهب بالذهب، والفضة بالفضة يدًا بيد، وروى الطبرى من حديث عبد الله بن موسى قال: حدثنا حيان بن عبد الله العدوى قال: سئل أبو مجلز عن الصرف فقال: (كان ابن عباس لا يرى به بأسًا زمانًا من عمره إذا كان يدًا بيد، ويقول: إنما الربا فى النسيئة، فلقيه أبو سعيد فقال: يا ابن عباس، ألا تتق الله حتى متى تؤكل الناس الربا؟ إنى سمعت النبى - عليه السلام - يقول: الذهب بالذهب، والورق بالورق، والتمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير يدًا بيد مثلا بمثل، فما زاد فهو ربا) . فهذه السنن الثابتة لا تأويل لأحد معها، فلا معنى لما خالفها، وقد تأول بعض العلماء أن قوله عليه السلام: (لا ربا إلا فى النسيئة) خرج على جواب سائل سأل عن الربا فى الذهب بالورق أو البر بالتمر، ونحو ذلك مما هو جنسان، فقال عليه السلام: (لا ربا إلا فى النسيئة) فسمع أسامة كلامه، ولم يسمع السؤال، فنقل ما سمع. وقال الطبرى فى حديث أسامة: المراد به الخصوص، ومعناه: لا ربا إلا فى النسيئة إذا اختلفت أجناس المبيع فإذا اتفقت فلا يصلح بيع شىء منه من نوعه إلا مثلا بمثل، والفضل فيه يدًا بيد ربا، وقد قامت الحجة ببيان الرسول فى الذهب الفضة، والفضة بالذهب، والحنطة بالتمر نساء، أنه لا يجوز متفاضلا، ولا مثل بمثل، فعلمنا أن قوله: (لا ربا إلا فى النسيئة) . فيما اختلفت أنواعه دون ما اتفقت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 303 قال المهلب: وفى حديث أبى سعيد وابن عباس من الفقه أن العالم يناظر العالم، ويوقفه على معنى قوله، ويرده من الاختلاف إلى الإجماع. وفيه: إقرار الصغير للكبير بفضل التقدم؛ لقول ابن عباس لأبى سعيد: أنتم أعلم برسول الله منى. والنساء: التأخير، يقال: باع منه نسيئة ونظرة وأخرة ودينًا، كل ذلك بمعنى واحد، ومنه قوله تعالى: (إنما النسىء زيادة فى الكفر (يعنى تأخير الأشهر الحرم التى كانت العرب فى الجاهلية تفعلها من تأخير المحرم إلى صفر، ومنه انتساء فلان عن فلان، أى: تباعده منه، عن الطبرى. 74 - بَاب بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ نَسِيئَةً / 111 - فيه: الْبَرَاء، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، أنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ دَيْنًا. الأمة مجمعة على أنه لا تجوز النسيئة ولا التأخير فى بيع الذهب بالورق، كما لا يجوز فى بيع الذهب بالذهب، والورق بالورق، وهو الربا المحرم فى القرآن، وفى هذا الحديث حجة للشافعى فى قوله إن من كان له على رجل دراهم، ولذلك الرجل عليه دنانير فلا يجوز أن يقاص أحدهما ماله بما له عليه، وإن كان قد حل أجلهما جميعًا لأنه يدخل فى معنى نهيه عليه السلام عن بيع الذهب بالورق دينًا؛ لأنه غائب بغائب، وإذا لم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 304 يجز غائب بناجز، فأحرى أن لا يجوز غائب بغائب، وأجاز ذلك مالك إذا كان قد حلا جميعًا، فإن كانا إلى أجل لم يجز؛ لأنه يكون ذهب بفضة متأخرًا. وقال أبو حنيفة: يجوز فى الحال وغير الحال. والحجة لمالك فى إجازته ذلك فى الحال دون الأجل أنه إذا حل أجل الدين، واجتمع المتصارفان فإن الذمم تبرأ كالعين إذا لم يفترقا إلا وقد تفاضلا فى صرفهما، والغائب لا يحل بيعه بناجز، ولا بغائب مثله، ومن حجته حديث ابن عمر أنه قال: (كنت أبيع الإبل بالبقيع أبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، فسألت رسول الله عن ذلك فقال: لا بأس به إذا كان بسعر يومكما، ولم تفترقا وبينكما شىء) رواه سماك بن حرب عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر. وحجة من أجاز ذلك فى الحال وغير الحال أن النبى - عليه السلام - لما لم يسأله عن الدين أحالا هو أم مؤجل، دل ذلك على استواء الحكم فيهما ولو كان بينهما فرق فى الشريعة لوقفه عليه. وأما تقاضى الدنانير من الدراهم، والدراهم من الدنانير من غير دين يكون على الآخر، فأجازه عمر بن الخطاب وابن عمر، وروى عن عطاء وطاوس والحسن والقاسم، وبه قال مالك والثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال كثير منهم: إذا كان بسعر يومه. ورخص فيه أبو حنيفة بسعر ذلك اليوم وبأغلى وأرخص، وكره ذلك ابن عباس وأبو سلمة وابن شبرمة، وهو قول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 305 الليث، وروى عن طاوس قول ثالث: أنه كره فى البيع، وأجازه فى القرض. وقال ابن المنذر: والقول الأول أولى لحديث ابن عمر. قال المؤلف: ولا يدخل هذا فى نهيه عليه السلام عن بيع الذهب بالورق دينًا؛ لأن الذى يقتضى الدنانير من الدراهم لم يقصد إلى تأخير فى الصرف، ولا نواه، ولا عمل عليه فهذا الفرق بينهما. 75 - بَاب بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ وَهو بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ وَبَيْعُ الزَّبِيبِ بِالْكَرْمِ وَبَيْعُ الْعَرَايَا قَالَ أَنَس: نَهَى النَّبىِّ - عَلَيْهِ السَّلاَم - عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَالَمُحَاقَلَةِ. / 112 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ تَبِيعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهُ، وَلاَ تَبِيعُوا الثَّمَرَ بِالتَّمْرِ) . قَالَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: وَرَخَّصَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، بَعْدَ ذَلِكَ فِى بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بِالرُّطَبِ أَوْ بِالتَّمْرِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ فِى غَيْرِهِ. / 113 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَهِىَ اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيْلاً، وَبَيْعُ الْكَرْمِ بِالزَّبِيبِ كَيْلاً. / 114 - وَقَالَ أَبُو سَعِيد: نَهَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُزَابَنَةُ اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ فِى رُءُوسِ النَّخْلِ. المزابنة عند العرب: المدافعة، وذلك أن المتبايعين إذا وقفا فيه على الغبن أراد المغبون أن يفسخ البيع، وأراد الغابن أن يمضيه تزابنا أى: تدافعا واختصما، وسيأتى تفسير المحاقلة بعد هذا فى موضعه - إن شاء الله - ومعنى النهى عن المزابنة خوف وقوع التفاضل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 306 فى ذلك، والتفاضل حرام فى كل ما كان فى معنى الرطب بالتمر، ومعنى الزبيب بالعنب من سائر المأكولات والمشروبات إذا كان أحدهما مجهولا، وهذا إجماع. قال مالك: وتفسير المزابنة أن كل شىء من الجزاف لا يعلم كيله ولا عدده ولا وزنه أبيع بشىء مسمى من الكيل أو العدد أو الوزن، وما عدا المأكول والمشروب فإنه تدخله المزابنة من جهة القمار والغرر، فيدخل معنى المزابنة عند مالك فيما يجوز فيه التفاضل، وما لا يجوز إذا قصد فيه إلى الغرر والقمار. قال فى الموطأ: وذلك أن يقول الرجل للرجل له الطعام المصبر الذى لا يعلم كيله من سائر الأطعمة، أو تكون السلعة من الحنطة أو النوى أو الكرسف أو الكتان، وما أشبه ذلك من السلع: لا أعلم كيله ولا عدده ولا وزنه، فيقول الرجل لرب تلك السلعة: كل سلعتك هذه، أو زن ما يوزن، أو اعدد ما يعد منها، فما نقص من كذا وكذا صاعًا لتسمية يسميها فعلى غرمها حتى أوفيك تلك التسمية، وما زاد على ذلك فهو لى ضمن ما نقص على أن يكون له ما زاد، فليس ذلك بيعًا ولكنه مخاطرة وقمار وغرر؛ لأنه لم يشتر منه شيئًا بشىء أخرجه، ولكنه ضمن له ما سمى من ذلك الكيل، فإن نقصت تلك السلعة من تلك التسمية أخذ من مال صاحبه ما نقص من غير ثمن ولا هبة طيبة بها نفسه، فهذا شبه القمار، وذكر مالك مسألة الثوب يضمن لصاحبه منه قلانس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 307 أو قمصًا والجلود يضمن له منها نعالا وحب البان يعصره على أنه له ما زاد على ما ضمن من ذلك، وعليه ما نقص، وإنما ذكر مالك هذه المسائل فى باب المزابنة؛ لأن فيها شراء مجهول بمعلوم؛ لأنه ألزم نفسه كيلا أو وزنًا أو عددًا معلومًا يضمنه عن كيل أو وزن أو عدد مجهول يرجو أن يبقى له بعد ضمانه، ويشهد لقول مالك ما تعرفه العرب، أن المزابنة مأخوذ لفظها من الزبن، وهو الدفع والمغالبة، وذلك خطر وقمار. 76 - بَاب بَيْعِ التَّمَرِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِالذَّهَبِ والْفِضَّةِ / 115 - فيه: جَابِر، نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَطِيبَ، وَلاَ يُبَاعُ شَىْءٌ مِنْهُ إِلاَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ إِلاَ الْعَرَايَا. / 116 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، رَخَّصَ فِى بَيْعِ الْعَرَايَا فِى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ. / 117 - وفيه: سَهْل بْنَ أَبِى حَثْمَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَرَخَّصَ فِى الْعَرِيَّةِ أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا. بيع التمر على رءوس النخل إذا بدا صلاحه بالذهب والفضة لا خلاف بين الأمة فى جوازه، وكذلك يجوز بيعها بالعروض قياسًا على الدنانير والدراهم وإنما خص عليه السلام الدنانير والدراهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 308 فى هذا الحديث؛ لأنهما جل ما يتعامل الناس به. قال ابن المنذر: وادعى الكوفيون أن بيع العرايا منسوخ بنهيه عليه السلام عن بيع التمر بالثمر، وهذا نفس المحال؛ لأن الذى روى عن النبى - عليه السلام - النهى عن المزابنة هو الذى روى الرخصة فى العرايا، فأثبت الرخصة والنهى معًا على ما ثبت فى حديث سهل بن أبى حثمة وفى حديث جابر من رواية سفيان عن ابن جريج عن عطاء، عن جابر: (أن النبى - عليه السلام - نهى عن المزابنة) . والمزابنة: بيع التمر بالثمر إلا أنه رخص فى العرايا، وكان مالك يقول: العرايا تكون فى الشجر كله من النخل والعنب والتين والرمان والزيتون والثمار كلها. وبه قال الأوزاعى، إلا أن مالكًا قال: إذا أعاره الفاكهة مثل الرمان والتفاح وشبهه لم يجز أن يشتريها بخرصها؛ لأنه يقطع أخضر ويشتريها بعدما طابت بما يجوز به شراء الثمرة بالعين والعرض نقدًا أو إلى أجل، وبالطعام نقدًا من غير صنفها إذا جدها مكانه قبل أن يفترقا وكان الليث يقول: لا تكون العرايا إلا فى النخل خاصة. وقال الشافعى: فى النخل والعنب. 77 - بَاب تَفْسِيرِ الْعَرَايَا وَقَالَ مَالِكٌ: الْعَرِيَّةُ أَنْ يُعْرِىَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ النَّخْلَةَ، ثُمَّ يَتَأَذَّى بِدُخُولِهِ عَلَيْهِ، فَرُخِّصَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِتَمْرٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 309 وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ: الْعَرِيَّةُ لاَ تَكُونُ إِلاَ بِالْكَيْلِ مِنَ التَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ لاَ تَكُونُ بِالْجِزَافِ، وَمِمَّا يُقَوِّيهِ قَوْلُ سَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ: بِالأَوْسُقِ الْمُوَسَّقَةِ، وَقَالَ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْن: الْعَرَايَا نَخْلٌ كَانَتْ تُوهَبُ لِلْمَسَاكِينِ، فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْتَظِرُونهَا رُخِّصَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهَا بِمَا شَاءُوا مِنَ التَّمْرِ. وفى صحيح مسلم أنه عليه السلام أرخص فى العرية يأخذها أهل البيت تمرًا يأكلونها رطبًا، وفى كتاب النسائى أن رسول الله رخص فى بيع العرايا بالرطب وبالتمر، ولم يرخص فى غير ذلك. / 118 - وفيه: زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) رَخَّصَ فِى الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيْلاً. قال أبو عبيد: وفى العرايا تفسير آخر غير ما فسره مالك، وهو أن العرايا هى النخلات يستثنيها الرجل من حائطه إذا باع ثمرته لا يدخلها فى البيع فيبقيها لنفسه وعياله، فتلك الثنايا لا تخرص عليهم لأنه قد عفى لهم عما يأكلون سميت عرايا؛ لأنها أعريت من أن تباع أو تخرص فى الصدقة فأرخص النبى - عليه السلام - لأهل الحاجة المسكنة الذين لا ورق لهم ولا ذهب، وهم يقدرون على التمر أن يبتاعوا بتمرهم من تمر هذا العرايا بخرصها رفقًا بأهل الفاقة الذين لا يقدرون على الرطب، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 310 ولم يرخص لهم أن يبتاعوا منه ما يكون لتجارة ولا ادخار. قال أبو عبيد: وهذا أصح فى المعنى من الأول، فالعرايا مستثناة من جملة نهى النبى عن بيع التمر بالثمر، وعن المزابنة. هذا قول عامة أهل العلم، ويجوز عند مالك أن يعرى من حائطه ما شاء غير أن البيع لا يكون إلا فى خمسة أوسق فما دون فى حق كل واحد ممن أعرى وإنما تباع العرايا بخرصها من التمر فى رءوس النخل إلى جذاذها ولا يجوز أن يبتاعها. بخرصها نقدًا، وليست له مكيلة؛ لأنه أنزل بمنزلة التولية والإقالة والشركة ولو كان بمنزلة البيوع ما أشرك أحد أحدًا فى طعام حتى يستوفيه، ولا أقاله منه ولا ولاه حتى يقبضه المبتاع. قال: ولا يبيعها إلا من المعرى خاصة، ولا يجوز من غيره إلا على سنة بيع الثمار فى غير العرايا، ولا يشتريها بطعام إلى أجل ولا بتمر نقدًا وإن وجدها فى الوقت. وقال الشافعى: العرية بيع ما دون خمسة أوسق من التمر، وجعل هذا المقدار مخصوصًا من المزابنة، وذكر ابن القصار عن مالك مثله، قال الشافعى: ويجوز بيعها من المعرى وغيره يدًا بيد، ومتى افترقا ولم ينقده بطل العقد وبه قال أحمد. قال المزنى: ويفسخ البيع فى خمسة أوسق لا شك؛ لأن أصل بيع الثمر بالثمر فى رءوس النخل حرام، ولا يجوز فيه إلا ما استوفيت الرخصة فيه، وذلك ما دون خمسة أوسق. قال ابن القصار: ومن حجة هذه المقالة أيضًا ما رواه أبو سعيد الخدرى - أن النبى - عليه السلام - قال: (لا صدقة فى العرية) . فلو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 311 كانت العرية فى خمسة أوسق جائزة لوجبت فيها الصدقة، فعلم بسقوط الصدقة عنها أنها دون خمسة أوسق. واحتج الشافعى بما رواه محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان، عن جابر بن عبد الله: (أن النبى - عليه السلام - رخص فى العرايا فى الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة) قال: فجاءت رواية جابر بغير شك، وثبتت رواية مالك عن داود التى جاءت بالشك فى خمسة أوسق أو دون خمسة. وقول البخارى: ومما يقويه قول سهل بن أبى حثمة بالأوسق الموسقة، فإنما أردفه على قوله: لا تكون العرية بالجزاف، وهذا إجماع، وهو مستغن عن تقوية، ولم يأت ذكر الأوسق الموسقة إلا فى حديث مالك عن داود بن الحصين، وفى حديث جابر من رواية ابن إسحاق، لا فى رواية سهل ابن أبى حثمة، وإنما يروى عن سهل من قوله من رواية الليث، عن جعفر بن أبى ربيعة، عن الأعرج قال: سمعت سهل بن أبى حثمة قال: لا يباع التمر فى رءوس النخل بالأوساق الموسقة إلا أوسق ثلاثة أو أربعة أو خمسة يأكلهن الناس، وهى المزابنة، ففى قول سهل حجة لمالك فى مشهور قوله أنه يجوز العرايا فى خمسة أوسق، وقد يجوز أن يكون الشك فى دون خمسة أوسق، واليقين فى خمسة أوسق، إذا الواو لا تعطى رتبة، فلذلك ترجح قول مالك فى ذلك - والله أعلم - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 312 ووجه قول مالك أنه لا يجوز بيعها إلا من المعرى خاصة قوله عليه السلام فى حديث سهل: (يأكلها أهلها رطبًا) ولا أهل لها إلا الذى أعراها، فجاز أن يبيعها من المعرى خاصة لما يقطع من تطرق المعرى على المعرى لأنهم كانوا يسكنون بعيالهم فى حوائطهم ويستضرون بدخول المعرى، ولم يكن قصدهم المعروف، فرخص لهم فى ذلك ولذلك قال مالك: لا يجوز بيعها يدًا بيد؛ لأن المشترى لم يقصد بشرائها الفضل والمتجر، وأما الكوفيون فإنهم أبطلوا سنة العرية وقالوا: هى بيع الثمر بالثمر، وقد نهى رسول الله عن ذلك. قال ابن المنذر: فبيع العرايا جائز على ما ثبتت به الأخبار عنه عليه السلام، والذى رخص فى بيع العرايا هو الذى نهى عن بيع التمر بالثمر فى لفظ واحد ووقت واحد، من رواية جابر وسهل بن أبى حثمة على ما تقدم فى الباب قبل هذا، وليس قبول إحدى السنتين أول من الأخرى، ولا فرق بين نهيه عليه السلام عن بيع ما ليس عندك وبين إذنه فى السلم، وهو بيع بما ليس عندك، وبين نهيه عن بيع التمر بالثمر وإذنه فى العرايا ومن قبل إحدى السنتين وترك الأخرى فقد تناقض. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 313 78 - بَاب بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهَا وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ أَبِى الزِّنَادِ: كَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ الأَنْصَارِىِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَتَبَايَعُونَ الثِّمَارَ، فَإِذَا جَدَّ النَّاسُ وَحَضَرَ تَقَاضِيهِمْ، قَالَ الْمُبْتَاعُ: أَصَابَ الثَّمَرَ الدُّمَانُ، أَصَابَهُ مُرَاضٌ - أَصَابَهُ قُشَامٌ - عَاهَاتٌ يَحْتَجُّونَ بِهَا - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَمَّا كَثُرَتْ الْخُصُومَةُ فِى ذَلِكَ: (فَإِمَّا لاَ، فَلاَ تَتَبَايَعُوا حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُ الثَّمَرِ) ، كَالْمَشُورَةِ يُشِيرُ بِهَا لِكَثْرَةِ خُصُومَتِهِمْ. وَكَانَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ لاَ يَبِيعُ ثِمَارَ أَرْضِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا، فَيَتَبَيَّنَ الأَصْفَرُ مِنَ الأَحْمَرِ. / 119 - وفيه: ابْن عُمَرَ، نَهَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ. / 120 - وفيه: أَنَس، نَهَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَنْ يُبَاعَ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ. قَالَ: يَعْنِى تَحْمَرَّ. / 121 - وفيه: جَابِر، نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ حَتَّى تُشَقِّحَ، قِيلَ: وَمَا تُشَقِّحُ؟ قَالَ: تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ وَيُؤْكَلُ مِنْهَا. قال الطحاوى: وذهب قوم إلى هذه الآثار فقالوا: لا يجوز بيع الثمر فى رءوس النخل حتى تحمر أو تصفر. قال غيره: وهو قول مالك والليث والثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق، وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه يجوز بيعها إذا تخلقت وظهرت، وإن لم يبد صلاحها، واحتجوا بقوله عليه السلام: (من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 314 ابتاع نخلا قبل أن يؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع) فأباح عليه السلام بيع ثمره فى رءوس النخل قبل بدو صلاحها، وقالوا: لما لم يدخل بعد الإبار فى الصفقة إلا بالشرط جاز بيعها منفردة، فدل هذا أن نهيه عليه السلام عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، المراد به غير هذا المعنى، وهو النهى عن السلم فى الثمار فى غير حينها وقبل أن تكون، وأما بيع الثمار بعدما ظهرت فى أشجارها فجائز عندنا. قال المؤلف: فيقال لأبى حنيفة: قد يدخل فى عقد البيع أشياء لو أفردت بالبيع لم يجز بيعها مفردة وتجوز فى البيع تبعًا لغيرها، من ذلك أنه يجوز بيع الأمة والناقة حاملتين، ولا يجوز عند أحد من الأمة بيع الجنين دون أمه، لنهيه عليه السلام عن بيع حبل الحبلة، وإنما لم يجز إفراد الجنين بالبيع، لأنه من بيع الغرر المنهى عنه. ونظير نهيه عليه السلام عن بيع الجنين فى بطن أمه نظير نهيه عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، لأن ذلك كله من بيع ما لم يخلق ولم يتم، ومما يحتمل أن يكون موجودًا أو غير موجود، وذلك من أكل المال بالباطل، وجاز أن يكون الجنين تبعًا لأمه، والثمرة تبعاُ لأصلها فى البيع، لأنهما إن هلكا فلم يكونا المقصد بالشراء، وإنما قصد إلى أم الجنين، والى أصل الثمرة، فافترقا لهذه العلة، مع أن حديث جابر وحديث أنس فى النهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها يغنيان عن حجة سواهما، لأنه قد فسر فيهما أن المراد ببدو صلاح الثمار أن تحمر أو تصفر، وذلك علامة صلاحها للأكل، ألا ترى قوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 315 عليه السلام فى حديث جابر: (حتى تحمار أو تصفار ويؤكل منها) فلا تأويل لأحد مع تفسير النبى - عليه السلام - فهو المقنع والشفاء. وقال بعض الكوفيين: إن نهيه عليه السلام عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها لم يكن منه على وجه التحريم، وإنما كان على وجه الأدب والمشورة منه عليهم، لكثرة ما كانوا يختصمون إليه فيه، واحتجوا بحديث زيد بن ثابت. وأئمة الفتوى على خلاف قولهم، والنهى عندهم محمول على التحريم. وتخصيصه عليه السلام البائع والمبتاع بالذكر يدل على تأكيد النهى فى ذلك، لأن النهى إذا ورد عن الله - تعالى - وعن رسوله فحقيقته الزجر عما ورد فيه، لقوله تعالى: (وما نهاكم عنه فانتهوا (ومعنى النهى عن ذلك عند عامة العلماء خوف الغرر، لكثرة الجوائح فيها، وقد بين ذلك عليه السلام بقوله: (أرأيت إن منع الله الثمرة، فبم يأخذ أحدكم مال أخيه؟) فنهى عن أكل المال بالباطل، فإذا بدا صلاحها واحمرت أمنت العاهة عليها فى الأغلب، وكثر الانتفاع بها لأكلهم إياها رطبًا، فلم يكن قصدهم بشرائها الغرر، وأما فعل زيد بن ثابت فى مراعاته طلوع الثريا، فقد روى عن عطاء، عن أبى هريرة، عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (إذا طلع النجم صباحًا رفعت العاهة عن أهل البلد) يعنى: الحجاز - والله أعلم - والنجم: هو الثريا، وطلوعها صباحًا لاثنتى عشرة، يعنى: يروح من شهر مائة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 316 وقال عيسى بن دينار: كان مالك لا يرى العمل بفعل زيد بن ثابت، وكان لا يجيز بيعها إلا حين تزهى، اتباعًا لنص الحديث. وقال غيره: كان بيع زيد لها إذا بدا صلاحها، لأن الثريا إذا طلعت آخر الليل بدا صلاح الثمار بالحجاز خاصة، لأن الحجاز أشد حرا من غيره. وقال ابن القاسم، عن مالك: لا بأس أن يباع الحائط وإن لم يزه: إذا أزهى ما حوله من الحيطان، وكان الزمان قد أمنت العاهة فيه. ولا يجوز عند الشافعى. واختلفوا فى بيع جميع الحائظ فيه أجناس الثمر يطيب جنس واحد منها، فقال مالك: لا أرى أن يباع إلا ذلك الصنف الذى طاب أوله دون غيره، وبه قال الشافعى. وقال الليث: لا بأس أن تباع الثمار كلها متفقة الأجناس أو مختلفة، يطيب جنس منها، أو مخالف لها، واحتج بأن النبى - عليه السلام - نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، فعم الثمار كلها، فإذا بدا الصلاح فى شىء منها فقد بدا الصلاح فى الثمار كلها، لأنه لم يخص عليه السلام. وقال أبو عبيد: قال الأصمعى: إذا انشقت النخلة عن عفن أو سواد قيل: أصابه الدمان. قال ابن أبى الزناد: هو: الإدمان. قال الأصمعى: ويقال للتمر العفن: الدمان. قال ابن دريد: الدمان داء يصيب النخل، فيسود طلعه قبل أن يلقح. وقال أبو حنيفة الدمار التمر الذى قد عتق جدا ففسد وأصل الدمان السماد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 317 قال الأصمعى: وإذا انتقض ثمر النخل قبل أن يصير بلحًا قيل: أصابه القشام، فإذا كثر نقض النخلة وعظم ما بقى من بسرها قيل: خردلت. وقال غيره: القشام أكال يقع فى التمر من القشم وهو: الأكل. وذكر الطحاوى فى حديث عروة عن سهل، عن زيد: والقشام: شىء يصيبه حتى لا يرطب. وقوله: (إما لا فلا تبايعوا) قال سيبويه: معناه: افعل هذا إن كنت لا تفعل غيره. وقال ابن الأنبارى: دخلت (ما) صلة ل (إن) كما قال تعالى: (فإما ترين من البشر أحدًا (فاكتفى بلا من الفعل كما تقول العرب: من سلم عليك فسلم عليه، ومن لا فلا معناه: ومن لم يسلم عليك فلا تسلم عليه، فاكتفى بلا من الفعل، وأجاز الفراء: من أكرمنى أكرمته، ومن لا لم أكرمه، بمعنى: ومن لم يكرمنى لم أكرمه. 79 - بَاب إِذَا بَاعَ ثِّمَارَ الجوائح قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهَا ثُمَّ أَصَابَتْهَا عَاهَةٌ فَهُوَ مِنَ الْبَائِعِ / 122 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِىَ، فَقِيلَ لَهُ: وَمَا تُزْهِى؟ فَقَالَ: (حَتَّى تَحْمَرَّ) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ) . وَقَالَ ابْنِ شِهَابٍ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 318 لَوْ أَنَّ رَجُلاً ابْتَاعَ ثَمَرًا قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهُ، ثُمَّ أَصَابَتْهُ عَاهَةٌ كَانَ مَا أَصَابَهُ عَلَى رَبِّهِ. وَقَالَ ابْنِ عُمَرَ: قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لاَ تَبَايَعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، وَلاَ تَبِيعُوا الثَّمَرَ بِالتَّمْرِ) . بيع الثمار قبل بدو صلاحها بيع فاسد، لنهى النبى - عليه السلام - عنه، ومصيبة الجائحة فيه من البائع لفساد البيع، وأنه لم ينتقل ملك البائع عن الثمرة بالعقد، ولا قبضها المشترى، لأن القبض لا يكون فيما لم يتم، وإنما تلفت فى ملك البائع ويده، فلا شىء على المشترى. الأصل فى وضع الجائحة فى الثمار حديث جابر قال: (أمر النبى - عليه السلام - بوضع الجوائح) وقال فى حديث آخر: قال رسول الله: (لو بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ من مال أخيك بغير حق) أخرج هذين الحديثين مسلم. واستدل جماعة من الفقهاء بقوله عليه السلام: (أرأيت لو منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه؟) على وضع الجائحة فى الثمر يشترى بعد بدو صلاحه شراء صحيحًا، ويقبضه فى رءوس النخل، ثم تصيبه جائحة، فذهب مالك وأهل المدينة إلى أن الجائحة التى توضع عن المشترى الثلث فصاعدًا، ولا يكون ما دون ذلك جائحة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 319 وقال أحمد بن حنبل وأبو عبيد وجماعة من أهل الحديث: الجائحة موضوعة فى القليل والكثير، وذهب الليث والكوفيون والشافعى إلى أن الجائحة فى مال المشترى، ولا يرجع على البائع بشىء، واحتجوا بأن قوله عليه السلام: (أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه؟) إنما ورد فى بيع الثمرة قبل بدو صلاحها مطلقاُ من غير شرط القطع قالوا: وعندنا أن الثمرة إذا بيعت قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع فتلفت بجائحة أن مصيبتها من البائع، لأن البيع كان باطلا، والى هذا المعنى ذهب البخارى فى هذا الباب. قالوا: والدليل على أنه وارد فى بيع الثمرة قبل بدو صلاحها قوله: (فبم يستحل أحدكم مال أخيه) ، وبعد بدو الصلاح يكون البيع صحيحًا، ولا يجوز أن يقال فيه: فبم يستحل؛ لأنه يستحله بالعقد. قال ابن القصار: فالجواب: أنه إن استحله بعقد البيع فإن تمام القبض لا يحصل عندنا إلا باجتناء الثمرة، وقبل أن تجتنى المصيبة من البائع وليس قبض كل ما يشترى كله على وجه واحد، ألا ترى أن الرجل يستأجر ظئرًا شهرًا لرضاع ولده، فهو فى معنى شراء اللبن الذى لا يستطيع قبضه فى موضع واحد، فلو انقطع اللبن فى نصف الشهر لرجع بما يصيبه، فكذلك فى الثمر، إذ العادة جرت بأن يؤخذ أولا فأولا عند إدراكه وتناهيه، ولو اشتراه مقطوعًا لكانت مصيبته من المشترى، لأنه يقدر على أخذه كله فى الحال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 320 فإن قيل: فقولوا بالجائحة فى القليل والكثير، وقد قال به أحمد بن حنبل وجماعة. قيل: الجائحة فى لسان العرب إنما هى فيما كثر دون ما قل، لأنه لا يقال لمن ذهب درهم من ماله وهو يملك ألوفًا أنه أجيح، ومن جهة المعقول أن المشترى قد دخل على ذهاب اليسير من الثمرة، لأنه لا بد أن يسقط شىء منها وتلحقه الآفة ويأكل الطير وغيره منها، فلم يجب على البائع أن يضع عن المشترى ذلك المقدار الذى دخل عليه حتى يكون فى حد الكثير، وهو الحد الكثير من الشىء ثلثه فصاعداُ بدليل قوله عليه السلام لسعد: (الثلث، والثلث كثير) فجعل ثلث ماله كثيرًا فى ماله، فلهذا قال مالك: إنه يوضع الثلث فصاعدًا، ليكون قد أخذ بالخبر والنظر، وقال يحيى بن سعيد: لا جائحة فيما أصيب دون ثلث رأس المال، وذلك فى سنة المسلمين. 80 - بَاب شِرَاءِ الطَّعَامِ إِلَى أَجَلٍ مسمى / 123 - فيه: الأَعْمَش، ذَكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِى السَّلَفِ، فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِهِ، ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِىٍّ إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ. لا خلاف بين أهل العلم أنه يجوز شراء الطعام بثمن معلوم إلى أجل معلوم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 321 81 - بَاب إِذَا أَرَادَ أَنّ بَيْعَ تَمْرا بِتَمْرٍ خَيْرٍ مِنْهُ / 124 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وأَبُو سَعِيد، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، اسْتَعْمَلَ رَجُلاً عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا) ؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاَثَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا) . فيه من الفقه: أن التمر كله جنس واحد رديئه وجيده، لا يجوز التفاضل فى شىء منه، ويدخل فى معنى التمر جميع الطعام، فلا يجوز فى الجنس الواحد التفاضل ولا النسيئة بإجماع، فإن كانا جنسين جاز فيهما التفاضل يدًا بيد، ولم تجز النسيئة، هذا حكم الطعام المقتات كله عند مالك. وعند الشافعى الطعام كله مقتات أو غير مقتات. وعند الكوفيين: الطعام المكيل كله والموزون دون غيره. وفيه من الفقه: أن من لم يعلم تحريم الشىء فلا حرج عليه حتى يعلمه، قال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (. وأجمع العلماء أن البيع إذا وقع محرمًا، فهو مفسوخ مردود، لقوله عليه السلام: (من عمل عملا على غير أمرنا فهو رد) . وقد روى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر برد هذا البيع من حديث بلال بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 322 رباح، ومن حديث أبى سعيد الخدرى، وروى منصور وقيس ابن الربيع عن أبى حمزة، عن سعيد ابن المسيب، عن بلال قال: (كان عندى تمر دون، فابتعت تمرًا أجود منه فى السوق بنصف كيله، صاعين بصاع، فأتيت النبى - عليه السلام - فحدثته بما صنعت، فقال: هذا الربا بعينه، انطلق فرده على صاحبه، وخذ تمرك فبعه، ثم اشتر التمر) . وقد زعم قوم أن بيع العامل الصاعين بالصاع كان قبل نزول آية الربا، وقبل أن يخبرهم النبى - عليه السلام - بتحريم التفاضل فى ذلك، ولذلك لم يأمر بفسخه. وهذه غفلة، لأنه عليه السلام قد قال فى مغنم خيبر للسعدين: (أربيتما، فردا) وفتح خيبر مقدم على ما كان بعد ذلك مما وقع فى تمرها وجميع أمرها. وقد احتج بحديث هذا الباب من أجاز أن يبيع الطعام من رجل بالنقد، ويبتاع منه بذلك النقد طعامًا قبل الافتراق وبعده، لأنه لم يخص فيه بائع الطعام ولا مبتاعه من غيره، وهو قول الشافعى وأبى ثور، ولا يجوز هذا عند مالك، لأنه عنده كأنه طعام بطعام والدراهم ملغاة إلا أن يكون الطعام جنسًا واحدًا وكيلا واحدًا، فيجوز عنده. 82 - بَاب مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِّرَتْ أَوْ أَرْضًا مَزْرُوعَةً أَوْ بِإِجَارَةٍ وقَال نَافِعٍ: أَيُّمَا نَخْلٍ بِيعَتْ قَدْ أُبِّرَتْ - لَمْ يُذْكَرِ الثَّمَرُ - فَالثَّمَرُ لِلَّذِى أَبَّرَهَا، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالْحَرْثُ، سَمَّى لَهُ نَافِعٌ هَؤُلاَءِ الثَّلاَثَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 323 / 125 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِّرَتْ، فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ، إِلاَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ) . قال الخليل: الأبر: لقاح النخل أبر النخل يأبرها أبرًا، والتلقيح: هو أن يؤخذ طلع ذكور النخيل فيدخل بين ظهرانى طلع الإناث، وأما معنى الإبار فى سائر الأشجار فإن ابن القاسم يراعى ظهور الثمرة لا غير، وقال ابن عبد الحكم: كل ما لا يؤبر من الثمار فاللقاح فيها بمنزلة الإبار فى النخل. وأخذ بظاهر حديث ابن عمر: مالك والليث والشافعى وأحمد وإسحاق، فقالوا: من باع نخلا قد أبر ولم يشترط ثمرته المبتاع، فالثمرة للبائع، وهى فى النخل متروكة إلى الجداد، وعلى البائع السقى، وعلى المشترى تخليته وما يكفى من الماء، وكذلك إذا باع الثمرة دون الأصل، فعلى البائع السقى. قال أبو حنيفة: سواء أبر أو لم يؤبر هو للبائع، وللمشترى أن يطالبه بقلعها عن النخل فى الحال، ولا يلزمه أن يصبر إلى الجداد، فإن اشترط البائع فى البيع ترك الثمرة إلى الجداد، فالبيع فاسد، واحتجوا بالإجماع على أن الثمرة لو لم تؤبر حتى تناهت وصارت بلحًا أو بسرًا وبيع النخل، أن الثمرة لا تدخل فيه، فعلمنا أن المعنى فى ذكر الإبار ظهور الثمرة خاصة، إذ لا فائدة لذكر الإبار غير ذلك، ولم يفرقوا بين الإبار وغيره، قالوا: وقد تقرر أن من باع دارًا له فيها متاع، فللمشترى المطالبة بنقله عن الدار فى الحال، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 324 ومن باع شيئًا فعليه تسليمه ورفع يده عنه، وبقاء الثمرة على النخل بعد البيع انتفاع بالنخل إلى وقت الجداد، فيكون فى معنى من باع شيئًا واستثنى منفعته، وهذا لا يجوز، فخالفوا السنة إلى قياس، ولا قياس لأحد مع السنة. ويقال لهم: إن من باع شيئًا مشغولاً يحق للبائع، فإن البائع يلزمه نقله عن المبيع على ما جرت به العادة فى نقل مثله، ألا ترى أنه لو باع دارًا هو فيها وعياله فى نصف الليل وله فيها طعام كثير وآلة، فلا خلاف أنه لا يلزمه نقله عنها نصف الليل حتى يرتاد منزلا يسكنه، ولا يطرح ماله فى الطريق، هذا عرف الناس، وكذلك جرت العادة فى أخذ الثمرة عند الجداد، وهو حين كمال بلوغها، ولما ملك النبى - عليه السلام - الثمرة بعد الإبار للبائع اقتضى استيفاء منفعته به على كمالها، وأغنى ذلك عن استثناء البائع تبقية الثمرة إلى الجداد، وأبو حنيفة يجيز أن يبيع السلعة أو الثمرة ويستثنى نصفها وثلثيها وما شاء منها إذا كان المستثنى معلومًا، كذلك قول أكثر العلماء إذا باع نخلا وفيها ثمرة لم تؤبر، فهى للمبتاع تابعة لأصلها بغير شرط، استدلالا بحديث ابن عمر، وخالف ذلك أبو حنيفة فقال: هى للبائع بمنزلة لو كانت مؤبرة، إلا أن يشترطها المبتاع. فيقال له: الثمر له صفتان: مؤبر، وغير مؤبر، ولما جعله النبى - عليه السلام - إذا كان مؤبرًا للبائع بترك المشترى اشتراطها، أفادنا ذلك أن الثمرة للمشترى إذا لم تؤبر وكانت فى أكمامها وإن لم يشترطها المشترى، ولو كان الحكم فيها غير مختلف حتى يكون الكل للبائع، لكان يقول: من باع نخلا فيها ثمر فهى للبائع. فخالف أبو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 325 حنيفة الحديث من وجهين: خالف نصه إذا كانت الثمرة مؤبرة، وخالف دليله إذا كانت الثمرة لم تؤبر. فأما بيع الأرض فيها زرع، فروى ابن القاسم عن مالك: أن من اشترى أرضًا فيها زرع ظهر ولم يسبل، فالزرع للبائع إلا أن يشترطه المشترى، وإن وقع البيع والبذر لم ينبت، فهو للمبتاع بغير شرط. وروى ابن عبد الحكم عن مالك: إن كان الزرع لقح أكثره - ولقاحه أن يتحبب ويسبل - حتى لو يبس يومئذ لم يكن فسادًا فهو للبائع إلا أن يشترطه المشترى، وإن كان لم يلقح فهو للمبتاع. وذكر ابن عبد الحكم فى موضع آخر من كتابه مثل رواية ابن القاسم - والله أعلم. 83 - بَاب بَيْعِ الزَّرْعِ بِالطَّعَامِ كَيْلاً / 126 - فيه: ابْن عُمَرَ، نَهَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَنِ الْمُزَابَنَةِ، أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَة حَائِطِهِ إِنْ كَانَ نَخْلاً بِتَمْرٍ كَيْلاً، وَإِنْ كَانَ كَرْمًا أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلاً، وَإِنْ كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ، نَهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. أجمع العلماء أنه لا يجوز بيع الزرع قبل أن يقطع بالطعام، ولا بيع العنب فى كرمه بالزبيب ولا بيع الثمر فى رءوس النخل بالتمر، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 326 لأن النبى - عليه السلام - نهى عنه وسماه مزابنة، وذلك خطر وغرر، لأنه بيع مجهول بمعلوم من جنسه، وأما بيع رطب ذلك بيابسه إذا كان مقطوعًا وأمكن فيه الممائلة، فجمهور العلماء لا يجيزون بيع شىء من ذلك بجنسه، لا متماثلا ولا متفاضلاً، لأنه من المزابنة المنهى عنه، وبهذا قال أبو يوسف ومحمد. وخالفهم أبو حنيفة فأجاز بيع الحنطة الرطبة باليابسة والرطب بالتمر مثلا بمثل، ولا يجيز ذلك متفاضلا. قال ابن المنذر: وأظن أبا ثور وافقه على ذلك، واحتج له الطحاوى وقال: لما أجمعوا أنه يجوز بيع الرطب بالرطب مثلا بمثل، وإن كان فى أحدهما رطوبة ليست فى الآخر، وكل ذلك ينقص إذا بقى نقصانًا مختلفاُ، ولم ينظروا إلى ذلك فيبطلوا به البيع، بل نظروا إلى حاله فى وقت وقوع البيع، فالنظر أن يكون الرطب بالثمر كذلك، وهذا قياس فاسد، لأن الرطب بالرطب وإن كان يختلف نقصانه إذا يبس، فهو نقصان معفو عنه لقلته، وقد جوز فى البيوع يسير الغرر، لأنه لا يكاد يخلو منه، ونقصان الرطب بالتمر له بال وقيمة فافترقا لذلك، وحديث ابن عمر حجة للجماعة أن النبى - عليه السلام - نهى عن بيع التمر بالتمر، والتمر بالرطب، فكأنه نهى عن بيع الرطب بالتمر على النخل ومقطوعًا، على عموم اللفظ، ويدل على ذلك قوله عليه السلام حين سئل عن اشتراء التمر بالرطب فقال: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، فنهى عنه) . قال ابن القصار: فقوله - عليه السلام -: (أينقص الرطب إذا يبس؟ فقالوا: نعم، فنهى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 327 عنه) ، فصار كأنه نهى عن الرطب بالتمر، ولم يخف عنه عليه السلام ذلك، وإنما سألهم على سبيل التقرير لهم عليه، حتى إذا تقرر ذلك عندهم نهاهم عنه، فصار كأنه نهاهم عنه، وعلله فقال: لا يجوز بيع الرطب بالتمر؛ لأنه ينقص إذا يبس، فسواء كان الرطب فى النخل أو فى الأرض، إذ بيع بتمر مجهول فإنه يكون مزابنة، ويقال للكوفيين: إنه يلزمكم التناقض فى منعكم بيع الحنطة بالدقيق، وبيعها بالسويق، والمماثلة بينهما أقرب من المماثلة بين التمر والرطب، وأجاز مالك والليث الدقيق بالحنطة مثلاً بمثل، وقول الشافعى كقول الكوفى. 84 - بَاب بَيْعِ النَّخْلِ بِأَصْلِهِ / 127 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (أَيُّمَا امْرِئٍ أَبَّرَ نَخْلاً، ثُمَّ بَاعَ أَصْلَهَا، فَلِلَّذِى أَبَّرَ ثَمَرُ النَّخْلِ، إِلاَ أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ) . وقد تقدم الكلام فى الحديث قبل هذا، ونذكر هاهنا ما لم يمر فيه، اختلف قول مالك فيمن اشترى أصول النخل وفيها ثمر قد أبرها لم يشترطها فأجاز لمشترى النخل وحده أن يشتر الثمر قبل بدو صلاحها فى صفقة أخرى، كما كان له أن يشترطها فى صفقته، هذه رواية ابن القاسم، وكذلك مال العبد، وروى ابن وهب عن مالك أن ذلك لا يجوز فى الثمرة، ولا فى مال العبد له ولا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 328 لغيره، وهذا قول المغيرة وابن دينار وابن عبد الحكم، وهو قول الثورى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وهذا القول أولى؛ لعموم نهيه عليه السلام عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكذلك مالُ العبد هو شراء مجهول، فهو من بيع الغرر. 85 - بَاب بَيْعِ الْجُمَّارِ وَأَكْلِهِ / 128 - فيه: ابْن عُمَرَ، كُنْتُ عِنْدَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَهُوَ يَأْكُلُ جُمَّارًا، فَقَالَ: (مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةٌ كَالرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ) ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: النَّخْلَةُ، فَإِذَا أَنَا أَحْدَثُهُمْ، فَقَالَ: (هِىَ النَّخْلَةُ) . بيع الجمار وأكله من المباحات التى لا اختلاف فيها بين العلماء، وكل ما انتفع به للأكل وغيره فجائز بيعه. 86 - بَاب بَيْعِ الْمُخَاضَرَةِ / 129 - فيه: أَنَس، أنّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَى عَنِ بيع الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُخَاضَرَةِ، وَالْمُلاَمَسَةِ، وَالْمُنَابَذَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ. / 130 - وفيه: أَنَس أَيْضًا، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ التَّمْرِ حَتَّى يَزْهُوَ، فَقُلْت لأَنَسٍ: مَا يزَهْو؟ قَالَ: تَحْمَرُّ وَتَصْفَرُّ - أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيكَ؟ . فى تفسير المحاقلة ثلاث أقوال: فقال بعضهم: هى بيع الزرع فى سنبله بالحنطة. وقيل: هى اكتراء الأرض بالحنطة. وقيل: هى المزارعة بالثلث والربع ونحوه، وهذا الوجه أشبه بها على طريق اللغة؛ لأن المحاقلة مأخوذة من الحقل والمفاعلة من اثنين فى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 329 أمر واحد كالمزراعة، ويقال للأرض التى تزرع: المحاقل، كما يقال لها: المزارع، عن الزجاجى. والمخاضرة هى بيع الثمار وهى خضر لم يبد صلاحها، سميت بذلك من المفاعلة أيضًا؛ لأن المتبايعين تبايعا شيئًا أخضر. وأجمع العلماء أنه لا يجوز بيع الثمار والزرع والبقول قبل بدو صلاحها على شرط التبقية إلى وقت طيها، ولا يجوز بيع الزرع أخضر إلا للقصيل وأكل الدواب، وكذلك أجمعوا أنه يجوز بيع البقول إذا قلعت من الأرض وانتفع بها وأحاط علمًا بها المشترى، ومن بيع المخاضرة: شراؤها مغيبة فى الأرض كالفجل والكراث والبصل واللفت وشبهه، فأجاز شراءها مالك والأوزاعى، قال مالك: ذلك إذا استقل ورقه وأمن، والأمان عنده أن يكون ما يقطع منه ليس بفساد. وقال أبو حنيفة: بيع المغيب فى الأرض جائز، وهو بالخيار إذا رآه. قال الشافعى: لا يجوز بيع مالا يرى، وهو عنده من بيوع الغرر. وحجة من أجاز ذلك أنه لو قلعها ثم باعها لأضر ذلك به وبالناس؛ لأنهم إنما يأكلون ذلك أولاً أولاً، كما يأكلون الرطب والثمر ولا يقصدون بذلك الغرر، فإذا باعها على شىء يراه أو صفة توصف له جاز، فمتى جاء بخلاف الصفة أو الرؤية كان له رد ذلك بحصته، وإنما يجوز بيع ذلك كله على التبقية إذا كان قد طاب للأكل، كما يجوز بيع الثمرة على التبقية إذا طابت للأكل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 330 واختلفوا فى بيع القثاء والبطيخ وما يأتى بطنا بعد بطن، فقال مالك: يجوز بيعه إذا بدا صلاحه، ويكون للمشترى ما ينبت حتى ينقطع ثمره؛ لأن وقته معروف عند الناس. وقال أبو حنيفة والشافعى: لا يجوز بيع بطن منه إلا بعد طيبه كالبطن الأولى، وهو عندهم من بيع ما لم يخلق. وجعله مالك كالثمرة إذا بدا صلاح أولها، جاز بيع ما بدا صلاحه وما لم يبد؛ لحاجتهم إلى ذلك، ولو منعوا منه لأضر بهم؛ لأن ما تدعو إليه الضرورة يجوز فيه بعض الغرر، ألا ترى أن الظئر تكرى لأجل لبنها الذى لم يخلق ولم يوجد إلا أوله، ولا يدرى كم يشرب الصبى منه أولاً، كذلك لو اكترى عبدًا يخدمه لكانت المنفعة التى وقع عليها العقد لم تخلق، وإنما تحدث أولاً أولاً، ولو مات العبد لوقعت المحاسبة على ما حصل من المنفعة، فَجُوَز ذلك لحاجة الناس إليه، فيبع ما لم يخلق، وقد جرت العادة فى الأغلب إذا كان الأصل سليمًا من الآفات أن تتبايع بطونه وتتلاحق، وعدم مشاهدته لا يدل على بطلان بيعه، بدليل بيع الجوز واللوز فى قشرهما، وفساده لا يبين من خارج، ولو كان مقشورًا مغطى بشىء غير قشره لم يصح بيعه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 331 87 - بَاب مَنْ أَجْرَى أَمْرَ الأَمْصَارِ عَلَى مَا يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ فِى الْبُيُوعِ وَالإِجَارَةِ وَالْمِكْيَالِ وَالْوَزْنِ وَسُنَتِهِمْ عَلَى نِيَّاتِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمُ الْمَشْهُورَةِ وَقَالَ شُرَيْحٌ لِلْغَزَّالِينَ: سُنَّتُكُمْ بَيْنَكُمْ [رِبْحًا] . وَقَالَ عَبْدُالْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ: لاَ بَأْسَ الْعَشَرَةُ بِأَحَدَ عَشَرَ، وَيَأْخُذُ لِلنَّفَقَةِ رِبْحًا. وَقَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، لِهِنْدٍ: (خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ) . وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ (وَاكْتَرَى الْحَسَنُ مِنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مِرْدَاسٍ حِمَارًا، فَقَالَ: بِكَمْ؟ قَالَ بِدَانَقَيْنِ، فَرَكِبَهُ، ثُمَّ جَاءَه مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: الْحِمَارَ الْحِمَارَ، فَرَكِبَهُ، وَلَمْ يُشَارِطْهُ فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ. / 132 - فيه: أَنَس، حَجَمَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَبُو طَيْبَةَ، فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ. / 132 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، لهِنْدٍ حين قَالَتْ له: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، فَهَلْ عَلَىَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ سِرًّا؟ فَقَالَ: (خُذِى أَنْتِ وَبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ بِالْمَعْرُوفِ) . / 133 - وَقَالَتْ عَائِشَةَ: (وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ (أُنْزِلَتْ فِى وَالِى الْيَتِيمِ الَّذِى يُقِيمُ عَلَيْهِ، وَيُصْلِحُ فِى مَالِهِ، إِنْ كَانَ فَقِيرًا أَكَلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 332 العرف عند الفقهاء أمر معمول به، وهو كالشرط اللازم فى البيوع وغيرها، ولو أن رجلا وكل رجلا على بيع سلعة، فباعها بغير النقد الذى هو عرف الناس لم يجز ذلك، ولزمه النقد الجارى، وكذلك لو باع طعامًا موزونًا أو مكيلاً بغير الوزن أو الكيل المعهود لم يجز، ولزمه الكيل المعهود المتعارف من ذلك. وقوله: يأخذ للعشرة أحد عشر، يعنى: لكل عشرة دينار من رأس المال ربح دينار. واختلف العلماء فى ذلك، فأجازه قوم وكرهه آخرون، وممن كرهه: ابن عباس، وابن عمر، ومسروق، والحسن، وبه قال أحمد وإسحاق، وقال أحمد: البيع مردود. وأجازه سعيد ابن المسيب والنخعى، وهو قول مالك والثورى والكوفيين والأوزاعى. وحجة من كرهه: لأنه عنده بيع مجهول إلا أن يعلم عدد العشرات، فيعلم عدد ربحها، ويكون الثمن كله معلومًا. وحجة من أجازه: بأن الثمن معلوم، فالربح معلوم. وأصل هذا الباب بيع الصبرة كل قفيز بدرهم، ولا يعلم مقدار ما فى الصبرة من الطعام، فأجازه قوم وأباه آخرون، ومنهم من قال: لا يلزمه منه إلا القفيز الواحد، ومن البيع العشرة الواحدة. واختلفوا فى النفقة هل يأخذ لها ربحًا فى بيع المرابحة؟ فقال مالك: لا يؤخذ فى النفقة ربح إلا فيما له تأثير فى السلعة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 333 وعين قائمة كالصبغ والخياطة والكمد فهذا كله يحسب فى أصل المال ويحسب له ربح، لأن تلك المنافع كأنها سلعة ضمت إلى سلعة، قال مالك: ولا يحسب فى المرابحة أجر السماسرة، ولا أجر الشد والطى ولا النفقة على الرقيق، ولا كراء البيت، وإنما يحسب هذا فى أصل المال، ولا يحسب له ربح، وأما كراء البز فيحسب له الربح، لأنه لابد منه، ولا يمكنه حمله ببدنه من بلد إلى بلد، فإن أربحه المشترى على ما لا تأثير له جاز إذا رضى بذلك، فإن لم يبين البائع للمشترى ذلك، وأجمل البيع، كان للمشترى رد ذلك كله إن شاء، لأن البائع قد غره. وقال أبو حنيفة: يحسب فى المرابحة أجر القصارة، وكراء البيت، وأجر السمسرة، ونفقة الرقيق وكسوتهم، ويقول: قام على بكذا وكذا. وأما أجرة الحجام فأكثر العلماء يجيزونها، هذا إذا كان الذى يعطاه مما يرضى به، فإن أعطى ما لا يرضى به فلا يلزم، ورد إلى عرف الناس، ومما يدل على أن العرف سنة جارية قوله - عليه السلام - لهند: (خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف) . فأطلق لها أن تأخذ من متاع زوجها ما تعلم أن نفسه تطيب لها بمثله، وكذلك أطلق الله لولى اليتيم أن يأكل من ماله بالمعروف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 334 88 - بَاب بَيْعِ الشَّرِيكِ مِنْ شَرِيكِهِ / 134 - فيه: جَابِر، جَعَلَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) الشُّفْعَةَ فِى كُلِّ مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فَلاَ شُفْعَةَ. وترجم له (باب بيع الأرض والعروض مشاعًا غير مقسوم) . بيع الشريك من الشريك فى كل شىء مشاع جائز، وهو كبيعه من الأجنبى، فإن باعه من الأجنبى فللشريك الشفعة لعلة الإشاعة، وخوف دخول ضرر الدخيل عليه، وإن باعه من شريكه ارتفعت الشفعة، وإذا كان للشريك الأخذ بالشفعة بالسنة الثابتة عن النبى - عليه السلام - فعلى البائع إذا أحب البيع ألا يبيع من أجنبى حتى يستأذن شريكه، وقد روى هذا عن النبى - عليه السلام - من حديث سفيان عن أبى الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله: (من كانت له شركة فى أرض أو ربعة فليس له أن يبيع حتى يستأذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك) . وأما بيع العروض مشاعًا فأكثر العلماء أنه لا شفعة فيها، وإنما الشفعة فى الدور والأرض خاصة، هذا قول عطاء والحسن وربيعة والحكم وحماد، وبه قال مالك والثورى والكوفيون والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق. وروى عن عطاء أنه قال: الشفعة فى كل شىء حتى فى الثوب وإذا اختلف فيها قول عطاء فكأنه لم يأت عنه فيها شىء، فهو كالإجماع أنه لا شفعة فى العروض والحيوان، قاله ابن المنذر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 335 89 - بَاب إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَرَضِىَ / 135 - فيه: ابْن عُمَرَ، [عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ] : (خَرَجَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ، فَأَصَابَهُمُ الْمَطَرُ، فَدَخَلُوا فِى غَارٍ فِى جَبَلٍ، فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ. . . . .) الحديث. (فَقَالَ الثالث: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقٍ مِنْ ذُرَةٍ، فَأَعْطَيْتُهُ فَأَبَى فَعَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ حَتَّى اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا عَبْدَاللَّهِ، أَعْطِنِى حَقِّى؟ فَقُلْتُ: انْطَلِقْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرَاعِيهَا، [فَإِنَّهَا لَكَ] ، فَقَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ بِى؟ قَالَ: فَقُلْتُ: مَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، وَلَكِنَّهَا لَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا، فَكُشِفَ عَنْهُمْ) . أجمع الفقهاء أنه لا يلزم شراء الرجل لغيره بغير إذنه إلا حتى يعلمه ويرضى به فيلزمه بعد الرضا به إذا أحاط علمًا به، واختلف ابن القاسم وأشهب فى مسألة من هذا الباب، إذا أودع رجل رجلاً طعامًا فباعه المودع بثمن، فرضى المودع، فقال ابن القاسم: له الخيار، إن شاء أخذ مثل طعامه من المودع، وإن شاء أخذ الثمن الذى باعه به. وقال أشهب: إن رضى بذلك فلا يجوز؛ لأنه طعام بطعام فيه خيار. وهذا الحديث دليل على صحة قول ابن القاسم؛ لأن فيه أن الذى كان ترك الأجير: فرق ذرة، وأنه زرعه له الذى بقى عنده حتى صار منه بقر وراعيها فلو كان خيار صاحب الطعام يحرم عليه الطعام، ما جاز له أخذ البقر وراعيها لأن أصلها كان من ذلك الفرق المزروع له بغير علمه، وقد رضى النبى - عليه السلام - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 336 بذلك وأقره، وأخبر أن الذى انطبق عليه الغار توسل بذلك إلى ربه، ونجاه به، فدل هذا الحديث أنه لم يكن أخذ الأجير للبقر وراعيها لازمًا إلا بعد رضاه بذلك لقوله: (أتستهزئ بى؟) وإنكاره ما بذل له عوضا من الفرق، ولذلك عظمت المثوبة فى هذه القصة، وظهرت هذه الآية الشنيعة من أجل تطوع الزارع للفرق بما بذل له، وأنه فعل أكثر مما كان يلزمه فى تأدية ما عليه، فشكر الله له ذلك. وقد اختلف العلماء فى الطعام المغصوب يزرعه الغاصب، فذكر ابن المنذر أن قول مالك والكوفيين: أن الزرع للغاصب، وعليه مثل الطعام الذى غصب؛ لأن كل من تعدى على كل ماله مثل فليس عليه غير مثل الشىء المتعدى عليه، غير أن الكوفيين قالوا: إن زيادة الطعام حرام على الغاصب لا تحل له، وعليه أن يتصدق به، وقال أبو ثور: كل ما أخرجت الأرض من الحنطة فهو لصاحب الحنطة، وسيأتى اختلافهم فيمن تعدى على ذهب أو ورق، فتجر فيه بغير إذن صاحبه فى كتاب الإجارة فى باب من استأجر أجيرًا فترك الأجير أجره، فعمل فيه المستأجر فزاد فى حديث ابن عمر بعد هذا - إن شاء الله. قوله: (يتضاغون عند رجلى) . قال صاحب العين: يقال: ضغا يضغوا ضغوًا، أضغيته: وهو صوت الذليل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 337 90 - بَاب الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ / 136 - فيه: عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَ له النَّبىُّ، عليه السَّلام: (بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً - أَوْ قَالَ: أَمْ هِبَةً) فَقَالَ: لاَ، بَلْ بَيْعٌ، فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً. الشراء والبيع من الكفار كلهم جائز، إلا أن أهل الحرب لا يباع منهم ما يستعينون به على إهلاك المسلمين من العدة والسلاح، ولا ما يقوون به عليهم. قال ابن المنذر: واختلف العلماء فى مبايعة من الغالب على ماله الحرام وقبول هداياه وجوائزه، فرخصت طائفة فى ذلك، كان الحسن البصرى لا يرى بأسا أن يأكل الرجل من طعام العشار والصراف والعامل، ويقول: قد أحل الله طعام اليهود والنصار، وأكله أصحاب رسول الله، وقد قال تعالى فى اليهود: (أكالون للسحت (. وقال مكحول والزهرى: إذا اختلط المال وكان فيه الحلال والحرام، فلا بأس أن يؤكل منه، وإنما كره من ذلك الشىء الذى يعرفه بعينه. وقال الحسن: لا بأس ما لم يعرفوا شيئًا بعينه. وقال الشافعى: لا يجب مبايعة من أكثر ماله ربا أو كسبه من حرام، وإن بايعه لم أفسخ البيع لأن هؤلاء قد يملكون حلالاً، ولا يحرم إلا حرامًا بينا، إلا أن يشترى الرجل حراما بينًا يعرفه، والمسلم والذمى والحربى فى هذا سواء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 338 وحجة من رخص فى ذلك قوله - عليه السلام - للمشرك المشعان فى الغنم: (أبيعًا أم عطية أم هبة) ؟ قال ابن المنذر: وأيضًا فإن النبى - عليه السلام - رهن درعه عند يهودى قال: وكان ابن عمر وابن عباس يأخذان هدايا المجتار، وبعث عمر بن عبد الله بن معمر إلى ابن عمر بألف دينار، والى القاسم بن محمد بألف دينار، فأخذها ابن عمر وقال: وصلته رحم، لقد جاءتنا على حاجة، وأبى أن يقبلها القاسم، فقالت امرأته: إن لم تقبلها فأنا ابنة عمه كما هو ابن عمه، فأخذتها، وقال عطاء: بعث معاوية إلى عائشة بطوق من ذهب فيه جوهر، فقوم بمائة ألف فقسمته بين أزواج النبى - عليه السلام. وكرهت طائفة الأخذ منهم، روى ذلك عن مسروق وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وبشير بن سعيد وطاوس وابن سيرين وسفيان الثورى وابن المبارك وابن المبارك ومحمد بن واسع وأحمد بن حنبل، وأخذ ابن المبارك قذاة من الأرض فقال: من أخذ منهم مثل هذه فهو منهم. وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب الزكاة فى باب من أعطاه الله شيئا من غير مسألة ولا إشراف نفس. قال المهلب: وقوله عليه السلام للمشرك: (أبيعا أم عطية أم هبة؟) فإنما قال ذلك على معنى أن يثيبه لو كانت هدية، لا أنه كان يقبلها منه دون إثابة عليها، كما فعل عليه السلام بكل من هاداه من المشركين، وسيأتى حكم هدية المشركين فى كتاب الهبة فى باب (قبول الهدية من المشركين إن شاء الله) . وفيه: قصد الرؤساء وكبراء الناس بالسلع لاستجزال الثمن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 339 وفيه: أن ابتياع الأشياء من مجهول الناس ومن لا يعلم حاله بعفاف أو غيره جائز حتى يطلع على ما يلزم الورع عنه، أو يوجب ترك مبايعته لغصب أو سرقة أو غير ذلك، قال ابن المنذر: لأن من بيده الشىء فهو مالكه على الظاهر، ولا يلزم المشترى أن يعلم حقيقة ملكه له بحكم اليد. وقال صاحب العين: يقال: شعر مشعان، إذا كان منتفشًا، ورجل مشعان الرأس. 91 - بَاب شِرَاءِ الْمَمْلُوكِ مِنَ الْحَرْبِىِّ وَهِبَتِهِ وَعِتْقِهِ وَقَالَ عليه السَّلام لِسَلْمَانَ: (كَاتِبْ) ، وَكَانَ حُرًّا فَظَلَمُوهُ وَبَاعُوهُ، وَسُبِىَ عَمَّارٌ وَصُهَيْبٌ وَبِلاَلٌ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى الرِّزْقِ (إلى قوله: (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (. / 137 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبىُّ عليه السَّلام: (هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَم بِسَارَةَ، فَدَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ - أَوْ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ - فَقِيلَ: دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ بِامْرَأَةٍ هِىَ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ مَنْ هَذِهِ الَّتِى مَعَكَ؟ قَالَ: أُخْتِى، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: لاَ تُكَذِّبِى حَدِيثِى، فَإِنِّى أَخْبَرْتُهُمْ أَنَّكِ أُخْتِى، وَاللَّهِ إِنْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ مُؤْمِنٌ غَيْرِى وَغَيْرُكِ، فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ فَقَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّى، فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ، وَأَحْصَنْتُ فَرْجِى إِلاَ عَلَى زَوْجِى، فَلاَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 340 تُسَلِّطْ عَلَىَّ الْكَافِرَ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ - قَالَ الأَعْرَجُ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَتِ: اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ يُقَالُ هِىَ قَتَلَتْهُ - فَأُرْسِلَ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ تُصَلِّى، وَتَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ، وَأَحْصَنْتُ فَرْجِى إِلاَ عَلَى زَوْجِى، فَلاَ تُسَلِّطْ عَلَىَّ هَذَا الْكَافِرَ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ - قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ، فَيُقَالُ: هِىَ قَتَلَتْهُ - فَأُرْسِلَ فِى الثَّانِيَةِ، أَوْ فِى الثَّالِثَةِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرْسَلْتُمْ إِلَىَّ إِلاَ شَيْطَانًا، ارْجِعُوهَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَعْطُوهَا آجَرَ، فَرَجَعَتْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَم، فَقَالَتْ: أَشَعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ كَبَتَ الْكَافِرَ، وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً) . / 138 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتِ: اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِى غُلاَمٍ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هذا ابْنُ أَخِى عُتْبَةُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ أَنَّهُ ابْنُهُ انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: هَذَا أَخِى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِى مِنْ وَلِيدَتِهِ، فَنَظَرَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، إِلَى شَبَهِهِ فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِى مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ، فَلَمْ تَرَهُ سَوْدَةُ قَطُّ) . / 139 - وفيه: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، أنه قَالَ لِصُهَيْبٍ: اتَّقِ اللَّهَ، وَلاَ تَدَّعِ إِلَى غَيْرِ أَبِيكَ، فَقَالَ صُهَيْبٌ: مَا يَسُرُّنِى أَنَّ لِى كَذَا وَكَذَا، وَأَنِّى قُلْتُ ذَلِكَ، وَلَكِنِّى سُرِقْتُ وَأَنَا صَبِىٌّ. / 140 - وفيه: حَكِيم، قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صِلَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَصَدَقَةٍ، هَلْ لِى فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ حَكِيمٌ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ) . غرض البخارى فى هذا الباب - والله أعلم - إثبات ملك الحربى والمشرك، وجواز تصرفه فى ملكه بالبيع والهبة والعتق، وجميع ضروب التصرف؛ إذ قد أقر النبى - عليه السلام - سلمان عند مالكه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 341 من الكفار، فلم يُزِل ملكه عنه، وأمره أن يكاتب، وقد كان حرا وأنهم ظلموه وباعوه، ولم ينقض ذلك ملك مالكه، وكذلك كان أمر عمار وصهيب وبلال، باعهم مالكوهم الكفار من المسلمين، واستحقوا أثمانهم وصارت ملكًا لهم، ألا ترى أن إبراهيم - عليه السلام - قبل هبة الملك الكافر، وأن عبد بن زمعة قال للنبى: هذا ابن أمة أبى ولد على فراشه؛ فأثبت لأبيه أمة وملكًا عليه فى الجاهلية، فلم ينكر ذلك النبى - عليه السلام - وسماعه الخصام فى ذلك دليل على تنفيذ عهد المشرك، والحكم له إن تحوكم فيه إلى المسلمين، وكذلك جوز عليه السلام عتق حكيم بن حزام وصدقته فى الجاهلية، ومعنى قوله تعالى: (والله فضل بعضكم (الآية، فالآية تضمنت التقريع للمشركين والتوبيخ لهم على تسويتهم عبادة الأصنام بعبادة الله، فنبههم الله أن مماليكهم غير مساوين لهم فى أموالهم، فالله - تعالى - أولى بإفراد العبادة وألا يشرك معه أحد من عبيده، إذ لا ملك على الحقيقة، ولا مستحق للإلهية غيره عز وجل. قال الطبرى: فإن قال قائل: كيف جاز لليهودى ملك سلمان وهو مسلم، ولا يجوز للكافر ملك مسلم؟ فالجواب: إن حكم النبى - عليه السلام - وشريعته أن من غلب من أهل الحرب على نفسه غيره أو ماله، ولم يكن المغلوب على ذلك ممن دخل فى صبغة الإسلام، فهو لغالبه ملكًا، وكان سلمان حين غلب على نفسه لم يكن مؤمنا، وإنما كان إيمانه تصديق بالنبى - عليه السلام - إذا بعث، مع إقامته على شريعة عيسى - عليه السلام - فأقره عليه السلام مملوكا لمن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 342 كان فى يده، إذ كان فى حكمه عليه السلام أن من أسلم من رقيق المشركين فى دار الحرب، ولم يخرج مراغمًا لسيده فهو لسيده، أو كان سيده من أهل صلح المسلمين، فهو مملوك لمالكه. قال المهلب: وفى حديث إبراهيم عليه السلام من الفقه: إباحة المعاريض، وأنها لمندوحة عن الكذب. وفيه: أن أخوة الإسلام أخوة يجب أن يسمى بها. وفيه: الرخصة فى الانقياد للظالم والغاصب. وفيه: قبول صلة السلطات الظالم. وفيه: إجابة الدعوة بإخلاص النية، وكفاية الله - جل ثناؤه وتقدست أسماؤه - لمن أخلصها بما يكون نوعًا من الآيات، وزيادة فى الإيمان، وتقوية عل التصديق والتسليم والتوكل. وقوله: فغط، يقال: غط غطيطًا: صوت فى نومه، من كتاب الأفعال. وقوله: كبت الله الكافر - يعنى: صرعه لوجهه - وكبت الله العدو: أهلكه من الأفعال. 92 - بَاب جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْبَغَ / 141 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ: (هَلاَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا؟) قَالُوا: إِنَّهَا مَيِّتَةٌ، قَالَ: (إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 343 قد تقدم اختلاف العلماء فى جلود الميتة، وأن جمهور العلماء على جواز بيعها والانتفاع بها بعد دباغها فى كتاب الذبائح، فأغنى عن إعادته - والحمد لله. 93 - بَاب قَتْلِ الْخِنْزِيرِ وَقَالَ جَابِرٌ: حَرَّمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بَيْعَ الْخِنْزِيرِ / 142 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ) . أجمع العلماء على أن بيع الخنزير وشراءه حرام، واجمعوا على قتل كل ما يستضر به ويؤذى مما لا يبلغ أذى الخنزير، كالفواسق التى أمر النبى المحرم بقتلها، فالخنزير أولى بذلك، لشدة أذاه، ألا ترى أن عيسى ابن مريم يقتله عند نزوله، فقتله واجب. وفيه دليل أن الخنزير حرام فى شريعة عيسى، وقتله له تكذيب للنصارى أنه حلال فى شريعتهم. واختلف العلماء فى الانتفاع بشعره، فكرهه ابن سيرين والحكم، وهو قول الشافعى وأحمد وإسحاق. وقال الطحاوى عن أصحابه: لا ينتفع من الخنزير بشىء، ولا يجوز بيع شىء منه، ويجوز للخرازين أن ينتفعوا بشعره أو شعرتين للخرازة، ورخص فيه الحسن وطائفة. وذكر ابن خواز بنداد عن مالك أنه قال: لا بأس بالخرازة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 344 بشعر الخنزير، قال: فيجئ على هذا أنه لا بأس ببيعه وشرائه. وقال الأوزاعى: يجوز للخراز أن يشتريه، ولا يجوز له بيعه. وقال المهلب: قوله: (فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية) يدل أن الناس كلهم يدخلون فى الإسلام، ولا يبقى من يخالفه - والله أعلم. 94 - بَاب لاَ يُذَابُ شَحْمُ الْمَيْتَةِ وَلاَ يُبَاعُ وَدَكُهُا رَوَاهُ جَابِرٌ عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام. / 143 - فيه: ابْن عَبَّاس، بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ فُلاَنًا بَاعَ خَمْرًا، فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ فُلاَنًا، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا؟) . أجمع العلماء على تحريم بيع الميتة، لتحريم الله تعالى لها بقوله: (حرمت عليكم الميتة والدم (قال الطبرى: فإن قيل: ما وجه قوله فى بيع الخمر: (لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها) وأنت تعلم أن أشياء كثيرة حرم الله أكلها ولم تحرم أثمانها، كالحمر الأهلية وسباع الطير كالعقبان والبزاة وشبهها؟ قلت: المعنى الذى خالف بينهما مع اشتباههما فى الوجه الذى وصفت بين، وهو أن الله - تعالى - جعل الخمر والخنزير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 345 نجسين، فحكمهما فى أنه لا يحل بيعهما ولا شراؤهما، ولا أكل أثمانهما حكم سائر النجاسات من الميتة والدم والعذرة والبول، وذلك هو المعنى الذى مثل به بائع الخمر وآكل ثمنها بالبائع من اليهود الشحوم وآكل أثمانها، إذ كانت الشحوم حرام أكلها على اليهود، نجسة عندهم نجاسة الخمر والميتة فى ديننا، فكان بائعها منهم وآكل ثمنها نظير بائع الخمر والخنزير منا وآكل ثمنها، فالواجب أن يكون كل ما كان نجساُ حرام بيعه وشراؤه، وأكل ثمنه، وكل ما حرم أكله وهو طاهر، فحلال بيعه وشراؤه، والانتفاع به فيما لم يحظر الله - تعالى - الانتفاع به، فبان الفرق بينهما. قال المؤلف: واختلف العلماء فى جواز بيع العذرة والسرقين، فكره مالك والكوفيون بيع العذرة، وقالوا: لا خير فى الانتفاع بها وأجاز الكوفيون بيع السرقين. قال الطحاوى: وزبل الدواب عند مالك نجس، فينبغى أن يكون كالعذرة، وأما بعر الإبل وخثى البقر فلا بأس ببيعه عند مالك، وقال الشافعى: لا يجوز بيع العذرة ولا الروث، ولا شىء من الأنجاس. قال الطحاوى: وقد جرت عادت الناس بالانتفاع بالسرقين وإن كان نجسا وتمريغ دوابهم فيه، وخلطه بالطين والبناء للفخار، ولوقود النيران غير منكر ذلك عندهم، فهون من النجاسات التى أبيح الانتفاع بها، فدل أنها مملوكة، وأن على مستهلكها ضمانها، فكان دلادلة على أنه يجوز بيعه؛ لأنه مال، وإذا كان كذلك فالحاجة إلى العذرة قائمة فى الانتفاع بها للأرضين. فوجب أن تكون كذلك، وفى سماع ابن القاسم أنه سئل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 346 عن قوم لهم خربة فرمى الناس فيها زبلاً، فأرادوا ضربه طوبًا وبيعه، ليعمروا به تلك الأرض، قال: ذلك لهم. وقوله: (فجملوها) ، يعنى أذابوها، يقال: جملت الشحم أجمله جملاً واجتملته، وإذا أذبته، والجميل: الودك. 95 - بَاب بَيْعِ التَّصَاوِيرِ الَّتِى لَيْسَ فِيهَا أَرْوَاحٌ وَمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ / 144 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إن مَعِيشَتِى مِنْ صَنْعَةِ يَدِى، وَإِنِّا أَصْنَعُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ أُحَدِّثُكَ إِلاَ مَا سَمِعْتُ من رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (مَنْ صَوَّرَ صُورَةً، فَإِنَّ اللَّهَ مُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا) ، فَرَبَا الرَّجُلُ رَبْوَةً شَدِيدَةً، وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، إِنْ أَبَيْتَ إِلاَ أَنْ تَصْنَعَ فَعَلَيْكَ بِهَذَهِ الشَّجَرِةِ كُلِّ شَىْءٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ) . قال المهلب: إنما كره هذا من أجل أن الصور التى فيها الأرواح كانت معبودة فى الجاهلية، فكرهت كل صورة وإن كانت لا فىء لها ولا جسم؛ قطعًا للذريعة، حتى إذا استوطن أمر الإسلام وعرف الناس من أمر الله وعبادته ما لا يخاف عليهم فيه من الأصنام والصور، أرخص فيما كان رقمًا أو صبغًا إذا وضع موضع المهنة، وإذا نصب نصب العبادة، وسأتقصى ما للعلماء فى الصور فى كتاب الزينة - إن شاء الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 347 وقال صاحب العين: يقال ربا الرجل أصابه نفس فى جوفه، وهو الربو والرَّبوة والرِّبوة. 96 - بَاب تَحْرِيمِ التِّجَارَةِ فِى الْخَمْرِ وقال جابر: حرم النبى عليه السلام بيع الخمر. / 145 - وفيه عائشة: لَمَّا نَزَلَتْ آيَاتُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَنْ آخِرِهَا، خَرَجَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (حُرِّمَتِ التِّجَارَةُ فِى الْخَمْرِ) . الأمة مجمعة على تحريم بيع الخمر، كما أجمعوا على تحريم شربها والانتفاع بها، واختلفوا فى تخليلها، واختلف قول مالك فى ذلك أيضًا، فروى عنه ابن وهب وابن القاسم: أنه لا يحل لمسلم أن يخلل الخمر، ولكن يهريقها، فإن صارت خلا بغير علاج فهى حلال، وهو قياس قول الشافعى، وروى ابن القاسم عن مالك أنه إن خللها جاز أكلها وبيعها، وبئس ما صنع. وروى عن أشهب: إن خللها النصارى فلا بأس بأكلها، وكذلك إن خللها مسلم واستغفر الله، وهو قول الليث. وأجاز الثورى والأوزاعى وأبو حنيفة وأصحابه تخليل الخمر، ولا بأس أن يطرح فيها السمك والملح فيصير مريا إذا تحولت عن حال الخمر. واحتج الشافعى بما روى الثورى عن السدى، عن أبى هريرة قال: (جاء رجل إلى النبى وفى حجره يتيم، وكان عنده خمر له حين حرمت الخمر، فقال: يا رسول الله، نصنعها خلا؟ فقال: لا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 348 فصبها حتى سال الوادى) . قال الطحاوى: واحتمل نهى النبى - عليه السلام - أن تجعل خلا وأمره بالإراقة معان: أحدها: أن يكون نهيًا عن التخليل، ولا دلالة فيه بعد ذلك على حظر ذلك الخل الكائن منها، واحتمل أن يكون مراده تحريم ذلك الخل، ويحتمل أن يكون أراد التغليظ وقطع العادة؛ لقرب عهدهم بشرب الخمر. واحتج الكوفيون بما روى أبو إدريس الخولانى أن أبا الدرداء كان يأكل المرى الذى جعل فيه الخمر، ويقول: دبغته الشمس والملح. قالوا: وكما لا يختلف حكم جلد الميتة فى دبغه بعلاج آدمى وغيره، كذلك استحالة الخمر خلا. 97 - بَاب إِثْمِ مَنْ بَاعَ حُرًّا / 146 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (قَالَ اللَّهُ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِى، ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا، ثُمَّ أَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا، فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ) . قال المهلب: قوله: (أعطى بى ثم غدر) يريد نقض عهدًا عاهده عليه، وقوله: (استأجر أجيرا فلم يعطه أجره) ، هو داخل فى معنى من باع حرًا؛ لأنه استخدمه بغير عوض، وهذا عين الظلم، وإنما عظم الإثم فيمن باع حرا؛ لأن المسلمين أكفاء فى الحرمة والذمة، وللمسلم على المسلم أن ينصره ولا يظلمه، وأن ينصحه ولا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 349 يسلمه، وليس فى الظلم أعظم من أن يستعبده أو يعرضه لذلك، ومن باع حرا فقد منعه التصرف فيما أباح الله له، وألزمه حال الذلة والصغار، فهو ذنب عظيم، ينازع الله به فى عبادة. قال ابن المنذر: وكل من لقيت من أهل العلم على أنه من باع حرا أنه لا قطع عليه ويعاقب، ويروى عن ابن عباس قال: يرد البيع ويعاقبان. وروى جلاس عن على أنه قال: تقطع يده. والصواب قول الجماعة؛ لأنه ليس بسارق، ولا يجوز قطع غير السارق. 98 - بَاب أَمْرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) الْيَهُودَ بِبَيْعِ أَرضهم حتى أَجْلاَهُمْ / 147 - فيه: الْمَقْبُرىُّ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ. 99 - بَاب بَيْعِ الْعَبِيدِ وَالْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً وَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ رَاحِلَةً بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ، يُوفِيهَا صَاحِبَهَا بِالرَّبَذَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ يَكُونُ الْبَعِيرُ خَيْرًا مِنَ الْبَعِيرَيْنِ. وَاشْتَرَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ، فَأَعْطَاهُ أَحَدَهُمَا، وَقَالَ: آتِيكَ بِالآخَرِ غَدًا رَهْوًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: لاَ رِبَا فِى الْحَيَوَانِ الْبَعِيرُ بِالْبَعِيرَيْنِ، وَالشَّاةُ بِالشَّاتَيْنِ إِلَى أَجَلٍ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لاَ بَأْسَ بِبَعِيرٍ بِبَعِيرَيْنِ نَسِيئَةً، وَدرهم بِدرهم نَسِيئَةً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 350 / 148 - فيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ فِى السَّبْىِ صَفِيَّةُ، فَصَارَتْ إِلَى دَحْيَةَ الْكَلْبِىِّ، ثُمَّ صَارَتْ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام. قال المؤلف: حديث المقبرى عن أبى هريرة الذى أشار إليه البخارى فى هذا الباب، قد ذكره فى آخر كتاب الجهاد، فى باب: إخراج اليهود من جزيرة العرب، قال أبو هريرة: (بينا نحن فى المسجد خرج النبى - عليه السلام - فقال: انطلقوا إلى يهود، فخرجنا حتى جئنا بيت المدراس، فقال: أسلموا، واعلموا أن الأرض لله ولرسوله، وإنى أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بماله ثمنًا فليبعه، وإلا فاعلموا أن الأرض لله ولرسوله) . قال المؤلف: وهؤلاء اليهود الذين أجلاهم النبى - عليه السلام - هم بنو النضير، وذلك أنهم أرادوا الغدر برسول الله، وأن يلقوا عليه حجرًا، فأوحى الله إليه بذلك، فأمر بإجلائهم، وأن يسيروا حيث شاءوا، فلما سمع المنافقون بذلك بعثوا إلى بنى النضير: اثبتوا وتمنعوا؛ فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا بذلك لنصرهم فلم يفعلوا، وقذف الله فى قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله أن يجليهم، ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلفة، ففعل، فاحتملوا ذلك وخرجوا إلى خيبر، وخرج أكثرهم إلى الشام، وخلوا الأموال لرسول الله، فكانت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 351 له خاصة يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول الله على المهاجرين دون الأنصار فى حديث طويل ذكره ابن إسحاق , قال المؤلف: فإن قال قائل: هذا معارض لحديث المقبرى عن أبى هريرة؛ لأن فيه أن النبى - عليه السلام - أمرهم ببيع أرضهم، وفى حديث ابن إسحاق أنهم تركوا أرضهم دون عوض، وحلت لرسول الله فما وجه ذلك؟ فالجواب: أن النبى إنما أمرهم ببيع أرضهم - والله أعلم - قبل أن يكونوا له حربا، فكانوا مالكين لأرضهم، وكانت بينهم وبين النبى مسالمة وموافقة للجيرة، فكان النبى - عليه السلام - يمسك عنهم لإمساكهم عنه، ولم يكن بينهم عهد، ثم أطلعه الله على ما يؤملون من الغدر به، وقد كان أمره لهم ببيع أرضهم وإجلائهم قبل ذلك فلم يفعلوا؛ لأجل قول المنافقين لهم: اثبتوا فإنا لن نسلمكم إن قوتلتم فوثقوا بقولهم، وثبتوا ولم يخرجوا، وعزموا على مقاتلة النبى - عليه السلام - فصاروا له حربًا؛ فحلت بذلك دماؤهم وأموالهم، فخرج إليه رسول الله وأصحابه فى السلاح وحاصرهم، فلما يئسوا من عون المنافقين ألقى الله فى قلوبهم الرعب، وسألوا رسول الله الذى كان عرضه عليهم قبل ذلك، فلم يبح لهم بيع الأرض، وقاضاهم على أن يجليهم ويتحملوا بما استقلت به الإبل، وعلى أن يكف عن دمائهم وأموالهم، فحلوا عن ديارهم، وكفى الله المؤمنين القتال، وكانت أراضيهم وأموالهم مما لم يوجف عليها بقتال مما انجلى عنها أهلها بالرعب، وصارت خالصة لرسول الله يضعها حيث شاء، قال ابن إسحاق: ولم يسلم من بنى النضير إلا رجلان أسلما على أموالهما فأحرزاها، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 352 قال: ونزلت فى بنى النضير سورة الحشر إلى قوله: (ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم فى الدنيا (أى: بالقتل والسبى، ولهم فى الآخرة مع ذلك عذاب النار. وقوله: (لأول الحشر (، يعنى: الشام الذى جلا أكثرهم إليه؛ لأنه روى فى الحديث أنه تجىء نار تحشر الناس إلى الشام، ولذلك قيل فى الشام أنها أرض المحشر. وأما بيع الحيوان بالحيوان نسيئة فإن العلماء اختلفوا فى ذلك، فقالت طائفة: لا ربا فى الحيوان، وجائز بيع بعضه ببعض نقدًا ونسيئة اختلف أو لم يختلف، هذا مذهب على ابن أبى طالب وابن عمر وابن المسيب، وهو قول الشافعى وأبى ثور، وقال مالك: لا بأس بالبعير النجيب بالبعيرين من حاشية الإبل نسيئة، وإن كانت من نعم واحدة إذا اختلف فبان اختلافها، وإن أشبه بعضها بعضا واتفقت أجناسها، فلا يؤخذ منها اثنان بواحد إلى أجل، ويؤخذ يد بيد، وهو قول سليمان بن يسار وربيعة ويحيى بن سعيد، وقال الثورى والكوفيون وأحمد: لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، اختلفت أجناسه أو لم تختلف، واحتجوا بحديث الحسن عن سمرة ابن جندب (أن النبى - عليه السلام - نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة) . وبحديث يحيى بن أبى كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: (نهى رسول الله عن بيه الحيوان بالحيوان نسيئة) ومعنى النهى عن ذلك عندهم لعدم وجود مثله؛ ولأنه غير موقوف عليه، قالوا: وهذا مذهب ابن عباس وعمار بن ياسر، وأجازوا التفاضل فيه يدًا بيد، وحجة القول الأول: ما رواه ابن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 353 إسحاق، عن أبى سفيان، عن مسلم بن كثير، عن عمرو بن حريش قال: قلت لعبد الله عمرو: (إنه ليس بأرضنا ذهب ولا فضة، وإنما نبيع البعير بالبعيرين، والبقرة بالبقرتين، والشاة بالشاتين. فقال: (إن رسول الله أمر أن يجهز جيش، فنفدت الإبل، فأمر أن نأخذ على قلائص الصدقة بالبعيرين إلى إبل الصدقة) . وقد سأل عثمان السجستانى يحيى بن معين عن سند هذا الحديث، فقال: سند صحيح مشهور، وهذا المذهب أراد البخارى، ووجه إدخاله حديث صفية فى هذا الباب، أن صفية صارت إلى دحية الكلبى بأمر النبى - عليه السلام - فأخبر النبى أنها سيدة قريظة ولا تصلح إلا له، وذكر من جمالها، فأمر النبى فأتى بها، فلما رآها عليه السلام قال لدحية: دعها وخذ غيرها، فكان تركه لها عند النبى وأخذه جارية السبى غير معينة، بيعًا لها بجارية نسيئة حتى يأخذها ويستحسنها، فحينئذ تتعين له، وليس ذلك يدًا بيد، وحجة مالك أن الحيوان إذا اختلفت منافعه صار كجنسين من سائر الأشياء، ويجوز فيه التفاضل والأجل؛ لاختلاف أغراض الناس فيه لأن غرض الناس من العبيد والحيوان والمنافع، ولا ربا عندهم فى الحيوان والعروض إذا حدث فيها النسيئة إلا من باب الزيادة فى السلف، وإذا كان التفاضل فى الجهة الواحدة خرج من أن تتوهم فيه الزيادة فى السلف، وليس العبد الكاتب والصائغ عندهم مثل العبد الذى هو مثله فى الصورة، إذا لم يكن كاتبًا ولا صائغًا، وأما إذا اتفقت منافعها فلا يجوز عندهم صنف منه بصنف مثله أكثر منه إلى أجل؛ لأن ذلك يدخل فى معنى قرض جر منفعة؛ لأنه أعطى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 354 شيئًا له منفعة بشىء أكثر منه له مثل تلك المنفعة؛ لأنه إنما طلب زيادة الشىء لاختلاف منافعه، فلم يجز ذلك، وتأول مالك فيما روى عن على بن أبى طالب أنه باع جملا له يدعى عصيفير بعشرين بعيرًا إلى أجل، وما روى عن ابن عمر أنه اشترى راحلة بأربعة أبعرة، أن منافعها كانت مختلفة، وليس فى الحديث عنهم أن منافعها كانت متفقة، فلا حجة للمخالف فى ذلك. وأما قول ابن سيرين: لا بأس ببعير ببعيرين، ودرهم بدرهم نسيئة، وفى بعض النسخ بدرهمين نسيئة، فإن ذلك خطأ فى النقل عن البخارى، والصحيح عن ابن سيرين ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: (لا بأس ببعير ببعيرين وردهم، والدرهم نسيئة فإن كان أحد البعيرين نسيئة فهو مكروه) وهذا مذهب مالك، وقد ذكره فى الموطأ فى مسألة الجمل بالجمل وزيادة دراهم، قال: والذى يجوز من ذلك أن يكون الجملان نقدًا، ولا يبالى تأخرت الدراهم أم تعجلت؛ لأن الجمل بالجمل قد حصل يدًا بيد، فبطل أن يتوهم فيه السلف، وأعلم أنه بيع؛ لأن الدراهم هاهنا تبع للجمل، وليس هى المقصد، وأما إذا كان أحد الجملين نسيئة فلا يجوز؛ لأنه عنده من باب الزيادة فى السلف، كأنه أسلفه جملا فى مثله واستزاد عليه الدراهم، ولو كانت الدراهم والجمل جميعًا إلى أجل لم يجز؛ لأنه أقرضه الجمل على أنه يرده إليه بصفته ويرد معه دراهم، فهو سلف جر منفعة، وزيادة على ما أخذ المستسلف فلا يجوز. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 355 وقول رافع بن خديج: (آتيك غدًا رهوًا) قال صاحب العين: الرهو: مشى فى سكون. وقال أبو عبيد: يقول: آتيك عفوًا لا احتباس فيه. 0 - بَاب بَيْعِ الرَّقِيقِ / 149 - فيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نُصِيبُ سَبْيًا فَنُحِبُّ الأَثْمَانَ فَكَيْفَ تَرَى فِى الْعَزْلِ؟ فَقَالَ: (أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ ذَلِكَ، لاَ عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تَفْعَلُوا ذَلِكُ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ نَسَمَةٌ كَتَبَ اللَّهُ أَنْ تَخْرُجَ إِلاَ هِىَ خَارِجَةٌ) . / 150 - وفيه: جَابِر، قَالَ: بَاعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمُدَبَّرَ. / 151 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدَ بْنَ خَالِدٍ، أنّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، سُئل، عَنِ الأَمَةِ تَزْنِى وَلَمْ تُحْصَنْ، قَالَ: (اجْلِدُوهَا، فَإِنْ زَنَتْ، فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا بَعْدَ الثَّالِثَةِ، أَوِ الرَّابِعَةِ) . بيع الرقيق كبيع سائر المباحات الداخلة فى عموم قوله تعالى: (وأحل الله البيع (. وقوله فى حديث أبى سعيد: فنحب الأثمان. يدل أنه لا يجوز بيع أم الولد؛ لأن الحمل منهن يمنع الفداء والثمن، وسيأتى تمام القول فى أم الولد فى موضعه - إن شاء الله. وأما بيع المدبر فإن العلماء اختلفوا فيه، فذهب مالك والكوفيون إلى أنه لا يجوز بيعه، ولا يجوز تحويله عن موضعه الذى وضع فيه، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 356 وقال الشافعى: بيع المدبر جائز، واحتج بحديث جابر أن النبى - عليه السلام - باع مدبرًا، وسيأتى بيان مذاهبهم فيه فى موضعه، وقد تقدم فى باب بيع العبد الزانى، الكلام فى حديث أبى هريرة، فأغنى عن إعادته - والحمد لله. 1 - بَاب هَلْ يُسَافِرُ بِالْجَارِيَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بَأْسًا أَنْ يُقَبِّلَهَا أَوْ يُبَاشِرَهَا. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِذَا وُهِبَتِ الْوَلِيدَةُ الَّتِى تُوطَأُ، أَوْ بِيعَتْ أَوْ عَتَقَتْ، فَلْيُسْتَبْرَأْ رَحِمُهَا بِحَيْضَةٍ، وَلاَ تُسْتَبْرَأُ الْعَذْرَاءُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُصِيبَ مِنْ جَارِيَتِهِ الْحَامِلِ مَا دُونَ الْفَرْجِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِلاَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ (. / 152 - فيه: أَنَس، قَدِمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، خَيْبَرَ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحِصْنَ ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَىِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا وَكَانَتْ عَرُوسًا، فَاصْطَفَاهَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لِنَفْسِهِ، فَخَرَجَ بِهَا حَتَّى بَلَغْنَا سَدَّ الرَّوْحَاءِ حَلَّتْ فَبَنَى بِهَا، ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِى نِطَعٍ صَغِيرٍ، ثُمَّ قَالَ عليه السَّلام: (آذِنْ مَنْ حَوْلَكَ) ، فَكَانَتْ تِلْكَ وَلِيمَةَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى صَفِيَّةَ، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُحَوِّى لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ، ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ، فَتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ. فى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 357 حديث صفية دليل على أن الاستبراء أمانة، يؤتمن المبتاع عليها بألا يطأها حتى تحيض حيضة إن لم تكن حاملاً؛ لأن النبى - عليه السلام - ألقى رداءه على صفية، وأمرها أن تحتجب بالجعرانة حين صارت فى سهمه، ومعلوم أن من سنته أن الحائل لا توطأ حتى تحيض حيضة؛ خشية أن تكون حاملاً، وأن الحامل لا توطأ حتى تضع؛ لئلا يسقى ماءه زرع غيره، فلما كان الاستبراء أمانة ارتفعت فيه الحكومة، وفى هذا حجة لمن لم يوجب المواضعة على البائع، وهو قول جماعة فقهاء الأمصار غير ربيعة ومالك بن أنس، فإنهما أوجبا المواضعة فى الجوارى المرتفعات المتخذات للوطء خاصة، قال مالك فى المدونة: أكره ترك المواضعة وائتمان المبتاع على الاستبراء، فإن فعلا أجزأهما، وهى من البائع حتى تدخل فى أول دمها. قال المهلب: وإنما قال مالك بالمواضعة خشية أن يتذرع المشترى إلى الوطء، فجعل الاستبراء حياطة على الفروج وحفظا للأنساب، ولقوله عليه السلام: (لا توطأ حائل حتى تحيض) . وأحتج من لم ير المواضعة بأن عطاء بن أبى رباح قال: ما سمعنا بالمواضعة قط. وقال محمد بن عبد الحكم: أول من قال بالمواضعة ربيعة. قال الطحاوى: والدليل على أن المواضعة غير واجبة أن العقد إنما يوجب تسليم البدلين، وقد وافقنا مالك على أن غير المرتفعات من الجوارى لا يجب فيهن استبراء، فوجب أن يكون كذلك حكم المرتفعات، وأجمع الفقهاء على أن حيضة واحدة براءة فى الرحم، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 358 إلا أن مالكًا والليث قالا: إن اشتراها فى أول حيضتها اعتد بها، وإن كان فى آخرها لم يعتد بها. واختلفوا فى تقبيل الجارية ومباشرتها قبل الاستبراء، فأجاز ذلك الحسن البصرى وعكرمة، وبه قال أبو ثور، وثبت عن ابن عمر أنه قبل جارية وقعت فى سهمه يوم جلولاء ساعة قبضها. وكره ذلك ابن سيرين، وهو قول الليث ومالك وأبى حنيفة والشافعى، ووجه كراهتهم لذلك قطعا للذريعة، وحفظاُ للانساب. وحجة الذين أجازوا ذلك قوله تعالى: (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم (وقوله عليه السلام: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض) . فدل هذا أن ما دون الوطء من المباشرة والقبلة فى حيز المباح وسفر النبى عليه السلام بصفية قبل أن يستبرئها حجة فى ذلك لأنه لو لم يحل له من مباشرتها ما دون الجماع لم يسافر بها معه، لأنه لا بد أن يرفعها أو ينزلها، وكان عليه السلام لا يمس بيده امرأة لا تحل له، ومن هذا الباب اختلافهم فى مباشرة المظاهر وقبلته لامرأته التى ظاهر منها، فذهب الزهرى والنخعى ومالك وأبو حنيفة والشافعى إلى أنه لا يقبل امرأته ولا يتلذذ منها بشىء. وقال الحسن البصرى: لا بأس أن ينال منها ما دون الجماع. وهو قول الثورى والأوزاعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وكذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 359 فسر عطاء وقتادة والزهرى قوله تعالى: (من قبل أن يتماسا (أنه عنى بالمسيس الجماع فى هذه الآية، واختلفوا فى استبراء العذراء فقال ابن عمر: لا تستبرأ. وبه قال أبو ثور، وقال سائر الفقهاء: تستبرأ بحيضة إذا كانت ممن تحيض ويوطأ مثلها. 2 - بَاب بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالأَصْنَامِ / 153 - فيه: جَابِر، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ: (إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالأَصْنَامِ) ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ، فَقَالَ: (لاَ هُوَ حَرَامٌ) ، ثُمَّ قَالَ عليه السَّلام عِنْدَ ذَلِكَ: (قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا أجَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ) . أجمعت الأمة على أنه لا يجوز بيع الميتة والأصنام، لأنه لا يحل الانتفاع بهما، فوضع الثمن فيهما إضاعة المال، وقد نهى النبى عن إضاعة المال، قال ابن المنذر: فإذا أجمعوا على تحريم بيع الميتة، فبيع جيفة الكافر من أهل الحرب كذلك، وقد روى ذلك عن النبى - عليه السلام - وهو مذكور فى آخر كتاب الجهاد. قال الطبرى: فإن قال قائل: ما وجه قوله عليه السلام إذ سأله السائل عن شحوم الميتة وقال: إنها تدهن بها الجلود والسفن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 360 ونستصبح بها، فقال مجيبًا له: (قاتل الله اليهود؛ حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها) . قيل: إن جوابه عليه السلام كان عن مسألة بيع الشحوم، لا عن دهن الجلود والسفن، وإنما سأله عن بيع ذلك إذ ظنه جائزًا من أجل ما فيه من المنافع، كما جاز بيع الحمر الأهلية لما فيها من المنافع وإن حرم أكلها، فظن أن شحوم الميتة كذلك، يحل بيعها وشراؤها وإن حرم أكلها، فأخبره عليه السلام أن ذلك ليس كالذى ظن، وأن بيعها حرام وثمنها حرام إذ كانت نجسة، ونظيره الدم والخمر فيما يحرم من بيعها وأكل ثمنها، فأما الاستصباح ودهن السفن والجلود بها، فهو مخالف بيعها وأكل ثمنها، إذ كان ما يدهن بها من ذلك ينغسل بالماء غسل الشىء الذى أصابته نجاسة فيطهره الماء. هذا قول عطاء بن أبى رباح وجماعة من العلماء، وممن أجاز الاستصباح بالزيت تقع فيه الفأرة: على بن أبى طالب، وابن عباس، وابن عمر، وقد تقصينا هذا فى كتاب الذبائح فى باب (إذا وقعت الفأرة فى سمن جامد أو دهن) . 3 - بَاب ثَمَنِ الْكَلْبِ / 154 - فيه: أَبُو مَسْعُود الأَنْصَارِىِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِىِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 361 / 155 - وفيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، نَهَى النَّبِىّ عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وَثَمَنِ الْكَلْبِ، وَكَسْبِ الأَمَةِ. . . الحديث. اختلفت الرواية عن مالك فى بيع الكلب، فقال فى الموطأ: أكره بيع الكلب الضارى وغيره؛ لنهى رسول الله عن ثمن الكلب. وروى ابن نافع عن مالك أنه كان يأمر ببيع الكلب الضارى فى الميراث والدين والمغانم، وكان يكره بيعه للرجل ابتداءً، قال ابن نافع: وإنما نهى رسول الله عن ثمن الكلب العقور، وروى أبو زيد عن ابن القاسم أنه لا بأس باشتراء كلب الصيد، ولا يعجبنى بيعها، وكان ابن كنانة وسحنون يجيزان بيع كلاب الصيد والحرث والماشية، قال سحنون: ويحج بثمنها، وهو قول الكوفيين. وقال مالك: إن قتل كلب الدار فلا شىء عليه إلا أن يسرح مع الماشية. وروى عن أبى حنيفة أنه من قتل كلبًا لرجل ليس بكلب صيد ولا ماشية فعليه قيمته، وكذلك السباع كلها، وقال الأوزاعى الكلب لا يباع فى مقاسم المسلمين، هو لمن أخذه، وقال الشافعى: لا يجوز بيع كلاب الصيد والحرث والماشية، ولا قيمة فيها. وهو قول أحمد بن حنبل، احتجا بعموم نهيه عليه السلام عن ثمن الكلب. وحجة مالك والكوفيين قوله تعال: (يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين (فإذا أحل لنا الذى علمناه، أفادنا ذلك إباحة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 362 التصرف فيها بالإمساك والبيع وغير ذلك، فوجب أن يجوز بيعها وشراؤها بظاهر الآية. فإن قيل: المذكور فى هذه الآية هو تحليل تعليم الكلاب، وأكل ما أمسكن علينا. فالجواب: أن (ما) بمعنى الذى، وتقديره أحل لكم الطيبات والذى علمتم من الجوارح، ثم أباح تعليمهن بقوله: (تعلمونهن مما علمكم الله (وهذا قول جماعة السلف. روى عن جابر بن عبد الله أنه جعل القيمة فى كلب الصيد، وعن عطاء مثله، وقال: لا بأس بثمن الكلب السلوقى. وعن النخعى مثله، وقال أشهب: إذا قتل الكلب المعلم ففيه القيمة. وأوجب فيه ابن عمر أربعين درهمًا، وفى كلب ماشية، شاة، وفى كلب الزرع فرقًا من طعام، وأجاز عثمان الكلب الضارى فى المهر، وجعل فيه عشرين من الإبل على من قتله. وقد روى عن ابن عمر عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (من اقتنى كلبًا إلا كلبًا ضاريًا أو كلب صيد؛ نقص من عمله كل يوم قيراطان) فهذا الحديث زائد، فكأنه عليه السلام نهى عن ثمن الكلب إلا الكلب الذى أذن فى اتخاذه للانتفاع به، ويحتمل أن يكون الحديث الذى فيه النهى عن ثمن الكلب وكسب الحجام كان فى بدء الإسلام، ثم نسخ ذلك، وأبيح الاصطياد به، وكان كسائر الجوارح فى جواز بيعه، وكذلك لما أعطى الحجام أجره كان ناسخًا لما تقدمه، وذكر الطحاوى من حديث أبى رافع أن النبى - عليه السلام - لما أمر بقتل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 363 الكلاب أتاه ناس فقالوا: يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأمة التى أمرت بقتلها؟ فنزلت: (يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين (فلما حل لنا الانتفاع بها، حل لنا بيعها وأكل ثمنها. وقال المهلب: ما فى حديث أبى جحيفة غير كسب الإماء وأكل الربا، فهو مكروه تنزهًا عن رذائل المكاسب، وكسب الإماء والزنا محرمان بالكتاب والسنة، وهو كله مذكور تحت قول واحد، فلا حجة لأحدٍ فى جمع أمور مختلفة الأحكام تحت كلام واحد. وحلوان الكاهن يعنى: أجره على الكهانة. وسيأتى تفسير البغى فى كتاب الإجارة، إن شاء الله. - بَاب السَّلَمِ فِى كَيْلٍ مَعْلُومٍ / 1 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَدِمَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، الْمَدِينَةَ، وَالنَّاسُ يُسْلِفُونَ فِى الثَّمَرِ الْعَامَ وَالْعَامَيْنِ - أَوْ قَالَ: عَامَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً شَكَّ إِسْمَاعِيلُ - فَقَالَ: (مَنْ سَلَّفَ فِى تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِى كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ) . وترجم له: (باب السلم فى وزن معلوم) وزاد فيه: (إلى أجل معلوم) . / 2 - وفيه: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ، أنَّهُ اختلف هو وَأَبُو بُرْدَةَ فِى السَّلَفِ، فَبَعَثُونِى إِلَى ابْنِ أَبِى أَوْفَى، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا نُسْلِفُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَم وَأَبِى بَكْرٍ، وَعُمَرَ فِى الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ، وَسَأَلْتُ ابْنَ أَبْزَى، فَقَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 364 أجمع العلماء أنه لا يجوز السلم إلا فى كيل معلوم أو وزن معلوم فيما يكال أو يوزن، وأجمعوا أنه إن كان السلم فيما لا يكال ولا يوزن فلا بد فيه من عدد معلوم، وأجمعوا أنه لا بد من معرفة صفة الشىء المسلم فيه، واختلفوا فى الأجل على ما يأتى ذكره فى بابه بعد هذا - إن شاء الله. واختلفوا فى ترك ذكر مكان القبض، فقال أحمد وإسحاق وأبو ثور: إن لم يسم مكانًا فالسلم جائز، استدلالاً بحديث ابن عباس؛ لأنه ليس فيه ذكر المكان، ولو كان ترك ذلك يفسد السلم لأعلمهم بذلك عليه السلام، وقال مالك: إن لم يذكر الموضع جاز السلم، ويقبضه فى المكان الذى كان فيه السلم، فإن اختلفا فى الموضع فالقول قول البائع. وقال الثورى وأبو حنيفة: لا يجوز السلم فيما له حمل مؤنة إلا أن يشترط فى تسليمه مكانًا معلومًا. وهو قول الشافعى. قال ابن المنذر: وقوله: (يسلفون فى التمر العام والعامين) فيه إجازة السلم فى التمر وإن لم يكن ذلك الوقت موجودًا إذا وجد وقت يحل فيه السلم، ويفسد السلم عند الثورى والكوفيين والشافعى بالافتراق دون القبض لرأس المال، وهو عندهم من باب الدين بالدين، وعند مالك إن تأخر قبض رأس المال يومين وثلاثة بغير شرط فى العقد جاز، كما لو كان لرجل على رجل دين جاز أن يؤخر اليوم واليومين على وجه الرفق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 365 - بَاب السَّلَم إِلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ أَصْلٌ / 3 - فيه: عَبْد اللَّه بِن أَبِى أَوْفَى، كُنَّا نُسْلِفُ نَبِيطَ أَهْلِ الشَّأْمِ فِى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّيْتِ فِى كَيْلٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، قُلْتُ: إِلَى مَنْ كَانَ أَصْلُهُ عِنْدَهُ؟ قَالَ: مَا كُنَّا نَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ بَعَثَانِى إِلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، يُسْلِفُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَلَمْ نَسْأَلْهُمْ أَلَهُمْ حَرْثٌ أَمْ لاَ؟ . وَقَالَ: جَرِيرٌ، عَنِ الشَّيْبَانِىِّ: فِى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ. / 4 - وفيه: ابْن عَبَّاس، سُئل عَنِ السَّلَمِ فِى النَّخْلِ، قَالَ: نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ، حَتَّى يُؤكَلَ مِنْهُ، وَحَتَّى يُوزَنَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَأَىُّ شَىْءٍ يُوزَنُ؟ قَالَ رَجُلٌ إِلَى جَانِبِهِ: حَتَّى يُحْرَزَ. قال المؤلف: روى وكيع، عن شعبة، عن محمد بن أبى المجالد قال: (اختلف أبو بردة وعبد الله بن شداد فى السلم فقال: فأرسلونى إلى ابن أبى أوفى، فقال: كنا نسلم على عهد رسول الله فى الحنطة والشعير والزبيب، ولا ندرى عند أصحابه من شىء أم لا) فهذا اختلاف من أبى بردة وعبد الله بن شداد فى هذه المسألة وإنما كره السلم إلى من ليس عنده أصل من كرهه؛ لأنه جعله من باب الغرر، وأصل السلم أن يكون إلى من عنده مما يسلم فيه أصل، إلا أنه لما وردت السنة فى السلم بالصفة المعلومة والكيل أو الوزن والأجل المعلوم كان ذلك عاما فيمن عنده أصل وفيمن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 366 ليس عنده، وجماعة الفقهاء يجيزون السلم إلى من ليس عنده أصل، وحجتهم حديث عبد الله بن أبى أوفى، وهو نص فى ذلك. قال المهلب: وفيه من الفقه جواز السلم فى العروض إلى من ليس عنه ما باع بالسلم، ولو كان عنده ما باع ما حل البيع؛ لأنه بيع شىء بعينه لا يقبض إلى مدة طويلة، وهذا لا يجوز بإجماع. وقال ابن المنذر: فى حديث ابن أبى أوفى مبايعة أهل الذمة والسلم إليهم. وفيه دليل على إباحة السلم فى السمن والشبرق وما أشبه ذلك كيلاً معلومًا أو وزنًا معلومًا، إذ هو فى معنى الزيت، وأما حديث ابن عباس الذى هو فى آخر الباب، فليس هو من هذا الباب، وإنما هو من الباب الذى بعده، وغلط فيه الناسخ - والله أعلم. 3 - بَاب السَّلَمِ فِى النَّخْلِ / 5 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنه سُئل عَنِ السَّلَمِ فِى النَّخْلِ، فَقَالَ: نُهِىَ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَصْلُحَ، وَعَنْ بَيْعِ الْوَرِقِ نَسِيئًا بِنَاجِزٍ. وَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ السَّلَمِ فِى النَّخْلِ، فَقَالَ: نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُؤْكَلَ أَوْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَحَتَّى يُوزَنَ. قُلْتُ: وَمَا يُوزَنُ؟ قَالَ رَجُلٌ عِنْدَهُ: حَتَّى يُحْرَزَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 367 اختلف العلماء فى هذا الباب، فقال الكوفيون والثورى والأوزاعى: لا يجوز السلم إلا أن يكون المسلم فيه موجودًا فى أيدى الناس من وقت العقد إلى حين حلول الأجل، فإن انقطع فى شىء من ذلك لم يجز. وهو مذهب ابن عمر وابن عباس - على ما ذكره البخارى فى هذا الباب - وقال مالك والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور: يجوز السلم فيما هو معدود من أيدى الناس إذا كان مأمون الوجود عند حلول الأجل فى الغالب، فإن كان ينقطع حينئذ لم يجز. واحتج الكوفيون بأن النبى نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، وعن بيع ما لم يخلق، وقالوا: من مات فقد حل دينه وإن لم يوجد كان غررًا. قال ابن القصار: وهذا فاسد؛ فإنه قد يحل الأجل ويتعذر السلم؛ بأن يموت المسلم إليه أو يفلس، ولو وجب أن يمنع السلم لجواز ما ذكروه، لوجب ألا يجوز بيع شىء نسيئةً؛ لأنه قد يطرأ على المشترى الموت والفلس قبل محل الأجل، فلا يصل صاحب الحق إلى ماله فيكون هذا غررًا، ولكنه جائز؛ لأن الناس يدخلون فى وقت العقد على رجاء السلامة، ولم يكلفوا مراعاة ما يجوز أن يحدث ويجوز ألا يحدث، ولو سلم فى شىء إلى شهر فإن وقت المطالبة بالتسليم فيه هو رأس الشهر بدليل أن الشىء لو كان موجودًا قبل الشهر لم تكن له المطالبة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 368 به، ولا للمسلم إليه أن يجبره على مراعاة وجوده قبل المحل وحين العقد؛ لأن جوده كعدمه، ولو كان المسلم فيه موجودًا طول السنة إلا يوم القبض فسلم فيه إلى سنة، كان هذا السلم باطلاً بإجماع، وإن كان موجودًا وقت العقد وطول السنة؛ لأنه حين المحل والقبض معدوم، فعلم بهذا أن الاعتبار بوجوده حين القبض لا حين العقد، والدليل على صحة هذا أنهم كانوا يسلفون فى زمن النبى - عليه السلام - فى الثمر السنة والسنتين، ومعلوم أنه إذا أسلف فى الثمر سنة فإنه يتخلل الأجل زمان ينقطع فيه الثمر، وهو زمان الشتاء، ثم إن النبى - عليه السلام - أقرهم على ذلك، ولم ينكر عليهم السلف فى سنة وأكثر، فثبت ما قلناه. وأما نهيه عليه السلام عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها فهو محمول عندنا على أن بيع الثمرة عينًا لا يجوز إلا بعد بدو صلاحها، وفى السلم ليس عند العقد ثمرة موجودة عند البائع تستحق اسم البيع حقيقة، وحديث النهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها مرتب على السلم، تقديره: أنه نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها إلا أن يكون سلمًا، بدليل حديث ابن عباس أنهم كانوا يسلفون فى الثمر السنتين والثلاث، وذلك بيع له قبل أن يبدو صلاحه وقبل أن يخلق، وإذا جاز السلم فى الثمر فقد جاز فى الرطب، والرطب لا يوجد فى سائر السنة كما يوجد التمر، فلا معنى لقولهم. وقال الخطابى: قوله: (حتى يوزن) معناه حتى يخرص، وسماه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 369 وزنًا، لأن الخارص يحرزها ويقدرها، فيحل ذلك محل الوزن لها، والمعنى فى النهى عن بيعها قبل الخرص شيئان: أحدهما: تحصين الأموال؛ وذلك أنها فى الغالب لا تأمن العاهة إلا بعد الإدراك، وهو أوان الخرص. والمعنى الآخر: أنه إذا باعها قبل بدو الصلاح على القطع سقط حقوق الفقراء؛ لأن الله أوجب إخراجها فى وقت الحصاد. 4 - بَاب الْكَفِيلِ فِى السَّلَمِ / 6 - فيه: عَائِشَةَ، اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) طَعَامًا مِنْ يَهُودِىٍّ بِنَسِيئَةٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ. 5 - بَاب الرَّهْنِ فِى السَّلَمِ / 7 - فيه: الأَعْمَشُ، تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِى السَّلَمِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِى الأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، اشْتَرَى مِنْ يَهُودِىٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ، وَارْتَهَنَ مِنْهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ. اختلف العلماء فى هذا الباب، فقال مالك: لا بأس بالرهن والكفيل فى السلم، ولم يبلغنى أن أحدًا كرهه غير الحسن البصرى، ورخص فيه عطاء والشعبى، وبه قال أبو حنيفة والثورى وأبو يوسف ومحمد والشافعى. وكره الرهن والكفيل فى السلم على بن أبى طالب وسعيد بن جبير، وقال: ذلك الربح المضمون. وقال زفر: لا يجوز ذلك فى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 370 السلم، ولا سبيل له على الكفيل. وهو قول الأوزاعى وأحمد حنبل وأبى ثور. قال المهلب: وحجة من كرهه أنه إن أخذ الرهن فى رأس المال، فرأس المال غير الدين، إنما دينه ما سلم فيه، ورأس المال مستهلك فى الذمة غير مطلوب به، وإن أخذه بالمسلم فيه، فكأنه اقتضاه قبل أجله، وهو من باب سلف جر منفعة؛ لأنه ينتفع بما يستوثق به من الرهن والضامن، وحجة من أجازه إجماعهم على إجازة الرهن والكفيل والحوالة فى الدين المضمون من ثمن سلعة قبضت، فكذلك السلم، ووجه احتجاج النخعى بحديث عائشة: أنه استدل بأن الرهن لما جاز فى الثمن بالنسيئة المجمع عليها، جار فى المثمون وهو المسلم فيه وبيان ذلك أنه لما جاز أن يشترى الرجل طعامًا أو عرضًا بثمن إلى أجل، ويرهن فى الثمن رهنًا، كذلك يجوز إذا دفع عينًا سلمًا فى غوص طعام أو غيره إلى أجل أن يأخذ فى الشىء المسلم فيه رهنًا، ولا فرق بينهما. 6 - بَاب السَّلَمِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَالأَسْوَدُ، وَالْحَسَنُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لاَ بَأْسَ بالسلم فِى الطَّعَامِ الْمَوْصُوفِ بِسِعْرٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، مَا لَمْ يَكُ ذَلِكَ فِى زَرْعٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ. / 8 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَدِمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 371 الثِّمَارِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثَ، فَقَالَ: (أَسْلِفُوا فِى الثِّمَارِ فِى كَيْلٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ) . اختلف العلماء فى أجل السلم، فقال مالك والكوفيون وجمهور الفقهاء إنه لا يجوز السلم الحال، ولا بد فيه من أجل معلوم، وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه لابد فيه من أجل وإن كانت أيامًا يسيرة، وقال ابن القاسم: معناه إذا كانت أيامًا تتغير فيها الأسواق. وقال الشافعى وأبو ثور: يجوز السلم بغير ذكر أجل أصلاً، وهذا خلاف الحديث؛ لأنه عليه السلام قال: (من أسلم) ، فأتى بلفظ العموم، وأيضًا فإنه عليه السلام أحل الأجل محل الكيل والوزن وقرنه بهما، فلما لم يجز العقد إذا عدمت صفة الكيل والوزن، فكذلك الأجل يجب اعتباره، كما لو قال: صل على صفة كذا. لم يجز العدول عن الصفة. واحتج الشافعى أن السلم بيع من البيوع، والبيوع تجوز بثمن معجل ومؤجل، فكذلك السلم، قيل: هذا ينتقض بجواز السلم فى المعدوم، وهو يجوز مؤجلاً ولا يجوز معجلاً، وإنما لم يجز ابن عمر السلم فى زرع لم يبد صلاحه؛ لأنه سلم فى عين، وحكم السلم ألا يكون فى عين معلومة، وإنما يكون فى صفة معلومة ثابتة فى الذمة، لا ينفسخ بموت أحد المتعاقدين فى السلم، ولا بجائحة تنزل، وهذا مذهب أهل الحجاز، إلا أن مالكًا أجاز السلم فى طعام بلد بعينه إذا كان الأغلب فيه أنه لا يخلف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 372 ولم يختلف العلماء أنه لا يجوز أن يكون السلم فى قمح فدان بعينه؛ لأنه غرر لا يدرى هل يتم زرعه أم لا، ويجوز عند جميعهم أن يكون السلم فى زمن يكون فيه الزرع قد بدا صلاحه إذا لم يكن يعين زرعًا ما. فإن أسلم الرجل فى تمر حائط بعد طيبه أو زرع بعد ما أدرك، فذكر ابن حبيب عن ابن القاسم أنه كرهه، وإن فات لم يفسخ، وليس بالحرام البين، ولا يجوز عند سائر الفقهاء؛ لأنه كبيع عين اشترط فيه تأخير القبض، وهذا لا يجوز؛ لأن من شرط البيع تسليم البيع. قال ابن المنذر: قوله عليه السلام: (أسلموا فى الثمار) إجازة السلم فى الثمار كلها لعموم لفظه، وهو قول ابن عمر: لا بأس بالسلم فى الطعام بسعر معلوم. فإن العلماء اختلفوا فى رأس مال السلم، فقال مالك: ولو أسلم إليه عروضًا أو تبرًا أو فضة مكسرة جزافًا صح السلم، ولا يجوز أن يسلم إليه دنانير أو دراهم جزافًا، فرق بين التبر والدنانير والدراهم؛ لأن التبر بمنزلة الثوب والسلعة عنده. وقال أبو حنيفة: لا يسلم إليه تبرًا جزافًا، ولا شيئًا مما يكال أو يوزن جزافًا. هو أحد قولى الشافعى، وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز أن يسلم إليه الدنانير والدراهم وكل ما يكال أو يوزن جزافًا. وهو قول الشافعى الآخر. وحجة أبى حنيفة أنه لابد من معرفة رأس المال لأنه قد يعدم المسلم فيه حين المطالبة، فينفسخ العقد فيرجع بالثمن، وإذا لم يكن معلومًا لم يمكن المطالبة به، وهو كالقراض لا بد فيه معرفة رأس المال، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 373 والحجة لمالك أن مقتضى العقد أن تقع المطالبة بالمسلم فيه لا بالسلم، فلم يفتقر إلى الصفة، وهذا المعنى موجود فى بيع الأعيان؛ لأنه قد يستحق المبيع فتقع المطالبة برأس المال، ثم يجوز جزافًا كما يجوز معلومًا، وقد تجوز الإجازة بالجزاف، وقد تنهدم الدار فتقع المطالبة بالأجرة التى سلمها إليه المستأجر، ولم تفتقر الأجرة فيها إلى أن تكون موصوفة بل يكون جزافًا، كذلك رأس مال السلم، وإنما افتقر القراض أن تكون الدراهم موصوفة؛ لأن المطالبة تقع ببدل ما تسلمه، فهو بمنزلة المسلم فيه. 7 - بَاب السَّلَمِ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ / 9 - فيه ابن عمر: كَانُوا يَتَبَايَعُونَ الْجَزُورَ إِلَى حَبَلِ الْحَبَلَةِ، فَنَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْهُ. فَسَّرَهُ نَافِعٌ، أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ مَا فِى بَطْنِهَا. العلماء مجمعون على أنه لا يجوز هذا السلم؛ لأنه أجل مجهول، والنبى - عليه السلام - إنما أجاز السلم إلى أجل معلوم. قال ابن المنذر: واختلفوا فيمن باع إلى الحصاد أو الجداد أو إلى العطاء أو عيد النصارى، فقالت طائفة: البيع جائز، وكذلك لو باع إلى رجوع الحاج، وأجاز ذلك كله أبو ثور، وقال مالك: من باع إلى الحصاد، أو إلى الجداد، أو إلى العطاء، فهو جائز؛ لأنه معروف. وبه قال أحمد. وكذلك إلى قدوم الغزاة، وروى عن ابن عمر أنه كان يشترى إلى العطاء، وعن القاسم بن محمد مثله، وقال الأوزاعى: إن باع إلى فصح النصارى أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 374 صومهم، فذلك جائز، وإن باع إلى الأندر والعصير فهو مكروه؛ لتقارب ما بين أول الأندر وآخره. وقالت طائفة: لا يجوز السلم ولا البيع إلى العصير والحصاد والدراس. هذا قول ابن عباس، وبه قال أبو حنيفة والشافعى، واحتجوا بأن الله - تعالى - جعل المواقيت بالأهلة لقوله تعالى: (يسئلونك عن الأهلة (وفيها قول رابع: أن البيع إلى العطاء جائز والمال حال. هذا قول ابن أبى ليلى. ومن باع إلى أجل غير معلوم فالبيع إليه فاسد، استدلالاً بنهيه عليه السلام عن بيع حبل الحبلة، وحجة مالك: أن المقصود بالحصاد وجداد النخل الأوقات، فهى أوقات معلومة عند أهل المعرفة بها سواء تقدمت أفعال الناس لها أو تأخرت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 375 بسم الله الرحمن الرحيم 31 - كِتَاب الشُّفْعَةِ - بَاب الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فَلاَ شُفْعَةَ / 1 - فيه: جَابِر، قَضَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، بِالشُّفْعَةِ فِى كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ. اتفق جماعة الفقهاء على القول بهذا الحديث، وأوجبوا الشفعة للشريك فى المشاع من الرباع، وكل ما تأخذه الحدود وتحتمله القسمة، وإنما اختلفوا فى غير الشريك. فذهب مالك والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور إلى أنه لا شفعة إلا فى المشاع بين الشركاء على ظاهر حديث جابر، وروى مثل ذلك عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وربيعة، وأبى الزناد. وقال أهل العراق بالشفعة للجار الملاصق غير الشريك، وأوجبها بعضهم إذا كانت الطرق واحدة. وفى هذا الحديث ما ينفى الشفعة للجار؛ لأن ضرب الحدود إذا نفى الشفعة كان الجار أبعد من ذلك. وفيه أيضًا ما ينفى الشفعة فى كل ما لا يحتمل قسمة ولا تضرب فيه الحدود، وذلك ينفى الشفعة فى العروض والحيوان، وهو قول شاذ يروى عن عطاء، والسنة المجتمع عليها بالمدينة ألا شفعة إلا فى الأرضين والرباع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 376 قال ابن القصار: واتفق مالك وأبو حنيفة والشافعى أن المسلم والذمى فى أخذ الشفعة من المسلم سواء، وحكى عن الشعبى أنه لا شفعة للذمى، لأنه صاغر، وهو قول الثورى وأحمد بن حنبل، وحجة من أجاز ذلك عموم قوله عليه السلام: (الشفعة فى كل ما لم يقسم) ، ولم يفرق بين مسلم وذمى، وأيضًا فإن ما يجب بالشركة لا يختلف فيه المسلم والذمى كالعتق، ألا ترى أنه لو أعتق شقصًا من عبد بينهما، قوم عليه كما يقوم على شريكه المسلم؟ والشفعة حق من حقوق الآدميين كسائر الحقوق التى هى له، مثل البيع والإجارة وغيرها، والشفعة حق يتعلق بالمال وضع لإزالة الضر كالرد بالعيب، فما وجب للمسلم فيه وجب للذمى مثله، وليس الصغار يدل على بطلان حقه؛ لأنه لا فرق بين المسلم والذمى فى الحقوق المتعلقة بالأموال، كخيار الشرط والأجل، وإمساك الرهن. - بَاب عَرْضِ الشُّفْعَةِ عَلَى صَاحِبِهَا قَبْلَ الْبَيْعِ وَقَالَ الْحَكَمُ: إِذَا أَذِنَ لَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ. وَقَالَ الشَّعْبِىُّ: مَنْ بِيعَتْ شُفْعَتُهُ، وَهْوَ شَاهِدٌ لاَ يُغَيِّرُهَا، فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ. / 2 - فيه: أَبُو رَافِعٍ، مَوْلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، أنه قَالَ لسعد: ابْتَعْ مِنِّى بَيْتَىَّ فِى دَارِكَ؟ فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ مَا أَبْتَاعُهُمَا، فَقَالَ الْمِسْوَرُ: وَاللَّهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 377 لَتَبْتَاعَنَّهُمَا، فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُكَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلاَفٍ مُنَجَّمَةً، أَوْ مُقَطَّعَةً، قَالَ أَبُو رَافِعٍ: وَاللَّهِ لَقَدْ أُعْطِيتُ بِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ، وَلَوْلاَ أَنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ) ، مَا أَعْطَيْتُكَهَا بِأَرْبَعَةِ آلاَفٍ، وَأَنَا أُعْطَى بِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ. قال المؤلف: عرض الشفعة على الشريك قبل البيع مندوب إليه كما فعل أبو رافع، ألا ترى أنه حط من ثمن البيتين كثيرًا رغبة فى العمل بالسنة؟ وفيه ما كانوا عليه من الحرص على موافقة السنن والعمل بها، والسماحة بأموالهم فى جنب ذلك، فإن عرض عليه الشفعة وأذن له الشريك فى بيع نصيبه، ثم رجع فطالبه بالشفعة، فقالت طائفة: لا شفعة له. هذا قول الحكم والثورى وأبى عبيد وطائفة من أهل الحديث، واحتجوا بحديث سفيان عن أبى الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله: (من كان له شريك فى ربعة، فليس له أن يبيع حتى يستأذن شريكه، فإن رضى أخذ، وإن كره ترك) قالوا: فدل هذا الحديث على أن تركه ترك تنقطع به شفعته، ومحال أن يقول له النبى: (إن شاء أخذ، وإن شاء ترك) ، فإذا ترك لا يكون لتركه معنى. وقالت طائفة: إن عرض عليه الأخذ بالشفعة قبل البيع فأبى أن يأخذ ثم باع، فأراد أن يأخذ بشفعته فذلك له. هذا قول مالك والكوفيين، ورواية عن أحمد، ويشبه مذهب الشافعى، واحتج أحمد فقال: لا تجب له الشفعة حتى يقع البيع، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك وقد احتج بمثله ابن أبى ليلى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 378 واختلفوا فى المسألة التى ذكرها الشعبى فى هذا الباب، فقال مالك: إذا باع الشريك نصيبه من أجنبى وشريكه حاضر يعلم ببيعه، فله المطالبة بالشفعة متى شاء، ولا تنقطع شفعته إلا بمضى مدة يعلم أنه فى مثلها تارك. واختلف فى المدة، فذكر ابن [. .] أن الحد الذى تنقطع إليه الشفعة عند مالك مرور السنة، وقال ابن القاسم: وقفت مالكًا على مرور السنة فلم يرها كثيرًا، وذلك إذا علم الشفيع بشفعته، فإذا لم يعلم فهو على شفعته أبدًا، إن كان غائبًا فهو على شفعته وإن علم بها. وقال ابن الماجشون: لا ينقطع حق الشفعة إلا الطول، وقد سمعت مالكًا يقول: الخمس أعوام ليس بكثير. وقال أصبغ: السنتان والثلاث قليل لا ينقطع معه الشفعة. وقال أبو حنيفة: إذا وقع البيع فعلم الشفيع به، فأشهد مكانه أنه على شفعته، وألا بطلت شفعته. وبه قال الشافعى وقال: إلا أن يكون له عذر مانع من طلبها من حبس أو غيره، فهو على شفعته. واحتج الكوفيون فقالوا: إذا سكت عن المطالبة بالشفعة على الفور، كان ذلك رضى منه بتقرير النبى - عليه السلام - ملك المشترى، قياسًا على خيار البكر أنه على الفور. والحجة لمالك فى أنه على شفعته إلا أن يطول زمانه فلأن الشفعة حق للشفيع، فهو واجب له حتى يعلم أنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 379 قد تركها، وذلك بمنزلة الأمة إذا أعتقت تحت العبد، أن لها أن تختار نفسها أبدًا ما لم يعلم تركها للخيار، وذلك بأن تختار زوجها، أو يطأها بعد علمها بالعتق وهى طائعة، وكذلك المشترى للسلعة المعيبة، له ردها إلا إن يرضى بالعيب، أو يستخدم العبد أو الأمة، أو يستعمل ما اشتراه وبه عيب بعد أن يعلم به، فليس له الرد؛ لأن استعماله ذلك دليل على رضاه، وقبل أن يعلم رضاه بقوله أو دلالة الحال، فله الرد بالعيب، وكذلك الشفيع قبل أن يعلم ترك شفعته بالقول أو دلالة الحال، فله الأخذ بالشفعة. واستدل أهل العراق على وجوب الشفعة للجار بقوله عليه السلام: (الجار أحق بصقبه) غير أنهم جعلوا الشريك فى المنزل أحق بالشفعة من الجار، فإن سلم الشفعة الشريك فى الدار، فالجار الملاصق أحق بالشفعة من غيره، فإنت كان بينهما طريق نافذة فلا حق له فى الشفعة، هذا قول أبى حنيفة وأصحابه فتعلقوا بلفظة الجار فى قوله عليه السلام: (الجار أحق بصبقه) وقالوا: لا يراد بهذا الحديث الشريك؛ لأن الجار لا يقع إلا على غير الشريك، وزعموا أنه لا يوجد فى اللغة أن الشريك يسمى جارًا، فخالفوا نص الحديث، وتركوا أوله لتأويل تأولوه فى آخره، فأما خلافهم لنصه، فهو أن أبا رافع كان شريك سعد بالبيتين فى داره، ولذلك دعاه إلى الشراء بأقل مما أعطاه غيره ممن ليس شريك له وفيه: أن أبا رافع سمى شريكه جارًا حين صرف معنى قوله عليه السلام: (الجار أحق بصقبه) إلى شريكه، وهو روى الحديث وعلم معناه، ولو كان المراد بقوله: (الجار أحق بصقبه) الجار غير الشريك كما زعم أهل العراق ما سلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 380 سعد لأبى رافع احتجاجه بالحديث ولا استدلاله به، ولقال له سعد: ليس معنى الحديث كما تأولته، وإنما الجار المراد به غير الشريك. فلما لم يرد عليه تأويله، ولا أنكره المسور، وهم الفصحاء أهل اللسان المرجوع إليهم؛ علم أن معنى الحديث ما تأوله أبو رافع، وأن الجار فيه يراد به الشريك، وأما بيع أبى رافع للبيتين من سعد بأقل مما أعطاه غيره، فإنما كان على وجه التطوع منه؛ لأنه لا خلاف بين العلماء أنه لا يجب على الشريك أن يعطى شريكه الشقص الذى يريد بيعه بأقل من ثمنه، وكل منا قارب بدنه بدن صاحبه قيل له: جار فى لسان العرب، ولذلك قالوا لامرأة الرجل: جارة؛ لما بينهما من الاختلاط بالزوجية، وقد جاء فى حديث دية الجنين: (أن حمل بن مالك قال: كنت بين جارتين لى) يريد امرأيته، ومنه قول الأعشى لامرأته: أجارتنا بينى فإنك طالقة فكذلك الشريك يسمى جارًا لما بينهما من الاختلاط بالشركة، وتأويل قوله عليه السلام: (الجار أحق بصقبه) عند أهل الحجاز على وجهين: أحدهما: أن يراد به الشريك، ويكون حقه الأخذ بالشفعة دون غيره، وهو أولى الوجهين لما تقدم من الدلائل. والوجه الثانى: يحتمل أن يراد به الجار غير الشريك، ويكون حقه غير الشفعة، فيكون جار الرحبة يريد الارتفاق بها، ويريد مثل ذلك غير الجار، فيكون الجار أحق بصقبه، فإن لم يكن هذا فيكون ذلك فيما يجب للجيران بعضهم على بعض من حق الجوار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 381 وما للأجنبيين من الكرامة والبر وسائر الحقوق الذى إذا اجتمع فيها الجار ومن ليس بجار، وجب إيثار الجار على من ليس بجار من طريق مكارم الأخلاق وحسن الجوار، لا من طريق الفرض اللازم، فقد أوصى الله - تعالى - بالجار فقال: (والجار ذى القربى والجار الجنب (وقال عليه السلام: (ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) ذكره ابن المنذر عن الشافعى. وإذا احتمل هذا كله الحديث المجمل، ثم فسره حديث آخر بقوله: (فإذا وقعت الحدود فلا شفعة) كان المفسر أولى من المجمل. والصقب: القرب، يقال: قد أصقب فلان فلانًا، إذا قربه منه، فهو يصقبه، وقد تصاقبا: إذا تقاربا. 3 - بَاب أَىُّ الْجِوَارِ أَقْرَبُ / 3 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِى جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِى؟ قَالَ: (إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا) . لا حجة فى هذا الحديث لمن أوجب الشفعة بالجوار، لأن عائشة إنما سألت النبى عمن تبدأ به من جيرانها فى الهدية، فأخبرها أنه من قرب بابه أولى بها من غيره، فدل بهذا أنه أولى بجميع حقوق الجوار وكرم العشرة والبر ممن هو أبعد منه بابًا. قال ابن المنذر: وهذا الحديث يدل أن اسم الجار يقع على غير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 382 اللزيق، لأنه قد يكون له جارًا لزيقًا وبابه من سكة غير سكته، وله جار بينه وبين بابه قدر ذراعين وليس بلزيق له، وهو أدناهما بابًا، وقد خرج أبو حنيفة عن ظاهر هذا الحديث فقال: إن الجار اللزيق إذا ترك الشفعة، وطلبها الذى يليه وليس له حد إلى الدار ولا طريق، ألا شفعة له. وعوام العلماء يقولون: إذا أوصى الرجل لجيرانه بمال أُعطى اللزيق وغيره، إلا أبا حنيفة فإنه فارق عوام العلماء وقال: لا يعطى إلا اللزيق وحده. وكان الأوزاعى يقول: الجار أربعين دارًا من كل ناحية. وقاله ابن شهاب. وقال على ابن أبى طالب: من سمع النداء فهو جار. قال المهلب: وإنما أمر عليه السلام بالهدية إلى من قرب بابه؛ لأنه ينظر إلى ما يدخل دار جاره وما يخرج منها، فإذا رأى ذلك أحب أن يشاركه فيه، وأنه أسرع إجابة لجاره عند ما ينوبه من حاجة إليه فى أوقات الغفلة والغرة؛ فلذلك بدأ به على من بعد بابه، وإن كانت داره أقرب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 383 بسم الله الرحمن الرحيم 32 - كِتَاب الإِجَارَات - بَاب اسْتِئْجَارُ الرَّجُلِ الصَّالِحِ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِىُّ الأَمِينُ (وَالْخَازِنُ الأَمِينُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ مَنْ أَرَادَهُ / 1 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبىُّ، عليه السَّلام: (الْخَازِنُ الأَمِينُ الَّذِى يُؤَدِّى مَا أُمِرَ بِهِ طَيِّبَةً نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ) . / 2 - وَقَالَ أَيْضًا: أَقْبَلْتُ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَمَعِى رَجُلاَنِ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ، فَقُلْتُ: مَا عَلِمَتُ أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ الْعَمَلَ، فَقَالَ: لَنْ - أَوْ لاَ - نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ. ذكر أهل التفسير أن شعيبًا كان غيورًا، فلما قالت له ابنته: يا أبت أستاجره إن خير من استأجرت القوى الأمين، قال لها: وما يدريك ما قوته وأمانته؟ قالت: أما قوته فما رأيت منه حين استقى، لم أر رجلاً أقوى فى السقاء منه، قال مجاهد: وقيل: إنه استقى بدلو لم يكن يرفعها إلا جملة من الناس، وقيل: إنه رفع عن البئر حجرًا لا يرفعه إلا فئام من الناس، وأما أمانته فإنه نظر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 384 إلى حين أقبلت إليه، فلما علم أنى امرأة صوب رأسه فلم يرفعه، ولم ينظر إلى حين بلغته رسالتك، وقيل: إنها مشت بين يديه تدله على الطريق فضربتها الريح، فنظر إلى عجيزتها فقال لها: امشى خلفى ودلينى على الطريق فسرى عنه وصدقها. فمعنى قولها: (استأجره) أى: لرعى غنمك والقيام عليها. (إن خير من استأجرت القوى) على حرز ماشيتك وإصلاحها، (الأمين) عليه، فلا تخاف منه فيها خيانة. قال المهلب: لما كان طلب العمالة دلالة على الحرص وجب أن يحترز من الحريص عليها، وقد أخبر عليه السلام أنه لا يعان من طلب العمل على ما يطلبه، وإنما يعان عليه من طلب به، وإذا كان هذا فى علم الله معروفًا وعلى لسان نبيه عليه السلام، وجب ألا يستعمل من علم أنه لا يعان عليه ممن طلبه، ووجب على العاقل ألا يدخل فى ذلك إلا بضم السلطان له إليه إذا علم أنه سيطلع به، وإنما أدخل فى هذا الباب حديث (الخازن الأمين أحد المتصدقين) لأن من استؤجر على شىء فهو فيه أمين، وليس عليه فى شىء منه ضمان إن فسد أو تلف إلا أن يضيع تضييعًا معلومًا فعليه الضمان، وقال ملك: لا يضمن المستأجر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 385 ما يعاب عليه، والقول قوله فى ذلك مع يمينه، وروى أشهب عنه فيمن استأجر جفنة أنه لها ضامن، إلا أن يقيم بينة على الضياع. - بَاب رَعْىِ الْغَنَمِ عَلَى قَرَارِيطَ / 3 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام: (مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَ رَعَى الْغَنَمَ) ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ قَالَ: (نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ) . معنى قوله عليه السلام: (ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم) - والله أعلم - أن ذلك توطئة وتقدمةً فى تعريفه سياسة العباد، واعتبارًا بأحوال رعاة الغنم، وما يجب على راعيها من اختيار الكلأ لها، وإيرادها أفضل مواردها، واختيار المسرح والمراح لها، وجبر كسيرها، والرفق بضعيفها، ومعرفة أعيانها وحسن تعهدها، فإذا وقف على هذه الأمور كانت مثالاً لرعاية العباد، وهذه حكمة بالغة. وأجمع العلماء أنه جائز أن يستأجر الراعى شهورًا معلومة بأجرة معلومة. قال مالك: وليس على الراعى ضمان، وهو مصدق فيما هلك أو سرق؛ لأنه أمين كالوكيل، وإلا أن يفرط أو يتعدى. 3 - بَاب اسْتِئْجَارِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَوْ إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَهْلُ الإِسْلاَمِ وَعَامَلَ النَّبِىُّ عليه السَّلام يَهُودَ خَيْبَرَ / 4 - فيه: عَائِشَةَ، اسْتَأْجَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلاً مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 386 بَنِى الدِّيلِ، ثُمَّ مِنْ بَنِى عَبْدِ بْنِ عَدِىٍّ هَادِيًا - الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ - قَدْ غَمَسَ يَمِينَ حِلْفٍ فِى آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، فَأَتَاهُمَا بِرَاحِلَتَيْهِمَا صَبِيحَةَ لَيَالٍ ثَلاَثٍ، فَارْتَحَلاَ وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَالدَّلِيلُ الدِّيلِىُّ، فَأَخَذَ بِهِمْ أَسْفَلَ مَكَّةَ، وَهُوَ طَرِيقُ السَّاحِلِ. استئجار المشركين عند الضرورة وغيرها جائز حسن؛ لأن ذلك ذلة وصغار لهم، وإنما قال البخارى فى ترجمته: إذا لم يوجد أهل الإسلام، ومن أجل أن النبى - عليه السلام - إنما عامل أهل خيبر على العمل فى أرضها إذ لم يوجد من المسلمين من ينوب منابهم فى عمل الأرض، حتى قوى الإسلام واستغنى عنهم وأجلاهم عمر بن الخطاب، وعامة الفقهاء يجيزون استئجارهم عند الضرورة وغيرها. قال المهلب: وفيه من الفقه ائتمان أهل الشرك على السر والمال إذا علم منهم وفاءً ومروءة، كما استأمن النبى - عليه السلام - هذا الدليل المشرك، وهو من الكفار الأعداء المطالبين له، لكنه علم منه مروءة ووفاء ائتمنه من أجلهما على سره فى الخروج من مكة، وعلى الناقتين اللتين دفعهما إليه ليوافيهما بهما بعد ثلاث فى غار ثور. وقال ابن المنذر: فيه استئجار المسلم الكافر على هداية الطريق، وفيه استئجار الرجلين الرجل الواحد على عمل واحد لهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 387 وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر الصديق، ويقال: إنه من العرب، واسترق وهو غلام فاشتراه أبو بكر فأعتقه، ويقال: إنه من الأزد، وكان ممن يعذب بمكة فى الله، شهد بدرًا وأحدًا، وقتل يوم بئر معونة سنة أربع من الهجرة، وهو الذى حكت عائشة عنه أنه كان إذا أخذته الحمى يقول: قد رأيت الموت قبل ذوقه إن الجبان حتفه من فوقه وقال مالك فى العتبية: كان اسم الدليل رقيط. وقال ابن إسحاق: اسمه عبد الله. 4 - بَاب إِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَعْمَلَ لَهُ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَوْ بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ بَعْدَ سَنَةٍ جَازَ وَهُمَا عَلَى شَرْطِهِمَا الَّذِى اشْتَرَطَاهُ إِذَا جَاءَ الأَجَلُ / 5 - فيه: عَائِشَةَ، اسْتَأْجَرَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلاً مِنْ بَنِى الدِّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلاَثٍ. قال ابن المنذر: وهذا الخبر دال على إباحة أن يستأجر الرجل الرجل على أن يدخل فى العمل بعد أيام معلومة، يصح عقد الاجارة قبل وقت العمل، وقياس هذا أن يجوز أن يستأجر منزلاً معلومًا سنة معلومة قبل مجىء السنة بأيام، وأجاز مالك وأصحابه استئجار الأجير على أن يعمل بعد يوم أو يومين أو ما قرب، وهذا إذا نقده الأجرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 388 واختلفوا إذا استأجره ليعمل له بعد شهر أو سنة ولم ينقده، فأجازه مالك وابن القاسم، وقال أشهب: لا يجوز، وهذا عندهم فى الأجير المعين والراحلة المعينة، وأما إذا كان كراء مضمونًا فيجوز فيه ضرب الأجل البعيد وتقديم رأس المال، ولا يجوز أن يتأخر رأس المال إلا اليومين والثلاثة؛ لأنه إذا تأخر كان من باب الدين بالدين، وتفسير الكراء المضمون أن يستأجره على حمولة بعينها على غير دابة معينة، والإيجارة المضمونة أن يستأجر على بناء بيت، ولا يشترط عليه عمل يده، ويصف له طوله وعرضه وجميع آلته، وعلى أن المؤنة فيه كله على العامل مضمونًا عليه حتى يتمه، فإن مات قبل تمامه كان ذلك فى ماله ولا يضره بُعد الأجل فيه، ووجه قول أشهب أنه لا يدرى أيعيش المستأجر أو الدابة، وهو من باب منع التصرف فى الراحلة والأجير. والخريت: الدليل الحاذق. من كتاب العين. 5 - بَاب الأَجِيرِ فِى الْغَزْوِ / 6 - وفيه: يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، جَيْشَ الْعُسْرَةِ، فَكَانَ مِنْ أَوْثَقِ أَعْمَالِى فِى نَفْسِى، فَكَانَ لِى أَجِيرٌ، فَقَاتَلَ إِنْسَانًا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا إِصْبَعَ صَاحِبِهِ، فَانْتَزَعَ إِصْبَعَهُ، فَأَنْدَرَ ثَنِيَّتَهُ فَسَقَطَتْ، فَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السلام. . . الحديث. استئجار الأجير للخدمة وكفاية مؤنة العمل فى الغزو وغيره سواء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 389 قال المهلب: وأما القتال فلا يستأجر عليه، لأن على كل مسلم أن يقاتل حتى تكون كلمة الله هى العليا. قال غيره: وإنما ذكر هذا الباب، لأن عمل الجهاد كله عمل بر، ومن أهل العلم من كره أن يؤاجر نفسه فى شىء من أعمال البر، لكنه لما كان الجهاد فرضًا على الكفاية ولم يتعين، جاز للرجل أن يؤاجر نفسه فى سبب منه أو مما يتعلق به، وقد تقدم فى كتاب الجهاد: هل يسهم للأجير أم لا؟ 6 - بَاب مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَبَيَّنَ لَهُ الأَجَلَ وَلَمْ يُبَيِّنِ الْعَمَلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ (، إِلَى قَوْلِهِ: (وَكِيلٌ ( . قال المهلب: ليس كما ترجم، لأن العمل عندهم معلوم من سقى وحرث ورعى واحتطاب، وما شاكل أعمال البادية ومهنة أهلها، فهذا متعارف وإن لم يبين له أشخاص الأعمال ولا مقاديرها، مثل أن يقول له: إنك تحرث كذا من السنة، وترعى كذا من السنة. فهذا إنما هو على المعهود من خدمة البادية، والذى عليه المدار فى هذا أنه قد عرفه بالمدة وسماها له، وإنما الذى لا يجوز عند الجميع أن تكون المدة مجهولة والعمل مجهول غير المعهود، لا يجوز حتى يعلم. قال المهلب: والنكاح على أعمال البدن لا يجوز عند أهل المدينة، لأنه غرر، وما وقع من النكاح على مثل هذا الصداق لا نأمر به اليوم، لظهور الغرر فى طول المدة، وهو خصوص لموسى عند أكثر العلماء، لأنه قد قال: إحدى ابنتى، ولم يعينها، وهذا لا يجوز إلا بالتعيين، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 390 وأما مذاهب العلماء فى ذلك، فقال مالك: إذا تزوجها على أن يؤاجرها نفسه سنة أو أكثر يفسخ النكاح إن لم يكن دخل بها، وإن كان دخل بها ثبت النكاح بصداق المثل. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن كان حرًا فلها مهر مثلها، وإن كان هبدًا فلها خدمة سنة. وقال الشافعى: النكاح جائز على خدمته إذا كان وقتها معلومًا. وقال بعض أصحاب مالك: إنما كره مالك النكاح على الخدمة، لأنه لم يبلغه أن أحدًا من السلف فعل ذلك، والنكاح موضوع على الاتباع والاقتداء. وقوله: (أيما الأجلين قضيت فلا عدوان على (أى: ذلك واجب لك على فى تزويجى إحدى ابنتيك، فما قضيت من هذين الأجلين، فليس لك على مطالبة بأكثر منه، والله على ما أوجبه كل واحد منا على نفسه شهيد وحفيظ. وروى عن ابن عباس أن النبى - عليه السلام - قال: (سألت جبريل: أى الأجلين قضى موسى؟ قال: أتمهما وأكملهما) يعنى عشر سنين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 391 7 - بَاب إِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا عَلَى أَنْ يُقِيمَ حَائِطًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ جَازَ / 7 - ابْنُ عَبَّاسٍ، عَن أُبَىُّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (فَانْطَلَقَا فَوَجَدَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ، قَالَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَاسْتَقَامَ) . قَالَ: (لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (. قال المهلب: إنما جاز الاستئجار عليه لقول موسى: لو شئت لتخذت عليه أجرًا. والأجر لا يتخذ إلا على عمل معلوم، وإنما كان يكون له الأجر لو عامله عليه قبل عمله، وأما بعد أن أقامه بغير إذن صاحبه فلا يجبر صاحبه على غرم شىء وقال ابن المنذر: فى قصة موسى والخضر جواز الإجارة على البناء. وفى قوله: (حملونا بغير قول) ، فيه جواز أخذ الأجرة من الركبان فى البحر. 8 - بَاب الإِجَارَةِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ / 8 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام: (مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِى مِنْ غُدْوَةَ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِى مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلاَةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِى مِنَ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ عَلَى قِيرَاطَيْنِ؟ فَأَنْتُمْ هُمْ) ، فَغَضِبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالُوا: مَا لَنَا أَكْثَرَ عَمَلاً وَأَقَلَّ عَطَاءً، قَالَ: هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ؟ ، قَالُوا: لاَ، قَالَ: فَذَلِكَ فَضْلِى أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 392 وترجم له (باب الإجارة إلى صلاة العصر) ، وترجم له (باب الإجارة من العصر إلى الليل) . / 9 - وذكر فيه حديث أَبُو مُوسَى، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلاً يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ عَلَى أَجْرٍ مَعْلُومٍ، فَعَمِلُوا لَهُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، فَقَالُوا: لاَ حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ الَّذِى شَرَطْتَ لَنَا، وَمَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ، فَقَالَ لَهُمْ: لاَ تَفْعَلُوا، أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ عَمَلِكُمْ وَخُذُوا أَجْرَكُمْ كَامِلاً، فَأَبَوْا وَتَرَكُوا، وَاسْتَأْجَرَ أَجِيرَيْنِ بَعْدَهُمْ، فَقَالَ: أَكْمِلوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمَ هَذَا وَلَكُمَا الَّذِى شَرَطْتُ لَهُمْ مِنَ الأَجْرِ، فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا كَانَ صَلاَةِ الْعَصْرِ، قَالوا: لَكَ مَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ وَلَكَ الأَجْرُ الَّذِى جَعَلْتَ لَنَا فِيهِ، فَقَالَ: أَكْمِلوا بَقِيَّةَ يَومِكُم، مَا بَقِىَ مِنَ النَّهَارِ شَىْءٌ يَسِيرٌ فَأَبَوا، فَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا أَنْ يَعْمَلُوا لَهُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ، [فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ] حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، فَاكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَذَلِكَ مَثَلُهُمْ وَمَثَلُ مَا قَبِلُوا مِنْ هَذَا النُّورِ) . قال ابن النذر: فى حديث ابن عمر ذكر الإجارة الصحيحة بالأجر المعلوم إلى الوقت المعلوم، ولولا أن ذلك جائز ما ضرب بها عليه السلام المثل. وقال المهلب: إنما هذا مثل ضربه النبى للناس الذين خلقهم الله لعبادته، فشرع لهم دين موسى ليعملوا الدهر كله بما يأمرهم به وينهاهم عنه، فعملوا على دين موسى إلى أن بعث الله عيسى، فأمرهم بأن يتبعوه على شريعته، فأبوا وتبرءوا مما جاء به عيسى، وعمل آخرون بما جاء به عيسى على أن يعملوا باقى الدهر بما يؤمرون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 393 به وينهون عنه، فعملوا حتى بعث الله محمداُ فدعاهم إلى العمل بما جاء به، فعصوا وأبوا وقطعوا العمل، فعمل المسلمون بما جاء به، ويعملون به إلى يوم القيامة، فلهم أجر من عمل الدهر كله، لأنهم أتموا الدهر بعبادة الله كإتمام النهار الذى كان استؤجر عليه كله أول طبقة. وقوله فى حديث ابن عمر: (من يعمل لى من غدوة إلى نصف النهر) قدر لهم مدة أعمال اليهود ولهم أجرهم عليه إلى أن نسخ الله شريعتهم بعيسى، وقال عند مبعث عيسى: من يعمل فى مدة هذا الشرع وله أجر قيراط؟ فعملت النصارى إلى أن نسخ الله دين عيسى بمحمد، ثم قال متفضلاً على المسلمين: من يعمل بقية النهار إلى الليل وله قيراطان فقال المسلمون: نحن نعمل إلى انقطاع الدهر بشريعة محمد، فهذا الحديث وجهه العمل بمدد الشرائع، والحديث الثانى وجهه العمل الدهر كله، فبقى أن من عمل من اليهود إلى أن نسخ دين موسى، ثم انتقل وآمن بعيسى وعمل بشريعته أن له أجره مرتين، كما كان للمسلمين أجرهم مرتين يعنى كأجر اليهود والنصارى قبلهم، لأنهم أعطوا قيراطين على أكثره، وإنما ذلك من أجل إيمان المسلمين بموسى وعيسى وإن كانوا لم يعملوا بشريعتهما، لأن التصديق عمل. فإن قيل: فما قول اليهود والنصارى: (نحن أكثر عملاً وأقل عطاء) وبين نصف النهار والعصر ثلاث ساعات، كما بين العصر إلى الليل ثلاث ساعات، وإنما كان يكون معنى الحديث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 394 ظاهرًا لو قال ذلك اليهود خاصة، لأنهم عملوا نصف النهار على قيراط وذلك ست ساعات، وعملت النصارى ثلاث ساعات على قيراط. قيل: يحتمل معان من التأويل: أحدها: أن يكون قوله: (نحن أكثر عملاً وأقل عطاء) من قول اليهود خاصة، لأنهم عملوا ست ساعات بقيراط، ويكون من قول النصارى: (نحن أقل عطاء) . وإن كانوا متقاربين مع المسلمين فى العمل، فيكون الحديث على العموم فى اليهود، وعلى الخصوص فى النصارى، وقد يأتى الكلام إخبار عن جملة والمراد بعضها، كقوله تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان (وإنما يخرج من أحدهما من الملح لا من العذب، ومثله) فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما (والناسى كان يوشع وحده، يدل على ذلك قوله لموسى: إنى نسيت الحوت. وفيه تأويل آخر على العموم فيهما، على أن كل طائفة منهما أكثر عملاً وأقل عطاء، وذلك قوله: (فعملت النصارى إلى صلاة العصر) وليس فيه أنه إلى أول وقت العصر، فنحمله أنها عملت إلى آخر وقت صلاة العصر، قاله ابن القصار. وفيه وجه آخر: وذلك أن نصف النهار وقت زوال الشمس، والزوال فى آخر الساعة السادسة، والعصر فى أول العاشرة بعد مضى شىء يسير منها، فزادت المدة التى بين الظهر إلى العصر على المدة التى بين العصر إلى الليل بمقدار ما بين آخر الساعة التاسعة وأول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 395 العاشرة، وإن كان ذلك القدر لا يتبينه كثير من الناس، فهى زيادة معلومة بالعقل والله أعلم. 9 - بَاب مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَتَرَكَ الأَجِيرُ أَجْرَهُ فَعَمِلَ فِيهِ الْمُسْتَأْجِرُ فَزَادَ أَوْ مَنْ عَمِلَ فِى مَالِ غَيْرِهِ فَاسْتَفْضَلَ / 10 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَتَّى أَوَوُا الْمَبِيتَ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْهَا إِلاَ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمُ: اللَّهُمَّ إِنِّى اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ، فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِى لَهُ وَذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ، فَجَاءَنِى بَعْدَ حِينٍ، فَقَالَ لى: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَدِّ إِلَىَّ أَجْرِى، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ، فَقَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ بِى؟ فَقُلْتُ: لاَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ. . . .) الحديث. قال المهلب: تجره فى أجر أجيره على التفضل والتبرع والإحسان منه، وإنما كان عليه مقدار العمل خاصة، فلما أنماه له. وقبل ذلك الأجير، راعى الله له حق تفضله فعجل له المكافأة فى الدنيا بأن خلصه بذلك من هلكة الغار، والله تعالى يأجره على ذلك فى الآخرة. قال المؤلف: وأما من تجر فى مال غيره، فقالت طائفة: يطيب له الربح إذا رد رأس المال إلى صاحبه، وسواء كان غاصبًا للمال أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 396 وديعة عنده متعديًا فيه. هذا قول عطاء وربيعة ومالك والليث والثورى والأوزاعى وأبى يوسف، واستحب مالك والثورى والأوزاعى تنزهه عنه، ويتصدق به. وقالت طائفة: يرد المال ويتصدق بالربح كله، ولا يطيب له منه شىء. هذا قول أبى حنيفة وزفر ومحمد بن الحسن، وقالت طائفة: الربح لرب المال، وهو ضامن لما تعدى فيه. هذا قول ابن عمر وأبى قلابة، وبه قال أحمد وإسحاق، وقال الشافعى: إن اشترى السلعة بالمال بعينه فالربح ورأس المال لرب المال، وإن اشتراها بمال بغير عينه مثل أن يستوجبها منه بثمن معروف المقدار غير معروف العين، ثم نقد المال المغصوب أو الوديعة بغير إذن ربها فالربح له، وهو ضامن لما استهلك من مال غيره. وأصح هذه الأقوال قول من رأى أن الربح للغاصب والمتعدى، والحجة له أن العين قد صار فى ذمته، وهو وغيره من ماله سواء، إذ لا غرض للناس فى أعيان الدنانير والدراهم، وإنما غرضهم فى تصرفهم فيها، ولو غصبها من رجل ثم أراد أن يدفع إليه غيرها مثلها وهى قائمة بيده، لكان له ذلك على أصل قول مالك، فإذا كان له أن يدفع إليه غيرها فربحها له، وحديث الباب حجة لذلك، ألا ترى أن الأجير حيث قال له من أجره: (كل ما ترى من الإبل والبقر والغنم والرقيق من أجرك، قال له: أتستهزئ بى؟) فدل هذا أن السنة كانت عندهم أن الربح للمتعدى العامل، وأنه لاحق فيه لرب رأس المال، وأخبر بذلك النبى فأقره ولم ينسخه، وقد روى عن عمر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 397 ابن الخطاب ما يدل على أن الربح له بالضمان، روى مالك فى الموطأ: (أن أبا موسى أسلف عبد الله وعبيد الله ابنى عمر من بيت المال، فاشتريا به متاعًا وحملاه إلى المدينة، فربحا فيه، فقال عمر: أديا المال وربحه. فقال عبيد الله: ما ينبغى لك هذا، لو هلك المال أو نقص ضمناه، فقال رجل: لو جعلته قراضًا يا أمير المؤمنين. قال: نعم، فأخذ منهما نصف الربح، فلم ينكر عمر قول ابنه: لو هلك المال أو نقص ضمناه، فلذلك طاب له ربحه، ولا أنكره أحد من الصحابة بحضرته، وقد تقدم فى كتاب البيوع فى حديث ابن عمر من زرع طعامًا مغصوبًا فى باب (إذا اشترى شيئًا لغيره بغير إذنه فرضى) ومذاهب العلماء فى ذلك. والاغتباق والغبوق: شرب العشى، واسم الشراب: الغبوق، وقال صاحب الأفعال: غبقت الرجل، ولا يقال: أغبقته. وقوله: (ألمت بها سنة) يعنى: أتت عليها سنة شديدة أحوجتها. - بَاب إِثْمِ مَنْ مَنَعَ الأَجِيرِ أجره / 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِى ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ) . وروى ابن المنذر فى هذا الحديث: (ومن كنت خصمه خصمته) . وقال المهلب: هذا الحديث مصداقه فى كتاب الله، قال الله - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 398 تعالى: (ومن نكث فإنما ينكث على نفسه (وقد وبخ الله من عاهده ثم نكث، ومن باع حرا فقد ألزمه الذلة والصغار، ومنعه التصرف فيما أباح الله له، وهذا ذنب عظيم ينازع الله به فى عباده، ومن ضع أجيرًا حقه فقد ظلمه حين استخدمه واستحل عرقه بغير أجر وخالف بصيرة الله فى عباده؛ لأنه استعملهم ووعدهم على عبادته جزيل الثواب وعظيم الأجر وهو خالقهم ورازقهم. - بَاب مَنْ آجَرَ نَفْسَهُ لِلحْمِلَ عَلَى ظَهْرِهِ ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهِ وَأُجْرَةِ الْحَمَّالِ / 12 - فيه: أَبُو مَسْعُود، قَالَ: كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أَحَدُنَا إِلَى السُّوقِ، فَيُحَامِلُ فَنُصِيبُ الْمُدَّ، وَإِنَّ لِبَعْضِهِمْ لَمِائَةَ أَلْفٍ، قَالَ: (مَا يراد إِلاَ نَفْسَهُ) قال المهلب: إنما هذا على الترغيب فى الصدقة، ورجاء أجرها عند الله، وقد أثنى الله - تعالى - على أهل هذه الصفة بقوله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه (الآية. وقوله: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة (. وفيه ما كان عليه سلف هذه الأمة من الحرص على اتباع أوامر النبى - عليه السلام - والمبادرة إلى ما ندب إليه وحض عليه من الطاعة، وما كانوا عليه من التواضع والمهنة لأنفسهم فى الأعمال الشاقة عليهم؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 399 لينالوا بذلك رضى ربهم، ولذلك وصفهم الله بأنهم خير أمة أخرجت للناس، وكل هذا كان فى أول الإسلام قبل أن يفتح الله عليهم خزائن البلاد، وكان إذ حدَّث أبو مسعود هذا الحديث قد وسع الله عليهم لقوله: (وإن لبعضهم لمائة ألف) فأدرك الحالتين معًا، وقد ظن المحدث أن أبا مسعود أراد بذلك نفسه، وقد جاء هذا الحديث فى كتاب الزكاة وفيه: (وإن لبعضهم اليوم لمائة ألف) . - بَاب أَجْرِ السَّمْسَرَةِ وَلَمْ يَرَ ابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ بِأَجْرِ السِّمْسَارِ بَأْسًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَقُولَ: بِعْ هَذَا الثَّوْبَ، فَمَا زَادَ عَلَى كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لَكَ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِذَا قَالَ: بِعْهُ بِكَذَا، وَكَذا، فَمَا كَانَ مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ لَكَ، أَوْ قَالَ: بَيْنِى وَبَيْنَكَ، فَلاَ بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ النَّبىُّ عليه السَّلام: (الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ) / 13 - فيه: ابْن عَبَّاس، نَهَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ، وَلاَ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ. قُلْتُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَا قَوْلُهُ: (لاَ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ؟) ، قَالَ: لاَ يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا. اختلف العلماء فى أجر السمسار، فأجازه غير من ذكرهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 400 البخارى، منهم: مالك وأحمد ابن حنبل، وقال مالك: يجوز أن يستأجره على بيع سلع إذا ضرب لذلك أجلاً، قال: وكذلك إذا قال له: بع لى هذا الثوب ولك درهم، أنه جائز وإن لم يوقت له ثمنًا، وهو جعل، وكذلك إن جعل له فى كل مائة دينار شيئًا وهو جعل. وقال أحمد بن حنبل: لا بأس أن يعطيه من الألف شيئًا معلومًا. وذكر ابن المنذر عن حماد والثورى أنهما كرها أجر السمسار، وقال أبو حنيفة: إن دفع إليه ألف درهم يشترى له بها بزا بأجر عشرة دراهم، فهو فاسد، وذلك لو قال له: اشتر مائة ثوب، فهو فاسد، فإن اشترى فله أجر مثله، ولا يجاوز ما سمى له من الأجر. وقال أبو ثور: إذا جعل له فى كل ألف شيئًا معلومًا لم يجز، وإن جعل له فى كل ثوب شيئًا معلومًا لم يجز؛ لأن ذلك غير معلوم، فإن عمل على ذلك فله أجر مثله، فإن اكتراه شهرًا على أن يشترى له ويبيع فذلك جائز. وحجة من كرهه: أنه إجارة فى أمد غير محصور، والإجارة مفتقرة إلى أجل معلوم. وحجة من أجازه: أنه إذا سمى له ما على المائة، فقد عُرفت أجرة كل ثوب واستغنى عن الأجل فيه؛ لأنه عندهم من باب الجعل، وليس على المشترى إذا لم يطلب الشراء شىء من أجر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 401 السمسار عند من أجازه، وإنما عليه أجره إذا طلب الشراء أو طلب البيع. وقوله: (لا تكون له سمسارًا) يعنى: من أجل الضرر الداخل على التجار، لا من أجل أجرته، لأن السمسار أجير، وقد (أمر النبى - عليه السلام - بإعطاء الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) من حديث زيد بن أسلم عن أبى صالح، عن أبى هريرة. وأما قول ابن عباس: (بع هذا الثوب فما زاد على كذا فهو لك) . وقول ابن سيرين: (بعه بكذا فما كان من ربح فهو لك، أو بينى وبينك) . فإن أكثر العلماء لا يجيزون هذا البيع، وممن كرهه النخعى والحسن والثورى والكوفيون، وقال مالك والشافعى: لا يجوز، فإن باع فله أجر مثله. وأجازه أحمد وإسحاق، وقالا: هو من باب القراض، وقد لا يربح المقارض. وحجة الجماعة أنه قد يمكن ألا يبيعه بالثمن الذى سمى له؛ فيذهب عمله باطلاً، وهو من باب الغرر، وهى أجرة مجهولة أو جعل مجهول فلا يجوز، وأما حجة من أجازه فقول النبى - عليه السلام -: (المسلمون عند شروطهم) ولا حجة لهم فيه؛ لأنه قد أحكمت السنة أنه لا يجوز من شروط المسلمين شرط أحل حرامًا أو حرم حلالاً، وأما معنى قوله: (المسلمون عند شروطهم) يعنى: الجائزة بينهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 402 - بَاب هَلْ يُؤَاجِرُ المسلم نَفْسَهُ مِنْ مُشْرِكٍ فِى أَرْضِ الْحَرْبِ / 14 - فيه: خَبَّاب، قَالَ: كُنْتُ قَيْنًا، فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، فَاجْتَمَعَ لِى عِنْدَهُ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: لاَ وَاللَّهِ لاَ أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ فَلاَ، قَالَ: وَإِنِّى لَمَيِّتٌ ثُمَّ مَبْعُوثٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. . . . الحديث. قال المهلب: كره العلماء أن يؤاجر المسلم نفسه من مشرك فى دار الحرب أو دار الإسلام؛ لأن فى ذلك ذلة للمسلمين، إلا أن تدعوا إلى ذلك ضرورة، فلا يخدمه فيما يعود على المسلمين بضر، ولا فيما لا يحل مثل: عصر خمر، أو رعاية خنازير أو عمل سلاح أو شبه ذلك، وأما فى دار الإسلام فقد أغنى الله بالمسلمين وبخدمتهم عن الاضطرار إلى خدمة المشركين، وقد أمر الله عبادة المؤمنين بالترأس على المشركين، فقال تعالى: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون (فلا يصح لمسلم أن يهين نفسه بالخدمة لمشرك إلا عند الضرورة، فإن وقع ذلك فهو جائز؛ لأنه لما جاز لنا أن نأخذ أموالهم بالمعارضة منهم فى أثمان ما بيع منهم، كان كذلك المنافع الطارئة منا - والله أعلم - ألا ترى أن خبابًا عمل للعاص بن وائل وهو كافر، وجاز له ذلك، وقد تقدم تفسير القين فى كتاب البيوع فى باب: (القين) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 403 - بَاب مَا يُعْطَى فِى الرُّقْيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِىِّ عليه السَّلام: (أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا، كِتَابُ اللَّهِ) . وَقَالَ الشَّعْبِىُّ: لاَ يَشْتَرِطُ الْمُعَلِّمُ إِلاَ أَنْ يُعْطَى شَيْئًا فَيَقْبَلْهُ. وَقَالَ الْحَكَمُ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا كَرِهَ أَجْرَ الْمُعَلِّمِ وَأَعْطَى الْحَسَنُ دَرَاهِمَ عَشَرَةً. وَلَمْ يَرَ ابْنُ سِيرِينَ بِأَجْرِ الْقَسَّامِ بَأْسًا، وَقَالَ: كَانَ يُقَالُ: السُّحْتُ الرِّشْوَةُ فِى الْحُكْمِ، وَكَانُوا يُعْطَوْنَ عَلَى الْخَرْصِ. / 15 - فيه: أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فِى سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَىٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَىِّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَىْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَىْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَىْءٌ، فَأَتَوْهُمْ فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ، إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَىْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَىْءٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ وَاللَّهِ إِنِّى لاَرْقِى، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الْغَنَمِ، فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ وَيَقْرَأُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (، فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِى وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ. قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمِ الَّذِى صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: اقْسِمُوا، فَقَالَ الَّذِى رَقَى: لاَ تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِىَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِى كَانَ، فَنَنْظُرَ مَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 404 يَأْمُرُنَا، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَذَكَرُوا لَهُ، فَقَالَ: (وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ) ، ثُمَّ قَالَ: (قَدْ أَصَبْتُمُ، اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِى مَعَكُمْ سَهْمًا. . . .) ، الحديث. اختلف العلماء فى جواز الأجر على الرقى بكتاب الله وعلى تعليمه، فأجاز ذلك عطاء وأبو قلابة، وهو قول مالك والشافعى وأحمد وأبى ثور، وحجتهم حديث ابن عباس وحديث أبى سعيد. وكره تعليم القرآن بالأجر الزهرى، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز على تعليم القرآن أجر. قال الطحاوى: وتجوز الأجرة على الرقى وإن كان يدخل فى بعضه القرآن؛ لأنه ليس على الناس أن يرقى بعضهم بعضًا، وتعليم الناس بعضهم بعضًا القرآن واجب؛ لأن فى ذلك التبليغ عن الله إلا أن من علمه أجزأ عنه بقيتهم، وذلك كتعليم الصلاة لا يجوز أخذ الأجرة عليه، ولا يجوز على الأذان، واحتجوا بأحاديث ضعاف منها حديث ابن مسعود أن النبى - عليه السلام - قال: (اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به) وبحديث حماد بن سلمة عن أبى جرهم، عن أبى هريرة، ومرة يرويه حماد عن أبى المهزم، عن أبى هريرة قال: قلت: (يا رسول الله، ما تقول فى المعلمين؟ قال: درهمهم حرام) . وبحديث المغيرة ابن زياد عن عبادة بن نسى، عن الأسود بن ثعلبة، عن عبادة بن الصامت أنه قال: (علم رجل من أهل الصفة سورة من القرآن فأهدى إليه قوسًا، فقال له رسول الله: إن سرك أن يطوقك الله طوقًا من نار فاقبلها) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 405 والمغيرة بن زياد ضعيف، وأبو جرهم غير معروف، وأبو المهزم مجمع على ضعفه، وحديث ابن مسعود ضعيف، ومحال أن تُعارض هذه الأحاديث إذا تساوت طرقها فى النقل والعدالة، وأما إذا كان بعضها ضعيفًا فالصحيح منها يسقط الضعيف. وأما قول الطحاوى: إن تعليم الناس القرآن بعضهم بعضًا فرض، فغلط؛ لأن تعلم القرآن ليس بفرض، فكيف تعليمه وإنما الفرض المتعين منه على كل أحد ما تقوم به الصلاة، وغير ذلك فضيلة ونافلة، وكذلك تعليم الناس بعضهم بعضا الصلاة ليس بفرض متعين عليهم، وإنما هو على الكفاية، ولا فرق بين الأجرة على الرقى وعلى تعليم القرآن؛ لأن ذلك كله منفعة. وقوله عليه السلام: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله) هو عام يدخل فيه إباحة التعليم وغيره، فسقط قولهم. وقد أجاز مالك أجر المؤذن، وكره أجر الإمام، وأجاز الشافعى جميع ذلك بحديث ابن عباس وأبى سعيد. قال المهلب: ومما يدل على جواز أخذ الأجرة على ذلك، أن الذين أخذوا الغنم تحرجوا من قسمتها وأكلها حتى سألوا رسول الله عن ذلك، فأعلمهم النبى أنها حلال لهم أخذ الأجر عليه، وأكد تأنيسهم، وطيب نفوسهم بأن قال: (اضربوا لى معكم بسهم) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 406 وأما أجر القسام فإن أكثر الفقهاء أجازوه، وأما ما روى عن مالك فيه من الكراهة، فإنما ذلك لأن القسام كانوا يرزقون من بيت المال، فإذا لم يكن ذلك فلا بأس باستئجارهم على القسمة عنده، والقسمة مثل عقد الوثائق، كل ذلك جائز عنده، وعقد الوثائق فرض على الكفاية بقوله: (وليكتب بينكم كاتب بالعدل (فلما لم يتعين الفرض جاز فيه أخذ الأجرة. وقال ابن المنذر وأبو حنيفة: يكره تعليم القرآن بالأجر، ويجوز أن يستأجر الرجل أن يكتب له نوحًا أو شعرًا أو غناء معلومًا بأجر معلوم. فيجيز الإجارة فيما هو معصية، ويبطلها فيما هو طاعة لله تعالى وقد دلت السنة على إجازته. قال المهلب: وفى حديث أبى سعيد من الفقه: وجوب التضيف على العادة المعروفة بين الناس فى القرى، وقوله: (قد استضفناكم فلم تضيفونا) دليل أنهم فاوضوهم فى منع معروفهم بأن منعوهم هؤلاء أيضًا معروفهم فى الرقية إلا بعوض، فهذا يدل على أن ترك الضيافة وأخذ الأجرة على الرقية ليس من مكارم الأخلاق. وقوله عليه السلام: (وما يدريك أنها رقية) يدل أن فى القرآن ما يخص الرقى وأن فيه ما لا يخصها، وإن كان القرآن كله مرجو البركة من أجل أنه كلام الله، لكن إذا كان فى الآية تعوذ بالله أو دعاء كان أخص بالرقية ما ليس فيه ذلك، وإنما أراد النبى - عليه السلام - بقوله: (وما يدريك أنها رقية) أن يختبر علمه بذلك؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 407 لأنه ربما خفى موضعها فى الحمد، وقوله: (وإياك نستعين (هو الموضع الذى فيه الرقية؛ لأن الاستعانة به تعالى على كشف الضر، وسؤال الفرج والتبرؤ إليه من الطاقة، والإقرار بالحاجة إليه وإلى عونه هو فى معنى الدعاء. قال المؤلف: ويحتمل أن يكون الراقى إنما رقى بالحمد لله لما علم أنها ثناء على الله، فاستفتح رقيته بالثناء رجاء الفرج، كما يرجى فى الاستفتاح به فى الدعاء الإجابة، ولذلك قال إبراهيم التيمى: إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء فقد استوجب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء. قال صاحب الأفعال: أنشطت العقدة: حللتها، والتفل: البصاق، يقال: تفل تفلاً: بصق. - بَاب ضَرِيبَةِ الْعَبْدِ وَتَعَاهُدِ ضَرَائِبِ الإِمَاءِ / 16 - فيه: أَنَس، قَالَ: حَجَمَ أَبُو طَيْبَةَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ، أَوْ بِصَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ، وَكَلَّمَ مَوَالِيَهُ، فَخَفَّفَ عَنْ غَلَّتِهِ أَوْ ضَرِيبَتِهِ. وترجم له: باب خراج الحجام. وذكر فيه: (أن النبى - عليه السلام - احتجم وأعطى الحجام أجره) ولو علم كراهية لم يعطه، وقال أنس: (كان النبى - عليه السلام - يحتجم، ولم يكن يظلم أحدًا أجره) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 408 وترجم للأول باب: (من كلم موالى العبد أن يخففوا عنه من خراجه) . قال المهلب: فيه من الفقه: أنه لا بأس أن يضرب الإنسان على عبده خراجًا معلومًا فى الشهر، وأن يبلغ فى ذلك وسع العبيد وطاقتهم، ولا يثقل عليهم؛ لأن التخفيف لا يكون إلا عن ثقل. وفيه: الشفاعة للمديان فى الوضيعة، وللعبد فى الضريبة، وإن كان ليس بالدين الثابت لكنه مطالب به مستعمل فيه. وفيه: استعمال العبد بغير إذن سيده إذا كان معوضًا لذلك معروفًا به. وفيه: الحكم بالدليل؛ لأنه استدل على أنه مأذون له فى العمل لانتصابه له وعرض نفسه عليه. وأما مذاهب العلماء فى خراج الحجام وكسبه، فقال ابن القصار: يجوز للحجام أن يأكل من كسبه، وإن كان عبدًا جاز لسيده أن يأكله، وإن كنا لا نحبه؛ لأنها صنعة دنية، ولكنه غير محرم. وبهذا قال جماعة الفقهاء إلا أحمد وغيره من أصحاب الحديث فإنهم قالوا: هو محرم على الأحرار ومباح للعبيد، ولا يجوز للحر أن يحترف بالحجامة، وإن كان غلامه حجامًا لم ينفق على نفسه من كسبه، وإنما ينفقه على العبد وعلى بهائمه. والقصد بالحجام: الذى يحجم ليس الذى يزين الناس، واستدلوا لقولهم بحديث أبى رافع أن النبى - عليه السلام - قال: (كسب الحجام خبيث) قالوا: والخبيث عبارة عن الحرام، بحديث ابن محيصة عن أبيه قال: (استأذنت النبى - عليه السلام - فى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 409 إجارة الحجام فنهانى عنها، فما زلت أسأله حتى قال: اعلفه ناضحك، وأطعمه رقيقك) . وحجة الجماعة حديث أنس وابن عباس: (أن النبى احتجم، وأعطى الحجام أجرة، قال ابن عباس: ولو علم كراهية لم يعطه) . قال الطحاوى: وفى إباحة النبى أن يطعمه رقيقه وناضحه دليل أنه ليس بحرام، ألا ترى أن المال الحرام الذى لا يحل للرجل أكله لا يحل له أن يطعمه رقيقه ولا ناضحه، فثبت بذلك نسخ ما تقدم من نهيه، وهو النظر عندنا؛ لأنا رأينا الرجل يستأجر الرجل يفصد له عرقًا، أو ينزع له ضرسًا فيجوز ذلك، فكذلك تجوز الحجامة. قال غيره: والدليل على ذلك قوله تعالى: (قو أنفسكم وأهليكم نارًا (قال أهل التفسير: جنبوهم ما يقود إلى النار وما يؤدى إلى سخطه، وذلك فرض على المخاطبين بهذه الآية. وقال ربيعة: إن الحجامين كان لهم سوق على عهد عمر بن الخطاب. وقال يحيى بن سعيد: لم يزل المسلمون مقرين بأجر الحجام، ولا ينكرونها. وأما قولهم: إنها صنعة دنية، فليست بأدنى من صنعة الكناس الذى ينقل الحش، وليست بحرام، وكذلك الحجام. وقولهم: إن اسم الخبيث عبارة عن الحرام، فليس كذلك، وقد يقع على الحلال، قال تعالى: (ولا يتمموا الخبيث منه تنفقون (وكانوا يتصدقون بالحشف وردىء التمر فنزلت هذه الآية فيه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 410 - بَاب كَسْبِ الْبَغِىِّ وَالإِمَاءِ وَكَرِهَ إِبْرَاهِيمُ أَجْرَ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ (الآية. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (فَتَيَاتِكُمْ (إِمَاءَكُمْ. / 17 - فيه: أَبُو مَسْعُودٍ الأَنْصَارِىِّ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِىِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ. / 18 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ كَسْبِ الإِمَاءِ. ذكر أهل التفسير فى هذه الآية أنها كانت لعبد الله بن أبى حارثة أمة يكرهها على الزنا، فلما حرم الله الزنا قال لها: ألا تزنين؟ قالت: والله لا أزنى أبدًا، فنزلت هذه الآية، ليعرف أن إثمهن على من أكرهن، قال إسماعيل بن إسحاق: فدلت هذه الآية أن المكرهة على الزنا والمغتصبة توطأ، أنه لا حد عليها. قال غيره: وحرم الله كسب البغى بفرجها. وأجمع العلماء على إبطال النائحة والمغنية، وهو عندهم من أكل المال بالباطل. والبغى: الفاجرة، والاسم البغاء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 411 - بَاب عَسْبِ الْفَحْلِ / 19 - فيه: ابْن عُمَرَ، نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ. اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فكرهت طائفة أن يستأجر الفحل لينز به مدة معلومة بأجر معلوم، ذكر ذلك عن أبى سعيد الخدرى والبراء بن عازب، وذهب الكوفيون والشافعى وأبو ثور إلى أنه لا يجوز عسب الفحل، واحتجوا بحديث ابن عمر، فقالوا: هو شىء مجهول لا ندرى أينتفع به أم لا؟ وقد لا ينزل الفحل. وقال عطاء لا يأخذ عليه أجرًا، ولا بأس أن يعطى الأجر إذا لم تجد من يطرقك. ورخص فيه الحسن وابن سيرين، وأجاز ذلك مالك مدة معلومة أو ضربات معلومة، واحتج الأبهرى بأنها بيع منفعة، وكما جاز للإنسان الانتفاع به جاز أن يبيعه ويعاوض عليه غير الوطء خاصة، وإنما الذى لا يجوز أخذ العوض عليه ما لا يجوز فعله، مما هو منهى عنه كبيع الخمر والخنزير، ومهر البغى، وحلوان الكاهن، وشبه ذلك من الأعيان المحرمة، والمنافع الممنوعة، ومعنى نهيه عليه السلام عن عسب الفحل هو أن يكر به إلى العلوق؛ لأن ذلك مجهول لا يدرى متى يعلق، ولا يجوز إجارة المجهول، كما لا يجوز بيعه، فأما إذا كان إلى أجل معلوم أو نزوات معلومة فلا بأس بذلك. قال صاحب الأفعال: تقول العرب: عسب الرجل عسبًا: أكرى منه فحلاً ينز به، ويقال: العسب: ماء الفحل، قال أبو على: قال أبو ليلى: العسب: ماء الفحل فرسًا كان أو بعيرًا، ولا يتصرف منه فعل، يقال: قطع الله عسبه، أى ماءه ونسله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 412 - بَاب إِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَيْسَ لأَهْلِهِ أَنْ يُخْرِجُوهُ إِلَى تَمَامِ الأَجَلِ. وَقَالَ الْحَكَمُ وَالْحَسَنُ وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: تُمْضَى الإِجَارَةُ إِلَى أَجَلِهَا. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَعْطَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ عليه السَّلام، وَأَبِى بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ جَدَّدَا الإِجَارَةَ بَعْدَمَا قُبِضَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) . / 20 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَعْطَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، خَيْبَرَ الْيَهُودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا. وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ الْمَزَارِعَ كَانَتْ تُكْرَى عَلَى شَىْءٍ سَمَّاهُ نَافِعٌ، ولاَ أَحْفَظَهَا. وَأَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ حَدَّثَ: أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ. اختلف العلماء فى هذا الباب، فقالت طائفة: لا تنفسخ الإجارة بموت أحدهما ولا بموتهما، بل يقوم الوارث منهما مقام الميت، هذا قول مالك والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور ومن حجتهم ما ذكره البخارى فى هذا الباب، وقال الكوفيون والثورى والليث: تنتقض الإجارة بموت أيهما مات، واحتجوا لذلك فقالوا: لو قلنا: إن العقد لا ينفسخ، لم تحل للمكترى أن يستوفى المنافع من ملك المكرى، أو من ملك الوارث، فبطل أن يستوفيها من ملك المكرى؛ لأن المكرى إذا مات فلا ملك له، ولا يجوز أن يستوفيها من ملك الوارث؛ لأن الوارث لم يملكها، ولا عقد له معه، فلا يجوز أن يستوفى المنافع من ملكه فوجب أن ينفسخ العقد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 413 قال ابن القصار: فيقال لهم: إن المكترى لا يستوفى المنافع من ملك واحد منهما. قلنا إنما يستوفيها من ملك نفسه؛ لأن المكرى كان يملك الرقبة وما يحدث لها من المنافع، فلما عقد على منافعها مدة ما زال ملكه عنها إلى المكترى فإذا مات قبل انقضاء المدة لم ينتقل إلى الوارث عنه ملك المنافع؛ لأنها ليست فى ملكه، وإنها انتقلت إليهم العين دون المنافع، فالمكترى إذا استوفى المنافع فإنه لا يستوفى شيئًا ملكه الوارث، بل يستوفى ملك نفسه، وأيضًا فإن مذهب أبى حنيفة أن الرجل إذا وقف دارًا أو ضيعة على غيره، وجعل إليه النظر فى ذلك، فأكرى الموقف على يديه ذلك عن غيره ثم مات، فالإجارة لا تنفسخ كما نقول نحن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 414 بسم الله الرحمن الرحيم 33 - كِتَاب الْحِوَالَهَ والكَفَالَة وَهَلْ يَرْجِعُ فِى الْحَوَالَةِ وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: إِذَا كَانَ يَوْمَ أَحَالَ عَلَيْهِ مَلِيًّا جَازَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَتَخَارَجُ الشَّرِيكَانِ وَأَهْلُ الْمِيرَاثِ، فَيَأْخُذُ هَذَا عَيْنًا وَهَذَا دَيْنًا، فَإِنْ تَوِىَ لأَحَدِهِمَا، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ. / 1 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَطْلُ الْغَنِىِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِىٍّ فَلْيَتْبَعْ) . قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: الحوالة لا تكون إلا بعد حلول أجل الدين؛ لقوله عليه السلام: (مطل الغنى ظلم) لأن المطل لا يكون إلا بعد حلول الأجل. وقوله: (إذا أتبع أحدكم على ملى فليتبع) معناه الحوالة، يقول: إذا أحيل أحدكم على ملى فليستحل. قال الخطابى: وأكثر المحدثين يقولون: إذا اتبع بتثقيل التاء، والصواب أتبع بالتخفيف. وقال ابن المنذر: هذا الخبر يدل على معان منها: أن من الظلم دفع الغنى صاحب المال عن ماله بالمواعيد، ومن لا يقدر على القضاء غير داخل فى هذا المعنى؛ لأن الله - تعالى - قد أنظره بقوله: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة (. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 415 وفيه ما دل على تحصين الأموال، وذلك أمره باتباع الملى دون المعسر؛ لأنه حض بقوله: (ومن أتبع على ملى فليتبع) فدل أن من أتبع على غير ملى فلا يتبع. قال غيره: وهذا معناه عند العلماء: إرشاد وندب وليس بواجب، ويجوز عندهم لصاحب الدين إذا رضى بذمة غريمه، وطابت نفسه على الصبر عليه ألا يستحيل عليه، وإذا علم غنى جاز له ألا يستحلى عليه إذا كان سيئ القضاء، وأوجب أهل الظاهر أن يستحيل على الملى فرضًا. والحوالة عند الفقهاء رخصة من بيع الدين بالدين؛ لأنها معروف، كما كانت العرية متثناة من المزابنة؛ لأنها معروف وكما جاز قرض الدراهم بالدراهم إلى أجل؛ لأن ذلك معروف. واختلف الفقهاء فى الرجل يحتال المال على ملى من الناس، ثم يفلس المحال عليه أو يموت، فقالت طائفة: يرجع على المحيل بماله. هذا قول شريح والشعبى والنخعى، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: يرجع عليه إذا مات المحال عليه مفلسًا. وقال الحكم: لا يرجع مادام حيا حتى يموت ولا يترك شيئًا، فإن الرجل يوسر مرة ويعسر مرةً. وقالت طائفة: لا يرجع على المحيل بالمال أفلس المحال عليه أو مات، وسواء غره بالفلس أو طول عليه أو أنكره؛ لأنه فى معنى من قبض العوض، هذا قول الليث والشافعى وأحمد وأبى عبيد وأبى ثور، وقال مالك: لا يرجع على الذى أحاله إلا أن يغره من فلس علمه. واحتج الشافعى فقال: قول الرجل: أحلته وأبرأنى، أى: حولت حقه عنى وأثبته على غيرى، فلا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 416 يرجع فيه، ودل قوله عليه السلام: (من أتبع على ملى فليتبع) على تحول المال عن المحيل إلى المحال عليه، ولو لم يكن كذلك ما ضره لو أحيل على معدوم. والحجة لمالك أن الحوالة تحول من دين إلى دين، وبيع دين بدين، باع صاحب الحق دينه الذى له على زيد بالدين الذى لعمرو عليه فى ذمته، فليس له أن يرجع متى مات أو أفلس، لأن حقه قد وجب على المحال عليه، وفى ذمته دون ذمة المحيل، وكأنه باع سلعة له بسلعة، وهذا يوجب براءة كل واحد منهما من صاحبه، وذلك مخالف للمحالة، لأن الحمالة وثيقة من حقه، وليس بيع شئ، فأما إذا غره المحيل بفلس فإنه يرجع على من غره، لأن ذلك عيب لم يرض به صاحب الحق، كما يرجع المشترى على البائع بإرش العيب إذا دلس به، أو يرد السلعة إن كانت قائمة، ألا ترى قوله عليه السلام: (وإذا أتبع أحدكم على ملى فليتبع) فحكم أن الاتباع بشرط الملاء، فدل أنه إذا أحيل على غير ملى أنه لا يتبع، وإذا لم يتبعه وجبت له المطالبة بدينه، ويقال للكوفيين: إن الحوالة بيع دراهم فى ذمة المحيل بدراهم فى ذمة المحال عليه، وبيع الدراهم بالدراهم صرف، والصرف يبطل بترك القبض، فعلم أن الحوالة فى معنى القبض والاستيفاء، ولولا ذلك لم تصح الحوالة. فإن قالوا: إن إفلاس الغريم يجرى مجرى العيب، فيجب أن يكون له الرد بالعيب والرجوع، إلى الحق قيل: هو عيب حدث بعد البيع، فسقطت المطالبة به، والعيب الذى يجب به الرجوع إلى الحق هو العيب المتقدم قبل سقوط المطالبة، والفرق بين الحوالة والحمالة عند مالك، أن الحمالة والكفالة لفظان معناهما الضمان، وهما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 417 وثيقة لصاحب الدين بمنزلة الرهن هو وثيقة للمرتهن، وليس هو بانتقال من دين إلى دين، ولا من ذمة إلى ذمة، فمتى تلف الحميل رجع إلى المتحمل عنه، كما إذا تلف الرهن فللمرتهن أخذ حقه من الراهن. - بَاب إِنْ أَحَالَ دَيْنَ الْمَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ جَازَ إِذَا أَحَالَ عَلَى مَلِىٍّ فَلَيْسَ لَهُ رَدٌّه / 2 - فيه: سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، إِذْ أُتِىَ بِجَنَازَةٍ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، فَقَالَ: (هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟) ، قَالُوا: لاَ، قَالَ: (فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟) ، قَالُوا: لاَ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِىَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: (هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟) ، قِيلَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟) ، قَالُوا: ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ أُتِىَ بِالثَّالِثَةِ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: (هَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟) ، قَالُوا: لاَ، قَالَ: (فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟) ، قَالُوا: ثَلاَثَةُ دَنَانِيرَ، قَالَ: (صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ) ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَىَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ. وإنما ترجم إن أحال دين الميت على رجل، ثم أدخل حديث الضمان، لأن الحوالة والحمالة عند بعض العلماء معناهما متقارب وهو قول ابن أبى ليلى وإليه ذهب أبو ثور، فلهذا جاز الجزء: 6 ¦ الصفحة: 418 أن يعبر عن الضمان بأحال، لأنه كله نقل ذمة رجل إلى ذمة آخر، ونقل ما على رجل من دين إلى آخر، والحمالة فى حديث أبى قتادة براءة لذمة الميت، فصار كالحوالة سواء. وقد اختلفوا فى الرجل يضمن دينًا معلومًا عن ميت بعد موته، ولم يترك وفاءً، فقالت طائفة: الضمان له لازم ترك الميت شيئًا أم لا. هذا قول ابن أبى ليلى، وبه قال مالك والشافعى. وقال أبو حنيفة: لا ضمان على الكفيل؛ لأن الدين قد توى، فإن ترك شيئًا ضمن الكفيل بقدر ما ترك، فإن ترك وفاءً فهو ضامن لجميع ما تكفل به. قال ابن المنذر: فخالف أبو حنيفة هذا الحديث، وفى امتناع رسول الله أن يصلى عليه قبل ضمان أبى قتادة، وصلاته عليه بعد ضمان البيان البين عن صحة ضمان أبى قتادة، وأن من ضمن عن ميت دينًا فهو له لازم ترك الميت شيئًا أو لم يترك؛ لأنهم قالوا له: ما ترك وفاءً. وفى حديث أبى قتادة حجة على أبى حنيفة فى قوله أنه لا تصح الكفالة بغير قبول الطالب، وخالفه أبو يوسف وقال: الكفالة جائزة كان له مخاطب أو لم يكن. وقال ابن القاسم: لا حفظ عن مالك فيه شيئًا، وأراه لازمًا، وأجازه الشافعى إذا عرف مقدار ما تكفل به. وقال الطحاوى: قد أجاز النبى - عليه السلام - ضمان أبى قتادة عن الميت من غير قبول المضمون له، فدل على صحة قول أبى يوسف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 419 واختلفوا إذا تكفل عن رجل بمال، هل للطالب أن يأخذ من أيهما شاء منهما، فقال الثورى والكوفيون والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق: يأخذ أيهما شاء من المطلوب أو من الكفيل حتى يستوفى حقه. وهذا كان قول مالك ثم رجع عنه وقال: لا يأخذ الكفيل إلا أن يفلس الغريم أو يغيب. وقالت طائفة: الكفالة والحوالة والضمان سواء، ولا يجوز أن يكون شىء واحد على اثنين، على كل واحد منهما. هذا قول أبى ثور، وقال ابن أبى ليلى: إذا ضمن الرحل عن صاحبه مالا تحول على الكفيل، وبرئ صاحب الأصل إلا أن يشترط المكفول له عليهما أن يأخذ أيهما شاء، واحتج ببراءة الميت من الدين بضمان أبى قتادة، ولذلك صلى النبى عليه، وقال الأبهرى: وحجة مالك أن يأخذ الذى عليه الحق، فإن وفى بالدين وإلا أخذ ما نقصه من مال الحميل؛ فلأن الذى عليه الحق قد أخذ عوض ما يؤخذ منه، ولم يأخذ الحميل عوض ما يؤخذ منه، وإنما دخل على وجه المكرمة والثواب، فكان التبدئة بالذى عليه الحق أولى إلا أن يكون الذى عليه الحق غائبًا أو معدمًا، فإنه يؤخذ من الحميل؛ لأنه معذور فى أخذه فى هذه الحال. وهذا قول حسن، والقياس أن للرجل مطالبة أى الرجلين شاء، وحجة هذا القول ما رواه شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر (أن رجلاً مات وعليه دين، فلم يصل عليه النبى حتى قال أبو اليسر أو غيره: هو على، فصلى عليه، فجاءه من الغد يتقاضاه، فقال: إنما كان ذلك أمس، ثم أتاه من بعد الغد فأعطاه، فقال عليه السلام: الآن بردت عليه جلدته) . قال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 420 الطحاوى: فدل هذا على أن المطلوب لا يبرأ بكفالة الكفيل عنه، وأن للطالب أن يأخذ به بعد الكفالة أيهما شاء. قال الأبهرى: ولما كان الضامن يلزمه إذا ضمن كما يلزم المديان أداء ما عليه، كان صاحب الحق مخيرًا أن يأخذ ممن شاء منهما. وقال المهلب: ترك النبى الصلاة على المديان، إنما هو أدب للأحياء؛ لئلا يستأكلوا أموال الناس فتذهب، وهذا كان فى أول الإسلام قبل أن يفتح الله عليه المال، فلما فتح عليه الفىء جعل منه نصيبًا لقضاء دين المسلم، وهذه عقوبة فى أمور الدين أصلها المال، فلما جاز أن يعاقب فى طريق دينه على سبب المال، جاز أن يعاقب فى المال على سبب الدين، كما توعد النبى من لم يخرج إلى المسجد أن يحرق بيته، وسيأتى الحديث الذى نسخه فى آخر باب من تكفل عن ميت دينا، والتنبيه عليه - إن شاء الله. 3 - بَاب الْكَفَالَةِ فِى الْقَرْضِ وَالدُّيُونِ بِالأَبْدَانِ وَغَيْرِهَا وَبعث عُمَرَ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو مُصَدِّقًا، فَوَقَعَ رَجُلٌ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ، فَأَخَذَ حَمْزَةُ مِنَ الرَّجُلِ كَفِيلاً حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُمَرَ، وَكَانَ عُمَرُ قَدْ جَلَدَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَصَدَّقَهُمْ وَعَذَرَهُم بِالْجَهَالَةِ. وَقَالَ جَرِيرٌ وَالأَشْعَثُ لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِى الْمُرْتَدِّينَ: اسْتَتِبْهُمْ وَكَفِّلْهُمْ، فَتَابُوا وَكَفَلَهُمْ عَشَائِرُهُمْ. وَقَالَ حَمَّادٌ: إِذَا تَكَفَّلَ بِنَفْسٍ فَمَاتَ، فَلاَ شَىْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَكَمُ: يَضْمَنُ. / 3 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ، سَأَلَ بَعْضَ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 421 بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، فَقَالَ: فَأْتِنِى بِالْكَفِيلِ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً، قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِى الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلأَجَلِ الَّذِى أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا الأَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَيه، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّى تَسَلَّفْتُ منه، وَسَأَلَنِى شَهِيدًا وَكَفِيلاَ، فَرَضِىَ بِكَ. . . وذكر الحديث. قال المهلب: الكفالة فى القرض الذى هو السلف بالأموال كلها جائزة، وحديث الخشبة أصل فى الكفالة بالديون من قرض كانت أو بيع، والكفالة بالأبدان والحدود غير صحيحة، ويستحق المدعى علته الحد حتى ينظر فى أمره، إلا أن جمهور الفقهاء قد أجازوا الكفالة بالنفس، وهذا قول مالك والليث والثورى والأوزاعى وأبو حنيفة وأحمد واختلف عن الشافعى، فمرة أجازها ومرة ضعفها.؟ وقالت طائفة: لا تجوز الكفالة بالنفس، ولم يختلف الذين أجازوها فى النفس أن المطلوب إن غاب أو مات لم يقم على الكفيل به حد، ولا لزمه قصاص، فصارت الكفالة بالنفس عندهم غير موجبة لحكم فى البدن. وشذ أبو يوسف ومحمد، فأجازا الكفالة فى الحدود والقصاص، وقالا: إذا قال المقذوف أو المدعى للقصاص: بينتى حاضرة، كفلته ثلاث أيام. واحتج لهما الطحاوى بما روى عن حمزة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 422 بن عمرو وابن مسعود وجرير بن عبد الله والأشعث أنهم حكموا بالكفالة بالنفس بمحضر الصحابة حتى كتب إلى عمر فى ذلك، ولا حجة فيه؛ لأن ذلك إنما كان على سبيل الترهيب على المطلوب والاستيثاق، لا أن ذلك لازم لمن تكفل إذا زال المتكفل به؛ لأنه يؤدى ما ضمن فى ذمته عمن تكفل عنه، وإنما تصح الكفالة فى الأموال؛ لأنه يؤدى ما ضمن فى ذمته عمن تكفل عنه، وأصل الكفالة فى المال قوله تعالى: (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم (أى: كفيل وضامن. واختلف الفقهاء فى من تكفل بالنفس أو بالوجه، هل يلزمه ضمان المال، فقال الكوفيون: من تكفل بنفس رجل لم يلزمه الحق الذى على المطلوب. وهذا أحد قولى الشافعى، وقال مالك والليث والأوزاعى: إذا تكفل بنفسه وعليه مال، فإنه إن لم يأت به غرم المال، ويرجع به على المطلوب، فإن اشترط ضمان نفسه أو وجهه وقال: لا أضمن المال؛ فلا شىء عليه من المال. قال: والحجة لمن أوجب غرم المال أن الكفيل قد علم أن المضمون وجهه لا يطلب بدم وإنما يطلب بمال، فإذا ضمنه له ولم يأت به، فكأنه قد فوت عليه وغره منه؛ فلذلك لزمه المال. واحتج الطحاوى للكوفيين فقال: أما ضمان المال بموت المكفول به، فلا معنى له إذا لم يشترط؛ لأنه إنما تكفل بالنفس وقد فاتت، ولا قيمة لها يرجع إليها بعد عدمه، وأيضًا فإنه تكفل بالنفس ولم يتكفل بالمال، فمحال أن يلزمه ما لم يتكفل به. قال المهلب: وفى حديث الخشبة أن من صح منه التوكل على الله فإن الله - عز وجل - ملى بنصره وعونه، قال الله - تعالى -: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه (فالذى نقر الخشبة توكل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 423 على الله ووثق به فى تبليغها وحفظها، والذى سلفه وطلب الكفيل صح منه أيضًا التوكيل على؛ لأنه قنع بالله كفيلاً وحميلاً، فوصل إليه ماله، وسيأتى حكم أخذ الرجل الخشبة حطبًا لأهله فى كتاب اللقطة - إن شاء الله تعالى. 4 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) [النساء: 33] / 4 - فيه: ابْن عَبَّاس،) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ (، قَالَ: وَرَثَةً) وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ (، قَالَ: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرُ الأَنْصَارِىَّ دُونَ ذَوِى رَحِمِهِ، لِلأُخُوَّةِ الَّتِى آخَى بَيْنَهُمْ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ (نَسَخَتْ، ثُمَّ قَالَ: (وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ (، إِلاَ النَّصْرَ وَالرِّفَادَةَ وَالنَّصِيحَةَ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوصِى لَهُ. / 5 - فيه: أَنَس، قَدِمَ عَلَيْنَا ابْنُ عَوْفٍ، فَآخَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ. / 6 - وفيه: فقيل له: أَبَلَغَكَ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، قَالَ: (لاَ حِلْفَ فِى الإِسْلاَمِ) ، قَالَ: قَدْ حَالَفَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأَنْصَارِ فِى دَارِى. قال الطبرى: قد روى عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (لا حلف فى الإسلام، وما كان من حلف الجاهلية فلن يزيده الإسلام إلا شدة) فإن قيل: يعارض قول أنس: (حالف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 424 رسول الله بين قريش والأنصار فى دارى بالمدينة) . قيل: كان هذا فى أول الإسلام، كان عليه السلام آخى بين المهاجرين والأنصار، فكانوا يتوارثون بذلك العقد، وعاقد أبو بكر مولى له فورثه، وكانت الجاهلية تفعل ذلك فى جاهليتها، فنسخ الله ذلك بقوله: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله (ورد المواريث إلى القرابات بالأرحام والحرمة بقوله: (يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين (وأما الذى قال فيه عليه السلام: (ما كان من حلف فى الجاهلية فلن يزيده الإسلام إلا شدة) ، فهو ما لم ينسخه الإسلام، ولم يبطله حكم القرآن، وهو التعاون على الحق والنصرة على الأخذ على يد الظالم الباغى، وهو معنى قول ابن عباس: إلا النصر والرفادة، أنها مستثناة مما ذكر نسخه من مواريث المعاقدين. 5 - بَاب مَنْ تَكَفَّلَ عَنْ مَيِّتٍ دَيْنًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ . / 7 - فيه: سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أُتِىَ بِجَنَازَةٍ لِيُصَلِّىَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: (هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟) ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ) ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: عَلَىَّ دَيْنُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ. / 8 - وفيه: جَابِر، قَالَ: قَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ قَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا) ، فَلَمْ يَجِئْ مَالُ الْبَحْرَيْنِ حَتَّى قُبِضَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَلَمَّا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 425 جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ، فَنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبِىِّ، عليه السلام، عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: إِنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، قَالَ لِى كَذَا، فَحَثَى لِى حَثْيَةً فَعَدَدْتُهَا، فَإِذَا هِىَ خَمْسُمِائَةٍ، وَقَالَ: خُذْ مِثْلَيهَا. / 9 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَيَسْأَلُ: (هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ وَفَاء؟) ، فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ لِدَيْنِهِ وَفَاءً، صَلَّى عليه، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ، قَالَ: (أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّىَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَىَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ) . اختلف العلماء فيمن تكفل عن ميت بدين، فقال ابن أبى ليلى وأبو يوسف ومحمد والشافعى: الكفالة جائزة عنه وإن لم يترك الميت شيئًا، ولا يرجع به فى مال الميت إن ثاب للميت مالك، وكذلك إن كان للميت مال وضمن عنه لم يرجع فى قولهم؛ لأنه متطوع. قال مالك: إذا تكفل عن ميت فله أن يرجع فى ماله، كذلك إن قال: إنما أديت لأرجع فى ماله. وإن لم يكن للميت مال وعلم الضامن بذلك فلا رجوع له إن بان للميت مال. قال ابن القاسم: لأنه بمعنى الهبة. وشذ أبو حنيفة وخالف الحديث وقال: إذا لم يترك الميت شيئًا فلا تجوز الكفالة، وإن ترك شيئًا جازت الكفالة بقدر ما ترك. وقال الطحاوى: هذا خلاف لحديث النبى؛ لأنه عليه السلام قد أجاز الضمان عن الميت الذى لم يترك شيئًا، واحتج من قال أنه لا رجوع له على الميت وإن كان للميت مال، أنه لو كان له رجوع لقام الكفيل مقام الطالب، فلم يكن النبى - عليه السلام - ليصلى عليه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 426 حين ضمن دينه أبو قتادة، وحجة مالك أن أبا قتادة علم أنه لا وفاء للميت حين ضمن دينه، ولو علم أن له مالاً وتكفل بدينه على أن يرجع به فى ماله، لم يمنعه من ذلك كتاب ولا سنة، بل هو الذى بينه عليه السلام بقوله: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه) ، وكذلك اختلافهم إذا تكفل عن حى بغير أمره، فقال الكوفيون والشافعى: لا يرجع به عليه إذا أداه؛ لأنه متطوع. وروى ابن القاسم عن مالك أن له الرجوع بذلك على المطلوب. وحجة مالك أن كل من فعل عن غير فعلاً كان واجبًا على الغير أن يفعله، فإنه واجب عليه الخروج مما لزمنه عنه قياسًا على الإمام يستأجر على السفيه والممتنع من أداء الحق. وقال المهلب: وأما تحمل أبى بكر لعدات النبى - عليه السلام - وديونه، فذلك لأن الوعد منه عليه السلام يلزم فيه الإنجاز، لأنه من مكارم الأخلاق، وقد وصفه الله بأنه على خلق عظيم، وأثنى على إسماعيل بأنه كان صادق الوعد، وإنما صدق أبو بكر من ادعى أن له قبل النبى عدةً أو دينًا؛ لقوله عليه السلام: (ليس كذب على ككذب على غيرى، من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) فهو وعيد، ولا نظن بأن يقدم عليه من شهد الله لهم فى كتابه أنهم خير أمة أخرجت للناس. وحديث أبى هريرة فيه: تكفل النبى - عليه السلام - بديون من مات من أمته معدمًا، وتحمل كل دينهم وضياع عيالهم، وقد جاء هذا الحديث بهذا اللفظ: (ومن ترك كلاً أو ضياعًا فعلى) قال: وهذا الحديث ناسخ لتركه عليه السلام الصلاة على من مات وعليه دين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 427 وقوله: (فعلى قضاؤه) يعنى مما يفىء الله عليه من المغانم والصدقات التى أمر الله بقسمها على الغارمين والفقراء، وجعل للذرية نصيبًا فى الفىء، وقضى منه دين المسلم، وهكذا يلزم السلطان أن يفعله لمن مات وعليه دين، فإن لم يفعله وقع القصاص منه فى الآخرة، ولم يحبس الغريم عن الجنة بدين له مثله فى بيت المال، إلا أن يكون الدين الذى عليه أكثر مما له فى بيت المال ولم تف بذلك حسناته، ومعلوم أن حق المسلم فى بيت المال وإن لم يتعين عنده مال من ماله، يعلمه الذى أحصى كل شىء عددًا، ومحال أن يحبس عن الجنة من له من الحسنات عند من ظلمه ولا يقدر على الانتصاف منه فى الدنيا مما يفى بدينه، والله أعلم. 6 - بَاب جِوَارِ أَبِى بَكْرٍ فِى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَعَقْدِهِ / 10 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَىَّ قَطُّ إِلاَ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلاَ يَأْتِينَا فِيهِ النَّبِىّ، عليه السَّلام طَرَفَىِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِىَ الْمُسْلِمُونَ، خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الْحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِى قَوْمِى، فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِى الأَرْضِ فَأَعْبُدَ رَبِّى، قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: إِنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ، فَإِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، وَأَنَا لَكَ جَارٌ، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلاَدِكَ، فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَرَجَعَ مَعَ أَبِى بَكْرٍ، فَطَافَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 428 فِى أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيَقْرِى الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْدَهرِّ، فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ، وَقَالُوا لابْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِى دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لأَبِى بَكْرٍ، فَطَفِقَ أَبُو بَكْرٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِى دَارِهِ وَلاَ يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلاَةِ وَلاَ الْقِرَاءَةِ فِى غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لأَبِى بَكْرٍ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَبَرَزَ، فَكَانَ يُصَلِّى فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً لاَ يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِى دَارِهِ، وَإِنَّهُ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَأَعْلَنَ الصَّلاَةَ وَالْقِرَاءَةَ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا فَأْتِهِ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِى دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلاَ أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ، فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لأَبِى بَكْرٍ الاسْتِعْلاَنَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِى عَقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَىَّ ذِمَّتِى، فَإِنِّى لاَ أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّى أُخْفِرْتُ فِى رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنِّى أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 429 وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، [رَأَيْتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ) ، وَهُمَا الْحَرَّتَانِ] ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْضُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا، فَقَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (عَلَى رِسْلِكَ، فَإِنِّى أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِى) ، فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى النَّبىِّ عَلَيْهِ السَّلاَم؛ لِيَصْحَبَهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. قال المهلب: هذا الجوار كان معروفًا بين العرب، وكان وجوه العرب يجيرون من لجأ إليهم واستجار بهم، وقد أجار أبو طالب النبى - عليه السلام - ولا يكون الجوار إلا من الظلم والعداء، ففى هذا من الفقه أنه إذا خشى المؤمن على نفسه من ظالم أنه مباح له وجائز أن يستجير بمن يمنعه ويحميه من الظلم، وإن كان مجيره كافرًا، إن أراد الأخذ بالرخصة، وإن أراد الأخذ بالشدة على نفسه فله ذلك كما رد أبو بكر الصديق على ابن الدغنة جواره، ورضى بجوار الله وجوار رسوله - عليه السلام - وأبو بكر يومئذ من المستضعفين، فآثر الصبر على ما يناله من أذى المشركين محتسبا على الله وواثقا به، فوفى الله له ما وثق به فيه، ولم ينله مكروه حتى أذن الله لنبيه فى الهجرة، فخرج أبو بكر معه ونجاهم الله - تعالى - من كيد أعدائهما حتى بلغ مراده تعالى من إظهار النبوة وإعلاء الدين، وكان لأبى بكر فى ذلك من الفضل والسبق فى نصرة نبيه وبذل نفسه وماله فى ذلك ما لم يخف مكانه، ولا جهل موضعه. قال أبو على: (قط) تجزم إذا كانت بمعنى التقليل، وتضم وتثقل إذا كانت فى معنى الزمن والحين من الدهر، تقول: لم أر هذا قط، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 430 وليس عندى إلا هذا فقط، وأخفرت الرجل: نقضت عهده، وخفرته: منعته وحميته، وفى كتاب الأفعال: طفق بالشىء طفوقاُ إذا أدام فعله ليلاً ونهارًا، ومنه قوله تعالى: (فطفق مسحاُ بالسوق والأعناق (. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 431 بسم الله الرحمن الرحيم 34 - كِتَاب الْوَكَالَةِ - َكَالَةُ الشَّرِيكِ فِى الْقِسْمَةِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ أَشْرَكَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَلِيًّا فِى هَدْيِهِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِقِسْمَتِهَا. / 1 - فيه: عَلِىّ، أَمَرَنِى النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَنْ أَتَصَدَّقَ بِجِلاَلِ الْبُدْنِ الَّتِى نُحِرَتْ وَبِجُلُودِهَا. / 2 - وفيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ، فَبَقِىَ عَتُودٌ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (ضَحِّ بِهِ أَنْتَ) . وكالة الشريك جائزة كما تجوز شركة الوكيل، وهو بمنزلة الأجنبى فى أن ذلك مباح منه، وحديث على بين فى الترجمة، فإن قيل: ليس فى حديث عقبة وكالة الشريك، قيل: عقبة إنما وكله النبى - عليه السلام - على قسمة الضحايا وهو شريك للموهوب لهم، فتوكيله على ذلك كتوكيل شركائه الذين قسم بينهم الضحايا. - بَاب إِذَا وَكَّلَ الْمُسْلِمُ حَرْبِيًّا فِى دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِى دَارِ الإِسْلاَمِ جَازَ / 3 - فيه: عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، كَاتَبْتُ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كِتَابًا، بِأَنْ يَحْفَظَنِى فِى صَاغِيَتِى بِمَكَّةَ وَأَحْفَظَهُ فِى صَاغِيَتِهِ بِالْمَدِينَةِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 432 فَلَمَّا ذَكَرْتُ الرَّحْمَنَ، قَالَ: لاَ أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، كَاتِبْنِى بِاسْمِكَ الَّذِى كَانَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَاتَبْتُهُ عَبْدَ عَمْرٍو، فَلَمَّا كَانَ يَوْمِ بَدْرٍ، خَرَجْتُ إِلَى جَبَلٍ لأُحْرِزَهُ حِينَ نَامَ النَّاسُ، فَأَبْصَرَهُ بِلاَلٌ، فَخَرَجَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَجْلِسٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ: لاَ نَجَوْتُ إِنْ نَجَا أُمَيَّةُ، فَخَرَجَ مَعَهُ فَرِيقٌ مِنَ الأَنْصَارِ فِى آثَارِنَا، فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَلْحَقُونَا، خَلَّفْتُ لَهُمُ ابْنَهُ لأَشْغَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَبَوْا حَتَّى تَتْبَعُونَا، وَكَانَ رَجُلاً ثَقِيلاً، فَلَمَّا أَدْرَكُونَا قُلْتُ لَهُ: ابْرُكْ، فَبَرَكَ فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ نَفْسِى لأَمْنَعَهُ، فَتَخَلَّلُوهُ بِالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِى حَتَّى قَتَلُوهُ، وَأَصَابَ أَحَدُهُمْ رِجْلِى بِسَيْفِهِ، وَكَانَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُرِينَا ذَلِكَ الأَثَرَ فِى ظَهْرِ قَدَمِهِ. قال ابن المنذر: إذا وكل المسلم الحربى المستأمن أو وكل الحربى المستأمن المسلم فهو جائز. قال المؤلف: ألا ترى أن عبد الرحمن بن عوف وكل أمية بن خلف بأهله وحاشيته بمكة أن يحفظهم؟ وأمية مشرك، والتزم عبد الرحمن لأمية من حفظ حاشيته بالمدينة مثل ذلك مجازاة لصنعه. قال المهلب: وترك عبد الرحمن بن عوف أن يكتب إليه عبد الرحمن لأن التسمية علامة، كما فعل ذلك النبى - عليه السلام - يوم الحديبية حين قال له رسول أهل مكة: لا أعرف الرحمن فكتب باسمك اللهم. فلم يضره محو ذلك عليه السلام، ولا تشاح فيه إذا ما محى من الكتاب ليس بمحو من الصدور، وإذ التشاح فى مثل هذا ربما آل إلى فساد ما أحكموه من المقاضاة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 433 وقوله: فألقيت عليه نفسى لأمنعه، فلم يمتنع بذلك أمية بن خلف من القتل، هو منسوخ بقوله عليه السلام: (يجير على المسلمين أدناهم) لأن حديث أم هانئ كان يوم فتح مكة. وفيه من الفقه: مجازاة المسلمُ الكافَر على البر يكون منه للمسلم والإحسان إليه، ومفارضته على جميل فعله، والسعى له فى تخليصه من القتل وشبهه. وفيه أيضًا: المجازاة على سوء الفعل بمثله، والانتقام من الظالم، وإنما سعى بلال فى قتل أمية بن خلف، واستصرخ الأنصار عليه وأغراهم به فى ندائه: أمية بن خلف، لا نجوتُ إن نجا أمية؛ لأنه كان عذب بلالاً بمكة على ترك الإسلام، وكان يخرجه إلى الرمضاء بمكة إذا حميت فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ويقول: لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد، فيقول بلال: أحد أحد. قال عبد الرحمن بن عوف: فكنت بين أمية وابنه آخذًا بأيديهما، فلما رآه بلال صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوتُ إن نجا، فأحاطوا بنا وأنا أذب عنه، فضرب رجل ابنه بالسيف فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قط، قلت: انج بنفسك - ولا نجاية - فو الله لا أغنى عنك شيئًا فهذوهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما. ذكره ابن إسحاق وذكر فى حديث آخر عن عبد الله بن أبى بكر وغيره عن عبد الرحمن بن عوف قال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 434 وكان أمية بن خلف لى صديقًا بمكة، وكان اسمى عبد عمرو فتسميت حين أسلمت عبد الرحمن ونحن بمكة، فكان يلقانى بمكة ويقول: يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سماكه أبوك؟ فأقول: نعم. فيقول: فإنى لا أعرف الرحمن، فاجعل بينى وبينك شيئًا أدعوك به، فسماه عبد الإله. فلما كان يوم بدر مررت به وهو واقف به مع ابنه على بن أمية، ومعى أدراع أسبيتها فأنا أحملها فلما رآنى قال: يا عبد عمرو، فلم أجبه. قال: يا عبد الإله، قلت: نعم. قال: هل لك فى فأنا خير لك من هذه الأدراع التى معك، قلت: نعم. قال: فطرحت الأدراع من يدى وأخذت بيده ويد ابنه، وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، فرآهما بلال، فكان حديثه ما تقدم، فكان عبد الرحمن يقول: يرحم الله بلالا، ذهبت أدراعى وفجعنى بأسيرى. وقول بلال: أمية بن خلف، معناه عليكم أمية ابن خلف، ونصبه على الإغراء، ويجوز فيه الرفع على أن يكون خبر ابتداء مضمر تقديره: هذا أمية بن خلف. وقال الأصمعى: صاغية الرجل: الذين يميلون إليه ويأتونه. قال المؤلف: وهو مأخوذ من صغى يصغو ويصغى صغوًا، إذا مال، ومنه قوله تعالى: (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة (وكل مائل إلى شىء أو معه فقد صغى إليه، وأصغى من كتاب الأفعال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 435 3 - بَاب الْوَكَالَةِ فِى الصَّرْفِ وَالْمِيزَانِ وَقَدْ وَكَّلَ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ فِى الصَّرْفِ . / 4 - فيه: أَبُو سَعِيد، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، اسْتَعْمَلَ رَجُلاً عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُمْ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ: (أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا) ؟ قَالَ: إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاَثَةِ، فَقَالَ: (لاَ تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا) ، وَقَالَ فِى الْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ. الترجمة صحيحة، وبيع الطعام بالطعام يدًا بيد مثل الصرف سواء، وهو شبيهه فى المعنى، فلذلك ترجم لهذا الحديث باب الوكالة فى الصرف، وإنما صحت الوكالة فى هذا الحديث لقوله عليه السلام لعامل خيبر: (بع الجمع بالدراهم) بعد أن كان باع على غير السنة، فلو لم يجز بيع الوكيل والناظر فى المال لعرفه عليه السلام بذلك، وأعلمه أن بيعه مردود وإن وقع على السنة، فلما لم ينه النبى - عليه السلام - إلا عن الربا الذى واقعه فى بيعه الصاع بالصاعين، دل ذلك أنه إذا باع على السنة أن بيعه جائز. وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الوكالة فى الصرف جائزة، ولو وكل رجل رجلا يصرف له دراهم، ووكل آخر يصرف له دنانير، فالتقيا وتصارفا صرفًا جائزًا، أن ذلك جائز، وإن لم يحضر الموكلان أو أحدهما، وكذلك إذا وكل الرجل الرجلين يصرفان دراهم، فليس لأحدهما أن يصرف ذلك دون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 436 صاحبه، فإن قام أحدهما فى المجلس الذى تصارفا فيه قبل تمام الصرف انتقض الصرف؛ لقوله عليه السلام: (الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء) . وقال أصحاب الرأى: إن قام أحدهما قبل أن يقبضا انتقضت حصة الذى ذهب، وحصة الثانى جائزة. وقال ابن المنذر: لم يجعل الموكل إلى أحدهما شيئًا دون الآخر، ولهذا أصل فى كتاب الله - تعالى - قال الله تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها (ولا يجوز لأحد من الحكمين أمر إلا مع صاحبه. وقوله: (وقال فى الميزان مثل ذلك) يعنى: أن الموزونات حكمها فى الربا حكم المكيلات، وهذا عند أهل الحجاز فى المطعومات التى يجرى فيها الكيل والوزن، والكوفيون يجعلون علة الربا الكيل والوزن فى المطعوم وغيره؛ لقوله فى الذهب والورق: (وزنًا بوزن) وقوله فى الطعام فى حديث عبادة: (مدى بمدى وكيل بكيل) . 4 - بَاب إِذَا أَبْصَرَ الرَّاعِى أَوِ الْوَكِيلُ شَاةً تَمُوتُ أَوْ شَيْئًا يَفْسُدُ [ذَبَحَ] وَأَصْلَحَ مَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ / 5 - فيه: كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ كَانَتْ لَه غَنَمٌ تَرْعَى بِسَلْعٍ، فَأَبْصَرَتْ جَارِيَةٌ لَنَا بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِنَا مَوْتًا، فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا بِهِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 437 فَقَالَ لَهُمْ: لاَ تَأْكُلُوا حَتَّى أَسْأَلَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، أَوْ أُرْسِلَ مَنْ يَسْأَلُهُ، وَأَنَّهُ سَأَلَ النَّبِىَّ، عليه السلام، عَنْ ذَاكَ، أَوْ أَرْسَلَ، فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهَا. قَالَ عُبَيْدُاللَّهِ: فَيُعْجِبُنِى أَنَّهَا أَمَةٌ، وَأَنَّهَا ذَبَحَتْ. قال المهلب: وفيه من الفقه تصديق الراعى والوكيل على ما أؤتمن عليه حتى يظهر عليه دليل الخيانة والكذب، وهذا قول مالك وجماعة، وقال ابن القاسم: إذا خاف الموت على شاة فذبحها لم يضمن، ويصدق إن جاء بها مذبوحة. وقال غيره: يضمن حتى يتبين ما قال. واختلف ابن القاسم وأشهب إذا أنزى على إناث بغير أمر أربابها فهلك فقال ابن القاسم: لا ضمان عليه؛ لأن الإنزاء من صلاح المال ونمائه. وقال أشهب: عليه الضمان. وقول ابن القاسم أشبه بدليل هذا الحديث؛ لأن الرسول لما أجاز ذبح الأمة الراعية للشاة، وأمرهم بأكلها، وقد كان يجوز ألا تموت لو بقيت؛ دل على أن الراعى والوكيل يجوز له الاجتهاد فيما استرعى عليه ووكل به، وأنه لا ضمان عليه فيما أتلف باجتهاده إذا كان من أهل الصلاح، وممن يعلم إشفاقه على المال والنية فى إصلاحه، وأما إن كان من أهل الفسوق والفساد وأراد صاحب المال أن يضمنه فعل؛ لأنه لا يصدق أنه رأى بالشاة موتا؛ لما عرف من فسقه، وإن صدقه لم يضمنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 438 5 - بَاب وَكَالَةُ الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ جَائِزَةٌ وَكَتَبَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو إِلَى قَهْرَمَانِهِ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ، أَنْ يُزَكِّىَ عَنْ أَهْلِهِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ. / 6 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِىِّ، عليه السلام، سِنٌّ مِنَ الإِبِلِ، فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: (أَعْطُوهُ) ، فَطَلَبُوا سِنَّهُ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إِلاَ سِنًّا فَوْقَهَا، فَقَالَ: (أَعْطُوهُ) ، فَقَالَ: أَوْفَيْتَنِى أَوْفَى اللَّهُ بِكَ، قَالَ عليه السلام: (إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً) . هذا الحديث حجة على أبى حنيفة فى قوله: لا يجوز توكيل الحاضر بالبلد الصحيح البدن إلا برضى من خصمه أو عذر مرض أو سفر ثلاثة أيام، وهذا الحديث خلاف قوله؛ لأن النبى - عليه السلام - أمر أصحابه أن يقضوا عنه السن التى كانت عليه وذلك توكيل منه لهم على ذلك. ولم يكن عليه السلام غائبًا ولا مريضًا ولا مسافرًا، وعامة الفقهاء يجيزون توكيل الحاضر الصحيح البدن وإن لم يرض خصمه بذلك على ما دل عليه هذا الحديث، وهذا قول ابن أبى ليلى ومالك وأبى يوسف ومحمد والشافعى إلا أن مالكًا قال: يجوز ذلك وإن لم يرض خصمه إذا لم يكن الوكيل عدوا للخصم. وقال سائرهم: يجوز ذلك وإن كان الوكيل عدو للخصم. وقال الطحاوى: اتفق الصحابة على جواز ذلك، فروى أن على بن أبى طالب وكل عقيلا عند أبى بكر، فلما أسر عقيل وكل عبد الله ابن جعفر، فخاصم عبد الله بن جعفر طلحة فى صغيرة أحدثها على عند عثمان، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 439 وأقر عثمان بذلك، فصار ذلك إجماعا، وقال النبى لعبد الرحمن بن سهل الأنصارى لما خاصم إليه فى دم أخيه عبد الله ابن سهل، الذى وجد مقتولا بخيبر بمحضر من عميه حويصة ومحيصة: (كبر كبر - يريد ولى الكلام فى ذلك الكبير منهما - فتكلم حويصة ثم محيصة، وكان الوارث عبد الله ابن سهل دونهما، فكانا وكيلين) ، وأما إذا وكل وكيلا غائبًا على طلب حقه، فإن ذلك يفتقر إلى قبول الوكيل للوكالة عند الفقهاء، وإذا كانت الوكالة مفتقرة إلى قبول الوكيل فحكم الغائب والحاضر فيها سواء، فإن قيل: فأين القبول فى حديث أبى هريرة؟ قيل: عملهم بأمر النبى - عليه السلام - من توفية صاحب الحق حقه، قبول منهم لأمره عليه السلام. 6 - بَاب الْوَكَالَةِ فِى قَضَاءِ الدُّيُونِ / 7 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ، عليه السلام، يَتَقَاضَاهُ فَأَغْلَظَ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً) ، ثُمَّ قَالَ: (أَعْطُوهُ سِنًّا مِثْلَ سِنِّهِ) ، فَقَالُوا: لاَنجد إِلاَ أَمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ، فَقَالَ: (أَعْطُوهُ، فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً) . الوكالة فى قضاء الديون وجميع الحقوق جائزة. قال المهلب: وفيه من الفقه أن من آذى السلطان بجفاء أو استنقاص، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 440 أن حقا على أصحابه وجلسائه أن يعاقبوه على ذلك، وينكروا عليه الجفاء وإن لم يأمرهم السلطان بذلك، وليس لهم أن يتركوا مثل هذا حتى ينهاهم السلطان عنه، كما نهى النبى - عليه السلام - الذين هموا بالذى أغلظ له. ويبين هذا قصة المغيرة بن شعبة مع الشاب الأنصارى الذى جفا على أبى بكر الصديق، فكسر المغيرة أنفه، فاستعدى عليه الأنصارى ليقيده أبو بكر بن المغيرة، فقال أبو بكر: والله لخروجهم من ديارهم أقرب إليهم من ذلك أقيده من ورعه أنفه وكذلك فعل المغيرة برسول أهل مكة يوم المقاضاة، إذ كان يكلم النبى ويشير بيده نحو لحيته، فضربه المغيرة بسيفه مغمدًا، فقال: أقبض يدك عن لحية رسول الله قبل ألا ترجع إليك، فلم ينكر ذلك النبى - عليه السلام. 7 - بَاب إِذَا وَهَبَ شَيْئًا لِوَكِيلٍ أَوْ شَفِيعِ قَوْمٍ جَازَ؛ لِقَوْلِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) لِوَفْدِ هَوَازِنَ حِينَ سَأَلُوهُ الْمَغَانِمَ: (نَصِيبِى لَكُمْ / 8 - فيه: مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، أَخْبَرَاهُ أَنَّ النَّبِىّ، عليه السلام، قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَىَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا السَّبْىَ، وَإِمَّا الْمَالَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ) ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 441 قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلاَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْمُسْلِمِينَ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلاَءِ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّى قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ بِذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِىءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ) ، فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يا رَسُولِ اللَّهِ لَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّا لاَ نَدْرِى مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِى ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعُ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ) ، فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا. قال: إذا كان الوكيل أو الشفيع طلب لنفسه ولغيره فشفع فيما طلب كان حكمهم كحكمه فى الشىء الذى سأل لنفسه ولهم، وأما إن وهب لقوم وقبض لهم وكيلهم تلك الهبة جازت، ولم يدخل الوكيل فى الهبة , والوفد رسل هوازن هم الوكلاء والشفعاء فى رد أموالهم إلى جماعتهم، فشفعهم النبى وقال لهم: (ونصيبى لكم) يعنى: من المال ومن العيال، ثم أخذ أنصباء الناس من العيال خاصة، وأبقى لهم المال لحاجتهم إليه. قال أبو عبد الله: فيه من الفقه أن بيع المكره فى الحق جائز، لأن النبى - عليه السلام - حكم برد السبى، ثم قال: (من أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفئ الله علينا) ، ولم يجعل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 442 لهم الخيار فى إمساك السبى أصلا، وإنما خيرهم فى أن يعوضهم من مغانم أخر، ولم يخيرهم فى أعيان السبى، لأنه قال لهم هذا بعد أن رد إليهم أهليهم، وإنما خيرهم فى إحدى الطائفتين لئلا يجحف بالمسلمين فى مغانمهم فيخليهم منه كله، ويخيبهم مما غنموه وتعبوا فيه. قال المهلب: وفى رفع النبى - عليه السلام - إملاك الناس عن الرقيق، ولم يجعل إلى تملك أعيانهم سبيلا دليل على أن للإمام أن يستعين على مصالح المسلمين بأخذ بعض ما فى أيدى الناس ما لم يجحف بهم، ويعد من لم تطب نفسه مما يأخذ منه بالعوض، ألا ترى قوله: (من أحب أن يطيب بذلك) ، فأراد عليه السلام أن يطيب نفوس المسلمين لأهل هوازن بما أخذ منهم من العيال، ليرفع الشحناء والعداوة، ولا تبقى إحنة الغلبة لهم فى انتزاع السبى منهم فى قلوبهم، فيولد ذلك اختلاف الكلمة. وفيه أنه يجوز للإمام إذا جاءه أهل الحرب مسلمين بعد أن غنم أهليهم وأموالهم أن يرد إليهم عيالهم إذا رأى ذلك صوابًا كما فعل النبى - عليه السلام - لأن العيال ألذق بنفوس الرجال من المال، والعار عليهم فيهم أشد. وقوله عليه السلام: (إنا لا ندرى من أذن منكم فى ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم) إنما هذا تقص من النبى فى استطابة نفوس الناس رجلا رجلا، وليعرف الحاضر منهم الغائب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 443 8 - بَاب إِذَا وَكَّلَ رَجُلاً أَنْ يُعْطِىَ شَيْئًا وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ يُعْطِى فَأَعْطَى عَلَى مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ / 9 - فيه: جَابِر، كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ، عليه السلام، فِى سَفَرٍ، فَكُنْتُ عَلَى جَمَلٍ ثَقَالٍ، إِنَّمَا هُوَ فِى آخِرِ الْقَوْمِ، فَمَرَّ بِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (مَنْ هَذَا؟) فَقُلْتُ: جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: (مَا لَكَ؟) قُلْتُ: إِنِّى عَلَى جَمَلٍ ثَقَالٍ، قَالَ: (أَمَعَكَ قَضِيبٌ؟) قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (أَعْطِنِيهِ) ، فَأَعْطَيْتُهُ، فَضَرَبَهُ فَزَجَرَهُ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْقَوْمِ، قَالَ: (بِعْنِيهِ) ، فَقُلْتُ: بَلْ، هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (بَلْ بِعْنِيهِ، قَدْ أَخَذْتُهُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ، وَلَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ) ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ أَخَذْتُ أَرْتَحِلُ، قَالَ: (أَيْنَ تُرِيدُ؟) قُلْتُ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً. . . . . . . الحديث. فَلَمَّا قَدِمْت الْمَدِينَةَ قَالَ: (يَا بِلاَلُ، اقْضِهِ وَزِدْهُ) ، فَأَعْطَاهُ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَزَادَهُ قِيرَاطًا، قَالَ جَابِرٌ: لاَ تُفَارِقُنِى زِيَادَةُ النَّبِىّ، عليه السلام، فَلَمْ يُفَارِقُ الْقِيرَاطُ جِرَابَ جَابِرِ. المأمور بالصدقة إذا أعطى ما يتعارف الناس ويصلح للمعطى، ولا يخرج عن حال المعطى جاز ونفذ، فإن أعطى أكثر مما يتعارف الناس، تعلق ذلك برضا صاحب المال، فإن أجاز ذلك جاز، وإلا رجع عليه بمقدار ذلك، والدليل على ذلك أنه لو أمره أن يعطيه قفيزًا فأعطاه قفيزين ضمن الزيادة بإجماع، فدل أن المتعارف يقوم مقام الشىء المعين. قال المهلب: وهذا الحديث يبين أن من روى الاشتراط فى حديث جابر أن معناه: أن النبى - عليه السلام - شرط له ذلك شرط تفضل، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 444 لأن القصة كلها جرت من النبى - عليه السلام - على جهة التفضل والرفق بجابر، لأنه وهبه الجمل بعد أن أعطاه ثمنه وزاده. وجابر أيضًا قال للنبى حين سأله بيعه: (هو لك يا رسول الله) يعنى: بلا ثمن، وسيأتى إيضاح هذا المعنى ومذاهب العلماء فى ذلك فى كتاب الشروط بعد هذا إن شاء الله. وفيه بركة النبى عليه السلام. قال ثعلب: يقال بعير ثقال بفتح الثاء، أى: بطئ، والثقال بكسر الثاء: جلد أو كساء يوضع تحت الرحى يقع عليه الدقيق. 9 - بَاب وَكَالَةِ الْمَرْأَةِ الإِمَامَ فِى النِّكَاحِ / 10 - فيه: سَهْل، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى قَدْ وَهَبْتُ لَكَ مِنْ نَفْسِى، فَقَالَ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا، قَالَ: (قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) . وجه استنباط الوكالة من هذا الحديث: هو أن الرسول لما قالت له المرأة: (قد وهبت نفسى لك) كان ذلك كالوكالة له على تزويجها من نفسه، أو ممن رأى النبى تزويجها منه، فكان كل ولى للمرأة بهذه المنزلة أنه لا ينكحها حتى تأذن له فى ذلك، إلا الأب فى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 445 البكر، والسيد فى الأمة فإذا أذنت له وافتقر الولى إلى إباحتها ورضاها، كانت إباحتها ورضاها وكالة، وليست هذه الوكالة من جنس سائر الوكالات التى لا يفعل الوكيل شيئًا إلا والموكل يفعل مثله، من أجل أن الرسول قد خص النكاح أنه لا يتم إلا بهذه الوكالة بقوله: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل) . وجمهور العلماء على أنه لا تلى المرأة عقد نكاح بحال: لا نكاح نفسها، ولا امرأة غيرها، هذا قول ابن أبى ليلى ومالك والثورى والليث والشافعى، قال مالك: ويفسخ النكاح وإن ولدت منه. وقال الأوزاعى: إذا زوجت نفسها فحسن ألا يعرض لها الولى إلا أن تكون عربية تزوجت مولى فيفسخ. وقال أبو حنيفة وزفر: يجوز عقد المرأة على نفسها، وأن تزوج نفسها كفئًا. واختلفوا إذا لم يكن لها ولى فجعلت عقد نكاحها إلى رجل ليس بولى، ولم يرفع أمرها إلى السلطان، فروى المصريون عن مالك أن للسلطان أن ينظر فيه، فيجيزة أو يرده كما كان ذلك للولى، وقد روى عن مالك فيمن تزوجت بغير ولاية من يجوز له ولايتها، ودخل بها، والزوج كفء فلا يفسخ، وقال سحنون: قال غير ابن القاسم: لا يجوز وإن أجازه السلطان والولى، لأنه نكاح عقد بغير ولى. وهو قول ابن الماجشون، وحجتهم قوله عليه السلام: (أيما امرأة نكحت بغير ولى، فنكاحها باطل) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 446 - بَاب إِذَا وَكَّلَ رجل رَجُلاً فَتَرَكَ الْوَكِيلُ شَيْئًا فَأَجَازَهُ الْمُوَكِّلُ فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى جَازَ / 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: وَكَّلَنِى النَّبِىّ، عليه السَّلام، بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِى آتٍ، فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، وَقُلْتُ: [وَاللَّهِ] لأرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: إِنِّى مُحْتَاجٌ ولىَّ عِيَالٌ، وَبِى حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ: فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، أَصْبَح، النَّبىُّ فقال: (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ) ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: (أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ، وَسَيَعُودُ) ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِنَّهُ سَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لاَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: دَعْنِى فَإِنِّى مُحْتَاجٌ، وَعَلَىَّ عِيَالٌ لاَ أَعُودُ، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِى النَّبىِّ: (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ؟) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: (أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ، وَسَيَعُودُ) ، فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لاَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَهَذَا آخِرُ ثَلاَثِ مَرَّاتٍ تزعم أَنَّكَ لاَ تَعُودُ، ثُمَّ تَعُودُ، قَالَ: دَعْنِى أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا، قُلْتُ: مَا هِىَ؟ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِىِّ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِى النَّبىِّ عَلَيِه السَّلاَم: (مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ) ؟ قُلْتُ: زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِى كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِى اللَّهُ بِهَا، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، وَكَانُوا أَحْرَصَ شَىْءٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 447 عَلَى الْخَيْرِ، وحكيت له القول، فَقَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ، وَهُوَ كَذُوبٌ (ذَاكَ شَيْطَانٌ) . قال المهلب: قوله: فترك الوكيل شيئًا، يريد أن أبا هريرة ترك الذى حثا الطعام حين شكا إليه الحاجة، فأخبر النبى - عليه السلام - بذلك، فأجاز فعله ولم يرده. قال غيره: ففهم من ذلك الحديث أن من وكل على حفظ شئ، أو أؤتمن على مال فأعطى منه شيئًا لأحد أنه لا يجوز، وإن كان بالمعروف، لأنه إنما جاز فعل أبى هريرة لأجازة النبى - عليه السلام - له، لأنه عليه السلام لم يوكل أبا هريرة على عطاء، ولا أباح له إمضاء ما انتهب منه، وإنما وكله بحفظه خاصة. والدليل على صحة هذا التأويل أنه ليس لمن أؤتمن على شىء أن يتلف منه شيئًا، وأنه إذا أتلفه ضمنه إلا أن يجيزه رب المال، وفى تعلق جواز ذلك بإجازة رب المال دليل على صحة الضمان لو لم يجزه وهذا لا أعلم فيه خلافاُ بين الفقهاء. وأما قوله: وإن أقرضه إلى أجل مسمى جاز، فلا أعلم خلافًا بين الفقهاء أن أحدًا لا يجوز له أن يقرض من وديعة عنده أو مال استحفظه لأحد شيئًا لا حالا ولا إلى أجل، ولكنه إن فعل كان رب المال مخيرًا بين إجازة فعله أو تضمينه، أو طلب الذى قبض المال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 448 وقال المهلب: ويخرج قوله فى الترجمة: وإن أقرضه إلى أجل مسمى جاز لأن الطعام كان مجموعًا للصدقة، فلما أخذ السارق وقد حثا من الطعام، وقال له: دعنى فإنى محتاج، وتركه، فكان سلفه ذلك الطعام إلى أجل، وهو وقت قسمته وتفرقته على المساكين، لأنهم كانوا يجمعونه قبل الفطر بثلاثة أيام للتفرقة، فكأنه سلفه إلى ذلك الأجل، وفيه من الفقه أن السارق لا يقطع فى مجاعة، وفيه أنه يجوز أن يعفى عنه قبل أن يبلغ الإمام، وفيه أنه قد يعلم الشيطان علمًا ينتفع به إذا صدقته السنة وفيه أن الكاذب قد يصدق فى الندرة، وفيه علامات النبوة، وفيه تفسير لقوله تعالى: (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم (يعنى: الشياطين، أن المراد بذلك ما هم عليه من خلقتهم الروحانية التى جبلوا عليها فإذا تشخصوا فى صور الأجسام المدركة بالعين جازت رؤيتهم، كما تشخص الشيطان فى هذا الحديث لأبى هريرة فى صورة سارق. - بَاب إِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ شَيْئًا بيعًا فَاسِدًا فَبَيْعُهُ مَرْدُودٌ / 12 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ: جَاءَ بِلاَلٌ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السلام، بِتَمْرٍ بَرْنِىٍّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مِنْ أَيْنَ هَذَا) ؟ قَالَ بِلاَلٌ: كَانَ عِنْدَى تَمْرٌ رَدِىٌّ فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِنُطْعِمَ النَّبِىَّ، عليه السلام، فَقَالَ عليه السلام: (أَوَّهْ أَوَّهْ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 449 عَيْنُ الرِّبَا، مرتين، لاَ تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِىَ فَبِعِ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِ بهِ) . قال المهلب: لا خلاف بين العلماء أن كل من باع بيعًا فاسدًا أن بيعه مردود، وقول النبى - عليه السلام -: (أوه عين الربا) دليل على فسخ البيع، لأن الله - تعالى - قد أمر بذلك فى كتابه، وقضى برد رأس المال بقوله: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا (وقوله: (فلكم رءوس أموالكم (وقد روى فى هذا الحديث عن بلال أن النبى قال: (اردده مكسومًا) وروى منصور وقيس بن الربيع عن أبى جمرة عن سعيد بن المسيب، عن بلال قال: (كان عندى تمر دون، فابتعت تمرًا أجود منه فى السوق بنصف كيله صاعين بصاع، وأتيت النبى فقال: من أين لك هذا؟ فحدثته بما صنعت، فقال: هذا الربا بعينه، انطلق فرده على صاحبه، وخذ تمرك وبعه بحنطة أو شعير، ثم اشتر من هذا التمر، ثم جئنى. .) وذكر الحديث. قال المهلب: فإنما الغرض فى بيع الطعام من صنف واحد - والله أعلم - مثلا بمثل التوسعة على الناس، ولئلا يستولى أهل الجدة على الطيب. وقال صاحب العين: تأوه الرجل آهة، إذا توجع، ويقال: أوهة لك، فى موضع مشقة وهم، ويقال: أوه من كذا، على معنى التذكر والتحزن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 450 - بَاب الْوَكَالَةِ فِى الْوَقْفِ وَنَفَقَتِهِ وَأَنْ يُطْعِمَ صَدِيقًا لَهُ وَيَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ / 13 - وَقَالَ عَمْرٍو فِى صَدَقَةِ عُمَرَ: لَيْسَ عَلَى الْوَلِىِّ جُنَاحٌ أَنْ يَأْكُلَ وَيُؤْكِلَ صَدِيقًا لَهُ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالاً، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ هُوَ يَلِى صَدَقَةَ عُمَرَ يُهْدِى لِنَاسٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ. قال المهلب: هذا إنما أخذه عمر من كتاب الله فى ولى اليتيم فى قوله: (ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف (والمعروف ما تعارفه الناس بينهم غير مكتسب مالا، فهذا مباح عند الحاجة، وهذا سنة الوقف أن يأكل منه الولى له ويؤكل، لأن الحبس لهذا حبس، وليس هو مثل من أؤتمن على مال لغير الصدقة فأعطى منه بغير إذن ربه شيئًا، فإنه لا يجوز له ذلك بإجماع العلماء. - بَاب الْوَكَالَةِ فِى الْحُدُودِ / 14 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ،، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السلام، قَالَ: (وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 451 / 15 - وفيه: عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: جِىءَ بِالنُّعَيْمَانِ، أَوِ ابْنِ النُّعَيْمَانِ شَارِبًا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَنْ كَانَ فِى الْبَيْتِ أَنْ يَضْرِبُوا، قَالَ: فَكُنْتُ أَنَا فِيمَنْ ضَرَبَهُ، فَضَرَبْنَاهُ بِالْجَرِيدِ والنِّعَالِ. فى حديث أنس من الفقه أنه يجوز للإمام أن يبعث فى إنفاذ الحكم من يقوم مقامه فيه، كالوكيل للموكل. واختلف العلماء فى الوكالة فى الحدود والقصاص، فذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه لا يجوز قبول الوكالة فى ذلك، ولا يقيم الحد والقصاص حتى يحضر المدعى، وهو قول الشافعى، وقال ابن أبى ليلى وطائفة: تقبل الوكالة فى ذلك، وقالوا: لا فرق بين الحدود والقصاص والديون إلا أن يدعى الخصم أن صاحبه قد عفا، فيوقف عن النظر فيه حتى يحضر. وقول من أجاز الوكالة فى ذلك يشهد له دلائل الأحاديث الثابتة، فإن قيل: إن فى بعث النبى - عليه السلام - أنيسًا لإقامة الحد على المرأة إن اعترفت بالزنا دليلاً على ذلك، وأما حديث ابن النعيمان فإنما أقيم فيه الحد بحضرته عليه السلام. قيل: المعنى واحد، وذلك أنه لما كان الإمام لا يتناول إقامة الحد بنفسه، وأنه إنما يولى ذلك غيره، كان ذلك فى معنى إقامة أنيس الحد غائبًا عنه إن اعترفت المرأة لأن فى كلتا الحالتين إنما أقام الحد عن أمره عليه السلام بإقامته، وذلك فى معنى الوكيل، ويجئ على مذهب مالك أن الحد يقام على المقر دون حضور المدعى، خلاف قول أبى حنيفة والشافعى، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 452 لأنه حق وجب عليه، وليس دعواه على المدعى بها يسقط الحد مما يجب أن يلتفت إليه بمجرد دعواه، إلا أن يقيم بينه على ما ادعى من ذلك. - بَاب الْوَكَالَةِ فِى الْبُدْنِ وَتَعَاهُدِهَا / 16 - فيه: عَائِشَة، أَنَا فَتَلْتُ قَلاَئِدَ هَدْىِ النَّبِىّ، عليه السلام، ثُمَّ قَلَّدَهَا، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِى. . . الحديث. الوكالة فى البدن وفى كل ما يجوز للإنسان أن ينوب عن غيره فيه منابه من الأعمال جائزة، لا خلاف فى شىء من ذلك، وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب الحج، فأغنى عن إعادته. - بَاب إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِهِ ضَعْهُ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ وَقَالَ الْوَكِيلُ قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ / 17 - فيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِى بِالْمَدِينَةِ مَالاً، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (فَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِى إِلَىَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا، وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 453 يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ شِئْتَ، فَقَالَ: (بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا، وَأَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِى الأَقْرَبِينَ) ، قَالَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِى أَقَارِبِهِ وَبَنِى عَمِّهِ. قال المهلب: قوله عليه السلام: (قد سمعت ما قلت) يدل على قبول النبى لما جعل إليه أبو طلحة من الرأى فى وضعها، ثم رد النبى الوضع فيها إلى أبى طلحة بعد أن أشار عليه فيمن يضعها. وفيه أن للوكيل أن يقبل ما وكل عليه وله أن يرد، وأن الوكالة لا تتم إلا بقبول الوكيل، ألا ترى أن أبا طلحة قال للنبى: (فضعها يا رسول الله حيث أراك الله) فأشار عليه بالرأى، ورد عليه العمل وقال: (أرى أن تجعلها فى الأقربين) فتولى أبو طلحة قسمتها. وفيه: أن من أخرج شيئًا من ماله لله ولم يملكه أحد، فجائز له أن يضعه حيث أراه الله من سبل الخير، وجائز أن يشاور فيه من يثق برأيه من إخوانه وليس لذلك وجه معلوم لا يتعدى، كما قال بعض الناس: معنى قول الرجل: لله وفى سبيل الله فى وجه دون وجه، ألا ترى أن هذه الصدقة الموقوفة رجعت إلى قرابة أبى طلحة، ولو سبلها فى وجه من الوجوه لم تصرف إلى غيره. واختلف الفقهاء إذا قال الرجل: خذ هذا المال فاجعله حيث أراك الله من وجوه الخير، هل يأخذ منه لنفسه إن كان فقيرًا أم لا؟ فقالت طائفة: لا يأخذ منه شيئًا، لأنه إنما أمر بوضعه عند غيره. وهذا يشبه مذهب مالك فى المدونة، سئل مالك عن رجل أوصى بثلث ماله لرجل أن يجعله حيث رأى، فأعطاه ولد نفسه، يعنى ولد الوصى أو أحدًا من ذوى قرابته، قال مالك: لا أرى ذلك جائزًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 454 وقال آخرون: يأخذ منه كنصيب أحد الفقراء وقال آخرون: جائز له أن يأخذه لنفسه كله إن كان فقيرًا. ووجه قول من قال: لا يأخذ منه شيئًا لنفسه، لأن ربه أمره أن يضعه فى الفقراء، ولم يأذن له أن يأخذه لنفسه، ولو شاء أن يعطيه له لم يأمره أن يضعه فى غيره، فكأنه أقامه مقام نفسه ولو فرقه ربه لم يحبس منه شيئًا، ووجه قول من قال: يأخذ منه كنصيب أحد الفقراء، فهو أن ربه أمره أن يضعه فى الفقراء، وهو أحدهم، فلم يتعد ما قاله، ووجه قول من قال: يأخذه كله لنفسه، أن ربه أمره أن يضعه فى الفقراء، ومعلوم أنه لا يحيط بجماعتهم، وأن المال إنما يوضع فى بعضهم، وإذا كان فقيرًا فهو من بعضهم لأنه من الصفة التى أمره أن يضعه فيها. - بَاب وَكَالَةِ الأَمِينِ فِى الْخِزَانَةِ وَنَحْوِهَا / 18 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (الْخَازِنُ الأَمِينُ الَّذِى يُنْفِقُ - وَرُبَّمَا قَالَ: الَّذِى يُعْطِى - مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلاً مُوَفَّرًا طَيِّبًا نَفْسُهُ إِلَى الَّذِى أُمِرَ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ) . قال المهلب: إنما كان أحد المتصدقين - والله أعلم - لأنه معين على إنفاذ الحسنة، وأما إذا أعطاه كارهًا غير مريد لإعطائه لم يؤجر على ذلك، لأنه لا نية له مع فعله، وقد اشترط النبى - عليه السلام - أن الأعمال بالنيات، فدل ذلك أنها إذا لم تصحبها نية لا يؤجر بها، ألا ترى أن المنافقين لم تقبل منهم صلاة ولا صيام ولا غيره إذ عريت أعمالهم عن النيات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 455 بسم الله الرحمن الرحيم 35 - كِتَاب الْمُزَارَعَةِ - بَاب مَا جَاء فِى الحرث والْمزارعة وَفَضْلِ الزَّرْعِ وَالْغَرْسِ إِذَا أُكِلَ مِنْهُ وَقوله تَعَالَى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ (الآية. / 1 - فيه: أَنَس، قَالَ عليه السَّلام: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلاَ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ) . قال المهلب: هذا يدل أن الصدقة على جميع الحيوان وكل ذى كبد رطبة فيه أجر، لكن المشركين لا نأمر بإعطائهم من الزكاة الواجبة لقوله عليه السلام: (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها فى فقرائكم) . وفيه من الفقه: أن من يزرع فى أرض غيره أن الزرع للزارع، ولرب الأرض عليه كراء أرضه لقوله عليه السلام: (ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا إلا كان له صدقة) . فجعل الصدقة للزارع والثواب له خاصة دون رب الأرض، فعلمنا أنه ليس لرب الأرض حق فى الزرع الذى أخرجته الأرض وفيه الحض على عمارة الأرض لتعيش نفسه أو من يأتى بعده ممن يؤجر فيه، وذلك يدل على جواز اتخاذ الصناع، وأن الله - تعالى - أباح ذلك لعباده المؤمنين لأقواتهم وأقوات أهليهم طلبًا للغنى بها عن الناس، وفساد قول من أنكر ذلك، ولو كان كما زعموا ما كان لمن زرع زرعًا وأكل منه إنسان أو بهيمة أجر، لأنه لا يؤجر أحد فيما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 456 لا يجوز فعله، وقد تقدم بيان هذه المسألة بأوضح من هذا فى كتاب الخمس فى باب نفقة نساء النبى - عليه السلام - بعد وفاته، فأغنى عن إعادته. - بَاب مَا يُحَذَّرُ مِنْ عَوَاقِبِ الاشْتِغَالِ بِآلَةِ الزَّرْعِ وَتَجَاوِزِ الْحَدِّ الَّذِى أُمِرَ بِهِ / 2 - فيه: أَبُو أُمَامَةَ، أنَّهُ رَأَى سِكَّةً أَو شَيْئًا مِنْ آلَةِ الْحَرْثِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لاَ يَدْخُلُ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إِلاَ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الذُّلَّ) . قال المهلب: معنى هذا الحديث - والله أعلم - الحض على معالى الأحوال، وطلب الرزق من أشرف الصناعات لما خشى النبى على أمته من الاشتغال بالحرث وتضييع ركوب الخيل والجهاد فى سبيل الله، لأنهم إن اشتغلوا بالحرث غلبتهم الأمم الراكبة للخيل المتعيشة من مكاسبها، فحضهم على التعيش من الجهاد لا من الخلود إلى عمارة الأرض ولزوم المهنة، والوقوع بذلك تحت أيدى السلاطين وركاب الخيل. ألا ترى أن عمر قال: تمعددوا واخشوشنوا، واقطعوا الركب، وثبوا على الخيل وثبًا لا يغلبكم عليها دعاة الإبل. أى دعوا التملك والتدلك بالنعمة، وخذوا أخشن العيش لتتعلموا الصبر فيه، فأمرهم بملازمة الخيل والتدريب عليها والفروسية، لئلا تملكهم الرعاة الذين شأنهم خشونة العيش، ورياضة أبدانهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 457 بالوثوب على الخيل، وقد رأينا عاقبة وصيته فى عصرنا هذا بميلنا إلى الراحة والنعمة. قال المؤلف: فمن لزم الحرث وغلب عليه، وضيع ما هو أشرف منه، لزمه الذل كما قال عليه السلام، ويلزمه الجفاء فى خلقه لمخالطته من هو كذلك، وقد جاء فى الحديث (من لزم البادية جفا) وقد أخبرنا عليه السلام بما يقوى هذا المعنى فقال: (السكينة فى أهل الغنم، والخيلاء فى أصحاب الخيل، والقسوة فى الفذاذين أهل الوبر) ، فكأنه قال: والذل فى أهل الحرث، أى: من شأن ملازمة هذه المهن توليد ما ذكر من هذه الصفات ومن الذل الذى يلزم من اشتغل بالحرث ما ينوبه من المؤنة بخراج الأرضين. وفيه: علامة النبوة، وذلك أنه عليه السلام علم أن من يأتى فى آخر الزمان من الولاة يجورون فى أخذ الصدقات والعشور، ويأخذون فى ذلك أكثر مما يجب لهم، لأنه لا ذل لمن أخذ منه الحق الذى عليه، وإنما يصح الذل بالتعدى وترك الحق فى الأخذ. 3 - بَاب اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِلْحَرْثِ / 3 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ اقتنِى كَلْبًا فَإِنَّهُ يَنْقُصُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ، إِلاَ كَلْبَ حَرْثٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ) . وقال مرة: (إِلاَ كَلْبَ غَنَمٍ، أَوْ حَرْثٍ، أَوْ صَيْدٍ) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 458 اقتناء الكلب للحرث والماشية والصيد مباح بدليل الكتاب والسنة، وقد تقدم حكم الكلب فى جميع وجوهه فى كتاب البيوع وكتاب الصيد فأغنى عن إعادته. 4 - بَاب اسْتِعْمَالِ الْبَقَرِ لِلْحِرَاثَةِ / 4 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ،، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى بَقَرَةٍ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا خُلِقْتُ لِلْحِرَاثَةِ، قَالَ: آمَنْتُ بِهِ أَنَا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَأَخَذَ الذِّئْبُ شَاةً، فَتَبِعَهَا الرَّاعِى، فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ: مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ، يَوْمَ لاَ رَاعِىَ لَهَا غَيْرِى، قَالَ: آمَنْتُ بِهِ أَنَا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ) . وَمَا هُمَا يَوْمَئِذٍ فِى الْقَوْمِ. قال المهلب: فبيان كلام البهائم من الآيات التى خصت بها بنو إسرائيل، لجواز أن تكون النبوة فيهم غير محظورة، وهذا الحديث حجة على من جعل علة المنع من أكل الخيل والبغال والحمير أنها خلقت للركوب والزينة لقوله تعالى: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة (وقد خلقت البقر للحراثة، وأنطقها الله بذلك زيادة فى الآية المعجزة، ولم يمنع ذلك من أكل لحومها لا فى بنى إسرائيل ولا فى الإسلام، وفيه الثقة بما يعلم من صحة إيمان المرء وثاقب علمه والقضاء عليه بالعادة المعلومة منه، كما قضى النبى (صلى الله عليه وسلم) على أبى بكر وعمر بتصديق كلام البقرة والذئب، الذى توقف الناس عن الإقرار به، حتى احتاج رسول الله أن يقول أن هذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 459 بقربه معه أبو بكر وعمر، وناهيك بذلك فضيلة لهما ورفعة، لشهادة النبى لهما الذى لا ينطق عن الهوى. وقال إسماعيل بن إسحاق القاضى: قال لى على بن المدينى: سمعت أبا عبيدة معمر ابن المثنى يقول فى حديث النبى، حين أخذ الذئب الشاة وأخذت منه - فقال: (من لها يوم السبع، يوم لا راعى لها غيرى) قال: ليس هو السبع الذى يسبع الناس، إنما هو عيد كان لهم فى الجاهلية يشتغلون بأكلهم ولعبهم، فيجئ الذئب فيأخذها. 5 - بَاب إِذَا قَالَ اكْفِنِى مَئُونَةَ النَّخْلِ وَغَيْرِهِ وَتُشْرِكُنِى فِى الثَّمَرِ / 5 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَتِ الأَنْصَارُ: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ، قَالَ: (لاَ) ، قَالَ: (تَكْفُونَا الْمَئُونَةَ، وَنَشْرَكْكُمْ فِى الثَّمَرَةِ) ، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. قال المهلب: إنما أراد الأنصار مشاركة المهاجرين بأن يقاسموهم أموالهم، فكره رسول الله أن يخرج عنهم شيئاَ من عقارهم، وعلم أن الله سيفتح عليهم البلاد فيغنى جميعهم، فأشركهم فى الثمرة على أن يكفوهم المئونة والعمل فى النخيل، وتبقى رقاب النخل للأنصار، وهذه هى المسافة بعينها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 460 قال غيره: فإن وجد فى بعض طرق هذا الحديث مقدار الشركة بين المهاجرين والأنصار فى الثمرة صير إليه، وإلا فظاهر اللفظ يقتضى عملهم على نصف ما تخرج الثمرة، لأن الشركة إذا أبهمت ولم يذكر فيها حد معلوم حملت على المساقاة. وروى عن مالك فى رجلين اشتريا سلعة فأشركا فيها ثالثاُ ولم يسميا له جزءا، أن السلعة بينهم أثلاثًا، فهذا يدل من قوله أنه لو كان المشرك واحدًا كانت بينهما نصفين. واختلف أهل العلم فى الرجل يدفع المال قراضاُ على أن للعامل شركاُ فى الربح، فقال الكوفيون: له فى ذلك أجر مثله، والربح والوضيعة على رب المال، وهو قول أحمد وإسحاق وأبى ثور، وقال ابن القاسم: يرد فى ذلك إلى قراض مثله. وقال الحسن البصرى وابن سيرين: له نصف الربح. وهو قول الأوزاعى وبعض أصحاب مالك. وحديث أبى هريرة فى هذا الباب يدل على صحة قول الحسن ومن وافقه، لأن من رد القراض فى ذلك إلى أجر مثله، أو إلى قراض مثله فعلته أنه فاسد إذ لم يعلم مقدار الشركة فى الربح، ولو كان كما قالوا لكانت مساقاة المهاجرين للأنصار فاسدة حين لم يسموا لهم مقدار ما يعملون عليه، والقراض عند أهل العلم أشبه شىء بالمساقاة، ومحال أن تكون مساقاة المهاجرين للأنصار عن أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) ورأيه الموفق فاسدة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 461 6 - بَاب قَطْعِ الشَّجَرِ وَالنَّخيلِ وَقَالَ أَنَسٌ أَمَرَ النَّبِىُّ عليه السَّلام بِالنَّخْلِ فَقُطِعَ / 6 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنّ النَّبِىّ، عليه السلام، حَرَّقَ نَخْلَ بَنِى النَّضِيرِ، وَقَطَعَ وَهِىَ الْبُوَيْرَةُ، وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ: وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِى لُؤَىٍّ حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ / 7 - فيه: رَافِع، كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُزْدَرَعًا كُنَّا نُكْرِى الأَرْضَ بِالنَّاحِيَةِ مِنْهَا مُسَمًّى لِسَيِّدِ الأَرْضِ، قَالَ: فَمِمَّا يُصَابُ ذَلِكَ وَتَسْلَمُ الأَرْضُ، وَمِمَّا تُصَابُ الأَرْضُ، وَيَسْلَمُ ذَلِكَ، فَنُهِينَا، فَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ. قال المهلب: يجوز قطع الشجر والنخل لخشب يتخذ منه، أو ليخلى مكانها لزرع أو غيره مما هو أنفع منه، يعود على المسلمين من نفعه أكثر مما يعود من بقاء الشجر، لأن النبى قطع النخل بالمدينة، وبنى فى موضعه مسجده الذى كان منزل الوحى، ومحل الإيمان، وقد تقدم قطع شجر المشركين وتخريب بلادهم فى كتاب الجهاد، ونذكر منه طرفاُ فى هذا الباب. احتج من أجاز قطع شجر المشركين وكرومهم بقطع الرسول نخل بنى النضير، وذهبت طائفة من العلماء إلى أنه إذا رجى أن يصير البلد للمسلمين، فلا بأس أن يترك ثمارهم، والوجهان جائزان، لأن أبا بكر الصديق أمر ألا يقطع شجر مثمر، ولم يجهل ما فعل النبى بنخل بنى النضير، وما اعتل به من قال: إذا رجى أن يصير البلد للمسلمين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 462 فلا يقطع، ليس بصحيح، لأن النبى - عليه السلام - كان قد أعلمه الله أنه سيفتح عليه تلك البلاد وغيرها، وبشر أمته بذلك ثم قطعها، فدل ذلك على إباحة الوجهين، وفى قطعها خزى للمشركين ومضرة لهم، وأما حديث رافع، فلا أعلم وجهه فى هذا الباب، ولعل الناسخ غلط فكتبه فى غير موضعه. وفى رواية النسفى قبله باب فصل بينه وبين حديث ابن عمر، وسيأتى الكلام فيه فى موضعه بعد هذا - إن شاء الله - وسألت المهلب عنه فقلت له: حديث رافع لا أعلم له وجهاُ فى هذا الباب، فقال لى: قد يمكن أن يكون له فيه وجه، وهو أن من اكترى أرضاُ لسنين فله أن يزرع فيها ما شاء، ويغرس فيها الشجر وغيرها مما لا يضر بها، فإذا تمت الوجيبة قال صاحب الأرض: احصد زرعك، واقلع شجرك عن أرضى، فذلك لازم لمكتريها حتى يخلى له أرضه مما شغلها به، لقوله عليه السلام: (ليس لعرق ظالم حق) . فهو من باب إباحة قطع الشجر. 7 - بَاب الْمُزَارَعَةِ بِالشَّطْرِ وَنَحْوِهِ قَالَ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِى جَعْفَرٍ: مَا بِالْمَدِينَةِ أَهْلُ بَيْتِ هِجْرَةٍ إِلاَ يَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَزَارَعَ عَلِىٌّ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ، وَالْقَاسِمُ، وَعُرْوَةُ، وَآلُ أَبِى بَكْرٍ، وَآلُ عُمَرَ، وَآلُ عَلِىٍّ، وَابْنُ سِيرِينَ. وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ ابْنُ الأَسْوَدِ: كُنْتُ أُشَارِكُ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ فِى الزَّرْعِ، وَعَامَلَ عُمَرُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 463 النَّاسَ عَلَى إِنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ الشَّطْرُ، وَإِنْ جَاءُوا هُمْ بالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا وَكَذا، وَقَالَ الْحَسَنُ: لاَ بَأْسَ أَنْ تَكُونَ الأَرْضُ لأَحَدِهِمَا فَيُنْفِقَانِ جَمِيعًا فَمَا خَرَجَ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا، وَرَأَى ذَلِكَ الزُّهْرِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُجْتَنَى الْقُطْنُ عَلَى النِّصْفِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَكَمُ، وَالزُّهْرِىُّ، وَقَتَادَةُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُعْطِىَ الثَّوْبَ بِالثُّلُثِ، أَوِ الرُّبُعِ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: لاَ بَأْسَ أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. / 8 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام، عَامَلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، فَكَانَ يُعْطِى أَزْوَاجَهُ مِائَةَ وَسْقٍ، ثَمَانُونَ وَسْقَ تَمْرٍ، وَعِشْرُونَ وَسْقَ شَعِيرٍ، فَقَسَمَ عُمَرُ خَيْبَرَ، فَخَيَّرَ أَزْوَاجَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُقْطِعَ لَهُنَّ مِنَ الْمَاءِ وَالأَرْضِ أَوْ يُمْضِىَ لَهُنَّ، فَمِنْهُنَّ مَنِ اخْتَارَ الأَرْضَ، وَمِنْهُنَّ مَنِ اخْتَارَ الْوَسْقَ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ اخْتَارَتِ الأَرْضَ. اختلف العلماء فى كراء الأرض بالشطر والثلث والربع، فأجاز ذلك على بن أبى طالب، وابن مسعود، وسعد، والزبير، أسامة، وابن عمر، ومعاذ، وخباب، وهو قول سعيد ابن المسيب وطاوس وابن أبى ليلى. قال ابن المنذر: وروينا عن أبى جعفر قال: (عامل رسول الله أهل خيبر بالشطر ثم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى، ثم أهلوهم إلى اليوم يعطون بالثلث والربع) وهو قول الأوزاعى والثورى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 464 وأبى يوسف ومحمد وأحمد، هؤلاء أجازوا المزارعة والمساقاة، وكرهت ذلك طائفة، روى عن ابن عباس، وابن عمر، وعكرمة، والنخعى، وهو قول مالك وأبى حنيفة، والليث، والشافعى، وأبى ثور أنه لا تجوز المزارعة، وهى كراء الأرض بجزء منها، وتجوز عندهم المساقاة. وقال أبو حنيفة وزفر: لا تجوز المزارعة ولا المساقاة بوجه من الوجوه، وقالوا: المزارعة منسوخة بالنهى عن كراء الأرض بما يخرج منها، وهى إجارة مجهولة؛ لأنه قد لا تخرج الأرض شيئًا، وادعوا أن المساقاة منسوخة بالنهى عن المزابنة. وحجة أهل المقالة الأولى حديث ابن عمر: (أن النبى - عليه السلام - ساقى يهود خيبر على شطر ما يخرج من الأرض والثمر جميعًا) قالوا: والأرض أصل مال فيجوز أن يعطيها لمن يعمل فيها كالثمن سواء وكالقراض، واحتج الذين منعوا المزارعة بأنها كراء الأرض بما يخرج منها، وهو من باب الطعام بالطعام نسيئة، وقد نهى رسول الله عن المخابرة، والمحاقلة، وهى كراء الأرض بما يخرج منها، وقالوا: لا حجة لكم فى مساقاة النبى - عليه السلام - لأهل خيبر، لأن خلافنا لكم إنما هو إذا لم يكن فى الأرض شجر وكانت الأرض مفردة، والنبى - عليه السلام - إنما عامل أهل خيبر على النخل والشجر وكانت الأرض تبعًا للثمرة، وهذا يجوز عندنا، وأما إذا كانت الأرض مفردة فلا يجوز؛ لأنه يمكن إجارتها، ولا تدعو إلى مزارعتها ضرورة كما تدعو إلى مساقاة الثمر، ألا ترى أن بيع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 465 الثمر الذى لم يبد صلاحه من أصل النخل جائز وإن لم يشترط فيه القطع؛ لأنه تبع للنخل، ولا يجوز بيعها مفردة من غير شرط القطع؛ لأنها لا تكون تبعًا لغيرها بل تكون مقصودة بالبيع، فلم يكن حكمها مفردًا كحكمه إذا كان مضافًا، وأما قياسهم المزارعة على القراض والمساقاة فالجواب عنه: أن رأس المال فى ذلك لا تجوز إجارته، ولا يتواصل إلى منفعته إلا بالعمل عليه، فجاز أن يعطيه لمن يعمل فيه وتكون المنفعة بينهما، وليس كذلك الأرض؛ لأنه يمكن إجارتها. واحتج الذين منعوا المساقاة بأن النبى - عليه السلام - لما فتح خيبر أقرهم فى أرضهم ملكًا لهم، وشرط عليهم نصف الثمرة جزية، فكان ذلك يؤخذ منهم بحق الجزية لا بحق المساقاة. فقال لهم مخالفوهم: هذا باطل من وجوه. أحدها: ما روى عبد العزيز ابن صهيب عن أنس (أن النبى - عليه السلام - افتتح خيبر عنوة) وقال ابن شهاب عن ابن المسيب: (خمس رسول الله خيبر، ولا يخمس إلا ما أخذ عنوة) . والوجه الثانى: أن النبى - عليه السلام - قسم الأرض بين الغانمين، فأعطى الزبير سهمه، وأعطى عمر سهمه من خيبر، فوقف عمر سهمه. والوجه الثالث: أن عمر أجلاهم من خيبر إلى الشام لما فدغوا ابنه، ولو أقرهم النبى - عليه السلام - على الأرض ولم يملكها عليهم؛ لم يكن لمن بعده أن يجليهم وأن يفارق بينهم وبين أرضهم. وجواب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 466 آخر: وهو أن عائشة قالت: (إن رسول الله بعث ابن رواحة إلى خيبر ليخرصها، ويعلم مقدار الزكاة فى مال المسلمين) ، فأخبرت عائشة أن ذلك مال المسلمين، وأن الزكاة كانت تجب فيه، فبطل قولهم: إن ذلك جزية؛ لأن الجزية لا تجب فيها زكاة، قاله ابن القصار. وأما قول البخارى: وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر فله الشطر، فإن الذين أجازوا المزارعة بالثلث والربع اختلفوا فيمن يخرج البذر، فروى عن ابن مسعود، وسعد بن أبى وقاص، وابن عمر أنهم قالوا: يكون البذر من عند العامل. وروى عن بعض أهل الحديث أنه قال: من أخرج البذر منهما فهو جائز، لأن النبى - عليه السلام - دفع خيبر معاملة، وفى تركه اشتراط البذر من عند أحدهما دليل على أن ذلك يجوز من عند أيهما كان. وقال أحمد وإسحاق: البذر يكون من عند صاحب الأرض، والعمل من الداخل. وقال محمد بن الحسن وأصحابه: المزارعة على أربعة أوجه: ثلاثة منها جائزة، ووجه رابع لا يجوز، فأما الذى يجوز: فأن يكون البذر من قبل رب الأرض، والعمل من قبل المزارع، فهذا وجه. والوجه الثانى: أن يكون البذر والآلة كلها من قبل رب الأرض، والعمل من قبل المزارع، فهذا وجه. والثالث: أن يكون البذر من قبل المزارع، والعمل والآلة كلها من قبله، فهذا وجه. والوجه الذى لا يجوز: أن يكون البذر من قبل المزارع والعمل والآلة من قبل رب الأرض. قال المفسر: وأما وجه إجازتهم هذه الثلاثة الوجوه فإنما قاسوها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 467 على القراض، لأن العامل فيه يعمل بجزء من الربح معلوم، وإن كان لايدرى كم يكون مبلغ الربح فكذلك يجوز أن يكرى الأرض بجزء معلوم وإن لم يعلم مقدار ما تخرجه الأرض، وهذا أصله عندهم قصة خيبر. وأما قولهم: لا يجوز أن يكون البذر من قبل المزارع، والعمل والآلة كلها من قبل رب الأرض، فإنه لما كان المزارع لم يخرج إلا البذر خاصة فكأنه باع البذر من رب الأرض بمجهول من الطعام نسيئة، وهذا الوجه لا يجوز عند جميع العلماء. وذهب مالك إلى أنه لا يجوز أن يكون البذر إلا من عندهما جميعًا، وتكون الأرض من عند أحدهما، والعمل من الآخر، ويكون فيه العمل يوازى قيمة كراء الأرض. والعلماء متفقون على جواز هذا الوجه، لأن أحدهما لا يفضل صاحبه بشىء، وإن كان البذر من عند أحدهما والأرض من الآخر فلا يجوز عنده كراء الأرض. والعلماء متفقون على جواز هذه الوجه؛ لأن أحدهما لا يفضل صاحبه بشىء، وإن كان البذر من عند أحدهما والأرض من الآخر فلا يجوز عند مالك؛ لأنه كأنه أكراه نصف أرضه بنصف بذره، ولا يجوز عنده كراء الأرض بشىء من الطعام، ويجوز عنده وجه آخر من المزارعة أن يكريا الأرض جميعًا، ويخرج أحدهما البذر، ويخرج الآخر البقر وجميع العمل، وتكون قيمة العمل والبقر مثل قيمة البذر فلا بأس بذلك؛ لأنهما سلما من كراء الأرض بالطعام وتكافئا فى سائر ذلك. وأما تخيير عمر أزواج النبى - عليه السلام - بين الأوسق أو الأرض، من خيبر فمعنى ذلك أن أرض خيبر لم تكن للنبى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 468 ملكًا ورثت بعده؛ لأنه قال عليه السلام: (لا نورث ما تركنا صدقة) ، وإنما خيرهن بين أخذ الأوسق أو بين أن يقطعن من الأرض من غير تمليك ما يحد منه مثل الأوسق؛ لأن الرطب قد تشتهى أيضًا كما يشتهى التمر، فاختارت ذلك عائشة لتأكله رطبًا وتمرًا، فإذا ماتت عادت الأرض والنخل على أصلها وقفًا مسبلة فيما سبل فيه الفىء. وأما اجتناء القطن والعصفر ولقاط الزيتون والحصاد كل ذلك بجزء معلوم، فأجازه جماعة من التابعين، وهو قول أحمد بن حنبل قاسوه على القراض؛ لأنه يعمل بالمال على جزء منه معلوم، لا يدرى مبلغه، وكذلك إعطاء الثوب للنساج بجزء منه معلوم، وإعطاء الثور والغنم للراعى عند من أجازها، قاسها على القراض، ومنع ذلك كله مالك، والكوفيون والشافعى؛ لأنها عندهم إجارة بثمن مجهول لا يعرف، وأجاز عطاء، وابن سيرين، والزهرى، وقتادة أن يدفع الثوب إلى النساج ينسجه بالثلث والربع، واحتج أحمد بن حنبل بإعطاء النبى خيبر على الشطر. 8 - بَاب إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ السِّنِينَ فِى الْمُزَارَعَةِ / 9 - فيه: ابْن عُمَرَ، عَامَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أهل خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ. وقال عمرو: قلت لطاوس: (لو تركت المخابرة، فإنهم يزعمون أن النبى نهى عنه قال ابن عمر: وإنى أعطيهم وأعينهم، فإن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 469 أعلمهم أخبرنى - يعنى ابن عباس - أن النبى - عليه السلام - لم ينه عنه، ولكن قال: (إن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليه خرجًا معلومًا) . وترجم لحديث ابن عمر باب (مزارعة اليهود) وقال فيه: (إن النبى - عليه السلام - أعطى خيبر اليهود على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما خرج منها) . اختلف العلماء فى المزارعة من غير أجل، فكرهها مالك، والثورى، والشافعى، وأبو ثور حتى يسمى أجلا معلومًا. قال ابن المنذر: وقال أبو ثور: إذا لم يسم سنين معلومةً فهو على سنة واحدة، وحكى عن بعض الناس أنه قال: أجيز ذلك استحسانًا، وأدع القياس. وقال ابن المنذر: قال بعض أصحابنا: ذلك جائز واحتج بقوله عليه السلام: (نقركم ما شئنا) ، وفى ذلك دليل على إجازة دفع النخل مساقاة والأرض مزارعة من غير ذكر سنين معلومة، فيكون لصاحب الأرض والنخل أن يخرج المساقى والزارع من الأرض والنخل متى شاء، وفى ذلك دلالة أن المزارعة بخلاف الكراء، ولا يجوز فى الكراء أن يقول: أخرجك عن أرضى متى شئت. ولا خلاف بين أهل العلم أن الكراء فى الدور والأرضين لا يجوز إلا وقتًا معلومًا، وقول أبى ثور حسن؛ لأن معاملته - عليه السلام - اليهود بشطر ما يخرج منها يقتضى سنة واحدة حتى يبين أكثر منها، فلم تقع المدة إلا معلومة، وسأزيد فى الكلام فى هذه المسألة فى باب: (إذا قال رب الأرض: اقرك، ما أقرك الله) ، بعد هذا - إن شاء الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 470 9 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنَ الشُّرُوطِ فِى الْمُزَارَعَةِ / 10 - فيه: رَافِع، كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حَقْلاً، وَكَانَ أَحَدُنَا يُكْرِى أَرْضَهُ، فَيَقُولُ: هَذِهِ الْقِطْعَةُ لِى، وَهَذِهِ لَكَ، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ ذِهِ، وَلَمْ تُخْرِجْ ذِهِ، فَنَهَاهُمُ النَّبِىُّ عليه السَّلام. هذا الوجه المنهى عنه فى هذا الحديث لا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز؛ لأن غرر ومجهول، وهذه المزارعة المنهى عنها، وإنما اختلفوا فى المزارعة بالثلث والربع مما تخرج الأرض على ما تقدم قبل هذا. وقال ابن المنذر: جاء فى هذا الحديث العلة التى نهى النبى من أجلها عن كراء الأرض، وعن المخابرة، وهى اشتراطهم أن لرب الأرض ناحية منها، وقد جاء فى حديث رافع أيضا علل أخر سأذكرها فى موضعها - إن شاء الله - وقد تقدم مذاهب العلماء فى المزارعة، وما يجوز منها وما لا يجوز، فأغنى عن إعادته. ومما لا يجوز فى المزارعة عند مالك أن يجتمع معنيان فى جهة واحدة، وهو أن يخرج صاحب الأرض البذر، فيجتمع له أرضه وبذره فلا يجوز، فيكون للعامل أجرة عمله وزرعه، ويكون الزرع لصاحب الأرض والبذر، وكذلك لو اجتمع للعامل البذر والعمل كانت المزارعة فاسدة، وكان عليه كراء الأرض لصاحب الأرض والزرع كله للعامل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 471 - بَاب إِذَا زَرَعَ بِمَالِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ وَكَانَ فِى ذَلِكَ صَلاَحٌ لَهُمْ / 11 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ أَخَذَهُمُ الْمَطَرُ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ. . . .) الحديث، (فَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّى اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: أَعْطِنِى حَقِّى فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ، فَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا، فَجَاءَنِى، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ، فَقُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الْبَقَرِ وَرُعَاتِهَا فَخُذْ، قَالَ: اتَّقِ اللَّهَ، وَلاَ تَسْتَهْزِئْ بِى، فَقُلْتُ: إِنِّى لاَ أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَخُذْ، فَأَخَذَهُ كله. . . .) ، الحديث. قال المهلب: لا تصح هذه الترجمة إلا أن يكون الزارع متطوعًا إذ لا خسارة على صاحب المال؛ لأنه لو هلك الزرع أو ما ابتاع له بغير إذنه كان الهلاك من الزارع، وإنما يصح هذا على سبيل التفضل بالربح وضمان رأس المال، لا أن من تعدى فى مال غيره، فاشترى منه بغير إذنه أو زرع به أنه يلزم صاحبه فعله؛ لأن ما فى ذمته من الدين لا يتغير إلا بقبض الأجير له، أو برضاه بعمله فيه، وقد تقدم فى كتاب الإجارة حكم من تجر فى مال غيره بغير إذنه فربح، ومذاهب العلماء فى ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 472 - بَاب أَوْقَافِ أَصْحَابِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) وَأَرْضِ الْخَرَاجِ وَمُزَارَعَتِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِعُمَرَ: (تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لاَ يُبَاعُ ثَمَرُةُ وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ فَتَصَدَّقَ بِهِ) . / 12 - وفيه: عُمَر، قَالَ: لَوْلاَ آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلاَ قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا، كَمَا قَسَمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) خَيْبَرَ. قال إسماعيل بن إسحاق: كانت خيبر جماعة حصون، فافتتح بعضها بقتال، وبعضها أسلمها أهلها على أن تحقن دماؤهم، هذا قول ابن إسحاق عن الزهرى، فكان حكم خيبر كلها العنوة، ومعنى هذه الترجمة - والله أعلم - أن الصحابة كانوا يزارعون ويساقون أوقاف النبى - عليه السلام - بعد وفاته على ما كان عامل عليه النبى يهود خيبر، فإن العمل جرى بالمزارعة والمساقاة فى أوقاف النبى عليه السلام - وأرض خراج المسلمين، ولم يرو عن أبى بكر ولا عمر ولا غيرهما أنهم غيروا حكم رسول الله فى هذا، فهى سنة ثابتة معمول بها، وقد تقدم فى كتاب الجهاد فى باب (الغنيمة لمن شهد الوقعة) الكلام فى حكم الأرض العنوة إذا غنمها المسلمون فى حديث عمر هذا. - بَاب في إحياء الموات مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا وَرَأَى ذَلِكَ عَلِىٌّ فِى أَرْضِ الْخَرَابِ بِالْكُوفَةِ. وَقَالَ عُمَرُ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِىَ لَهُ. وَيُرْوَى عَنْ عَمْرِ وابْنِ عَوْفٍ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 473 السَّلام، وَقَالَ فِى حَقِّ غَيْرِ مُسْلِمٍ: (وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ فِيهِ حَقٌّ) ، وَيُرْوَى فِيهِ عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِىِّ عليه السلام. / 13 - فيه: عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لأَحَدٍ، فَهُوَ أَحَقُّ) . قَالَ عُرْوَةُ: قَضَى بِهِ عُمَرُ فِى خِلاَفَتِهِ. وقوله عليه السلام: (من أحيا أرضا ميتة فهى له، وليس لعرق ظالم حق) وهذا حديث حسن السند. اختلف العلماء فى إحياء الموات، فقال مالك: من أحيا أرضًا ميتة فيما قرب من العمران، فلا بد فى ذلك من إذن الإمام، وإن كانت فى فيافى المسلمين والصحارى وحيث لا يتشاح الناس فيه، فهى له بغير إذن الإمام؟ وقال أبو يوسف، ومحمد، والشافعى: من أحيا أرضًا ميتة فهى له، ولا يحتاج إلى إذن الأمام فيما قرب كما لا يحتاج فيما بعد. قال أشهب وأصبغ: إن أحيا فيما قرب بغير إذنه أمضيت ولم يعنف. وقال مطرف وابن الماجشون: الإمام مخير بين أربعة أوجه: إن رأى أن يقره له فعل، أو يقره للمسلمين ويعطيه قيمته منقوضًا، أو يأمره بقلعه، أو يعطيه غيره فيكون للأول قيمته منقوضًا، والبعيد ما كان خارجًا عما يحتاجه أهل ذلك العمران من محتطب ومرعى، مما العادة أن الرعاء يبلغونة ثم يبيتون فى منازلهم، ويحتطب المحتطب ثم يعود إلى موضعه، وما كان من الأحياء فى المحتطب والمرعى فهو القريب من العمران فيمنع. وقال أبو حنيفة: ليس لأحد أن يحيى مواتًا إلا بإذن الإمام فيما بعد وقرب. قال الطحاوى: الحجة لأبى يوسف ومحمد قوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 474 عليه السلام: (من أحيا أرضا ميتة فهى له) . فقد جعل إحياء ذلك إلى من أحب بلا أمر الإمام فى ذلك، قال: وقد دلت على ذلك شواهد من النظر، منها أن الماء الذى فى البحار والأنهار، من أخذ منه شيئًا ملكه بأخذه إياه، وإن لم يأمره الإمام بذلك، وكذلك الصيد هو لمن صاده، ولا يحتاج إلى تمليك من الإمام، لأن الإمام وسائر الناس فى ذلك سواء، فكذلك الأرض التى لا ملك لأحد عليها هى كالصيد الذى ليس بمملوك والماء المباح. والحجة لأبى حنيفة أن قوله: (من أحيا أرضا ميتة فهى له) إنما معناه من أحياها على شرائط الأحياء فهى له، وذلك أن يحظرها وأذن الإمام له فيها، والدليل على صحة هذا التأويل قوله عليه السلام: (لا حمى إلا لله ولرسوله) ، والحمى ما حمى من الأرض، فدل أن حكم الأرضين إلى الأئمة لا إلى غيرهم، وأن حكم ذلك غير حكم الصيد والماء. والفرق بينهما أنا رأينا ماء الأنهار لا يجوز للإمام تمليك ذلك أحدًا، ورأينا لو ملك رجلا أرضًا ميتة ملكها بذلك، ولو احتاج الإمام إلى بيعها فى نائبة للمسلمين جاز بيعه لها، ولا يجوز ذلك فى ماء نهر ولا صيد بر ولا بحر، وأنه ليس للإمام بيعهما ولا تمليكهما أحدًا، وأن الإمام فيهما كسائر الناس، فكان ملكهما يجب بأخذهما دون الإمام، فثبت بذلك ما ذهب إليه أبو حنيفة. والحجة لمالك أن النبى - عليه السلام -: (أقطع لبلال بن الحارث معادن القبلية جلسيها وغوريها وحيث يصلح الزرع) ، ولم يقطعه حق مسلم، وهذا فيما قرب، فوجب استعمال الحديثين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 475 جميعًا، فما وقع فيه التشاح والتنافس لم يكن لأحد عمارته بغير إذن الإمام، وما تباعد من العمارة ولم يتشاح فيه جاز أن يعمر بغير إذن الإمام، لأن النبى قال: (من أحيا أرضاُ ميتة فهى له) ، وهذا الإذن من النبى إقطاع. قال سحنون: وقد أقطع عمر العقيق وهو قرب المدينة، قال: ومسافة يوم عن العمارة بعيد. فإن قال أبو حنيفة: إن إحياء الموات من مصالح المسلمين، لأن الأرض مغلوب عليها، فوجب ألا تملك إلا بإذن الإمام كالغنيمة. قيل: الموات فى الفيافى من المباح كالصيد وطلب الركاز والمعادن، لا يفتقر شىء منها إلى إذن الإمام وإن كانت فى الأرض التى عليها يد الإمام، فكذلك الموات. وإحياء الموات عند مالك إجراء العيون، وحفر الآبار، والبنيان، والحرث، وغرس الأشجار، وهو قول الشافعى. وقال ابن القاسم: ولا يعرف مالك التحجير إحياء. والحجة له ما روى الزهرى، عن سالم، عن ابن عمر قال: كان الناس يتحجرون على عهد عمر فى الأرض التى ليست لأحد، فقال عمر: من أحيا أرضًا ميتة فهى له. وهذا يدل أن التحجير غير الإحياء. قال ابن حبيب: وبلغنى عن ربيعة أنه قال: العرق الظالم عرقان: عرق ظاهر، وعرق باطن، فالباطن ما احتفره الرجل من الآبار أو غرس. قال ربيعة فى كتاب ابن حبيب: العروق أربعة: عرقان فوق الأرض، وهما الغرس والنبات، وعرقان فى جوفها: المياه والمعادن، وفى كتاب ابن سفيان: العروق أربعة: عرقان ظاهران، وعرقان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 476 باطنان، فالظاهران: البناء والغرس، والباطنان: الآبار والعيون، والعرق الظاهر ما بنى فى أرض غيره. قال ابن حبيب: فالحكم فيه أن يكون صاحب الأرض مخيرًا على الظالم، إن شاء حبس ذلك فى أرضه بقيمته مقلوعًا، وإن شاء نزعه من أرضه. وقال غيره: ومعنى قوله: (وليس لعرق ظالم حق) يريد ليس له حق كحق نم غرس أو بنى بشبهة، فإذا غرس أو بنى بشبهة فله حق إن شاء رب الأرض أن يدفع إليه قيمته قائمًا فعل، وإن أبى قيل للذى بنى أو غرس ادفع إليه قيمة أرضه براحًا، فإن أبى كانا شريكين فى الأرض والعمارة، هذا بقيمة أرضه براحًا وهذا بقدر قيمة العمارة. قال ابن حبيب: لا خيار للذى بنى أو غرس إذا أبى ربُ الأرض أن يدفع إليه قيمة ما بنى أو غرس بأن يخرج رب الأرض من أرضه، ولكن إذا أبى رب الأرض من دفع قيمة ما بنى أو غرس نشرك فيها بينهما مكانه، هذا بقيمة أرضه براحًا، والآخر بقيمة عمارته قائمة، أخبرنى ابن الماجشون والمغيرة عن مالك: وتفسير اشتراكهما أن تقوم الأرض اليوم براحًا، ثم تقوم بعمارتها، فما زادت قيمتها بالعمارة على قيمتها براحًا، كان العامر شريكًا لرب الأرض فيها إن أحبا قسمًا أو حبسا. قال ابن الجهم: فإذا دفع رب الأرض قيمة العمارة وأخذ أرضه كان له كرهًا فيما مضى من السنين. ووقع فى الأمهات: من أعمر أرضًا. ولم أجد ذلك فى كتب اللغة، وذكر صاحب العين: أعمرت الأرض: وجدتها عامرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 477 وليس هذا المعنى بمراد من هذا الحديث، وفى كتاب الأفعال: عمر المكان وعمرته عمارةً، فهو عامر ومعمور، وفى القرآن: (وعمروها أكثر مما عمروها (فجاء عمرت الأرض، ولم يجئ أعمرت الأرض، ويمكن أن يكون من اعتمر أرضًا وسقطت التاء من الأمر والله أعلم. - باب / 14 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أُرِىَ، وَهُوَ فِى مُعَرَّسِهِ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ فِى بَطْنِ الْوَادِى، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ، فَقَالَ مُوسَى: وَقَدْ أَنَاخَ بِنَا سَالِمٌ بِالْمُنَاخِ الَّذِى كَانَ عَبْدُاللَّهِ يُنِيخُ بِهِ، يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ أَسْفَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ الَّذِى بِبَطْنِ الْوَادِى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ وَسَطٌ مِنْ ذَلِكَ. / 15 - وفيه: ابْن عَبَّاس، عَنْ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السلام، قَالَ: (اللَّيْلَةَ أَتَانِى آتٍ مِنْ رَبِّى، وَهُوَ بِالْعَقِيقِ، أَنْ صَلِّ فِى هَذَا الْوَادِى الْمُبَارَكِ، وَقُلْ عُمْرَةٌ فِى حَجَّةٍ) . قال المهلب: هذا المعنى الذى حاول البخارى من أنه جعل موضع معرس النبى وصلاته موقوفًا له، ومتملكًا له لصلاته وتعريسه فيه لا يقوم على ساق؛ لأنه عليه السلام قد قال: (جعلت لى الأرض مسجدًا وطهورًا) وقد يصلى فى أرض متملكة، فلم تكن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 478 صلاته فيها بمبيحة للصلاة فيها للناس إلى يوم القيامة، وقد صلى فى دار أبى طلحة ودار عتبان، فلم يبح ذلك للناس أن يتخذوا ذلك الموضع مسجدًا، وإنما أدخله البخارى من أجل أنه نسب المعرس إلى رسول الله. - بَاب إِذَا قَالَ رَبُّ الأَرْضِ: أُقِرُّكَ مَا أَقَرَّكَ اللَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَجَلاً مَعْلُومًا فَهُمَا عَلَى تَرَاضِيهِمَا / 16 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، وَكَانَ عليه السَّلام لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ أَرَادَ إِخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا، وَكَانَتِ الأَرْضُ حِينَ ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَأَرَادَ إِخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا، فَسَأَلَتِ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِيُقِرَّهُمْ بِهَا أَنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا، وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا) ، فَقَرُّوا بِهَا حَتَّى أَجْلاَهُمْ عُمَرُ إِلَى تَيْمَاءَ، وَأَرِيحَاءَ. اعتل من دفع بأنها كانت من النبى - عليه السلام - إلى غير أجل معلوم، لقوله عليه السلام لليهود: (أقركم ما أقركم الله) وكل من أجاز المساقاة فإنما أجازها إلى أجل معلوم، إلا ما ذكر ابن المنذر عن بعض أصحابه أنه تأول فى قوله عليه السلام لليهود: (أقركم ما أقركم الله) جواز المساقاة بغير أجل، وقد تقدم ذكره فى باب (إذا لم يشترط السنين فى المزارعة) . والذى عليه أئمة الفتوى أنها لا تجوز إلا بأجل معلوم، قال مالك: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 479 الأمر عندنا فى النخل أنها تساقى السنتين والثلاث والأربع وأقل وأكثر. وأجازها أصحاب مالك فى عشر سنين فما دونها، وقال محمد بن الحسن: إذا ساقاه ولم يسم سنين معلومة كان ذلك على سنة واحدة. وهو قول أبى ثور، وهو يشبه قول ابن الماجشون فيمن اكترى دارًا مشاهرة أنه يلزمه شهر واحد، لأن النبى - عليه السلام - أقر اليهود على أن لهم النصف، وهذا يقتضى سنة واحدة حتى يتبين أكثر منها. ولا حجة لمن دفع المساقاة فى قوله عليه السلام لليهود: (أقركم ما أقركم الله) ، ولم يذكر أجلا، لأنه عليه السلام كان يرجو أن يحقق الله رغبته فى إبعاد اليهود من جواره، لأنه امتحن معهم فى شأن القبلة فكان مرتقبًا للوحى فيهم، فقال لهم: (أقركم ما أقركم الله) منتظراُ للقضاء فيهم، فلم يوح إليه فى ذلك حتى حضرته الوفاة فقال: (لا يبقين دينان بأرض العرب) . فقوله عليه السلام: (أقركم ما أقركم الله) لا يوجب فساد عقد النبى - عليه السلام - ويوجب فساد عقد غيره بعده، لأنه عليه السلام كان ينزل عليه الوحى بتقرير الأحكام ونسخها، فكان بقاء حكمة موقوفًا على تقرير الله له، وكان بقاؤه ما أقره الله، وزواله إذا نسخه من مقتضى العقد، فإذا شرط ذلك فى عقده لم يوجب فساده، وليس كذلك صورته من غيره، لأن الأحكام قد ثبتت وتقررت. ومساقاة رسول الله اليهود على نصف الثمر يقتضى عموم جميع الثمر، ففيه حجة لمن أجاز المساقاة فى الأصول كلها، وهو قول ابن أبى ليلى، ومالك، والثورى، والأوزاعى، وأبى يوسف، ومحمد، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 480 وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وقال الشافعى: لا تجوز إلا فى النخل والكرم خاصة، لأن المساقاة عنده لا تجوز إلا فيما يجوز فيه الخرص للزكاة، وذلك النخل والكرم، قال: لأن ثمرها بائن من شجره، ولا حائل دونه يمنع إحاطة النظر إليه، وغيرهما متفرق بين أضعاف ورق شجره، لا يحاط بالنظر إليه. وحجة القول الأول أن المساقاة إنما جازت فى النخل، لأنها أصول ثابتة لا يمكن بيع ثمرها، ولا إجارتها قبل وجودها، فجاز أن يساقى عليها بجزء من ثمرها، كما جاز فى القراض أن يدفع المال بجزء من ربحه لحاجة الناس إلى ذلك، وضرورتهم إليه فى أمر معاشهم، فجازت فى كل أصل ثابت يبقى كالزيتون، والتين، والرمان، والفرسك، والورد، والياسمين ونحوه، لأن النبى ساقى أهل خيبر على نصف الثمر، وهذا عام فى جميع الأشجار. ومن قال: إنما تجوز المساقاة فيما فيه الزكاة، فيلزمه أن يجيز المساقاة فى الزرع وغيره من الحبوب التى فيها الزكاة، فلما لم يجزها علم أن المساقاة لم تجب من أجل وجوب الزكاة، وإنما جازت للضرورة إليه وأن مالكها لا يقدر على عملها بنفسه. قال الطحاوى: ويلزم الشافعى أن يجيز المساقاة فى الزيتون، والتين، والكمثرى والأجاص، والرمان وكل شىء يظهر من شجره، لأن ذلك يحاط بالنظر إليه. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: قوله: (وكانت الأرض لما ظهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين) يريد حين ظهر عليها كل الظهور، حين صالحوه بالخروج عن أموالهم على أن يحقن دماءهم، فكانت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 481 خيبر لله وللرسول وللمسلمين بما أخذ منهم فى الصلح وخمس ما أخذ عنوة، لأن المسلمين أخذوا سهامهم من العنوة. ولا يعارض ما روى فى كتاب الخمس (وكانت الأرض لما ظهر عليها لليهود وللرسول وللمسلمين) وهذا معناه حين ظهر عليها فى العنوة قبل القسمة كانت لله ولرسوله، وكانت عين العنوة لليهود قبل أن يصالحوه، فلما صالحوه كانت بعد الصلح وقبل قسمة العنوة لله ولرسوله، ثم لما قسم العنوة كانت لله ولرسوله الصلح وخمس العنوة، وللمسلمين أربعة أخماس العنوة. وقوله: (لما ظهر عليهم فى الطريق الذى فيه لله ولرسوله ولليهود) ، أى ظهر فى الرجاء؛ لأنه كان أخذ أعظمها حصنًا، فاستولى عليها رجاء، ألا ترى أنهم لجئوا إلى مصالحته لما رأوا من ظهوره، فتركوا الأرض وسلموها لحقن دمائهم، فكان حكم ذلك الصلح، وما انجلى عنه أهله بالرعب حكم الفىء لم يجز فيه خمس، وإنما استخلص منه رسول الله لنفسه، وكان باقيه لنوائب المسلمين وما يحتاجون إليه. - بَاب مَا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يُوَاسِى بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِى الزِّرَاعَةِ وَالثَّمَر / 17 - فيه: رَافِع، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: لَقَدْ نَهَانَا النَّبِىّ، عليه السلام، عَنْ أَمْرٍ كَانَ بِنَا رَافِقًا، قُلْتُ: مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَهُوَ حَقٌّ، قَالَ: دَعَانِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ؟) قُلْتُ: نُؤَاجِرُهَا عَلَى الرُّبُعِ، وَعَلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 482 الأَوْسُقِ مِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، قَالَ: (لاَ تَفْعَلُوا، ازْرَعُوهَا، أَوْ أَزْرِعُوهَا، أَوْ أَمْسِكُوهَا) . قَالَ رَافِعٌ: قُلْتُ: سَمْعًا وَطَاعَةً. / 18 - وفيه: جَابِر، قَالَ: كَانُوا يَزْرَعُونَهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالنِّصْفِ، فَقَالَ عليه السَّلام: (مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيَمْنَحْهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ) . وروى أبو هريرة مثل حديث جابر، وقال عمرو: ذكرته لطاوس، فقال: يزرع، قال ابن عباس: (أن النبى - عليه السلام - لم ينه عنه، ولكن قال: أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ شيئًا معلومًات) . وفيه ابن عمر: (أنه كان يكرى مزارعه على عهد النبى عليه السلام وأبى بكر، وعمر، وعثمان، وصدرًا من إمارة معاوية، ثم حدث عن رافع بن خديج أن النبى نهى عن كراء المزارع، فذهب ابن عمر إلى رافع فذهبت معه فسأله، فقال: نهانا النبى - عليه السلام - عن كراء المزارع. فقال ابن عمر: قد علمت أنا كنا نكرى مزارعنا على عهد رسول الله بما على الأربعاء وشىء من التبن، ثم خشى عبد الله أن يكون النبى - عليه السلام - قد أحدث فى ذلك شيئًا لم يكن يعلمه، فترك كراء الأرض) . احتج من منع المزارعة بحديث رافع عن عمه قال: (لقد نهانا النبى عن أمر كان بنا رافقًا. . .) وبحديث جابر، وبترك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 483 ابن عمر كراء الأرض من أجل حديث رافع، واحتج الذين أجازوا المزارعة بحديث ابن عمر أن النبى - عليه السلام - عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر على ما تقدم ذكره. وقال ابن المنذر: اختلفت ألفاظ أحاديث رافع، واختلفت فيها العلل التى من أجلها نهى عن كراء الأرض وعن المخابرة، فأحد تلك العلل: اشتراطهم أن لرب الأرض ناحية منها. وعلة ثانية: وهو اشتراطهم الأكار أن ما سقى الماذيان والربيع فهو لنا، وما سقت الجداول فهو لكم. وعلة ثالثة: وهى إعطاؤهم الأرض على الثلث والربع والنصف. وعلة رابعة: وهو أنهم كانوا يكرونا بالطعام المسمى والأوسق من الثمر. وعلة خامسة: وهى أن نهيه عن ذلك عليه السلام كان لخصومة وقتال كان بينهم. وروى عن عروة بن الزبير، عن زيد بن ثابت قال: (يغفر الله لرافع، أنا والله أعلم بالحديث منه، إنما أتى رجلان من الأنصار قد اقتتلا، فقال رسول الله: إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع، فسمع قوله: لا تكروا المزارع) . وعلة سادسة: احتج بها من جعل نهيه عليه السلام عن ذلك نهى تأديب، وذلك قول ابن عباس: (أن النبى - عليه السلام - لم ينه عنه: يعنى: لم يحرمه) . وروى شعبة عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس (أن النبى - عليه السلام - لم يحرم المزارعة، وإنما أراد أن يرزق بعضهم بعضها) . قال ابن المنذر: فإذا كان سبيل أخبار رافع ما ذكرنا وجب الوقوف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 484 عن استعمالها؛ لكثرة عللها، ووجب القول بحديث ابن عمر، وهو خبر ثابت لا علة فيه، وكذلك قال سالم بن عبد الله: أكثر رافع، ولو كانت لى مزارع لأكريتها. وقال أحمد بن حنبل: أحاديث رافع مضطربة، وأحسنها حديث يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار. وأما قوله فى حديث رافع: (فنؤاجرها على الأوسق من التمر والشعير) ، فإن العلماء اختلفوا فى كراء الأرض بالطعام، فقال أبو حنيفة، والأوزاعى، والثورى، والشافعى، وأبو ثور: يجوز أن تكرى الأرض بالطعام كله إذا كان معلومًا فى ذمة المكترى، قالوا: وكل ما جاز أن يكون ثمنًا لشىء جاز أن تكرى به الأرض ما لم يكن مجهولا أو غررًا. وروى ذلك عن النخعى. وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحجة لهم حديث الأوزاعى عن ربيعة، عن حنظلة ابن قيس قال: (سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق، فقال: لا بأس به، إنما كان الناس على عهد رسول الله يؤاجرون الأرض بما على الماذيانات وإقبال الجداول، فيهلك هذا، ويسلم هذا، فزجر عنه رسول الله، فأما شىء معلوم مضمون فلا) قالوا: فقد أخبر رافع بالعلة التى لها نهى رسول الله عن ذلك، وهو جهل البدل، وأخبر أن كراها جائز بكل شىء معلوم. قال ابن المنذر: إن أكراها بطعام معلوم يكون فى ذمة المكترى، أو بطعام حاضر يقبضه: فذلك جائز، وأما إن أكراها بجزء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 485 مما يخرج منها فذلك غرر، لأنها قد تخرج وقد لا تخرج وهذا عند الشافعى المزارعة المنهى عنها، وقال مالك: لا يجوز أن يكرى الأرض بشىء مما يخرج منها أكل أو لم يؤكل، ولا بشىء من ما يؤكل ويشرب، خرج منها أم لا. واختلف أصحابه فى ذلك، فقال ابن كنانة: لا تكرى الأرض بشىء إذا أعيد فيها نبت، ولا بأس أن تكرى بما سوى ذلك من الطعام وغيره. وقال ابن نافع: جائز كراء الأرض بكل شىء من الطعام والإدام غير الحنطة والسلت والشعير، فإنها محاقلة. والحجة لمالك ما رواه شعبة عن يعلى بن حكيم، عن سليمان بن يسار، عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله: (من كانت له أرض فليزرعها، أو يزرعها، ولا يكريها بثلث ولا بربع، ولا بطعام مسمى) ، وهذا عموم فى كل ما يخصه اسم طعام، سواء أنبتته الأرض أم لا، وإذا أكراها بطعام فهو فى معنى المخابرة المنهى عنها، لأنه يصير طعاماُ بطعام متأخر أو طعامًا بطعام متفاضلا وذلك محرم. الربيع: الجدول، والماذيانات: جداول الماء، وما نبت على حافتى مسيل الماء. - بَاب كِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَمْثَلَ مَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ أَنْ تَسْتَأْجِرُوا الأَرْضَ الْبَيْضَاءَ مِنَ السَّنَةِ إِلَى السَّنَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 486 / 19 - فيه: رَافِع، قَالَ: حَدَّثَنِى عَمَّاىَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرُونَ الأَرْضَ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ عليه السلام، بِمَا يَنْبُتُ عَلَى الأَرْبِعَاءِ، أَوْ بِشَىْءٍ يَسْتَثْنِيهِ صَاحِبُ الأَرْضِ، فَنَهَانا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لِرَافِعٍ: فَكَيْفَ هِىَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ؟ فَقَالَ رَافِعٌ: لَيْسَ بِهَا بَأْسٌ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ. قَالَ اللَّيْثُ: وَكَانَ الَّذِى نُهِىَ عَنْ ذَلِكَ، مَا لَوْ نَظَرَ فِيهِ ذَوُو الْفَهْمِ بِالْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ، لَمْ يُجِيزُوهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُخَاطَرَةِ. اتفق العلماء على أنه يجوز كراء الأرض بالذهب والفضة، قال ابن المنذر: وهذا إجماع الصحابة، وذهب ربيعة إلى أنه لا يجوز أن يكرى بشىء غير الذهب والفضة. وقال طاوس: لا تكرى بالذهب ولا بالفضة، وتكرى بالثلث والربع. وقال الحسن البصرى: لا يجوز أن تكرى الأرض بشىء لا بذهب وفضة ولا بغيرهما. والحجة لقول الحسن ما روى عن رافع بن خديج (أن الرسول نهى عن كرى الأرض مطلقًا) ، وقال: إذا استأجرها وحرث فيها لعله أن يحترق زرعه، فيردها وقد زادت بحرثه لها، فينتفع رب الأرض بتلك الزيادة دون المستأجر، وهذا ليس بشىء، لأن سائر البيوع لا تخلو من شىء من الغرر، والسلامة فيها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 487 أكثر، ولو روعى فى البيوع ما يجوز أن يحدث لم يصح بيع لأحد، لأجل خشية ما يحدث من عند الله تعالى. وقد ثبت عن رافع فى هذا الباب أن كراء الأرض بالذهب والفضة جائز، وذلك مضاف إلى رسول الله، وهو خاص يقضى على العام الذى جاء فيه النهى عن كراء الأرض بغير استثناء ذهب ولا فضة، والزائد من الأخبار أولى أن يؤخذ به، لئلا تتعارض الأخبار ويسقط شىء منها. والأربعاء: جداول الماء، واحدها: ربيع، عن صاحب العين. - باب السقى / 20 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام، كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ: (أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِى الزَّرْعِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّى أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، قَالَ: فَبَذَرَ، فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ، فَكَانَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ، عز وجل: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَإِنَّهُ لاَ يُشْبِعُكَ شَىْءٌ) ، فَقَالَ الأَعْرَابِىُّ: وَاللَّهِ لاَ نجِدُهُ إِلاَ قُرَشِيًّا، أَوْ أَنْصَارِيًّا، فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ، فَضَحِكَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) . قال الهلب: فى هذا الحديث أن كل ما اشتهى فى الجنة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 488 من أعمال الدنيا ولذاتها فممكن فيها، لقوله تعالى: (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين (. قال المؤلف: وفيه الحكم بالدليل، ووصف الناس بغالب عادتهم وأحوالهم، لقول الأعرابى: (والله لا نجده إلا قرشيا أو أنصاريا فإنهم أصحاب زرع، فضحك النبى) فدل ضحكه على إصابة الأعرابى للحق فى استدلاله، ففى ذلك من الفقه أنه من لزم طريقة وحالة من خير أو شر أنه يجوز وصفه بها، ولا حرج على واصفه بالشر إن لزم طريقته، وفيه ما جبل الله عليه نفوس بنى آدم من حب الاستكثار، والرغبة فى متاع الدنيا، لأن الله قد أغنى أهل الجنة عن نصب الدنيا ومتاعها، فقال تعالى: (وقالوا الحمد لله الذى أذهب عنا الحزن (. وقوله: (دونك يا ابن آدم، لا يشبعك شىء) يدل على فضل القناعة، والاقتصار على البلغة، وذم الشره والرغبة. - بَاب مَا جَاءَ فِى الْزرع / 21 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، كُنَّا نَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تَأْخُذُ مِنْ أُصُولِ سِلْقٍ لَنَا كُنَّا نَغْرِسُهُ فِى أَرْبِعَائِنَا، فَتَجْعَلُهُ فِى قِدْرٍ لَهَا فَتَجْعَلُ فِيهِ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ، لاَ أَعْلَمُ إِلاَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِيهِ شَحْمٌ، وَلاَ وَدَكٌ، فَإِذَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَةَ زُرْنَاهَا، فَقَرَّبَتْهُ إِلَيْنَا، فَكُنَّا نَفْرَحُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 489 بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَمَا كُنَّا نَتَغَدَّى، وَلاَ نَقِيلُ إِلاَ بَعْدَ الْجُمُعَةِ. / 22 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، يَقُولُونَ: أكثر أَبَا هُرَيْرَةَ، وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ، وَيَقُولُونَ: مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لاَ يُحَدِّثُونَ مِثْلَ حديثه، وَإِنَّ إِخْوَتِى مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَتْ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَتِى مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَكُنْتُ امْرًَا مِسْكِينًا أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى مِلْءِ بَطْنِى، وَأَحْضُرُ حِينَ يَغِيبُونَ، وَأَعِى حِينَ يَنْسَوْنَ، وَقَالَ عليه السَّلام يَوْمًا: (إن يَبْسُطَ أَحَدٌ مِنْكُمْ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِىَ مَقَالَتِى هَذِهِ، ثُمَّ يَجْمَعَهُ إِلَى صَدْرِهِ، فَلا يَنْسَى مِنْ مَقَالَتِى شَيْئًا أَبَدًا. . . .) ، الحديث. فى هذا الحديث عمل الصحابة فى الحرث والزرع بأيديهم، وخدمة ذلك بأنفسهم، ألا ترى قول أبى هريرة: (وإن إخوانى من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم) ، وكذلك المرأة العجوز كانت تغرس السلق للنبى - عليه السلام - وأصحابه ففى هذا أن الامتهان فى طلب المعاش للرجال والنساء من فعل الصالحين، وأنه لا عار فيه ولا نقيصة على أهل الفضل. قال المهلب: وفيه إجابة المرأة الصالحة إلى الطعام. وفيه دليل على التهجير بالجمعة والمبادرة إليها عند أول الزوال، وإنما كانوا يشغلون بالغسل، ومراعاة التهجير عن قائلتهم المعروفة فى سائر الأيام، فلا يجدون السبيل إليها إلا بعد الصلاة، لا أنهم كانوا يصلونها قبل زوال الشمس، كما ظن بعض الناس وخالف كتاب الله فى قوله: (أقم الصلاة لدلوك الشمس (وقد تقدم هذا فى كتاب الجمعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 490 بسم الله الرحمن الرحيم 36 - كِتَاب الْمِيَاهِ - بَاب مَا جَاء فِى الشُّرْبِ وَقَوْلِ اللَّهِ: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ (وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِة (إلى قوله: (تَشْكُرُونَ (. وَقَالَ عُثْمَانُ: عن النَّبىّ عليه السَّلام: (مَنْ يَشْتَرِى بِئْرَ رُومَةَ فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلاَءِ الْمُسْلِمِينَ) ، فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ. معنى قوله تعالى: (وجعلنا من الماء كل شىء حى (أراد به حياة جميع الحيوان الذى يعيش بالماء، وقيل: عنى بالماء هاهنا: النطفة خاصة. ومن قرأ: (وجعلنا من الماء كل شىء حيا (يدخل فيه الحيوان والجماد، لأن الزرع والشجر لها موت إذا جفت ويبست، فحياتها خضرتها ونضرتها، والمزن: السحاب، والأجاج: المالح. عدد الله على عباده نعمته فى خلقه لهم الماء عذبًا يتلذذون بشربه، وتنموا به ثمارهم، ولو شاء لجعله مالحاُ فلا يشربون منه، ولا ينتفعون به فى زرعهم وثمارهم) فلولا تشكرون (أى: فهلا تشكرون الله على ما فعل بكم. وأما بئر رومة فإنها كانت ليهودى، وكان يضرب عليها القفل ويغيب، فيأتى المسلمون ليشربوا منها الماء فلا يجدونه حاضرًا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 491 فيرجعون بغير ماء، فشكا المسلمون ذلك، فقال عليه السلام: (من يشترى بئر رومة ويبيحها للمسلمين، ويكون نصيبه فيها كنصيب أحدهم وله الجنة، فاشتراها عثمان) ، وهذا الحديث حجة لمالك ومن وافقه فى قولهم: إنه لا بأس ببيع الآبار والعيون فى الحضر إذا احتفرها لنفسه ولم يحتفرها للصدقة، فلا بأس ببيع مائها، وكره بيع ماء حفر من الآبار فى الصحارى من غير أن يحرمه. وأما قوله: (فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين) يعنى: يجعلها حبسًا لله، ويكون حظه منها كحظ غيره ممن لم يحبسها، ولا يكون له فيها مزية على غيره. فإن قيل: إذا شرط أن يكون دلوه فيها كدلاء المسلمين، ففيه من الفقه أن يجوز للمحبس أن ينتفع بما يحبسه إذا شرط ذلك. قيل: هذا ينقسم قسمين: فأما من حبس بئراُ وجعلها للسقاة فلا بأس أن يشرب منها وإن لم يشترط ذلك، لأنه داخل فى جملة السقاة. ومن حبس عقاراُ فلا يجوز له أن ينتفع بشىء منها إلا أن يشترط أن يكون نصيبه فيه كنصيب أحد المسلمين، فإذا لم يشترط ذلك فلا يجوز له الانتفاع بشىء منه، لأنه أخرجه لله - تعالى - ولا يجوز الرجوع فيه. فإن قيل: فما الفرق بين وقف البئر ووقف العقار؟ قيل: الفرق بينهما أن سائر الغلات تنقطع فى أوقات ما، وإذا أخذ منها المحبس فقد حرم ذلك الشىء أهل الحاجة وانفرد به. وماء الآبار لا ينقطع أبدًا، لأنها نابعة فلا يحرم أحد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 492 من أهل الحاجة ما أخذ منها محبسها وسيأتى ما يجوز انتفاع المحبس به من حبسه فى باب: هل ينتفع الواقف بوقفه فى كتاب الأوقاف - إن شاء الله. - بَاب مَنْ رَأَى صَدَقَةَ الْمَاءِ وَهِبَتَهُ وَوَصِيَّتَهُ جَائِزَةً مَقْسُومًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَقْسُومٍ وَقَالَ عُثْمَانُ: قَالَ النَّبىُّ عليه السَّلام: (مَنْ يَشْتَرِى بِئْرَ رُومَةَ فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلاَءِ الْمُسْلِمِينَ) ، فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ. / 1 - فيه: سَهْل، أُتِىَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ، فَقَالَ: (يَا غُلاَمُ، أَتَأْذَنُ لِى أَنْ أُعْطِيَهُ الأَشْيَاخَ؟) فَقَالَ: مَا كُنْتُ لأُوثِرَ بِفَضْلِى مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ. / 2 - وفيه: أَنَس، حُلِبَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) شَاةٌ دَاجِنٌ، وَهِىَ فِى دَارِ أَنَسِ، فَشِبَت لَبَنُهَا بِمَاءٍ مِنَ الْبِئْرِ الَّتِى فِى دَارِ أَنَسٍ بْن مالك، فَأَعْطَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْقَدَحَ، فَشَرِبَ مِنْهُ، حَتَّى إِذَا نَزَعَ الْقَدَحَ مِنْ فِيهِ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعَلىّ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِىٌّ، فَقَالَ لَه عُمَرُ - وَخَافَ أَنْ يُعْطِيَهُ الأَعْرَابِىَّ -: أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدَكَ، فَأَعْطَاهُ الأَعْرَابِىَّ الَّذِى عَلَى يَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ: (الأَيْمَنَ، فَالأَيْمَنَ) . جميع ما يوهب للجماعة من الأشياء كلها هم فيها متشاركون، وحقوقهم فيها متساوية، لا فضل لأحد منهم على صاحبه، وإنما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 493 جازت هبة الماء واللبن غير مقسومين لقلة التشاح فيهما، ولأن العادة قد جرت من الجماعة إذا أكلت أو شربت معًا أنها تجرى فى ذلك على المكارمة، ولا ينقضى بعضهم على بعض، لأن ذلك إنما يوضع للناس على قدر نهمتهم، فمنهم من يكفيه اليسير، ومنهم من يكفيه أكثر منه، إلا أن من استعمل أدب المؤاكلة والمشاربة أولى، وأن لا يستأثر أحدهم بأكثر من نصيب صاحبه. ألا ترى أن مالكًا قد قال: لا يقرن أحد بين تمرتين إلا أن يستأذن أصحابه فى ذلك، لما كان التمر مما يتشاح فيه أكثر من التشاح فى الماء واللبن. وقال المهلب: إنما استأذن النبى - عليه السلام - الغلام فى حديث سهل، ولم يستأذن الأعرابى فى حديث أنس، لأن الأعرابى الذى كان عن يمين النبى - عليه السلام - كان من السادة والمشيخة وكان طرى الهجرة لا علم له بالشرائع، فأعطاه النبى - عليه السلام - ولم يستأذن أبا بكر استئلافًا منه للأعرابى، وتطييبًا لنفسه، وتشريفاُ له، ولم يجعل للغلام تلك المنزلة، لأنه كان من قرابته، وسنه دون سن الأشياخ الذين كانوا على يساره فاستأذنه فى أن يعطيهم بادئًا عليهم، ولئلا يوحشهم بإعطاء ابن عمه وهو صبى ويقدمه عليهم حتى أعلمهم أن ذلك يجب له بالتيامن فى الجلوس، وقيل: إن الغلام: الفضل بن عباس، وقد تقدم فى كتاب الأشربة زيادة فى هذا المعنى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 494 3 - بَاب مَنْ قَالَ إِنَّ صَاحِبَ الْمَاءِ أَحَقُّ بِالْمَاءِ حَتَّى يَرْوَى لِقَوْلِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ ليمنع به الكلأ / 3 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ، لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلأَ) . وَقَالَ مرة: (فَضْلُ الْكَلأَ) . لا خلاف بين العلماء أن صاحب الماء أحق بالماء حتى يروى، لأن النبى - عليه السلام - إنما نهى عن منع فضل الماء، فأما من لا يفضل له ماء فلا يدخل فى هذا النهى، لأن صاحب الشىء أولى به، وتأويل قوله عليه السلام: (لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ) عند مالك فى الآبار التى يحتفرها الرجل فى الصحارى والفلوات التى ليست لأحد، إنما هى مرعى للماشية، فيريد أن يمنع ماشية غيره أن تسقى من تلك البئر. ففيها قال عليه السلام ذلك، يقول: إذا منع حافرها فضل مائها لغير ماشيته فقد منع حافرها فضل مائها فقد منع الكلأ الذى حول البئر وانفرد به دون غيره، لأن أحدًا لا يرعى فيه إذا لم يكن للماشية ما تشربه، فأما البئر التى يحتفرها الرجل فى أرضه فيجوز له عند مالك أن يمنع ماءها. وكره مالك منع ما عمل من ذلك فى الصحارى من غير أن يحرمه، قال: ويكون أحق بمائها حتى يروى، ويكون للناس ما فضل إلا من مر بهم شفاههم ودوابهم فإنهم لا يمنعون كما يمنع من سواهم. وقال الكوفيون: له أن يمنع من دخول أرضه وأخذ مائه إلا أن يكون لشفاههم وحيوانهم ماء فيسقيهم وليس عليه سقى زرعهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 495 وقال عيسى بن دينار فى تفسير قوله عليه السلام: (لا يمنع فضل بئر) يقول: من كان له جار انقطع ماؤه وله عليه زرع أو أصل فلم يجد ما يسقى به زرعه أو حائطه، وله بئر فيها فضل عن سقى زرعه أو حائطه، فلا يمنع جاره أن يسقى بفضل مائه، قلنا: فنحكم عليه بذلك؟ قال: لا، ولكن يؤمر بذلك عليه، فإن أبى منه لم يقض عليه. قال أصبغ: وقال ابن القاسم: يقضى ذلك لجاره بالثمن. وفى المدونة قلت لابن القاسم: يقضى عليه بثمن أو بغير ثمن؟ قال: قال مالك: يقضى بغير ثمن. قال ابن مزين: قلت لعيسى: فإن باع فضله، أترى جاره الذى انقطع ماؤه أولى به بالثمن؟ قال: نعم. وفى قوله عليه السلام: (لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ) من الفقه المنع من الذرائع، وذلك لأنه نهى أن يمنع الماء، لئلا يتذرع بذلك إلى منع الكلأ، وقال الكوفيون: لا تجوز إجارة المراعى ولا بيعها، ولا يملك الكلأ صاحب الأرض حتى يأخذه فيحوزه. وهو قول الشافعى، وقال مالك: لا بأس أن يبيع مراعى أرضه سنة واحدة، ولا يبيعها سنتين ولا ثلاثًا، ولا يبيعها حتى تطيب ويبلغ الخصب أن يرعى. وقال الثورى: لا بأس أن يحمى الكلأ للبيع، والشجر للحطب أو البيع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 496 4 - بَاب مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِى مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ / 4 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (الْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْعَجْمَاءُ جُبَارٌ، وَفِى الرِّكَازِ الْخُمْسُ) . اختلف العلماء فى هذه المسألة، فقال مالك فيمن حفر بئرًا، أو أوقف دابة فى موضع يجوز له أن يصنع ذلك فيه، فسقط أحد فى البئر، أو ضربت الدابة أحدًا أنه لا ضمان عليه ولا دية، وإنما يضمن من ذلك ما حفره فى طريق المسلمين، أو صنع من ذلك ما لا يجوز له أن يصنعه فيه، فهذا بمنزلة الإمام إذا حد أحدًا فمات المحدود فلا شىء على الإمام؛ لأنه فعل ما يجوز له، وإنما يلزمه الضمان إذا تعدى فى الحد، وبمثله كله قال الشافعى. وقال أبو حنيفة وأصحابه: من حفر بئرًا أو أوقف دابة فى موضع يجوز له ذلك فيه فليس يبرئه من الضمان ما أجاز إحداثه له. واختلفوا فى رجل حفر فى داره بئرًا لسارق يرصده، أو وضع حبالات له فعطب به السارق أو غيره، فقال مالك: هو ضامن. وقال الليث: لا ضمان عليه. وحجته قول الرسول: (البئر جبار) . وحجة مالك أنه لا يجوز له أن يقصد بذلك الفعل أن يهلك به أحدًا؛ لأنه متعد بهذا القصد، وقد يمكنه التحرز بغيره. قال: فإن حفر الحفيرة فى حائطه للسباع فعطب به إنسان فلا ضمان عليه عند مالك؛ لأنه فعل ما يجوز له فعله، ولا غنى به عنه، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 497 ولم يقصد بالحفر تلف إنسان فيكون متعديًا، وسيأتى معنى قوله: (العجماء جبار) فى كتاب الديات - إن شاء الله. 5 - بَاب الْخُصُومَةِ فِى الْبِئْرِ وَالْقَضَاءِ فِيهَا / 5 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بن مسعود، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ هُوَ فَيْهَا فَاجِرٌ، لَقِىَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ) ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً (الآيَةَ، فَجَاءَ الأَشْعَثُ، فَقَالَ: مَا يُحَدَّثَكُمْ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ فِىَّ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ كَانَتْ لِى بِئْرٌ فِى أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِى، فَقَالَ لِى: (شُهُود ذَلِكَ) ، قُلْتُ: مَا لِى شُهُودٌ، قَالَ: (فَيَمِينُهُ) ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذًا يَحْلِفَ فَذَكَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، هَذَا الْحَدِيثَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ تَصْدِيقًا لَهُ. قال المهلب: هذا الوعيد يخشى إنفاذه على كل يمين غموس تقتطع بها مال أحد بغير حق، وفيه الترجمة، وفيه أن البينة على المدعى، واليمين على من أنكر، وفيه جواز تولى الخصوم بعضهم بعضًا بما عرف من أحوالهم؛ لقوله: (إذا يحلف ويذهب بحقى) لأنه كان معلومًا بقلة التقوى، وقد قيل: إنه كان يهوديًا، فإن كان كذلك فليس بين المسلم والذمى قصاص ولا حد، وإن كان غير ذمى فلأنه كان معلومًا بالمجاهرة بالباطل. والدليل على صحة هذا القول نزول الآية مصدقة لقوله النبى - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 498 عليه السلام - وليس بمعلوم بالأحوال الدينية من الحرمة ما لصالح المسلمين. 6 - بَاب إِثْمِ مَنْ مَنَعَ ابْنَ السَّبِيلِ مِنَ الْمَاءِ / 6 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (ثَلاَثَةٌ لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لاَ يُبَايِعُهُ إِلاَ لِدُنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِىَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا سَخِطَ، وَرَجُلٌ أَقَامَ سِلْعَتَهُ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ الَّذِى لاَ إِلَهَ إلا هو لَقَدْ أَعْطَيْتُ بِهَا كَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ رَجُلٌ) ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً (. قال المهلب: وهذا وعيد على المسلمين أيضًا، وكل وعيد يتوجه إلى المسلمين فهو موكول إلى مشيئة الله، وهو فيه بالخيار إن شاء عفا عنه، وإن شاء أنفذه فإن أنفذه على المسلم فلا يكون فيه خلود؛ لأن الخلود فى الذنوب قد رفع عن أهل التوحيد. وقوله: (منع فضل الماء) يدل أن صاحب البئر أولى من ابن السبيل عند الحاجة، فإذا أخذ صاحب البئر حاجته لم يجز له منع ابن السبيل، وقوله: (بايع إمامًا) هو فى معنى قوله عليه السلام: (من كانت هجرته لدنيا يصيبها) الحديث، وأن الله - تعالى - لا يقبل فى الهجرة والمبايعة والأعمال إلا ما أريد به وجهه، وما لا يريد به الجزء: 6 ¦ الصفحة: 499 وجهه فلا يرضى به، وله أن يعاقب عليه، وقوله: (بعد العصر) يدل أنه وقت تعظم فيه المعاصى لارتفاع الملائكة بأعمال الناس إلى الله، فيعظم أن يرتفعوا عن العبد بالمعصية إلى الله ويكون أجر عمله المرفوع، وفيه أن خواتم الأعمال هى المرجوة والمحتسبة. 7 - بَاب سَكْرِ الأَنْهَارِ / 7 - فيه: ابْن الزُّبَيْرِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فِى شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِى يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ الأَنْصَارِىُّ: سَرِّحِ الْمَاءَ يَمُرُّ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِلزُّبَيْرِ: (أسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ) ، فَغَضِبَ الأَنْصَارِىُّ، فَقَالَ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ قَالَ: (اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ) ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ إِنِّى لأحْسِبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِى ذَلِكَ) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ (. وترجم له باب شرب الأعلى قبل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 500 الأسفل، وترجم له شرب الأعلى إلى الكعبين إلى: (حتى يرتفع إلى الجدر واستوعى له حقه. . .) الحديث. قال ابن شهاب: فقدرت الأنصار والناس قول النبى - عليه السلام -: (اسق ثم احبس حتى يرتفع إلى الجدر) ، فكان ذلك إلى الكعبين. اختلف أصحاب مالك فى صفة إرسال الماء الأعلى إلى الأسفل، فقال ابن حبيب: يدخل صاحب الأعلى جميع الماء فى حائطه ويسقى به إذا بلغ الماء من قاعه الحائط إلى الكعبين من القائم فيه: أغلق مدخل الماء وصرف ما زاد من الماء على مقدار الكعبين إلى من يليه، فيصنع به مثل ذلك حتى يبلغ ماء السيل إلى أقصى الحوائط، وهكذا فسر لى مطرف وابن الماجشون، وقاله ابن وهب. وقال ابن القاسم: إذا انتهى الماء فى الحائط إلى مقدار الكعبين أرسله كله إلى من تحته ولم يحبس منه شيئًا فى حائطه. قال ابن حبيب: وقول مطرف وابن الماجشون أحب إلى، وهما أعلم بذلك، لأن المدينة كانت دارهما وبها كانت القضية، وفيها جرى العمل بها. وذكر ابن مزين عن ابن القاسم مثل ما حكاه ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون. قال ابن حبيب: وما كان من الخلج والسواقى التى يجتمع أهل القرى على إنشائها وأجرى الماء فيها لمنافعهم، فقل الماء فيها ونضب عنها فى أوقات نضوبه فالأعلى والأسفل فيها بالسواء، يقسم بينهم على قدر حقوقهم فيها، استوت حاجتهم أو اختلفت، هكذا فسر لى مطرف وابن الماجشون وأصبغ وقاله ابن وهب وابن القاسم وابن نافع. قال المهلب: وفى الحديث من الفقه الإشارة بالصلح والأمر به، وفيه أن للحاكم أن يستوعى لكل واحد من المتخاصمين حقه إذا لم ير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 501 منهما قبولا للصلح ولا رضًا بما أشار به، كما فعل النبى - عليه السلام - وفيه توبيخ من جفا على الإمام والحاكم ومعاقبته، لأن النبى - عليه السلام - عاقبه على قوله: (أن كان ابن عمتك) بأن استوعى للزبير حقه، ووبخه الله فى كتابه بأن نفى عنهم الإيمان حتى يرضوا بحكمه، فقال: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك (الآية. ابن السكيت: سكرت النهر أسكره سكرًا: سددته. قال صاحب العين: والسكر اسم ذلك السداد الذى يجعل سدا للعين ونحوه. قال الفسوى: ومنه قوله تعالى: (سكرت أبصارنا (. ابن دريد: أصله من سكرت الريح: سكن هبوبها. قال أبو عبيد: والشروج والشراج مسائل الماء من الحرار إلى السهولة، واحدها شرج قال غيره: شرج. وقال أبو حنيفة: تسمى الحواجز التى بين الديار التى تمسك الماء الجدور، واحدها جدر. 8 - بَاب فَضْلِ سَقْىِ الْمَاءِ / 8 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عن النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِى فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِى بَلَغَ بِى، فَمَلاَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِىَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ لَنَا فِى الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ قَالَ: (فِى كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ) . / 9 - وفيه: أَسْمَاء، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، صَلَّى صَلاَةَ الْكُسُوفِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 502 فَقَالَ: (أدَنَتْ مِنِّى النَّارُ، حَتَّى قُلْتُ: أَىْ رَبِّ، وَأَنَا مَعَهُمْ؟ فَإِذَا امْرَأَةٌ - حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: تَخْدِشُهَا هِرَّةٌ - قَالَ: مَا شَأْنُ هَذِهِ؟ قَالُوا: حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا) ، قَالَ: فَقَالَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: (لاَ أَنْتِ أَطْعَمْتِتهَا وَلاَ سَقَيِتيِهَا حِينَ حَبَسْتِيهَا، وَلاَ أَنْتِ أَرْسَلْتِيهَا تَأَكْلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ) . سقى الماء من أعظم القربات إلى الله - تعالى وقد قال بعض التابعين: من كثرت ذنوبه فعليه بسقى الماء، وإذا غفرت ذنوب الذى سقى الكلب فما ظنكم بمن سقى رجلا مؤمنًا موحداُ أو أحياه بذلك. وقد استدل بهذا الحديث من أجاز صدقة التطوع على المشركين، لعموم قوله عليه السلام: (فى كل كبد رطبة أجر) وفيه أن المجازاة على الخير والشر قد تكون يوم القيامة من جنس الأعمال، كما قال عليه السلام: (من قتل نفسه بحديدة عذب بها فى نار جهنم) . وقال صاحب الأفعال: لهث الكلب، ولهث بفتح الهاء وكسرها: أدلع لسانه عطشًا، ولهث الإنسان أيضًا اشتد عطشه. 9 - بَاب مَنْ قَالَ: أَنَّ صَاحِبَ الْحَوْضِ وَالْقِرْبَةِ أَحَقُّ بِمَائِهِ / 10 - فيه: سَهْل، أُتِىَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، بِقَدَحٍ فَشَرِبَ منه، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ هُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ، وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ، قَالَ: (يَا غُلاَمُ، أَتَأْذَنُ لِى أَنْ أُعْطِىَ الأَشْيَاخَ؟) فَقَالَ: مَا كُنْتُ لأُوثِرَ بِنَصِيبِى مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ. / 11 - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 503 وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لاَذُودَنَّ رِجَالاً عَنْ حَوْضِى، كَمَا تُذَادُ الْغَرِيبَةُ مِنَ الإِبِلِ عَنِ الْحَوْضِ) . / 12 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ عليه السَّلام: (يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ، أَوْ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ، لَكَانَتْ عَيْنًا مَعِينًا، وَأَقْبَلَ جُرْهُمُ فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ، قَالَتْ: نَعَمْ، وَلاَ حَقٌ لكُمْ فِى الْمَاء قالوا: نَعَمْ. / 13 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ عليه السَّلام: (ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ. . . . . . - الحديث - وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ، فَيَقُولُ اللَّهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِى كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ) . قال المهلب: لا خلاف أن صاحب الحوض أحق بمائه، لقوله عليه السلام: (لأذودن رجالا عن حوضى) . فأما حديث الغلام والأشياخ فصاحب الماء واللبن أحق به أولا، ثم يستحقه المتيامن منه، فكان بين الحوض والقربه أو القدح فرق، لأنه لو كان صاحب القدح أحق به أبدًا لما استأذن النبى الغلام الذى كان عن يمينه فى أن يعطى الأشياخ، فإنما تصح الترجمة فى الابتداء أن صاحب الماء أولى به، ثم الأيمن فالأيمن أولى من صاحب الماء فى أن يعطيه غيره، وإنما هذا فيما يؤكل أو يشرب الموضوع بين يدى الجماعة، وأما فى المياه والآبار والجباب والعيون فصاحبها أولى بها أولا، وأولى بها فى أن يعطى من شاء آخراُ بخلاف حديث الغلام، وكذلك فى مسألة أم إسماعيل هى أحق بمائها أولا وآخرًا. قال أبو عبد الله: وقوله: (لأذودن رجالا عن حوضى) قال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 504 قبيصة فى البخارى: هم المرتدون الذين بدلوا، فإن قيل: كيف يأتون غرا محجلين والمرتد لا غرة له ولا تحجيل؟ فالجواب أن النبى - عليه السلام - قال: (تأتى كل أمة فيها منافقوها) ، وقد قال تعالى ذلك فى كتابه: (يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم (الآية فصح أن المؤمنين يحشرون وفيهم المنافقون الذين كانوا معهم فى الدنيا حتى يضرب بينهم بسور له باب والمنافق لا غرة له ولا تحجيل له، لكن المؤمنون سموا غرا محجلين بالجملة وإن كان المنافقون فى خلالهم. - بَاب لاَ حِمَى إِلاَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) / 14 - فيه: الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ، قَالَ: إِنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (لاَ حِمَى إِلاَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ) ، وَقَالَ أبو عبد اللَّه: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) حَمَى البَّقِيعَ، وَأَنَّ عُمَرَ حَمَى السَّرَفَ وَالرَّبَذَةَ. أصل الحمى فى اللغة: المنع، يعنى: لا مانع لما لا مالك له من الناس من أرض أو كلأ أو شجر إلا لله ولرسوله، وذكر ابن وهب أن البقيع الذى حماه النبى - عليه السلام - قدره ميل فى ثمانية أميال، حماه لخيل المهاجرين، وحمى أبو بكر الربذة لما يحمل عليه فى سبيل الله نحو خمسة أميال فى مثلها، وحمى ذلك عمر لإبل الصدقة، وحمى أيضًا السرف وهو مثل الربذة وزاد عثمان فى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 505 الحمى لما كثرت الإبل والبقر فى أيامه من الصدقات، أصل فعلهم ذلك من سنة النبى عليه السلام. فمعنى قوله: (لا حمى إلا لله ولرسوله) أى: أنه لا حمى لأحد يخص به نفسه ترعى فيه ماشيته دون سائر الناس، وإنما هو لله ولرسوله ولمن ورث ذلك عنه عليه السلام من الخلفاء بعده إذا احتاج إلى ذلك لمصلحة تشمل المسلمين ومنفعة تعمهم، كما فعل أبو بكر وعمر وعثمان لما احتاجوا إلى ذلك. وقد عاتب رجل من العرب عمر بن الخطاب فقال له: بلاد الله حميت لمال الله. وأنكر أيضاُ على عثمان أنه زاد فى الحمى، وليس لأحد أن ينكر ذلك، لأن النبى - عليه السلام - قد تقدم إليه، ولخلفائه الاقتداء به والاهتداء بهدية وإنما يحمى الإمام ما ليس بملك لأحد مثل: بطون الأودية، والجبال، والموات، وإن كان قد ينتفع المسلمون بتلك المواضع فمنافعهم فى حماية الإمام لها أكثر - والله الموفق - وقال الأصمعى: البقيع: القاع، يقال: انزل بذلك البقع، أى: القاع، والجمع البقعان. - بَاب شُرْبِ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ مِنَ الأَنْهَارِ / 15 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (الْخَيْلُ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِى لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ. . . .) ، الحديث، (وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِىَ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ، وَهِىَ لِذَلِكَ أَجْرٌ) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 506 / 16 - وفيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ. . . . . قَالَ: فَضَالَّةُ الإِبِلِ؟ قَالَ: (مَا لَكَ وَلَهَا، مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا) . أجمع العلماء أنه يجوز الشرب من الأنهار دون استئذان أحد، لأن الله - تعالى - خلقها للناس والبهائم، وأنه لا مالك لها غير الله - تعالى - وأجمعوا أنه لا يجوز لأحد بيع الماء فى النهر، لأنه لا يتعين لأحد فيه حق، فإذا أخذه فى وعائه أو آنيته جاز له بيعه. وقال مالك: لا بأس ببيع الماء بالماء متفاضلا وإلى أجل وهو قول أبى حنيفة، وقال محمد: هو مما يكال ويوزن لما روى أنه كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع. وعلى هذا لا يجوز عنده فيه التفاضل والنسيئة، لأن علته فى الربا الكيل والوزن. قال الشافعى: لا يجوز بيعه متفاضلا ولا إلى أجل، لأن علته فى الربا أن يكون مأكولا جنسًا. - بَاب بَيْعِ الْحَطَبِ وَالْكَلاَ / 17 - فيه: الزُّبَيْر، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حْبُلاً، فَيَأْخُذَ حُزْمَةً مِنْ حَطَبٍ فَيَبِيعَ فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهِ وَجْهَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أُعْطِىَ أَوْ مُنِعَ) . / 18 - وفيه: عَلِىّ، أَصَبْتُ شَارِفًا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فِى مَغْنَمٍ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ: وَأَعْطَانِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) شَارِفًا أُخْرَى فَأَنَخْتُهُمَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 507 يَوْمًا عِنْدَ بَابِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَحْمِلَ عَلَيْهِمَا إِذْخِرًا لأَبِيعَهُ، فَأَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى وَلِيمَةِ فَاطِمَةَ. . . . . الحديث. قال المهلب: فى هذا الباب إباحة الاحتطاب فى المباحات والاختلا من نبات الأرض، كل ذلك مباح حتى يقع التحظير من مالك الأرض، فترتفع الإباحة، وذكر ابن المواز عن ابن القاسم، عن مالك قال: من كانت له أرض يملكها ليست بأرض خربة فأراد أن يبيع ما نبت فيها من المرعى بعد طيبه، أنه لا بأس له. وقال أشهب: لا يجوز ذلك، لأنه رزق من رزق الله، ولا يحل لرب الأرض أن يمنع منه أحداُ، لقوله عليه السلام: (لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ) ولو كان النبات فى حائط إنسان لما جاز له أن يمنع منه أحدًا، لقوله عليه السلام: (لا حمى إلا لله ولرسوله) . وقال الكوفييون كقول أشهب. قال المهلب: وفيه من الفقه أن تضمين الجنايات بين ذوى الأرحام العادة فيها أن تهدر من أجل القرابة، كما هدر على قيمة الناقتين والجناية فيهما مع وكيد الحاجة إليهما أو إلى ما كان يستقبله من الإنفاق فى وليمة عرسه، وفيه أن للإمام أن يمضى إلى أهل بيت بلغه أنهم على منكر فيغيره، وفيه علة تحريم الخمر، ومعنى قوله تعالى: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر (من أجل ما جفا به حمزة على النبى من هجر القول. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 508 والشرف جمع شارف، وهى الحسنة من النوق والنواء جمع ناوية، والناوية السمينة، وقد نويت نيا ونواية. ابن السكيت: نواية. أبو حنيفة: أنوينا إبلنا: أسمناها. الخطابى: النى: السمن والنى بالكسر: اللحم الطرى، وجب: قطع ومنه قيل للخصى: مجبوب، أى: مقطوع. وبقر البطن والشىء بقرًا: شقه. - بَاب الْقَطَائِعِ / 19 - فيه: أَنَس، أَرَادَ النَّبِىُّ، عليه السَّلم، أَنْ يُقْطِعَ الأَنْصَار مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: حَتَّى تُقْطِعَ لإِخْوَانِنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِثْلَ الَّذِى يُقْطِعُ لَنَا، قَالَ: (سَتَرَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِى) . وترجم له (باب كتابة القطائع) . قَالَ أَنَس: دَعَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، الأَنْصَارَ لِيُقْطِعَ لَهُمْ بِالْبَحْرَيْنِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ فَعَلْتَ فَاكْتُبْ لإِخْوَانِنَا مِنْ قُرَيْشٍ بِمِثْلِهَا، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِى) . قال إسماعيل بن إسحاق: مال البحرين كان من الجزية، لأن المجوس كانوا فيها كثيرًا فى ذلك الوقت بسبب سلطان كسرى كان بها، وكان فيها أيضًا من أهل الذمة سوى المجوس، وكان عامله عليها أبان بن سعيد بن العاص. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 509 قال المؤلف: فهذا يدل أن الذى أراد أن يقطع النبى - عليه السلام - للأنصار من البحرين لم تكن نفس الأرض، لأنها كانت أرض صلح يؤدى أهلها الجزية عليها، وإنما أراد أن يقطع لهم مالا يأخذونه من جزية البحرين، لأن الجزية تجرى مجرى الخراج والخمس، فيجوز أخذها للأغنياء، وليست تجرى مجرى الصدقة. وقوله: (فلم يكن ذلك عند النبى) يعنى: فلم يرد ذلك النبى - عليه السلام - لأنه كان قد أقطع المهاجرين أرض بنى النضير حين أجلوها وليستغنوا عن رفد الأنصار ومشاركتهم، وردوا إليهم منائحهم. قال المهلب: وقوله عليه السلام للأنصار: (إنكم سترون بعدى أثرة فاصبروا حتى تلقونى) يدل أن الخلافة لا تكون فى الأنصار، ألا ترى أنه جعلهم تحت الصبر إلى يوم يلقونه، والصبر لا يكون إلا من مغلوب محكوم عليه. - بَاب حَلَبِ الإِبِلِ عَلَى الْمَاءِ / 20 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (مِنْ حَقِّ الإِبِلِ أَنْ تُحْلَبَ عَلَى الْمَاءِ) . قال المهلب: قوله عليه السلام: (من حق الإبل أن تحلب على الماء) يعنى الحق المعهود المتعارف بين العرب من التصدق باللبن على المياه إذ كانت طوائف الضعفاء والمساكين ترتصد يوم ورود الإبل على المياه لتنال من رسلها وتشرب من لبنها، وهذا حق حلبها على الماء، لا أنه فرض لازم عليهم، وقد تأول بعض السلف فى قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده (قال: هو أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 510 يعطى المساكين عند الجداد والحصاد ما تيسر من غير الزكاة، وهذا مذهب ابن عمر، وبه قال عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير، وجمهور الفقهاء على أن المراد بقوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده (الزكاة المفروضة، وهو تأويل ابن عباس وغيره، وقد تقدم بيان هذا فى كتاب الزكاة فى باب إثم مانع الزكاة. - بَاب الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ مَمَرٌّ أَوْ شِرْبٌ فِى حَائِطٍ أَوْ فِى نَخْلٍ وقَالَ النَّبىُّ عليه السَّلام: (مَنْ بَاعَ نَخْلاً بَعْدَ أَنْ يُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ، فَلِلْبَائِعِ الْمَمَرُّ وَالسَّقْىُ، حَتَّى يَرْفَعَ، وَكَذَلِكَ رَبُّ الْعَرِيَّةِ) . / 21 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَنِ ابْتَاعَ نَخْلاً بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ، إِلاَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ) . / 22 - وفيه: زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، رَخَّصَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَنْ تُبَاعَ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا تَمْرًا. إنما أراد البخارى أن يستدل من حديث ابن عمر وحديث زيد بن ثابت على تصحيح ما ترجم، وذلك أن النبى - عليه السلام - لما جعل لبائع أصول النخل المثمرة بعد أن تؤبر؛ كان له أن يدخل فى الحائط لسقيها وتعهدها حتى يجدها، ولم يجز لمشترى أصول النخل أن يمنعه الطريق والممر إليها. وكذلك يجوز لصاحب العرية أن يدخل فى حائط المعرى لتعهد عريته وإصلاحها وسقيها، ولا خلاف فى هذا بين الفقهاء، وأما من له طريق مملوكة فى أرض غيره، فقال مالك: ليس للذى له الطريق أن يدخل فيها بماشيته وغنمه؛ لأنه يفسد زرع صاحبه وقال الكوفيون والشافعى: ليس لصاحب الأرض أن يزرع فى موضع الطريق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 511 بسم الله الرحمن الرحيم 37 - كِتَاب الاسْتِقْرَاضِ وَأَدَاءِ الدُّيُونِ، وَالْحَجْرِ، وَالتَّفْلِيسِ - بَاب مَنِ اشْتَرَى بِالدَّيْنِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ ثَمَنُهُ أَوْ لَيْسَ بِحَضْرَتِهِ / 1 - فيه: جَابِر، غَزَوْتُ مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (كَيْفَ تَرَى بَعِيرَكَ أَتَبِيعَهِ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَبِعْتُهُ إِيَّاهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ غَدَوْتُ إِلَيْهِ بِالْبَعِيرِ، فَأَعْطَانِى ثَمَنَهُ. / 2 - وفيه: الأَعْمَشُ، تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِى السَّلَمِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِى الأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِىٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن استقراض الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب، وكل ما له مثل من سائر الأطعمة جائز، والشراء بالدين مباح؛ لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه (ألا ترى أن النبى اشترى الجمل من جابر فى سفره ولم يقضه ثمنه إلا بالمدينة، وكذلك اشترى الشعير من اليهودى إلى أجل، فكان ذلك كله سننًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 512 - بَاب مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَوْ إِتْلاَفَهَا / 3 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ) . هذا الحديث شريف ومعناه: الحض على ترك استئكال أموال الناس والتنزه عنها، وحسن التأدية إليهم عند المداينة، وقد حرم الله فى كتابه أكل أموال الناس بالباطل، وخطب النبى - عليه السلام - بذلك فى حجة الوداع، فقال: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام) يعنى: من بعضكم على بعض، وفى حديث أبى هريرة أن الثواب قد يكون من جنس الحسنة، وأن العقوبة قد تكون من جنس الذنوب، لأنه جعل مكان أداء الإنسان أداء الله عنه، ومكان إتلافه إتلاف الله له. 3 - بَاب أَدَاءِ الدَّيْنِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا (الآية . / 4 - فيه: أَبُو ذَرّ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَلَمَّا أَبْصَرَ، يَعْنِى أُحُدًا، قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّهُ تَحَوَّلَ لِى ذَهَبًا يَمْكُثُ عِنْدِى مِنْهُ دِينَارٌ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَ دِينَارًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 513 أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ. . . . . الحديث. قال المهلب: هذه الآية أصل فى أداء الأمانات وحفظها، ألا ترى أن النبى لم يحب أن يبقى عنده من مثل أحد ذهبًا فوق ثلاث إلا دينار أرصده لدين، فدل هذا الحديث على ما دلت الآية عليه من تأكيد أمر الدين والحض على أدائه. قال المؤلف: وفى هذا الحديث دليل على الاستدانة بيسير الدين اقتداءً بالنبى - عليه السلام - فى إرصاده دينارًا لدينه، ول كان عليه مائة دينار أو أكثر لم يرصد لأدائها دينارًا؛ لأنه عليه السلام كان أحسن الناس قضاءً، وبان بهذا الحديث أنه ينبغى للمؤمن ألا يستغرق فى كثرة الدين؛ خشية الاهتمام به، والعجز عن أدائه، وقد استعاذ الرسول بالله من ضلع الدين، واستعاذ من المأثم والمغرم، وقال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف) . فقد جاء فى خيانة الأمانة من الوعيد ما رواه إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا محمد ابن المثنى قال: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله بن مسعود قال: إن القتل فى سبيل الله يكفر كل ذنب إلا الدين والأمانة، قال: وأعظم ذلك الأمانة تكون عند الرجل فيخونها فيقال له يوم القيامة: أد أمانتك، فيقول: من أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال له: نحن نريكها، قال: فتمثل له فى قعر جهنم، فيقال له: انزل فأخرجها، قال: فينزل فيحملها على عنقه حتى إذا كاد زلت، فهوت وهوى فى أثرها أبد الأبد. قال: والأمانة فى كل شىء حتى فى الصلاة والصيام والوضوء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 514 والغسل من الجنابة، والأمانة فى الكيل والوزن. وقال الربيع بن أنس: الأمانة ما أمروا به، وما نهوا عنه. 4 - بَاب اسْتِقْرَاضِ الإِبِلِ / 5 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلاً تَقَاضَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَأَغْلَظَ لَهُ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً وَاشْتَرُوا لَهُ بَعِيرًا، فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ، قَالُوا: لاَ نَجِدُ إِلاَ أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ، قَالَ: (اشْتَرُوهُ، فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ فَإِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً) . وترجم له (باب هل يعطى أكبر من سنه، وباب حسن القضاء) . اختلف العلماء فى استقراض الحيوان فأجاز ذلك مالك والشافعى وأحمد وإسحاق، واحتجوا بهذا الحديث، ولا يحل عند مالك وأهل المدينة استقراض الإماء؛ لأن ذلك ذريعة إلى استحلال الفرج. ومنع ذلك الكوفيون وقالوا: لا يجوز استقراض الحيوان؛ لأن وجود مثله متعذر غير موقوف عليه، وقالوا: يحتمل أن يكون حديث أبى هريرة قبل تحريم الربا، ثم حرم الربا بعد ذلك، وحرم كل قرض جر منفعة، وردت الأشياء المستقرضة إلى أمثالها، فلم يجز القرض إلا فيما له مثل. وحجة من أجاز ذلك قالوا: محال أن يستقرض النبى شيئًا لا يقدر على أداء مثله، ولا يضبط ذلك بصفة، ولو لم يكن له الجزء: 6 ¦ الصفحة: 515 إلى رد مثله سبيل لم يستقرضها؛ إذ كان عليه السلام أبعد الخلق من ظلم أحد. واحتج مالك لتفريقه بين الإماء وجميع الحيوان فقال: قد أحاط الله ورسوله والمسلمون الفروج، فجعل المرأة لا تنكح إلا بولى وشهود، ونهى النبى أن يخلو بها رجل فى حضر أو سفر، ولم يحرم ذلك فى شىء مما أحل غيرها، فجعل الأموال مرهونة ومبيعة بغير بينة، ولم يجعل المرأة هكذا حتى حاطها فيما حللها بالولى والشهود ففرقنا بين حكم الفروج وغيرها بما فرق الله ورسوله والمسلمون بينها. وقال أهل المقالة الأولى: وأيضًا فإنه يجوز أن يرد أفضل مما استلف إذا لم يشرط ذلك عليه؛ لأن الزيادة فى ذلك من باب المعروف، استدلالا بحديث أبى هريرة، وهو قول ابن عمر وابن المسيب والنخعى والشعبى وعطاء، وبه قال الثورى والشافعى وأحمد وإسحاق وجماعة. واختلف أصحاب مالك فى ذلك، فقال ابن حبيب: لا بأس أن يرد أفضل مما اسقرض فى العدد والجود؛ لأن الآثار جاءت بأن النبى - عليه السلام - رد أكثر عددًا فى طعام. وأجاز أشهب أن يزيده فى العدد إذا طابت نفسه بذلك. وقال ابن نافع: لا بأس أن يعطى أكثر عددًا إذا لم يكن ذلك عادة. وقال مالك: لا يجوز أن يكون بزيادة فى العدد، وإنما يصلح أن تكون فى الجودة. وقال ابن القاسم: لا يعجبنى أن يعطيه أكثر فى العدد ولا فى الذهب والورق إلا اليسير مثل الرجحان فى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 516 الوزن والكيل، ولو زاد بعد ذلك لم يكن به بأس. وهو قول مالك، وإنما لم يجز أن يشترط أن يأخذ أفضل؛ لأنه يخرج من باب المعروف ويصير ربا، ولا خلاف بين العلماء أن اشتراط الزيادة فى ذلك ربا لا يحل. 5 - بَاب حُسْنِ التَّقَاضِي / 6 - فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (مَاتَ رَجُلٌ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ فَأُخَفِّفُ عَنِ الْمُوسِرِ، وَأَتَجَوَّزُ عَنِ الْمُعْسِرِ، فَغُفِرَ لَهُ) ، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِىِّ عليه السَّلام. قال المؤلف: فى هذا الحديث ترغيب عظيم فى حسن التقاضى، وان ذلك مما يدخل الله به الجنة، وهذا المعنى نظير قوله: (خيركم أحسنكم قضاء) ، فجاء الترغيب فى كلا الوجهين فى حسن التقاضى لرب الدين وفى حسن القضاء للذى عليه الدين، كل قد رغب فى الأخذ بأرفع الأحوال، وترك المشاحة فى القضاء والاقتضاء، واستعمال مكارم الأخلاق فى البيع والشراء والأخذ والإعطاء، وقد جاء هذا كله فى حديث جابر أن النبى - عليه السلام - قال: (رحم الله رجلا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى) . ذكره فى أول كتاب البيوع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 517 6 - بَاب إِذَا قَضَى دُونَ حَقِّهِ أَوْ حَلَّلَهُ فَهُوَ جَائِزٌ / 7 - فيه: جَابِر، أَنَّ أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَاشْتَدَّ الْغُرَمَاءُ فِى حُقُوقِهِمْ، فَأَتَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فَسَأَلَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا تَمْرَ حَائِطِى، وَيُحَلِّلُوا أَبِى، فَأَبَوْا، فَلَمْ يُعْطِهِمُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، حَائِطِى، وَقَالَ: (سَنَغْدُو عَلَيْكَ) ، فَغَدَا عَلَيْنَا حِينَ أَصْبَحَ، فَطَافَ فِى النَّخْلِ وَدَعَا فِى ثَمَرِهَا بِالْبَرَكَةِ، فَجَدَدْتُهَا فَقَضَيْتُهُمْ، وَبَقِىَ لَنَا مِنْ تَمْرِهَا. وترجم له باب من أخر الغريم إلى الغد أو نحوه ولم ير ذلك مطلا هكذا وقعت هذه الترجمة فى النسخ كلها باب إذا قضى دون حقه أو حلله فهو جائز، والصواب إذا قضى دون حقه وحلله بغير ألف، لأنه لا يجوز أن يقضى رب الدين دون حقه ويسقط مطالبته بباقيه إلا أن حلل منه. ولا خلاف بين العلماء أنه لو حلله من جميع الدين أو أبرأ ذمته أنه جائز، فكذلك إذا حلله من بعضه، وأما تأخير الغريم الواحد إلى الغد فهو مرتبط بالعذر، وأما من قدر على الأداء فلا يمطل به؛ لقوله عليه السلام: (مطل الغنى ظلم) ، وإنما أخر جابر غرماءه رجاء بركة النبى - عليه السلام - لأنه كان وعده أن يمشى معه على التمر ويبارك فيها، فحقق الله رجاءه، وظهرت بركة النبى، وثبتت أعلام نبوته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 518 وفيه من الفقه: مشى الإمام فى حوائج الناس، واستشفاعه فى الديون، وقد ترجم لذلك. 7 - بَاب إِذَا قَاصَّ أَوْ جَازَفَهُ فِى الدَّيْنِ تَمْرًا بِتَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِ / 8 - فيه: جَابِر، أَنَّ أَبَاهُ تُوُفِّىَ، وَتَرَكَ عَلَيْهِ ثَلاَثِينَ وَسْقًا لِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَاسْتَنْظَرَهُ جَابِرٌ، فَأَبَى أَنْ يُنْظِرَهُ، فَكَلَّمَ جَابِرٌ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِيَشْفَعَ لَهُ إِلَيْهِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَكَلَّمَ الْيَهُودِىَّ لِيَأْخُذَ ثَمَرَ نَخْلِهِ بِالَّذِى لَهُ، فَأَبَى، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) النَّخْلَ فَمَشَى فِيهَا، ثُمَّ قَالَ لِجَابِرٍ: (جُدَّ لَهُ، فَأَوْفِ لَهُ الَّذِى لَهُ) ، فَجَدَّهُ بَعْدَمَا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَوْفَاهُ ثَلاَثِينَ وَسْقًا، وَفَضَلَتْ لَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَجَاءَ جَابِرٌ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِيُخْبِرَهُ بِالَّذِى كَانَ، فَوَجَدَهُ يُصَلِّى الْعَصْرَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُ بِالْفَضْلِ، فَقَالَ: (أَخْبِرْ ذَلِكَ ابْنَ الْخَطَّابِ) ، فَذَهَبَ جَابِرٌ إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ عَلِمْتُ حِينَ مَشَى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَيُبَارَكَنَّ فِيهَا. قال المؤلف: لا يجوز عند العلماء أن يأخذ من له دين من تمر على أحد تمرًا مجازفة فى دينه؛ لأن ذلك من الغرر والمجهول، وذلك حرام فيما أمر فيه بالمماثلة، وإنما يجوز أن يأخذ مجازفة فى حقه أقل من دينه إذا علم ذلك وتجاوز له، وهذا المعنى بين فى حديث جابر، لأن النبى - عليه السلام - حين كلم اليهودى أن يأخذ تمر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 519 النخل بالذى على أبى جابر وأبى اليهودى من ذلك، ثبت أن تمر النخل لا يفى بالدين، وأنه أقل مما كان يلزمه غرمه، وقد جاء هذا منصوصًا فى هذا الحديث. ذكره فى كتاب الصلح فى باب الصلح بين الغرماء وأصحاب الميراث، وفيه قال: (فعرضت على غرمائه أن يأخذوا التمر بما عليه فأبوا، ولم يروا أن فيه وفاء) وقد يجوز فى باب حسن القضاء أن يزيده من صفته، وإنما تحرم الزيادة بالشرط، وقال فى باب الشفاعة وفى وضع الدين، فأرجف الجمل يقال: أرجف البعير إذا أعيا فخر برسنه، ورجف أيضًا. 8 - بَاب مَنِ اسْتَعَاذَ مِنَ الدَّيْنِ / 9 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام، كَانَ يَدْعُو فِى الصَّلاَةِ، وَيَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ) ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِنَ الْمَغْرَمِ، قَالَ: (إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ) . قال المهلب: فيه وجوب قطع الذارئع؛ لأنه عليه السلام إنما استعاذ من الدين؛ لأنه ذريعة إلى الكذب، والخلف فى الوعد مع ما يقع المديان تحته من الذلة، وما لصاحب الدين عليه من المقال - والله أعلم - فإن قيل: فقد عارض هذا الحديث ما رواه جعفر ابن محمد عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (إن الله مع الدائن حتى يقضى دينه ما لم يكن فيما يكره الله - تعالى) ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 520 وكان عبد الله بن جعفر يقوله لحارثة: اذهب فخذ لى بدين، فإنى أكره أن أبيت الليلة إلا والله معى. قال الطبرى: كلا الخبرين صحيح، وليس فى أحدهما دفع معنى الآخر، فأما قوله عليه السلام: (إن الله مع الدائن حتى يقضى دينه ما لم يكن فيما يكره الله) ، فهو المستدين فيما لا يكرهه الله، وهو يريد قضاءه، وعنده فى الأغلب ما يؤديه منه فالله - تعالى - فى عونه على قضائه. وأما المغرم الذى استعاذ منه عليه السلام فإنه الدين الذى استدين على أوجه ثلاثة: إما فيما يكرهه الله ثم لا يجد سبيلاً إلى قضائه، أو مستدين فيما لا يكرهه الله ولكن لا وجه لقضائه عنده، فهو متعرض لهلاك مال أخيه ومتلف له، أو مستدين له إلى القضاء سبيل غير أنه نوى ترك القضاء وعزم على جحده، فهو عاص لربه ظالم لنفسه، فكل هؤلاء لوعدهم إن وعدوا من استدانوا منه القضاء يخلفون، وفى حديثهم كاذبون لوعدهم. وقد صحت الأخبار عنه عليه السلام أنه استدان فى بعض الأحوال، فكان معلومًا بذلك أن الحال التى كره ذلك - عليه السلام - فيها غير الحال التى ترخص لنفسه فيها. وقد استدان السلف: استدان عمر بن الخطاب وهو خليفة، وقال لما طعن: انظروا كم على من الدين، فحسبوه فوجوده ثمانين ألفًا أو أكثر، وكان على الزبير دين عظيم ذكره البخارى. فمما ثبت عن النبى - عليه السلام - وعن السلف من استدانتهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 521 الدين مع تكريههم له إلى غيرهم الدليل الواضح على اختلاف الأمر فى ذلك كان على قدر اختلاف حال المدينين. 9 - بَاب الصَّلاَةِ عَلَى مَنْ تَرَكَ دَيْنًا / 10 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ وَمَنْ تَرَكَ كَلاً فَإِلَيْنَا. . . .) الحديث. هذا الحديث ناسخ لترك النبى الصلاة على مات وعليه دين، وقد تقدم هذا المعنى مستوعبًا فى كتاب الكفالة فى باب من تكفل عن ميت دينًا، فكرهنا إعادته. - بَاب مَطْلُ الْغَنِىِّ ظُلْمٌ / 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَطْلُ الْغَنِىِّ ظُلْمٌ) . - بَاب لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالٌ وَيُذْكَرُ عَنِ النَّبِىِّ عليه السَّلام أَنَّهُ قَالَ: (لَىُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ، وَعُقُوبَتَهُ) ، قَالَ سُفْيَانُ: عِرْضُهُ، أَنْ يَقُولُ: مَطَلْنِى، وَعُقُوبَتُهُ: الْحَبْسُ. / 12 - وذكر حديث أَبِى هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً) . إذا مطله وهو غنى فقد ظلمه، والظلم محرم قليله وكثيره. وقال أصبغ وسحنون: إذا مطل بدين لم تجز شهادته؛ لأن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 522 الرسول سماه ظالمًا. وعند غيرهما من العلماء لا تسقط شهادته إلا أن يكون ذلك الأغلب من فعله. وفسر الفقهاء قوله عليه السلام: (لى الواجد يحل عرضه وعقوبته) كما فسره سفيان، وهو كقوله عليه السلام: (لصاحب الحق مقال) ، أى له أن يصفه بالمطل، وقالوا: قد جاء فى القرآن مصداق هذا، قال تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم (وهذه الآية نزلت فيمن منع الضيافة، فأبيح له أن يقول فى المانع أنه لئيم، وأنه لم يقره، وشبه هذا. وأما عقوبته بالحبس فإن ذلك إذا رُجى له مال أو وفاء بما عليه، فإذا ثبت عسرته وجبت نظرته ولم يلزمه حبس؛ لزوال العلة الموجبة لحبسه، وهى الوجدان. واختلفوا فى الرجل إذا ثبتت عسرته وأطلقه القاضى من السجن، هل يلازمه غريمه؟ فقال مالك والشافعى: ليس لغرمائه لزومه ولا يعترض له حتى يثوب له مال آخر. وقال أبو حنيفة: لا يمنع الحاكم غرماءه من لزومه. قال الطحاوى: وقوله عليه السلام: (مطل الغنى ظلم) يدل أن مطل غير الغنى ليس بظلم، فلا مطالبة عليه إذًا، وإذا سقطت المطالبة زالت الملازمة. وقوله: (فنظرة إلى ميسرة (يوجب تأخيره، فصار كالدين المؤجل فيمنع من لزومه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 523 - بَاب إِذَا وَجَدَ مَالَهُ عِنْدَ مُفْلِسٍ فِى الْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَالْوَدِيعَةِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا أَفْلَسَ وَتَبَيَّنَ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ، وَلاَ بَيْعُهُ وَلاَ شِرَاؤُهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: قَضَى عُثْمَانُ مَنِ اقْتَضَى مِنْ حَقِّهِ قَبْلَ أَنْ يُفْلِسَ، فَهُوَ لَهُ، وَمَنْ عَرَفَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ. / 13 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قال النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ، أَوْ إِنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فروى عن عثمان بن عفان وعلى وابن مسعود وأبى هريرة: أن المشترى إذا أفلس ووجد البائع متاعه بعينه فهو أحق به من سائر الغرماء. وهو قول عروة بن الزبير، وإليه ذهب مالك، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بهذا الحديث. وروى عن النخعى والحسن البصرى أن البائع أسوة الغرماء، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، ودفعوا حديث التفليس بالقياس وقالوا: السلعة مال المشترى، وثمنها فى ذمته، ومن باع شيئًا فله إمساكه وحبسه حتى يستوفى الثمن، كما أن المرتهن له حق الحبس وإمساك الرهن ليستوفى حقه من ثمنه. ثم قد ثبت أن المرتهن لو أبطل حق الحبس، وأزال يده عن الرهن وسلمه إلى الراهن، لم يكن له بعد ذلك الرجوع فيه، فكذلك البائع إذا أزال يده عن المبيع وسلمه إلى المشترى فقد تعلق حقه بالذمة المجردة. والسنة مستغنى بها عن قول كل أحد، ولا مدخل للقياس والنظر إلا إذا عدمت السنة، وأما مع وجودها فهى حجة على من خالفها، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 524 وأيضًا فإن البائع إذا نقل حقه من العين إلى الذمة وتعذر قبضه من الذمة بالفلس، وجب أن يكون له الرجوع إلى العين مع بقائها. فإن قال الكوفيون: نتأول قوله عليه السلام: (فهو أحق به) على المودع والمقرض دون البائع، قيل: هذا فاسد، لأنه عليه السلام جعل لصاحب المتاع الرجوع إذا وجده بعينه، والمودع أحق بعين ماله سواء كان على صفته أو قد تغير عنها، فلم يجز حمل الخبر عليه، ووجب حمله على البائع، لأنه إنما يرجع بعين ماله إذا وجده على صفته لم يتغير، فإذا تغير فإنه لا يرجع. وذهب مالك إلى أن صاحب المتاع أحق به إذا وجده فى الفلس وهو فى الموت أسوه الغرماء، وبه قال أحمد بن حنبل، وقال الشافعى: هو فى الفلس والموت سواء، واحتج بما رواه ابن أبى ذئب عن أبى المعتمر عمرو بن نافع، عن عمرو بن خلدة الزرقى، عن أبى هريرة، عن النبى - عليه السلام - قال: (من مات أو أفلس فوجد رجل متاعة فهو أحق به) وأبو المعتمر ضعفه ابن معين، وقال أبو داود: لا يعرف. وحجة مالك فى تفرقته بين الفلس والموت أن المفلس ذمته باقية، وللغرماء ذمة يرجعون إليها، وفى الموت تبطل الذمة أصلا، فلا يكون للغرماء شىء يرجعون إليه، ولا يجوز أن ينظر لبعضهم دون بعض، وقد فرقت السنة فى الفلس بين الموت والحياة، روى مالك عن ابن شهاب، عن أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 525 رسول الله قال: (أيما رجل باع متاعًا فأفلس الذى ابتاعه منه، ولم يقبض الذى باعه من ثمنه شيئًا فوجده بعينه فهو أحق به، وإن مات الذى ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء) . - بَاب مَنْ بَاعَ مَالَ الْمُفْلِسِ أَوِ الْمُعْدِمِ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ أَوْ أَعْطَاهُ حَتَّى يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ / 14 - فيه: جَابِر، أَعْتَقَ رَجُلٌ غُلاَمًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَقَالَ النَّبىُّ عليه السَّلام: (مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّى؟) فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ، فَأَخَذَ ثَمَنَهُ فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ. لا يفهم من الحديث معنى قوله فى الترجمة: فقسمه بين الغرماء؛ لأن الذى باع عليه رسول الله مدبره لم يكن له مال غيره، ذكره فى كتاب الأحكام ولم يذكر فى الحديث أنه كان عليه دين، وإنما باعه عليه؛ لأن من سنته عليه السلام أن لا يتصدق المرء بماله كان ويبقى فقيرًا فيتعرض لفتنة الفقر، ولذلك قال عليه السلام: (خير الصدقة ما كان ظهر غنى، وابدأ بمن تعول) وعوله لنفسه أوكد عليه من الصدقة، وأما قسمة مال المفلس بين الغرماء فهو أصل مجمع عليه إذا قام عليه غرماؤه وحال الحاكم بينه وبين ماله ووقفه لهم، ولا يخرج هذا المعنى من حديث جابر أصلا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 526 - بَاب إِذَا أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَوْ أَجَّلَهُ فِى الْبَيْعِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فِى الْقَرْضِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى: لاَ بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ أُعْطِىَ أَفْضَلَ مِنْ دَرَاهِمِهِ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: هُوَ إِلَى أَجَلِهِ فِى الْقَرْضِ. / 15 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ، سَأَلَ بَعْضَ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ ألف دينار، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. اختلف العلماء فى تأخير الدين فى القرض إلى أجل، هل له أن يأخذه قبل الأجل؟ فقال مالك وأصحابه: من أقرض رجلا دنانير أو دراهم أو شيئًا مما يكال أو يوزن أو غير ذلك حالا، ثم طاع له فأخره به إلى أجل، ثم أراد الانصراف عن ذلك، وأخذه قبل الأجل لم يكن ذلك له؛ لأن هذا مما يتقرب به إلى الله، وهو من باب الحسبة. وقال أبو حنيفة: سواء كان القرض إلى أجل أو غير أجل له أن يأخذه متى أحب، وكذلك العارية، ولا يجوز عندهم تأخير القرض البتة، ويجوز تأخير الغصوب وقيم المتلفات. وقال الشافعى: إذا أخره بدينه حال فله أن يرجع فيه متى شاء، وسواء كان ذلك من قرض أو غيره، وكذلك العارية وغيرها؛ لأن ذلك عندهم من باب العدة والهبة غير المقبوضة وهبة ما لم يخلق، وهذا كله لازم عند مالك فى تأجيل القرض، وفى عارية المنفعة للسكنى وغيرها، ويحمل ذلك على العرف فيما يستعار الشىء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 527 لمثله من العمل والسكنى، وكل ذلك عنده من أعمال البر التى أوجبها على نفسه فيلزمه الوفاء بها، وحديث أبى هريرة يشهد لقول مالك؛ لأن القرض فيه إلى أجل مسمى ولا يجوز تعديه والاقتضاء قبله، ولو جاز ذلك لكان ضرب الأجل وتركه سواء، ولم يكن لضرب الأجل معنى وبطل معنى قوله: (ولتعلموا عدد السنين والحساب (وإنما فائدتها معرفة الآجال، وأما إذا أجله فى البيع فلا خلاف بين العلماء فى جواز الآجال فيه؛ لأنه من باب المعارضات، ولا يأخذ قبل محله. - بَاب مَا يُنْهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ وَقَوْلِ تَعَالَى: (وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ (وَ) لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ( وَقَالَ: (أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ (وَقَالَ: (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ (وَالْحَجْرِ فِى ذَلِكَ وَمَا يُنْهَى عَنَهُ مِنَ الْخِدَاعِ. / 16 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ رَجُلٌ للرسول (صلى الله عليه وسلم) : إِنِّى أُخْدَعُ فِى الْبُيُوعِ، فَقَالَ: (إِذَا بَايَعْتَ، فَقُلْ لاَ خِلاَبَةَ) ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَقُولُهُ. / 17 - وفيه: الْمُغِيرَة، قَالَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ) . اختلف العلماء فى إضاعة المال؛ فقال سعيد بن جبير: إضاعة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 528 المال أن يرزقك الله رزقا فتنفقه فيما حرم الله عليك. وكذلك. قال مالك، قال المهلب: وقيل: إضاعة المال: السرف فى إنفاقه وإن كان فيما يحل، ألا ترى أن النبى رد تدبير المعدم؛ لأنه أسرف على ماله فيما يحل له ويؤجر فيه، لكنه أضاع نفسه، وأجره فى نفسه أوكد عليه من أجره فى غيره. واختلف العلماء فى وجوب الحجة على البالغ المضيع لماله، فقال جمهور العلماء: يجب الحجر على كل مضيع لماله صغيرًا كان أو كبيرًا. روى هذا عن على وابن عباس وابن الزبير وعائشة، وهو قول مالك والأوزاعى وأبى يوسف ومحمد والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور. وقالت طائفة: لا حجر على الحر البالغ. هذا قول النخعى وابن سيرين، وبه قال أبو حنيفة وزفر، قال أبو حنيفة: فإن حجر عليه القاضى ثم أقر بدين أو تصرف فى ماله جاز ذلك كله. واحتج بحديث الذى كان يخدع فى البيوع فقال له عليه السلام: (إذا بايعت فقل: لا خلابة) . قال: ففى هذا الحديث وقوف النبى - عليه السلام - على أنه كان يخدع فى البيع لم يمنعه من التصرف ولا حجر عليه. وحجة الجماعة قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قيامًا (فنهى تعالى عن دفع الأموال إلى السفهاء وقال: (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم (فجعل شرط دفع أموالهم إليهم وجود الرشد، وهذه الآية محكمة غير منسوخة، ومن كان مبذرًا لماله فهو غير رشيد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 529 وقال ابن المنذر: قوله تعالى فى قصة شعيب: (أصلاتك تأمرك (الآية، وقال تعالى: (أتبنون بكل ريع آية تبعثون (فخبر تعالى أن أنبيائه منعوا قومهم من إضاعة الأموال والعبث، والأنبياء لا تأمر إلا بأمر الله. واحتجوا بقوله عليه السلام: (إن الله كره لكم إضاعة المال) وما كره الله لنا فمحرم علينا فعله. وقوله: (إن الله لا يصلح عمل المفسدين (، و) لا يحسب الفساد (فالمبذر لماله داخل فى النهى ممنوع منه. واحتج الطحاوى على أبى حنيفة فقال: لما قال له عليه السلام: (إذا بايعت فقل: لا خلابة) أى: لا شىء على من خلابتك إياى، جعل بيوعه معتبرة، فإن كان فيها خلابة لم تجز. وليس فى هذا الحديث دفع الحجر، إنما فيه اعتبار عقود المحجور عليه. قال غيره: ويحتمل أن يكون الرجل يغبن بما لا ينفك التجار منه، فجعل له النبى الخيار ثلاثًا ليستدرك الغبن فى مدة الخيار، ولو أوجبت الضرورة الحجر عليه لفعله. قال المهلب: ألا ترى أنه قد شعر لما يمكر به فيه فسأل عنه النبى - عليه السلام - وليس من شكا مثل هذا مضيع لماله، وإنما هو حريص على ضبطه والنظر فيه فحضه عليه السلام أن جعل له إذا بايع أن يقول: لا خلابة، أى: لا تخدعونى فإن خديعتى لا تحل. قال الطحاوى: ولم أجد عن أحد من الصحابة والتابعين أنه قال: لا حجر، كما قال أبو حنيفة إلا عن النخعى وابن سيرين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 530 وقوله: (ووأد البنات) من قوله: (وإذا الموءودة سئلت بأى ذنب قتلت (وقوله: (ومنع وهات) يعنى: أن يمنع الناس خيره ورفده، ويأخذ منهم رفدهم. وقال مالك فى قوله: (قيل وقال) : وهو الإكثار من الكلام والإرجاف، نحو قول الناس: أعطى فلان كذا ومنع كذا، والخوض فيما لا يعنى. وقال أبو عبيد فى قوله: (قيل وقال) : كأنه قال من قول وقيل:، يقال: قلت قولا وقيلا وقالا، وقرأ ابن مسعود: (ذلك عيسى ابن مريم قال الحق) يعنى: قول الحق. وأما (كثرة السؤال) فقال مالك: لا أدرى أهو ما أنهاكم عنه من كثرة المسائل فقد كره رسول الله المسائل وعابها أو هو مسألة الناس أموالهم. - بَاب الْعَبْدُ رَاعٍ فِى مَالِ سَيِّدِهِ وَلاَ يَعْمَلُ إِلاَ بِإِذْنِهِ / 18 - فيه: ابْن عُمَرَ قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِى بَيْتِ زَوْجِهَا، وَالْخَادِمُ فِى مَالِ سَيِّدِهِ. . . .) الحديث. قال المهلب: العبد راع فى مال سيده، يلزمه ما يلزم سائر الرعاة من حفظ ما استرعى عليه، ولا يعمل فى معظم الأمور إلا بإذن سيده، وما كان من المعروف المعتاد أن يعفى عنه مثل الصدقة بالكسرة والقطعة فلا يحتاج فيه إلى إذن سيده، وقد جاء فى حديث النبى - عليه السلام - أن الخادم أحد المتصدقين ولم يشترط إذن سيده إلا فى الكثير لقوله: (يعطى ما أمر به كاملا موفرًا إلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 531 الذى أمر له) فهذا يدل على العطاء الجزيل؛ لأن اشتراط الكمال فيه دليل على الكثرة. - بَاب مَا يُذْكَرُ فِى الإِشْخَاصِ وَالْمُلاَزَمَةِ وَالْخُصُومَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْيَهُودِي / 1 - فيه: عَبْدَاللَّهِ، سَمِعْتُ رَجُلاً قَرَأَ آيَةً سَمِعْتُ مِنَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، خِلاَفَهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (كِلاَكُمَا مُحْسِنٌ) ، قَالَ شُعْبَةُ: أَظُنُّهُ قَالَ: (لاَ تَخْتَلِفُوا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا) . / 2 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلاَنِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُ: وَالَّذِى اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ، فَقَالَ الْيَهُودِىُّ: وَالَّذِى اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ، فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِىِّ، فَذَهَبَ الْيَهُودِىُّ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ، فَدَعَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمُسْلِمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ عليه السَّلام: (لاَ تُخَيِّرُونِى عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَصْعَقُ مَعَهُمْ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ جَانِبَ الْعَرْشِ، فَلاَ أَدْرِى أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِى، أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ، أو قَالَ: حوسب لصعقته) . (1) / 3 م - وفيه: أَنَس، أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فقِيلَ: مَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 532 فَعَلَ هَذَا بِكِ، أَفُلاَنٌ أَفُلاَنٌ حَتَّى سُمِّىَ الْيَهُودِىُّ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخِذَ الْيَهُودِىُّ فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَرُضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ. اختلف العلماء فى إشخاص المدعى عليه، فقال ابن القاسم فى معنى قول مالك: إن كان المدعى عليه غائبًا إلى مثل ما يسافر الناس إليه ويقدمون كتب إلى والى الموضع فى أخذ المدعى عليه بالاستحلاف أو القدوم للخصومة وإن كانت غيبة بعيدة فيسمع من بينة المدعى ويقضى له، وقياس قول الشافعى أنه يجلب بدعوى المدعى. وقال الليث: لا يجلب المدعى عليه حتى يشهد بينته على الحق. قال الطحاوى: وليس عند أصحابنا المتقدمين فيه شىء، والقياس ألا يجلب لا ببينة ولا بغير بينة. قال غيره: إنما يريد أن يكتب إلى حكم الجهة. قال المهلب: وفى حديث أنس الإشخاص إذا قويت شبهة الدعوى والتوفيق والملازمة فى الجواب عن الدعوى، لأن الجارية ادعت بإشارة فأشخص اليهودى ووقف، وألزم الجواب، وشدد عليه فيه، واستدل على كذبه حتى أقر واعترف، قال: وإذا كان الخصم فى موضع يخاف فى فواته منه فلا بأس بإشخاصه وملازمته، وإن كان فى موضع لا يخاف فواته منه فليس له إشخاصه إلا برفع من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 533 السلطان، إلا أن يكون فى شىء من أمور الدين، فإن من الإنكار على أهل الباطل أن يشخصوا ويرفعوا كما فعل ابن مسعود بالرجل، وكما فعل عمر بهشام بن حكيم حين تأول عليه أنه يخطئ. قال عنه: وأما الملازمة فأوجبها من لم ير السجن على مدعى العدم حتى يثبت عدمه. وهم الكوفيون، وأما مالك وأصحابه فيرون أنه يسجن حتى يثبت العدم، وفرق الكوفيون بين الذى يكون أصله من معاوضة فيجب سجن من ادعى، لأنه قد حصل بيده العوض ويدعى العدم، وأما إن كانت معاملة بغير معاوضة كالهبة وشبهها فلا يسجن، لأن أصل الناس عندهم على الفقر حتى يثبت الغنى، وإذا وجدت المعاوضة فقد صح عنده ما ينفى الفقر، ولم يفرق مالك بين شىء من ذلك، وهو عنده على الغنى حتى يثبت العدم، فلذلك يلزمه السجن. قال المهلب: وفى حديث أبى هريرة أنه لا قصاص بين المسلم والذمى، لأن النبى لم يقد اليهودى من المسلم فى اللطمة، وقد ترجم فى كتاب الديات باب إذا لطم المسلم يهوديا عند الغضب، وفيه تأدب النبى - عليه السلام - بما خصه الله به من الفضيلة، فإن قال قائل: قوله عليه السلام: (لا تخيرونى من بين الأنبياء) . وقوله: لا ينبغى لأحد أن يقول: (أنا خير من يونس ابن متى) يعارض قوله: (أنا أول من تنشق الأرض عنه) وقوله: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر (. فالجواب: إن للعلماء فى ذلك تأويلين ينفيان عنهما التضاد: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 534 فأحدهما ذكره ابن قتيبة فقال: لا اختلاف بين شىء من ذلك بحمد الله، وذلك أنه أراد أنه سيد ولد آدم يوم القيامة، لأنه الشافع يومئذ، وله لواء الحمد والحوض، وأراد بقوله: (لا تخيرونى على موسى) طريق التواضع كما قال أبو بكر الصديق: وليتكم ولست بخيركم. وكذلك قوله: (لا ينبغى لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى) يدل على معنى التواضع، لأن يونس دون غيره من الأنبياء مثل إبراهيم وموسى وعيسى، يريد إذا كنت لا أحب أن أفضل على يونس، فكيف غيره ممن هو فوقه من أولى العزم من الرسل، وقد قال تعالى: (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت (أراد يونس لم يكن له صبر غيره من الأنبياء. وفى هذه الآية ما يدل على أن رسول الله أفضل منه، لأن الله يقول له ولا تكن مثله، فدل أن قوله: (لا تفضلونى عليه) من طريق التواضع، ويجوز أن يريد لا تفضلونى عليه فى العمل فلعله أفضل عملا منى. ولا فى البلوى والامتحان فإنه أعظم محنة منى. وليس ما أعطى الله نبينا محمدًا من السؤدد والفضل يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل بعمله، بل بتفضيل الله إياه واختصاصه له، وكذلك أمته أسهل الأمم محنة، بعثه الله بالحنيفية السمحة، ووضع عنها الإصر والأغلال التى كانت على بنى إسرائيل فى فرائضهم، وهى مع هذا خير أمة أخرجت للناس بفضل الله وبرحمته، هذا تأويل ابن قتيبة، واختاره المهلب. والتأويل الآخر: قال غيره: ليس شىء من هذه الأحاديث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 535 يتعارض، لأنه يجوز أن يكون فى وقتين، فقال عليه السلام: (ولا تفضلونى على موسى) و (لا ينبغى لأحد أن يقول إنى خير من يونس) فى أول أمره، فى وقت أنزل عليه: (وما أدرى ما يفعل بى ولا بكم (ووقت قيل له: يا خير البرية فقال: هذا إبراهيم وقبل أن ينزل الله عليه: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر (فلما غفر الله له ذلك علم أنه سيد ولد آدم، فقال ذلك حينئذ - والله أعلم. قال المهلب: وقوله عليه السلام: (أم جوزى بصعقة الطور) فيه دليل أن المحن فى الدنيا والهموم والآلام يرجى أن يخفف الله بها يوم القيامة كثيرًا من أهوال القيامة، وأما كفارة الذنوب بها فمنصوص عليه من النبى - عليه السلام - بقوله: (حتى الشوكة يشاكها) . وفيه: رد قول سعيد بن جبير الذى ذكره البخارى فى كتاب تفسير القرآن أن الكرسى العلم، لأن العلم ليس له جانب ولا قائمة تقع اليد عليها، لأن اليد لا تقع إلا على ما له جسم، والعلم ليس بجسم، وستأتى زيادة فى هذا المعنى فى كتاب العقول فى باب إذا لطم المسلم يهوديا عند الغضب - إن شاء الله. - بَاب مَنْ رَدَّ أَمْرَ السَّفِيهِ وَالضَّعِيفِ الْعَقْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَجَرَ عَلَيْهِ الإِمَامُ وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، رَدَّ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ قَبْلَ النَّهْىِ، ثُمَّ نَهَاهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ وَلَهُ عَبْدٌ لاَ شَىْءَ لَهُ غَيْرُهُ، فَأَعْتَقَهُ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 536 3 - بَاب وَمَنْ بَاعَ عَلَى الضَّعِيفِ وَنَحْوِهِ، فَدَفَعَ ثَمَنَهُ إِلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِالإِصْلاَحِ وَالْقِيَامِ بِشَأْنِهِ، فَإِنْ أَفْسَدَ بَعْدُ مَنَعَهُ، لأَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام نَهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ وَقَالَ لِلَّذِى يُخْدَعُ فِى الْبَيْعِ: (إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لاَ خِلاَبَةَ) ، وَلَمْ يَأْخُذِ النَّبِىُّ عَلَيْهِ السَّلام مَالَهُ . / 3 - فيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ رَجُلٌ يُخْدَعُ فِى الْبَيْعِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا بَايَعْتَ، فَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ) ، فَكَانَ يَقُولُهُ. / 4 - وفيه: جَابِر، أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ لَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَرَدَّهُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَابْتَاعَهُ مِنْهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ. اختلف العلماء فى هذا الباب، فقال مالك، وجميع أصحابه غير ابن القاسم: إن فعل السفيه وأمره كله جائز حتى يضرب الإمام على يده وهو قول الشافعى، وقال ابن القاسم: أفعاله غير جائزة وإن لم يضرب عليه الإمام. وقال أصبغ: إن كان ظاهر السفه فأفعاله مردودة، وإن كان غير ظاهر السفه فلا ترد أفعاله حتى يحجر عليه الإمام. واحتج سحنون لقول مالك بأن قال: لو كانت أفعال السفيه مردودة قبل الحجر عليه ما احتاج السلطان أن يحجر على أحد. واحتج غيره بأن النبى - عليه السلام - أجاز بيع الذى كان يخدع فى البيوع، ولم يذكر فى الحديث أنه فسخ ما تقدم من بيوعه، وحجة ابن القاسم حديث جابر أن النبى - عليه السلام - رد عتق الذى أعتق عبده ولم يكن حجر عليه قبل ذلك، ولما تنوع حكم النبى - عليه السلام - فى السفيهين نظر بعض الفقهاء فى ذلك، فاستعمل الحديثين جميعًا فقال: ما كان من السفه اليسير والخداع الذى لا يكاد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 537 يسلم منه مع تنبه المخدوع إليه والشكوى له، فإنه لا يوجب الضرب على اليد، ولا رد ما وقع له قبل ذلك من البيع، ولا انتزاع ماله كما لم يرد عليه السلام بيع الذى قال له: لا خلابة، ولا انتزع ماله وما كان من البيع فاحشًا فى السفه فإنه يرد كما رد النبى - عليه السلام - تدبير العبد الذى اشتراه ابن النحام، لأنه لم يكن أبقى لنفسه سيده مالا يعيش به، فرد عتقه، وصرف عليه ماله الذى فوته بالعتق ليقوم به على نفسه، ويؤدى منه دينه، وإنما ذلك على قدر اجتهاد الإمام فى ذلك وما يراه. وقد تقدم الكلام فى حديث ابن عمر فى كتاب البيوع فى باب ما يكره من الخداع فى البيع ومذاهب العلماء فيمن باع بيعًا وغبن فيه - والحمد لله. 4 - بَاب كَلاَمِ الْخُصُومِ بَعْضِهِمْ فِى بَعْضٍ / 5 - فيه: عَبْدِاللَّهِ قَالَ عليه السَّلام: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِىَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، قَالَ: فَقَالَ الأَشْعَثُ بن قيس: فِىَّ وَاللَّهِ كَانَ هذا كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَ يَهُودِى أَرْضٌ فَجَحَدَنِى، فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلَكَ بَيِّنَةٌ) ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَقَالَ لِلْيَهُودِىِّ: (احْلِفْ) ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 538 قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذًا يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِى، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً (الآيَةِ. / 6 - وفيه: كَعْب، أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِى حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِى الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ فِى بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، فَنَادَى: (يَا كَعْبُ) ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا) ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَىِ الشَّطْرَ، قَالَ: لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (قُمْ فَاقْضِهِ) . / 7 - وفيه: عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَقْرَأَنِيهَا، وَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَجِئْتُ بِهِ النَّبِىّ، عليه السَّلام. . . . وذكر الحديث. لا يجوز من كلام الخصوم بعضهم لبعض إلا ما يجوز من كلام غيرهم مما لا يوجب أدبًا ولا حدا. قال المهلب: معنى الترجمة من حديث ابن مسعود قول الأشعث: (إذا والله يحلف ويذهب بمالى) فمثل هذا الكلام مباح فيمن عرف فسقه، كما عرف فسق اليهودى الذى خاصم الأشعث وقلة مراقبته لله - تعالى - فحينئذ يسمح الحاكم للقائل لخصمه ذلك، وأما إن قال ذلك فى رجل صالح أو من لا يعرف له فسق فيجب أن ينكر عليه، ويؤخذ له الحق، ولا يبيح له النيل من عرضه. وحديث عمر مع هشام بن حكيم فى تولى الخصوم بعضهم بعضًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 539 سديد فى هذا الباب، لأن فيه امتدادًا باليد، فهو أقوى من القول، وإنما جاز له ذلك - والله أعلم - لأنه أنكر عليه فى أمر الدين، وفى حديث كعب جواز ارتفاع الأصوات بين الخصوم لما فى خلائق الناس من ذلك، ولو قصر الناس عن اختلافهم لكان ذلك من المشقة عليهم، بل يسمح لهم فيما جبلهم الله عليه، لأن النبى - عليه السلام - سمعهما ولم ينههما عن رفع أصواتهما، وفيه أن الحاكم إذا سمع قول الخصوم واستعجم عليه أمرهما أشار عليهما بالصلح، وأمرهما به، وإذا رأى مديانًا غير مستضلع بدينه، ولا ملى به، وثبتت عسرته، أنه لا بأس للحكم أن يأمر صاحب الدين بالوضيعة لقطع الخصام، لما فى تماديه من قطع ذات البين وفساد النيات. 5 - بَاب إِخْرَاجِ أَهْلِ الْمَعَاصِى وَالْخُصُومِ مِنَ الْبُيُوتِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ وَقَدْ أَخْرَجَ عُمَرُ أُخْتَ أَبِى بَكْرٍ حِينَ نَاحَتْ / 8 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاَةِ، فَتُقَامَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى مَنَازِلِ قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ) . قال المهلب: فيه من الفقه أن من ترك سنة من سنن النبى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 540 - عليه السلام - المجتمع عليها فى الإقامة، أنه يعاقب فى نفسه وماله، لأن حرق المنازل عقوبة فى المال على عمل الأبدان، فإذا كانت العقوبة تتعدى إلى المال عن البدن، فهى أحرى أن تقع فى البدن، وفيه أن العقوبات على أمور الدين التى لا حدود فيها موكولة إلى اجتهاد الإمام لقوله: (لقد هممت) فهذا نظر واجتهاد. وقد قال قوم: إن هذا الحديث فى المنافقين، وليس كذلك، لأن النبى - عليه السلام - لم يعن بإخراج المنافقين إلى الصلاة، ولا التفت إلى شىء من أمرهم، وقيل فيه: إنه فى المؤمنين، وقد تقدم القولان فى باب وجوب صلاة الجماعة، وسيأتى فى كتاب الأحكام - إن شاء الله - شىء من الكلام فى معنى هذا الباب تركته لأنه بوب بهذا الحديث بعينه، وذكر هذا الحديث فيه. 6 - بَاب دَعْوَى الْوَصِىِّ لِلْمَيِّتِ / 9 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ، وَسَعْدًا، اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصَانِى أَخِى إِذَا قَدِمْتُ أَنْ أَنْظُرَ ابْنَ أَمَةِ زَمْعَةَ، فَأَقْبِضَهُ فَإِنَّهُ ابْنِى، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِى، وَابْنُ أَمَةِ أَبِى، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِى، فَرَأَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَاحْتَجِبِى مِنْهُ يَا سَوْدَةُ. . . .) الحديث. هذا الحديث ترجم له فى كتاب الوصايا ما يجوز للموصى إليه من الدعوى، وهى هذه الترجمة، وسيأتى الكلام فيها هناك - إن شاء الله - وللعلماء فى هذا الحديث ضروب من التخريج سأذكرها - إن شاء الله - فى باب أم الولد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 541 7 - بَاب التَّوَثُّقِ مِمَّنْ تُخْشَى مَعَرَّتُهُ وَقَيَّدَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِكْرِمَةَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ وَالْفَرَائِضِ. / 10 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَعَثَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِى حَنِيفَةَ، يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِى الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ) ؟ قَالَ: عِنْدِى يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ. . . . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: (أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ) . قال أهل العلم: يوجبون التوثق بالحبس والضامن وما أشبهه ممن وجب عليه حق لغيره، فأبى أن يخرج منه وادعى مخرجًا لم يحضره فى الوقت، وقد روى وكيع أن عليا كان يحبس فى الدين، وروى معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: كان شريح إذا قضى على رجل بحق أمر بحبسه فى المسجد إلى أن يقوم، فإن أعطى حقه وإلا أمر به إلى السجن. وقال طاوس: إذا لم يقر الرجل بالحكم حبس. وروى معمر عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده (أن رسول الله حبس رجلا فى تهمة) . وحديث ثمامة أصل فى ذلك، لأنه كان قد حل دمه بالكفر، والسنة فى مثله أن يقتل، أو يستعبد، أو يفادى به، أو يمن عليه، فحبسه النبى حتى يرى فيه رأيه وأى الوجوه أصلح للمسلمين فى أمره، وترجم له فى كتاب الصلاة باب الأسير والغريم يربط فى المسجد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 542 8 - بَاب الرَّبْطِ وَالْحَبْسِ فِى الْحَرَمِ وَاشْتَرَى نَافِعُ بْنُ عَبْدِالْحَارِثِ دَارًا لِلسِّجْنِ بِمَكَّةَ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ عَلَى أَنَّ عُمَرَ إِنْ رَضِىَ، فَالْبَيْعُ بَيْعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ عُمَرُ، فَلِصَفْوَانَ أَرْبَعُ مِائَةِ دِينَارٍ، وَسَجَنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ. / 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ، عليه السَّلام، بَعَثَ خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بثُمَامَة، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِى الْمَسْجِدِ. قال المهلب: اشترى نافع الدار للسجن بمكة من مال المسلمين، لأن عمر كان يومئذ أمير المؤمنين، فاشترى نافع الدار من صفوان وشرط عليه إن رضى عمر الابتياع فهو لعمر وإن لم يرض ذلك بالثمن المذكور فالدار لنافع بأربعمائة، وهذا بيع جائز، فابتياع الدار لتكون سجنًا بمكة، يدل أن الحبس فى الحرم والربط والأسر فيه جائز بخلاف قول من قال من التابعين أن من فر إلى الحرم بحد أو جرم، أنه لا يقاد منه فى الحرم، واحتجوا بقوله تعالى: (ومن دخله كان آمنا (وأئمة الفتوى بالأمصار لا يمنع عندهم الحرم إقامة الحدود والقود فيه على من وجب عليه ذلك فى غير الحرم، وكلهم يقول: إن من قتل فى الحرم قتل فيه. 9 - بَاب فِى الْمُلاَزَمَةِ / 12 - فيه: كَعْب، كَانَ لَهُ عَلَى عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِى حَدْرَدٍ دَيْنٌ، فَلَقِيَهُ فَلَزِمَهُ، فَتَكَلَّمَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَمَرَّ بِهِمَا النَّبِىُّ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 543 عليه السَّلام، فَقَالَ: (يَا كَعْبُ) ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: النِّصْفَ، فَأَخَذَ نِصْفَ مَا عَلَيْهِ، وَتَرَكَ نِصْفًا. قال: هذا الحديث حجة للكوفيين فى قولهم بالملازمة للغريم، ألا ترى أن النبى - عليه السلام - مر بكعب بن مالك وهو قد لزم غريمه فلم ينكر ذلك عليه، وأشار عليه بالصلح، وسائر الفقهاء لا ينكرون على صاحب الدين أن يطلب دينه كيف أمكنه بإلحاح عليه وملازمة أو غير ذلك، وإنما اختلفوا فى الغريم المعدم هل يلازمه غريمه بعد ثبوت الإعدام وانطلاقه من السجن أم لا؟ وقد تقدم ذلك فى باب قوله عليه السلام: (مطل الغنى ظلم) فأغنى عن إعادته. - بَاب التَّقَاضِى / 13 - فيه: خَبَّاب، كُنْتُ قَيْنًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ لِى عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَرَاهِمُ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: لاَ أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: لاَ وَاللَّهِ لاَ أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ، ثُمَّ يَبْعَثَكَ، قَالَ: فَدَعْنِى حَتَّى أَمُوتَ، ثُمَّ أُبْعَثَ، فَأُوتَى مَالاً وَوَلَدًا، ثُمَّ أَقْضِيَكَ. . . . الحديث. فيه من الفقه أن الرجل الفاضل إذا كان له دين عند الفاسق والكافر أنه لا بأس أن يطلبه ويشخص فيه بنفسه، ولا نقيصة عليه فى ذلك، لأن النبى قد نهى عن إضاعة المال - والحمد لله وحده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 544 بسم الله الرحمن الرحيم 39 - كِتَاب اللُّقَطَةِ - بَاب إِذَا أَخْبَرَ رَبُّ اللُّقَطَةِ بِالْعَلاَمَةِ دَفَعَت إِلَيْهِ / 1 - فيه: سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ، لَقِيتُ أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقَالَ: وجدتُ صُرَّةً مِائَةَ دِينَارٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (عَرِّفْهَا حَوْلاً) ، فَعَرَّفْتُهَا حَوْلاً، فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ، فَقَالَ: (عَرِّفْهَا حَوْلاً) ، فَعَرَّفْتُهَا، فَلَمْ أَجِدْ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ ثَلاَثًا، فَقَالَ: (احْفَظْ وِعَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلاَ فَاسْتَمْتِعْ بِهَا) ، [فَاسْتَمْتَعْتُ] فَلَقِيتُهُ بَعْدُ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: لاَ أَدْرِى أثَلاَثَةَ أَحْوَالٍ أَم حَوْلاً وَاحِدًا. هذا الحديث لم يقل بظاهره أحد من أئمة الفتوى أن اللقطة تعرف ثلاثة أعوام، لأن سويد بن غفلة قد وقف عليه أبى بن كعب مرة أخرى حين لقيه بمكة، فقال: لا أدرى ثلاثة أحوال أم حولا واحداُ، وهذا الشك يوجب سقوط التعريف ثلاثة أحوال، ولا يحفظ عن أحد قال ذلك إلا رواية جاءت عن عمر بن الخطاب ذكرها عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قال مجاهد: وجد سفيان بن عبد الله الثقفى عبية فيها مال عظيم، فجاء بها عمر بن الخطاب، فقال: عرفها سنة، فعرفها سنة ثم جاءه، فقال: عرفها سنة فعرفها ثم جاءه فقال: عرفها سنة، فعرفها ثم جاءه بها، فجعلها عمر فى بيت مال المسلمين. وقد روى عن عمر ابن الخطاب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 545 أن اللقطة تعرف سنة مثل قول الجماعة، وممن روى عنه أنها تعرف سنة: على ابن أبى طالب، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والشعبى، وإليه ذهب مالك، والكوفيون، والشافعى، وأحمد بن حنبل، واحتجوا بحديث زيد بن خالد الجهنى. واختلف العلماء إذا جاء رب اللقطة بالعلامة هل يلزمه إقامة البينة أنها له أم لا؟ فقال مالك والليث وجماعة من أهل الحديث: إذا جاء بعلامتها وجب أن يأخذها، ولم يكلف إقامة البينة. وبه قال أحمد بن حنبل، وقال أبو حنيفة والشافعى: لا يأخذها إلا بعد إقامة البينة. قال ابن القصار: وحجة مالك قوله عليه السلام: (اعرف وعاءها وعددها ووكاءها، فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها) ولم يقل: فإن جاء صاحبها وأقام بينة، وإنما أمر الملتقط بمعرفة الوعاء والوكاء ليضبطها، فإذا جاء طالبها وعرف صفتها سلمت إليه، ولو لم يجب عليه دفعها إلى من يأتى بصفتها لم يكن لمعرفة صفتها معنى، ولو كلف البينة لتعذر عليه، لأنه لا يعلم متى تسقط فيشهد عليها من أجل ذلك. واحتج الآخرون بقوله عليه السلام: (البينة على المدعى) ، وصاحب اللقطة مدع فلا يستحقها إلا بالبينة، فأجابهم أهل المقالة الأولى فقالوا: البينة إنما تجب على المدعى إذا كان المدعى عليه ممن يدعى الشىء المدعى فيه لنفسه. والملتقط لا يدعى اللقطة لنفسه، ألا ترى أن الملتقط لو ادعى عليه اللقطة بغير صفة ولا بينة وأنكر لم يكن عليه يمين، فعلم بهذا أن البينة إنما تجب فى موضع يدعى عليه ذلك الشىء، وهو يدعيه لنفسه. قال ابن حبيب: وأكثر ما يمكن فى اللقطة أن يقبل منه الصفة ويحلف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 546 على ذلك، فيكون بمنزلة شاهد ويمين. وهو قول سحنون، وقال سحنون: أصحابنا يقولون باليمين. وهو قول أشهب، وقال: إن نكل عن اليمين لم يأخذها، ومن الناس من يقول: لا يمين عليه. قال ابن القصار: وقول من رأى اليمين أحوط. وقال الأبهرى: العلامة تقوم مقام اليمين، وهو الذى يقتضى الحديث، ويدل عليه. واختلفوا إذا جاء بصفتها ودفعها إليه، ثم جاء آخر فأقام بينة أنها له، فقال ابن القاسم: لا يضمن الملتقط شيئًا؛ لأنه فعل ما وجب عليه، وهو أمين والشىء ليس بمضمون عليه والحكم فيها عنده أن تقسم بين صاحب الصفة وصاحب البينة، كما يحكم فى نفسين إذا ادعيا شيئًا وأقاما بينة. وقال أشهب: إذا أقام الثانى البينة حُكم له بها على الذى أخذها بالعلامة. وقال أبو حنيفة والشافعى: إذا أقام الثانى البينة فعلى الملتقط الضمان. وقول ابن القاسم أولى؛ لأن الضمان لا يلزم فيما سبيله الأمانة، ولا خلاف عن مالك وأصحابه أن الثانى إذا أتى بعلامتها بلا بينة أنه لا شىء له. - بَاب ضَالَّةِ الإِبِلِ / 2 - فيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إلى النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فَسَأَلَهُ عَمَّا يَلْتَقِطُ، فَقَالَ: (عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ اعْرَفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 547 فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِهَا، وَإِلاَ فَاسْتَنْفِقْهَا) ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: (لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ) ، قَالَ: ضَالَّةُ الإِبِلِ؟ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (مَا لَكَ وَلَهَا، مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ) . قال أبو عبيد: العفاص: الوعاء الذى تكون فيه النفقة من جلد كان أو غيره، ولهذا يسمى الجلد التى تلبسه القارورة العفاص؛ لأنه كالوعاء لها، والوكاء: الخيط الذى يشد به، وحذاؤها يعنى: أخفافها، يقول: تقوى على السير وتقطع البلاد، وسقاؤها: يعنى أنها تقوى على ورود المياه لتشرب والغنم لا تقوى على ذلك. واختلفوا فى ضالة الإبل هل تؤخذ؟ قال مالك والأوزاعى والشافعى: لا يأخذها ولا يعرفها؛ لنهيه - عليه السلام - عن ضالة الإبل. وقال الليث: إن وجدها فى القرى عرفها، وفى الصحراء لا يقربها. وقال الكوفيون: أخذ ضالة الإبل وتعريفها أفضل؛ لأن تركها سبب لضياعها، قالوا: وأمر عمر بتعريف البعير يدل على جواز ذلك، وإنما النهى عن أخذها لمن يأكلها، وهو معنى قول عمر بن الخطاب: لا يأوى الضالة إلا ضال. وقد باع عثمان ضوال الإبل، وحبس أثمانها على أربابها ورأى أن ذلك أقرب إلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 548 جمعها عليهم لفساد الناس. قيل لهم: ترك عمر لضوال الإبل أشبه لمعنى قوله - عليه السلام -: (معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها) وذلك أقرب إلى جمعها على صاحبها مع جور الأئمة؛ لأن صاحبها لا يستطيع أن يخاصم فيها الإمام الجائر، ولا يجد من يحكم له عليه، ويستطيع أن يخاصم فيها الرعية فيقضى له عليه السلطان، وظاهر الحديث على تركها حيث وجدها والنهى عن أخذها. قال ابن المنذر: وممن رأى أن ضالة البقر كضالة الإبل: طاوس والأوزاعى، والشافعى. وقال مالك والشافعى فى ضالة البقر: إن وجدت بموضع يخاف عليها فهى بمنزلة الشاة، وإن كانت بموضع لا يخاف عليها فهى بمنزلة البعير. قال ابن حبيب: والخيل والبغال والعبيد وكل ما يستقل بنفسه ويذهب هو داخل فى اسم الضالة، وقد شدد رسول الله فى أخذ كل ما يرجى أن يصل إلى صاحبه، فمن أخذ شيئًا من ذلك فى غير الفيافى فهو كاللقطة، ومن أخذ شيئًا مجمعًا على أخذه ثم أرسله فهو له ضامن، إلا أن يأخذه غير مجمع على أخذه مثل: أن يمر رجل فى آخر الركب أو آخر الرفقة فيجد شيئًا ساقطًا، فيأخذه وينادى من أمامه: لكم هذا؟ فيقال له: لا ثم يخليه فى مكانة فلا شىء عليه فيه. فهذا قول مالك. قال غيره: وأما إن وجد عرضًا فأخذه وعرفه فلم يجد صاحبه، فلا يجوز له رده إلى الموضع الذى وجده فيه، فإن فعل وتلف ضمنه لصاحبه. وذكر ابن المنذر عن الشافعى إن أخذ بعيرًا ضالا ثم أرسله فتلف فعليه الضمان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 549 3 - بَاب ضَالَّةِ الْغَنَمِ / 3 - وفيه: زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ، سُئِلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: (اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً) - يَقُولُ يَزِيدُ: إِنْ لَمْ تُعْرَفِ اسْتَنْفَقَ بِهَا صَاحِبُهَا، وَكَانَتْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ. قَالَ يَحْيَى بن سعيدٍ: فَهَذَا الَّذِى لاَ أَدْرِى أَفِى حَدِيثِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) هُوَ، أَمْ شَىْءٌ مِنْ عِنْدِهِ - ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تَرَى فِى ضَالَّةِ الْغَنَمِ؟ قَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِىَ لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ) - قَالَ يَزِيدُ: وَهِىَ تُعَرَّفُ أَيْضًا -. . . . الحديث. اختلف العلماء فى ضالة الغنم، فقال ابن المنذر: روينا عن عائشة أنها منعت من ضالة الغنم ومن ذبحها. وقال الليث: لا أحب أن تعرف ضالة الغنم إلا أن يحرزها لصاحبها. وقال أبو حنيفة والشافعى: إن أكلها فعليه الضمان إذا جاء صاحبها. وهو قول عبد العزيز بن أبى سلمة وسحنون. وقال مالك: ومن وجد شاة فى أرض فلاة وخاف عليها فهو مخير فى تركها أو أكلها، ولا ضمان عليه. والحجة لمالك أن النبى أذن فى أكل الشاة، وأقام الذى وجدها مقام ربها وقال: (لك أو لأخيك أو للذئب) فإذا أكلها بإذن النبى لم يجز أن يغرم فى حال ثان إلا بحجة من كتاب أو سنة أو إجماع. قالوا: وهذا أصل فى كل ما يوجد من الطعام الذى لا يبقى ويسرع إليه الفساد، فلمن وجده أكله إذا لم يمكنه تعريفه ولا يضمنه لأنه فى معنى الشاة، والشاة فى حكم المباح الذى لا قيمة له، ألا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 550 ترى أن النبى - عليه السلام - وجد تمرة فقال: (لولا أنى أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها) فإنما نبه أنه يجوز أكلها من ملك الغير لو لم تكن من الصدقة؛ لأنها فى معنى التافه، فكذلك الشاة فى الفلاة لا قيمة لها. واحتج الطحاوى للكوفيين فقال: ليس قوله عليه السلام: (هى لك أو لأخيك أو للذئب) على معنى التمليك، كما أنه إذا قال: أو للذئب لم يرد به التمليك لأن الذئب لا يملك وإنما يأكلها على ملك صاحبها، فينزل على أجر مصيبها، فكذلك الواجد إن أكلها، أكلها على ملك صاحبها فإن جاء ضمنها له. قالوا: وقد روى ابن وهب عن عمرو بن الحارث، وهشام بن سعيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده (أن رجلا أتى النبى - عليه السلام - فقال: يا رسول الله كيف ترى فى ضالة الغنم؟ قال: طعام مأكول لك أو لأخيك أو للذئب، فاحبس على أخيك ضالته) . فهذا دليل على أن الشاة على ملك صاحبها. وأجمع العلماء أن صاحبها لو جاء قبل أن يأكلها الواجد لها أخذها منه، وكذلك لو ذبحها أخذها منه مذبوحة، وكذلك لو أكل بعضها أخذ ما وجد منها، فدل على أنا على ملك صاحبها فى الفلوات وغيرها، ولا يزول ملكه عنها إلا بإجماع، ولا فرق بين قوله فى الشاة: (هى لك أو لأخيك أو للذئب) وبين قوله فى اللقطة: (فشأنك بها) بل هذا أشبه بالتمليك؛ لأنه لم يشرك معه فى لفظ التمليك ذئبًا ولا غيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 551 4 - بَاب إِذَا لَمْ يُوجَدْ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ فَهِىَ لِمَنْ وَجَدَهَا / 4 - فيه: زَيْد، سُأل رجل النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: (اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلاَ فَشَأْنَكَ بِهَا. . .) الحديث. وأجمع أئمة الفتوى على أن اللقطة إذا عرفها سنة وانتفع بها وأنفقها بعد السنة ثم جاء صاحبها أنه يرد عليها قيمتها ويضمنها له، وليس قوله: (فشأنك بها) يبيح له أخذها ويسقط عنه ضمانها؛ لما ثبت عنه عليه السلام فى اللقطة: (فإن جاء صاحبها بعد السنة أدها إليه؛ لأنها وديعة عند ملتقطها) وسيأتى تمام القول فى ذلك فى بابه - إن شاء الله - وخرق الإجماع رجل نُسب إلى العلم يعرف بداود بن على، فقال: إذا جاء صاحبها بعد السنة لم يضمنها ملتقطها؛ لأن النبى - عليه السلام - أطلقه على ملكها بقوله: (فشأنك بها) فلا ضمان عليه، ولا سلف له فى ذلك إلا اتباع الهوى والجرأة على مخالفة الجماعة التى لا يجوز عليها تحريف التأويل ولا الخطأ فيه، أعاذنا الله من اتباع والابتداع فى دينه مما لم يأذن فيه عز وجل. 5 - بَاب إِذَا وَجَدَ خَشَبَةً فِى الْبَحْرِ أَوْ سَوْطًا أَوْ نَحْوَهُ / 5 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ، عليه السَّلام، ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ. . . . وَسَاقَ الْحَدِيثَ، فَخَرَجَ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا هُوَ بِالْخَشَبَةِ فَأَخَذَهَا لأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا، وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ. . . . الحديث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 552 هذه الخشبة حكمها حكم اللقطة، قال المهلب: وإنما أخذها حطبًا لأهله؛ لأنه قوى عنده انقطاعها عن صاحبها لغلبة العطب على صاحبها وانكسار سفينته، وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه قال: إذا ألقى البحر خشبة فتركها أفضل. وقال ابن شعبان: فيها قول آخر: إن وجدها يأخذها، فمتى جاء ربها غرم له قيمتها. واختلف العلماء فيما يفعل باللقطة اليسيرة، فرخصت طائفة فى أخذها والانتفاع بها وترك تعريفها، وممن روى ذلك عنه: عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وابن عمر، وعائشة، وهو قول عطاء والنخعى وطاوس. قال ابن المنذر: روينا عن عائشة فى اللقطة لا بأس بما دون الدرهم أن يستمع به، وعن جابر بن عبد الله قال: كانوا يرخصون فى السوط والحبل ونحوه إذا وجده الرجل ولم يعرف صاحبه أن ينتفع به، وقال عطاء: لا بأس للمسافر إذ وجد السوط والسقاء والنعلين أن يستمتع به وحديث الخشبة الحجة لهذه المقالة، لأن النبى أخبر أنه أخذها حطبًا لأهله، ولم يأخذها ليعرفها، وأقر النبى - عليه السلام - ذلك، ولم يذكر أنه فعل ما لا ينبغى له. وأوجبت طائفة تعريف قليل اللقطة وكثيرها حولا إلا ما لا قيمة له. قال ابن المنذر: روينا ذلك عن أبى هريرة أنه قال فى لقطة الحبل والزمام ونحوه: عرفه فإن وجدت صاحبه رددته عليه إلا استمتعت به. وهو قول مالك والشافعى وأحمد ابن حنبل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 553 قال مالك: من وجد لقطة دينارًا أو درهمًا أو أقل من ذلك فليعرفه سنة إلا الشىء اليسير مثل: القرص، أو الفلس، أو الجوزة، أو نحو ذلك فإنه يتصدق به من يومه، ولا أرى أن يأكله، ولا يأكل التمرات والكسرة إلا المحتاج، وأما النعلان والسوط وشبه ذلك فإنه يعرفه، فإن لم يجد له صاحبًا تصدق به، فإن جاء صاحبه غرمه. وهو قول الكوفيين إلا فى مدة التعريف فإنهم قالوا: ما كان عشرة دراهم فصاعداُ عرفه حولا، وما كان دون ذلك عرفه بقدر ما يراه. وقال الثورى: تعرف الدراهم أربعة أيام. وقال أحمد: يعرفه سنة. وقال إسحاق: ما دون الدينار يعرفه جمعة أو نحوها. وحجة هذه المقالة قوله عليه السلام فى اللقطة: (اعرف عفاصها ووكاءها) ، ولم يخص قليل اللقطة من كثيرها، فيجب على ظاهر حديث زيد بن خالد أن يستوى حكم قليلها وكثيرها فى ذلك. قال ابن المنذر: ولا أعلم شيئًا استثنى من جملة هذا الخبر إلا التمرة التى منعه من أكلها خشية أن تكون من الصدقة، فما له بقاء مما زاد على التمرة وله قيمة يجب تعريفه. واختلفوا فيما لا يبقى إلى مدة التعريف، فقال مالك: يتصدق به أحب إلى. قيل لابن القاسم: فإن أكله أو تصدق به وأتى صاحبه؟ قال: لا يضمنه فى قياس قول مالك على الشاة يجدها فى فيافى الأرض. وفى قول الكوفيين: ما لا يبقى إذا أتى عليه يومان أو يوم وفسد، قالوا: يعرفه فإن خاف فسادة تصدق به، فإن جاء ربه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 554 ضمنه. وهو قول الشافعى، وحجتهم أن ما كان له رب فلا يملكه عليه أحد إلا بتملكه إياه قل أو كثر. 6 - بَاب إِذَا وَجَدَ تَمْرَةً فِى الطَّرِيقِ / 6 - فيه: أَنَس، مَرَّ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِتَمْرَةٍ فِى الطَّرِيقِ، فَقَالَ: (لَوْلاَ أَنِّى أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُهَا) . / 7 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (إِنِّى لأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِى، فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِى، فَأَرْفَعُهَا لآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيهَا) . أما ما لا بال له ولا يتشاح الناس فيه ولا يطلبونه كالتمرة والجوزة والتينة والعنابة والحبة من الفضة وشبه ذلك، فلا يلزم فى شىء منه تعريف؛ لجواز أكله عليه السلام للتمرة الساقطة لو لم تكن من الصدقة المحرم عليه قليلها وكثيرها. فدل هذا الحديث على إباحة الشىء التافه الملتقط، وأنه معفو عنه وخارج من حكم اللقطة؛ لأن صاحبه لا يطلبه، فلذلك استحل النبى - عليه السلام - أكل التمرة لولا شبهة الصدقة، وقد روى عبد الرزاق أن على بن أبى طالب التقط حبة أو حبتين من رمان من الأرض فأكلها، وعن ابن عمر أنه وجد تمرة فى الطريق فأخذها فأكلها نصفها، ثم لقيه مسكين فأعطاه النصف الآخر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 555 7 - بَاب كَيْفَ تُعَرَّفُ لُقَطَةُ أَهْلِ مَكَّةَ؟ وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِىِّ عليه السلام: (لاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهَا إِلاَ مَنْ عَرَّفَهَا) . وَقَالَ مرة: عَنْ النَّبىِّ: (لاَ تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلاَ لِمُنْشِدٍ) . / 8 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) مَكَّةَ قَامَ فِى النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ كَانَ قَبْلِى، وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِى سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِى، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلاَ تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلاَ لِمُنْشِدٍ. . . .) الحديث. اختلف العلماء فى لقطة مكة، فقالت طائفة: حكم لقطتها كحكم لقطة سائر البلدان. قال ابن المنذر: روينا هذا القول عن عمر وابن عباس وعائشة وسعيد بن المسيب، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل. وقالت طائفة: إن لقطتها لا تحل البتة، وليس لواجدها إلا إنشادها. هذا قول الشافعى وابن مهدى وأبى عبيد، قال ابن مهدى: معنى قوله: (لا تحل لقطتها) ، كأنه يريد البتة، فقيل له: إلا لمنشد؟ فقال: إلا لمنشد، وهو يريد المعنى الأول، كما يقول الرجل: والله لأفعلن كذا وكذا، ثم يقول: إن شاء الله، وهو لا يريد الرجوع عن يمينه، ولكنه لقن شيئًا فلقنه فمعناه: أنه ليس يحل له منها إلا إنشادها، فأما الانتفاع بها فلا يجوز. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 556 وفيها قول ثالث: قال جرير بن عبد الله الحميدى قوله: (إلا لمنشد) ، يعنى: إلا من سمع ناشدًا يقول: من أصاب كذا، فحينئذ يجوز للملتقط أن يرفعها إذا رآها، لكى يردها على صاحبها، ومال إسحاق بن راهويه إلى هذا القول، وقاله النضر بن شميل. وفيها قول رابع: يعنى: لا تحل لربها الذى يطلبها. قال أبو عبيد هو جيد فى المعنى ولكن لا يجوز فى العربية أن يقال للطالب: منشدًا إنما المنشد المعرف، والطالب هو الناشد، يدل على ذلك أن الرسول سمع رجلا ينشد ضالة فى المسجد فقال: (أيها الناشد غيرك الواجد) ، قال أبو عبيد: وليس للحديث وجه إلا ما قاله ابن مهدى. قال المؤلف: ولو كان حكم لقطة مكة حكم غيرها؛ ما كان لقوله: (لا تحل لقطتها إلا لمنشد) ، معنى تختص به مكة كما تختص بسائر ما وكد فى هذا الحديث؛ لأن لقطة غيرها كذلك يحل لمنشدها بعد الحول الانتفاع بها، فدل مساق هذا الحديث كله على تخصيص مكة ومخالفة لقطتها لغيرها من البلدان، كما خالفتها فى كل ما ذكر فى الحديث من أنها حرام لا تحل لأحد ساعة من نهار بعد النبى - عليه السلام - وأنه لا ينفر صيدها، ولا يختلى خلاها وغير ذلك مما خصت به من أنه لم يستبح دماءهم ولا أموالهم، ولا جرى فيهم الرق كغيرهم. ومن الحجة أيضًا لذلك أن الملتقط إنما يتملك اللقطة فى غير مكة بعد الحول، حفظًا لها على ربها وحرزًا لها؛ لأنه لا يقدر على إيصالها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 557 إليه ويخشى تلفها، فيتملكها وتتعلق قيمتها بذمته، ولقطة مكة يمكن إيصالها إلى ربها، لأنه إن كان من أهل مكة فإن معرفته تقرب، وإن كان غريبًا لا يقيم بها فإنه يعود إليها بنفسه أو يقدر على من يسير إلى مكة من أهل بلده فيتعرف له ذلك؛ لأنها تقصد فى كل عام من أقطار الأرض، فإذا كانت اللقطة فيها معرضة للإنشاد أبدًا أو شك أن يجدها باغيها ويصل إليها ربها، فهذا الفرق بين مكة وسائر البلاد. 8 - بَاب لاَ تُحْتَلَبُ مَاشِيَةُ أَحَدٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ / 9 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (لاَ يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ، فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ، فَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ، فَلاَ يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلاَ بِإِذْنِهِ) . قال: أجمع العلماء أنه لا يجوز كسر قفل مسلم ولا ذمى، ولا أخذ شىء من ماله بغير إذنه، وشبه رسول الله اللبن فى الضرع بالطعام المخزون تحت الأقفال، وهذا هو قياس الأشياء على نظائرها وأشباهها، أرانا رسول الله بهذا المثل قياس الأمور إذا تشابهت معانيها، فوجب امتثال ذلك واستعماله خلافًا لقوله من أبطل القياس. وقوله: (أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته) فمعناه: أن يكره المسلم لأخيه المسلم ما يكرهه لنفسه، وهذا فى معنى قوله عليه السلام: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب عن نفس منه) . وأكثر العلماء يجيز أكل مال الصديق إذا كان تافهًا لا يتشاح فى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 558 مثله، وإن كان ذلك بغير إذنه ما لم يكن تحت قفله، وقال أبو عبد الله ابن أبى صفرة: وهذا الحديث لا يعارض حديث الهجرة حين قال أبو بكر للراعى: (لمن أنت؟ قال: لرجل من قريش، قال: هل أنت حالب لنا؟) لأن حديث الهجرة فى زمن المكارمة، وهذا الحديث فى زمن التشاح لما علم عليه السلام أنه سيكون من تغير الأحوال بعده. قال المهلب: مع أن قوله عليه السلام: (لا يحلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه) ، نهى عن التسور والاحتلاب، وحديث الهجرة لم يتسور النبى - عليه لاسلام - ولا أبو بكر، وإنما سأل أبو بكر الراعى وقال له: هل أنت حالب لنا؟ والراعى فى المال له عادة العرب من الحلب فلذلك أجاز النبى - عليه السلام - شرب ما حلب الراعى، وكذلك عادة العرب فى الحلب على الماء ولابن السبيل مباحة له، وكل مسترعى له مثل ذلك فى الذى استرعى، كالمرأة فى بيت زوجها تعطى اللقمة من ماله والتمرات وكف الطعام فقال عليه السلام: (إنها أحد المتصدقين) . وقال أشهب: خرجنا مرابطين إلى الإسكندرية فمررنا بجنان الليث بن سعد، فأكلنا من التمر، فلما رجعت دعتنى نفسى أن أستحل ذلك من الليث بن سعد، فدخلت إليه، فأخبرته بذلك، فقال لى: يا ابن أخى، لقد نسكت نسكًا أعجميًا، أما سمعت الله يقول: (أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعًا أو أشتاتا (فلا بأس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 559 أن يأكل الرجل من مال أخيه الشىء التافه ليسره بذلك. وروى ابن وهب عن مالك فى الرجل يدخل الحائط فيجد الثمر ساقطًا، قال: لا تأكل منه إلا أن تعلم أن صاحب الحائط طيب النفس به، أو يكون محتاجًا إلى ذلك فأرجو ألا يكون به بأس. 9 - بَاب إِذَا جَاءَ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ رَدَّهَا عَلَيْهِ لأَنَّهَا وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ / 10 - فيه: زَيْد، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: (عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ. . . . .) ، الحديث. أجمع أئمة الفتوى على أن صاحب اللقطة إذا جاء بعد الحول أن الذى وجدها يلزمه ردها إليه؛ لقوله عليه السلام: (فإن جاء صاحبها فأدها إليه) وقد ذكرنا قبل هذا أن بعض من نسب إلى العلم وحظه من أن يوسم بمخالفة الأئمة خالف إجماعهم فى اتباع هذا الحديث، وخالف قوله عليه السلام: (فأدها إليه) وقال: لا يؤدى إليه شيئًا بعد الحول استدلالا منه بقوله عليه السلام: (فشأنك بها) ، قال: لأن هذا إطلاق منه عليه السلام على ملكها فلا يلزمه تأديتها. وهذا قول يؤدى إلى تناقض السنن، وقد جل الرسول عن أن يتناقض. وقوله عليه السلام: (فأدها إليه) فيه بيان وتفسير لقوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 560 عليه السلام: (فشأنك بها) ولو كان المراد بقوله: (فشأنك بها (إطلاق يده عليها، وسقوط ضمانها عنه؛ لبطلت فائدة قوله: (فأدها إليه (واستعمال الحديثين لفائدتين أولى من إسقاط أحدهما، هذه طريقة العلماء فى التأليف بين الآثار، والقضاء بالمجمل على المفسر. واختلفوا هل للواجد بعد الحول أن يأكلها أو يتصدق بها فروى عن على وابن عباس أنه يتصدق بها ولا يأكلها، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والشعبى، وإليه ذهب الثورى، وقال أبو حنيفة: لا يأكلها الغنى، إلا أن يكون فقيرًا فيأكلها، ثم إن جاء صاحبها ضمنها، وروى ابن القاسم عن مالك انه استحب له أن يتصدق بها وروى عنه ابن وهب أنه إن شاء أمسكها، وإن شاء استنفقها، وإن شاء تصدق بها، فإن جاء صاحبها أداها إليه. وروى مثل هذا عن عمر وابن مسعود وابن عمر وعائشة، وهو قول عطاء، وبه قال الشافعى وأحمد وإسحاق. وقوله عليه السلام - بعد الحول -: (ثم استنفق بها) حجة لمن قال: يصنع ما شاء من صدقة بها، أو أكل، أو غيره لعموم قوله عليه السلام: (استنفق بها) ولم يخص وجهًا يستنفقها فيه من غيره، وأيضًا فإنه عليه السلام لما قال: (استنفق بها) ولم يفرق بين الغنى والفقير دل على قول أبى حنيفة. وإنما لم يذكر البخارى فى هذا الباب رواية سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد أنه قال: وكانت وديعة عنده. وذكرها فى باب ضالة الغنم؛ لأنه قد بين سليمان فى الحديث أن يحيى بن سعيد قال: عن يزيد قال: لا أدرى أفى حديث النبى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 561 - عليه السلام - هو أم من عنده. فاستراب البخارى بهذا الشك، وترجم بالمعنى ولم يذكره فى الحديث؛ لأنه استغنى بقوله: (فأدها إليه) عن قوله: (وكانت وديعة عنده) . - بَاب هَلْ يَأْخُذُ اللُّقَطَةَ وَلاَ يَدَعُهَا حَتَّى تَضِيعُ وَيَأْخُذَهَا مَنْ لاَ يَسْتَحِقُّ / 11 - فيه: سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ، كُنْتُ مَعَ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ فِى غَزَاةٍ، فَوَجَدْتُ سَوْطًا، فَقَالاَ لِى: أَلْقِهِ، فَقُلْتُ: لاَ، وَلَكِنْ إِنْ وَجَدْتُ صَاحِبَهُ، وَإِلاَ اسْتَمْتَعْتُ بِهِ، فَلَمَّا رَجَعْنَا حَجَجْنَا، فَمَرَرْتُ بِالْمَدِينَةِ، فَسَأَلْتُ أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقَالَ: وَجَدْتُ صُرَّةً عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ، فَأَتَيْتُ بِهَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (عَرِّفْهَا حَوْلاً) ، فَعَرَّفْتُهَا حَوْلاً، ثُمَّ أَتَيْتُ، فَقَالَ: (عَرِّفْهَا حَوْلاً) ، فَعَرَّفْتُهَا حَوْلاً، ثُمَّ أَتَيْتُهُ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: (اعْرِفْ عِدَّتَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلاَ اسْتَمْتِعْ بِهَا) . اختلف العلماء فى اللقطة هل أخذها أفضل أم تركها؟ فكرهت طائفة أخذها، ورأوا تركها أفضل، روى ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وهو قول عطاء، وروى ابن القاسم عن مالك أنه كره أخذ اللقطة والآبق، فإن أخذ ذلك وضاعت اللقطة وأبق الآبق من غير تضييعه لم يضمن، وكره أحمد بن حنبل أخذ اللقطة أيضًا. وقالت طائفة: أخذها وتعريفها أفضل من تركها. هذا قول سعيد بن المسيب، وقال أبو حنيفة وأصحابه: تركها سبب لضياعها. وبه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 562 قال الشافعى، وروى عن مالك: إن كان شىء له بال فأخذه وتعريفه أحب إلى. وحجة القول الأول حديث جرير أن النبى - عليه السلام - قال: (لا يأوى الضالة إلا ضال) وحديث الجارود أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (ضالة المؤمن حرق النار) . وحجة من رأى أن تعريفها أفضل قول النبى، عليه السلام، للذى سأله عن اللقطة: (أعرف عفاصها ووكاءها) ، فأمره بتعريفها ولم يقل له: لم أخذتها؟ وذلك دليل على أن الفضل فى أخذها وتعريفها لأن تركها عون على ضياعها ومن الحق النصيحة للمسلم، وأن يحوطه فى ماله بما أمكنه، وتأويل قوله عليه السلام: (لا يأوى الضالة إلا ضال) و (ضالة المؤمن حرق النار) أن المراد بذلك من لم يعرفها وأراد الانتفاع بها حتى لا تتضاد الأخبار. قال الطحاوى: ويدل على ذلك ما روى يحيى بن أيوب قال: حدثنى عمرو بن الحارث، أن بكر بن سوادة، حدثه عن أبى سالم الجيشانى، عن زيد بن خالد الجهنى قال: قال رسول الله: (من أوى الضالة فهو ضال ما لم يعرفها) . وروى شعبة عن خالد الحذاء، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن أبى مسلم، عن الجارود قال: (أتينا على رسول الله ونحن على إبل عجاف فقلنا: يا رسول الله، إنا نمر بالجدف فنجد إبلا فنركبها؟ فقال: ضالة المسلم حرق النار) فكان سؤالهم عن أخذها إنما هو لأن يركبوها، فأجابهم عليه السلام بأن قال: (ضالة المسلم حرق النار) ، أى: ضالة المسلم حكمها أن تحفظ على صاحبها حتى تؤدى إليه، لا لأن ينتفع بها لركوب ولا غيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 563 - بَاب مَنْ عَرَّفَ اللُّقَطَةَ وَلَمْ يَدْفَعْهَا إِلَى السُّلْطَانِ / 12 - فيه: زَيْد، أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ اللُّقَطَةِ، قَالَ: (عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِعِفَاصِهَا وَوِكَائِهَا، وَإِلاَ فَاسْتَنْفِقْ بِهَا. . .) ، الحديث. ولا يجب عند جماعة العلماء على ملتقط اللقطة إن لم تكن ضالة من الحيوان أن يدفعها إلى السلطان، وإنما معنى هذه الترجمة أن السنة وردت بأن واجد اللقطة هو الذى يعرفها دون غيره؛ لقوله عليه السلام: (عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) لأنهم اختلفوا فى الملتقط إن كان غير مأمون على اللقطة على قولين: أحدهما: أنه يعرفها سنة، وليس للسلطان أخذها منه. والثانى: أن للسلطان أخذها منه ويدفعها إلى ثقة يعرفها. واختلف قول الشافعى على هذين القولين، وأما حكم الضوال فإنها تحتاج إلى حرز ومؤنة، وهذا لا يكون إلا بحكم حاكم، ولهذا كانت تدفع ضوال الإبل على عمر وعثمان وسائر الخلفاء بعدهما. واختلفوا إذا التقط لقطة فضاعت عنده، فقال أبو حنيفة وزفر: إن أشهد أنه أخذها ليعرفها لم يضمنها إن هلكت، وإن لم يشهد ضمنها. واحتج بحديث عياض بن حمار أن النبى - عليه السلام - قال: (من التقط لقطة فليشهد ذوى عدل، ولا يكتم، ولا يغيب، فإن جاء صاحبها، وإلا فهو مال من مال الله يؤته من يشاء) ، رواه خالد الحذاء عن يزيد ابن الشخير، عن مطرف بن الشخير، عن، عياض، عن النبى - عليه السلام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 564 وقال مالك وأبو يوسف ومحمد والشافعى: لا ضمان عليه إن هلكت من غير تضييع منه وإن لم يشهد. وحجتهم إجماع العلماء أن المغصوبات لو أشهد الغاصب على نفسه أنه غصبها لم يدخلها إشهاده ذلك فى حكم الأمانات، فكذلك ترك الإشهاد على الأمانات لا يدخلها فى حكم المغصوبات ولا خلاف أن الملتقط أمين لا يضمن إلا بما تضمن به الأمانات من التعدى والتضييع. وأما حديث عياض بن حمار فمعناه: أن الملتقط إذا لم يعرف اللقطة ولم يشهدها وكتمها، ثم قامت عليه بينة أنه وجد لقطة وضمها إلى ماله ثم ادعى تلفها، أنه لا يصدق ويضمنها؛ لأنه بفعله ذلك خارج عن الأمانة، إلا أن تقوم البينة على تلفها، وأما إذا عرفها فى المحافل ولم يشهد فلا ضمان عليه. وقوله: (وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء) ، فإنه يريد انطلاق يد الملتقط عليها بعد الحول ثم يضمنها لصاحبها إن جاء بإجماع. - باب / 13 - فيه: أَبُو بَكْر، انْطَلَقْتُ، فَإِذَا أَنَا بِرَاعِى غَنَمٍ يَسُوقُ غَنَمَهُ، فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَسَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ، فَقُلْتُ: هَلْ فِى غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لِى؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرْتُهُ فَاعْتَقَلَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ ضَرْعَهَا مِنَ الْغُبَارِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ كَفَّيْهِ، فَقَالَ: هَكَذَا ضَرَبَ إِحْدَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 565 كَفَّيْهِ بِالأُخْرَى، فَحَلَبَ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، وَقَدْ جَعَلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِدَاوَةً عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ، فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ. قال المؤلف: سألت بعض شيوخى عن وجه استجازة أبى بكر الصديق لشرب اللبن من ذلك الراعى، فقال لى: يحتمل أن يكون النبى - عليه السلام - قد كان أذن له فى الحرب، وكانت أموال المشركين له حلالا فعرضته على المهلب بن أبى صفرة فقال لى: ليس هذا بشىء، لأن الحرب والجهاد إنما فرض بالمدينة، وكذلك المغانم إنما نزل تحليلها يوم بدر بنص القرآن. قال: وإنما شرب رسول الله وأبو بكر ذلك اللبن بالمعنى المتعارف عندهم فى ذلك الزمن من المكارمات، وبما استفهم به أبو بكر الراعى من أنه حالب أو غير حالب، ولو كان بمعنى الغنيمة ما استفهمه، ولحلب ما أراد الراعى أو كره، ولساق الغنم غنيمة، ولقتل الراعى إن شاء أو أخذه أسيرًا. والدليل على صحة هذا التأويل وأن شرب اللبن كان على وجه العادة عندهم ما ذكره أبو على البغدادى، قال: حدثنا أبو بكر بن دريد قال أبو عثمان السامدانى: عن الثورى، عن أبى عبيدة قال: مر رجل من أهل الشام بامرأة من كلب فقال لها: هل من لبن يباع؟ فقالت: إنك للئيم أو حديث عهد بقوم لئام، هل يبيع الرسل كريم أو يمنعه إلا لئيم؟ إنا لندع الكوم لأضيافنا تكوس إذا عكف الزمن الضروس ونغلى اللحم غريضًا ونهبته نضيجًا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 566 قال أبوعلى: الرسل: اللبن، وتكوس: تمشى على ثلاث، وتغلى: من الغلا. قال المهلب: وقد قال أخى أبو عبد الله: إن هذا الحديث لا يعارض قوله - عليه السلام -: (لا يحلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه) ، لأن هذا قاله عليه السلام لما علم أنه سيكون من التشاح وقله المواساة. قال المهلب: والحديث معناه: لا يهجمن أحدكم على ماشية غيره فيحلبها بغير إذنه أو غير إذن راعيها الذى له حكم العادات فيما استرعى فيه من المعروف، فكان بين الحديثين فرق يمنع من التعارض، فى حديث أبى بكر من الأدب والتنظف ما صنعه أبو بكر من أمره بنفض يدى الراعى، ونفض الضرع، وخدمته للنبى - عليه السلام - وإلطافه به ما يجب أن يتمثل به فى كل عالم وإمام عادل - والله الموفق - وقد ذكرت تفسير الكثبة فى هذا الحديث وفى كتاب الأشربة فى باب شرب اللبن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 567 بسم الله الرحمن الرحيم 40 - كِتَاب الْمَظَالِمِ وَالْغَصْبِ وَقَوْل اللَّهِ: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ (إلى) عزيز ذو انتقام) - بَاب قِصَاصِ الْمَظَالِمِ / 1 - فيه: أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِى الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِى الْجَنَّةِ أَدَلُّ بِمَسْكنه كَانَ فِى الدُّنْيَا) . وهذه المقاصة التى فى هذا الحديث هى لقوم دون قوم وهم من لا تستغرق مظالمهم جميع حسناتهم؛ لأنه لو استغرقت جميعها لكانوا ممن وجب لهم العذاب، ولما جاز أن يقال فيهم: خلصوا من النار، فمعنى الحديث - والله أعلم - على الخصوص لمن يكون عليه تبعات يسيرة. فالمقاصة أصلها فى كلام العرب مقاصصة، وهى مفاعلة، ولا تكون المفاعلة أبدًا إلا من اثنين، كالمقاتلة والمشاتمة، فكأن كل واحد منهم له الجزء: 6 ¦ الصفحة: 568 على أخيه مظلمة وعليه له مظلمة، ولم يكن فى شىء منها ما يستحق عليه النار فيتقاصون بالحسنات والسيئات، فمن كانت مظلمته أكثر من مظلمة أخيه أخذ من حسناته فيدخلون الجنة، ويقتطعون فيها المنازل على قدر ما بقى لكل واحد منهم من الحسنات، فلهذا يتقاصون بالحسنات بعد خلاصهم من النار - والله أعلم - لأن أحدًا لا يدخل الجنة ولأحد عليه تبعة، فإن قلت: إذا نقوا وهذبوا دخلوا الجنة. وقوله: (فوالذى نفس محمد بيده لأحدهم بمسكنه فى الجنة أدل بمنزله كان فى الدنيا) وإنما عرفوا منازلهم فى الجنة بتكرير عرضها عليهم بالغداة والعشى، فقد أخبرنا عليه السلام أن المؤمن إذا كان من أهل الجنة عرض عليه مقعده منها بالغداه والعشى، فيقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة. وقال المهلب: هذه المقاصة إنما تكون فى المظالم فى الأبدان من اللطمة وشبهها مما المظالم فيه ممكن لأداء القصاص فيه بحضور بدنه، فيقال للمظلوم: إن شئت أن تنتصف، وإن شئت أن تعفو للأجر. وقال غيره: الآثار تدل على أنه لا قصاص فى الآخرة فى العرض والمال وغيره إلا بالحسنات والسيئات، فمن ظلم غيره وكانت له حسنات أخذ منها وزيدت فى حسنات المظلوم، وإن لم يكن للظالم حسنات أخذ من سيئات المظلوم وردت على الظالم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 569 - بَاب قوله تَعَالَى: (أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( / 2 - فيه: ابْن عُمَرَ، سَمِعْتَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فِى النَّجْوَى؟ يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ يُدْنِى الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، أَىْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِى نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِى الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِق، فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: (هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ () . قال المهلب: فى هذا الحديث عظيم تفضل الله على عباده المؤمنين وستره لذنوبهم يوم القيامة، وأنه يغفر ذنوب من شاء منهم بخلاف قول من أنفذ الوعيد على أهل الإيمان؛ لأنه لم يستثن فى هذا الحديث عليه السلام ممن يضع عليه كنفه وستره أحدًا إلا الكفار والمنافقين، فإنهم الذين ينادى عليهم على رءوس الأشهاد باللعنة لهم. وسيأتى فى كتاب الأدب فى باب ستر المؤمن على نفسه حديث النجوى، وانقضاء الكلام فى معناه - إن شاء الله - وهذا الحديث حجة لأهل السنة فى قولهم: إن أهل الذنوب من المؤمنين لا يكفرون بالمعاصى كما زعمت الخوارج. وقوله تعالى: (ألا لعنة الله على الظالمين (أن المراد بالظلم هاهنا الكفر والنفاق كما ذكر فى الحديث، وليس كل ظالم يدخل فى معنى الآية ويستحق اللعنة؛ لأنه لا تكون عقوبة الكفر عند الله كعقوبة صغائر الذنوب، واللعن فى كلام العرب: الإبعاد من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 570 الله - تعالى - فدلت الآية أن الكلام ليس على العموم، وأنه يفتقر إلى ما يبين معناه، وهذا الحديث يبين أن قول الله: (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم (أن السؤال عن النعيم الحلال إنما هو سؤال تقرير وتوقيف له على نعمه التى أنعم بها عليه، ألا ترى أنه تعالى يوقفه على ذنوبه التى عصاه فيها، ثم يغفرها له، فإذا كان ذلك فسؤاله عباده عن النعيم الحلال أولى أن يكون سؤال تقرير لا سؤال حساب وانتقام. 3 - بَاب لاَ يَظْلِمُ الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَ وَلاَ يُسْلِمُهُ / 3 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِى حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ اللَّهُ فِى حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . قوله عليه السلام: (المسلم أخو المسلم) من قوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة (وقوله: (لا يظلمه ولا يسلمه) فإن الله حرم قليل الظلم وكثيره. وقوله: (لا يسلمه) مثل قوله عليه السلام: (انصر أخالك ظالمًا أو مظلومًا) وباقى الحديث حض على التعاون، وحسن التعاشر، والألفة، والستر على المؤمن، وترك التسمع به، والإشهار لذنوبه، وقد قال تعالى: (وتعانوا على البر والتقوى (وهذا حديث شريف يحتوى على كثير من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 571 آداب الإسلام، وفيه أن المجازاة قد تكون فى الآخرة من جنس الطاعة فى الدنيا. وقال ابن المنذر: ويستحب لمن اطلع من أخيه المسلم على عورة أو زلة توجب حدا، أو تعزيرًا، أو يلحقه فى ذلك عيب أو عار أن يستره عليه؛ رجاء ثواب الله، ويجب لمن بلى بذلك أن يستتر بستر الله، فإن لم يفعل ذلك الذى أصاب الحد، وأبدى ذلك للإمام وأقر بالحد لم يكن آثمًا؛ لأنا لم نجد فى شىء من الأخبار الثابتة عن النبى - عليه السلام - أنه نهى عن ذلك، بل الأخبار الثابتة دالة على أن من أصاب حدا وأقيم عليه فهو كفارته. 4 - بَاب أَعِنْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا / 4 - فيه: أَنَسَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا) ، قَيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا نصرُته مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: (تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَهِ) . والنصرة عند العرب: الإعانة والتأييد، وقد فسره رسول الله أن نصر الظالم منعه من الظلم؛ لأنه إذا تركته على ظلمه ولم تكفه عنه أداه ذلك إلى أن يقتص منه؛ فمنعك له مما يوجب عليه القصاص نصره، وهذا يدل من باب الحكم للشىء وتسميته بما يئول إليه، وهو من عجيب الفصاحة، ووجيز البلاغة، وفى الباب بعد هذا شىء من معنى هذا الباب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 572 5 - بَاب نَصْرِ الْمَظْلُومِ / 5 - فيه: الْبَرَاء، أَمَرَنَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ، فَذَكَرَ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعَ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتَ الْعَاطِسِ، وَرَدَّ السَّلاَمِ، وَنَصْرَ الْمَظْلُومِ، وَإِجَابَةَ الدَّاعِى، وَإِبْرَارَ الْمُقْسِمِ. / 6 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام: (الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) . نصر المظلوم فرض واجب على المؤمنين على الكفاية، فمن قام به سقط عن الباقين، ويتعين فرض ذلك على السلطان، ثم على كل من له قدرة على نصرته إذا لم يكن هناك من ينصره غيره من سلطان وشبهه. وأما عيادة المريض فهى سنة مرغب فيها، مندوب إليها، واتباع الجنائز من فروض الكفايات لمن قام بها، وتشميت العاطس قيل: إنه من فروض الكفايات، وقيل: إنه سنة، وإجابة الداعى سنة أيضًا، إلا أنه فى الوليمة آكد، وسيأتى ذلك فى بابه - إن شاء الله - وإبرار المقسم مندوب إليه إذا أقسم عليه فى مباح يستطيع فعله، فإن أقسم على ما لا يجوز ويشق على صاحبه لم يندب إلى الوفاء به. وسأذكر كلام الطبرى فى حديث البراء فى كتاب الاستئذان، فى باب إفشاء السلام، فقد تقصى القول فى معانية إن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 573 شاء الله، وفى كتاب النكاح فى إجابة دعوة الوليمة، وقد تقدم جملة منه فى كتاب الجنائز. 6 - بَاب الانْتِصَارِ مِنَ الظَّالِمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ (الآية) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا. قال: الانتصار من الظالم مباح بهذه الآية، روى ابن أبى نجيح عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم (فى الرجل يمر بالرجل فلا يضيفه فرخص له أن يقول فيه أنه لم يحسن ضيافته ويؤذيه بما فعل به. وقال عز وجل: (والذين إذا أصابهم البغى هم ينتصرون (وقال: (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل (فأباح الانتصار بهذه الآيات. وأما قول إبراهيم أنهم كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإن النبى - عليه السلام - قد روى عنه هذا المعنى، روى أنه استعاذ بالله من غلبة الرجال، واستعاذ من شماتة الأعداء، وقوله: (فإذا قدروا عفوا) ، فإن العفو أجل وأفضل؛ لما جاء فى ثوابه وعظيم أجره (صلى الله عليه وسلم) وقد أثنى الله - تعالى - على من فعل ذلك فقال: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور (وهذه السبيل امتثل النبى فى خاصة نفسه، فكان لا ينتقم لنفسه، ولا يتقص من جفا عليه ولم يوقره، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 574 وقد جفا عليه كثير من الأعراب، وقال له قائل: إنك ما عدلت منذ اليوم، فآثر عليه السلام الأخذ بالعفو ليسن لأمته. 7 - بَاب عَفْوِ الْمَظْلُومِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (،) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا (إلى قوله: (إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (. قد تقدم فى الباب قبل هذا أن العفو أفضل لما جاء فيه من الترغيب، وقد روى عن أحمد بن حنبل - رحمه الله - أنه قال: قد جعلت المعتصم بالله فى حل من ضربى وسجنى؛ لأنه حدثنى هاشم بن القاسم عن ابن المبارك قال: حدثنى من سمع الحسن البصرى يقول: إذا جثت الأمم بين يدى رب العالمين يوم القيامة نودى: ليقم من أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا فى الدنيا. يصدق هذا الحديث قوله تعالى: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين (وكان أحمد بن حنبل يقول: ما أحب أن يعذب الله بسببى أحدًا. وقال ابن الأنبارى: كان الحسن البصرى يدعو ذات ليلة: اللهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 575 اعف عمن ظلمنى، فأكثر فى ذلك، فقال له رجل: يا أبا سعيد، لقد سمعتك الليلة تدعو لمن ظلمك حتى تمنيت أن أكون فيمن ظلمك، فما دعاك إلى ذلك؟ قال: قوله تعالى: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله (. 8 - بَاب الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ / 7 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام: (الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . قال المهلب: هذه الظلمات لا نعرف كيف هى، إن كانت من عمى القلب أو هى ظلمات على البصر، والذى يدل عليه القرآن أنها ظلمات على البصر حتى لا يهتدى سبيلا، قال الله - تعالى -: (يوم يقوم المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا (إلى) بسور (. فدلت الآية أنهم حين منعوا النور بقوا فى ظلمة غشيت أبصارهم كما كانت أبصارهم فى الدنيا عليها غشاوة من الكفر، وقال تعالى فى المؤمنين: (يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم (فأثاب الله المؤمنين بلزوم نور الأيمان لهم، ولذذهم بالنظر إليه، وقوى به أبصارهم، وعاقب الكفار والمنافقين بأن أظلم عليهم، ومنعهم لذة النظر، هذا حديث مجمل بينه دليل القرآن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 576 9 - بَاب مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ عِنْدَ أحد فَحَلَّلَهَا لَهُ هَلْ يُبَيِّنُ مَظْلَمَتَهُ / 8 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، أَوْ شَىْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ) . قال المهلب: إن بين فهو أطيب وأصح فى التحلل؛ لأنه يعرف مقدار ما يحلله منه معرفة صحيحة، وقد اختلف العلماء فيمن كانت بينه وبين أحد معاملة وملابسة ثم حلل بعضهم بعضًا من كل ما جرى بينهما من ذلك، فقال قوم: إن ذلك براءة له فى الدنيا والآخرة وإن لم يبين مقداره. وقال آخرون: إنما تصح البراءة إذا بين له وعرف مال عنده أو قارب ذلك بما لا مشاحة فى مثله. قال المهلب: وهذا الحديث حجة لهذا القول؛ لأن قوله عليه السلام: (أخذ منه بقدر مظلمته) يدل أنه يجب أن يكون معلوم القدر مشارًا إليه. - بَاب الاتِّقَاءِ وَالْحَذَرِ مِنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ / 9 - فيه: ابْن عَبَّاس، بَعَثَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: (اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ) . قد فسر ذلك عمر فى حديث الحمى فقال: (اتق دعوة المظلوم فإنها مجابة) ، وقد روى ذلك عن النبى، روى ابن أبى شيبة قال: حدثنا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 577 الفضل بن دكين قال: حدثنا أبو معشر، عن سعيد بن أبى سعيد، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (دعوة المظلوم مجابة، وإن كان فاجرًا، فجوره على نفسه) . وقال عون بن عبدا لله: أربع دعوات لا ترد، ولا يحجبن عن الله: دعوة والد راض، وإمام مقسط، ودعوة مظلوم، ودعوة رجل دعا لأخيه بظهر الغيب. - بَاب إِذَا حَلَّلَهُ مِنْ ظُلْمِهِ فَلاَ رُجُوعَ / 10 - فيه: عَائِشَةَ،) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا (قَالَتِ: الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا، فَتَقُولُ: أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِى فِى حِلٍّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِى ذَلِكَ. العلماء متفقون أنه إذا حلله مما قد علم مبلغه، فإنه قد أبرأه، ولا رجوع له فيه، وروى عكرمة عن ابن عباس قال: (خشيت سودة بنت زمعة أن يطلقها النبى - عليه السلام - فقالت: يا رسول الله لا تطلقنى وأمسكنى واجعل يومى لعائشة، ففعل؛ فأنزل الله: (أن يصلحا بينهما صلحًا والصلح خير (فما اصطلحا عليه من شىء فهو جائز، فلم يكن لسودة الرجوع فى يومها الذى وهبت لعائشة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 578 - بَاب إِذَا أَذِنَ لَهُ أَوْ أَحَلَّهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ هُوَ / 11 - فيه: سَهْل، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، أُتِىَ بِشَرَابٍ، فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلاَمِ: (أَتَأْذَنُ لِى أَنْ أُعْطِىَ هَؤُلاَءِ؟) فَقَالَ الْغُلاَمُ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِى مِنْكَ أَحَدًا، قَالَ: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى يَدِهِ. قال المهلب: لو حلل الغلام فى نصيبه الأشياخ وأذن فى إعطائه لهم، لكان ما حلل منه غير معلوم لأنه لا يعرف مقدار ما كانوا يشربون ولا مقدار ما كان يشرب هو. وقد تقدم فى كتاب المياه فى باب من رأى صدقة الماء وهبته جائزة مقسومًا كان أو غير مقسوم، أن سبيل ما يوضع للناس للأكل والشرب سبيله المكارمة وقلة التشاح، وقد طابت نفوس أصحاب النبى فى سبى هوازن جملة، وقبل النبى - عليه السلام - ذلك التطييب، ولم يعرف مقدار ما كان بيد كل واحد منهم. وسيأتى فى كتاب الهبات فى آخر هذا الجزء فى باب الهبة المقسومة: الخلاف فى المسألة - إن شاء الله - والمعروف من مذهب مالك أن هبة المجهول جائزة، مثل أن يهب رجل نصيبه فى ميراث رجل أو نصيبه فى دار لا يدرى مقداره، وكذلك كل ما لا يؤخذ عليه عوض فهبته عنده جائزة. - بَاب إِثْمِ مَنْ ظَلَمَ شَيْئًا مِنَ الأَرْضِ / 12 - فيه: سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَنْ ظَلَمَ مِنَ الأَرْضِ شَيْئًا، طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 579 / 13 - وفيه: أَبُو سَلَمَة، أَنَّهُ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُنَاسٍ خُصُومَةٌ،، فَقَالَتْ عَائِشَة: يَا أَبَا سَلَمَةَ، اجْتَنِبِ الأَرْضَ فَإِنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ، طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ) . / 4 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ عليه السَّلام: (مَنْ أَخَذَ مِنَ الأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ، خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ) . قال المؤلف: قد جاء عن النبى كيف صورة هذا التطويق، ذكره الطبرى قال: حدثنا سيفان بن وكيع قال: حدثنا حسين ابن على، عن زائدة، عن الربيع، عن أيمن أبى ثابت - أو ابن أبى ثابت - قال: حدثنى يعلى بن مرة الثقفى قال: سمعت النبى - عليه السلام - يقول: (أيما رجل ظلم شبرًا من الأرض كلفه الله أن يحفره حتى يبلغ آخر سبع أرضين، ثم يطوقه يوم القيامة حتى يقضى بين الناس) . ورواه الشعبى عن أيمن، عن يعلى بن مرة، عن النبى وقال فيه: (من سرق شبلاً من أرض أو غله جاء يحمله يوم القيامة على عنقه إلى سبع أرضين) . ورواه مروان بن معاوية الفزارى، حدثنا أبو يعقوب، حدثنا أيمن ثنا يعلى بن مرة قال: سمعت النبى - عليه السلام - يقول: (من أخذ أرضًا بغير حقها كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر) . قال المهلب: ومعنى قوله: (خسف به) أنه يلج فى سبع أرضين فتكون كلها فى عنقه، فهو تطويق له. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 580 - بَاب إِذَا أَذِنَ إِنْسَانٌ لآخَرَ شَيْئًا جَازَ له / 15 - فيه: جَبَلَةَ، كُنَّا بِالْمَدِينَةِ فِى بَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَأَصَابَتنَا سَنَةٌ، فَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَرْزُقُنَا التَّمْرَ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمُرُّ بِنَا فَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنِ الإِقْرَانِ، إِلاَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ أَخَاهُ. / 16 - وفيه: أَبُو مَسْعُود، أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ لَهُ غُلاَمٌ لَحَّامٌ، فَقَالَ لَهُ: اصْنَعْ لِى طَعَامَ خَمْسَةٍ، لَعَلِّى أَدْعُو النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَأَبْصَرَ فِى وَجْهِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، الْجُوعَ فَدَعَاهُم، فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ لَمْ يُدْعَ، فَقَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ هَذَا قَدِ اتَّبَعَنَا، أَتَأْذَنُ لَهُ) ؟ قَالَ: نَعَمْ. لا يكون الإذن إلا فيما يملكه الذى أذن فيه، كما أذن صاحب اللحم للرجل الذى جاء مع النبى - عليه السلام - فجاز له الأكل من ذلك الطعام، وكما أجاز النبى - عليه السلام - القران فى التمر إذا أذن فيه أصحابه الذين وضع بين أيديهم؛ لأنهم متساون فى الاشتراك فى أكله، فإذا استأثر أحدهم بأكثر من صاحبه لم يجز له؛ لما فى ذلك من الاستئثار بما لا تطيب عليه نفس صاحب الطعام، ولا أنفس الذين وضع بين أيديهم، إلا أن ما وضع للناس فسبيله سبيل المكارم لا سبيل التشاح، وإن تفاضلوا فى الأكل. - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام ( / 17 - فيه: عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الْخَصِمُ) . قال: هذا الحديث أدخله العلماء فى تفسير قوله تعالى: (وهو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 581 ألد الخصام (قال أهل اللغة: الألد هو العسير الخصومة الشديد الحرب. وقد ذمه الله - تعالى - لمدافعته من الحق ما يعلمه وتشهد به نفسه، قال الله تعالى: (ومن الناس من يعجبك قوله فى الحياة الدنيا ويشهد الله على ما فى قلبه وهو ألد الخصام (وقد ترجم بهذه الترجمة فى كتاب الأحكام. - بَاب إِثْمِ مَنْ خَاصَمَ فِى بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ / 18 - فيه: أُمَّ سَلَمَةَ، أن النَّبِىّ، عليه السَّلام، سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِى الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَدَقَ فَأَقْضِىَ لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ، فَإِنَّمَا هِىَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ يَتْرُكْهَا) . قال المهلب: هذا يدل أن القوى على البيان البليغ فى تأدية الحجة قد يغلب بالباطل من أجل بيان، فيقضى له على خصمه، وليس ذلك بمحل ما حرم عليه؛ لقوله عليه السلام: (فإنما هى قطعة من الناس) وهذا هو معنى قوله تعالى: (وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقًا من أموال الناس بالإثم (. ذلك، وسيأتى هذا الحديث وما فيه من انتزاع العلماء فى كتاب الأحكام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 582 - بَاب إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ / 19 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، كَانَ مُنَافِقًا - أَوْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ - كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ) . الفجور: الكذب والريبة، وذلك حرام، ألا ترى أن النبى - عليه السلام - قد جعل ذلك خصلة من النفاق، وليس هو بنفاق يخرج من الإيمان، وإنما أراد عليه السلام أن من كانت فيه هذه الخلال أو واحدة منها، فإنه منافق فيها خاصة، وليس بمنافق فى غيرها من دينه مما صح فيه اعتقاده ويقينه. وإنما أطلق اسم النفاق على صاحب هذه الخلال؛ لأنها تغلب على أحوال المرء، وتستولى على أكثر الأفعال، فاستحق هذه التسمية بما غلب عليه من قبيح أفعاله، ومشابهته فيها المنافقين والكفار، فوصف بصفتهم تقبيحًا لحاله، ومجانبته أفعال المؤمنين - أعاذنا الله من ذلك - وقد تقدم بيان هذا المعنى فى كتاب الإيمان. - بَاب قِصَاصِ الْمَظْلُومِ إِذَا وَجَدَ مَالَ ظَالِمِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ يُقَاصُّهُ، وَقَرَأَ: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ (الآية . / 20 - فيه: عَائِشَةَ، جَاءَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، إِلىَ النَّبىِّ عَلَيهِ السَّلاَم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 583 فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَىَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنِ الَّذِى لَهُ عِيَالَنَا؟ فَقَالَ: (لاَ حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ بِالْمَعْرُوفِ) . / 21 - وفيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قُلْنَا لِلنَّبِىِّ عليه السَّلام: إِنَّكَ تَبْعَثُنَا، فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لاَ يَقْرُونَا فَمَا تَرَى فِيهِ؟ فَقَالَ لَنَا: (إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ، فَأُمِرَ لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِى لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا، فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ) . اختلف العلماء فى الذى يجحد وديعة غيره، ثم يجد المودع له مالا، هل يأخذه عوضًا من حقه أم لا؟ . اختلف قول مالك فى ذلك، فروى ابن القاسم عن مالك أنه لا يفعل، واحتج بما روى عن النبى أنه قال: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) . وروى زياد عن مالك أن له أن يأخذ حقه إذا وجده من ماله إذا لم يكن فيه شىء من الزيادة، وهو قول الشافعى واحتج بحديث هند. وروى ابن وهب عن مالك أنه إذا لم يكن على الجاحد للمال دين فله أن يأخذ مما يظفر له به من المال حقه، فإن كان عليه دين فليس له أن يأخذ إلا بمقدار ما يكون فيه أسوة الغرماء. وقال أبو حنيفة: يأخذ من الذهب الذهب، ومن الفضة الفضة، ومن المكيل المكيل ومن الموزون الموزون، ولا يأخذ غير ذلك. وقال زفر: له أن يأخذ العرض بالقيمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 584 وأولى الأقوال بالصواب فى ذلك قول من أجاز الانتصاف من حقه إذا وجد مال من ظلمه بدلالة الآية، ودلالة حديث هند، ألا ترى أن النبى - عليه السلام - أجاز لها أن تطعم عيلة زوجها من ماله المعروف، عوض ما قصر فيه من إطعامهم، فدخل فى معنى ذلك كل من وجب عليه حق ولم يوفه أو جحده أنه يجوز له الاقتصاص منه، وليس قوله عليه السلام: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) بمخالف لهذا المعنى؛ لأن من أخذ حقه فلا يسمى خائنًا. وقوله: (أد الأمانة إلى من ائتمنك) معناه الخصوص، فكأنه قال: أد الأمانة إلى من ائتمنك إذا لم يكن غاصبًا لمالك ولا جاحدًا له، وأما من غصبك حقك وجحدك فليس يدخل فيمن أمر بأداء الأمانة إليه؛ لقوله تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به (ولدلالة حديث هند، وهذا التأويل ينفى التضاد عن الآثار ودليل القرآن. وأما حديث عقبة بن عامر فقال أكثر العلماء أنه كان فى أول الإسلام، حين كانت المواساة واجبة، وهو منسوخ بقوله عليه السلام: (جائزته يوم وليلة) قالوا: والجائزة تفضل وليست بواجبة، وستأتى مذاهب العلماء فى الضيافة فى كتاب الأدب فى باب إكرام الضيف - إن شاء الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 585 - بَاب مَا جَاءَ فِى السَّقَائِفِ وَجَلَسَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابُهُ فِى سَقِيفَةِ بَنِى سَاعِدَةَ (1) / 22 - فيه: عُمَرَ، قَالَ حِينَ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ الأَنْصَارَ اجْتَمَعُوا فِى سَقِيفَةِ بَنِى سَاعِدَةَ، فَقُلْتُ لأَبِى بَكْرٍ: انْطَلِقْ بِنَا فَجِئْنَاهُمْ فِى سَقِيفَةِ بَنِى سَاعِدَةَ. قال: السقائف والحوانيت قد علم الناس ما وضعت له، ومن اتخذ فيها مجلسًا فذلك مباح له إذا التزم ما جاء فى ذلك من غض البصر، ورد السلام، وهداية الضال، وجميع شروطه. - بَاب لاَ يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِى جِدَارِهِ / 23 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لاَ يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِى جِدَارِهِ) ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا لِى أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ، وَاللَّهِ لاَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ. قال أبو جعفر الطحاوى: حدثنى روح بن الفرج قال: سألت أبا زيد والحارث بن هشام ويونس بن عبد الأعلى كيف لفظ: (أن يغرز خشبة فى جداره؟) ، فقالوا جميعًا: خشبة بالنصب والتنوين على خشبة واحدة. واختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة: هو على الوجوب إذا لم يكن فى ذلك مضرة على صاحب الجدار، وهو قول الشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور. وذهب مالك والكوفيون إلى أنه لايغرز خشبة فى حائط أحد إلا بإذن صاحب الحائط، ومجمل الحديث عندهم على الندب، والحجة لهم قول الرسول: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 586 وأنه لا يجوز لأحد أن يجبر أحدًا على أن يفعل فى ملكه ما يضر به، وقد قال عليه السلام: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه) قالوا: فعلمنا أن قوله: (لا يمنع جاره أن يغرز خشبة فى جداره) محمول على الندب وحسن المجاورة لا على الوجوب، وهو كقوله: (ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) وكقوله: (ما آمن من بات شبعان وجاره طاو) . قالوا: ولو كان الحديث معناه الوجوب ما جهل الصحابة تأويله، ولا كانوا معرضين عن أبى هريرة حين كان يحدثهم بهذا الحديث، وإنما جاز لهم ذلك لتقرر الأعمال والأحكام عندهم بخلافه، ولا يجوز عليهم جهل الفرائض، فدل ذلك أن معناه على الندب، وفى هذا دليل أن تأويل الأحاديث على ما تلقاها عليه الصحابة، لا على ظواهرها. قال المهلب: ولو بلغ من اجتهاد حاكم أن يحكم به لنفذ حكمه بما حض النبى عليه أمته من ذلك، كما حكم عمر على ابن مسلمة فى تحويل الساقية إلى جنبه، وسئل ابن القاسم عن رجل كانت له خشبة فى حائط أدخلها بإذنه، ثم إن الذى له الحائط وقع بينه وبين الذى له الخشبة شحناء، فقال له: أخرج خشبتك من حائطى. قال مالك: ليس له أن يخرجها على وجه الضرر، ولكن ينظر فى ذلك فإن احتاج الرجل إلى حائطه لهدمه فهو أولى به، وروى ابن عبد الحكم عنه أنه قال: وإن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 587 أراد بيع داره فقال: انزع خشبك. فليس له ذلك. وقال مطرف وابن الماجشون: لا يقلع الخشب أبدًا وإن احتاج صاحب الجدار إلى جداره. - بَاب صَبِّ الْخَمْرِ فِى الطَّرِيقِ / 24 - فيه: أَنَس، قَالَ: كُنْتُ سَاقِىَ الْقَوْمِ فِى مَنْزِلِ أَبِى طَلْحَةَ، وَكَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُنَادِيًا يُنَادِى: أَلاَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، قَالَ: فَقَالَ لِى أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا، فَخَرَجْتُ فَأَهْرَقْتُهَا، فَجَرَتْ فِى سِكَكِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: قَدْ قُتِلَ قَوْمٌ، وَهِىَ فِى بُطُونِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا (الآيَةَ. قال المهلب: إنما جاز هرق الخمر فى الطرق للسمعة، بهرقها والتشنيع، والائتمار لله فى رفضها والإعلان بنبذها، ولولا ذلك ما حسن هرقها فى الطريق، من أجل أذى الناس فى ممشاهم، ونحن نمنع من إراقة الماء الطاهر فى الطريق من أجل أذى الناس فى ممشاهم فكيف بالخمر. - بَاب أَفْنِيَةِ الدُّورِ وَالْجُلُوسِ فِيهَا وَالْجُلُوسِ عَلَى الصُّعُدَاتِ / 25 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام: (إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ) ، فَقَالُوا: مَا لَنَا بُدٌّ إِنَّمَا هِىَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 588 فِيهَا، قَالَ: (فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَ الْمَجَالِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا) ، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: (غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْىٌ عَنِ الْمُنْكَرِ) . قال الطبرى وغيره: فيه من الفقه وجوب غض البصر عن النظر إلى عورة مؤمن ومؤمنة، وعن جميع المحرمات، وكل ما تخشى الفتنة منه، وقد قال عليه السلام: (لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة) . وفيه: وجوب رد السلام على من سلم عليه، ولزوم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وكف الأذى، وقد روى عمر بن الخطاب هذا الحديث عن النبى - عليه السلام - وزاد فيه: (إغاثة الملهوف) قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وفيه قطع الذرائع؛ لأن الجلوس ذريعة إلى تسليط البصر، وقلة القيام بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فلذلك نهى عنه. قال المهلب: وإنما يلزم المؤمن تغيير المنكر، وإغاثة الملهوف، وعون الضعيف ما دفعت الحضرة إليه، وليس عليه طلب ذلك، إنما عليه ما حضر منها. قال الطبرى: وفيه الدلالة على الندب إلى لزوم المنازل التى يسلم لازمها من رؤية ما يكره رؤيته، وسماع ما لا يحل له سماعه، مما يجب عليه إنكاره ومن معاونة مستغيث يلزمه إعانته، وذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 589 أن الرسول إنما أذن فى الجلوس بالأفنية والطرق بعد نهيه عنه إذا كان من يقوم بالمعانى التى ذكرها عليه السلام. وإذا كان ذلك كذلك بالأسواق التى تجمع المعانى التى أمر النبى - عليه السلام - الجالس بالطريق باجتنابها مع الأمور التى هى أوجب منها وألزم من ترك الكذب والحلف بالباطل وتحسين السلع بما ليس فيها، وغش المسلمين، وغير ذلك من المعانى التى لا يطيق القيام بما يلزمه فيها إلا من عصمه الله أحق وأولى بترك الجلوس فيها من الأفنية والطرق، وقد روى نحو قولنا عن جماعة من أهل العلم، روى هشام بن عروة، عن عبد الله بن الزبير قال: المجالس حلق الشيطان، إن يروا حقا لا يقوموا به، وإن يروا باطلا فلا يدفعوه. وقال عامر: كان الناس يجلسون فى مساجدهم، فلما قتل عثمان خرجوا إلى الطريق يسألون عن الأخبار. وقال سلمان: لا تكونن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فإنها معركة الشيطان، وبها ينصب رايته. وقال: السوق مبيض الشيطان ومفرخه. وقد يرخص فى الجلوس بالأفنية والطرق والأسواق قوم من أهل الفضل والعلم، ولعلهم إنما فعلوا ذلك؛ لأنهم قاموا بما عليهم فيه. قال أبو طلحة بن عبيد الله: مجلس الرجل بيان مروءة. وقال ابن عوف: مررت بعامر وهو جالس بفنائه. وقال ابن أبى خالد: رأيت الشعبى جالسًا فى الطريق. والصعدات: الطرق، عن صاحب العين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 590 - بَاب الآبَارِ عَلَى الطُّرُقِ إِذَا لَمْ يُتَأَذَّ بِهَا / 26 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ عَلَيْهِ السَّلاَم قَالَ: (بَيْنَا رَجُلٌ بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ. . . .) الحديث. قال المهلب: هذا يدل أن حفر الآبار بحيث يجوز للحافر حفرها من أرض مباحة أو مملوكة له جائز، ولم يمنع ذلك لما فيه من البركة وتلافى العطشان، ولذلك لم يكن ضمانًا؛ لأنه قد يجوز مع الانتفاع بها أن يستضر بها ساقط بليل فيها أو تقع فيها ماشية، لكنه لما كان ذلك نادرًا وكانت المنفعة بها أكثر غلب حال الانتفاع على حال الاستضرار؛ فكانت جبارًا لا دية لمن هلك فيها. - بَاب إِمَاطَةِ الأَذَى وَقَالَ هَمَّامٌ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، (تُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ) . قال المؤلف: قول أبى هريرة: (تميط الأذى عن الطريق صدقة) ليس هو من رأيه؛ لأن الفضائل لا تدرك بقياس، وإنما تؤخذ توقيفًا عن النبى - عليه السلام - وقد أسند مالك معناه من حديث أبى هريرة عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (بينما رجل يمشى بطريق إذا وجد غصن شوك على الطريق فأخره؛ فشكر الله له فغفر له) . فإن قيل: كيف تكون إماطة الأذى عن الطريق صدقة؟ قيل: معنى الصدقة إيصال النفع إلى المتصدق عليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 591 فأما إماطة الأذى عن الطريق فقد تسبب إلى سلامة أخيه المسلم من ذلك الأذى، فكأنه قد تصدق عليه بالسلامة منه، فكان له على ذلك أجر الصدقة، وهذا كما جعل عليه السلام الإمساك عن الشر صدقة على نفسه. وإماطة الأذى وكل ما أشبهه حض على الاستكثار من الخير وأن لا يستقل منه شىء، وقد قال عليه السلام لأبى تميمة الهجيمى: (لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تضع من دلوك فى إناء المستقى) . - بَاب الْغُرْفَةِ وَالْعُلِّيَّةِ الْمُشْرِفَةِ فِى السُّطُوحِ وَغَيْرِهَا / 27 - فيه: أُسَامَةَ، أَشْرَفَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ قَالَ: (هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ إِنِّى أَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلاَلَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ) . / 28 - وفيه ابْن عَبَّاسٍ، لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، اللَّتَيْنِ، قَالَ اللَّهُ لَهُمَا: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا (فَحَجَجْتُ مَعَه، فَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِالإِدَاوَةِ، فَتَبَرَّزَ حَتَّى جَاءَ، فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الإِدَاوَةِ، فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنِ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) اللَّتَانِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمَا: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا (؟ فَقَالَ: وَا عَجَبِى لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ عُمَرُ الْحَدِيثَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 592 يَسُوقُهُ، فَقَالَ: إِنِّى كُنْتُ وَجَارٌ لِى مِنَ الأَنْصَارِ فِى بَنِى أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَهِىَ مِنْ عَوَالِى الْمَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَيَنْزِلُ يَوْمًا، وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الأَمْرِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَهُ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأَنْصَارِ إِذَا هُمْ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ، فَصِحْتُ عَلَى امْرَأَتِى، فَرَاجَعَتْنِى، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِى، فَقَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ، فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ليُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ، فَأَفْزَعَنِى، فَقُلْتُ: خَابَتْ مَنْ فَعَلَ مِنْهُنَّ بِعَظِيمٍ، ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَىَّ ثِيَابِى، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: أَىْ حَفْصَةُ، أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: خَابَتْ وَخَسِرَتْ، أَفَتَأْمَنُ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) فَتَهْلِكِينَ، لاَ تَسْتَكْثِرِى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلاَ تُرَاجِعِيهِ فِى شَىْءٍ، وَلاَ تَهْجُرِيهِ، وَاسْأَلِينِى مَا بَدَا لَكِ، وَلاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكَ هِىَ أَوْضَأَ مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، يُرِيدُ عَائِشَةَ، وَكُنَّا تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ النِّعَالَ لِغَزْوِنَا، فَنَزَلَ صَاحِبِى يَوْمَ نَوْبَتِهِ، فَرَجَعَ عِشَاءً، فَضَرَبَ بَابِى ضَرْبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: أَنَائِمٌ هُوَ؟ فَفَزِعْتُ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، وَقَالَ: حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، قُلْتُ: مَا هُوَ أَجَاءَتْ غَسَّانُ؟ قَالَ: لاَ، بَلْ أَعْظَمُ مِنْهُ وَأَطْوَلُ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 593 طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نِسَاءَهُ، قَالَ: قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ، كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ، فَجَمَعْتُ عَلَىَّ ثِيَابِى، فَصَلَّيْتُ صَلاَةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَدَخَلَ مَشْرُبَةً لَهُ، فَاعْتَزَلَ فِيهَا، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَإِذَا هِىَ تَبْكِى، قُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ، أَوَلَمْ أَكُنْ حَذَّرْتُكِ، أَطَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَتْ: لاَ أَدْرِى هُوَ ذَا فِى الْمَشْرُبَةِ، فَخَرَجْتُ، فَجِئْتُ الْمِنْبَرَ، فَإِذَا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِى بَعْضُهُمْ، فَجَلَسْتُ مَعَهُمْ قَلِيلاً، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَجِدُ، فَجِئْتُ الْمَشْرُبَةَ الَّتِى هُوَ فِيهَا، فَقُلْتُ لِغُلاَمٍ لَهُ أَسْوَدَ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ فَكَلَّمَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: ذَكَرْتُكَ لَهُ، فَصَمَتَ فَانْصَرَفْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَجِدُ، فَجِئْتُ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْغُلاَمَ، فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ مُنْصَرِفًا، فَإِذَا الْغُلاَمُ يَدْعُونِى، قَالَ: أَذِنَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ، قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ، مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ: طَلَّقْتَ نِسَاءَكَ، فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَىَّ، فَقَالَ: (لاَ) ، ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَنِى وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى قَوْمٍ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَذَكَرَهُ فَتَبَسَّمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ قُلْتُ: لَوْ رَأَيْتَنِى وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: لاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِىَ أَوْضَأَ مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، يُرِيدُ عَائِشَةَ، فَتَبَسَّمَ أُخْرَى، فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ تَبَسَّمَ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 594 ثُمَّ رَفَعْتُ بَصَرِى فِى بَيْتِهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلاَثَةٍ، فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ، فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا الدُّنْيَا، وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقَالَ: (أَوَفِى شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَغْفِرْ لِى، فَاعْتَزَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ حِينَ أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ، وَكَانَ قَدْ قَالَ: مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حِينَ عَاتَبَهُ اللَّهُ، فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَبَدَأَ بِهَا، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: إِنَّكَ أَقْسَمْتَ أَنْ لاَ تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا، وَإِنَّا أَصْبَحْنَا لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهَا عَدًّا، فَقَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ) ، وَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأُنْزِلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ، فَبَدَأَ بِى أَوَّلَ امْرَأَةٍ، فَقَالَ: (إِنِّى ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا وَلاَ عَلَيْكِ أَنْ لاَ تَعْجَلِى حَتَّى تَسْتَأْمِرِى أَبَوَيْكِ) ، قَالَتْ: قَدْ أَعْلَمُ أَنَّ أَبَوَىَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِى بِفِرَاقِكَ، ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ (، إِلَى قَوْلِهِ: (عَظِيمًا (قُلْتُ: أَفِى هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَىَّ، فَإِنِّى أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ، ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ، فَقُلْنَ: مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ. الغرف والسطوح وغيرها مباحة ما لم يطلع منها على حرمة أحد أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 595 عورة له، قال المهلب: وفى حديث ابن عباس الحرص على العلم وخدمة الرجل الشريف للسلطان والعالم، وأنه لا ضعة عليه فى خدمته، وفيه الكلام فى العلم على كل حال، فى المشى والطرق والخلوات، فأما قوله: (واعجبًا لك) عجب من حرصه على سؤاله عما لا ينتبه إليه إلا الحريص على العلم من تفسير ما لا محكم فيه من القرآن. وقوله: (استقبل عمر الحديث) فيه أن المحدث قد يأتى بالحديث على وجهه ولا يختصره؛ لأنه قد كان يكتفى حين سأله ابن عباس عن المرأتين بما أخبره به من قوله: (عائشة وحفصة) . وقوله: (كنا نغلب النساء) يريد أن شدة المواطأة على النساء مذموم؛ لأن النبى سار بسيرة الأنصار فيهن وترك سيرة قومه قريش، وفيه موعظة الرجل ابنته وإصلاح خلقها لزوجها، وفيه الحزن والبكاء لأمور رسول الله وما يكرهه، والاهتمام بما يهمه، وفيه الاستئذان والحجابة للناس كلهم كان مع المستأذن عليه عيال أو لم يكن، وفيه الانصراف بغير صرف من المستأذن عليه. ومن هذا الحديث قال بعض العلماء: إن السكوت يحكم به كما حكم عمر بسكوت النبى عن صرفه له، وفيه التكرير بالاستئذان، وفيه أن للسلطان أن يأذن أو يسكت أو يصرف، وفيه تقلل النبى من الدنيا، وصبره على مضض ذلك، وكانت له عنه مندوحة، وفيه أنه يسئل السلطان عن فعله إذا كان ذلك مما يهم أهل طاعته، وفى قول النبى لعمر: (لا) رد لما أخبر به الأنصارى من طلاق نسائه، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 596 ولم يخبر عمر بما أخبر به الأنصارى ولا شكاه، لعلمه أنه لم يقصد للأخبار بخلاف القصة، وإنما هو وهم جرى عليه. وفى قوله: (أستأنس) استنزال السلطان والاستئناس بين يديه بالحديث، وأخذ إذنه فى الكلام، وفى تبسم النبى لعمر حين ذكر غلبة قريش لنسائها وتحكم نساء الأنصار عليهم: دليل أن المعنيين ليسا بمحرمين، وفيه الجلوس بين يدى السلطان وإن لم يأمر بذلك إذا استؤنس منه إلى انبساط خلق. وفيه: أنه لا يجب أن يتسخط أحد حاله ولا ما قسم الله له، ولا يستحقر نعمة الله عنده، ولا سابق فضله؛ لأنه يخاف عليه ضعف يقينه، وفيه أن المتقلل من الدنيا ليرفع طيباته إلى دار البقاء خير حالا ممن تعجلها فى الدنيا الفانية، والمتعجل لها أقرب إلى السفه، وفيه الاستغفار من السخط وقله الرضا، وفيه سؤال النبى (صلى الله عليه وسلم) الاستغفار، وكذلك يجبب أن يسأل أهل الفضل والخير الدعاء والاستغفار. وفيه: أن المرأة تعاقب على إفشاء سر زوجها، وعلى التحيل عليه بالأذى، والمنع من موافقته وشهواته بالتوبيخ لها بالقول، كما وبخ الله أزواج النبى على تظاهرهما عليه وإفشاء سره، وعاقبهن النبى بالإيلاء والاعتزال والهجران كما قال تعالى: (واهجروهن فى المضاجع (وفيه أن الشهر يكون تسعة وعشرين يومًا، فإنما يجرى فيه على الأهلة التى جعلها الله مواقيت للناس فى آجالهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 597 وفيه: الرجل إذا قدم من سفر أو طرأ على أزواجه أن يبدأ بمن شاء منهن، وأنه ليس عليه أن يبدأ من حيث بلغ قبل الخروج وفى نقض رتبة الدوران وابتدائه من حيث بدأ دليل أن القسمة بين النساء فيها توسعة، ويدل على ذلك قوله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل (ومن أبيح له بعض الميل فقد رخص له فى التقصير عن العدل فى القسمة، وفيه أن المرأة الرشيدة لا بأس أن تشاور أبويها وذا الرأى من أهلها فى أمر نفسها ومالها؛ لأن أمر نفسها أخف من أمر مالها، وإذا كان النبى أمرها بالمشاورة فى أمر نفسها التى هى أحق بها من وليها فهى فى المال أولى بالمشاورة لا على أن المشاورة لازمة لها إذا كانت رشيدة كما كانت عائشة، وليس على من يتبين له رشد رأيه أن يشاور، ويسقط عنه الندب فيه. والمشربة: الغرفة، والأطم: حصن مبنى بالحجارة، وقال أبو عبيدة: رملت الحصير رملاً وأرملته إذا نسجته. - بَاب مَنْ عَقَلَ بَعِيرَهُ عَلَى الْبَلاَطِ أَوْ فِى بَابِ الْمَسْجِدِ / 29 - فيه: جَابِر، دَخَلَت على النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمَسْجِدَ، وَعَقَلْتُ الْجَمَلَ فِى نَاحِيَةِ الْبَلاَطِ، فَقُلْتُ: هَذَا جَمَلُكَ. . . . الحديث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 598 قال المهلب: فيه أن للداخل فى المسجد رحابه وما حواليه مناخًا لبعيره ومحبسًا له، وفيه جواز إدخال الأمتعة والأثاث فى المساجد قياسًا على دخول البعير فيه، وفيه حجة لمالك والكوفيين فى طهارة أبوال الإبل وأرواثها، ورد على الشافعى فى قوله بنجاستها، وهذا خلاف لدليل الحديث، ولو كانت نجسة كما زعم ما جاز لجابر إدخال البعير فى المسجد، وحين أدخله فيه ورآه النبى - عليه السلام - لم يسوغه ذلك ولأنكره عليه، وأمره بإخراجه من المسجد خشية لما يكون منه الروث والبول إذا لا يؤمن حدوث ذلك منه، وعلى قول الشافعى لا يجوز إدخال البعير فى المسجد لنجاسة بوله وروثه، وعلى مذهب الآخرين يجوز إدخالها فيه لطهارة أبوالها وأرواثها، وقد تقصيت الحجة فى ذلك فى كتاب الطهارة فأغنى عن إعادته. - بَاب الْوُقُوفِ وَالْبَوْلِ عِنْدَ سُبَاطَةِ قَوْمٍ / 30 - فيه: حُذَيْفَةَ، أَتَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، سُبَاطَةَ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا. قال المهلب: السباطة: المزبلة، ولا حرج على أحد فى البول فيها وإن كانت لقوم بأعيانهم؛ لأنها أعدت لطرح الكناسات والنجاسات فيها. وقال أبو عبيد: السباطة نحو من الكناسة، وقد تقدم حكم البول قائمًا فى كتاب الطهارة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 599 - بَاب مَنْ أَخَذَ الْغُصْنَ أَوْ مَا يُؤْذِى النَّاسَ فِى الطَّرِيقِ فَرَمَى بِهِ / 31 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِى بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ فَأَخَذَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ) . قال المهلب: إماطة الأذى وكل ما يؤذى الناس فى الطرق مأجور عليه، وفيه: أن قليل الأجر قد يغفر الله به كثير الذنوب، وقد قال النبى: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) . وفيه: دليل أن طرح الشوك فى الطريق والحجارة والكناسة والمياه المفسدة للطرق وكل ما يؤذى الناس تخشى العقوبة عليه فى الدنيا والآخرة. - بَاب إِذَا اخْتَلَفُوا فِى الطَّرِيقِ الْمِيتَاءِ وَهِىَ الرَّحْبَةُ تَكُونُ بَيْنَ الطَّرِيقِ ثُمَّ يُرِيدُ أَهْلُهَا الْبُنْيَانَ فَتُرِكَ مِنْهَا لِلطَّرِيق سَبْعَةَ أَذْرُعٍ / 32 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَضَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، إِذَا تَشَاجَرُوا فِى الطَّرِيقِ بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ. قال المهلب: هذا حكم من النبى فى الأفنية، إذا أراد أهل الأرض البنيان أن يجعل الطريق سبعة أذرع حتى لا يضر بالمارة عليها، وإنما جعلها سبعة أذرع لمدخل الأحمال والأثقال ومخرجها وتلاقها، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 600 ومدخل الركبان والرحال، ومطرح مما لا بد لهم من مطرحه عند الحاجة إليه، وما لا يجد الناس بدا من الارتفاق من أجله بطرقهم. قال الطبرى: والحديث على الوجوب عند العلماء للقضاء به، ومخرجه على الخصوص عندهم، ومعناه أن كل طريق يجعل سبعة أذرع، وما يبقى بعد ذلك لكل واحد من الشركاء فى الأرض قدر ما ينتفع به، ولا مضرة عليه فيه، فهى المراد بالحديث، وكل طريق يؤخذ لها سبعة أذرع ويبقى لبعض الشركاء من نصيبه بعد ذلك ما لا ينتفع به فغير داخل فى معنى الحديث. وقال غيره: هذا الحديث هو فى أمهات الطرق وما يكثر الاختلاف فيه والمشى عليه، وأما بنات الطرق فيجوز فى أفنيتها ما اتفقوا عليه، وإن كان أقل من سبعة أذرع. وروى ابن وهب عن ابن سمعان أن من أدرك من العلماء قالوا فى الطريق يريد أهلها تبيان عرضها: إن أهلها الذين هم أقرب الناس منها يقتطعونها بالجصص على قدر ما شرع فيها من ربعهم فيعطى صاحب الربع الواسع بقدره، وصاحب الصغيرة بقدره، ويتركون لطريق المسلمين ثمانية أذرع أو سبعة أذرع على ما روى عن النبى. واختلف أصحاب مالك فيمن أراد أن يبنى فى الفناء الواسع ولا يضر فيه بأحد بعد أن يترك للطريق سبعة أذرع أو ثمانية، فروى ابن وهب عن مالك أنه ليس له ذلك، وقال أصبغ: أكرهه، فإن ترك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 601 لم يعرض له، قد تركت فأفتى فيها أشهب قال: إذا كانت الطريق واسعة وأخذ منها يسيرًا لا ضرر فيه فلا بأس بذلك. قال ابن حبيب: وقول مالك أعجب إلى، لأن الطريق المنفعة فيه للناس عامة، وربما ضاق الطريق بأهله وبالدواب فيميل الراكب وصاحب الحمل عن الطريق إلى تلك الأفنية والرحاب فيتسع فيها، فليس لأهلها تغييرها عن حالها. وقول أصبغ وأشهب يعضده حديث أبى هريرة، وما وافق الحديث أولى مما خالفه، ففيه الحجة البالغة، ومن معنى هذا الباب ما ذكره ابن حبيب أن عمر بن الخطاب قضى بالأفنية لأرباب الدور، وتفسير هذا يعنى أنه قضى بالانتفاع بالمجالس والمرابط والمصاطب وجلوس الباعة فيها، وليس بأن تحاز بالبنيان والتحضير، وقد مر عمر بكير حداد فى السوق فأمر به فهدم، وقال: يضيقون على الناس. وقال أبو عمرو الشيبانى: الميتاء: أعظم الطريق، وهى التى يكثر إتيان الناس عليها. قال حميد بن ثور: إذا انضم ميتاء الطريق عليهما مضت قدمًا موج الجذام زهوق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 602 30 - بَاب النُّهْبَى بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ وَقَالَ عُبَادَةُ: بَايَعْنَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ لاَ نَنْتَهِبَ / 33 - وفيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ يَزِيدَ، نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ النُّهْبَى، وَالْمُثْلَةِ. 2561 / 34 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَقَالَ عليه السَّلام: (. . . . وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) . الانتهاب الذى أجمع العلماء على تحريمه هو ما كانت العرب عليه من الغارات وانطلاق الأيدى على أموال الناس بالباطل، فهذه النهبة لا ينتهبها مؤمن، كما لا يسرق ولا يزنى مؤمن، يعنى مستكمل الإيمان، على هذا وقعت البيعة فى حديث عبادة فى قوله: (بايعنا رسول الله ألا ننتهب) يعنى: ألا نغير على المسلمين فى أموالهم. قال ابن المنذر: وفسر الحسن والنخعى هذا الحديث، فقالا: النهبة المحرمة أن ينتهب مال الرجل بغير إذنه وهو له كاره. وهو قول قتادة. قال أبو عبيد: وهذا وجه الحديث على ما فسره النخعى والحسن، وأما النهبة المكروهة فهو ما أذن فيه صاحبه للجماعة وأباحة لهم وغرضه تساويهم فيه أو مقاربة التساوى، فإذا كان القوى منهم يغلب الضعيف على ذلك ويحرمه، فلم تطب نفس صاحبه بذلك الفعل. وقد اختلف العلماء فيما ينثر على رءوس الصبيان فى الأعراس فتكون فيه النهبة فكرهه مالك والشافعى، وأجازة الكوفيون، قال الأبهرى: وإنما كرهه، لأنه قد يأخذ منه من لا يحب صاحب الشىء أخذه ويحب أخذ غيره له. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 603 قال ابن المنذر: إلا أنه لا تجرح بذلك شهادة أحد، وأنما أكرهه، لأن من أخذه إنما أخذه بفضل قوة وقلة حياء، ولم يقصد به هو وحده، إنما قصد به الجماعة، ولا يعرف حظه من حظ غيره، فهو خلسة وسحت. واحتج الكوفيون بأن النبى - عليه السلام - لما نحر الهدى قال: (دونكم فانتهبوا) ، قال ابن المنذر: هذا الحديث حجة فى إجازة أخذ ما نثر فى الملاك وغيره، وأبيح أخذه، لأن المبيح لهم ذلك قد علم اختلاف فعلهم فى الأخذ وليس فى البدن التى أباحها النبى - عليه السلام - لأصحابه معنى إلا وهو موجود فى النثار - والله أعلم. 31 - بَاب كَسْرِ الصَّلِيبِ وَقَتْلِ الْخِنْزِيرِ / 35 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ) ؟ . قال المهلب: هذا وعد من النبى - عليه السلام - بنزول عيسى ابن مريم إلى الأرض، وفيه من الفقه كسر نصب المشركين وجميع الأوثان، وإنما قصد إلى كسر الصليب وقتل الخنزير من أجل أنهما فى دين النصارى المغترين المعتدين فى شريعتهم إليه، فأخبر النبى أن عيسى سيغير ما نسبوه إليه كما غيره محمد وأعلمهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 604 أنهم على الباطل فى ذلك، فدل هذا أن عيسى يأتى بتصحيح شريعة محمد حاكمًا بالعدل بين أهلها. وأما قوله: (ويضع الجزية) ، فمعناه يتركها فلا يقبلها، لأنه إنما قبلناها نحن لحاجتنا إلى المال، وليس يحتاج عيسى عند خروجه إلى مال، لأنه يفيض فى أيامه حتى لا يقبله أحد، ولا يقبل إلا الإيمان بالله وحده، وأما الساعة فلو كسر صليب لأهل الكتاب المعاهدين بين أظهرنا لكان ذلك تعديا، لأن على ذلك يؤدون الجزية، وإن كسره لأهل الحرب كان مشكوراُ، وكذلك قتل الخنزير. 32 - بَاب هَلْ تُكْسَرُ الدِّنَانُ الَّتِى فِيهَا الْخَمْرُ أَوْ تُخَرَّقُ الزِّقَاقُ ، فَإِنْ كَسَرَ صَنَمًا أَوْ صَلِيبًا أَوْ طُنْبُورًا، أَوْ مَا لاَ يُنْتَفَعُ بِخَشَبِهِ وَأُتِىَ شُرَيْحٌ فِى طُنْبُورٍ كُسِرَ فَلَمْ يَقْضِ فِيهِ بِشَىْءٍ. / 36 - فيه: سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَع، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، رَأَى نِيرَانًا تُوقَدُ يَوْمَ خَيْبَرَ، قَالَ: (عَلَى مَا تُوقَدُ هَذِهِ النِّيرَانُ؟) قَالُوا: عَلَى الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ، قَالَ: (اكْسِرُوهَا وَأَهْرِقُوهَا) ، قَالُوا: أَلاَ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا، قَالَ: (اغْسِلُوا) . / 37 - وفيه: ابْن مَسْعُود، دَخَلَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، مَكَّةَ، وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاَثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا، فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِى يَدِهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ (الآيَةَ. / 38 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا كَانَتِ اتَّخَذَتْ عَلَى سَهْوَةٍ لَهَا سِتْرًا فِيهِ تَمَاثِيلُ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 605 فَهَتَكَهُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ فَكَانَتَا فِى الْبَيْتِ يَجْلِسُ عَلَيْهِمَا. قال: أما كسر الدنان التى فيها الخمر فلا معنى له، لأنه إضاعة المال، وما طهره الماء جاز الانتفاع به، ألا ترى أن النبى قال فى القدور: (اغسلوها) وأما الدنان فرأى مالك أن الماء لا يطهرها لما تداخلها وغاص فيها من الخمر، ورأى غيره تطهيرها وغسلها بالماء، لأن الماء أيضًا يغوص فيها، ويطهر ما غاص فيها من الخمر. وقال الطبرى: فى حديث ابن مسعود من الفقه كسر آلات الباطل وما لا يصلح إلا لمعصية الله كالطنابير والعيدان والمزامير والبرابط التى لا معنى لها إلا التلهى بها عن ذكر الله عز وجل، والشغل بها عما يحبه إلى ما يسخطه أن يغيره عن هيئته المكروهة إلى ما خالفها من الهيئات التى يزول عنها المعنى المكروه، وذلك أنه عليه السلام كسر الأصنام، والجوهر الذى فيه لا شك أنه يصلح إذا غير عن الهيئة المكروهة لكثير من منافع بنى آدم الحلال وقد روى عن جماعة من السلف كسر آلات الملاهى، وروى سفيان عن منصور، عن إبراهيم قال: كان أصحاب عبد الله يستقبلون الجوارى معهن الدفوف فى الطريق فيخرقونها. وروى نافع عن ابن عمر أنه كان إذا وجد أحدًا يلعب بالنرد ضربه وأمر بها فكسرت. قال المهلب: وما كسر من آلات الباطل وكان فى خشبها بعد كسرها منفعة فصاحبها أولى بها مكسورة، إلا أن يرى الإمام حرقها بالنار على معنى التشريد والعقوبة على وجه الاجتهاد، كما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 606 فعل عمر حين أحرق دار رويشد على بيع الخمر، وقد هم النبى بتحريق دور من يتخلف عن صلاة الجماعة، وهذا أصل فى العقوبة فى المال إذا رأى ذلك. وهتك النبى الستر الذى فيه الصور دليل على إفساد الصور وآلات الملاهى. وقال ابن المنذر: فى معنى الأصنام الصور المتخذة من المدد والخشب وشبهها، وكل ما يتخذ الناس مما لا منفعة فيه إلا للهو المنهى عنه فلا يجوز بيع شىء منه إلا الأصنام التى تكون من الذهب والفضة والحديد والرصاص إذا غيرت عما هى عليه وصارت نقراُ، أو قطعا، فيجوز بيعها والشراء بها. 33 - بَاب مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ فقتل / 39 - فيه: ابْن عَمْرٍو، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) . إنما أدخل هذا الحديث فى هذه الأبواب ليريك أن للإنسان أن يدفع عن نفسه وماله، فإذا كان شهيداُ إذا قتل فى ذلك، كان إذا قتل من أراده فى مدافعته له عن نفسه لا دية عليه فيه، ولا قود. قال المهلب: وكذلك كل من قاتل على ما يحل له القتال عليه من أهل أو دين فهو كمن قاتل دون نفسه وماله فلا دية عليه ولا تبعة، ومن أخذ فى ذلك بالرخصة وأسلم المال أو الأهل أو النفس فأمره إلى الله، والله يعذره ويأجره، ومن أخذ فى ذلك بالشدة وقتل كانت له الشهادة بهذا الحديث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 607 وأما قول أهل العلم فى هذا الباب فذكر ابن المنذر قال: روينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأوا قتال اللصوص ودفعهم عن أنفسهم وأموالهم، وقد أخذ ابن عمر لصا فى داره فأصلت عليه السيف، قال سالم: فلولا أنا نهيناه لضربه به. وقال النخعى: إذا خفت أن يبدأك اللص فابدأه. وقال الحسن البصرى: إذا طرق اللص بالسلاح فاقتله، وروينا هذا المعنى عن غير واحد من المتقدمين، وسئل مالك عن القوم يكونون فى السفر فتلقاهم اللصوص، قال: يناشدونهم الله، فإن أبوا وإلا قوتلوا. وعن الثورى وابن المبارك قال: يقاتلونهم ولوعلى دانق. وقال أحمد بن حنبل: إذا كان اللص مقبلا، وأما موليًا فلا. وعن إسحاق مثله. وقال أبو حنيفة فى رجل دخل على رجل ليلا فسرقه ثم خرج بالسرقة من الدار، فاتبعه الرجل فقتله، قال: لا شىء عليه. وكان الشافعى يقول: من أريد ماله فى مصر أو صحراء، أو أريد حريمه فالاختيار له أن يكلمه ويستغيث، فإن منع أو امتنع لم يكن له قتاله، فإن أبى أن يمتنع من قتله من أراده، فله أن يدفعه عن نفسه وعن ماله، وليس له عمد قتله، فإن أبى ذلك على نفسه فلا عقل عليه ولا قود ولا كفارة. قال ابن المنذر: والذى عليه عوام أهل العلم أن للرجل أن يقاتل عن نفسه وماله وأهله إذا أريد ظلمًا، لقوله عليه السلام: (من قتل دون ماله فهو شهيد) ، ولم يخص وقتًا دون وقت، ولا حالا دون حال إلا السلطان، فإن كل من نحفظ عنهم من علماء الحديث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 608 كالمجمعين على أن كل من لم يمكنه أن يدفع عن نفسه وماله إلا بالخروج على السلطان ومحاربته ألا يفعل للآثار التى جاءت عن النبى - عليه السلام - بالأمر بالصبر على ما يكون منه من الجور والظلم، وترك القيام عليهم ما أقاموا الصلاة. وما قلناه من إباحة أن يدفع الرجل عن نفسه وماله قول عوام أهل العلم إلا الأوزاعى، فإنه كان يفرق بين الحال الذى للناس فيها جماعة وإمام وبين حال الفتنة التى لا جماعة فيها ولا إمام، فقال فى تفسير قوله: (من قتل دون ماله فهو شهيد) إذا أقلعت الفتنة عن الجماعة، وأمنت السبل، وحج البيت، وجوهد العدو، وقعد اللص لرجل يريد دمه أو ماله قاتله، وإن كان الناس فى معمعة فتنة وقتال، فدخل عليه يريد دمه وماله اقتدى بمحمد بن مسلمة. 34 - بَاب إِذَا كَسَرَ قَصْعَةً أَوْ شَيْئًا لِغَيْرِهِ / 40 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام، كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمٍ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا، فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ، فَضَمَّهَا وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ، وَقَالَ: (كُلُوا) ، وَحَبَسَ الرَّسُولَ وَالْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا، فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ، وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ. قال المهلب: روى أن صفية هى التى صنعت الطعام لرسول الله، وروى أنها أم سلمة وأن الكاسرة عائشة. واختلف العلماء فيمن استهلك عروضاُ أو حيوانًا، فذهب الكوفيون والشافعى وجماعة إلى أن عليه مثل ما استهلك، قالوا: ولا يقضى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 609 بالقيمة إلا عند عدم المثل - واحتجوا بحديث القصعة، قالوا: ألا ترى أن الرسول ضمن القصعة بقصعة. وذهب مالك إلى أنه من استهلك شيئًا من العروض أو الحيوان فعليه قيمته يوم استهلكه، وقال: القيمة أعدل فى ذلك. واحتج بأن النبى - عليه السلام - قضى فيمن أعتق شركاُ له فى عبد بقيمة حصة شريكه دون حصة من عبد مثله، لأن ضبط المثل بالقيمة أخص منه فى الحلقة والمثل لا يوصل إليه إلا بالاجتهاد، وكما أن القيمة تدرك بالاجتهاد، وقيمة العدل فى الحقيقة مثل، وقد تناقض العراقيون فى قوله تعالى: (فجزاء مثل ما قتل من النعم (وقالوا: القيمة مثل فى هذا الموضع. واتفق مالك والكوفيون والشافعى وأبو ثور فيمن استهلك ذهبًا أو ورقًا أو طعامًا مكيلا، أو موزونًا، أن عليه مثل ما استهلك فى صفته ووزنه وكيله، وقال مالك، وفرق بين الذهب والفضة والطعام، وبين الحيوان والعروض العمل المعمول به. قال ابن المنذر: ولا أعلم فى هذه المسألة خلافًا. 35 - بَاب إِذَا هَدَمَ حَائِطًا يَبْنىِّ مِثْلَهُ / 41 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (كَانَ رَجُلٌ فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ: جُرَيْجٌ الْرَّاهِب يُصَلِّى، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ، فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهَا، فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّى، ثُمَّ أَتَتْهُ، فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ، وَكَانَ جُرَيْجٌ فِى صَوْمَعَتِهِ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: لاَفْتِنَنَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 610 جُرَيْجًا، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى، فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَلَدَتْ غُلاَمًا، فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ، فَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى الْغُلاَمَ، فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلاَمُ؟ قَالَ: الرَّاعِى، قَالُوا: نَبْنِى صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: لاَ إِلاَ مِنْ طِينٍ) . وذهب الكوفيون والشافعى وأبو ثور إلى أن من هدم حائطا لرجل فإنه يبنى مثله على ظاهر هذا الحديث، واختلف قول مالك فى ذلك، فروى ابن القاسم عنه فى العتبية: فى رجل له خليج يجرى تحت جدار رجل آخر، فجرى السيل فيه فهدمه، قال مالك: أرى أن يقضى يبنيانه على صاحب الخليج الذى أفسد حائط الرجل. وقال فى المدونة: ما انهدم من الربع بيد الغاصب، وإن لم يكن بسببه فعليه قيمته يوم الغصب. وقوله فى مسألة الخليج أشبه بالحديث. قال المهلب: وفى هذا الحديث من الفقه المطالبة بالدعوى، كما طالبت بنو إسرائيل جريجًا بما ادعته المرأة عليه، وفيه استنقاذ عباد الله تعالى لصالح عباده وأوليائه عند جور العامة وأهل الجهل عليهم بآية يريهم الله إياها، فإن كانت عرض فى الإسلام فبكرامة يكرمه الله بها، وسبب يسببه له، لا بخرق عادة، ولا قلب عين، وإنما كانت الآيات فى بنى إسرائيل؛ لأن النبوة كانت ممكنة فيهم غير ممتنعة عليهم. ولا نبى بعد محمد، فليس يجرى من الآيات بعده ما يكون خرقًا 612 للعادة ولا قلب العين، إنما تكون كرامة لأوليائه مثل: دعوة مجابة، ورؤيا صالحة، وبركة ظاهرة، وفضل بين توفيق من الله إلى الإبرار مما اتهم به الصالحون، وامتحن به المتقون. وفى دعاء أمه عليه وهو فى الصلاة دليل أن دعاء الوالدين إذا كان بنية خالصة أنه قد يجاب، وإن كان فى حال ضجر وحرج ولم يكونا على صواب؛ لأنه قد أجيب دعاء أمه بأن امتحن مع المرأة التى كذبت عليه، إلا أنه تعالى استنقذه بمراعاته لأمر ربه، فابتلاه وعافاه، وكذلك يجب للإنسان أن يراعى أمر ربه ودينه، ويقدمه على أمور دنياه فتحمد عاقبته. وقوله: (فتوضأ وصلى) فيه رد على من قال أن هذه الأمة مخصوصة بالوضوء من بين سائر الأمم، وأنهم يأتون لذلك غرًا محجلين يوم القيامة، فبان بهذا الحديث أن الوضوء كان فى غير هذه الأمة، ووضح أن الذى خصت به هذه الأمة من بين سائر الأمم إنما هو الغرر والتحجيل ليمتازوا بذلك من بين سائر الأمم، وقد جاء فى حديث سارة حين أخذها الكافر من إبراهيم أنها قامت فتوضأت وصلت حتى غط الكافر برجله، ذكره البخارى فى كتاب الإكراه، وقد روى عن الرسول أنه توضأ ثلاثًا وقال: (هذا وضوئى ووضوء الأنبياء قبلى) فثبت بهذا كله أن الوضوء مشروع قبل أمه محمد (صلى الله عليه وسلم) . تم بحمد الله الجزء السادس، ويليه بإذن الله الجزء السابع، وأوله: (كتاب الشركة) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 611 الجزء السابع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 بسم الله الرحمن الرحيم 41 - كِتَاب الشَّرِكَةِ - بَاب مَا جَاءَ فِى الشَّرِكَةِ فِى الطَّعَامِ وَالنَّهْدِ وَالْعُرُوضِ وَكَيْفَ قِسْمَةُ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ مُجَازَفَةً أَوْ قَبْضَةً قَبْضَةً لَمَّا لَمْ يَرَ الْمُسْلِمُونَ فِى النَّهْدِ بَأْسًا أَنْ يَأْكُلَ هَذَا بَعْضًا وَهَذَا بَعْضًا، وَكَذَلِكَ مُجَازَفَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْقِرَانُ فِى التَّمْرِ. / 1 - فيه: جَابِر: بَعَثَ النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، بَعْثًا قِبَلَ السَّاحِلِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَهُمْ ثَلاَثُمِائَةٍ، وَأَنَا فِيهِمْ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِىَ الزَّادُ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَجُمِعَ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَكَانَ مِزْوَدَىْ تَمْرٍ، فَكَانَ يُقَوِّتُنَا كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلاً قَلِيلاً حَتَّى فَنِىَ، فَلَمْ يَكُنْ يُصِيبُنَا إِلاَ تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ، فَقُلْتُ: وَمَا تُغْنِى تَمْرَةٌ؟ قَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ، قَالَ: ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى الْبَحْرِ، فَإِذَا حُوتٌ مِثْلُ الظَّرِبِ، فَأَكَلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْجَيْشُ ثَمَانِىَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلَعَيْنِ مِنْ أَضْلاَعِهِ فَنُصِبَا، ثُمَّ أَمَرَ بِرَاحِلَةٍ فَرُحِلَتْ، ثُمَّ مَرَّتْ تَحْتَهُمَا، فَلَمْ تُصِبْهُمَا. / 2 - وفيه: سَلَمَةَ: خَفَّتْ أَزْوَادُ الْقَوْمِ وَأَمْلَقُوا، فَأَتَوُا النَّبِىَّ، عَليه السَّلام، فِى نَحْرِ إِبِلِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: مَا بَقَاؤُكُمْ بَعْدَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 إِبِلِكُمْ؟ فَدَخَلَ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: مَا بَقَاؤُهُمْ بَعْدَ إِبِلِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : نَادِ فِى النَّاسِ يَأْتُونَ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، فَبُسِطَ لِذَلِكَ نِطَعًا، وَجَعَلُوهُ عَلَى ذَلِك النِّطَعِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَدَعَا وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ بِأَوْعِيَتِهِمْ، فَاحْتَثَى النَّاسُ حَتَّى فَرَغُوا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَ اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ) . / 3 - وفيه: رَافِعَ، كُنَّا نُصَلِّى مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) الْعَصْرَ، فَنَنْحَرُ جَزُورًا، فَيُقْسَمُ عَشْرَ قِسَمٍ، فَنَأْكُلُ لَحْمًا نَضِيجًا قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ. / 4 - وفيه: أَبُو مُوسَى: قَالَ النَّبىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِى الْغَزْوِ، وَقَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِى إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّى وَأَنَا مِنْهُمْ) . النهد: ما يجمعه الرفقاء من مال، أو طعام، على قدر فى الرفقة، ينفقونه بينهم، وقد تناهدوا عن صاحب العين. وقال ابن دريد: يقال من ذلك: ناهد القوم الشىء، تناولوه بينهم. وقال المهلب: هذه القسمة لا تصلح إلا فيما جعل للأكل خاصة؛ لأن طعام النهد وشبهه لم يوضع للآكلين على أنهم يأكلون بالسواء، وإنما يأكل كل واحد على قدر نهمته، وقد يأكل الرجل أكثر من غيره، وهذه القسمة موضوعة بالمعروف، وعلى طريقة بين الآكلين، ألا ترى جمع أبى عبيدة بقية أزواد الناس، ثم شركهم فيها بأن قسم لكل واحد منهم، وقد كان فيهم من لم يكن له بقية طعام، وقد أعطى بعضهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 أقل مما كان بقى له ولآخر أكثر، وكذلك فى حديث سلم قسم النبى (صلى الله عليه وسلم) بينهم بالاحتثاء، وهو غير متساو. وهذا الفعل للنبى (صلى الله عليه وسلم) هو الذى امتثل أبو عبيدة فى جمعه للأزواد، وإنما يكون هذا عند شدة المجاعة، فللسلطان أن يأمر الناس بالمواساة ويجبرهم على ذلك، ويشركهم فيما بقى من أزوادهم أحياء لإرماقهم وإبقاء لنفوسهم، وفيه أن للإمام أن يواسى بين الناس فى الأقوات فى الحضر بثمن وبغير ثمن، كما له فعل ذلك فى السفر. وقد استدل بعض العلماء بهذا الحديث، وقال: إنه أصل فى ألا يقطع سارق فى مجاعة؛ لأن المواساة واجبة للمحتاجين، وقد تقدم كثير من معانى هذا الحديث فى باب حمل الزاد فى الغزو فى كتاب الجهاد. وفى حديث رافع: قسمة اللحم بالتحرى بغير ميزان؛ لأن ذلك من باب المعروف، وهو موضوع للأكل، وأما قسمة الذهب والفضة مجازفة، فلا تجوز بإجماع الأمة؛ لتحريم التفاضل فى كل واحد منهما، وإنما اختلف العلماء فى قسمة الذهب مع الفضة مجازفة، أو بيع ذلك مجازفة، فكرهه مالك، ورآه من بيع الغرر والقمار، ولم يجزه. وأما الكوفيون، والشافعى، وجماعة من العلماء، فأجازوا ذلك؛ لأن الأصل فى الذهب بالفضة جواز التفاضل، فلا حرج فى بيع الجزاف من ذلك وقسمته، وكذلك قسمة البر مجازفة لا تجوز، كما لا يجوز بيع جزاف بُر ببر ونحوه مما حرم فيه التفاضل، وما يجوز فيه التفاضل، فإنما الربا فيه فى النسيئة خاصة. وأملق الرجل: افتقر، ومنه قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 خشية إملاق} [الإسراء: 31] ، أى خشى الفقر، ومثله أرملوا، يقال: أرمل القوم، فنى زادهم. - بَاب مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ فِى الصَّدَقَةِ / 5 - فيه: أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ الَّتِى فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ، فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ) . فقه هذا الباب أن الشريكين إذا كان رأس مالهما سواء، فهما شريكان فى الربح، فمن أنفق من مال الشركة أكثر مما أنفق صاحبه تراجعا عند أخذ الربح بقدر ما أنفق كل واحد منهما، فمن أنفق قليلاً رجع على من أنفق أكثر منه؛ لأن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، لما أمر الخليطين فى الغنم بالتراجع بينهما بالسواء وهما شريكان، دل ذلك على أن كل شريك فى معناهما. 3 - بَاب قِسْمَةِ الْغَنَمِ / 6 - فيه رَافِع، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، فَأَصَابُوا إِبِلاً وَغَنَمًا، قَالَ: وَكَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ، فَعَجِلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَأَمَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ، فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ بَعِيرٌ، فَطَلَبُوهُ، فَأَعْيَاهُمْ. . . الحديث. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 وترجم له باب إذا عدل عشرة من الغنم بجزور فى القسمة، وقال فيه: فعدل عشرة من الغنم بجزور. أجاز قسم الغنم والبقر والإبل بغير تقويم: مالك، والكوفيون، وأبو ثور، إذا كان ذلك على التراضى. وقال الشافعى: لا يجوز قسم شىء من الحيوان بغير تقويم، وحجة من أجاز ذلك أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قسم الغنائم، وكان أكثر غنائم خيبر الإبل والغنم، ولم يُذكر فى شىء من ذلك تقويم. قالوا: وتعديل الغنم بالغنم، والبقر بالبقر، والإبل بالإبل جائز على التراضى فى القسمة، ولا ربا يدخلها؛ لأنه يجوز فيها التفاضل يدًا بيد. ومن حجة الشافعى أن قسمة النبى (صلى الله عليه وسلم) الغنم مع الإبل إنما كانت على طريق القيمة، ألا ترى أنه عدل عشرة من الغنم ببعير، وهذا هو معنى التقويم. 4 - بَاب الْقِرَانِ فِى التَّمْرِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ / 7 - فيه: ابْن عُمَر، نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَقْرُنَ الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ جَمِيعًا حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ. قال: النهى عن القران فى التمر عند العلماء من باب حسن الأدب فى الأكل؛ لأن القوم الذين وضع بين أيديهم التمر كالمتساوين فى أكله، فإذا استأثر أحدهم بأكثر من صاحبه لم يحمد له الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 ذلك، ومن هذا الباب جعل أهل العلم النهى عن النهبة فى طعام النثر فى الأعراس وغيرها، لما فيه من سوء الأدب والاستئثار بما لا تطيب عليه نفس صاحب الطعام. وقال أهل الظاهر: إن النهى عن القران على الوجوب لا على حسن الأدب، وفاعل ذلك عاص لله إذا كان عالمًا بالنهى. ولا نقول أنه أكل حرامًا؛ لأن أصله الإباحة جملة، والدليل على أنه على حسن الأدب لا على الوجوب أن ما وضع بين أيدى الناس للأكل، فإنما سبيله سبيل المكارمة لا سبيل التشاح، لاختلاف الناس فى الأكل، فبعضهم يكفيه اليسير، وبعضهم لا يكفيه أضعافه، فلو كانت سهماتهم، سواء لما ساغ لمن لا يشبعه اليسير أن يأكل من مثل نصيب من يشبعه اليسير، ولما لم يتشاح الناس فى هذا المقدار علم أن سبيل هذا المكارمة، وليس على الوجوب، والله أعلم. 5 - بَاب تَقْوِيمِ الأَشْيَاءِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ بِقِيمَةِ عَدْلٍ / 8 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ: قَالَ النّبِىّ، عَلَيهِ السَّلام: (مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِى عَبْدٍ، أَوْ شِرْكًا لَهُ، أَوْ قَالَ: نَصِيبًا، وَكَانَ لَهُ مال يَبْلُغُ ثَمَنَهُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ، فَهُوَ عَتِيقٌ، وَإِلاَ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 / 9 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَعْتَقَ شَقِصًا لَهُ مِنْ مَمْلُوكِهِ فَعَلَيْهِ خَلاَصُهُ فِى مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ الْمَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ اسْتُسْعِىَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ) . قال: اختلف العلماء فى قسمة الرقيق، فذهب أبو حنيفة والشافعى إلى أنه لا يجوز قسمته إلا بعد التقويم، وحجتهم حديث ابن عمر، وأبى هريرة، أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال: (من أعتق شقصًا له من عبد قوم عليه قيمة عدل) ، قالوا: فأجاز، عَلَيْهِ السَّلام، تقويمه فى البيع للعتق، وكذلك تقويمه فى القسمة. وذهب مالك، وأبو يوسف، ومحمد، إلى أنه تجوز قسمة الرقيق بغير تقويم إذا تراضوا على ذلك، وحجتهم أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قسم غنائم حنين، وكان أكثرها السبى والماشية، لا فرق بين الرقيق وسائر الحيوان، ولم يُذكر فى شىء من السبى تقويم، وتناقض أبو حنيفة، فأجاز قسم الإبل والبقر والغنم بغير تقويم، وزعم أن الفرق بين الرقيق وسائر الحيوان أن اختلاف الرقيق متفاوت، وهذا ليس بشىء؛ لأن القسمة بيع من البيوع، وكل بيع صحيح جائز إذا انعقد على التراضى. ولا خلاف بين العلماء أن قسمة العروض وسائر الأمتعة بعد التقويم جائزة، وإنما اختلفوا فى قسمتها بغير تقويم، فأجاز ذلك مالك، والكوفيون، وأبو ثور، إذا كان ذلك على سبيل التراضى، ومنع من ذلك الشافعى، وقال: لا يجوز قسم شىء من ذلك إلا بعد التقويم قياسًا على حديث ابن عمر فى تقويم العبد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 6 - بَاب هَلْ يُقْرَعُ فِى الْقِسْمَةِ وَالاسْتِهَامِ / 10 - فيه: النُّعْمَانَ بْن بَشِير، قَالَ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام: (مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ، وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِى أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِى نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ، وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا) . القرعة سنة لكل من أراد العدل فى القسمة بين الشركاء، والفقهاء متفقون على القول بها، وخالفهم بعض الكوفيين، وردت الأحاديث الواردة فيها، وزعموا أنه لا معنى لها، وأنها تشبه الأزلام التى نهى الله عنها، وحكى ابن المنذر، عن أبى حنيفة أنه جوزها، وقال: القرعة فى القياس لا تستقيم، ولكنا تركنا القياس فى ذلك وأخذنا بالآثار والسنة. وقال إسماعيل بن إسحاق: وليس فى القرعة إبطال شىء من الحق كما زعم الكوفيون، وإذا وجبت القسمة بين الشركاء فى أرض أو دار، فعليهم أن يعدلوا ذلك بالقيمة، ثم يستهموا ويصير لكل واحد منهم ما وقع له بالقرعة مجتمعًا مما كان له فى الملك مشاعًا، فيصير فى موضع بعينه، ويكون له ذلك بالعوض الذى صار لشريكه؛ لأن مقادير ذلك قد عدل بالقيمة. وإنما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 منعت القرعة أن يختار كل واحد منهم موضعًا بعينه، وهذا إنما يكون فيما يتشابه من الدور والأرض والعروض، وما تستوى رغبة الناس فى كل موضع مما يقترع عليه. وفى قوله، عَلَيْهِ السَّلام: (كمثل قوم استهموا على سفينة) ، جواز القرعة؛ لإقرار النبى (صلى الله عليه وسلم) لها، وأنه لم يذم المستهمين فى السفينة، ولا أبطل فعلهم، بل رضيه وضربه مثلاً لمن نجى نفسه من الهلكة فى دينه، وقد ذكر البخارى أحاديث كثيرة فى القرعة فى آخر كتاب الشهادات، وترجم له باب القرعة فى المشكلات. قال المهلب: وفى حديث النعمان بن بشير تعذيب العامة بذنوب الخاصة، وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وفيه تبيين العالم للمسألة بضرب المثل الذى يفهم للعوام، وفيه أنه يجب على الجار أن يصبر على شىء من الأذى لجاره خوفًا مما هو أشد منه. وأما أحكام العلو والسفل تكون بين رجلين، فيعتل السفل أو يريد صاحبه هدمه، فذكر سحنون، عن أشهب أنه قال: إذا أراد صاحب السفل أن يهدم، وأراد صاحب العلو أن يبنى علوه، فليس لصاحب السفل أن يهدم السفل إلا من ضرورة يكون هدمه له أرفق لصاحب العلو؛ لئلا ينهدم بانهدامه العلو، وليس لرب العلو أن يبنى على علوه شيئًا لم يكن قبل ذلك إلا الشىء الخفيف الذى لا يضر بصاحب السفل. ولو تكسرت خشبة من سقف العلو لأدخل مكانها خشبة ما لم تكن أثقل منها، ويخاف ضررها على صاحب السفل. قال أشهب: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 وباب الدار على صاحب السفل. قال: ولو انهدم السفل والعلو، أجبر صاحب السفل على بنائه، وليس على صاحب العلو أن يبنى السفل، فإن أبى صاحب السفل من البناء، قيل له: بع ممن يبنى. وروى ابن القاسم، عن مالك فى السفل لرجل والعلو لآخر، فاعتل السفل، فإن صلاحه على رب السفل، وعليه تعليق العلو حتى يصلح سفله؛ لأن عليه أن يحمله إما على بنيان وإما على تعليق. وكذلك لو كان العلو على علو، فتعليق العلو الثانى على صاحب الأوسط فى إصلاح الأوسط، وقد قيل: إن تعليق العلو على رب العلو حتى يبنى الأسفل. وحديث النعمان حجة لقول مالك وأشهب، وفيه دليل على أن صاحب السفل ليس له أن يحدث على صاحب العلو ما يضر به، وإن أحدث عليه ضررًا لزمه إصلاحه دون صاحب العلو، وأن لصاحب العلو منعه من الضرر، لقوله، عَلَيْهِ السَّلام: (فإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا) ، ولا يجوز الأخذ إلا على يد الظالم ومن هو ممنوع من إحداث ما لا يجوز له فى السنة. 7 - بَاب شَرِكَةِ الْيَتِيمِ وَأَهْلِ الْمِيرَاثِ / 11 - فيه: عَائِشَةَ، فِى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَ تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى) [النساء: 3] ، قَالَتْ: هِىَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِى حَجْرِ وَلِيِّهَا تُشَارِكُهُ فِى مَالِهِ، فَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 صَدَاقِهَا، فَيُعْطِيهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا أَنْ يُنْكِحُوهُنَّ إِلاَ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ، وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ مِنَ الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ. . . الحديث. قال: شركة اليتيم ومخالطته فى ماله لا تجوز عند العلماء إلا أن يكون لليتيم فى ذلك رجحان، فإن كان الرجحان لمخالطه أو مشاركه فلا يحل؛ لأن الله تعالى حرم أكل أموال اليتامى، ثم قال بعد ذلك: (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح) [البقرة: 220] ، فأباحت هذه الآية مخالطتهم ومشاركتهم بغير ظلم لهم. 8 - بَاب الشَّرِكَةِ فِى الأَرَضِينَ وَغَيْرِهَا / 12 - فيه: جَابِر، جَعَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الشُّفْعَةَ فِى كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ. اختلف أهل العلم فيما يحتمل القسم من الدور والأرضين، هل يقسم بين الشركاء إذا دعا بعضهم إلى ذلك، وفى قسمته ضرر على بعض؟ فقال مالك: يقسم بينهم ذلك، وهو قول الشافعى. وقال أبو حنيفة فى الدار الصغيرة بين اثنين يطلب أحدهما القسمة وأبى صاحبه: قسمت له. وقال ابن أبى ليلى: إن كان فيهم من لا ينتفع بما يقسم له فلا يقسم، وكل قسم يدخل الضرر على أحدهم دون الآخر فإنه لا يقسم، وهو قول أبى ثور. قال ابن المنذر: وهذا أصح القولين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 وأجاز مالك قسم البيت وإن لم يكن فى نصيب أحدهم ما ينتفع به، وأجاز قسم الحمام وغيره، واحتج بقوله تعالى: (مما قل منه أو كثر نصيبًا مفروضًا) [النساء: 7] . قال ابن القاسم: وأنا أرى أن كل ما لا ينقسم من الدور والحمامات والمنازل، وفى قسمته الضرر ولا ينتفع به إذا قسم، أن يباع ويقسم ثمنه ولا شفعة فيه؛ لقوله، عَلَيْهِ السَّلام: (لا ضرر ولا ضرار) ، ولقوله: (الشفعة فى كل ما لم ينقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة) ، فجعل، عَلَيْهِ السَّلام، الشفعة فى كل ما يتأتى فيه إيقاع الحدود، وعلق الشفعة بما لم ينقسم مما لم يمكن إيقاع الحدود فيه، هذا دليل الحديث، ولا حجة للكوفيين فى إجازة الضرر اليسير من ذلك ومنعهم للكثير؛ لأن دفع الضرر واجب على المسلمين فى كل شىء. 9 - بَاب إِذَا اقَسَمَ الشُّرَكَاءُ الدُّورَ وَغَيْرَهَا فَلَيْسَ لَهُمْ رُجُوعٌ وَلاَ شُفْعَةٌ / 13 - فيه: جَابِرِ: قَضَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِالشُّفْعَةِ فِى كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ. قال: إذا كانت قسمة مراضاة واتفاق، فلا رجوع فيها، وإن كانت قسمة قرعة وتعديل، ثم بان التغابن فيها، فللمغبون الرجوع ونقض القسمة عند العلماء، وأما الشفعة فلا تكون فى شىء مقسوم عند أحد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 من العلماء، وإنما هى فى المشاع؛ لقوله، عَلَيْهِ السَّلام: (فإذا وقعت الحدود فلا شفعة) . - بَاب الاشْتِرَاكِ فِى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمَا يَكُونُ فِيهِ الصَّرْفُ / 14 - فيه: سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِى مُسْلِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْمِنْهَالِ عَنِ الصَّرْفِ يَدًا بِيَدٍ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ أَنَا وَشَرِيكٌ لِى شَيْئًا يَدًا بِيَدٍ وَبنَسِيئَةً، فَجَاءَنَا الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، فَسَأَلْنَاهُ، فَقَالَ: فَعَلْتُ أَنَا وَشَرِيكِى زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَسَأَلْنَا النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: (مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَخُذُوهُ، وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَرَدُوهُ) . فى هذا الحديث أنه لا يجوز فى شىء من الصرف نسيئة، وإنما يكون يدًا بيد، وأما صفة الشركة فى الصرف وغيرها، فأجمع العلماء على أن الشركة فى الدنانير والدراهم جائزة، واختلفوا إذا كانت الدنانير من أحدهما والدراهم من الآخر. فقال مالك، والكوفيون، والشافعى، وأبو ثور: لا تجوز حتى يخرج أحدهما مثل ما أخرج صاحبه. وقال ابن القاسم: وإنما لم يجز ذلك؛ لأنه صرف وشركة، وكذلك قال لى مالك. وذكر ابن أبى زيد، قال: وقد اختلف عن مالك فى إجازة الشركة بدنانير من أحدهما ودراهم من الآخر، وأجازه سحنون، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 وأكثر قول مالك: أنه لا يجوز. وقال الثورى: يجوز أن يجعل أحدهما دنانير والآخر دراهم فيخلطاها، وذلك أن كل واحد منهما قد باع نصف نصيبه بنصف نصيب صاحبه، فآل: أمرهما إلى قسمة ما يحصل فى أيديهما فى المتعقب. وأجمع العلماء أن الشركة الصحيحة أن يخرج كل واحد من الشريكين مالاً مثل مال صاحبه، ثم يخلطان ذلك ولا يتميز، ثم ليس لأحدهما أن يبيع إلا مع صاحبه، إلا أن يجعل كل واحد منهما لصاحبه أن يتجر بما رآه، ويقيمه مقام نفسه. - بَاب مُشَارَكَةِ الذِّمِّىِّ وَالْمُشْرِكِينَ فِى الْمُزَارَعَةِ / 15 - فيه: ابن عُمَر، أن النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، أعطى خَيْبَرَ الْيَهُودَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا. قال المهلب: كل ما لا يدخله ربا ولا ينفرد به الذمى، فلا بأس بشركة المسلم له فيه، وهذه المشاركة إنما معناها معنى الأجرة، واستئجار أهل الذمة جائز حلال، وأما مشاركة الذمى ودفع المال إليه ليعمل فيه، فكرهه ابن عباس، وكرهه الكوفيون، والشافعى، وأبو ثور، وأكثر العلماء، لما يخاف عليه من التجر بالربا وبيع ما لا يحل بيعه، وهو جائز عندهم. وقال مالك: لا تجوز شركة المسلم للذمى إلا أن يكون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 النصراني يتصرف بحضرته، ولا يغيب عنه فى شراء ولا بيع ولا تقاض، أو يكون المسلم هو متولى البيع والشراء. وروى ذلك عن عطاء والحسن، وبه قال الليث، والثورى، وأحمد، وإسحاق. واحتج من أجاز ذلك بمعاملة النبى (صلى الله عليه وسلم) لهم فى مساقاة خيبر، وإذا جاز مشاركتهم فى عمارة الأرض جاز فى غير ذلك، واحتج لمالك أن الذمى إذا تولى الشراء باع بحكم دينه، وأدخل فى مال المسلم ما لا يحل له، والمسلم ممنوع من أن يجعل ماله متجرًا فى الربا والخمر والخنزير، وأما أخذ أموالهم فى الجزية، فالضرورة دعت إلى ذلك، إذ لا مال لهم غيرها. - بَاب قِسْمَةِ الْغَنَمِ وَالْعَدْلِ فِيهَا / 16 - فيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى أصحابه، فَبَقِىَ عَتُودٌ، فَذَكَرَهُ للنّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (ضَحِّ بِهِ أَنْتَ) . هذه القسمة يجوز فيها ما لا يجوز فى القسمة التى هى تمييز الحقوق بعضها من بعض؛ لأن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، إنما وكل عقبة على تفريق الضحايا على أصحابه، ولم يعين فيها لأحد منهم شيئًا بعينه، فيخاف أن يعطى غيره عند القسمة، فيكون ذلك ظلمًا له ونقصانًا عن حقه، فكان تفريقها موكولاً إلى اجتهاد عقبة، وكان ذلك على سبيل التطوع من النبى، عَلَيْهِ السَّلام، لا أنها كانت واجبة عليه لأصحابه، فلم يكن على عقبة حرج فى قسمتها، ولا لزمه من أحد منهم ملامة إن أعطاه دون ما أعطى صاحبه، وليس كذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 القسمة بين من حقوقهم واجبة متساوية فى المقسوم، فهذه لا يكون فيها تغابن ولا ظلم على أحد منهم، وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب الضحايا. - بَاب الشَّرِكَةِ فِى الطَّعَامِ وَغَيْرِها وَيُذْكَرُ أَنَّ رَجُلاً سَاوَمَ شَيْئًا، فَغَمَزَهُ آخَرُ، فَرَأَى عُمَرُ أَنَّ لَهُ شَرِكَةً. / 17 - فيه: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ، جَدّ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ، أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ بِهِ جَدُّهُ إِلَى السُّوقِ، فَيَشْتَرِى الطَّعَامَ، فَيَلْقَاهُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، فَيَقُولاَنِ لَهُ: أَشْرِكْنَا، فَإِنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، قَدْ دَعَا لَكَ بِالْبَرَكَةِ فَيَشْرَكُهُمْ، فَرُبَّمَا أَصَابَ الرَّاحِلَةَ كَمَا هِىَ، فَيَبْعَثُ بِهَا إِلَى الْمَنْزِلِ. الشركة بيع من البيوع، فتجوز فى الطعام وفى كل ما يجوز تملكه عند جميع العلماء، وإنما اختلفوا فى الشركة بالطعام، وإن تساووا فى الكيل والقيمة، وسواء كان الطعام نوعًا واحدًا أو أنواعًا مختلفة، وهو قول الشافعى، وخالف ابن القاسم مالكًا، فقال: تجوز الشركة بالحنطة إذا اشتركا على الكيل ولم يشتركا على القيمة، وكانتا فى الجودة سواء. وأجاز الشركة بالطعام الكوفيون وأبو ثور، وقال الأوزاعى: تجوز الشركة بالقمح والزيت؛ لأنهما يختلطان جميعًا، ولا يتميز أحدهما من الآخر. قال إسماعيل بن إسحاق: إنما كره مالك الشركة بالطعام، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 وإن تساوى فى الكيل والجودة؛ لأنه يختلف فى الصفة والقيمة، ولا تجوز الشركة إلا على الاستواء فى القيمة، فاحتيج فى الطعام أن يستوى أمره فى الشركة فى الكيل والقيمة، وكان الاستواء فى ذلك لا يكاد أن يجتمع فيه فكرهه، وليس الطعام مثل الدنانير والدراهم التى هى على الاستواء عند الناس. وكان الأبهرى يقول: قول ابن القاسم أشبه؛ لأن الشركة تشبه البيع. قال: وكما جاز بيع الطعام بالطعام إذا استويا فى الكيل، وإن اختلفا فى القيمة، فكذلك تجوز الشركة فيه. واختلفوا فى الشركة بالعروض، فقال مالك، وابن أبى ليلى: هو جائز. وقال الثورى، والكوفيون، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: لا يجوز ذلك. وقال الشافعى: لا تجوز الشركة فى كل ما يرجع فى حال المفاضلة إلى القيمة، إلا أن يبيع نصف عرضه بنصف عرض الآخر ويتقايضا. وقال ابن المنذر: إنما لم تجز الشركة بالعروض؛ لأن رءوس أموالهم مجهولة، وغير جائز عقد الشركة على مجهول. وحجة مالك فى إجازة ذلك أن الشركة إنما وقعت على قيمة العرض الذى أخرجه كل واحد منهما، فلم يكن رأس مال مجهولاً، وأما إجازة ابن عمر الشركة للذى غمز صاحبه، فهو قول مالك. قال ابن حبيب: من قول مالك فى الذى يشترى الشىء للتجارة، فيقف به الرجل لا يقول له شيئًا، حتى إذا فرغ من الشراء استشركه، فرأى مالك أن الشركة له لازمة وأن يقضى بها؛ لأنه أرفق بالناس من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 إفساد بعضهم على بعض، ووجه ذلك أن المشترى قد انتفع بترك الزياد عليه، فوجبت الشركة بينهما بسبب انتفاعه بذلك. وكذلك إذا غمزه وسكت، فسكوته رضًا بالشركة؛ لأنه كان يمكنه أن يقول له: لا أشركك، فيزيد عليه، فلما سكت كان ذلك رضًا. قال عبد الملك بن حبيب: وذلك لتجار تلك السلعة خاصة كان مشتريها فى الأول من أهل تلك التجارة أو غيرهم. قال: وكل ما اشتراه لغير تجارة، فسأله رجل أن يشركه وهو يشترى، فلا تلزمه الشركة، وإن كان الذى استشركه من أهل التجارة. والقول قول المشترى مع يمينه أن شراءه ذلك لغير التجارة، قال: وما اشتراه الرجل من تجارته فى حانوته أو فى بيته فوقف به ناس من أهل تجارته فاستشركوه، فإن الشركة لا تلزمه، وليس مثل اشترائه ذلك فى غير حانوته ولا بيته. - بَاب الشَّرِكَةِ فِى الرَّقِيقِ / 18 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِى مَمْلُوكٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ كُلَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ قَدْرَ ثَمَنِهِ يُقَامُ قِيمَةَ عَدْلٍ، وَيُعْطَى شُرَكَاؤُهُ حِصَّتَهُمْ) . الشركة بيع من البيوع تجوز فى العبيد وفى كل شىء، وكل ما جاز أن يملكه رجل جاز أن يملكه رجلان شراء أو هبة أو غيره، إلا أن الشريك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 22 إذا وطئ جارية من مال الشركة، فإنهما يتقاومانها وتصير لأحدهما بثمن قد عرفه؛ لأنه لا تحل الشركة فى الفروج ولا إعارتها، ويدرأ عنه الحد بالشبهة. - بَاب الاشْتِرَاكِ فِى الْهَدْىِ وَالْبُدْنِ وَإِذَا أَشْرَكَ الرَّجُلُ رجلاً فِى هَدْيِهِ بَعْدَ مَا أَهْدَى / 19 - فيه: جَابِرٍ، وابْن عَبَّاس، قَالاَ: قَدِمَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَأَصْحَابُهُ صُبْحَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِى الْحِجَّةِ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ لاَ يَخْلِطُهُمْ شَىْءٌ، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَنَا، فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً. . .) ، إِلَى قَوله: وَجَاءَ عَلِىُّ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَمَرَه النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ وَإشْرَكَهُ فِى الْهَدْى. قال المهلب: لا يصح فى هذا الحديث ما ترجم به من الاشراك فى الهدى بعد ما أهدى؛ لأنه ما كان بعد تقليد الهدى وإشعاره، فإنما هو شريك فى الفضيلة؛ لأنه لا تجوز هبة الهدى ولا بيعه بعد تقليده، وما كان قبل تقليده فيمكن الشركة فى رقابه وهبته لمن يهدى عنه. قال المؤلف: ذكر البخارى فى المغازى، عن بريدة الأسلمى، أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، كان بعث عليًّا إلى اليمن قبل حجة الوادع ليقبض الخمس، وقال غير جابر: فقدم على من سعايته، فقال له، عَلَيْهِ السَّلام: (بما أهللت يا على؟) ، قال: بما أهل به النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال: (فاهد وامكث حرامًا كما أنت) ، قال: فأهدى له على هديًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 فهذا تفسير قوله: (وأشركه فى الهدى) ، أنه الهدى الذى أهداه على عن النبى، وجعل له ثوابه، فيحتمل أن يفرده، عَلَيْهِ السَّلام بثواب ذلك الهدى كله، فهو شريك له فى هديه؛ لأنه أهداه عنه متطوعًا من ماله، ويحتمل أن يشركه فى ثواب هدى واحد يكون بينهما، كما ضحى النبى عنه وعن أهل بيته بكبش، وعمن لم يضح من أمته بكبش وأشركهم فى ثوابه. ويجوز الاشتراك فى هدى التطوع، وقد تقدم اختلاف العلماء فى الاشتراك فى الهدى فى كتاب الحج فى باب قوله: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) [البقرة: 196] ، فأغنى عن إعادته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 24 42 - كِتَاب الرَّهون - الرَّهْنِ فِى الْحَضَرِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) [البقرة: 283] الآية / 1 - فيه أَنَس: رَهَنَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) دِرْعَهُ بِشَعِيرٍ. . . وذكر الحديث. الرهن جائز فى الحضر والسفر، وبه قال جميع الفقهاء، وحكى عن مجاهد أنه قال: لا يحل الرهن إلا فى السفر. وبه قال أهل الظاهر، واحتجوا بقوله: (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة) [البقرة: 283] ، قالوا: فأباح الرهن بشرط أن يكون فى السفر. وحجة الجماعة أن الله لم يذكر السفر على أن يكون شرطًا فى الرهن، وإنما ذكره لأجل أن الغالب فيه أن الكاتب يعدم فى السفر، وقد يوجد الكاتب فى السفر، ويجوز فيه الرهن، فكذلك يجب أن يجوز الرهن فى الحضر، وإن كان الكاتب حاضرًا؛ لأن الرهن إنما هو على معنى الاستيثاق، بدليل قوله تعالى: (فإن أمن بعضكم بعضًا) [البقرة: 283] الآية، وكل ما جاز أن يستوثق به فى الحضر كالكفيل والضمين. وقد رهن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، درعه بالمدينة عند يهودى فى شعير أخذه لأهله، والمدينة حضرته ووطنه، فسقط قولهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 - بَاب مَنْ رَهَنَ دِرْعَهُ / 2 - فيه الأَعْمَشُ، قَالَ: تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ وَالْقَبِيلَ فِى السَّلَفِ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: حَدَّثَنِى الأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، اشْتَرَى مِنْ يَهُودِىٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَ دِرْعَهُ. وترجم له الرهن عند اليهود وغيرهم، وإنما أراد النخعى أن يستدل بأن الرهن لما جاز فى الثمن بالسنة المجتمع عليها، جاز فى المثمن وهو السلم. وبيان ذلك أنه لما جاز أن يشترى الرجل طعامًا أو عرضًا بثمن إلى أجل، ويرهن فى الثمن رهنًا، كذلك يجوز إذا دفع عينًا سلمًا فى عرض طعام أو غيره أن يأخذ فى الشىء المسلم فيه رهنًا، وكل ما جاز تملكه وبيعه جاز رهنه. وفى رهن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، درعه عند يهودى من الفقه دليل أن متاجرة أهل الكتاب والمشركين جائزة، إلا أن أهل الحرب لا يجوز أن يباع منهم السلاح، ولا كل ما يتقوون به على أهل الإسلام، ولا أن يرهن ذلك عندهم، وكان هذا اليهودى الذى رهنه النبى، عَلَيْهِ السَّلام، درعه من أهل الذمة، وممن لا تخشى منه غائلة ولا مكيدة للإسلام، ولم يكن حربيًا. 3 - بَاب رَهْنِ السِّلاَحِ / 3 - فيه جَابِر: قَالَ النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا، فَأَتَاهُ فَقَالَ: أَرَدْنَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 أَنْ تُسْلِفَنَا وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ، فَقَالَ: ارْهَنُونِى نِسَاءَكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا، وَأَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ؟ قَالَ: فَارْهَنُونِى أَبْنَاءَكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ أَبْنَاءَنَا، فَيُسَبُّ أَحَدُهُمْ، فَيُقَالُ: رُهِنَ بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ، هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا، وَلَكِنَّا نَرْهَنُكَ اللأَمَةَ، يَعْنِى السِّلاَحَ، فَوَعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَتَوُا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَأَخْبَرُوهُ. قال ابن إسحاق: كان كعب بن الأشرف من طى، وكانت أمه من بنى النضير، وكان يعادى النبى ويحرض المشركين عليه، فلما أصيب المشركون ببدر خرج إلى مكة يحرض على رسول الله، ثم رجع إلى المدينة يشبب بنساء المسلمين حتى أذاهم، فقال النبى، عَلَيْهِ السَّلام، عند ذلك: (من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله) . قال المهلب: ولم تكن بنو النضير ذمة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فلم يكن كعب بن الأشرف فى عهد لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قال: والدليل على ذلك إعلان النبى، عَلَيْهِ السَّلام، بأنه آذى الله ورسوله على رءوس الناس، وكيف يكون فى عهد من يشكو منه الأذى، بل كان ممتنعًا وقومه فى حصنه، وكان المسلمون يقنعون منهم بالقعود عن حربهم والتجيش عليهم، وإنما كانت بينهم مسالمة وموافقة للجيرة. فكان النبى (صلى الله عليه وسلم) يمسك عنهم لإمساكهم عنه من غير عهد ولا عقد، ولو كان لكعب عهد لنقضه بالأذى، ولوجب حربه، ولكان بقوله، عَلَيْهِ السَّلام: (من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله؟) ، نابذًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 إليه عهده، ومسقطًا بذلك ذمته، ولو كان من أهل العهد والذمة لوجب حربه واغتياله بكل وجه. فمن لام النبى، عَلَيْهِ السَّلام، على ذلك، فقد كذب الله فى قوله: (فتول عنهم فما أنت بملوم) [الذاريات: 54] ، ووضف رسوله (صلى الله عليه وسلم) بما لا يحل له مما نزهه الله عنه، والله ولى الانتقام منه. وقد تقدم هذا المعنى فى باب الفتك فى الحرب فى كتاب الجهاد، ولم يجز أن يرهن عند كعب بن الأشرف سلاح ولا شىء مما يتقوى به على أذى المسلمين، وليس قولهم له: نرهنك اللأمة، مما يدل على جواز رهن الحربيين السلاح، وإنما كان ذلك من معاريض الكلام المباحة فى الحرب وغيره. 4 - بَاب الرَّهْنُ مَحْلُوبٌ وَمَرْكُوبٌ وَقَالَ إِبْرَاهِيمَ: تُرْكَبُ الضَّالَّةُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا، وَتُحْلَبُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا، وَالرَّهْنُ مِثْلُهُ. / 4 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ، وَيُشْرَبُ لَبَنُ الدَّرِّ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا) . / 5 - وَقَالَ مَرةٌ، عَن النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام: (الظهر يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِى يَشْرَبُ وَيَرْكَبُ النَّفَقَةُ) . قال ابن المنذر: اختلف العلماء فيمن له منفعة الرهن من ركوب الظهر ولبن الدر وغير ذلك، فقالت طائفة: كل ذلك للراهن ليس للمرتهن أن ينتفع بشىء من ذلك. وروى ذلك عن الشعبى، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 وابن سيرين، وقال النخعى: كانوا يكرهون ذلك، وهو قول الشافعى، فإن للراهن أن يركب الرهن ويشرب لبنه بحق نفقته عليه، ويأوى فى الليل إلى المرتهن. ورخصت طائفة أن ينتفع المرتهن من الرهن بالركوب والحلب دون سائر الأشياء على لفظ الحديث أن الرهن محلوب ومركوب، هذا قول أحمد وإسحاق. وقال أبو ثور: إن كان الراهن لا ينفق عليه وتركه فى يد المرتهن فأنفق عليه، فله ركوبه واستخدامه على ظاهر الحديث. وذكر غير ابن المنذر، عن الأوزاعى، والليث مثله، ولا يجوز عند مالك، والكوفيين للراهن الانتفاع بالرهن وركوبه بعلفه وغلته لربه. واحتج الطحاوى لأصحابه، وقال: أجمع العلماء على أن نفقة الرهن على الراهن لا على المرتهن، وأنه ليس للمرتهن استعمال الرهن، قال: والحديث مجمل لم يبين فيه الذى يركب ويشرب، فمن أين جاز للمخالف أن يجعله للراهن دون المرتهن، ولا يجوز حمله على أحدهما إلا بدليل. قال الطحاوى: وقد روى هشيم، عن زكريا، عن الشعبى، عن أبى هريرة، عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال: (إذا كانت الدابة مرهونة، فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب، وعلى الذى يشرب نفقتها وتركب) . فدل هذا الحديث أن المعنى بالركوب وشرب اللبن فى الحديث الأول هو المرتهن لا الراهن، فجعل ذلك له، وجعلت النفقة عليه بدلاً مما ينقص منه، وكان هذا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 والله أعلم، وقت كون الربا مباحًا، ولم ينه حينئذ عن قرض جر منفعة، ولا عن أخذ الشىء بالشىء إن كانا غير متساويين، ثم حرم الربا بعد ذلك، وحرم كل قرض جر منفعة، ونهى عن أخذ الشىء بالشىء إن كانا غير متساويين، وحرمت أشكال ذلك كلها، وردت الأشياء المأخوذة إلى أبدالها المساوية لها، وحرم بيع اللبن فى الضرع، ودخل فى ذلك النهى عن النفقة التى ملك بها المنفق لبنًا فى الضرع، وتلك النفقة غير موقوف على مقدارها، واللبن كذلك أيضًا. فارتفع بنسخ الربا أن تجب النفقة على المرتهن بالمنافع التى تجب له عوضًا منها، وباللبن الذى يحتلبه فيشربه. ويقال لمن جوز للراهن استعمال الرهن: أيجوز للراهن أن يرهن دابة هو راكبها؟ فلا يجد بدًا من أن يقول: لا، فيقال له: فإذا كان الرهن لا يجوز إلا أن يكون محلاً بينه وبين المرتهن فيقبضه ويصير فى يده دون الراهن، كما وصف الله الراهن بقوله: (فرهان مقبوضة) [البقرة: 283] ، فقد ثبت أن دوام القبض فى الرهن لابد منه إذا كان الرهن إنما هو وثيقة فى يد المرتهن بالدين. وقد أجمعت الأُمَّةُ أن الأَمَة الرهن لا يجوز للراهن أن يطأها، فكذلك لا تجوز له خدمتها، وقد حدثنا فهد، قال: نا أبو نعيم، حدثنا الحسن بن صالح، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، قال: لا ينتفع من الرهن بشىء، فهذا الشعبى روى الحديث وأفتى بخلافه، ولا يجوز عليه ذلك إلا وهو عنده منسوخ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 وقال ابن القاسم عن مالك: إذا خلى المرتهن بين الراهن وبين الرهن يركبه أو يعيره أو يسكنه لم يكن رهنًا، فإذا أجره المرتهن بإذن الراهن أو أعاره لم يخرج من الرهن، والأجرة لرب الرهن، ولا يكون الكراء رهينة إلا أن يشترط المرتهن، فإن اشترط فى البيع أن يرتهن ويأخذ حقه من الكراء، فإن مالكًا كرهه، وإن كان البيع وقع بهذا الشرط إلى أجل معلوم، فإن ذلك عند مالك يجوز فى الدور والأرضين، وكرهه فى الدواب والثياب، إذ لا يدرى كيف يرجع إليه، وكرهه فى القرض؛ لأنه يصير سلفًا جر منفعة. وقال الكوفيون: إذا أجر المرتهن الرهن بإذن الراهن أو أجره الراهن بإذن المرتهن، فقد خرج من الرهن. وحكم الضالة مخالف لحكم الرهن عند مالك وغيره، قال مالك: إذا أنفق على الضالة من الإبل والدواب، فله أن يرجع بذلك على صاحبها إذا جاء، وإن أنفقها بغير أمر السلطان، وله أن يحبس ذلك بالنفقة، إذ لا يقدر على صاحبها، ولابد من النفقة عليها، والمرتهن يأخذ راهنه بنفقته، فإن غاب رفع ذلك إلى الإمام. وقال أبو حنيفة والشافعى: إن أنفق بغير أمر القاضى، فهو متطوع، وإن أنفق بأمر القاضى، فهو دين على صاحبها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 31 5 - بَاب إِذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ وغيرهما فَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِى وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ / 6 - فيه ابْن عَبَّاس: أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَضَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. / 7 - وفيه عَبْدُ اللَّهِ: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالاً وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِىَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ) ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً) [آل عمران: 77] الآية، ثُمَّ إِنَّ الأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ، قَالَ: فِىَّ نزلت، كَانَتْ بَيْنِى وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِى بِئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى النّبِى، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ) ، قُلْتُ: إِنَّهُ إِذًا يَحْلِفُ وَلاَ يُبَالِى، فَقَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ. . .) الحديث، فأنزل الله الآية. إذا اختلف الراهن والمرتهن فى مقدار الدين والرهن قائم، فقال الراهن: رهنتك بعشرة دنانير. وقال المرتهن: بعشرين دينارًا، فقال أبو حنيفة، وأصحابه، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: القول قول الراهن مع يمينه، وقالوا: المرتهن مدع، فإذا لم تكن له بينة حلف الراهن؛ لأنه مدعى عليه على ظاهر السنة فى الدعوى لو لم يكن ثم رهن، ولا يلزم الراهن من الدين إلا ما أقر به، أو قامت عليه بينة. وفيه قول ثان: وهو أن القول قول المرتهن، ما لم يجاوز ثمنه قيمة الرهن، روى هذا عن الحسن وقتادة، ونحوه قال مالك، قال: القول قول المرتهن مع يمينه ما بينه وبين قيمة الرهن؛ لأن الرهن كشاهد للمرتهن إذا أجازه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 وإن ادعى أكثر من قيمة الرهن لم يصدق فى الزيادة، ويكون القول قول الراهن مع يمينه، ويبرأ من الزيادة على قيمته ويؤدى قيمته، وحجته أن الراهن مدع لاستحقاق أخذ الرهن وإخراجه عن يد المرتهن، والمرتهن منكر أن يكون الراهن مستحقًا لذلك بما ذكره، فاليمين على المرتهن؛ لأن الراهن معترف بكونه رهنًا فى يد المرتهن، والرهن وثيقة بالحق وشاهد له، كالشهادة أنها وثيقة بالحق ومصدقة له فأشبه اليد، فصار القول قول من فى يده الرهن إلى مقدار قيمته. وإنما كان القول قول الراهن فيما زاد على قيمة الرهن؛ لأن المرتهن مدع جملة ما يذكره من الحق، فعليه أن يحلف على جملة ذلك، ثم يكون له مما حلف عليه قدر ما يشهد الرهن له من قيمته، فيكون كالشاهد واليمين؛ لأن المرتهن لا شهادة له فيما يذكره فيما زاد على قيمة الرهن، فصار مدعيًا لذلك، والراهن مدعى عليه، فكان حكم ذلك حكم المدعى والمدعى عليه، فإما بينة المدعى، أو يمين المدعى عليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 43 - كِتَاب الْعِتْقِ - ما جاء فِى الْعِتْقِ وَفَضْلِهِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ) [البلد: 13 - 15] / 1 - فيه أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا اسْتَنْقَذَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ. . .) الحديث. قال المهلب: فى هذا الحديث فضل العتق، وأنه من أرفع الأعمال، ومما ينجى الله به من النار، وفيه أن المجازاة قد تكون من جنس الأعمال، فجوزى المعتق للعبد بالعتق من النار، وإن كانت صدقة تصدق عليه فى الآخرة، وهذا الحديث يبين أن تقويم باقى العبد على من أعتق شقصًا منه إنما هو لاستكمال عتق نفسه من النار، وصارت حرمة العتق تتعدى إلى الأموال لفضل النجاة به من النار، وهذا أولى من قول من قال: إنما ألزم المعتق باقيه ليكمل حرمة العبد، وتتم شهادته وحدوده، وهو قول لا دليل عليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 - بَاب أَىُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ / 2 - فيه: أَبُو ذَرّ، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام: أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (إِيمَانٌ بِاللَّهِ، وَجِهَادٌ فِى سَبِيلِهِ) ، قُلْتُ: فَأَىُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (أَغْلاَهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا) ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: (تُعِينُ ضَائعًا، أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ) ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: (تَدَعُ النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ) . قال المهلب: وإنما قرن الجهاد فى سبيل الله بالإيمان به؛ لأنه كان عليهم أن يجاهدوا فى سبيل الله حتى تكون كلمة الله هى العليا، وحتى يفشو الإسلام وينتشر، فكان الجهاد ذلك الوقت أفضل من كل عمل. وقوله: (أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها) ، فمعنى ذلك أن من اشتراها بكثير الثمن، فإنما فعل ذلك لنفاستها عنده، ومن أعتق رقبة نفيسة عنده وهو مغتبط بها، فلم يعتقها إلا لوجه الله، وهذا الحديث فى معنى قوله: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) [آل عمران: 92] ، وكان لابن عمر جارية يحبها فأعتقها لهذه الآية، ثم ابتغتها نفسه، فأراد أن يتزوجها فمنعه بنوه، فكان بعد ذلك يقرب بنيها من غيره لمكانها من قلبه. وقوله: (تعين ضائعًا) ، أى تعين فقيرًا، (أو تصنع لأخرق) ، يعنى عاملاً لا يستطيع عمل ما يحاوله، والخرق لا يكون إلا فى اليدين، وهو الذى لا يحسن الصناعات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 3 - بَاب مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الْعَتَاقَةِ فِى الْكُسُوفِ وَالآيَاتِ / 3 - فيه: أَسْمَاء، أَمَرَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، بِالْعَتَاقَةِ فِى كُسُوفِ الشَّمْسِ. قال المهلب: إنما أمر بالعتاقة فى الكسوف؛ لأن بالعتق يستحق العتق من النار، والكسوف آية من آيات الله، قال الله: (وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا) [الإسراء: 59] ، فلذلك صلى، عَلَيْهِ السَّلام، وأطال الصلاة من أجل الخوف الذى توعد الله عليه فى القرآن، وأمر بالعتاقة، وقد تقدم هذا الباب فى صلاة الكسوف. 4 - بَاب إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَمَةً بَيْنَ شُّرَكَاءِ / 4 - فيه: ابْن عُمر، قَالَ النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُعْتَقُ) . / 5 - وقال مرة: (قُوِّمَ عَلَيْهِ بقِيمَةَ العَدْل، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَأعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلاَ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ) . وقال: كان ابن عمر يفتى فى العبد والأمة تكون بين الشركاء بذلك. اختلف الفقهاء فى العبد إذا كان بين رجلين، فأعتق أحدهما نصيبه، فقالت طائفة: لا يجب عليه الضمان بقيمة نصيب شريكه لعتاقه إلا أن يكون موسرًا على ظاهر حديث ابن عمر، قالوا: وإنما فى حديث ابن عمر وجوب الضمان على الموسر خاصة دون المعسر، يدل على ذلك قوله، عَلَيْهِ السَّلام: (وإلا فقد عتق منه ما عتق) ، هذا قول ابن أبى ليلى، ومالك، والثورى، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 وقال زفر: يضمن قيمة نصيب شريكه موسرًا كان أو معسرًا، ويخرج العبد كله حرًا، وقال: العتق من الشريك الموسر جناية على نصيب شريكه يجب بها عليه ضمان قيمته فى ماله، ومن جنى على مال رجل وهو موسر أو معسر، وجب عليه ضمان ما أتلف بجنايته، ولم يفترق حكمه إن كان موسرًا أو معسرًا فى وجوب الضمان عليه. وهذا قول مخالف للحديث، فلا وجه له؛ لأن قوله، عَلَيْهِ السَّلام: (وإلا فقد عتق منه ما عتق) ، دليل أن ما بقى من العبد لم يدخله عتاق، فهو رقيق للذى لم يعتق على حاله، ولو فقد العتق فى الكل إذا كان معسرًا يرجع الشريك إلى ذمة غير ملية، فلا يحصل له عوض، وفى هذا إضاعة المال وإتلاف له، وقد نهى عن ذلك. واختلفوا فى معنى هذا الحديث، فقال مالك فى المشهور عنه: للشريك أن يعتق نصيبه قبل التقويم كما أعتق شريكه أولاً، ويكون الولاء بينهما، ولا يعتق نصيب الشريك إلا بعد التقويم وأداء القيمة. وقال أبو يوسف، ومحمد، والشافعى: إن كان المعتق الأول موسرًا أعتق جميع العبد حينئذ وكان حرًا، ولا سبيل للشريك على العبد، وإنما له قيمة نصيبه على شريكه كما لو قتله، قالوا: لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من أعتق شقصًا له فى عبد قوم عليه قيمة عدل ثم يعتق إن كان موسرًا) . فأمر بالتقويم للذى يكون فى الشىء المتلف، فعلم أنه إذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 37 أعتق نصيبه فقد أتلف نصيب شريكه بالعتق، فلزمته القيمة، وقد روى مثله عن مالك. والحجة لمالك فى مشهور مذهبه أن نصيب كل واحد من الشريكين غير تابع لنصيب صاحبه، والدليل على ذلك أنه لو باع أحدهما نصيبه لم يصر نصيب شريكه مبيعًا، فكذلك لا يصير نصيب شريكه حرًا بعتق نصيبه. وأيضًا فإنه لو أعتق نصيب شريكه ابتداء لم يعتق، وكذلك يجب إذا ابتدأ عتق نصيب شريكه أن ينعتق، وينعتق نصيبه بعتق نصيب شريكه، فلما لم يكن نصيبه هاهنا تبعًا ولا سرى إليه العتق، كذلك لا يكون نصيب شريكه تبعًا لنصيبه ولا يسرى إليه العتق، واحتج مالك فى المدونة، فقال: ألا ترى أنه لو مات العبد قبل التقويم لم يلزم المعتق الأول شىء. 5 - بَاب إِذَا أَعْتَقَ نَصِيبًا فِى عَبْدٍ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ اسْتُسْعِىَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ نَحْوِ الْكِتَابَةِ / 6 - فيه أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (مَنْ أَعْتَقَ شَقِصًا فِى عَبْدٍ، فَخَلاَصُهُ عَلَيْهِ فِى مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلاَ قُوِّمَ عَلَيْهِ، وَاسْتُسْعِىَ بِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ) . رواه جرير بن حازم، وسعيد، عن قتادة، وَتَابَعَهُ حَجَّاجُ بْنُ حَجَّاجٍ، وَأَبَانُ، وَمُوسَى ابْنُ خَلَفٍ، عَنْ قَتَادَةَ، واخْتَصَرَهُ شُعْبَةُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 38 اختلف العلماء فى العبد بين الرجلين يعتق أحدهما نصيبه وهو معسر، فذهب الكوفيون، والثورى، والأوزاعى إلى أنه إذا كان المعتق معسرًا، سعى العبد فى حصة شريكه حتى يؤدى قيمتها، واحتجوا بهذا الحديث. وقال آخرون: لا يعتق منه إلا ما عتق، ولا يجوز أن يستسعى العبد؛ لأنه لم يتعد ولا جنى ما يجب عليه ضمانه ولا يؤخذ أحد بجناية غيره، هذا قول مالك، والشافعى، وأحمد ابن حنبل. وقوله، عَلَيْهِ السَّلام، فى حديث ابن عمر: (وإلا فقد عتق منه ما عتق) ، يبطل الاستسعاء؛ لأنه لم يقل: ويستسعى العبد، وقد روى همام، وشعبة، وهشام الدستوائى هذا الحديث عن قتادة، ولم يذكر فيه السعاية، حدثنا المهلب، قال: حدثنا أبو محمد الأصيلى، قال: حدثنا أبو الحسن الدارقطنى، قال: حدثنا أبو بكر النيسابورى، قال: حدثنا على بن الحسن بن أبى عيسى الهلالى، حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبى هريرة، أن رجلاً أعتق شقصًا له فى مملوك، فأجاز النبى (صلى الله عليه وسلم) عتقه وغرمه بقيمة ثمنه. قال قتادة: فإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه. قال الدارقطنى: ما أحسن ما رواه همام وضبطه فصل قول قتادة. قال الأصيلى وابن القصار: ومن أسقط السعاية أولى ممن ذكرها؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 لما رواه عمران بن الحصين، عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، فى الذى أعتق الستة الأعبد، فأسهم النبى، عَلَيْهِ السَّلام، بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة، ولم يلزمهم الاستسعاء. وعلى مذهب أبى حنيفة كان يجب أن يعتق من كل واحد جزءًا ويلزمه السعاية فى قيمة الباقى منه، والنبى، عَلَيْهِ السَّلام، أقرع بينهم فأعتق اثنين منهم، وهذا مخالف لما يقوله أبو حنيفة. 6 - بَاب الْخَطَأ وَالنِّسْيَانِ فِى الْعَتَاقَةِ وَالطَّلاَقِ وَنَحْوِهِ وَلاَ عَتَاقَةَ إِلاَ لِوَجْهِ اللَّهِ قَالَ النَّبىُّ عَلَيْهِ السَّلام: (لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) ، وَلاَ نِيَّةَ لِلنَّاسِى وَالْمُخْطِئِ. / 7 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِى عَنْ أُمَّتِى مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ) . / 8 - وفيه: عُمَرَ، قَالَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (الأَعْمَالُ بِالنِّيَّات، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. . .) الحديث. الخطأ والنسيان إنما يكون فى الحنث فى الأيمان بعتق كانت اليمين أو بطلاق أو غيره، وقد اختلف العلماء فى الناسى فى يمينه، هل يلزمه حنث أم لا؟ فقالت طائفة: لا يلزم الناسى حنث، وهو قول عطاء بن أبى رباح، وهو أحد قولى الشافعى، وبه قال إسحاق، وإليه ذهب البخارى فى هذا الباب. وقال الشعبى وطاوس: من أخطأ فى الطلاق فله نيته. وقال أحمد بن حنبل: يحنث فى الطلاق خاصة. والحجة لقول عطاء: قوله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 40 تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) [الأحزاب: 5] ، وهو ظاهر أحاديث هذا الباب. وذهب مالك، والكوفيون إلى أنه يحنث فى الخطأ والنسيان، وهو الأشهر عن الشافعى، وروى ذلك عن أصحاب ابن مسعود، وقد تقدم فى كتاب الأيمان والنذور اختلاف أهل العلم فيمن حنث ناسيًا فى يمينه، فأغنى عن إعادته. ومن الخطأ فى العتق والطلاق ما اختلف فيه ابن القاسم وأشهب أنه إذا دعا عبدًا يقال له: ناصح، فأجابه مرزوق، فقال له: أنت حر، وهو يظن أنه ناصح، وشهد عليه بذلك، فقال ابن القاسم: يعتقان جميعًا، يعتق مرزوق لمواجهته بالعتق، ويعتق ناصح بما نواه، وأما فيما بينه وبين الله، فلا يعتق إلا ناصح. قال ابن القاسم: فإن لم يكن عليه بينة لم يعتق إلا الذى نوى. وقال أشهب: يعتق مرزوق فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين العباد، ولا يعتق ناصح؛ لأنه دعاه ليعتقه فأعتق غيره وهو يظنه هو، فرزق هذا وحرم هذا. وروى مطرف، وابن الماجشون فيمن أراد أن يطلق امرأته واحدة فأخطأ لسانه فطلقها البتة، طلقت عليه البتة، ولا ينفعه ما أراد، ولا نية له فى ذلك. وهو قول مالك، قال: يؤخذ الناس بلفظهم فى الطلاق، ولا تنفعهم نياتهم. وقال أصبغ، عن ابن القاسم: وعلى هذا القول يكون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 تأويل قوله، عَلَيْهِ السَّلام: (الأعمال بالنيات) ، على الخصوص كأنه قال: الأعمال بالنيات إلا فى العتق والطلاق، فإن الأعمال فيهما بالأقوال والنيات، فمن ادعى الخطأ بلسانه فيهما، فإثم ذلك ساقط عنه، وهو مأخوذ بما نطق به لسانه حياطة للفروج وتحصينًا لها من الإقدام على وطئها بالشك، واحتياطًا من الرجوع فى عتق الرقاب المنجية من النار التى أمر النبى، عَلَيْهِ السَّلام، للمعتق شقصًا منها بتمام عتق جميع الرقبة وتخليصها من الرق، وروى نافع، وزياد بن عبد الرحمن، عن مالك، أنه تنفعه نيته، ولا تطلق إلا واحدة. وقد روى عن الحسن البصرى فى رجل كان يكلم امرأته فى شىء فغلط، فقال: أنت طالق، قال: ليس عليه شىء فيما بينه وبين ربه، والمعمول عليه من مذهب مالك المشهور عند أصحابه القول الأول. 7 - بَاب إِذَا قَالَ للعبد: هُوَ لِلَّهِ وَنَوَى الْعِتْقَ وَالإِشْهَادِ فِى الْعِتْقِ / 9 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمَّا أَقْبَلَ يُرِيدُ الإِسْلاَمَ وَمَعَهُ غُلاَمُهُ، ضَلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، فَأَقْبَلَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ جَالِسٌ مَعَ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ له النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، هَذَا غُلاَمُكَ قَدْ أَتَاكَ) ، فَقَالَ: أَمَا إِنِّى أُشْهِدُكَ أَنَّهُ حُرٌّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 وقال مرة: أبقى لى غلام. . . الحديث، فقال: (هو لوجه الله) ، وقال مرة: أما إنى أشهدك أنه لله. قال المهلب: لا خلاف بين العلماء فيما علمت أنه إذا قال لعبده: هو حر، أو هو لوجه الله، أو هو لله ونوى به العتق أنه يلزمه العتق، وكل ما يفهم به عن المتكلم أنه أراد به العتق لزمه ونفذ عليه، وأما الإشهاد فى العتق فهو من حقوق المعتق، ويتم العتق عند الله، وجميع ما يراد به وجهه بالقول والنية، وإن لم يكن ثم إشهاد، وقد قالت امرأة عمران: (رب إنى نذرت لك ما فى بطنى محررًا) [آل عمران: 35] ، أى محررًا لخدمة المسجد،) فتقبلها ربها بقبول حسن) [آل عمران: 37] ، فتم ما نذرته بدعوتها الله، وقبل الله ذلك منها، فكان ما فى بطنها موقوفًا لما نذرته له من خدمة المسجد، ولم تشهد غير الله تعالى. وفى هذا الحديث من الفقه العتق عند بلوغ الأمل والنجاة مما يخاف من الفتن والمحن، كما فعل أبو هريرة حين نجاه الله من دار الكفر، ومن ضلاله فى الليل عن الطريق، وأعتق الغلام حين جمعه الله عليه وهداه إلى الإسلام. 8 - بَاب أُمِّ الْوَلَدِ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام: (مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّهَا) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 43 / 10 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةَ بْنَ أَبِى وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ أَنْ يَقْبِضَ إِلَيْهِ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، قَالَ عُتْبَةُ: إِنَّهُ ابْنِى، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) زَمَنَ الْفَتْحِ، أَخَذَ سَعْدٌ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَأَقْبَلَ بِهِ إِلَى النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَأَقْبَلَ مَعَهُ بِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا ابْنُ أَخِى عَهِدَ إِلَىَّ أَنَّهُ ابْنُهُ، فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا أَخِى ابْنُ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أبِى، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَإِذَا هُوَ أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِيهِ) ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (احْتَجِبِى مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ) ، مِمَّا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، وَكَانَتْ سَوْدَةُ زَوْجَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . أشكل معنى قصة عتبة على العلماء، وتأولوا فيها ضروبًا من التأويل لخروجها عن الأصول المجمع عليها، فمن ذلك أن الأمة متفقة أنه لا يدعى أحد عن أحد إلا بتوكيل من المدعى له، ولم يذكر فى هذا الحديث توكيل عتبة لأخيه سعد على ما ادعاه عنه، ومنها ادعاء عبد بن زمعة على أبيه ولدًا بقوله: أخى وابن وليدة أبى، ولد على فراشه، ولم يأت ببينة تشهد بإقرار أبيه، ولا يجوز أن يقبل دعواه على أبيه؛ لأنه لا يستلحق غير الأب؛ لقوله تعالى: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) [الأنعام: 164] . وقال الطحاوى: ذهب قوم إلى أن الأمة إذا وطئها مولاها فقد لزمه كل ولد تجىء به بعد ذلك، ادعاه أو لم يدعه، هذا قول مالك والشافعى، واحتجوا بهذا الحديث؛ لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (هو لك يا عبد بن زمعة) ، ثم قال: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) ، فألحقه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 44 رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بزمعة لا لدعوة ابنه؛ لأن دعوة الابن للنسب لغيره من أبيه غير مقبولة، ولكن لأن أمه كانت فراشًا لزمعة بوطئه إياها. واحتجوا فى ذلك بما رواه مالك، عن نافع، عن صفية بنت أبى عبيد، أن عمر بن الخطاب قال: ما بال رجال يطئون ولائدهم ثم يدعونهن يخرجن، لا تأتينى وليدة يقر سيدها أن قد ألم بها إلا ألحقت به ولدها، فأرسلوهن بعد أو أمسكوهن. وفى حديث آخر: ما بال رجال يطئون ولائدهم، ثم يعزلونهن. وخالفهم فى ذلك آخرون، فقالوا: ما جاءت به هذه الأمة من ولد، فلا يلزم مولاها إلا أن يقربه، فإن مات قبل أن يقربه لم يلزمه. وهو قول الكوفيين. واحتجوا على ذلك بأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إنما قال لعبد بن زمعة: (هو لك يا عبد بن زمعة) ، ولم يقل: هو أخوك، فيجوز أن يكون أراد بقوله: (هو لك) ، أى هو مملوك لك بحق مالك عليه من اليد، ولم يحكم فى نسبه بشىء، والدليل على ذلك أنه قد أمر سودة بالاحتجاب منه، فلو جعله ابن زمعة لما حجب منه بنت زمعة؛ لأنه عَلَيْهِ السَّلام لا يأمر بقطع الأرحام، وإنما كان يأمر بصلتها ومن صلتها التزاور، وكيف يجوز أن يأمرها أن تحتجب من أخيها، وهو يأذن لعائشة أن تأذن لعمها من الرضاعة بالدخول عليها، ولكن وجه ذلك أنه لم يكن حكم فيه بشىء غير اليد التى جعله بها لعبد ولسائر ورثة زمعة دون سعد. واحتجوا أيضًا بما رواه شعبة، عن عمارة بن أبى حفصة، عن عكرمة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 45 قال: كان ابن عباس يأتى جارية له فحملت، فقال: ليس منى، إنى أتيتها إتيانًا لا أريد به الولد. وروى الثورى، عن أبى الزناد، عن خارجة بن زيد، أن أباه كان يعزل عن جارية فارسية فأتت بحمل، فأنكره وقال: إنى لم أكن أريد ولدك، وإنما استطبت نفسك، فجلدها وأعتقها. وقول ابن عباس وزيد خلاف ما روى عن عمر بن الخطاب فى ذلك أهل المقالة الأولى. واختلفوا فى معنى قوله، عَلَيْهِ السَّلام: (هو لك يا عبد بن زمعة) ، فقالت طائفة: إنما قال: (هو لك) ، أى هو أخوك كما ادعيت قضاء منه فى ذلك بعلمه؛ لأن زمعة بن قيس كان صهره، عَلَيْهِ السَّلام، وسودة بنت زمعة كانت زوجته، فيمكن أن يكون علم أن تلك الأمة كان يمسها زمعة، فألحق ولدها به لما علمه من فراش زمعة لا أنه قضى بذلك لاستلحاق عبد بن زمعة له. وقال الطحاوى فى قوله: (هو لك) ، أى هو لك بيدك عليه لا أنك تملكه، ولكن تمنع منه كل من سواك، كما قال فى اللقطة: هى لك بيدك عليها، تدفع غيرك عنها حتى يجىء صاحبها ليس على أنها ملك لك، ولما كان عبد بن زمعة له شريك فيما ادعاه وهى أخته سودة، ولم يعلم منها تصديق له، ألزم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عبد بن زمعة ما أقر به على نفسه، ولم يجعل ذلك حجة على أخته، إذ لم تصدقه، ولم يجعله أخاها وأمرها بالحجاب منه. وقال الطبرى: هو لك ملك لا أنه قضى له بنسبه. قال ابن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 46 القصار: فعنه جوابان: أحدهما: أنه كان يدعى عبد بن زمعة أنه حر وأنه أخوه ولد على فراش أبيه، فكيف يقضى له بالملك؟ ولو كان مملوكًا لعتق بهذا القول. والجواب الثانى: أنه لو قضى له بالملك لم يقل: الولد للفراش؛ لأنه المملوك لا يلحق بالفراش، ولكان يقول: هو ملك لك. وقال المزنى فى تأويل هذا الحديث: يحتمل أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) أجاب فيه على المسألة فأعلمهم بالحكم أن هذا يكون إذا ادعى صاحب فراش وصاحب زنا، لا أنه قبل قول سعد على أخيه عتبة، ولا على زمعة قول ابنه عبد بن زمعة أنه أخوه؛ لأنه كل واحد منهما أخبر عن غيره، وقد أجمع المسلمون أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره، فحكم بذلك ليعرفهم كيف الحكم فى مثله إذا نزل، وقد حكى الله مثل ذلك فى قصة داود إذ دخلوا عليه ففزع منهم: (فقالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض) [ص: 22] ، ولم يكونا خصمين، ولا كان لواحد منهما تسع وتسعون نعجة، ولكنهم كلموه ليعرف ما أرادوا، فيحتمل أن يكون، عَلَيْهِ السَّلام، حكم فى هذه القصة بنحو ذلك، ويحتمل أن تكون سودة جهلت ما علم أخوها عبد بن زمعة فسكتت، فلما لم يصح أنه أخ لعدم البينة بذلك أو الإقرار ممن يلزم إقراره، وزاده بعدًا شبهه بعتبة، أمرها بالاحتجاب منه، فكان جوابه، عَلَيْهِ السَّلام، على السؤال لا على تحقيقه زنا عتبة بقول أخيه، ولا بالولد أنه لزمعة بقول ابنه، بل قال: (الولد للفراش على قولك يا عبد بن زمعة لا على ما قال سعد) ، ثم أخبر بالذى يكون إذا ثبت مثل هذا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 47 وقال الكوفيون: قوله: (احتجبى منه يا سودة) ، دليل على أنه جعل للزنا حكمًا، فحرم به رؤية ذلك المستلحق لأخته سودة، وقال لها: (احتجبى منه) ، فمنعها من أخيها فى الحكم؛ لأنه ليس بأخيها فى غير الحكم؛ لأنه من زنا فى الباطن إذا كان شبيهًا بعتبة فجعلوه كأنه أجنبى لا يراها بحكم الزنا، وجعلوه أخاها بالفراش، وزعموا أن ما حرمه الحلال فالزنا أشد تحريمًا له. وقال الشافعى: رؤية ابن زمعة لسودة مباح فى الحكم، ولكنه كرهه للشبهة وأمرها بالتنزه عنه اختيارًا. وقال بعض أصحابه: إنه يجوز للرجل أن يمنع زوجته من رؤية أخيها، وذهبوا إلى أنه أخوها على كل حال؛ لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قضى بالولد للفراش وألحق ابن أمة زمعة بفراش زمعة، قالوا: وما حكم به فهو الحق. وفى قوله: (الولد للفراش) ، من الفقه إلحاق الولد بصاحب الفراش فى الحرة والأمة. وقوله: (وللعاهر الحجر) ، أى لا شىء للزانى فى الولد إذا ادعاه صاحب الفراش، وهذه كلمة تقولها العرب. 9 - بَاب بَيْعِ الْمُدَبَّرِ / 11 - فيه: جَابِرَ، قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنَّا عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَدَعَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِهِ فَبَاعَهُ. قَالَ جَابِرٌ: فَمَاتَ الْغُلاَمُ عَامَ أَوَّلَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 48 اختلف العلماء فى بيع المدبر، فقالت طائفة: يجوز بيعه ويرجع به صاحبه متى شاء، هذا قول مجاهد وطاوس، وبه قال الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واحتجوا بهذا الحديث، قالوا: وهو مذهب عائشة، وروى عنها أنها باعت مدبرة لها سحرتها. وقالت طائفة: لا يجوز بيع المدبر، روى ذلك عن زيد بن ثابت وابن عمر، وهو قول الشعبى، وسعيد بن المسيب، وابن أبى ليلى، والنخعى، وبه قال مالك، والثورى، والليث، والكوفيون، والأوزاعى، قالوا: لا يباع المدبر فى دين ولا غيره، فى الحياة ولا بعد الموت، والحجة لهم قوله تعالى: (أوفوا بالعقود) [المائدة: 1] ، والتدبير عقد طاعة يلزم الإنسان الوفاء به، فلا سبيل إلى حله والرجوع فيه؛ لأنه عقد حرية بصيغة آتية لا محالة، قالوا: ولا حجة فى حديث جابر لمن أجاز بيع المدبر؛ لأن فى الحديث أن سيده كان عليه دين فباعه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بثمانمائة وأعطاه، وقال له: (اقض دينك) ، فثبت بهذا أن بيعه إنما كان من أجل الدين الذى عليه، فأما إذا لم يكن عليه دين قبل تدبيره فلا سبيل إلى بيعه. وأيضًا فإن سيده كان سفيهًا، ولذلك باعه النبى، عَلَيْهِ السَّلام، وبيع المدبر عند من أجازه لا يفتقر صاحبه فيه إلى بيع الإمام، وهذا الحديث عند العلماء أصل فى أن أفعال السفيه مردودة، فلا حجة لهم فيه. فإن قيل: إن التدبير وصية يجوز الرجوع فيه، قيل: ليس كونه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 49 وصية يجوز الرجوع فيه؛ لأن العتق فى المرض لا يجوز الرجوع فيه، وإن كان يخرج من الثلث، فكذلك المدبر. وجمهور العلماء متفقون أن ولد المدبرة الذين تلدهم بعد التدبير بمنزلتها يعتقون بموت سيدها، فإذا كان التدبير يسرى إلى الولد، فلأن يلزم فى الأم أولى. قال الطبرى: وفيه أن للإمام القيم بأمور المسلمين أن يحملهم فى أموالهم على ما فيه صلاحهم، ويرد من أفعالهم ما فيه مضرة لهم. - بَاب بَيْعِ الْوَلاَءِ وَهِبَتِهِ / 12 - فيه: ابْنَ عُمَرَ، نَهَى النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، عَنْ بَيْعِ الْوَلاَءِ، وَعَنْ هِبَتِهِ. / 13 - وفيه: عَائِشَةَ، اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ، فَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلاَءَهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَعْتِقِيهَا، فَإِنَّ الْوَلاَءَ لِمَنْ أَعْطَى الْوَرِقَ) ، فَأَعْتَقْتُهَا، فَدَعَاهَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَخَيَّرَهَا مِنْ زَوْجِهَا. . . الحديث. الفقهاء بالعراق والحجاز مجمعون على أنه لا يجوز بيع الولاء ولا هبته. قال ابن المنذر: وفيه قول ثان: روى أن ميمونة بنت الحارث وهبت ولاء مواليها بنى العباس، وولاؤهم اليوم لهم، وأن عروة ابتاع ولاء طهمان لورثة مصعب بن الزبير، وذكر عبد الرزاق عن عطاء أنه يجوز للسيد أن يأذن لعبده أن يوالى من شاء، وهذا هو هبة الولاء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 وسأذكر هذه المسألة فى باب إثم من تبرأ من مواليه فى كتاب الفرائض إن شاء الله. وقد روى إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (الولاء لحمة كالنسب) ، وقد أجمع العلماء أنه لا يجوز تحويل النسب، وقد نسخ الله المواريث بالتبنى بقوله تعالى: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم فى الدين ومواليكم) [الأحزاب: 5] . وقد لعن النبى (صلى الله عليه وسلم) من انتسب إلى غير أبيه وانتمى إلى غير مواليه، فكان حكم الولاء كحكم النسب فى ذلك، فكما لا يجوز بيع النسب ولا هبته، فكذلك لا يجوز بيع الولاء ولا هبته، ولا نقله وتحويله، وإنه للمعتق كما قال، عَلَيْهِ السَّلام، وهذا ينفى أن يكون الولاء الذى يسلم على يديه وللملتقط، وسيأتى اختلاف العلماء فى ذلك فى كتاب الفرائض، إن شاء الله. - بَاب عِتْقِ الْمُشْرِكِ / 14 - فيه: عروة، أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَعْتَقَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ مِائَةَ رَقَبَةٍ، وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ، فَلَمَّا أَسْلَمَ حَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ، وَأَعْتَقَ مِائَةَ رَقَبَةٍ، قَالَ: وَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَصْنَعُهَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا، يَعْنِى أَتَبَرَّرُ بِهَا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ) . أما عتق المشرك على وجه التطوع، فلا خلاف بين العلماء فى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 51 جوازه، وهذا الحديث حجة فى ذلك؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد جعل عتق المائة رقبة فى الجاهلية من أفعال الخير المجازى بها عند الله المتقرب بها إليه، ودل ذلك على أن مسلمًا لو أعتق كافرًا لكان مأجورًا على عتقه؛ لأن حكيمًا إنما جعل له الأجر على ما فعل فى جاهليته بالإسلام الذى صار إليه، فلم يكن المسلم الذى فعل مثل فعله فى الإسلام بدون حال حكيم، بل هو أولى بالأجر. واختلف فى عتق المشرك فى كفارة اليمين وكفارة الظهار، فأجازه قوم، وقالوا: لما أطلق اللفظ فى عتق رقبة الظهار وكفارة اليمين، ولم يشترط فيها الإيمان، جاز فى ذلك المشرك. ومنع ذلك آخرون، وقالوا: لا يجوز فى شىء من الكفارات إلا عتق رقبة مؤمنة، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى فى كفارة القتل: (فتحرير رقبة مؤمنة) [النساء: 92] ، فقيد الرقبة بالإيمان، قالوا: فوجب حمل المطلق على المقيد إذا كان فى معناه، وهذا فى معناه؛ لأن الكفارة تجمع ذلك، واحتجوا على ذلك بأن الله أمر بالإشهاد عند التبايع، فقال: (وأشهدوا إذا تبايعتم) [البقرة: 282] ، ثم قيد ذلك بالعدالة فى موضع آخر بقوله: (وأشهدوا ذوى عدل منكم) [الطلاق: 2] ، و) ممن ترضون من الشهداء) [البقرة: 282] ، فلم يجز من الشهداء إلا العدول، فوجب حمل المطلق على المقيد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 52 - بَاب إِذَا أُسِرَ أَخُو الرَّجُلِ أَوْ عَمُّهُ هَلْ يُفَادَى إِذَا كَانَ مُشْرِكًا؟ وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : فَادَيْتُ نَفْسِى، وَفَادَيْتُ عَقِيلاً، وَكَانَ عَلِىٌّ لَهُ نَصِيبٌ فِى تِلْكَ الْغَنِيمَةِ الَّتِى أَصَابَ مِنْ أَخِيهِ عَقِيلٍ، وَمن عَمِّهِ العَبَّاس. / 15 - فيه: أَنَس، أَنَّ رِجَالاً مِنَ الأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لابْنِ أُخْتِنَا العَبَّاس فِدَاهُ، فَقَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ تَدَعُونَ مِنْهُ دِرْهَمًا) . قال المهلب: أسر العباس وعقيل مع من أسر يوم بدر، فأخذ فيهم النبى (صلى الله عليه وسلم) برأى أبى بكر الصديق فى استحيائهم، وكره استعبادهم، وأباح لهم أن يفادوا أنفسهم بالمال من ذلة العبودية، فقطع كل واحد على نفسه بعدد من المال، وقطع العباس بفدائه، وفدى ابن أخيه عقيل، فأراد الأنصار أن يتركوا فداء العباس إكرامًا للنبى (صلى الله عليه وسلم) لمكان عمومته له، وللرحم التى تمسهم به فى الخئولة، فقال لهم: (لا تدعوا منه درهمًا) ، أراد أن يوهنهم بالغرم ويضعفهم، وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب الجهاد فى باب فداء المشركين. وإنما ذكر البخارى هذا فى كتاب العتق، فأنه استنبط منه أن العم وابن العم لا يعتقان على من ملكهما من ذوى رحمهما؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 53 ملك من عمه العباس ومن ابن عمه عقيل بالغنيمة التى له فيها نصيب، وكذلك ملك على بن أبى طالب من عمه العباس، ومن أخيه عقيل المشركين فى ذلك الوقت بنصيبه من الغنيمة، ولم يعتقا عليه، وهذا حجة على من قال من السلف: أنه من ملك ذا رحم محرم أنه يعتق عليه، وهو قول الكوفيين. وفيه حجة للشافعى فى قوله: إنه لا يعتق الأخ على من ملكه؛ لأن عقيلاً كان أخا على ابن أبى طالب، ولم يعتق عليه بما ملك من نصيبه منه. وأما تلخيص مذاهب العلماء فيمن يعتق على الرجل إذا ملكه، فذهب مالك أنه لا يعتق عليه إلا أهل الفرائض فى كتاب الله، وهم: الولد ذكورهم وإناثهم، وولد الولد وإن سفلوا، وأبواه، وأجداده، وجداته من قبل الأب والأم وإن بعدوا، وإخوته لأبوين، أو لأب، أو لأم، وبه قال الشافعى، إلا فى الإخوة فإنهم لا يعتقون على ما تقدم فى هذا الباب. وقال الكوفيون: من ملك ذا رحم محرم أنه يعتق عليه. وروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وعن عطاء، والشعبى، والحسن، والحكم، والزهرى، وحجة هذا القول ما رواه ضمرة، عن الثورى، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام: (من ملك ذا رحم محرم فهو حر) ، ورواه الحسن، عن سمرة، عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام. وقال ابن المنذر: قد تكلم الناس فى هذين الحديثين، فقالوا: لم يرو حديث ابن عمر عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 54 الثورى غير ضمرة، وحديث الحسن، عن سمرة، وقد تكلم فيهما وليس منهما ثابت. والحجة لمالك أنه لا يجوز ملك الأخ وأنه يعتق على من ملكه قوله تعالى حكاية عن موسى: (رب إنى لا أملك إلا نفسى وأخى) [المائدة: 25] ، وكما لا يجوز أن يسترق نفسه، كذلك لا يجوز أن يسترق أخاه وحجة الجميع فى أنه لا يجوز ملك الأبوين قوله تعالى: (ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما) [الإسراء: 23] ، واسترقاقهما أعظم من قول: أف، والأجداد داخلون فى اسم الآباء، ولم يجز ملك الولد لقوله تعالى: (وما ينبغى للرحمن أن يتخذ ولدًا إن كل من فى السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبدًا) [مريم: 92، 93] ، فلا يجوز أن يستعبد الابن بهذا النص. - بَاب مَنْ مَلَكَ مِنَ الْعَرَبِ رَقِيقًا فَوَهَبَ وَبَاعَ وَجَامَعَ وَفَدَى وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ (إلى قوله: (لاَ يَعْلَمُونَ) [النحل: 75] . / 16 - فيه: مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ مَعِى مَنْ تَرَوْنَ، وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَىَّ أَصْدَقُهُ، وَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا الْمَالَ، وَإِمَّا السَّبْىَ) ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 55 وَكَانَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلاَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، فِى النَّاسِ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّى رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِىءُ اللَّهُ عَلَيْنَا، فَلْيَفْعَلْ) ، فَقَالَ النَّاسُ: طَبْنَا لَكَ، فَقَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّا لاَ نَدْرِى مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ) ، فَرَجَعَ النَّاسُ، فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا. وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ عَبَّاسٌ: فَادَيْتُ نَفْسِى، وَفَادَيْتُ عَقِيلاً. / 17 - وفيه: ابن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، أَغَارَ عَلَى بَنِى الْمُصْطَلِقِ، وَهُمْ غَارُّونَ وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ، وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ. / 18 - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فِى غَزْوَةِ بَنِى الْمُصْطَلِقِ، فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْىِ الْعَرَبِ، فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ، فَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ، وَأَحْبَبْنَا الْعَزْلَ، فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (مَا عَلَيْكُمْ أَلاَ تَفْعَلُوا، مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلاَ وَهِىَ كَائِنَةٌ) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 56 / 19 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: مَا زِلْتُ أُحِبُّ بَنِى تَمِيمٍ مُنْذُ ثَلاَثٍ، سَمِعْتُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ فِيهِمْ: (هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِى عَلَى الدَّجَّالِ) ، قَالَ: وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِنَا، وَكَانَتْ سَبِيَّةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ عَائِشَةَ) ، فَقَالَ: أَعْتِقِيهَا، فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. فى هذه الآثار أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، سبى العرب واسترقهم من هوازن وبنى المصطلق وغيرهم، وقال، عَلَيْهِ السَّلام، لعائشة فى السبية التميمية: (أعتقيها، فإنها من ولد إسماعيل) ، فصح بهذا كله جواز استرقاق العرب وتملكهم كسائر فرق العجم، وأجمع العلماء أن من وطئ أمة له بملك يمينه أن ولده منها أحرار، عربية كانت أو عجمية. واختلفوا إذا تزوج العربى أمة، هل يكون ولده منها رقيقًا تبعًا لها أم لا؟ فقال مالك، والكوفيون، والليث، والشافعى: إن الولد مملوك لسيد الأمة تبع لها، والحجة لهم أحاديث هذا الباب فى سبى النبى، عَلَيْهِ السَّلام، العرب واسترقاقهم. وقال الثورى، والأوزاعى، وأبو ثور، وإسحاق: يلزم سيد الأمة أن يقومه على أبيه، ويلزم أباه أداء القيمة إليه، ولا يسترق. وهذا قول سعيد بن المسيب، واحتجوا بما روى عن عمر أنه قال لابن عباس: لا يسترق ولد عربى من أمة وفيه عبدان. قال الليث: أما ما روى عن عمر بن الخطاب فى فداء ولد العربى من الولائد ست فرائض، إنما كان من أولاد الجاهلية، وفيما أقر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 57 به الرجل من نكاح الإماء، فأما اليوم فمن تزوج أمة، وهو يعلم أنها أمة فولده عبد لسيدها، عربيًا كان أو فارسيًا أو غيره. ومن حجة من جعلهم رقيقًا أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما سوى بين العرب والعجم فى الدماء، فقال: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم) ، وأجمع العرب على القول به، وجب إذا اختلفوا فيما دون الدماء أن يكون حكم ذلك حكم الدماء. قال المهلب: وقول النبى (صلى الله عليه وسلم) لعائشة: (أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل) ، يدل على جواز تملك العرب، إلا أن عتقهم أفضل لمراعاة الرحم التى تجمعهم، وكذلك فعل عمر بن الخطاب فى خلافته بمن ملك رقيقًا من العرب الذين ارتدوا فى خلافة أبى بكر، قال: إن الله قد أوسع عليكم فى سبى أهل الكتاب من غير العرب، وإن من العار أن يملك الرجل بنت ابن عمه، فأجابوه إلى ما حض عليه، وهذا كله على وجه الندب لا على أنه لا يجوز تملكهم. قال غيره: وفى حديث سبى هوازن وبنى المصطلق، وقول أبى سعيد: واشتهينا النساء، دليل على أن الصحابة أطلقوا على وطء ما وقع فى سهمانهم من السبى، وهذا لا يكون إلا بعد الاستبراء بإجماع العلماء، وهذا يدل على أن السبى يقطع العصمة بين الزوجين الكافرين. واختلف السلف فى حكم وطء الوثنيات والمجوسيات إذا سبين، فأجاز ذلك سعيد ابن المسيب، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وحجتهم أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أباح وطء سبايا العرب إذا حاضت الحائض أو وضعت الحامل منهن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 58 وهذا القول شذوذ عند العلماء لم يلتفت إليه أحد، واتفق أئمة الفتوى بالأمصار وعامة العلماء على أنه لا يجوز وطء الوثنيات لقوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) [البقرة: 221] ، وإنما أباح الله تعالى وطء نساء أهل الكتاب خاصة بقوله: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) [المائدة: 5] ، فإنما أطلق النبى (صلى الله عليه وسلم) أصحابه على وطء سبايا العرب بعد إسلامهن؛ لأن سبى هوازن كان سنة ثمان، وسبى بنى المصطلق سنة ست، وسورة البقرة من أول ما نزل بالمدينة، فقد كانوا علموا قوله: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) [البقرة: 221] ، وتقرر عندهم أنه لا يجوز وطء الوثنيات البتة حتى يسلمن. وروى عبد الرزاق، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، قال: حدثنا يونس بن عبيد، أنه سمع الحسن يقول: كنا نغزو مع أصحاب النبى، عَلَيْهِ السَّلام، فإذا أصاب أحدهم جارية من الفىء، فأراد أن يصيبها أمرها فاغتسلت، ثم علمها الإسلام وأمرها بالصلاة، واستبرأها بحيضة ثم أصابها. قال: وسمعت الثورى يقول: أما السنة، فلا يقع عليها حتى تصلى إذا استبرأها، وعموم قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) [البقرة: 221] ، يقتضى تحريم وطء المجوسيات بالتزويج وبملك اليمين، ألا ترى أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، سن أن تؤخذ الجزية من المجوس على ألا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم، وعلى هذا أئمة الفتوى وعامة العلماء. وأما قولهم: وأحببنا الفداء وأردنا أن نعزل، فقد استدل به الجزء: 7 ¦ الصفحة: 59 جماعة من العلماء فى منع بيع أم الولد، وقالوا: معلوم أن الحمل منهن يمنع الفداء ويذهب بالثمن، والعلماء مجمعون على أنه لا يجوز بيعها وهى حامل، فإذا وضعت فهى على الأصل الذى اتفقوا عليه من منع البيع، ولا يجوز الانتقال عنه إلا باتفاق آخر، وأئمة الفتوى بالأمصار متفقون على أنه لا يجوز بيع أم الولد، وإنما خالف ذلك أهل الظاهر، وبشر المريسى، وهو شذوذ لا يلتفت إليه. قال ابن القصار: وقد روى عكرمة، عن ابن عباس، أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال لما ولدت أم إبراهيم: (أعتقها ولدها) ، وقالت عائشة: ما خلف النبى عبدًا ولا أمة، وقد كان خلف مارية، فعلم أنها عتقت بموته، ولم تكن أمة، وقد قال، عَلَيْهِ السَّلام: (لا نورث ما تركنا صدقة) ، ولم ينقل أن مارية كانت صدقة، فعلم أنها عتقت بموته ولم تكن مما تركه. قال: وأما قوله، عَلَيْهِ السَّلام: (ما عليكم ألا تفعلوا) ، فقد احتج بهذا من أباح العزل ومن كرهه. واختلف السلف فى ذلك قديمًا، وإباحة العزل أظهر فى الحديث، روى مالك، عن سعد بن أبى وقاص، وأبى أيوب الأنصارى، وزيد بن ثابت، وابن عباس أنهم كانوا يعزلون، وروى ذلك أيضًا عن ابن مسعود وجابر، وذكر مالك أيضًا عن ابن عمر أنه كره العزل، وروى كراهيته عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وقد روى عن على بن أبى طالب القولان جميعًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 60 واحتج من كره العزل بما رواه أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة، قالت: وحدثتنى خزامة بنت وهب الأسدية، قالت: ذكر عند النبى (صلى الله عليه وسلم) العزل، فقال: (ذلك الوأد الخفى) . واتفق أئمة الفتوى على جواز العزل عن الحرة إذا أذنت فيه لزوجها، واختلفوا فى الأمة الزوجة، فقال مالك وأبو حنيفة: الإذن فى ذلك إلى مولاها. وقال أبو يوسف: الإذن فى ذلك إليها. وقال الشافعى: يعزل عنها دون إذنها ودون إذن مولاها. واحتج من أباح العزل بما روى عن الليث وغيره عن يزيد بن أبى حبيب، عن معمر ابن أبى حبيب، عن عبيد الله بن عدى بن الخيار، قال: تذاكر أصحاب النبى، عَلَيْهِ السَّلام، عند عمر العزل، فاختلفوا فيه، فقال عمر: قد اختلفتم وأنتم أهل بدر الأخيار، فكيف بالناس بعدكم؟ فقال على بن أبى طالب: لا يكون موءودة حتى يمر بالتارات السبع: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) [المؤمنون: 12] إلى آخر الآية. وروى سفيان، عن الأعمش، عن أبى الوداك، عن ابن عباس، أنه سُئل عن العزل، فذكر مثل كلام على سواء. قال الطحاوى: فهذا على، وابن عباس، قد اجتمعا على ما ذكرنا ووافقهما عمر، ومن كان بحضرتهما من أصحاب الرسول، فدل على أن العزل غير مكروه. قال الطحاوى: وقوله، عَلَيْهِ السَّلام: (ما عليكم ألا تفعلوا. . .) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 61 إلى آخر الحديث، فيه دليل أن العزل غير مكروه؛ لأنه، عَلَيْهِ السَّلام، لما أخبروه أنهم يفعلون ذلك لم ينكره عليهم، ولا نهاهم عنه، وقال: (ما عليكم ألا تفعلوا فإنما هو القدر) ، أى فإن الله إذا قدر يكون الولد، لم يمنعه عزل، ووصل الله من الماء إلى الرحم شيئًا وإن قل يكون منه الولد، وإن لم يقدر كونه لم يكن بالإفضاء. فأعلمهم أن الإفضاء لا يكون منه ولد إلا بقدر الله، وأن العزل لا يمنع الولد إذا سبق فى علم الله أنه كائن. وقال ابن مسعود: لو أن النطفة التى أخذ الله ميثاقها كانت فى صخرة لنفخ فيها الروح. قال: وفى قوله، عَلَيْهِ السَّلام: (ما من نسمة كائنة إلا وهى كائنة) ، إثبات العلم، وأن العباد يجرون فى علم الله وقدره، والقدر هو سر الله وعلمه لا يدرك بحجة ولا بجدال، وأنه لا يكون فى ملكه إلا ما شاء تعالى، ولا يقوم شىء إلا بإذنه، له الخلق والأمر. قال المهلب: وقول أبى هريرة: ما زلت أحب بنى تميم؛ لأنهم أشد الأمة على الدجال، وقد روى عنهم أنهم كانوا يختارون ما يخرجون فى الصدقات من أفضل ما عندهم، فأعجب النبى (صلى الله عليه وسلم) بفراهيتها، فقال هذا القول على معنى المبالغة فى نصحهم لله ولرسوله فى جودة الاختيار للصدقة، وقوله تعالى: (ضرب الله مثلاً عبدًا مملوكًا لا يقدر على شىء) [النحل: 75] ، فقد تأول بعض الناس فى هذه الآية أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 62 العبد لا يملك، وسأذكر الاختلاف فى ملك العبد فى باب العبد راع فى مال سيده بعد هذا، وأذكر تأويل هذه الآية فيه، إن شاء الله، وقول ابن عمر: وهم غارون، يعنى على غرة، أى غفلة. - بَاب فَضْلِ مَنْ أَدَّبَ جَارِيَتَهُ وَعَلَّمَهَا / 20 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: قَالَ النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (مَنْ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ فَعَلَمهَا، وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، كَانَ لَهُ أَجْرَانِ) . قال المهلب: فيه أجر التأديب والتعليم، وأجر التزويج لله تعالى، وأن الله قد ضاعف له أجره بالنكاح والتعليم، وجعله كمثل أجر العتق، وفيه الحض على العتق، وعلى نكاح المعتق، وعلى التواضع وترك الغلو فى أمور الدنيا، وأخذ القصد والبلغة منها، وأن من تواضع لله فى منكحه وهو يقدر على نكاح أهل الشرف والحسب والمال، فإن ذلك مما يرجى عليه جزيل الأجر وجسيم الثواب. - بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ عَلَيْهِ السَّلام: (الْعَبِيدُ إِخْوَانُكُمْ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا (إلى) وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النساء: 36] / 21 - فيه: أَبُو ذَرّ، كانت عَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّى سَابَبْتُ رَجُلاً، فَشَكَانِى إِلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 63 لِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟) ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ إِخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ) . قال المهلب: فيه الحض على كسوة المملوك وإطعامه بالسواء مثل طعام المالك وكسوته، وليس ذلك على الإيجاب عند العلماء، وإنما على المالك أن يكسوا ما يستر العورة ويدفع الحر والبرد، ويطعم ما يسد الجوعة ما لم يكن فيه ضرر على المملوك؛ لأن المولى إذا كان ممن يأكل الفراريج والفراخ ويأكل خبز السميد والأطعمة الرقيقة، وكانت كسوته الشطوى والنيسابورى، لم يكن عليه فى مذهب أحد من أهل العلم أن يطعم رقيقه ولا يكسوهم من ذلك؛ لأن هذه الأطعمة والكسوة التى ذكرناها لم يكن أحد من أصحاب النبى، عَلَيْهِ السَّلام، الذى خاطبهم بما خاطبهم به يأكل مثلها، إنما كان الغالب من قوتهم بالمدينة التمر والشعير. وقد روى أبو هريرة، عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام: (للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق) ، فإن زاد على ما فرض عليه من قوته وكسوته بالمعروف كان متفضلاً متطوعًا. وقال ربيعة بن أبى عبد الرحمن: لو أن رجلاً عمل لنفسه خبيصًا فأكله دون خادمه، ما كان بذلك بأس. وكان يرى أنه إذا أطعم خادمه من الخبز الذى أكل منه، فقد أطعمه مما يأكل منه؛ لأن من عند العرب للتبعيض، ولو قال: أطعموهم من كل ما تأكلون، لوجب حينئذ إطعامهم من الخبيص ومن كل شىء، وكذلك فى اللباس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 64 وقوله: (ولا تكلفوهم ما يغلبهم) ، هو كقول الله: (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) [البقرة: 286] ، ولما لم يكلفنا الله فوق طاقتنا ونحن عبيده، وجب أن نمتثل حكمه وطريقته فى عبيدنا. وقوله: (فإن كلفتموهم فأعينوهم) ، فيه جواز تكليف ما فيه المشقة، فإن كانت غالبة وجب العون عليها، وروى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تستخدموا رقيقكم بالليل والنهار، فإن النهار لكم، والليل لهم) . وروى معمر، عن أيوب، عن أبى قلابة، يرفعه إلى سلمان، أن رجلاً أتاه وهو يعجن، فقال: أين الخادم؟ قال: أرسلته فى حاجة، فلم يكن ليجمع عليه شيئين أن يرسله ولا يكفيه عمله. وفيه الوصاة من النبى، عَلَيْهِ السَّلام، بما ملكت أيماننا؛ لأن الله وصى بهم فى كتابه. وفيه أنه لا حد على من قذف عبدًا، ولا عقوبة، ولا تعزير، وقد قال بعض العلماء: إن كان العبد رجلاً صالحًا، فأرى أن يعاقب القاذف له والمؤذى. - بَاب الْعَبْدِ إِذَا أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ سَيِّدَهُ / 22 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْعَبْدُ إِذَا نَصَحَ سَيِّدَهُ، وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ) . / 23 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ النَّاصِحِ أَجْرَانِ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوْلاَ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْحَجُّ، وَبِرُّ أُمِّى، لأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 65 قال المهلب: لما كان للعبد فى عبادة ربه أجر، وكان له فى طاعة سيده ونصحه له أجر أيضًا، لكن لا يقال: إن الأجرين متساويان؛ لأن طاعة الله أوجب من طاعة المخلوقين، وفيه حض المملوك على نصح سيده؛ لأنه راع فى ماله، وهو مسئول عما استرعى، فبان أن أثر نصحه طاعة الله، فلهذا تبين فضل أجره فى طاعة الله على طاعة مولاه. وقوله: (والذى نفسى بيده، لولا الجهاد فى سبيل الله والحج وبر أمى، لأحببت أن أموت وأنا مملوك) ، هو من قول أبى هريرة، وفيه دليل أنه ليس على العبد جهاد ولا حج فى حال العبودية، إلا أن ينزل ببلد عدو، فيلزم الجهاد كل مسلم يكون بتلك البلد، فيجب على العبد منه بقدر طاقته ووسعه، وأما الحج، فإنما لم يجب عليه من أجل أنه غير مالك لنفسه، وليس له أن يخرج عن تصرف سيده وما به الحاجة إليه، وإنما خاطب الله من استطاع إليه سبيلاً، والعبد غير مستطيع، وأما بر الوالدين، فيلزم العبد منه من خفض الجناح، ولين القول والتذلل ما يلزم المسلمين، وأما السعى عليهما بالنفقة والكسوة فلا يلزمه؛ لأنه نفقته وكسوته على مولاه، وكسبه لمولاه، ولا تصرف له فى شىء منه إلا بإذنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 66 - بَاب كَرَاهِيَةِ التَّطَاوُلِ عَلَى الرَّقِيقِ وَقَول الرجل: عَبْدِى وَأَمَتِى وَقول اللَّهُ: (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إن يكونوا فقراء) [النور: 32] . وَقَالَ: (عَبْدًا مَمْلُوكًا) [النحل: 75] . وَقَالَ: (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ) [يوسف: 25] . وَقَالَ: (مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) [النساء: 25] . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ) . / 24 - فيه: ابن عُمر، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (الْعَبْدُ إِذَا نَصَحَ لسَيِّدَهُ. . .) الحديث. / 25 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (الْمَمْلُوكُ الَّذِى يُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَيُؤَدِّى إِلَى سَيِّدِهِ. . .) الحديث. / 26 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ، وَاسْقِ رَبَّكَ، وَلْيَقُلْ: سَيِّدِى وَمَوْلاَىَ، وَلاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِى وَأَمَتِى، وَلْيَقُلْ: فَتَاىَ وَفَتَاتِى وَغُلاَمِى) . / 27 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ مِنَ الْعَبْدِ. . .) الحديث. / 28 - وقال أيضًا عَنْ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ. . .) الحديث. / 29 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدَ، قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا زَنَتِ الأَمَةُ فَاجْلِدُوهَا. . .) الحديث. التطاول على الرقيق مكروه؛ لأن الكل عبيد الله، وهو لطيف بعباده رفيق بهم، فينبغى للسادة امتثال ذلك فى عبيدهم، ومن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 67 ملكهم الله إياهم وأوجب عليهم حسن الملك ولين الجانب، كما يجب على العبيد حسن الطاعة والنصح لساداتهم، والانقياد لهم وترك مخالفتهم، وقد جاء فى الحديث: (الله الله وما ملكت أيمانكم، فلو شاء الله لملكهم إياكم) . وما جاء فى هذا الباب من النهى عن التسمية، فإن ذلك من باب التواضع، وجائز أن يقول الرجل: عبدى، وأمتى؛ لأن القرآن قد نطق بذلك فى قوله: (والصالحين من عبادكم وإمائكم) [النور: 32] ، وإنما نهى، عَلَيْهِ السَّلام، عن ذلك على سبيل التطاول والغلظة لا على سبيل التحريم، واتباع ما حض عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) أولى وأجل، فإن فى ذلك تواضعًا لله تعالى؛ لأن قول الرجل: عبدى، وأمتى، يشترك فيهما الخالق والمخلوق، فيقال: عبد الله، وأمة الله، فكره ذلك لاشتراك اللفظ. وأما الرب، فهى كلمة وإن كانت مشتركة، وتقع على غير الخالق للشىء، كقولهم: رب الدار، ورب الدابة، يراد صاحبهما، فإنها لفظة تختص بالله فى الأغلب والأكثر، فوجب أن لا تستعمل فى المخلوقين، لنفى الشركة بينهم وبين الله، ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال لأحد غير الله: إله، ولا رحمن، ويجوز أن يقال له: رحيم؛ لاختصاص الله بهذين الاسمين، فكذلك الرب لا يقال لغير الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 68 - بَاب إِذَا أَتَاهُ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ / 30 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ، فَليُنَاوِلْهُ لُقْمَةً، أَوْ لُقْمَتَيْنِ، أَوْ أُكْلَةً، أَوْ أُكْلَتَيْنِ، فَإِنَّهُ وَلِىَ عِلاَجَهُ) . قال المهلب: هذا الحديث يفسر حديث أبى ذر فى التسوية بين العبد وبين سيده فى المطعم والكسوة، أنه على سبيل الحض والندب والتفضل، لا على سبيل الإيجاب على السيد؛ لأنه لم يسوه فى هذا الحديث بسيده فى المؤاكلة، وجعل إلى السيد الخيار فى إجلاسه للأكل معه أو تركه، ثم حضه على إن لم يأكل معه أن ينيله من ذلك الطعام الذى تعب فيه وشمه. - بَاب إِذَا ضَرَبَ الْعَبْدَ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ / 31 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (إِذَا قاتَلَ أحدُكم فلْيَجْتَنبِ الوَجهَ) . قال المهلب: تمام الحديث: (فإن الله خلق آدم على صورته) . وروى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، أنه مر على رجل يضرب عبده فى وجهه لطمًا، ويقول: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فقال عَلَيْهِ السَّلام: (إذا ضرب أحدكم عبده، فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 69 وقد نقل الناقلون هذه القصة من الطرق الصحيحة، وربما ترك بعض الرواة بعض الخبر اختصارًا للدلالة على ما حذف منه، إذ كانت القصة مشهورة، فأمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) من قاتل غيره أو ضرب عبده أن يجتنب الوجه إكرامًا لآدم؛ لمشابهة المضروب له، فلا يضرب صورة خلقها الله بيده، فانتسب إلى هذا العبد، ومراعاة لحق الأبوة، وتفضيل الله لها حين خلق آدم بيديه، وأسجد له ملائكته، والهاء راجعة فى قوله: (على صورته) للمضروب. قال المؤلف: وللناس تأويلات فى ضمير الهاء من صورته، إلى من ترجع؟ لم أر لذكرها وجهًا، إذ لا يصح عندى فى ذلك غير ما قاله المهلب. - بَاب الْعَبْدُ رَاعٍ فِى مَالِ سَيِّدِهِ وَنَسَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمَالَ إِلَى السَّيِّدِ / 32 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِى أَهْلِهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِى بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِى مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) ، وَأَحْسِبُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (وَالرَّجُلُ فِى مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) . قال المهلب: هذه كلها أمانات تلزم من استرعيها أداء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 70 النصيحة فيها لله، ولمن استرعاه عليها، ولكل واحد منهم أن يأخذ مما استرعى أمره ما يحتاج إليه بالمعروف من نفقة ومؤنة. وقوله: (العبد والخادم راع فى مال سيده) ، ففيه حجة لمن قال: إن العبد لا يملك. واختلف أهل العلم فى ملك العبد لما فى يديه من المال، فذهبت طائفة إلى أنه لا يملك شيئًا؛ لأن الرق منافى الملك، وماله لسيده عند عتقه وعند بيعه إياه، وإن لم يشترط ماله سيده، روى هذا عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبى هريرة، وعن سعيد بن المسيب، وهو قول الثورى، والكوفيين، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وقالت طائفة: ماله له دون سيده فى العتق والبيع، روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن عمر، وعائشة، وبه قال النخعى، والحسن البصرى. واضطرب قول مالك فى ملك العبد، فقال: من باع عبدًا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع. وقال فيمن أعتق عبدًا: أن ماله للعبد، إلا أن يشترطه السيد، فدل قوله فى البيع أن العبد لا يملك، إذ جعل المال للسيد دون اشتراط، ودل قوله فى العتق أن العبد يملك، إذ جعل ماله له دون اشتراط. والحجة له فى البيع حديث ابن عمر، عن أبيه، عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، أنه قال: (من باع عبدًا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع) ، والحجة له فى العتق حديث عبيد الله بن أبى جعفر، عن بكير بن الأشج، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال: (من أعتق عبدًا، فماله له إلا أن يستثنيه سيده) . قال ابن شهاب: السنة أن العبد إذا أعتق تبعه ماله، ولم يكن أحد أعلم بسنة ماضية من ابن شهاب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 71 وقال قتادة فى قوله تعالى: (عبدًا مملوكًا لا يقدر على شىء) [النحل: 75] : هو الكافر لا يعمل بطاعة الله، ولا يعمل خيرًا،) ومن رزقناه منا رزقًا حسنًا) [النحل: 75] ، هو المؤمن يطيع الله فى نفسه وماله. وحجة من قال: إن العبد لا يملك شيئًا أن إضافة الشىء إلى ما لا يجوز أن يملك أشهر فى كلام العرب من أن يحتاج إلى شاهد، وذلك كقولهم: ماء النهر، وسرج الدابة، فإضافة المال إلى العبد فى قوله، عَلَيْهِ السَّلام: (من باع عبدًا وله مال) ، من أجل أنه بيده، لا أنه يملكه، وخاطب النبى (صلى الله عليه وسلم) قومًا عربًا يعرفون ما خوطبوا به. قال الطبرى: فأخبر النبى، عَلَيْهِ السَّلام، أن ذلك المال للبائع إذا لم يشترطه المبتاع فى عقد البيع، كما أخبر أن ثمرة النخل المؤبر للبائع إذا باع مالكه أصل النخل، كما كانت له قبل بيع النخل إذا لم يشترطها المبتاع فى عقد البيع. قالوا: ولو كان المال للعبد قبل بيع السيد له، لم يكن بيعه ليزيل ملكه عنه إلى البائع ولا إلى المشترى. قالوا: وفى إجماع الأمة أن لسيد العبد قبض مال العبد منه، وأن العبد ممنوع من التصرف فيه إلا بإذن سيده الدليل الواضح على صحة ما قلنا، وإلى هذا المذهب أشار البخارى بقوله: ونسب النبى (صلى الله عليه وسلم) المال إلى السيد فى قوله: (والعبد راع فى مال سيده) . قال المهلب: ومن حجة الذين قالوا: العبد يملك، أنهم قالوا للمحتجين عليهم بما تقدم: هذا يلزم فى السفيه، فإنه لا يجوز أن يتصرف فى ماله إلا بإذن وصيه، والمال ملك له، لقوله تعالى: (فإذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 72 دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) [النساء: 6] ، فكذلك العبد. وقال تعالى: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا) [النور: 33] ، يعنى مالاً، بدليل قوله: (إن ترك خيرًا) [البقرة: 180] ، يعنى مالاً. وقال: (والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) [النور: 32] ، فوصفهم بالفقر والغنى، فدل أنهم مالكون، وقال: (ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات (إلى قوله: (وآتوهن أجورهن) [النساء: 25] ، وهى المهور، فدل أن الإماء مالكات لها؛ لجواز دفعها إليهن، إذ لو كن غير مالكات لما جاز دفعها إليهن مع أمره تعالى بالتوثق عند دفع الحقوق إلى أهلها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 73 بسم الله الرحمن الرحيم 44 - كِتَابَ الْمُكَاتِبِ - بَاب الْمُكَاتِبِ وَنُجُومِهِ فِى كُلِّ سَنَةٍ نَجْمٌ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النور: 33] الآية. وَقَالَ رَوْحٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَوَاجِبٌ عَلَىَّ إِذَا عَلِمْتُ لَهُ مَالاً أَنْ أُكَاتِبَهُ؟ قَالَ: مَا أُرَاهُ إِلاَ وَاجِبًا. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أتَأْثُرُهُ عَنْ أَحَدٍ؟ قَالَ: لاَ، ثُمَّ أَخْبَرَنِى أَنَّ مُوسَى ابْنَ أَنَسٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ سِيرِينَ سَأَلَ أَنَسًا الْمُكَاتَبَةَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ، فَأَبَى، فَانْطَلَقَ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: كَاتِبْهُ، فَأَبَى فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ، وَقَرأ عُمَرُ: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) [النور: 33] فَكَاتَبَهُ. / 1 - فيه: عَائِشَةُ، أَنَّ بَرِيرَةَ دَخَلَتْ عَلَيْهَا تَسْتَعِينُهَا فِى كِتَابَتِهَا، وَعَلَيْهَا خَمْسَةُ أَوَاقٍ نُجِّمَتْ عَلَيْهَا فِى خَمْسِ سِنِينَ. . . الحديث. سنة الكتابة أن تكون على نجوم، تؤدى نجمًا بعد نجم، والظاهر من قول مالك أن شأن الكتابة التنجيم والتأجيل؛ لأنه قال: لو كاتبه على ألف درهم ولم يذكر أجلاً، نجمت عليه بقدر سعايته وإن كره السيد. وأجاز مالك والكوفيون الكتابة الحالة، وقال الشافعى: لابد فيها من أجل، ولا يجوز على أقل من نجمين، فإن وقعت حالة أو على نجم واحد، فليست كتابة، وإنما هو عتق على صفة، كأنه قال: إذا أديت إلىّ كذا وكذا فأنت حر، والحديث يدل أن النجوم فى الكتابة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 74 تجوز قليلة كانت أو كثيرة، وأنه ليس فى ذلك حد لا يتجاوز، ولو كان قول الشافعى صحيحًا أن الكتابة لا تجوز على أقل من نجمين؛ لجاز لغيره أن يقول: لا تجوز على أقل من خمسة نجوم؛ لأن أقل النجوم التى كانت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى بريرة، وعلم بها وحكم فيها، كانت خمسة، وكان صواب الحجة أولى. وأيضًا فإن النجم الثالث لما لم يكن شرطًا فى صحة الكتابة بإجماع، فكذلك النجم الثانى؛ لأن كل واحد منهما له مدة يتعلق بها تأخير مال الكتابة، فإذا لم يكن أحدهما شرطًا وجب أن لا يكون الآخر كذلك، ولما أجمعوا أنه لو قال له: إن جئتنى من المال بكذا إلى شهر أنه جائز وليس بكتابة، فكذلك ما أشبهه من الكتابة. وقد احتج بقوله، عَلَيْهِ السَّلام، فى هذا الحديث: (وعليها خمس أواق نجمت عليها فى خمس سنين) ، من أجاز النجامة فى الديون كلها، على أن يقول: فى كل شهر كذا، وفى كل عام كذا، ولا يقول: فى أول الشهر، ولا فى وسطه، ولا فى آخره؛ لأنه لم يذكر فى الحديث فى أى وقت يحل النجم فيه، ولم ينكر النبى، عَلَيْهِ السَّلام، ذلك. وأبى هذا القول أكثر الفقهاء، وقالوا: لابد أن يذكر أى شهر من السنة يحل النجم فيه، أو أى وقت من الشهر يحل النجم فيه، فإن لم يذكر ذلك فهو أجل مجهول لا يجوز؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) نهى عن البيع إلا إلى أجل معلوم، ونهى عن حبل الحبلة، وهو نتاج النتاج. وليس تقصير من قصر عن نقل هذا المعنى فى حديث بريرة بصائر لتقرر هذا المعنى عندهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 75 واختلف العلماء فى تأويل قوله تعالى: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا) [النور: 33] ، فذهب مالك، والكوفيون، والشافعى، إلى أن الكتابة ليست بواجبة على السيد، ولكنها مستحبة إذا سأله العبد، وروى عن عطاء ومسروق أن الكتابة واجبة، وهو قول أهل الظاهر، وقالوا: هو مذهب عمر بن الخطاب؛ لأنه ضرب أنسًا حين سأله مولاه سيرين الكتابة، فأبى أن يكاتبه، وقرأ عمر: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا) [النور: 33] . وحجة الجماعة أنه قد انعقد الإجماع على أنه لو سأله أن يبيعه من غيره لم يلزمه ذلك، فكذلك الكتابة؛ لأنها معاوضة لا تصح إلا عن تراض. واختلفوا فى تأويل قوله تعالى: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا) [النور: 33] ، قال ابن عباس: الخير المال، وقال عطاء: هو مثل قوله تعالى: (وإنه لحب الخير لشديد) [العاديات: 8] ، وقوله: (إن ترك خيرًا) [البقرة: 180] . وقال مجاهد: الخير المال والأداء. وقال الحسن والنخعى: هو الدين والأمانة. وقال مالك: سمعت بعض أهل العلم يقولون: هو القوة على الاكتساب والأداء، وعن الليث نحوه، وكره ابن عمر كتابة من لا حرفة له، فيبعثه على السؤال، وقال: يطعمنى أوساخ الناس، وعن سلمان مثله. قال الطبرى: وقول من قال: إنه المال، لا يصح عندنا؛ لأن العبد نفسه مال لمولاه، فكيف يكون له مال؟ والمعنى عندنا: إن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 76 علمتم فيهم الدين والصدق، وعلمتم أنهم يعاملونكم على أنهم متعبدون بالوفاء لكم بما عليهم من الكتابة، والصدق فى المعاملة فكاتبوهم. واختلفوا فى قوله: (وآتوهم من مال الله) [النور: 33] ، فذهب مالك وجمهور العلماء إلى أن ذلك على الندب والحض، أن يضع الرجل عن عبده من أجر كتابته شيئًا مسمى، وذهب الشافعى وأهل الظاهر إلى أن الإيتاء للعبد واجب، وقول الجمهور أولى؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يأمر موالى بريرة بإعطائها شيئًا، وقد كوتبت وبيعت بعد الكتابة، ولو كان الإيتاء واجبًا لكان مقدرًا كسائر الواجبات، حتى إذا امتنع السيد من حطه عنه وادعاه عليه عند الحاكم. فأما دعوى المجهول، فلا يحكم بها، ولو كان الإيتاء واجبًا، وهو غير مقدر؛ لكان الواجب للمولى على المكاتب هو الباقى بعد الحطيطة، فأدى ذلك إلى جهل مبلغ الكتابة، وذلك لا يجوز، وكان النخعى يذهب فى تأويل قوله: (وآتوهم من ماله الله الذى آتاكم) [النور: 33] ، أنه خطاب للموالى وغيرهم، وقاله الثورى. وقال الطحاوى: وهذا حسن من التأويل حض الناس جميعًا على معاونة المكاتبين لكى يعتقوا. - بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَاتَبِ وَمَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ / 2 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُهَا فِى كِتَابَتِهَا، وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: ارْجِعِى إِلَى أَهْلِكِ، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 77 أَقْضِىَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَيَكُونَ وَلاَؤُكِ لِى فَعَلْتُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ لأَهْلِهَا فَأَبَوْا، وَقَالُوا: إِنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ فَلْتَفْعَلْ، وَيَكُونَ لَنَا وَلاَؤُكِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (ابْتَاعِى فَأَعْتِقِى، فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) ، قَالَ: ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (مَا بَالُ أُنَاسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِى كِتَابِ اللَّهِ، مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ، وَإِنْ شَرَطَ مِائَةَ شَرط، فَشَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ) . وترجم له بَاب (اسْتِعَانَةِ الْمُكَاتَبِ وَسُؤَالِهِ النَّاسَ) ، وقالت فيه: فإِنِّى كَاتَبْتُ أَهْلِى عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِى كُلِّ عَامٍ أَوقِيَّةٌ، فَأَعِينِينِى. وترجم له بَاب (بَيْعِ الْمُكَاتَبِ إِذَا رَضِىَ) ، وقالت عائشة: هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِىَ عَلَيْهِ شَىْءٌ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: مَا بَقِىَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هُوَ عَبْدٌ وَإِنْ مَاتَ، وإِنْ عَاشَ، وَإِنْ جَنَى مَا بَقِىَ عَلَيْهِ شَىْءٌ. وترجم له بَاب (إِذَا قَالَ الْمُكَاتَبُ: اشْتَرِنِى وَأَعْتِقْنِى، فَاشْتَرَاهُ لِذَلِكَ) . / 3 - وفيه: قَالَتِ بريرة: اشْتَرِينِى وَأَعْتِقِينِى، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَتْ: لاَ يَبِيعُونِى حَتَّى يَشْتَرِطُوا وَلاَئِى، فَقَالَتْ: لاَ حَاجَةَ لِى بِذَلِكَ. . . الحديث. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 78 أجمع العلماء أن من شرط ما لا يجوز فى السنة أنه لا ينفعه شرطه ذلك، وأنه مردود فى بيع كان الشرط، أو عتق، أو غير ذلك من الأحكام؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يخص شيئًا دون غيره، بل عم الأشياء كلها فى حديث بريرة، وقد تقدم اختلافهم فى جواز البيع والشرط فى كتاب البيوع. وقوله: (كل شرط ليس فى كتاب الله) ، معناه فى حكم الله وقضائه من كتابه، وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ، وإجماع الأمة، فهو باطل. وفى حديث بريرة دليل على اكتساب المكاتب المال بالسؤال، وأن ذلك طيب لمولاه، وهذا يرد على من قال، هو قول ابن عمر: ذلك أوساخ الناس؛ لأن ما طاب لبريرة أخذه طاب لسيدها أخذه منها، اعتبارًا باللحم الذى كان عليها صدقة، وللنبى (صلى الله عليه وسلم) هدية، واعتبارًا أيضًا بجواز معاملة الناس للسائل، وقد تأول قوم من العلماء فى قوله: (وفى الرقاب) [التوبة: 60] ، أنه يجوز للمكاتبين أخذ الزكاة المفروضة، فكيف بالتطوع. واتفق مالك، والكوفيون، والشافعى، على جواز كتابة من لا حرفة له ولا مال معه، وقد روى عن مالك كراهة ذلك أيضًا، وكرهه الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، ومما يدل على جواز سعى المكاتب وسؤاله أن بريرة ابتدأت بالسؤال، ولم يقل النبى (صلى الله عليه وسلم) : هل لها مال أو عمل أو كسب، ولو كان واجبًا لسأل عنه ليقع حكمه عليه؛ لأنه بعث معلمًا، عَلَيْهِ السَّلام، وهذا يدل أن من تأول فى قوله تعالى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 79 ) وإن علمتم فيهم خيرًا) [النور: 33] ، أن الخير المال، ليس بالتأويل الجيد، وأن الخير المذكور هو القوة على الاكتساب مع الأمانة، وقد يكتسب بالسؤال. وقوله: (اشترطى لهم الولاء) ، أى أظهرى لهم حكم الولاء وعرفيهم، والاشتراط هو الإظهار، ومنه أشراط الساعة ظهور علاماتها. وقال الداودى وغيره: لم يقل لها الرسول (صلى الله عليه وسلم) : اشترطى لهم الولاء، إلا بعد التقدم إليهم وإعلامهم أن الولاء كالنسب، لا يباع ولا يوهب، ومعناه اشترطى لهم الولاء، فإن اشتراطهم إياه بعد علمهم أن اشتراطه لا يجوز غير نافع لهم. قال غيره: والدليل على ذلك قوله، عَلَيْهِ السَّلام، معلنًا على رءوس الناس: (ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست فى كتاب الله) ، فإنما وبخهم بما تقرر عندهم من علم السنة فى ذلك، ألا ترى قوله: (قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق) ، فكان هذا على وجه الوعيد لمن رغب عن سنته فى بيع الولاء، وليحذروا من مواقعة مثله، ولم يكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتوعد فى الأمر إلا بعد التقدم فيه. قال الداودى: وقيل: إنما قال لها، عَلَيْهِ السَّلام: (اشترطى لهم الولاء) ، على وجه العقوبة لهم، بأن حرمهم الولاء إذ تقدموا على ذلك قبل أن يسألوه وهو بين أظهرهم، عَلَيْهِ السَّلام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 80 قال غيره: ومن الدليل على أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، ربما قال الشىء أو فعله، وليس بالأفضل عنده، لما يريد من تنكيل الناس وعقوبتهم، أنه عَلَيْهِ السَّلام نهاهم عن الوصال فلم ينتهوا، فواصل يومًا ثم يومًا حتى رأوا الهلال، وقال: (لو تأخر لزدتكم) ، كالمنكل بهم حين أبوا أن ينتهوا، ومثله قوله يوم الطائف: (إنا قافلون غدًا إن شاء الله) ، فقال الناس: قبل أن نفتحها؟ قال: (فاغدوا على القتال) ، فغدوا فأصيبوا بجراحات، فقال عَلَيْهِ السَّلام: (إنا قافلون غدًا إن شاء الله) ، فسروا بذلك. وفيه: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان إذا أراد أن يعاقب فى أمر يكون تأديبًا لمن عاقبه عليه، خطب الناس قائمًا؛ ليكون أثبت فى قلوبهم وأردع لمن أراد مثل ذلك. وفيه: دليل أن المكاتب عبد ما لم يؤد وما بقى عليه درهم، روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن المسيب، والقاسم، وسالم، وعطاء، وهو قول مالك، والثورى، والكوفيين، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. قال مالك: وكل من أدركنا من أهل العلم ببلدنا يقولون ذلك. وفيها قول آخر روى عن على بن أبى طالب: أنه إذا أدى نصف كتابته عتق. قال ابن مسعود: لو كانت الكتابة مائتى دينار، وقيمة العبد مائة دينار، فأدى العبد المائة التى من قيمته عتق، وهو قول النحعى، وعن ابن مسعود: إن أدى ثلث الكتابة عتق، وهو قول شريح. وحجة الجماعة أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، أجاز بيع المكاتب بقوله: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 81 (اشتريها وأعتقيها) ، فبان بذلك أن عقد الكتابة لا يوجب لها عتقًا حتى تؤدى ما انعقد عليه، وأن عتقها يتعلق بشرط الأداء. قال ابن القصار: ولا تخلو الكتابة أن تجرى مجرى العتق بالصفة، أو مجرى البيع، أو الرهن، وإن كانت تجرى مجرى العتق بالصفة، فيجب ألا يعتق إلا بعد أداء جميع الكتابة، كما لو قال له: أنت حر إن دخلت الدار، فلا يعتق إلا بعد دخولها، وإن كان يجرى مجرى البيع، فيجب ألا يعتق أيضًا إلا بعد الأداء، كما لو باع عبدًا، فإنه لا يلزمه تسليم المبيع إلا بقبض جميع الثمن، وإن جرت مجرى الرهن فكذلك؛ لأنه لا يستحق أخذ الرهن حتى يؤدى جميع ما عليه. وقوله: باب إذا قال: اشترنى وأعتقنى، فاشتراه لذلك، فاختلف فيه العلماء، فقال الأوزاعى: لا يباع المكاتب إلا للعتق، ويكره أن يباع قبل عجزه، وهو قول أحمد، وإسحاق. وقال الكوفيون: لا يجوز بيعه حتى يعجز. وقال الداودى: اختلف قول مالك فى فسخ الكتابة بالبيع للعتق، فقال بعض أصحابه: كانت بريرة عجزت، وهذه دعوى من قائله وتحكم، والحديث يدل على خلافه. قال ابن المنذر: واختلف عن الشافعى فى هذه المسألة، فقال: ولا أعلم حجة لمن قال: ليس له بيع المكاتب، إلا أن يقول: لعل بريرة عجزت. فقال الشافعى: وأظهر معانيه أن لمالك المكاتب بيعه. قال ابن المنذر والداودى: وفى ترك الرسول (صلى الله عليه وسلم) سؤال بريرة هل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 82 عجزت أم لا؟ دليل على أن المكاتب يباع للعتق عجز أم لم يعجز. قال ابن المنذر: وإذا لم يختلف أهل العلم أن للرجل أن يبيع عبده قبل أن يكاتبه، فعقده الكتابة غير مبطل ما كان له من بيعه، كما هو غير مبطل ما كان له من عتقه، ولو لم يكن له بيعه ما كان له عتقه؛ لأن بيعه إياه إزالة ملكه عنه، كما عتقه سواء. ودل خبر عائشة فى قصة بريرة أنها بيعت بعلم النبى، عَلَيْهِ السَّلام، فلم ينكره، ومن قول عوام أهل العلم: أن المكاتب عبد ما بقى عليه درهم، فلم يمنع الرجل من بيع عبده الذى لو شاء أعتقه. وخبر عائشة مستغنى به عن قول كل أحد. قال الطبرى: وفى قوله، عَلَيْهِ السَّلام، لعائشة: (اشتريها وأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق) ، أوضح دليل على أن بريرة إذ عتقت لم تعتق عند عائشة بالتحرير الذى كان من مواليها لها عند عقد الكتابة، ولكنها عتقت بعتق كان من عائشة لها بعد ابتياعها، فلذلك كان ولاؤها لعائشة دون مواليها البائعين لها، وفى ذلك أبين البيان أن عقد الكتابة الذى كان عقد لها مواليها انفسخ بابتياع عائشة لها، وهذا يرد قول من زعم أن عائشة أرادت أن تشترى منهم الولاء بعد عقدهم الكتابة، وتؤدى إليهم الثمن ليكون لها الولاء، ولو كان هذا صحيحًا لكان النكير على عائشة دون موالى بريرة؛ لأنها أرادت أن تشترى الولاء الذى نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عنه، وليس الأمر كذلك، وإنما كان الإنكار على موالى بريرة؛ لأن الولاء لا يباع ولا يكون إلا للمعتق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 83 وفيه من الفقه: أن كتابة الأمة ذات الزوج جائزة دون زوجها، وفى ذلك دليل أنه ليس لزوجها من الكتابة، وإن كان ذلك يئول إلى فراقها إياه بغير إذنه إذا خيرت واختارت نفسها، ولما كان للسيد عتق الأمة تحت العبد، وإن أدى ذلك إلى بطلان نكاحه، وله أن يبيع أمته من زوجها الحر، وإن كان فى ذلك بطلان زوجيتها، كان لهذا المعنى يجيز كتابتها على رغم زوجها. وفيه: حجة لقول مالك أن للمرأة أن تتجر بمالها من غير علم زوجها؛ لأن عائشة اشترت بريرة وأنها إنما استأمرت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى أمر الولاء خاصة. وفيه: أن للمرأة أن تعتق بغير إذن زوجها، وقد أكثر الناس فى تخريج الوجوه فى حديث بريرة حتى بلغوها نحو مائة وجه، وللناس فى ذلك أوضاع، وسيأتى فى كتاب النكاح كثير من معانيه، إن شاء الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 84 بسم الله الرحمن الرحيم 45 - كِتَاب الْهِبَةِ وَفَضْلِهَا والتَحْرِيضِ عَلَيْهَا - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (يَا نِسَاءَ الْمُؤمنات، لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ) . / 2 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ لِعُرْوَةَ: ابْنَ أُخْتِى، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلاَلِ، ثُمَّ الْهِلاَلِ، ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِى شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِى أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَارٌ، فَقُلْتُ: يَا خَالَةُ، وَمَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتِ: الأَسْوَدَانِ، التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلاَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ، كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ أَلْبَانِهِمْ فَيَسْقِينَاه. قال المهلب: فيه الحض على التهادى والمتاحفة ولو باليسير؛ لما فيه من استجلاب المودة، وإذهاب الشحناء، واصطفاء الجيرة، ولما فيه من التعاون على أمر العيشة المقيمة للإرماق، وأيضًا فإن الهدية إذا كانت يسيرة فهى أدل على المودة، وأسقط للمئونة، وأسهل على المهدى لإطراح التكليف. وفى حديث عائشة ما كان النبى، عَلَيْهِ السَّلام، عليه من الزهد فى الدنيا، والصبر على التقلل، وأخذ البلغة من العيش، وإيثار الآخرة على الدنيا؛ لأنه حمد حين خير بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، وأن يكون نبيًا عبدًا، ولا يكون نبيًا ملكًا، فهذه سنته وطريقته. وفى هذا من الفقه: فضل التقلل والكفاف على التنعم والترفه، وفيه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 85 حجة لمن آثر الفقر على الغنى، وفيه أن من السنة مشاركة الواجد المعدم، وأن يكون الناس يشتركون فيما بأيديهم بالتفضل من الواجد. قوله: (يا نساء المؤمنات) ، على غير الإضافة، تقديره: يا أيها النساء المؤمنات، ومثله: يا رجال الكرام، فالمنادى هاهنا محذوف وهو أيها، والنساء فى تقدير النعت لأيها، والمؤمنات نعت للنساء. وحكى سيبويه: يا فاسق الخبيث، ومذهبه فيه أن فاسق وشبهه معرف بياء، كتعريف زيد بياء فى النداء، وكذلك يا نساء هنا مخرج على مذهبه أن يجوز نصب نعته، كما جاز يا زيد العاقل، فنصب العاقل، فيجوز على هذا يا نساء المؤمنات. وأما من روى: (يا نساء المؤمنات) ، على الإضافة ونصب النساء، فيستحيل أن تكون المؤمنات هاهنا من صفات النساء؛ لأن الشىء لا يضاف إلى نفسه، وإنما يضاف إلى غيره مما يبينه به ويضمه إليه، ومحال أن يبينه بنفسه أو يضمه إليها، هذا مذهب البصريين. وقد أجاز الكوفيون إضافة الشىء إلى نفسه، واحتجوا بآيات من القرآن تتخرج معانيها على غير تأويلهم، منها قوله تعالى: (ولدار الآخرة) [يوسف: 109] ، و) دين القيمة) [البينة: 5] . وقال الزجاج وغيره: معناه دار الحال الآخرة؛ لأن للناس حالين، حال الدنيا وحال الآخرة، ومثله صلاة الأولى، والمراد صلاة الفريضة الأولى، والسعة الأولى؛ لأنها أول ما فرض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 86 من الصلوات، ومعنى قوله تعالى: (دين القيمة) [البينة: 5] دين الملة القيمة، ولهذا وقع التأنيث، لكنه يخرج (يا نساء المؤمنات) على تقدير بعيد، وهو أن تجعل المؤمنات نعتًا لشىء محذوف غير النساء، كأنه قال: يا نساء الأنفس المؤمنات، والمراد بالأنفس الرجال، وفيه بُعْدٌ لفساد المعنى؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما خاطب النساء بذلك على وجه الفضيلة لهن والتخصيص، وعلى هذا الوجه، لا فضيلة لهن فى ذلك، إلا أن يراد بالأنفس الرجال والنساء معًا، فيكون تقديره: يا نساء من الأنفس المؤمنات، على تقدير إضافة البعض إلى الكل، كما تقول: أخذت دراهم مال زيد، ومال واقع على الدراهم وغيرها. وقوله: (ولو فرسن شاة) ، أصل الفرسن للإبل، وهو موضع الحافر من الفرس، ويقال لموضع ذلك من البقر والغنم: الظلف. وقال الأصمعى: الفرسن ما دون الرسغ من يدى البعير، وهى مؤنثة، والجمع الفراسن. وقال ابن السكيت: إنما الفرسن للبعير، فاستعير للشاة، وأنشد فى مثله: أشكو إلى مولاى من مولاتى تربط بالحبل أكيرعاتى فاستعار الأكارع للإنسان، كما استعار الفرسن للشاة. - بَاب الْقَلِيلِ مِنَ الهَديِةِ / 3 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ لأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِىَ إِلَىَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ) . هذا حض منه لأمته على المهاداة، والصلة، والتأليف، والتحاب، وإنما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 87 أخبر أنه لا يحقر شيئًا مما يُهدى إليه أو يدعى إليه؛ لئلا يمتنع الباعث من المهاداة لاحتقار المهدى، وإنما أشار بالكراع وفرسن الشاة إلى المبالغة فى قبول القليل من الهدية، لا إلى إعطاء الكراع والفرسن ومهاداته؛ لأن أحدًا لا يفعل ذلك. 3 - بَاب مَنِ اسْتَوْهَبَ مِنْ أَصْحَابِهِ شَيْئًا وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قَالَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (اضْرِبُوا لِى مَعَكُمْ سَهْمًا) . / 4 - وفيه: سَهْلٍ، قال النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) للمرأة الأنصارية: (مُرِى غلامك النَّجَار، يَعْمَلْ لى أَعْوَادَ الْمِنْبَرِ. . .) الحديث. / 5 - وفيه: أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ: فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ فَأَكَلَهَا، حَتَّى نَفِذَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ. استيهاب الصديق الملاطف حسن إذا علم أن ما يستوهبه تطيب به نفسه، ويسر بهبته، ويبين هذا أنه قد جاء فى حديث آخر أن المرأة الأنصارية كانت تطوعت للنبى (صلى الله عليه وسلم) وسألته أن تصنع له المنبر، وكانت وعدته بذلك، وإنما قال، عَلَيْهِ السَّلام: (اضربوا لى معكم سهمًا) فى الغنم التى أخذوا فى الرقية بفاتحة الكتاب، وقال فى لحم الصيد: (هل معكم منه شىء) ، ليؤنسهم لما تحرجوا من أكله بأن يريهم حله عيانًا بأكله منه. ومن هذا الحديث، قال بعض الفقهاء: إن المآكل إذا وردت على قوم دون مجالسيهم أنهم مندوبون إلى مشاركتهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 88 4 - بَاب مَنِ اسْتَسْقَى وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَ لِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اسْقِنِى) . / 6 - فيه: أَنَس، قَالَ: أَتَانَا النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فِى دَارِنَا هَذِهِ، فَاسْتَسْقَى فَحَلَبْنَا لَهُ شَاةً لَنَا، ثُمَّ شُبْتُهُ مِنْ مَاءِ بِئْرِنَا هَذِهِ، فَأَعْطَيْتُهُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَسَارِهِ، وَعُمَرُ تُجَاهَهُ، وَأَعْرَابِىٌّ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ عُمَرُ: هَذَا أَبُو بَكْرٍ، فَأَعْطَى الأَعْرَابِىَّ فَضْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: (الأَيْمَنُونَ، الأَيْمَنُونَ، أَلاَ فَيَمِّنُوا) ، قَالَ أَنَسٌ: فَهِىَ سُنَّةٌ، ثَلاَثًا. هذا مثل الباب الذى قبله، لا بأس بطلب ما يتعارف الناس بطلب مثله من شرب الماء واللبن، وما تطيب به النفس، ولا يتشاح فيه، ولاسيما أن زمن النبى (صلى الله عليه وسلم) زمن مكارمة ومشاركة، وقد وصفهم الله أنهم كانوا يؤثرون على أنفسهم، وإنما أعطى الأعرابى ولم يستأذنه كما استأذن الغلام؛ ليتألفه بذلك لقرب عهده بالإسلام. وفيه: أن السنة لمن استسقى أن يسقى من على يمينه، وإن كان من على يساره أفضل ممن جلس على يمينه، ألا ترى قول أنس: فهى سنة ثلاث مرات، وذلك يدل على تأكيدها، وقد تقدم بيان هذا المعنى فى كتاب الأشربة. 5 - بَاب قَبُولِ هَدِيَّةِ الصَّيْدِ وَقَبِلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ أَبِى قَتَادَةَ عَضُدَ الصَّيْدِ / 7 - وفيه: أَنَس، أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغَبُوا، فَأَدْرَكْتُهَا فَأَخَذْتُهَا، فَأَتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ فَذَبَحَهَا، وَبَعَثَ إِلىّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِوَرِكِهَا، أَوْ فَخِذَيْهَا، قَالَ: فَخِذَيْهَا لاَ شَكَّ فِيهِ، فَقَبِلَهُ، قُلْتُ: وَأَكَلَ مِنْهُ؟ قَالَ: وَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: قَبِلَهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 89 / 8 - وفيه: ابْن عَبَّاس، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِى وَجْهِهِ، قَالَ: (أَمَا إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلاَ أَنَّا حُرُمٌ) . قول شعبة: قوله: فخذيها لا شك فيه، دليل أنه شك فى الفخذين أولاً ثم استيقن، وكذلك شك آخرًا فى الأكل، فأوقف حديثه على القبول، وقبول هدية الصيد وغيره هى السنة؛ لقوله عَلَيْهِ السَّلام: (لو أهدى إلىّ كراع أو ذراع لقبلته) . وفى رد النبى (صلى الله عليه وسلم) الحمار على الصعب بن جثامة وهو محرم دليل على أنه لا يجوز قبول ما لا يحل من الهدية؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما رده عليه لأنه لا يحل له قتل الصيد وهو محرم، وكان الحمار حيًا، فدل هذا أن المهدى إذا كان معروفًا بكسب الحرام، أو بالغصب والظلم، فإنه لا يجوز قبول هديته. وفيه الاعتذار إلى الصديق، وإذهاب ما يخشى أن يقع بنفسه من الوحشة وسوء الظن، وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب الحج وما للعلماء فيه، وكذلك تقدم حديث أنس فى كتاب الصيد وتفسير أنفَجْنَا. 6 - بَاب قَبُولِ الْهَدِيَّةِ / 9 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ، يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ مَرْضَاةَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . / 10 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَهْدَتْ أُمُّ حُفَيْدٍ، خَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِلَى النَّبِىِّ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 90 عَلَيْهِ السلام، أَقِطًا وَسَمْنًا وَضُبًّا، فَأَكَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الأَقِطِ وَالسَّمْنِ، وَتَرَكَ الضَّبَّ تَقَذُّرًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . / 11 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، كَانَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، إِذَا أُتِىَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ: (أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟) ، فَإِنْ قِيلَ: صَدَقَةٌ، قَالَ لأَصْحَابِهِ: (كُلُوا) ، وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ: هَدِيَّةٌ، ضَرَبَ بِيَدِهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَكَلَ مَعَهُمْ. / 12 - وفيه: أَنَس، أُتِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِلَحْمٍ، فَقِيلَ: تُصُدِّقَ به عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ: (هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ) . / 13 - وفيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، دَخَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَ: (عِنْدَكُمْ شَىْءٌ؟) ، قَالَتْ: لاَ، إِلاَ شَىْءٌ بَعَثَتْ بِهِ أُمُّ عَطِيَّةَ مِنَ الشَّاةِ الَّتِى بَعَثْتَ إِلَيْهَا مِنَ الصَّدَقَةِ، قَالَ: (إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا) . قد روى عن مالك فى حديث الضب أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، أمر ابن عباس، وخالد ابن الوليد بأكل الضب فى بيت ميمونة، فقالا له: ألا تأكل يا رسول الله؟ فقال: (إنى يحضرنى من الله حاضرة، يعنى الملائكة الذين يناجيهم، ورائحة الضب ثقيلة) ، فلذلك تقذره، عَلَيْهِ السَّلام، خشية أن يؤذى الملائكة بريحه. فى هذا من الفقه أنه يجوز للإنسان أن يتقذر ما ليس بحرام عليه لقلة عادته بأكله ولذمه، وإنما كان النبى (صلى الله عليه وسلم) لا يأكل الصدقة؛ لأنها أوساخ الناس، وأخذ الصدقة منزلة ضعة؛ لقوله عَلَيْهِ السَّلام: (اليد العليا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 91 خير من اليد السفلى) ، والأنبياء منزهون عن منازل الضعة والذلة، وأيضًا فلا تحل الصدقة للأغنياء، وقد عدد الله على نبيه أنه وجده عائلاً فأغناه، فلهذا كله حرمت عليه الصدقة. وقوله فى لحم بريرة: (هو لها صدقة ولنا هدية) ، وقوله: (قد بلغت محلها) ، فإن الصدقة يجوز فيها تصرف الفقير بالبيع والهدية وغير ذلك؛ لصحة ملكه لها، فلما أهدتها بريرة إلى بيت مولاتها عائشة حلت لها وللنبى (صلى الله عليه وسلم) ، وتحولت عن معنى الصدقة لملك المتصدق عليه بها، ولذلك قال عَلَيْهِ السَّلام: (وهى لنا من قبلها هدية، وقد بلغت محلها) ، أى قد صارت حلالاً بانتقالها من باب الصدقة إلى باب الهدية؛ لأن الهدية جائز أن يثيب عليها بمثلها وأضعافها على المعهود منه، عَلَيْهِ السَّلام، وليس ذلك شأن الصدقة، وقد تقدمت هذه المعانى فى موضع آخر. 7 - بَاب مَنْ أَهْدَى إِلَى صَاحِبِهِ وَتَحَرَّى بَعْضَ نِسَائِهِ دُونَ بَعْضٍ / 14 - فيه: عَائِشَةَ: كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمِى، وكان نِسَاءَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) حِزْبَيْنِ: حِزْبٌ فِيهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَوْدَةُ، وَالْحِزْبُ الآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ عَلِمُوا حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَائِشَةَ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ أَحَدِهِمْ هَدِيَّةٌ يُرِيدُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 92 أَنْ يُهْدِيَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَخَّرَهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى بَيْتِ عَائِشَةَ، بَعَثَ صَاحِبُ الْهَدِيَّةِ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى بَيْتِ عَائِشَةَ، فَكَلَّمَ حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ، فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُكَلِّمُ النَّاسَ، يَقُولُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهْدِىَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) هَدِيَّةً فَلْيُهْدِهِا إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ مِنْ نِسَائِهِ، فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِمَا قُلْنَ، فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا ثلاثًا، فَسَأَلْنَهَا فَقَالَتْ: مَا قَالَ لِى شَيْئًا، فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِيهِ، فَكَلَّمَتْهُ حِينَ دَارَ إِلَيْهَا أَيْضًا، فَقَالَ لَهَا: (لاَ تُؤْذِينِى فِى عَائِشَةَ، فَإِنَّ الْوَحْىَ لَمْ يَأْتِنِى وَأَنَا فِى ثَوْبِ امْرَأَةٍ إِلاَ عَائِشَةَ) ، قَالَتْ: فَقُلت: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّهُنَّ دَعَوْنَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) تَقُولُ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِى ابنةِ أَبِى بَكْرٍ، فَقَالَ: (يَا بُنَيَّةُ، أَلاَ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟) ، فَقَالَتْ: بَلَى، فَرَجَعَتْ إِلَيْهِنَّ فَأَخْبَرَتْهُنَّ، فَقُلْنَ: ارْجِعِى إِلَيْهِ، فَأَبَتْ أَنْ تَرْجِعَ، فَأَرْسَلْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، فَأَتَتْهُ فَأَغْلَظَتْ، وَقَالَتْ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِى بِنْتِ ابْنِ أَبِى قُحَافَةَ، فَرَفَعَتْ صَوْتَهَا حَتَّى تَنَاوَلَتْ عَائِشَةَ وَهِىَ قَاعِدَةٌ فَسَبَّتْهَا، حَتَّى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَنْظُرُ إِلَى عَائِشَةَ هَلْ تَكَلَّمُ، قَالَ: فَتَكَلَّمَتْ عَائِشَةُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 93 حَتَّى أَسْكَتَتْهَا، قَالَ: فَنَظَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى عَائِشَةَ، وَقَالَ: (إِنَّهَا بِنْتُ أَبِى بَكْرٍ) . قال المهلب: فى هذا الحديث من الفقه: أنه ليس على الرجل حرج فى إيثار بعض نسائه بالتحف والطرف من المأكل، وإنما يلزمه العدل فى المبيت والمقام معهن، وإقامة نفقاتهن وما لابد منه من القوت والكسوة، وأما غير ذلك فلا، وفيه تحرى الناس بالهدايا أوقات المسرة ومواضعها من المهداة إليه؛ ليزيد بذلك فى سروره، وفيه أن الرجل يسعه السكوت بين نسائه إذا تناظرن، ولا يميل مع بعضهن على بعض، كما سكت النبى (صلى الله عليه وسلم) حين تناظرت زينب وعائشة، ولكن قال آخرًا: (إنها بنت أبى بكر) ، ففى هذا إشارة إلى التفضيل بالشرف والفهم. 8 - بَاب مَا لاَ يُرَدُّ مِنَ الْهَدِيَّةِ / 15 - فيه: أَنَس، كان لاَ يَرُدُّ الطِّيبَ، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ لاَ يَرُدُّهُ. قال المهلب: إنما كان النبى (صلى الله عليه وسلم) لا يرد الطيب من أجل أنه كان يلازمه لمناجاته الملائكة، ولذلك كان لا يأكل الثوم وما شاكله، وفى هذا الحديث دليل أن من الهدايا ما يرد لعلة، إذا كان لذلك وجه، وأن الطيب لا وجه لرده؛ لأنه من المباحات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 94 المستحسنات، وقد قال، عَلَيْهِ السَّلام: (حُبِّبَ إلىّ من الأشياء النساء والطيب) . 9 - بَاب مَنْ رَأَى الْهِبَةَ الْغَائِبَةَ جَائِزَةً / 16 - فيه: مَرْوَانَ وَالْمِسْوَر، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ، قَامَ فِى النَّاسِ، فَقَالَ: (إِنَّ إِخْوَانَكُمْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّى رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ. . .) ، الحديث. قال المهلب: هبة الشىء الغائب جائزة عند العلماء، ولا أعلم فى ذلك خلافًا، وفيه أن للسلطان أن يرفع أملاك قوم إذا كان فى ذلك مصلحة واستئلاف. - بَاب الْمُكَافَأَةِ فِى الْهَدِيَّةِ / 17 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَيُثِيبُ عَلَيْهَا. قال المهلب: الهدية على ضربين: فهدية للمكافأة، وهدية للصلة والجوار، فما كان للمكافأة كان على سبيل البيع وطريقه، ففيه العوض، ويجبر المهدى إليه على سبيل العوض، وما كان لله أو للصلة، فلا يلزم عليه مكافأة، وإن فعل فقد أحسن. وقد اختلف الفقهاء فيمن وهب هبة ثم طلب ثوابها، وقال: إنما أردت الثواب، فقال مالك: ينظر فيه، فإن كان مثله ممن يطلب الثواب من الموهوب له، فله ذلك، مثل الفقير للغنى، وهبة الغلام لصاحبه، وهبة الرجل لأميره، ومن هو فوقه، وهو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 95 أحد قولى الشافعى. وقال أبو حنيفة: لا يكون له ثواب إذا لم يشترطه، وهو قول الشافعى الثانى، قال: والهبة للثواب باطل لا تنعقد؛ لأنها بيع بثمن مجهول. واحتج الكوفى بأن موضع الهبة التبرع، فلو أوجبنا فيها العوض لبطل معنى التبرع، وصار فى معنى المعاوضات، والعرب قد فرقت بين لفظ البيع ولفظ الهبة، فجعلت لفظ البيع واقعًا على ما يستحق فيه العوض، والهبة بخلاف ذلك. قال ابن القصار: والحجة لمالك أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، كان يقبل الهدية ويثيب عليها، والاقتداء به واجب؛ لقوله تعالى: (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة) [الأحزاب: 21] . وروى أن أعرابيًا أهدى إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) بعيرًا، فأثابه عليه فأبى، فزاده فأبى، فقال له، عَلَيْهِ السَّلام: (لقد هممت ألا أتهب إلا من قرشى أو دوسى) ، فدل أن الهبة تقتضى الثواب، وإن لم يشترطه؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أثابه وزاده فى الثواب حتى بلغ رضا الأعرابى، ولو لم يكن واجبًا لم يثبه ولم يزده، ولو أثاب تطوعًا لم تلزمه الزيادة، وكان ينكر على الأعرابى طلبه للثواب حتى يحصل علمه هذا عند الناس. وأما قوله: إن الهبة موضوعة للتبرع، ومخالفة للفظ البيع، فالجواب أن الهبة لو لم تقتض العوض أصلاً لكانت بمنزلة الصدقة، يقصد بها ثواب الآخرة. والفرق بين الهبة والصدقة أن الواهب يقصد المكافأة فى الأغلب، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 96 وليست الصدقة كذلك، والفقير إذا وهب للغنى ينبغى أن يكون بمطلقه يقتضى الثواب، وإن كان الثواب مجهولاً، كقطعة الحمام والشارب والملاح، وقد جرى العرف بذلك، وأيضًا فإن الواهب دخل على أخذ العوض، وإن لم ينكره، فصار كأنه عقد معاوضة، ولنا أن نستدل بقوله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) [النساء: 86] ، فهو عام فى كل هدية وهبة، فلو أهدى له مما يتحيا به من مسموم وغيره، وطلب الثواب كان ذلك له، ووجب على المحيا أن يحيى بأحسن منها، أو يردها بأمر الله له بذلك. فإن قيل: هذا ندب، والوجوب لا يتعلق بعوض زائد، فالجواب: أنه ندب إلى أحسن منها، وإلا فالرد واجب لفعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وقد روى عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب أنهما قالا: إذا وهب الرجل هبة ولم يثب منها فهو أحق بها، ولا مخالف لهما فى الصحابة. - بَاب الْهِبَةِ لِلْوَلَدِ وَإِذَا أَعْطَى بَعْضَ وَلَدِهِ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَعْدِلَ بَيْنَهُمْ وَيُعْطِىَ الآخَرِينَ مِثْلَهُ وَلاَ يُشْهَدُ عَلَيْهِ وَقَالَ الرسول: (اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ فِى الْعَطِيَّةِ) ، وَهَلْ لِلْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِى عَطِيَّتِهِ، وَمَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلاَ يَتَعَدَّى. وَاشْتَرَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 97 النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، مِنْ عُمَرَ بَعِيرًا، ثُمَّ أَعْطَاهُ ابْنَ عُمَرَ، وَقَالَ: (اصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ) . / 18 - فيه: النُّعْمَانِ، أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ: إِنِّى نَحَلْتُ ابْنِى هَذَا غُلاَمًا، فَقَالَ: (أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ؟) ، قَالَ: لاَ، قَالَ: (فَأرْجِعْهُ) ، وقد ذكره البخارى فى كتاب الشهادات، وقال فيه: (لا أشهد على جور) . اختلف العلماء فى الرجل ينحل بعض ولده دون البعض، فكرهه طاوس، وقال: لا يجوز ذلك، ولا رغيف محرق، وهو قول عروة، ومجاهد، وبه قال أحمد، وإسحاق، قال إسحاق: فإن فعل فالعطية باطلة، وإن مات الناحل فهو ميراث بينهم. واحتجوا بأن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، رد عطية النعمان، وقال له: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) ، وبقوله: (لا أشهد على جور) ، وأجاز ذلك مالك فى الأشهر عنه، وهو قول الكوفيين، والشافعى، وإن كانوا يستحبون أن يسوى بينهم ذكرانًا كانوا أو إناثًا. وقال عطاء وطاوس: يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، كما قسم الله بعد موته، وهو قول الثورى، ومحمد بن الحسن، وأحمد، وإسحاق. وقال سحنون: إذا تصدق بجل ماله ولم يكن فيما استبقى ما يكفيه، ردت صدقته، وإن أبقى من ذلك ما يكفيه جازت صدقته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 98 وقد قال مالك: لم يكن لبشير مال غير الغلام الذى نحله ابنه. ومن حجة الذين أبطلوا ذلك أن إعطاء بعضهم دون بعض يؤدى إلى قطع الرحم والعقوق، فيجب أن يكون محرمًا ممنوعًا منه؛ لأنه لا يجوز عليه (صلى الله عليه وسلم) أن يحث على صلة الرحم ويجيز ما يؤدى إلى قطعها، قالوا: وقد كان النعمان وقت ما نحله أبوه صغيرًا، وكان أبوه قابضًا له لصغره عن القبض، فلما قال له، عَلَيْهِ السَّلام: اردده، بعدما كان فى حكم ما قبض، دل على أن النحل لبعض ولده لا ينعقد ولا يملكه المنحول. قال الطحاوى: ومن حجة الذين أجازوا التفضيل أن حديث النعمان لا دليل فيه على أنه كان حينئذ صغيرًا، ولعله كان كبيرًا لم يكن قبضه، وقد روى الحديث على غير هذا المعنى، روى داود بن أبى هند، عن الشعبى، عن النعمان، أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال: (أكُلَّ ولدك نحلته مثل هذا؟) ، قال: لا، قال: (أيسرك أن يكونوا لك فى البر سواء؟) ، قال: بلى، قال: (فأشهد على هذا غيرى) ، فهذا خلاف ما فى الحديث الأول، وهذا القول لا يدل على فساد العقد الذى عقد للنعمان؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد يتوقى فى الشهادة على ماله أن يشهد عليه. وقوله: (أشهد على هذا غيرى) ، دليل على صحة العقد، وقد أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بالتسوية بينهم ليستووا جميعًا فى البر، وليس فى شىء من هذا فساد العقد على التفضيل، فكان كلام النبى (صلى الله عليه وسلم) إياه على طريق المشورة، وعلى ما ينبغى أن يفعل عليه الشىء إن آثر فعله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 99 وكان عَلَيْهِ السَّلام إذا قسم شيئًا بين أهله سوى بينهم جميعًا، وأعطى المملوك كما يعطى الحر، ليس ذلك على أنه واجب، لكنه أحسن من غيره، وقد روى معمر، عن الزهرى، عن أنس، قال: كان مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رجل، فجاء ابن له، فقبله وأجلسه على فخذه، ثم جاءت ابنة له، فأجلسها إلى جنبه، قال: (فهلا عدلت بينهما) ، أفلا ترى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أراد منه التعديل بين البنت والابن، وألا يفضل أحدهما على الآخر. فإن قيل: فقوله عَلَيْهِ السَّلام: (لا أشهد على جور) ، يدل على أن إعطاء بعضهم لا يجوز. قيل: ليس قوله ذلك بأشد من قوله: (فارجعه) ، وهذا يدل على أن العطية قد لزمت وخرجت عن يده، ولو لم تكن صحيحة لم يكن له أن يرتجع؛ لأنها ما مضت ولا صحت فيرتجع، فأمره بذلك لأن المستحب والمسنون التسوية. ولما أجمعوا على أنه مالك لماله، وأن له أن يعطيه من شاء من الناس، كذلك يجوز أن يعطيه من شاء من ولده، والدليل على جواز ذلك أن أبا بكر الصديق نحل ابنته عائشة دون سائر ولده، ونحل عمر ابنه عاصمًا دون سائر ولده، ونحل عبد الرحمن بن عوف ابنته أم كلثوم ولم ينحل غيرها، وأبو بكر وعمر إمامان، وعبد الرحمن ومحله، ولم يكن فى الصحابة من أنكر ذلك. والحجة على من قال: نجعل حظ الذكر مثل حظ الأنثيين كالفرائض، قوله عَلَيْهِ السَّلام: (أكل ولدك نحلت مثل هذا) ، ولم يقل له: هل فضلت الذكر على الأنثى؟ ولو كان ذلك مستحبًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 100 لسأله عنه كما سأله عن التشريك فى العطية، فثبت أن المعتبر عطية الكل على التسوية. فإن قيل: لم يكن لبشير بنت، فلذلك لم يسأله. قيل: قد كان للنعمان أخت لها خبر نقله أصحاب الحديث. قال المهلب: وفى قوله عَلَيْهِ السَّلام: (اردده) من الفقه أن للأب أن يقبض ما وهب لولده ويرجع فيه. وقد اختلف العلماء فى ذلك، فقال مالك: له أن يرجع فى هبته وإن قبضها الولد ما لم تتغير فى يد ولده، أو سيحدث دينًا، أو تتزوج البنت بعد الهبة. وقال الشافعى: له أن يرجع فى هبته على كل حال ولم يعتبر طروء دين أو تزويجًا. وقال أبو حنيفة: لا يرجع فيما وهب لولده، وحديث النعمان حجة على أبى حنيفة؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمره بالرجوع فيما وهب لابنه، فإن قال: لم يكن قبض النعمان الهبة، فلذلك جاز لأبيه الرجوع فيها، فالجواب أن الهبة تلزم عند مالك بالقول، ولا يفتقد فى صحتها إلى القبض. ولو كان الحكم فيها يختلف بين أن تكون مقبوضة أو غير مقبوضة، لاستعلم الرسول (صلى الله عليه وسلم) الحال وفصل بينهما، وأيضًا فإن مجيئه للنبى، عَلَيْهِ السَّلام، يشهده يدل على أنه كان أقبضه، ولو لم يقبضه لم يكن لقوله: (أرجعه) معنى؛ لأنه عندكم قبل القبض لا يلزمه يرجع فيه، وليس لقوله حكم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 101 وحجة مالك أنه لا يرجع إن استحدث ابنه دينًا، فإنما قال ذلك؛ لأن حق الغرماء قد وجب فى مال الابن؛ لأنهم إنما داينوه على ماله، فليس للأب أن يبطل حقوق غرماء ابنه، وكذلك البنت إذا تزوجت لمالها؛ لأن الزوج له معونة فيه وكمال فى مال زوجته. وقد قال عَلَيْهِ السَّلام: (تنكح المرأة لمالها) ، فليس للأب أن يبطل ما وجب للزوج من الحقوق فى مال زوجته بأن يأخذ ذلك منها، وليس لغير الأب أن يقبض عند مالك وأكثر أهل المدينة، إلا أن الأم لها أن تقبض عندهم ما وهبت لولدها إذا كان أبوهم حيًا. هذا الأشهر عن مالك، وقد روى عنه أنها لا تقبض أصلاً، ولا يجوز عند أهل المدينة أن تقبض الأم ما وهبت ليتيم من ولدها؛ لأن الهبة لليتيم على وجه القربة لله، فهى بمنزلة الصدقة عليه، ولا يجوز الرجوع فى الصدقة؛ لأنها لله، كما لا يجوز الرجوع فى العتق والوقف وأشباهه. وعند الشافعى لا يرجع أحد فى هبته إلا الوالد والجد، وقد روى عن ابن وهب أن الجد يقبض كالأب، وعند الكوفى لا يرجع فيما وهبه لكل ذى رحم محرم بالنسب كالابن، والأخ، والأخت، والعم، والعمة، وكل من لو كان امرأة لم يحل له أن يتزوجها لأجل النسب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 102 قال المؤلف: فى اشتراء النبى (صلى الله عليه وسلم) البعير من عمر وهبته لابنه دليل على ما بوب به البخارى من التسوية بين الأبناء فى الهبة؛ لأنه عَلَيْهِ السَّلام لو سأل عمر أن يهب البعير لابنه عبد الله لم يكن عدلاً بين بنى عمر، فلذلك اشتراه عَلَيْهِ السَّلام ووهبه، ولو أشار على عمر أن يهبه لابنه عبد الله لبادر إلى ذلك. قال المهلب: وفى اشتراء النبى (صلى الله عليه وسلم) الجمل من عمر وهبته لابنه من الفقه أن غير الأب لا تلزمه التسوية فيما يهب بعض ولد الرجل كما يلزم الأب فى ولده، لما جبل الله النفوس عليه من الغضب عند أثرة الآباء بعض بنيهم دون بعض، ولو لزمت التسوية بين الأخوة من غير الأب، كما لزمت من الأب لما وهب النبى (صلى الله عليه وسلم) أحد بنى عمر دون إخوته. وقول البخارى: ولا يشهد عليه معناه: الرد لفعل الأب إذا فضل بعض بنيه، وأنه لا يسع الشهود أن يشهدوا على ذلك من فعل الأب إذا تبين منه الميل، كما لم يشهد الرسول على عطية بشير ابنه النعمان دون إخوته، وقال: (لا أشهد على جور) ، فكان ذلك سنة من النبى (صلى الله عليه وسلم) ألا يشهد على عطية يتبين فيها الجور. - بَاب الإِشْهَادِ فِى الْهِبَةِ / 19 - فيه: النُّعْمَانَ: أَعْطَانِى أَبِى عَطِيَّةً، فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لاَ أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: إِنِّى أَعْطَيْتُ ابْنِى مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً، فَأَمَرَتْنِى أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (أَعْطَيْتَ سَائِرَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 103 وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟) ، قَالَ: لاَ، قَالَ: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ) ، قَالَ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ. الإشهاد ليس من شروط الهبة والصدقة التى لا تتم إلا بها، وإنما هو ليعلم عزيمة المتصدق على إنفاذ ما تصدق به أو وهب، ولو أن رجلاً تصدق على أحد بشىء، وحازه المتصدق عليه دون إشهاد حتى مات المتصدق، فأقر ورثته وهم بالغون بالصدقة لنفذت، وإن كان لم يشهد عليها فى الأصل عند مالك وأصحابه، وإنما الإشهاد فى الهبة كالإشهاد فى البيع والعتق ليعلم ذلك. قال المهلب: وفيه أن للإمام إذا عرف من الواهب هروبًا من بعض الورثة أن يرد ذلك؛ لأن قوله: (فأمرتنى أن أشهدك) ، وأنها لم ترض حتى يشهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دليل على هروبه بماله عن سائر بنيه؛ لأن فى بعض طرق الحديث: (لا أشهد على جور) ، وكان معروفًا بالميل إلى تلك المرأة. - بَاب هِبَةِ الرَّجُلِ لامْرَأَتِهِ، وَالْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَىْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ) [النساء: 4] . قَالَ إِبْرَاهِيمُ: جَائِزَةٌ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لاَ يَرْجِعَانِ. وَاسْتَأْذَنَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، نِسَاءَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِى بَيْتِ عَائِشَةَ. وَقَالَ: (الْعَائِدُ فِى هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِى قَيْئِهِ) . وَقَالَ الزُّهْرِىُّ فِيمَنْ قَالَ لامْرَأَتِهِ: هَبِى لِى بَعْضَ صَدَاقِكِ، أَوْ كُلَّهُ، ثُمَّ لَمْ يَمْكُثْ إِلاَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 104 يَسِيرًا حَتَّى طَلَّقَهَا، فَرَجَعَتْ فِيهِ، قَالَ: يَرُدُّ إِلَيْهَا إِنْ كَانَ خَلَبَهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَعْطَتْهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ لَيْسَ فِى شَىْءٍ مِنْ أَمْرِهِ خَدِيعَةٌ جَازَ. قَالَ الله: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَىْءٍ) [النساء: 4] الآية. / 20 - فيه: عَائِشَة، لَمَّا ثَقُلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَاشْتَدَّ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِى بَيْتِى، فَأَذِنَّ لَهُ. . . الحديث. / 21 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْعَائِدُ فِى هِبَتِهِ، كَالْكَلْبِ يَقِىءُ، ثُمَّ يَعُودُ فِى قَيْئِهِ) . اختلف العلماء فى الزوجين يهب كل واحد منهما لصاحبه، فقال جمهور العلماء: ليس لواحد منهما أن يرجع فيما يعطيه للآخر، هذا قول عمر بن عبد العزيز، والنخعى، وعطاء، وربيعة، وبه قال مالك، والليث، والثورى، والكوفيون، والشافعى، وأبو ثور، وفيها قول آخر، وهو أن لها أن ترجع فيما أعطته، وليس له أن يرجع فيما أعطاها، روى هذا عن شريح، والشعبى، والزهرى. قال الزهرى: ما رأيت القضاة إلا يقيلون المرأة فيما وهبت لزوجها، ولا يقيلون الرجل فيما وهب لامرأته. وروى عبد الرزاق، عن الثورى، عن سليمان الشيبانى، قال: كتب عمر بن الخطاب أن النساء يعطين رغبة ورهبة، فأيما امرأة أعطت زوجها فشاءت أن ترجع رجعت. والقول الأول أحسن لقوله: (فإن طبن لكم عن شىء منه نفسًا) [النساء: 4] ، وروى عن على ابن أبى طالب، أنه قال: إذا اشتكى أحدكم فليسأل امرأته ثلاثة دراهم، ويشترى بها عسلاً، ويأخذ من ماء السماء فيتداوى به، فيجمع هنيئًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 105 مريئًا وماء مباركًا، فلو كان لهن فيه رجوع لم يكن هنيئًا مريئًا، ألا ترى أن ما وهبه أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) له من أيامهن ولياليهن، وأن يمرض فى بيت عائشة، لم يكن لهن فيه رجوع؛ لأنه كان عن طيب نفس منهن، لا عن عوض. واختلفوا فيما وهب أحد الزوجين لصاحبه، هل يحتاج إلى حيازة وقبض؟ فقال ابن أبى ليلى والحسن البصرى: الصدقة جائزة وإن لم يقبضها. وقال النخعى وقتادة: ليس بين الزوجين حيازة. وقال ابن سيرين، وشريح، ومسروق، والشعبى: لابد فى ذلك من القبض، وهو قول الثورى، والكوفيين، والشافعى، وهى رواية أشهب عن مالك. قال مالك: إن ما وهب الرجل لامرأته، والمرأة لزوجها وهو فى أيديهما كما كان، إنه حوز ضعيف لا يصح، وله قول آخر، روى ابن القاسم، عن مالك فى العتبية فى الرجل يهب لامرأته خادمًا ولا يخرجها عن البيت الذى هما فيه، ويهبها دارًا يسكناها، أو تهب له ذلك، أن ذلك جائز للمرأة. وروى عيسى، عن ابن القاسم فى الرجل يهب لامرأته دارًا يسكناها، ثم يسكنان بعد ذلك فيها، أو المرأة تفعل مثل ذلك، ففرق بينهما، قال: إذا كان الزوج الواهب فالصدقة غير تامة؛ لأن عليه أن يسكن زوجته، فكأنه هو مسكنها، فإذا كانت المرأة الواهبة فالصدقة جائزة؛ لأنه يسكن ما حوزه لنفسه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 106 - بَاب هِبَةِ الْمَرْأَةِ لِغَيْرِ زَوْجِهَا وَعِتْقِهَا إِذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ فَهُوَ جَائِزٌ إِذَا لَمْ تَكُنْ سَفِيهَةً، فَإِذَا كَانَتْ سَفِيهَةً لَمْ يَجُزْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) [النساء: 5] . / 22 - فيه: أَسْمَاءَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لِىَ مَالٌ إِلاَ مَا أَدْخَلَ عَلَىَّ الزُّبَيْرُ، فَأَتَصَدَّقُ؟ قَالَ: (تَصَدَّقِى، وَلاَ تُوعِى فَيُوعَى اللَّه عَلَيْكِ) . / 23 - وقال مرة: (أَنْفِقِى وَلاَ تُحْصِى، فَيُحْصِىَ اللَّهُ عَلَيْكِ) . / 24 - وفيه: مَيْمُونَةَ زوج النّبِىّ، أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً، وَلَمْ تَسْتَأْذِنِ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الَّذِى يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ، قَالَتْ: أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّى أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِى؟ قَالَ: (أَوَفَعَلْتِ؟) ، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: (أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ) . / 25 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، تَبْتَغِى بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . اختلف العلماء فى المرأة المالكة لنفسها الرشيدة ذات الزوج، فقالت طائفة: لا فرق بينها وبين البالغ من الرجال، فما جاز من عطايا الرجل البالغ الرشيد جاز من عطائها، هذا قول سفيان الثورى، والشافعى، وأبى ثور، وأصحاب الرأى، وروينا معنى ذلك عن عطاء. قال ابن المنذر: وبه نقول. وقالت طائفة: لا يجوز لها أن تعطى من مالها شيئًا بغير إذن زوجها. روى هذا القول عن أنس بن مالك، وهو قول طاوس والحسن البصرى، وقال مالك: لا يجوز عطاؤها بغير إذن زوجها إلا ثلث مالها خاصة، قياسًا على الوصية. وقال الليث: لا يجوز عتق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 107 المرأة ذات الزوج ولا صدقتها إلا فى الشىء اليسير الذى لابد لها منه فى صلة الرحم أو غيره، مما يتقرب به إلى الله. وحجة القول الأول أن الله تعالى سوى بين الرجال والنساء عند بلوغ الحلم وظهور الرشد، فقال: (فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم) [النساء: 6] ، فأمر بدفع أموالهم إليهم، ولم يخص رجلاً من امرأة، فثبت أن من صح رشده صح تصرفه فى ماله بما شاء، وقال: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) [النساء: 4] الآية، فأباح للزوج ما طابت له به نفس امرأته، وقال: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن (إلى) إلا أن يعفون) [البقرة: 237] . فأجاز عفوها عن مالها بعد طلاق زوجها إياها بغير استئمار من أحد، فدل ذلك على جواز أمر المرأة فى مالها، وعلى أنها فيه كالرجل سواء، واحتجوا بأمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) أسماء بالصدقة، ولم يأمرها باستئذان الزبير، وأن ميمونة أعتقت وليدة لها ولم تستأذن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وبحديث ابن عباس أنه، عَلَيْهِ السَّلام، خطب النساء يوم عيد، وقال لهن: (تصدقن ولو من حليكن) ، وليس فى شىء من الأخبار أنهن استأذن أزواجهن، ولا أنه عَلَيْهِ السَّلام أمرهن باستئذانهم. ولا يختلفون فى أن وصاياها من ثلث مالها جائزة كوصايا الرجل، ولم يكن لزوجها عليها فى ذلك سبيل ولا أمر، وبذلك نطق الكتاب، وهو قوله تعالى: (من بعد وصية يوصين بها أو دين) [النساء: 12] ، فإذا كانت وصاياها فى ثلث مالها جائزة بعد وفاتها، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 108 فأفعالها فى مالها فى حياتها أجوز، والحجة لطاوس حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال: (لا تجوز عطية امرأة فى مالها إلا بإذن زوجها) ، فأحاديث هذا الباب أصح من حديث عمرو بن شعيب. وتأول مالك فى الأحاديث التى جاءت عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، أنه أمر النساء بالصدقة، إنما أمرهن بإعطاء ما ليس بالكثير المجحف بغير إذن أزواجهن؛ لقوله عَلَيْهِ السَّلام: (تنكح المرأة لمالها ودينها وجمالها) ، فسوى بين ذلك، فكان لزوجها فى مالها حقًا، فلم يكن لها أن تتلفه إلا بإذنه. وعلى هذا يصح الجمع بين حديث عمرو بن شعيب وسائر الأحاديث المعارضة له، فيكون حديث عمرو بن شعيب واردًا فى النهى عن إعطاء الكثير المجحف، وتكون الأحاديث الواردة بحض النساء على الصدقة فيما ليس بالكثير المجحف، والله الموفق. وأما حديث هبة سودة يومها لعائشة، فليس من هذا الباب فى شىء؛ لأن للمرأة الشفيقة أن تهب يومها لضرتها، وإنما السفه فى إفساد المال خاصة. واختلفوا فى البكر إذا تزوجت متى تكون فى حال من تجوز لها العطاء، فقالت طائفة: ليس لها فى مالها أمر حتى تلد، أو يحول عليها الحول، روى هذا عن عمر بن الخطاب، وعن شريح، والشعبى، وبه قال أحمد وإسحاق. وفرق أصحاب مالك بين البكر ذات الأب والوصى، وبين التى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 109 لا أب لها ولا وصى، قال ابن القاسم: أما البكر التى لا أب لها، فلا يجوز قضاؤها فى مالها وإن عنست حتى تدخل بيتها وترضى حالها. واختلفوا فى حد تعنيس البكر، فقال ابن وهب: الثلاثين سنة إلى خمس وثلاثين. وقال ابن القاسم: الأربعين سنة إلى الخمس والأربعين. وقال ابن الماجشون، ومطرف فى اليتيمة التى لا أب لها ولا وصى تختلع من زوجها بشىء تهب له: الخلع ماض، ويرد الزوج ما أخذ؛ لأنه لا يجوز لها عطاء حتى تملك نفسها ومالها، وذلك بعد سنة من ابتناء زوجها بها، أو تلد ولدًا. وخالف هذا سحنون، فقال فى البكر تعطى زوجها بعض مالها، وذلك قبل الدخول فيملكها أمرها، أو تباريه بشىء من مالها، فقال: إن كان لها أب أو وصى، فلا يجوز ذلك، ويلزم الزوج الطلاق، ويرد عليها ما أخذ منها، وإن كانت لا أب لها ولا وصى جاز ذلك، وهى عندى بمنزلة السفيه الذى لا وصى له، أن أموره جائزة، بيوعه، وصدقته، وهبته، ما لم يحجر عليه الإمام. - بَاب بِمَنْ يُبْدَأُ بِالْهَدِيَّةِ؟ وَقَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) لميمونة حين أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً لَهَا: (وَلَوْ وَصَلْتِ بَعْضَ أَخْوَالِكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ) . / 26 - فيه: عَائِشَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِى جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِى؟ قَالَ: (إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 110 وفى حديث ميمونة أن صلة الأقارب أفضل من العتق، على أن العتق قد جاء فيه أن الله يعتق بكل عضو منه عضوًا منها من النار، وأن بالعتق تجاز العقبة يوم القيامة. وفى حديث عائشة أن أقرب الجيران أولى بالصلة والبر والرعاية، وأن صلة الأقرب منهم أفضل من صلة الأبعد إذ لا يقدر على عموم جميعهم بالهدية، وقد أكد الله تعالى ذلك فى كتابه، فقال: (والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب) [النساء: 36] ، فدل هذا على تفضيل الأقرب، وقد تقدم معنى ذلك فى باب أى الجوار أقرب فى كتاب الشفعة، فأغنى عن تكراره. - بَاب مَنْ لَمْ يَقْبَلِ الْهَدِيَّةَ لِعِلَّةٍ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ: كَانَتِ الْهَدِيَّةُ فِى زَمَنِ النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، هدية، وَهى الْيَوْمَ رِشْوَةٌ. / 27 - فيه: الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ اللَّيْثِىَّ، أَنَّهُ أَهْدَى الرَسُول (صلى الله عليه وسلم) حِمَارَ وَحْشٍ، وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ فَرَدَّهُ، فَلَمَّا عَرَفَ فِى وَجْهِى كَراهية رده، قَالَ: (لَيْسَ بِنَا رَدٌّ عَلَيْكَ، وَلَكِنَّا حُرُمٌ) . / 28 - وفيه: أَبُو حُمَيْد السَّاعِدِىِّ، اسْتَعْمَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلاً مِنَ الأَسد، عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ، قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِىَ إِلِىّ، قَالَ: (فَهَلاَ جَلَسَ فِى بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ، فَيَنْظُرَ هل يُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ؟ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلاَ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 111 إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ) ، ثُمَّ رَفَعَ يَدِهِ، حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ، ثم قال: (اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ) ثَلاَثًا. قال المهلب: رد الهدية فى حديث الصعب غاية الأدب؛ لأنها لا تحل للمهدى إليه، من أجل أنه محرم، ومن حسن الأدب أن يكافأ المهدى، وربما عسرت المكافأة، فردها إلى من يجوز له الانتفاع بها أولى من تكلف المكافأة، مع أنه لو قبله لم يكن له سبيل إلى غير تسريحه؛ لأنه لا يجوز له ذبحه وهو محرم. وفيه من الفقه: أنه لا يجوز قبول هدية من كان ماله حرامًا ومن عرف بالغصب والظلم، وقد تقدم هذا المعنى فى باب قبول هدية الصيد. وفى حديث ابن اللتية: أن هدايا العمال يجب أن تجعل فى بيت المال، وأنه ليس لهم منها شىء إلا أن يستأذنوا الإمام فى ذلك، كما جاء فى قصة معاذ أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، طيب له الهدية، فأنفذها له أبو بكر الصديق بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) لما كان دخل عليه فى ماله من الفلس. وفيه: كراهية قبول هدية طالب العناية، ويدخل فى معنى ذلك كراهية هدية المديان والمقارض، وكل من لهديته سبب غير سبب الجيرة أو الصداقة أو صلة الرحم. وقوله: (عفرة إبطيه) ، قال صاحب العين: العفرة غبرة فى حمرة، كلون الظبى الأعفر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 112 - بَاب إِذَا وَهَبَ هِبَةً أَوْ وَعَدَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ وَقَالَ عَبِيدَةُ: إِنْ مَاتَ وَقد فُصِلَتِ الْهَدِيَّةُ، وَالْمُهْدَى لَهُ حَىٌّ، فَهِىَ له، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حيًا فَهِىَ لِوَرَثَتهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فُصِلَتِ فَهِىَ لِوَرَثَةِ الذِى أهدى. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلُ فَهِىَ لِوَرَثَةِ الْمُهْدَى لَهُ، إِذَا قَبَضَهَا الرَّسُولُ. / 29 - فيه: جَابِر، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لَوْ قَد جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا ثَلاَثًا) ، فَلَمْ يَقْدَمْ حَتَّى تُوُفِّىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ مُنَادِيًا فَنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: إِنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَعَدَنِى، فَحَثَى لِى ثَلاَثًا. اختلف العلماء فى الذى يهب أو يتصدق على رجل، ثم يموت الواهب أو المتصدق قبل أن تصل إلى الموهوب له، فذكر البخارى قول عبيدة السلمانى، وقول الحسن، وبمثل قول الحسن قال مالك، قال مالك: إن كان أشهد عليها أو أبرزها أو دفعها إلى من يدفعها إلى الموهوب له فهى جائزة. وفيها قول ثالث، وهو: إن كان بعث بها المهدى مع رسوله، فمات الذى أهديت إليه، فإنها ترجع إليه، فإن كان أرسل بها مع رسول الذى أهديت إليه، فمات المهدى إليه، فهى لورثته، هذا قول الحكم، وأحمد بن حنبل، وإسحاق. وقالت طائفة: لا تتم الهبة إلا بقبض الموهوب له، أو وكيله، فأيهما مات قبل أن تصل الهبة إلى الموهوب له، فهى راجعة إلى الواهب، أو إلى ورثته، هذا قول الشافعى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 113 واختلف الفقهاء فيما يلزم من العدة وما لا يلزم منها، فقال الكوفيون، والأوزاعى، والشافعى: لا يلزم من العدة شىء؛ لأنها منافع لم تقبض، فلصاحبها الرجوع فيها. وقال مالك: أما العدة مثل أن يسأل الرجل أن يهب له هبة، فيقول له: نعم، ثم يبدو له ألا يفعل، فلا أرى ذلك يلزمه، قال مالك: ولو كان ذلك فى قضاء دين، فسأله أن يقضى عنه، فقال: نعم، وثم رجال يشهدون عليه، فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان. وقال ابن القاسم: إذا وعد الغرماء، فقال: أشهدكم أنى قد وهبت لهذا من أين يؤدى إليكم؟ فإنه يلزمه، وأما أن يقول: نعم أنا أفعل ثم يبدو له، فلا أرى ذلك. وقال سحنون: الذى يلزمه من العدة فى السلف والعارية، أن يقول للرجل: اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبنيها به، أو اخرج إلى الحج، وأنا أسلفك ما يبلغك، أو اشترى سلعة كذا أو تزوج وأنا أسلفك، ذلك كما يدخله فيه وينشئه به، فهذا كله يلزمه. قال: وأما أن يقول: أنا أسلفك وأنا أعطيك بغير شىء يلزمه المأمور نفسه، فإن هذا لا يلزمه منه شىء. قال أصبغ: يلزمه فى ذلك كل ما وعد به. قال المؤلف: والقول الأول أشبه بمعنى الحديث، ألا ترى فتيا عبيدة السلمانى والحسن فى أن العدة والهبة إنما تتم إذا فصلت إلى المهدى له قبل موت الواهب والموهوب له، فى قول الحسن. وفى قول عبيدة: إن مات الموهوب له قبل أن تصل إليه الهبة فهى لورثة الواهب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 114 وذكر عبد الرزاق، عن قتادة، كقول الحسن، وهذا يدل من فتياهم أنهم تأولوا قوله، عَلَيْهِ السَّلام، لجابر: (لو قد جاء مال البحرين أعطيتك) ، أنها عدة غير لازم الوفاء بها فى القضاء؛ لأنها لم تكن فصلت من عند النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قبل موته، وإنما وعد بها جابر لو قد جاء مال البحرين، فمات عَلَيْهِ السَّلام قبل ذلك. ولذلك ذكر البخارى قول عبيدة والحسن فى أول الباب؛ ليدل أن فعل أبى بكر الصديق فى قضائه عدات النبى (صلى الله عليه وسلم) بعد موته أنها كانت منه على التطوع، ولم يكن يلزم النبى (صلى الله عليه وسلم) ولا أبا بكر قضاء شىء منها؛ لأنه لم يرو عن أحد من السلف وجوب القضاء بالعدة، وإنما أنفذ ذلك الصديق بعد موت النبى (صلى الله عليه وسلم) اقتداء بطريقة النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وامتثالاً لفعله، فإنه كان أوفى الناس بعهده وأصدقهم لوعده (صلى الله عليه وسلم) . - بَاب كَيْفَ يُقْبَضُ الْعَبْدُ وَالْمَتَاعُ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ لعمر فَاشْتَرَاهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَقَالَ: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدَاللَّهِ) . / 30 - فيه: الْمِسْوَرِ، قَسَمَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَقْبِيَةً، وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ مِنْهَا شَيْئًا، فَقَالَ مَخْرَمَةُ: يَا بُنَىِّ، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَانْطَلَقْتُ، فَقَالَ لى: (ادْخُلْ، فَادْعُهُ لِى، قَالَ: فَدَعَوْتُهُ لَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْهَا، فَقَالَ: خَبَأْنَا هَذَا لَكَ، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: رَضِىَ مَخْرَمَةُ) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 115 أما كيف يقبض المتاع والهبات عند جماعة العلماء، فبإسلام الواهب لها إلى الموهوب له، وحيازة الموهوب له، كركوب ابن عمر الجمل، كإعطاء النبى (صلى الله عليه وسلم) القباء لمخرمة وتلفيه بإزاره، وذكر البخارى فى كتاب الجهاد أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، أهديت إليه أقبية من ديباج مزررة بالذهب، فقسمها بين أصحابه، وعزل منها واحدًا لمخرمة، فجاء مخرمة إلى النبى، عَلَيْهِ السَّلام، فسمع صوته فتلقاه به، واستقبله بإزراره، فقال: يا أبا المسور، خبأت لك هذا، مرتين، وكان فى خلقه شدة. وفى هذا من الفقه الاستئلاف لأهل اللسانة وغيرهم. وقد اختلف العلماء فى الهبات، هل من شرطها الحيازة أم لا؟ فقالت طائفة: من شرطها الحيازة لا تتم إلا بالقبض. روى هذا عن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان، وابن عباس، وابن عمر، ومعاذ بن جبل، وشريح، ومسروق، والشعبى، وإليه ذهب الثورى، والكوفيون، والشافعى، وقالوا: ليس للموهوب له مطالبة الواهب بتسليمها إليه؛ لأنه ما لم تقبض عدة وعده بها يحسن الوفاء بها ولا يقضى بها عليه. وقالت طائفة: تصح الهبة بالكلام دون القبض، كالبيع تنعقد بالكلام، روى هذا عن على وابن مسعود، وعن الحسن البصرى، والنخعى، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو ثور، إلا أن أحمد وأبا ثور قالا: للموهوب له المطالبة بها فى حياة الواهب، فإن مات الواهب بطلت الهبة. ومن حجة أهل المقالة الأولى: أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 116 لابن عمر، وهو راكب الجمل: (هو لك) ، فكان حكم الهبات كلها كذلك لا تتم إلا بقبض الموهوب له. وحجة الآخرين: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لابن عمر فى الجمل: (هو لك) ، ملكه إياه، ولا يملك النبى (صلى الله عليه وسلم) شيئًا أحدًا إلا وهو مالك له ومستحقه، فكان لابن عمر المطالبة بهذا الجمل لو لم يركبه؛ لِحَقِّهِ الذى تعين فيه، فوجب له طلبه، وكذلك دل فعله، عَلَيْهِ السَّلام، فى القباء الذى تلقى به مخرمة واسترضاه به قبل سؤاله إياه، أنه قد تعين للمسور فيه حق وجب للمسور طلبه، على ما ذهب إليه مالك. فإن قيل: فإذا تعين فى الهبة حق للموهوب له وجبت به مطالبة الواهب فى حياته، فكذلك يجوز مطالبته به بعد مماته كسائر الحقوق. قيل: هذا هو القياس لولا حكم الصديق بين ظهرانى الصحابة وهم متواترون حين وهب لابنته جداد عشرين وسقًا من ماله بالغابة ولم تكن قبضته، وقال لها: لو كنت حزتيه لكان لك، وإنما هو اليوم مال وارث، ولم يرو عن أحد من الصحابة أنه أنكر ذلك ولا رد عليه، فكان هذا دليلاً لصحة قول مالك. - بَاب إِذَا وَهَبَ هِبَةً فَقَبَضَهَا الآخَرُ وَلَمْ يَقُلْ: قَبِلْتُ / 31 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ: هَلَكْتُ، فَقَالَ: (وَمَا ذَاكَ؟) ، قَالَ: وَقَعْتُ بِأَهْلِى فِى رَمَضَانَ. . . الحديث، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 117 فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِعَرَقٍ، وهو مِكْتَلُ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ: (اذْهَبْ بِهَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ) ، قَالَ: مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَحْوَجُ مِنَّا، قَالَ: (اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ) . القبض فى الهبة هو غاية القبول، فلا يحتاج القابض أن يقول: قبلت، وهو قد قبضها، وعلى هذا جماعة العلماء، ألا ترى إلى الواقع على أهله فى رمضان قبض من النبى (صلى الله عليه وسلم) المكتل من التمر، ولم يقل: قبلته، إذ كان مستغنيًا عن ذلك بحصوله عنده، ومثل هذا المعنى فى حديث جابر حين اشترى منه النبى (صلى الله عليه وسلم) الجمل، فلما دفع إليه الثمن، قال: الثمن والجمل لك، ولم يقل جابر: قد قبلته يا رسول الله، فدل ذلك على أن الهبة تتم بإعطاء الواهب وقبض الموهوب له دون قوله باللسان: قد قبلت، وأما إذا قال: قبلت، ولم يقبض، فتعود المسألة إلى ما تقدم من اختلافهم فى قبض الهبة فى الباب قبل هذا. - بَاب إِذَا وَهَبَ دَيْنًا لَهُ عَلَى رَجُلٍ وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ: هُوَ جَائِزٌ، وَوَهَبَ الحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ لِرَجُلٍ دَيْنَهُ، وَقَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلْيُعْطِهِ، أَوْ لِيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ) ، وَقَالَ جَابِرٌ: قُتِلَ أَبِى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَسَأَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) غُرَمَاءَهُ أَنْ يَقْبَلُوا ثَمَرَ حَائِطِى وَيُحَلِّلُوا أَبِى. / 32 - وذكر حديث جابر هذا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 118 لا خلاف بين العلماء أن من كان عليه دين لرجل فوهبه له ربه أو أبره منه وقبل البراءة، أنه لا يحتاج فيه إلى قبض؛ لأنه مقبوض فى ذمته، وإنما يحتاج فى ذلك إلى قبول الذى عليه الدين؛ لأن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، سأل غرماء أبى جابر أن يقبلوا ثمرة حائطه ويحللوه من بقية دينه، فكان ذلك إبراء لذمة أبى جابر لو رضوا بما دعاهم إليه النبى، عَلَيْهِ السَّلام، ولم يكن يعرف ذلك إلا بقولهم: قد قبلنا ذلك ورضينا، فلم يتم التحلل فى ذلك إلا بالقول. واختلفوا إذا وهب دينًا له على رجل لرجل آخر، فقال مالك: تجوز الهبة إذا سلم إليه الوثيقة بالدين، وأحله فيه محل نفسه، وإن لم تكن له وثيقة، وأشهد على ذلك وأعلن، فهو جائز. وقال أبو ثور: الهبة جائزة أشهد أو لم يشهد إذا تقارا على ذلك. وقال الكوفيون والشافعى: الهبة غير جائزة؛ لأنها لا تجوز عندهم إلا مقبوضة. وقد تقدم فى باب كيف يقبض المتاع مذاهب العلماء فى قبض الهبات، والحجة لمالك وأبى ثور: أنهم جعلوا الموهوب له يحل محل الواهب فى ملك الدين، ويتنزل منزلته فى اقتضائه، ولما أجمعوا أنه يجوز للرجل أن يحيل الرجل على من له دين، كذلك يجوز له أن يجعل ماله من المطالبة بدينه على رجل لرجل آخر يحله محله، وينزله منزلته، إن شاء الله، والله الموفق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 119 - بَاب هِبَةِ الْوَاحِدِ لِلْجَمَاعَةِ وَقَالَتْ أَسْمَاءُ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَابْنِ أَبِى عَتِيقٍ: وَرِثْتُ عَنْ أُخْتِى عَائِشَةَ بِالْغَابَةِ، وَقَدْ أَعْطَانِى بِهِ مُعَاوِيَةُ مِائَةَ أَلْفٍ فَهُوَ لَكُمَا. / 33 - فيه: سَهْل، أُتِىَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، بِشَرَابٍ، فَشَرِبَ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلاَمِ: (إِنْ أَذِنْتَ لِى أَعْطَيْتُ هَؤُلاَءِ) ، قَالَ: مَا كُنْتُ لأُوثِرَ بِنَصِيبِى مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَتَلَّهُ فِى يَدِهِ. عرض البخارى فى هذا الباب والبابين بعده الرد على أبى حنيفة فى إبطاله هبة المشاع، فإنه يقول: إذا وهب رجل دارًا لرجلين، أو متاعًا، وذلك المتاع مما ينقسم فقبضاه جميعًا، فإن ذلك لا يجوز إلا أن يقسم كل واحد منهما حصته؛ لأن الهبة من شرط صحتها عنده القبض. وذهب مالك، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعى، إلى أن هبة الواحد للجماعة جائزة، وقالوا: لو وهب شقصًا من دار أو عبد جاز، وإن لم يكن مقسومًا، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وحجة من أجاز ذلك أن النبى سأل الغلام أن يهب نصيبه من اللبن للأشياخ، ومعلوم أن نصيبه منه كان مشاعًا فى اللبن، غير متميز ولا منفصل فى القدح، وهذا خلاف ما ذهب إليه أبو حنيفة، فلا معنى لقوله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 120 - بَاب الْهِبَةِ الْمَقْبُوضَةِ وَغَيْرِ الْمَقْبُوضَةِ وَالْمَقْسُومَةِ وَغَيْرِ الْمَقْسُومَةِ وَقَدْ وَهَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابُهُ لِهَوَازِنَ مَا غَنِمُوا مِنْهُمْ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْسُومٍ. / - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) دَيْنٌ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: لاَ نَجِدُ إِلاَّ أَفْضَل مِنْ سِنِّهِ، قَالَ: (أَعْطُوهَا إِيَّاهُ، فَإِنَّ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً) . / 35 - وفيه: جَابِر، أَتَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْمَسْجِدِ، فَقَضَانِى وَزَادَنِى. وَقَالَ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَارب، عَنْ جَابِر: فَوَزن لِىّ فَأَرجحَ، فَمَا زَال مِنْهَا شَىءٌ، حَتَّى أَصَابَهَا أَهْلِ الشَّام يَوْمَ الْحَرَّةِ. / 36 - وفيه: سَهْلِ، أُتِىَ النَّبِىّ بِشَرَابٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخٌ. . . الحديث. وقد تقدم القول فى قبض الهبات، وما للعلماء فى ذلك فأغنى عن إعادته. وأما الهبة غير المقسومة، فهى هبة المشاع، واختلف العلماء فيها، فقال مالك، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: هبة المشاع جائزة، ويتأتى فيها القبض كما يجوز فيها البيع، وسواء كان المشاع مما ينقسم كالدور والأرضين، أو مما لا ينقسم كالعبد والثياب والجواهر، وسواء كان مما يقبض بالتخلية، أو مما يقبض بالنقل والتحويل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 121 وقال أبو حنيفة: إن كان المشاع مما ينقسم لم يجز هبة شىء منه مشاعًا، وإن كان المشاع مما لا ينقسم كالعبد واللؤلؤ والثوب، فإنه تجوز هبته، وحجة أصحاب أبى حنيفة أن الهبات لا تصح عندهم إلا بالقبض، والمشاع لا يتأتى فيه القبض إلا بقبض الجميع، ومتى كلف الشريك هذا أضر به، وله أن يمتنع من ذلك، واحتجوا بأن أبا بكر الصديق وهب لابنته جداد عشرين وسقًا فلم تقبضه، فقال: لو كنت حزتيه لكان لك، وهذا كان بحضرة الصحابة من غير خلاف. وحجة من أجاز هبة المشاع أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهب حقه من غنائم حنين لهوازن، وحقه من ذلك مشاع لم يتعين، وأيضًا حديث أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قضى للذى أسلفه الجمل بأفضل من سنه، ووجه الدلالة منه أن ثمن ذلك الفضل مشاع فى ثمن السن التى كانت تلزمه، وقد وهب ذلك، عَلَيْهِ السَّلام، وكذلك قول جابر: فقضانى وزادنى. وقوله: فوزن لى فأرجح، فعلم أن تلك الزيادة وذلك الرجحان لم يكن من الثمن، وإنما كان هبة، ولم يكن متميزًا بل كان مشاعًا، وهبة النبى (صلى الله عليه وسلم) وحديث الغلام والأشياخ بين فى ذلك أيضًا؛ لأنه عَلَيْهِ السَّلام استوهب الغلام نصيبه من الشراب، وكان ذلك مشاعًا غير متميز ولا مقسوم، ولا يعرف ما كان يشرب مما كان يترك للأشياخ. قال ابن القصار: ومن أجاز هبة ما لا ينقسم فبأن يجيز هبة ما ينقسم أولى، وأما احتجاجهم بقول أبى بكر لابنته: لو كنت حزتيه لكان ذلك، فهو حجة عليهم؛ لأنه وهب لها جداد عشرين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 122 وسقًا من أوساق كثيرة، وهذا مشاع بينهم، فدل هذا على جواز هبة المشاع؛ لأنه لو لم يجز لم يفعله. وقوله: لو كنت حزتيه لكان لك، لا يدل على أن ما عقده من الهبة لم يجز، وإنما قال ذلك لئلا يقتدى به من يريد الهروب بماله من الميراث، ولما لم تحزه عائشة فى صحته لم ينفذه لها فى مرضه؛ لأن عطايا المريض المقبوضة هى فى ثلثه كالوصايا، والوصية للوارث لا تجوز، ولم يختلف مالك وأبو حنيفة والشافعى أن عطايا المريض للأجنبى جائزة فى ثلثه، فلم يخالف مالك من حديث أبى بكر شيئًا، وأبو حنيفة خالف أوله، وتأول فى آخره ما لم يجامع عليه. - بَاب إِذَا وَهَبَ جَمَاعَةٌ لِقَوْمٍ أَوْ رَجُلٌ لِجَمَاعَة مَقسُومًا وَغَيْرِ مَقسُوم جَازَ / 37 - فيه: مَرْوَانَ، وَالْمِسْوَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (اخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا السَّبْىَ، وَإِمَّا الْمَالَ) ، فَاختَارُوا السبَّى. . . الحديث. قال المؤلف: أما قول البخارى: باب إذا وهب جماعة لقوم، فإن أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) وهبوا هوازن السبى وهو مشاع؛ لأن هوازن لم يقسموه بينهم، ولا حاز كل واحد منهم أهله إلا بعد أن حصل فى ملكهم، وبعد أن نفذت هبة أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) لهم فى السبى، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 123 ولم يكن لأحد منهم رجوع فى شىء من ذلك؛ لأنهم طيبوا هبتهم، وأمضوها على شرط ألا يقبلوا العوض من النبى (صلى الله عليه وسلم) فيها، فهذا يرد قول أبى حنيفة أن هبة المشاع الذى تتأتى فيه القسمة لا تجوز؛ لأن هوازن إنما حازوا أهلهم بعد تملكهم لهم، فهذا هبة الجماعة للجماعة. وأما قول البخارى فى الترجمة: أو رجل لجماعة فإن أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) وإن كانوا قد طابت نفوسهم بهبة السبى، فإنما فعلوا ذلك من أجل شفاعة النبى (صلى الله عليه وسلم) عندهم فيه، وأنه وعد بالعوض من لم تطب نفسه بالهبة، فكأنه هو الواهب إذ كان السبب فى الهبة، وأيضًا فإنه عَلَيْهِ السَّلام كان له حق فى جملة السبى، فصح قول البخارى فى جواز هبة الواحد للجماعة. وأما قوله: (مقسومًا أو غير مقسوم) ، فإنما أراد أن المشاع والمقسوم سواء فى جواز الهبة، فلذلك ما ينقسم وما لا ينقسم سواء فى جواز الهبة. - بَاب مَنْ أُهْدِىَ لَهُ هَدِيَّةٌ وَعِنْدَهُ جُلَسَاؤُهُ فَهُوَ أَحَقُّ وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جُلَسَاءَهُ شُرَكَاؤهُ وَلَمْ يَصِحَّ. / 38 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، قَالَ لِلذِى جَاءهُ يَتَقَاضَاهُ: (أعطوه أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ. . .) الحديث. / 39 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى سَفَرٍ، عَلَى بَكْرٍ صعْبٍ لِعُمَرَ، وَكَانَ يَتَقَدَّمُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ عُمَرُ: لا يتقدم النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أحَدٌ، فَقَالَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 124 لَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (بِعْنِيهِ) ، فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ لَكَ يا رسول الله، فَاشْتَرَاهُ، ثُمَّ قَالَ: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ، فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ) . لو صح قوله عَلَيْهِ السَّلام: (جلساؤكم شركاؤكم) ، لكان معناه الندب عند الفقهاء فيما خف من الهدايا، وما جرت العادة بترك المشاحة فيه، وأما ما كان له قيمة من الهدايا مثل: الدور، والعقار، والمال الكثير، فصاحبها أحق بها على ما ترجم به البخارى، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر أن يعطى الذى تقاضاه الجمل أفضل من سنه التى كانت عليه، ولم يشاركه أحد ممن كان بحضرته فى ذلك الفضل، وكذلك وهب عَلَيْهِ السَّلام الجمل لابن عمر وهو مع الناس، فلم يستحق أحد منهم فيه شركة مع ابن عمر، فعلى هذا مذهب الفقهاء. وروى عن أبى يوسف القاضى أن الرشيد أهدى إليه مالاً كثيرًا، فورد عليه وهو جالس مع أصحابه، فقال له أحدهم: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (جلساؤكم شركاؤكم) ، فقال له أبو يوسف: إن هذا الحديث لم يرد فى مثل هذا، وإنما ورد فيما خف من الهدايا، وفيما يؤكل ويشرب مما تطيب النفوس ببذله والسماحة به. - بَاب إِذَا وَهَبَ بَعِيرًا لِرَجُلٍ وَهُوَ رَاكِبُهُ فَهُوَ جَائِزٌ له / 40 - فيه: ابْن عُمَرَ، كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى سَفَرٍ، وَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 125 فَقَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا عُمَر، بِعْنِيهِ) ، فَبْاعَهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ) . ولا خلاف بين العلماء أن من كان عنده الشىء الموهوب له، فإن ذلك قبض صحيح، وكذلك حكم الوديعة والرهن ومال القراض والدين، يهبها أربابها لمن هى فى يديه، أن ذلك كله حيازة صحيحة لا تحتاج إلى غيرها، وقد تقدم حكم قبض الهبات قبل هذا، فلا معنى لتكريره. - بَاب هَدِيَّةِ مَا يُكْرَهُ لِبَسُهُ / 41 - فيه: ابْن عُمَرَ، رَأَى عُمَرُ حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اشْتَرَيْتَهَا فَتَلبِسْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ، فَقَالَ: (إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِى الآخِرَةِ) ، ثُمَّ جَاءَتْ حُلَلٌ، فَأَعْطَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عُمَرَ مِنْهَا حُلَّةً، وَقَالَ: أَكَسَوْتَنِيهَا، وَقَدْ قُلْتَ فِى حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ؟ فَقَالَ: (إِنِّى لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا. . .) الحديث. / 42 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَتَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَاطِمَةَ، فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا، وَجَاءَ عَلِىٌّ فَذَكَرَتْ لَهُ فَاطِمَةَ ذَلِكَ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ: (إِنِّى رَأَيْتُ عَلَى بَابِهَا سِتْرًا مَوْشِيًّا) ، فَقَالَ: مَا لِى وَلِلدُّنْيَا، فَأَتَاهَا عَلِىٌّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا، فَقَالَتْ: لِيَأْمُرْنِى فِيهِ بِمَا شَاءَ، قَالَ: تُرْسِلُى بِهِ إِلَى فُلاَنٍ، أَهْلِ بَيْتٍ بِهِمْ حَاجَةٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 126 / 43 - وفيه: عَلِىُّ، أَهْدَى لَىّ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، حُلَّةَ سِيَرَاءَ فَلَبِسْتُهَا، فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِى وَجْهِهِ، فَشَقَقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِى. هدية ما يكره لبسه مباحة؛ لأن ملكه جائز، ولصاحبه التصرف فيه بالبيع والهبة، لمن يجوز له لباسه مثل النساء والصبيان، وإنما كره من الحرير لباسه للرجال خاصة دون ملكه. قال المهلب: وإنما كره النبى (صلى الله عليه وسلم) الحرير لابنته؛ لأنها ممن يرغب لها فى الآخرة كما يرغب لنفسه، ولا يرضى لها تعجيل طيباتها فى الحياة الدنيا، فدل هذا على أن النهى عن الحرير إنما هو من جهة السرف. لأن الحديث الذى يروى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى تحريم الحرير قد سألت عنه أبا محمد الأصيلى، وأوقفته على لفظة حرام، فقال لى: لا تصح لفظة حرام البتة، وإن صحت فإنما معناها حرام تحرمه السنة، وحرام دون حرام، وهو كقوله عَلَيْهِ السَّلام: (كل ذى ناب من السباع حرام) . وفى ذلك الحديث حل لإناثها، فقد كرهه لابنته وهو حلال، فكذلك كرهه للرجال من أجل السرف، وقوله فى حديث ابن عمر: (ما لى وللدنيا؟) ، دليل قاطع. وقوله: (إنما يلبسها من لا خلاق له فى الآخرة) ، فإنما يريد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 127 بذلك، والله أعلم، أنها لباس الكفار فى الدنيا ومن لا حظ له فى الآخرة، فنهى عَلَيْهِ السَّلام عن مشابهتهم واستعمال زيهم، والله أعلم، وسأستقصى مذاهب العلماء فى هذه المسألة فى كتاب اللباس، إن شاء الله. وقال أبو عبد الله، أخو المهلب: وقول على: فرأيت الغضب فى وجهه، يدل على أن النهى عن الحرير على غير التحريم، وإنما هو على الكراهية، ولو كان تحريمًا لما عرف على الكراهية إلا من نهيه لا بدليل من وجهه. وقوله: (لا ينبغى هذا للمتقين) ، دليل آخر، ولو كان حرامًا لكان المتقى فيه والمسىء فيه واحدًا، ولكنه كما قال تعالى فى المتعة: (حقًا على المتقين) [البقرة: 241] ، و) حقًا على المحسنين) [البقرة: 236] . قال المؤلف: وحملت طائفة الآثار المروية عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، فى النهى عن لباس الحرير على التحريم، ولم يأت عنه ما يعارضها إلا ما يخصها من جواز لباسه فى الحرب وعند التداوى، وما عدا هذين الوجهين فباق على التحريم، ومن جعل تحريم الحرير كتحريم كل ذى ناب من السباع، فذلك دليل على التحريم؛ لأن جمهور الأمة على أن تحريم كل ذى ناب من السباع على التحريم البين الذى هو ضد التحليل، فكيف يحتج هذا القائل بما يخالفه فيه أكثر الأمة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 128 - بَاب قَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ، فَدَخَلَ قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ، أَوْ جَبَّارٌ، فَقَالَ: أَعْطُوهَا هاجَرَ) ، وَأُهْدِيَتْ لِلنَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ. وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: أَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَسَاهُ بُرْدًا، وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ. / 44 - وفيه: أَنَس، أُهْدِىَ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) جُبَّةُ سُنْدُسٍ، وَكَانَ يَنْهَى عَنِ الْحَرِيرِ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا، فَقَالَ: (وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِى الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا) . وَقَالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أَهْدَى إِلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام. / 45 - وفيه: أَنَس، أَنَّ يَهُودِيَّةً أهدت إلى النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، شَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِىءَ بِهَا، فَقِيلَ: أَلاَ نَقْتُلُهَا؟ قَالَ: (لاَ) ، فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِى لَهَوَاتِ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام. / 46 - وفيه: عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، ثَلاَثِينَ وَمِائَةً، فَقَالَ: (هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ؟) ، فَإِذَا مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ فَعُجِنَ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَ النَّبىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً) ، أَوْ قَالَ: (أَمْ هِبَةً؟) ، قَالَ: لاَ، بَلْ بَيْعٌ، فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً، فَصُنِعَتْ، وَأَمَرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 129 بِسَوَادِ الْبَطْنِ أَنْ يُشْوَى، وَايْمُ اللَّهِ مَا فِى الثَّلاَثِينَ وَالْمِائَةِ، إِلاَ قَدْ حَزَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لَهُ حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا، إِنْ كَانَ شَاهِدًا أَعْطَاه، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا خَبَأَ لَهُ، فَجَعَلَ مِنْهَا قَصْعَتَيْنِ، فَأَكَلُوا أَجْمَعُونَ وَشَبِعْنَا، فَفَضَلَتِ الْقَصْعَتَانِ، فَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْبَعِيرِ، أَوْ كَمَا قَالَ. وثبت عن النبى بهذه الآثار وغيرها أنه قبل هدايا المشركين، وأكثر العلماء على أنه لا يجوز ذلك لغير النبى (صلى الله عليه وسلم) من الأمراء إذا كان قبولها منهم على جهة الاستبداد بها دون رعيته؛ لأنه إنما أهدى له ذلك من أجل أنه أمير الجيش، وليس النبى (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك كغيره؛ لأنه مخصوص بما أفاء الله عليه من أموال الكفار من غير قتال. وقد اختلف العلماء فى هدايا المشركين، فقال ابن حبيب: ما أهداه الحربى إلى والى الجيش كان الوالى الأعظم أو من دونه فهو مغنم؛ لأنه لم ينله إلا بهم، وفيه الخمس، وهو قول الأوزاعى، ومحمد بن الحسن. قال ابن حبيب: وسمعت أهل العلم يقولون: إنما والى الجيش فى سهمانه كرجل منهم له ما لهم وعليه ما عليهم. وقال أبو يوسف: ما أهدى إلى والى الجيش فهو له خاصة، وكذلك ما يعطاه الرسول. وقال محمد بن الحسن: ولو أهدى العدو إلى رجل من المسلمين ليس بقائد ولا أمير هدية، فلا بأس أن يأخذها، وتكون له دون العسكر، وهو قول الأوزاعى، وابن القاسم صاحب مالك. فإن قيل: فقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أن عياض بن حمار أهدى إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) هدية، أو ناقة، فقال: (أسلمت؟) ، قال: لا، فلم يقبلها، وقال: (إنى نهيت عن زبد المشركين) ، رواه شعبة، عن قتادة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 130 عن أبى العلاء يزيد بن عبد الله، عن عياض بن حمار، وهذا معارض لما روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) من قبول هدايا المشركين، فهو ناسخ لها. قيل: يحتمل أن يكون ترك قبول هديته لما فى ذلك من التأنيس والتحاب، ومن حاد الله وشاقه حرم على المؤمنين موالاته، ألا ترى أنه عَلَيْهِ السَّلام جعل علة ردها لما لم يسلم، وقد روى معمر، عن الزهرى، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: جاء ملاعب الأسنة إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) بهدية، فعرض عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) الإسلام فأبى أن يسلم، فقال عَلَيْهِ السَّلام: (فإنى لا أقبل هدية مشرك) . فدل هذا الحديث على مثل ما دل عليه حديث عياض، وبان به أن قبول النبى (صلى الله عليه وسلم) هدية من قبل هديته من المشركين إنما كان على وجه التأنيس له والاستئلاف، ورجاء إنابتهم إلى الإسلام، ومن يئس من إسلامه منهم رد هديته. وقال الطبرى: قبول النبى (صلى الله عليه وسلم) هدايا المشركين إنما كان نظرًا منه للمسلمين وعودًا بنفعه عليهم، لا إيثارًا منه نفسه به دونهم، وللإمام قبول هدايا أهل الشرك وغيرهم، إذا كان ما يقبله من ذلك للمسلمين، وأما رده هدية من رد هديته منهم، فإنما كان ذلك من أجل أنه أهداها له فى خاصة نفسه، فلم ير قبولها، تعريفًا منه لأئمة أمته من بعده أنه ليس له قبول هدية أحد لخاصة نفسه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 131 ويبين ذلك ما رواه ابن عوف، عن الحسن، قال: جاء رجل إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) يقال له: عياض، كانت بينه وبين النبى (صلى الله عليه وسلم) صداقة قبل أن يبعث بهديته، فقال له النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أسلمت؟) ، قال: لا، قال: (فإنه لا يحل لنا زبد المشركين) . قال الحسن: الزبد: الرفد، ذكره ابن سلام. قال الطبرى: فإن ظن ظان أن قوله عَلَيْهِ السَّلام: (لا تقبل هدية مشرك) ، وأن ما رواه عطاء، عن جابر، عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، أنه قال: (هدايا الإمام غلول) ، أن ذلك على العموم، فقد ظن خطأ. وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أن الله تعالى قد أباح للمسلمين أموال أهل الشرك بالقهر والغلبة لهم بقوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم) [الأنفال: 41] الآية، فهو بطيب أنفسهم لا شك أحلى وأطيب. والدليل على صحة قولنا ما رواه شعبة، عن على بن زيد، عن أبى المتوكل الناجى، عن أبى سعيد الخدرى، أن ملك الروم أهدى لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) جرة من زنجبيل، فقسمها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين أصحابه، فأعطى كل رجل قطعة. وما رواه قرة، عن الحسن، قال: أهدى أكيدر دومة الجندل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جرة فيها مَن، بالنبى عَلَيْهِ السَّلام وأهله إليها حاجة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 132 فلما قضى الصلاة أمر طائفًا فطاف بها على أصحابه، فجعل الرجل يدخل يده فيخرج فيأكل، فأتى على خالد بن الوليد فأدخل يده، فقال: يا رسول الله، أخذ القوم مرة مرة، وأخذت مرتين، فقال: (كل وأطعم أهلك) . وأهدى البون ملك الروم إلى مسلمة بن عبد الملك لؤلؤتين وهو بالقسطنطينية، فشاور أهل العلم، من ذلك الجيش فقالوا: لم يهدها إليك إلا لموقعك من هذا الجيش، فنرى أن تبيعها وتقسم ثمنها على هذا الجيش، فثبت بفعل النبى (صلى الله عليه وسلم) وقول أهل العلم من بعده أن الذى كان من رد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هدية من رد من المشركين كان لما وصف لك، إذ من المحال اجتماع الرد والقبول فى الشىء الواحد والحال الواحدة، فبان أن سبب قبوله، عَلَيْهِ السَّلام، ما قبل غير سبب رده ما رد منه. فإن قيل: إن آخر فعله كان ناسخًا للآخر. قيل له: لو كان كذلك لكان مبينًا، وكان على الناس دليل مفرق بينه وبين المنسوخ، إذ غير جائز أن يكون شىء من حكم الله تعالى غير معلوم الواجب عنه على عباده إما بنص عليه، أو لأدلة منصوبة لهم على اللازم فيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 133 فبان بهذا أن سبيل الأئمة القائمين بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) بأمر الأمة سبيله، عَلَيْهِ السَّلام، فى أن من أهدى إليه ملك من ملوك أهل الحرب هدية فله قبولها وصرفها حيث ما جعل الله ما حول المسلمين بغير إيجاف منهم عليه بخيل ولا ركاب. وإن كان الذى أهدى إليه وهو منتح مع جيش من المسلمين بعقدة دارهم محاصرًا لهم، فله قبوله وصرفه فيما جعل الله من أموالهم مصروفًا فيما نيل بالقهر والغلبة لهم، وذلك ما أوجفوا عليه بالخيل والركاب، كالذى فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) بأموال قريظة إذ نزلوا على حكم سعد لما نزل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه محاصرين لهم. قال المهلب: فى حديث أبى حميد: مكافأة المشرك على هديته؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أهدى له بردًا. وفيه: جواز تأمير المسلمين المشرك الذمى على قومه لما فى ذلك من طوعهم له وانقيادهم. قال الطبرى: كان صاحب أيلة من أهل الجزية بالصلح الذى جرى بينه وبين النبى (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: وفيه تولية البحر، وأنه عمل من الأعمال، وفيه جواز نسبة العمل إلى من أمر به؛ لقوله عَلَيْهِ السَّلام: (وكتب له ببحرهم) ، وهو عَلَيْهِ السَّلام لم يكتب كما قال رحم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وإنما أمر بذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 134 وفى قبول الشاة المسمومة دليل على أكل طعام من يحل أكل طعامه دون أن يسأل عن أصله ولا يحترس من حيث إن كان فيه مع جواز ما قد ظهر إليه من السم، فدل ذلك على حمل الأمور على السلامة حتى يقوم دليل على غيرها، وكذلك حكم ما أبيع فى سوق المسلمين هو محمول على السلامة حتى يتبين خلافها. وفى حديث المشرك المشعان جواز قبول هدايا المشركين، وقد تقدم كثير من معناه فى كتاب البيوع فى باب الشراء والبيع من المشركين وأهل الحرب، وفيه المواساة بالطعام عند المسغبة والشدة وتساوى الناس فى ذلك، وفى أكل أهل الجيش من الكبد على قلته علامة باهرة من علامات النبوة، وآية قاهرة من آيات النبى، عَلَيْهِ السَّلام. - بَاب الْهَدِيَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ وَقَالَ تَعَالَى: (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ) [الممتحنة: 8] الآية. / 47 - فيه: ابْن عُمَرَ، أن النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ بِحُلَّةٍ سيراء، فَقَالَ: كَيْفَ أَلْبَسُهَا وَقَدْ قُلْتَ فِيهَا مَا قُلْتَ؟ إِنَّمَا يَلبسُها مَنْ لا خِلاق لَهُ فِى الآخِرة، قَالَ: (إِنِّى لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا، تَبِيعُهَا أَوْ تَكْسُوهَا) ، فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ. / 48 - وفيه: أَسْمَاءَ، قَدِمَتْ عَلَىَّ أُمِّى، وَهِىَ مُشْرِكَةٌ فِى عَهْدِ النَّبِىّ، عَلَيْهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 135 السَّلام، فَاسْتَفْتَيْتُ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، قُلْتُ: إن أمِّى أتتنى وَهِىَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّى؟ قَالَ: (صِلِى أُمَّكِ) . وروى الطبرى، عن ابن الزبير، أن قول الله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين) [الممتحنة: 8] ، نزلت فى أم أسماء بنت أبى بكر، وكان اسمها قتيلة بنت عبد العزيز. وقالت طائفة: نزلت فى مشركى مكة من لم يقاتل المؤمنين ولم يخرجهم من ديارهم. وقال مجاهد: هو خطاب للمؤمنين الذين بقوا بمكة ولم يهاجروا. وقال السدى: كان هذا قبل أن يؤمر بقتال المشركين كافة، فاستشار المسلمون النبى (صلى الله عليه وسلم) فى قراباتهم من المشركين أن يبروهم ويصلوهم، فأنزل الله هذه الآية. فى تفسير الحسن قال قتادة وابن زيد: ثم نسخ ذلك، ولا يجوز اليوم مهاداة المشركين ولا متاحفتهم إلا للأبوين خاصة؛ لأن الهدية فيها تأنيس للمهدى إليه، وإلطاف له، وتثبيت لمودته، وقد نهى الله عن التودد للمشركين بقوله: (لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون) [المجادلة: 22] الآية، وقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا) [الممتحنة: 1] الآية. وإنما بعث عمر بالحلة إلى أخيه المشرك بمكة على وجه التأليف له على الإسلام؛ لأنه كان طمع بإسلامه، وكان التألف على الإسلام حينئذ مباحًا، وقد تألف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صناديد قريش، وجعل الله للمؤلفة قلوبهم سهمًا فى الصدقات، وكذلك فعلت أسماء فى أمها؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 136 لأن الله قد أمر بصلة الآباء الكفار وبرهما بقوله: (وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم) [لقمان: 15] الآية، فأمر تعالى بمصاحبة الأبوين المشركين فى الدنيا بالمعروف، وبترك طاعتهما فى معصية الله. وروى البخارى فى حديث أسماء: إن أمى أتتنى وهى راغبة، بالباء من الرغبة فى العطاء، ورواه أبو داود، قال: حدثنا أحمد بن أبى شعيب، حدثنا عيسى بن يونس، عن هشام بن عروة: راغمة، بالميم. وفسره الخطابى، قال: راغمة، أى كارهة لإسلامى وهجرتى. وقال بعض أصحابه: معناه هاربة من قومها. واحتج بقوله تعالى: (ومن يهاجر فى سبيل الله يجد فى الأرض مراغمًا كثيرًا وسعة) [النساء: 100] ، وأنشد للجعدى يمدح رجلاً: كطود يلوذ بأكتافه عزيز المراغم والمهرب فلو كانت أرادت به المضى لقالت: مراغمة، لا راغمة، وكان أبو عمرو بن العلاء يتأول فى قوله تعالى: (مراغمًا كثيرًا) [النساء: 100] ، قال: الخروج من العدو برغم أنفه، وراغبة بالباء أظهر فى معنى الحديث. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 137 - بَاب لاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَرْجِعَ فِى هِبَتِهِ وَصَدَقَتِهِ / 49 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ النَّبىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ الَّذِى يَعُودُ فِى هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِى قَيْئِهِ) . / 50 - وفيه: عُمَر، حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَبَاعَهُ الَّذِى هو عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ مِنْهُ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ: (لاَ تَشْتَرِهِ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِى صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِى قَيْئِهِ) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فقالت طائفة: ليس لأحد أن يهب هبة ويرجع فيها على ظاهر حديث ابن عباس وعمر، روى ذلك عن طاوس والحسن، وهو قول الشافعى، وأحمد ابن حنبل، وأبى ثور. وفيها قول آخر، روى عن عمر بن الخطاب: أن من وهب لذى رحم فلا رجوع له، ومن وهب لغير ذى رحم، فله الرجوع إن لم يثب منها، وعن على بن أبى طالب، رضى الله عنه، أنه من وهب لذى رحم فله الرجوع إن لم يثب منها خلاف قول عمر. وقال الثورى والكوفيون: يرجع فيما وهبه لذى رحم غير محرم إذا كانت الهبة قائمة لم تستهلك، ولم تزد فى بدنها أو لم يثب منها مثل: ابن عمه، وابن خاله، وأما إن وهب لذى رحم محرم وقبضوا الهبة، فليس له الرجوع فى شىء منها وهم: ابنته، أو إخوته الجزء: 7 ¦ الصفحة: 138 لأمه، أو جده أبو أمه، أو خاله، أو عمه، أو ابن أخيه، أو ابن أخته، أو بنوهما. وتفسير الرحم المحرم هو من لو كان الموهوب له امرأة لم يحل للواهب نكاحها، وحكم الزوجين عندهم حكم ذى الرحم المحرم، ولا رجوع لواحد منهما فى هبته. وقال مالك: يجوز الرجوع فيما وهبه للثواب، وسواء وهبه لذى رحم محرم أو غير محرم، ولا يجوز له الرجوع فيما وهبه الله ولا لصلة رحم. قال الطحاوى: واحتج أهل المقالة الأولى بما روى شعبة وهشام، قالا: حدثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (العائد فى هبته كالعائد فى قيئه) ، قالوا: فبان بهذا الحديث أن المراد العائد فى قيئه الرجل لا الكلب، ولما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد جعل الرجوع فى الهبة، كالرجوع فى القىء، وكان رجوع الرجل فى قيئه حرامًا عليه، كان كذلك رجوعه فى هبته. وحجة الكوفيين قوله: (كالكلب يعود فى قيئه) ، فبان بهذا الحديث أن العائد فى قيئه هو الكلب، والكلب غير متعبد بتحليل ولا بتحريم، فيكون المعنى العائد فى هبته كالعائد فى قدر كالقدر الذى يعود فيه الكلب، فلا يثبت بذلك منع الواهب من الرجوع فى هبته، فدل هذا أنه عَلَيْهِ السَّلام أراد تنزيه أمته عن أمثال الكلاب؛ لأنه أبطل أن يكون لهم الرجوع فى هباتهم، ويصلح الاحتجاج بهذه الحجة لمالك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 139 قال الطحاوى: واحتج أهل المقالة الأولى بحديث طاوس، عن ابن عباس، وابن عمر، أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال: (لا يحل لواهب أن يرجع فى هبته إلا الوالد لولده) ، ولا دليل لهم فيه على تحريم الرجوع فى الهبة، فقد يجوز أن يكون النبى، عَلَيْهِ السَّلام، وصف ذلك الرجوع بأنه لا يحل؛ لتغليظه إياه لكراهته أن يكون أحد من أمته له مثل السوء. وقد قال عَلَيْهِ السَّلام: (لا تحل الصدقة على ذى مرة سوى) ، فلم يكن ذلك على معنى أنها تحرم عليه كما تحرم على الغنى، ولكنها لا تحل له من حيث تحل لغيره من ذوى الحاجة والزمانة، فكذلك قوله: (لا يحل للواهب أن يرجع فى هبته) ، إنما هو على أنه لا يحل له ذلك، كما تحل له الأشياء التى قد أحلها الله له. وقال الطبرى: قوله عَلَيْهِ السَّلام: (العائد فى هبته) ، معناه الخصوص، وذلك لو أن قائلاً قال: العائد فى هبته كالكلب يعود فى قيئه، إلا أن يكون والدًا للموهوب له، أو تكون هبته لثواب يلتمسه، فإنه ليس له مثل السوء، لم يكن مختلاً فى كلامه، ولا مخطئًا فى منطقه. فإن قيل: فبين لنا من يجوز له الرجوع فى هبته ومن لا يجوز، ومن المعنى بالذم فى ذلك. قيل: من وهب طلب ثواب إما باشتراط ذلك أو بغير اشتراط بعد أن يكون الأغلب من أمر الواهب والموهوب له أن مثله يهب مثله طلب الثواب منه، فله الرجوع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 140 وأما الواهب لله يطلب الأجر كالواهب الغنى للفقير المحتاج، أو طلب صلة رحم كالواهب يهب لأحد أبويه، أو أخيه، أو أخته، أو قريب له قريب القرابة يريد بذلك صلة رحمه، فلا رجوع له، فهذا المعنى بالذم بقوله: (كالكلب يعود فى قيئه) . وقد أشار المهلب إلى قريب من هذا المعنى، وقال: وعلى هذا التأويل لا تتعارض الأحاديث، فيكون معنى قوله فى حديث عمر: (العائد فى صدقته) ، مفسرًا لقوله فى حديث ابن عباس: (العائد فى هبته) ، أن الهبة التى تجرى مجرى الصدقة والصلة، لا يجوز الرجوع فيها، وإنما يرجع فيما خرج من هذا المعنى وأريد به الثواب، وقد تقدم فى كتاب الزكاة واختلاف أهل العلم فى شراء الرجل صدقته فى باب هل يشترى الرجل صدقته؟ . قال الطحاوى: وقد بين ما قلنا ما روى عن عمر بن الخطاب، روى مالك، عن داود ابن الحصين، عن أبى غطفان بن ظريف، عن مروان بن الحكم، أن عمر بن الخطاب قال: من وهب لصلة رحم أو على وجه صدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع بها، إن لم يرض منها، فهذا عمر بن الخطاب فرق بين الهبات والصدقات، فجعل الصدقات لله لا يرجع فيها، وجعل الهبات على ضربين، فضرب منها لصلة الأرحام، فرد ذلك إلى حكم الصدقات لله، ومنع الواهب من الرجوع فيها، وضرب منها جعل فيه الرجوع للواهب ما لم يرض منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 141 30 - بَاب / 51 - فيه: [عبد الله بن عبد الله بن أبى مليكة] ، أَنَّ بَنِى صُهَيْبٍ، مَوْلَى ابْنِ جُدْعَانَ ادَّعَوْا بَيْتَيْنِ وَحُجْرَةً، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَعْطَى ذَلِكَ صُهَيْبًا، فَقَالَ مَرْوَانُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكُمَا عَلَى ذَلِكَ؟ قَالُوا: ابْنُ عُمَرَ، فَدَعَاهُ، فَشَهِدَ لأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) صُهَيْبًا بَيْتَيْنِ وَحُجْرَةً، فَقَضَى مَرْوَانُ بِشَهَادَتِهِ لَهُمْ. إنما ذكر هذا الحديث فى كتاب الهبة؛ لأن فيه هبة النبى (صلى الله عليه وسلم) البيتين والحجرة لصهيب. فإن قيل: كيف قضى مروان بشهادة ابن عمر وحده لبنى صهيب، وذلك خلاف السنة؟ قيل: إن مروان إنما حكم بشهادة ابن عمر مع يمين المطالب على ما جاء فى السنة من القضاء باليمين مع الشاهد، ولم يذكر ذلك فى الحديث. 31 - بَاب مَا قِيلَ فِى الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى / 52 - فيه: جَابِر، أن النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، قَضَى بِالْعُمْرَى أَنَّهَا لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ. / 53 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (الْعُمْرَى جَائِزَةٌ) ، وَجَابِر مثله. قال أبو عبيد: تأويل العمرى أن يقول الرجل للرجل: هذه الدار لك عمرك، أو يقول: هذه الدار لك عمرى، وأصله مأخوذ من العمر. اختلف العلماء فى العمرى، فقال مالك: إذا قال: أعمرتك دارى أو ضيعتى، فإنه قد وهب له الانتفاع بذلك مدة حياته، فإذا مات رجعت الرقبة إلى المالك وهو المعمر، وإذا قال: قد أعمرتك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 142 وعقبك، فإنه قد وهب له ولعقبه الانتفاع ما بقى منهم إنسان، فإذا انقضوا رجعت الرقبة إلى المالك المعمر؛ لأنه وهب له المنفعة، ولم يهب له الرقبة. وروى مثله عن القاسم بن محمد، ويزيد بن قسيط، وهو أحد قولى الشافعى. وقال الكوفيون والشافعى فى أحد قوليه وأحمد بن حنبل: العمرى تصير ملكًا للمعمر ولورثته، ولا تعود ملكًا إلى المعطى أبدًا. واحتجوا بما رواه مالك، عن ابن شهاب، عن أبى سلمة، عن جابر، أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال: (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذى يعطاها لا ترجع إلى الذى أعطاها أبدًا؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث. وقالوا: إن مالكًا روى هذا الحديث وخالفه، قال: ليس عليه العمل ووددت أنه محى، واحتج أصحاب مالك بأن الإعمار عند العرب والإفقار والإسكان والمنحة والعارية والإعراء، إنما هو تمليك المنافع لا تمليك الرقاب، وللإنسان أن ينقل منفعة الشىء الذى يملك إلى غيره مدة معلومة ومجهولة إذا كان ذلك على غير عوض؛ لأن ذلك فعل خير ومعروف، ولا يجوز أن يخرج شىء عن ملك مالكه إلا بيقين ودليل على صحته. وقد قال القاسم بن محمد: ما أدركت الناس إلا على شروطهم فيما أعطوا، والدليل على أن العمرى لا تقتضى نقل الملك عن الرقبة أنه لو قال: بعتك شهرًا أو تصدقت بها عليك شهرًا، وأراد نقل ملك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 143 الرقبة لم يصح، كذلك إذا قال: أعمرتك؛ لأنه علقه بوقت مقيد، وهو عمره. وأما حديث أبى سلمة الذى احتجوا به، فهو حجة عليهم، وذلك أن المعمر إذا أعمر زيدًا وعقبه، فليس له أن يرجع فيما أعطى زيدًا، فكذلك فيما أعطى عقبه، والكوفى خالف هذا الحديث، ولم يقل بظاهره كما زعم؛ لأنه يقول: إن للمعمر بيع الشىء الذى أعمره، ومنع ورثته منه، وهذا خلاف شرط المعمر؛ لأنه أعطى عقبه كما أعطاه، وليس هو بأولى بالعطية من عقبه، وهو معنى قوله عَلَيْهِ السَّلام: (لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث) ، يعنى التداول للمنفعة لا ميراث الرقبة. وقد قال تعالى: (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم) [الأحزاب: 27] ، فلم يملكوها بالمواريث التى فرض الله، وإنما أخذوا منهم ما كان فى أيديهم، فكذلك العقب فى العمرى يأخذ ما كان لأبيه بعطية المالك. واختلفوا فى الرقبى، فأجازها أبو يوسف والشافعى كأنها وصية عندهم. وقال مالك، والكوفيون، ومحمد: لا تجوز، واحتجوا بما رواه حبيب بن أبى ثابت، عن ابن عمر، أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، نهى عن الرقبى، وقال: (من أرقب رقبى فهى له) ، والرقبى عند مالك: أن يقول للرجل: إن مت قبلك فدارى لك، وإن مت قبلى فدارك لى، فكأن كل واحد منهما يقصد إلى عوض لا يدرى هل يحصل له، ويتمنى كل واحد منهما موت صاحبه، وليس كذلك العمرى؛ لأن المعمر لا يقصد عوضًا عن الذى أخرج عن يده. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 144 بسم الله الرحمن الرحيم 46 - كتاب العارية - بَاب مَنِ اسْتَعَارَ مِنَ النَّاسِ الْفَرَسَ وَالدَّابَّةَ وَغَيْرَهما / 1 - فيه: أَنَس، كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ، فَاسْتَعَارَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَرَسًا مِنْ أَبِى طَلْحَةَ يُقَالُ لَهُ: الْمَنْدُوبُ، فَرَكِبَ، فَلَمَّا رَجَعَ، قَالَ: (مَا رَأَيْنَا مِنْ شَىْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا) . اختلف العلماء فى عارية الحيوان والعقار وما لا يعاب عليه، فروى ابن القاسم، عن مالك، أن من استعار حيوانًا أو غيره مما لا يعاب عليه فتلف عنده، فهو مصدق فى تلفه، ولا يضمنه إلا بالتعدى، وهو قول الكوفيين والأوزاعى. وقال عطاء: العارية مضمونة على كل حال، كانت مما لا يعاب عليه أم لا، وسواء تعدى فيها أو لم يتعد، وبه قال الشافعى، وأحمد بن حنبل، واحتجوا بما رواه إسماعيل ابن عياش، عن شرحبيل بن مسلم الخولانى، قال: سمعت أبا أمامة الباهلى أنه سمع النبى، عَلَيْهِ السَّلام، فى حجة الوداع يقول: (العارية مؤداة، والزعيم غارم) . وروى أن ابن عباس وأبا هريرة ضمنا العارية. والحجة للقول الأول أن معنى قوله: (العارية مؤداة) ، هو كمعنى قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) [النساء: 58] ، فإذا تلفت الأمانة لم يلزم المؤتمن عزمها، فكذلك العارية إذا علم أنها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 145 قد تلفت؛ لأنه لم يأخذها على الضمان، ولا هو متعد بالأخذ، فهى أمانة عند المستعير، فإذا تلفت بتعديه عليها، لزمه قيمتها بجنايته عليها، بمنزلة ما لو تعدى عليها وهى فى يد ربها، فعليه قيمتها، وروى عن على وابن مسعود أنه ليس على مؤتمن ضمان. وممن كان لا يضمن المستعير الحسن والنخعى، وقال شريح: ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان، وكتب عمر بن عبد العزيز فى العارية: لا يضمن صاحبها إلا أن يطلع منه على خيانة. - بَاب الاسْتِعَارَةِ لِلْعَرُوسِ عِنْدَ الْبِنَاءِ / 2 - فيه: عَائِشَةَ كَانَ عَلَيْهَا دِرْعُ قِطْرٍ ثَمَنُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، فَقَالَتِ: ارْفَعْ بَصَرَكَ إِلَى جَارِيَتِى انْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهَا تُزْهَى أَنْ تَلْبَسَهُ فِى الْبَيْتِ، وَقَدْ كَانَ لِى مِنْهُنَّ دِرْعٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ تُقَيَّنُ بِالْمَدِينَةِ إِلاَ أَرْسَلَتْ إِلَىَّ تَسْتَعِيرُهُ. قال المهلب: عارية الثياب فى العرس من فعل المعروف والعمل الجارى عندهم، وأنه مرغب فى أجره؛ لأن عائشة لم تمنع منه أحدًا. وفيه أن المرأة قد تلبس فى بيتها ما خشن من الثياب، وما لا يلبسه بعض الخدم، والقطر ثياب من غليظ القطن، وتقين يعنى تزين. قال صاحب الأفعال: قان الشىء قيانة: أصلحه، والقينة: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 146 الأمة، ويقال: قن إياك عند الحداد، أى أصلحه، ومنه قيل للحداد: قين. قال أبو عمرو: أصله من إقيان البيت إقيانًا إذا حسن، ومنه قيل للمرأة: مقينة؛ لأنها تزين. قال غيره: القينة الماشطة، والقينة المغنية، والقينة الجارية، وكل صانع عند العرب قين. واختلف العلماء فى عارية الثياب والعروض وما يعاب عليه، فقال ابن القاسم فى المدونة: من استعار ما يعاب عليه من ثوب أو غيره فهلك عنده، فهو له ضامن ولا يقبل قوله فى هلاكه إلا أن يكون هلاكه ظاهرًا معروفًا، تقوم له به بينة من غير تفريط ولا تضييع فلا يضمن. وقال أشهب: يضمن، وإن أقام بينة أنه هلك بغير سببه، لحديث صفوان فى السلاح، وهو قول الشافعى قال: كل عارية مضمونة ما يعاب عليه وما لا يعاب، وسواء تعدى فى تلفه أم لا، وقد تقدم فى الباب قبل هذا من قال بهذا القول. وقالت طائفة: إنها أمانة على كل وجه، ولا يضمن ما تلف إلا بتعدى المستعير، ويقبل قوله فى تلفها، هذا قول الحسن البصرى والنخعى، وبه قال الأوزاعى والثورى وأبو حنيفة وأصحابه. وروى عن عمر وعلى وابن مسعود أنه لا ضمان فى العارية، واحتج الشافعى وأحمد بحديث صفوان بن أمية، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) استعار منه أدراعًا يوم حنين، فقال له: يا محمد، مضمونة؟ فقال: (مضمونة) ، فضاع بعضها، فقال له النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن شئت غرمناها لك) ، فقال: لأنا أرغب فى الإسلام من ذلك يا رسول الله. رواه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 147 ابن أبى مليكة، عن أمية بن صفوان بن أمية، عن أبيه، وروى قتادة، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه، وقال: أعارية مضمونة أو عارية مؤداة؟ فقال: بل مؤداة، وهذا ينفى الضمان، وحديث صفوان قد اضطرب جدًا فلا حجة فيه. وأيضًا: فلو وجب على النبى (صلى الله عليه وسلم) الضمان لم يقل له: (إن شئت غرمناها لك) ، واحتجوا بحديث القصعة التى أهدتها بعض أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) بطعام فكسرتها عائشة، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (غارت أمكم، وغرم القصعة) . وقال ابن القصار: اختلفت الألفاظ فى خبر صفوان، فاستعملنا ما ورد منها بالضمان فيما يعاب عليه كما كان فى سلاح صفوان والقصعة، واستعملنا ما ورد بإسقاط الضمان فيما لا يعاب عليه؛ لأنه يمكن كتمانه، فنكون قد استعملنا كل خبر على فائدة غير فائدة صاحبه، ولا يمكن المخالفين استعمالها إلا على معنى واحد فيما يعاب عليه من العارية وما لا يعاب عليه، أما فى وجوب الضمان على قول الشافعى، أو إسقاطه على قول أهل العراق، فاستعمالنا أولى لكثرة الفوائد. قال المهلب: وإنما ألزمته ملك الضمان فيما يعاب عليه؛ لئلا يدعى المستعير هلاك العارية فيتطرق بذلك إلى أخذ مال غيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 148 3 - بَاب فَضْلِ الْمَنِيحَةِ / 3 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (نِعْمَ الْمَنِيحَةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِىُّ مِنْحَةً، وَالشَّاةُ الصَّفِىُّ تَغْدُو بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِإِنَاءٍ) . وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ، عَنْ مَالِكٍ: نِعْمَ الصَّدَقَةُ. / 4 - فيه: أَنَس، لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ مِنْ مَكَّةَ، وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَىء، وَكَانَتِ الأَنْصَارُ أَهْلَ الأَرْضِ وَالْعَقَارِ، فَقَاسَمَهُمُ الأَنْصَارُ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُمْ ثِمَارَ أَمْوَالِهِمْ كُلَّ عَامٍ، وَيَكْفُوهُمُ الْعَمَلَ وَالْمَئُونَةَ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمُّ أَنَسٍ أُمُّ سُلَيْمٍ، كَانَتْ أُمَّ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ، وَأَعْطَتْ أُمُّ أَنَسٍ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عِذَاقًا، فَأَعْطَاهُنَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أُمَّ أَيْمَنَ مَوْلاَتَهُ، أُمَّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَتْلِ أَهْلِ خَيْبَرَ، فَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ رَدَّ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمِ الَّتِى كَانُوا مَنَحُوهُمْ مِنْ ثِمَارِهِمْ، فَرَدَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى أُمِّهِ عِذَاقَهَا، وَأَعْطَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أُمَّ أَيْمَنَ مَكَانَهُنَّ مِنْ حَائِطِهِ. وَقَالَ يُونُسَ مرة: (مِنْ خَالِصِهِ) . / 5 - وفيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَرْبَعُونَ خَصْلَةً أَعْلاَهُنَّ مَنِيحَةُ الْعَنْزِ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا، وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا، إِلاَ أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهَا الْجَنَّةَ) ، قَالَ حَسَّانُ: فَعَدَدْنَا مَا دُونَ مَنِيحَةِ الْعَنْزِ مِنْ رَدِّ السَّلاَمِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِمَاطَةِ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَغيره، فَمَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً. / 6 - وفيه: جَابِر، كَانَتْ لِرِجَالٍ مِنَّا فُضُولُ أَرَضِينَ، فَقَالُوا: نُؤَاجِرُهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 149 بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالنِّصْفِ، فَقَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ) . / 7 - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ، جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: (وَيْحَكَ إِنَّ الْهِجْرَةَ شَأْنُهَا شَدِيدٌ، فَهَلْ عندك مِنْ إِبِلٍ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَتُعْطِى صَدَقَتَهَا) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَهَلْ تَمْنَحُ مِنْهَا شَيْئًا) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَتَحْلُبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا) . / 8 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) خَرَجَ إِلَى أَرْضٍ تَهْتَزُّ بزَرْعها، فَقَالَ: (لِمَنْ هَذِهِ؟) فَقَالُوا: اكْتَرَاهَا فُلاَنٌ، فَقَالَ: (أَمَا إِنَّهُ لَوْ مَنَحَهَا إِيَّاهُ كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا أَجْرًا مَعْلُومًا) . المنيحة هى الناقة والشاة ذات الدر تعار للبنها، ثم ترد إلى أهلها، والمنحة عند العرب كالإفقار، والعمرى، والعارية، وهى تمليك المنافع لا تمليك الرقاب، ألا ترى قوله فى حديث أنس: (فلما فتح الله على رسوله (صلى الله عليه وسلم) غنائم خيبر رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم وثمارهم. وقوله فى حديث جابر: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه) ، إنما يريد يهبه الانتفاع بها ولا يكريها منه بأجر، يبين ذلك قوله فى حديث ابن عباس: (أما إنه لو منحها إياه لكان خيرًا له من أن يأخذ عليها أجرًا) . وقوله فى حديث أبى سعيد بعد أن سأل النبى (صلى الله عليه وسلم) صاحب الإبل إن كان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 150 يؤدى صدقتها، قال: (فهل تمنح منها؟) ، فدل أن المنحة غير إعطاء الرقاب؛ لأن إعطاء الرقاب قد تضمنته الزكاة، فدلت هذه الآثار على أن المنيحة التى حض النبى (صلى الله عليه وسلم) أمته عليها من الأرض والثمار والأنعام، هى تمليك المنافع لا تمليك الرقاب. واللقحة الناقة التى لها لبن يحلب، والجمع لقاح، والصفى الغزيرة اللبن. قال المهلب: وقوله: (تغدو بإناء وتروح بإناء) ، يعنى أنها تغدو بأجر حلبها فى الغدو والرواح، والسنة أن ترد المنيحة إلى أهلها إذا استغنى عنها، كما رد النبى، عَلَيْهِ السَّلام، إلى أم سليم عذاقها، وكما رد المهاجرون للأنصار منائحهم حين أغناهم الله بخيبر، والمنحة والعارية والإفقار وغير ذلك هو من باب المشاركة والصلة، لا من باب الصدقة؛ لأنها لو كانت من باب الصدقة لما حلت للنبى (صلى الله عليه وسلم) ، ولكانت عليه حرامًا، ولو كان فى أخذها غضاضة لما قبلها، عَلَيْهِ السَّلام. وأما قوله عَلَيْهِ السَّلام: (أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز) ، ولم يذكر الأربعين خصلة فى الحديث، ومعلوم أنه كان عالمًا بها كلها لا محالة، إلا لمعنى هو أنفع لنا من ذكرها، وذلك والله أعلم خشية أن يكون التعيين لها والترغيب فيها زهدًا فى غيرها من أبواب المعروف وسبل الخير، وقد جاء عنه، عَلَيْهِ السَّلام، من الحض على أبواب من أبواب الخير والبر ما لا يحصى كثرة، وليس قول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 151 حسان بن عطية: فعددنا ما دون منيحة العنز من رد السلام، وتشميت العاطس، وإماطة الأذى عن الطريق فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة، بمانع أن يجدها غيره، وقد بلغنى عن بعض أهل عصرنا أنه طلبها فى الأحاديث، فوجد حسابها يبلغ أزيد من أربعين خصلة، فمنها: أن رجلاً سأل النبى (صلى الله عليه وسلم) عن عمل يدخله الجنة، فقال له عَلَيْهِ السَّلام: لئن كنت قصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، فذكر له عتاقات، ثم قال له: والمنحة الركوب الغزيرة الدر، والفىء على ذى الرحم القاطع، فإن لم تطق ذلك فاطعم الجائع، واسق الظمآن، فهذه ثلاث خصال أعلاهن المنحة، وليس الفىء على ذى الرحم منها؛ لأنها أفضل من منيحة العنز، وإنما شرط أربعين خصلة أعلاهن منيحة العنز. ومنها السلام على من لقيت، وفى الحديث: (من قال: السلام عليك، كتبت له عشر حسنات، ومن زاد: ورحمة الله، كتبت له عشرون، ومن زاد: وبركاته، كتبت له ثلاثون حسنة) ، وتشميت العاطس، وفى الحديث: (ثلاث تثبت لك الود فى صدر أخيك: إحداهن تشميت العاطس، وإماطة الأذى عن الطريق. . .) ، وفى الحديث: (أن رجلاً أخر غصن شوك من الطريق، فشكر الله له فغفر له) . وإعانة الصانع، والصنعة للأخرق، وإعطاء صلة الحبل، وإعطاء شسع النعل، وأن يؤنس الوحشان، وسأل رجل النبى (صلى الله عليه وسلم) عن المعروف، فقال: (لا تحقرن منه شيئًا ولو شسع النعل، ولو أن يعطى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 152 الحبل، ولو أن يؤنس الوحشان) . وقال أبو سليمان الخطابى: وقيل فى تأويل أنس الوحشان وجهان: أحدهما: أن تلقاه بما يؤنسه من القول الجميل. والوجه الآخر: أنه أريد به المنقطع بأرض الفلاة، المستوحش بها تحمله فتبلغه مكان الأنس، والأول أشبه. وكشف الكربة عن مسلم، قال عَلَيْهِ السَّلام: (من كشف عن أخيه كربة، كشف الله عنه كربة من كربات يوم القيامة) . وكون المرء فى حاجة أخيه، قال عَلَيْهِ السَّلام: (الله فى عون العبد مادام العبد فى عون أخيه) . وستر المسلم، قال عَلَيْهِ السَّلام: (من ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة) . والتفسح لأخيك فى المجلس، قال تعالى: (فافسحوا يفسح الله لكم) [المجادلة: 11] ، وقال عَلَيْهِ السَّلام: (ثلاث تثبت لك الود فى صدر أخيك: إحداهن أن توسع له فى المجلس) . وإدخال السرور على المسلم، ونصر المظلوم، والأخذ على يدى الظالم، قال عَلَيْهِ السَّلام: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) . والدلالة على الخير، وقد قال عَلَيْهِ السَّلام: (الدال على الخير كفاعله) . والأمر بالمعروف، والإصلاح بين الناس، قال الله تعالى: (لا خير فى كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) [النساء: 114] الآية، وقول طيب ترد به المسكين، قال الله تعالى: (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى) [البقرة: 263] ، وقال تعالى: (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى) [النساء: 8] الآية، وقال عَلَيْهِ السَّلام: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 153 وأن تفرغ من دلوك فى إناء المستقى، أمر به عَلَيْهِ السَّلام الذى سأله عن المعروف، وغرس المسلم وزرعه، قال عَلَيْهِ السَّلام: (ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة) . والهدية إلى الجار، قال عَلَيْهِ السَّلام: (يا نساء المؤمنات، لا تحقرن إحداكن لجارتها ولو فرسن شاة محرقًا) . والشفاعة للمسلم، فإن الله تعالى يقول: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها) [النساء: 85] ، وقال عَلَيْهِ السَّلام: (اشفعوا تؤجروا) . ورحمة عزيز ذل، وغنى افتقر، وعالم بين جهال، روى ذلك فى حديث عن النبى. وعيادة المرضى، وفى الحديث: (عائد المريض على مخارف الجنة، وعائد المريض يخوض فى الرحمة، فإذا جلس عنده استقرت به الرحمة) . والرد على من يغتاب أخاك المسلم، وفى الحديث: (من حمى مؤمنًا من منافق يغتابه بعث الله إليه ملكًا يوم القيامة يحمى لحمه من النار) . ومصافحة المسلم، وفى الحديث: (لا يصافح مسلم مسلمًا فتزول يده من يده حتى يغفر لهما) ، وفى حديث آخر: (تصافحوا يذهب الغل) . والتحاب فى الله، والتجالس فى الله، والتزاور فى الله، والتبادل فى الله، قال الله تعالى: وجبت محبتى لأصحاب هذه الأعمال الصالحة، وعون الرجل الرجل فى دابته يحمله عليها، أو يرفع عليها متاعه صدقة، روى ذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وذكر النصح لكل مسلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 154 4 - بَاب إِذَا قَالَ: أَخْدَمْتُكَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ عَلَى مَا يَتَعَارَفُ النَّاسُ فَهُوَ جَائِزٌ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هَذِهِ عَارِيَّةٌ، وَإِنْ قَالَ: كَسَوْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ فَهُوَ هِبَةٌ. / 9 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ، فَأَعْطَوْهَا هَاجَرَ، فَرَجَعَتْ، فَقَالَتْ: أَشَعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ كَبَتَ الْكَافِرَ، وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً) . وَقَالَ مرة: (فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ) . لا أعلم خلافًا بين العلماء أنه إذا قال له: أخدمتك هذه الجارية، أو هذا العبد أنه قد وهب له خدمته لا رقبته، وأن الإخدام لا يقتضى تمليك الرقبة عند العرب، كما أن الإسكان لا يقتضى تمليك رقبة الدار، وليس ما استدل به البخارى من قوله: فأخدمها هاجر، بدليل على الهبة، وإنما تصح الهبة فى الحديث من قوله: (فأعطوها هاجر) ، فكانت عطية تامة. واختلف ابن القاسم وأشهب فيمن قال: وهبت خدمة عبدى لفلان، فقال ابن القاسم: يخدمه حياة العبد، فإن مات فلان فلورثته خدمة العبد ما بقى العبد، إلا أن يستدل من قوله أنه أراد حياة المخدم، ولا تكون هبة لرقبة العبد، وقال أشهب: إذا قال: وهبت خدمة عبدى لفلان، فإنه يحمل على أنه حياة فلان، ولو كانت حياة العبد كانت هبة لرقبته. وقول ابن القاسم أصح من قول أشهب؛ لأنه لا يفهم من هبة الخدمة هبة الرقبة، والأموال لا تستباح إلا بيقين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 155 ولم يختلف العلماء أنه إذا قال: كسوتك هذا الثوب مدة يسميها فله شرطه، فإن لم يذكر أجلاً فهو هبة؛ لأن لفظ الكسوة يقتضى الهبة للثوب، لقوله تعالى: (فكفارته إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم) [المائدة: 89] ، ولم تختلف الأمة أن ذلك تمليك للطعام والثياب. 5 - بَاب إِذَا حَمَلَ رَجُلاً عَلَى فَرَسٍ فَهُوَ كَالْعُمْرَى وَالصَّدَقَةِ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا. / 10 - فيه: عُمَرُ، إنى حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَرَأَيْتُهُ يُبَاعُ، فَسَأَلْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (لاَ تَشْتَرِهِ، وَلاَ تَعُدْ فِى صَدَقَتِكَ) . لا خلاف بين العلماء أن العمرى إذا قبضها المعمر لا يجوز الرجوع فيها، وكذلك الصدقة لا يجوز لأحد أن يرجع فى صدقته؛ لأنه أخرجها لله تعالى، فكذلك الحمل على الخيل فى سبيل الله لا رجوع فيه؛ لأنه صدقة لله، فما كان من الحمل على الخيل تمليكًا للمحمول عليه بقوله: هو لك، فهو كالصدقة المبتولة إذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 156 بضت أنها ملك للمتصدق عليه، وما كان منه تحبيسًا فى سبيل الله فهو كالأوقاف لا يجوز الرجوع فيه عند جمهور العلماء. وخالف ذلك أبو حنيفة، وجعل الحبس باطلاً فى كل شىء، ولهذا قال البخارى: وقال بعض الناس: له أن يرجع فيها؛ لأنه عنده حبس باطل راجع إلى صاحبه. وفى حديث عمر جواز تحبيس الخيل، وهو يرد قول أبى حنيفة، ولا يخلو الفرس الذى حمل عليه عمر وأراد شراءه من أن يكون حبسه فى سبيل الله، أو حمل عليه وجعله ملكًا للمحمول عليه، فإن كان حبسًا فلا يجوز بيعه عند العلماء إلا أن يضيع أو يعجز عن اللحاق بالخيل، فيجوز حينئذ بيعه ووضع ثمنه فى فرس عتيق إن وجده، وإلا أعان به فى مثل ذلك، وإن كان عمر قد أمضى الفرس للذى حمله عليه وملكه إياه، فهو ملك للمتصدق عليه كالصدقة المبتولة، فجاز له التصرف فيه وبيعه من الذى حمله عليه، كما يجوز له بيعه من غيره، وإنما أمره عَلَيْهِ السَّلام بتركه تنزهًا لا إيجابًا، وقد تقدم فى كتاب الجهاد فى باب إذا حمل على فرس فى سبيل الله فرآها تباع اختلاف العلماء فيمن حمل على فرس فى سبيل الله، ولم يقل: هو حبس فى سبيل الله، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 157 فأغنى عن إعادته، وسيأتى فى كتاب الأوقاف اختلافهم فى جواز تحبيس الحيوان فى باب وقف الدواب والكراع، إن شاء الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 158 بسم الله الرحمن الرحيم 47 - كِتَاب النِّكَاحِ - باب التَّرْغِيبِ فِى النِّكَاحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) [النساء: 3] الآيَة / 1 - فيه: أَنَس، جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا، كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا، فَإِنِّى أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا، وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، ولَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى) . / 2 - وفيه: عَائِشَةَ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى) [النساء: 3] ، قَالَتْ: هى الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِى حَجْرِ وَلِيِّهَا، فَيَرْغَبُ فِى مَالِهَا وَجَمَالِهَا، يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ صَدَاقِهَا، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ، فَيُكْمِلُوا الصَّدَاقَ، وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ. قال أهل التفسير فى قوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم) [النساء: 3] ، يعنى فانكحوا ما أحللت لكم مثنى وثلاث ورباع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 159 قال المهلب: فى هذا الحديث من الفقه أن النكاح من سنن الإسلام، وأنه لا رهبانية فى شريعتنا، وأن من ترك النكاح رغبة عن سنة محمد، عَلَيْهِ السَّلام، فهو مذموم مبتدع، ومن تركه من أجل أنه أوفق له وأعون على العبادة فلا ملامة عليه؛ لأنه لم يرغب عن سنة نبيه وطريقته، وفيه الاقتداء بالأئمة فى العبادة، والبحث عن أحوالهم وسيرهم فى الليل والنهار، وأنه لا يجب أن يتعدى طرق الأئمة الذين وضعهم الله ليقتدى بهم فى الدين والعبادة، وأنه من أراد الزيادة على سيرهم فهو مفسد، فإن الأخذ بالتوسط والقصد فى العبادة أولى حتى لا يعجز عن شىء منها، ولا ينقطع دونها، لقوله عَلَيْهِ السَّلام: (خير العمل ما دام عليه صاحبه وإن قل) . وفى تفسير عائشة للآية من الفقه ما قال به مالك من صداق المثل، والرد إليه فيما فسد صداقه، ووقع الغبن فى مقداره؛ لقولها: من سنة صداقها، فوجب أن يكون الصداق معروفًا لكل طبقة من الناس على قدر أحوالهم، وقد قال مالك: للناس مناكح قد عرفت لهم، وعرفوا بها، أى أن للناس صدقات وأكفاء، فإذا كان الله قد نهى عن نكاح اليتيمة حتى يبلغها صداق مثلها، فوجب ألا يجوز نكاح بقبضة تبن، ولا بما لا خطر له ولا حطب، كما قال بعض الناس، والذى أصله مالك فى أقل الصداق، وهو الذى يؤدى إليه النظر على كتاب الله، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 160 ويصححه القياس من أنه لا يستباح عضو مسلمة بأقل مما استباحه النبى، عَلَيْهِ السَّلام، من عضو مسلم بالسرقة، وذلك ربع دينار فما كان أقل من ذلك فخلاف للسنة، وستأتى مذاهب العلماء فى هذه المسألة بعد هذا. وفيه: أن تفسير القرآن لا يؤخذ إلا عمن له علم به، كما كانت عائشة أولى الناس بعلمه من قبل الرسول (صلى الله عليه وسلم) لاختصاصها به. وفيه: أن المرأة غير اليتيمة لها أن تنكح بأدنى من صداق مثلها؛ لأنه تعالى إنما حرج ذلك فى اليتامى، وأباح سائر النساء بما أجبن إليه من الصداق، هذا مفهوم من الآية. وفيه: أن لولى اليتيمة أن ينكحها من نفسه إذا عدل فى صداقها. - باب قَوْلِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام: (مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فإنَّه أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ) ، وَهَلْ يَتَزَوَّجُ مَنْ لا إِرَبَ لَهُ فِى النِّكَاحِ؟ / 3 - فيه: عَلْقَمَةَ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَبْدِاللَّهِ فَلَقِيَهُ عُثْمَانُ بِمِنًى، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، إِنَّ لِى إِلَيْكَ حَاجَةً فَخَلَيا، فَقَالَ عُثْمَانُ: هَلْ لَكَ يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ فِى أَنْ أُزَوِّجَكَ بِكْرًا تُذَكِّرُكَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 161 مَا كُنْتَ تَعْهَدُ؟ فَلَمَّا رَأَى عَبْدُاللَّهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى هَذَا أَشَارَ لَىّ، فَقَالَ: يَا عَلْقَمَةُ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَمَا لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، لَقَدْ قَالَ لَنَا النَّبِىُّ عَلَيْهِ السَّلام: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) . وترجم له: (باب من لم يستطع الباءة فليصم) . ذهب جماعة الفقهاء إلى أن النكاح مندوب إليه مرغب فيه، وذهب أهل الظاهر إلى أنه فرض على الرجل والمرأة مرة فى الدهر إن كان الرجل واجدًا لطول الحرة، وإن عدم لزمه نكاح الأمة، واحتجوا بظاهر هذا الحديث، وحملوا أمره عَلَيْهِ السَّلام بالنكاح على الإيجاب، قالوا: ولكنه أمر لخاص من الناس، وهم الخائفون على أنفسهم العنت بتركهم النكاح، فأما من لم يخف العنت، فهو غير مراد بالحديث. قالوا: وقد بين صحة قولنا إخباره عَلَيْهِ السَّلام عن السبب الذى من أجله أمر الذى يستطيع الباءة بالنكاح، وذلك قوله: (فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج) ، فمن قدر على غض بصره عن المحارم، وتحصين فرجه فغير فرض عليه النكاح، ومن كان غير قادر على ذلك وخشى مواقعة الحرام، فالنكاح فرض عليه لأمر النبى، عَلَيْهِ السَّلام، إياه به. واحتج أهل المقالة الأولى بقوله: (ومن لم يستطع فعليه بالصيام) ، وإذا كان الصوم الذى هو بدل عن النكاح ليس بواجب فمبدله مثله، وأيضًا فإن جماعة من الصحابة تركوه وهم قادرون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 162 عليه وعكفوا على العبادة، فلو كان واجبًا لكان تركه معصية، ولا يجوز أن يفعله الصحابة وهو معصية، وخاصة بكون الرسول (صلى الله عليه وسلم) باقيًا، فلما لم ينقل عنه ولا عن الأئمة بعده النكير على من لم يتزوج، علم أنه غير واجب. فإن قال أهل الظاهر: قد قال معاذ بن جبل: زوجونى لئلا ألقى الله أعزب، وقال عمر لأبى الزوائد: لم لا تتزوج؟ ما يمنعك منه مع علمك بوجوبه إلا عجز أو فجور، قيل: أما معاذ فأراد أن يلقى الله على أكمل أحواله؛ لأن النكاح مندوب إليه، ويحتمل أن يريد عمر بوجوبه وجوب سنة، وهذا أبو الزوائد من الصحابة لم يتزوج. ومن الدليل أنه غير فرض أنه قضاء شهوة، ولم يفرض الله على أحد من خلقه فرضًا هو شهوة لا يخاف مع تركها الهلاك، فإن قالوا: الغذاء هو شهوة، وقد فرض الله إحياء النفوس به، قيل: ليس فى ترك الجماع خوف الهلاك كما فى فقد الغذاء، فهما غير مشتبهين. وإذا كان لا يخاف الهلاك فى فقد الجماع، فالفضل فى الصبر على تركه، إذ الفضل فى ترك اللذات، وفى إجماع الحجة على أن من صبر عن النكاح ولم يقتحم محرمًا بصبره عنه غير حرج ولا آثم أدل دليل على صحة ما قلناه من أن أمر النبى، عَلَيْهِ السَّلام، بالنكاح على الندب لا على الفرض، وهذا قول الطبرى، وابن القصار، وقد تقدم تفسير الباءة والوجاء فى كتاب الصيام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 163 3 - باب كَثْرَةِ النِّسَاءِ / 4 - فيه: عَطَاء، حَضَرْنَا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ جِنَازَةَ مَيْمُونَةَ بِسَرِفَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ زَوْجَةُ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَإِذَا رَفَعْتُمْ نَعْشَهَا، فَلا تُزَعْزِعُوهَا، وَلا تُزَلْزِلُوهَا، وَارْفُقُوا، فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَ النَّبِىِّ عَلَيْهِ السَّلام تِسْعٌ كَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ، وَلا يَقْسِمُ لِوَاحِدَةٍ. / 5 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِى لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ. / 6 - وفيه: ابْن جُبَيْرٍ، قال: قال لِى ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ تَزَوَّجْتَ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَتَزَوَّجْ، فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً. قال المهلب: لم يرد ابن عباس أنه من كثر نساؤه من المسلمين أنه خيرهم، وإنما قاله على معنى الحض والندب إلى النكاح، وترك الرهبانية فى الإسلام، وأن النبى، عليه السلام، الذى يجب علينا الاقتداء به واتباع سنته كان أكثر أمته نساء؛ لأن الله تعالى أحل له منهن تسعًا بالنكاح، ولم يحل لأحد من أمته غير أربع. وفى هذا الحديث من الفقه أن حرمة المسلم ميتًا كحرمته حيًا؛ لأن ابن عباس راعى من توقير زوج النبى (صلى الله عليه وسلم) بعد موتها ما كان يراعيه فى حياتها، والتى لم يقسم لها النبى (صلى الله عليه وسلم) من أزواجه هى سودة؛ لأنها وهبت يومها لعائشة؛ لعلمها بحب النبى (صلى الله عليه وسلم) لها، وإنما فعلت ذلك رغبة أن تحشر فى جملة أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فكانت من أزواجه ولم يكن لها قسمة فى المبيت. وقال صاحب العين: الزعزعة تحريك الشىء إذا أردت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 164 رفعه، وكذلك تحريك الريح الشجر، والزلزلة الاضطراب أخذ من زلزلة الأرض. 4 - باب مَنْ هَاجَرَ أَوْ عَمِلَ خَيْرًا لِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ فَلَهُ مَا نَوَى / 7 - فيه: عُمَر، قال النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْعَمَلُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) . قال محمد بن الحسين الآجرى: لما هاجر النبى، عليه السلام، من مكة إلى المدينة وجب على جميع المسلمين ممن هو بمكة أن يهاجروا، ويدعوا أهليهم وعشائرهم وديارهم، يريدون بذلك وجه الله، فكان الناس يهاجرون على هذا النعت، فخرج رجل من مكة مهاجرًا فى الظاهر قد شمله الطريق مع الناس، ولم يكن مراده الله ورسوله، وإنما كان مراده تزويج امرأة من المهاجرات قبله أراد تزويجها، فلم يعد فى المهاجرين، وسمى مهاجر أم قيس. 5 - باب تَزْوِيجِ الْمُعْسِرِ الَّذِى مَعَهُ الْقُرْآنُ وَالإسْلامُ / 8 - فيه: سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام. / 9 - وفيه: ابْن مَسْعُود، كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا نَسْتَخْصِى؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ. قال المهلب: أما قوله: تزويج المعسر الذى معه القرآن والإسلام، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 165 فدليل على أنه لم يملكها إياه على التعليم، ولو كان على التعليم لما كان معسرًا. وقوله: والإسلام يدل على ذلك؛ لأنها كانت مسلمة، فلا يجوز أن يعلمها الإسلام، فيكون على معنى الأجرة، وإنما راعى له عليه السلام حرمة حفظه القرآن، ومن جعله على التعليم فقد يجوز ألا تتعلم شيئًا فلا يستحقها الزوج، وقد ملكه الرسول (صلى الله عليه وسلم) إياها قبل التعليم. وسيأتى مذاهب العلماء فى قوله عليه السلام: (قد زوجتكها بما معك من القرآن) ، فى حديث سهل بعد هذا، إن شاء الله، وأما موضع الترجمة من حديث ابن مسعود، فهو أنه عليه السلام، لما نهى أصحابه المعسرين عن الخصاء، دل على جواز التزويج للمعسر، ولو لم يجز التزويج إلا للأغنياء لحظره عليهم من أجل عسرتهم، فهو دليل فى حديث ابن مسعود، ونص فى حديث سهل بقوله: (قد زوجتكها بما معك من القرآن) ، وكتاب الله شاهد بصحة هذا المعنى، وهو قوله: (وأنكحوا الأيامى منكم) [النور: 32] الآية. 6 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ لأخِيهِ: انْظُرْ أَىَّ زَوْجَتَىَّ شِئْتَ حَتَّى أَنْزِلَ لَكَ عَنْهَا رَوَاهُ ابْنُ عَوْفٍ. / 10 - فيه: أَنَس، قَدِمَ عَبْدُالرَّحْمَنِ، فَآخَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأنْصَارِىِّ، وَعِنْدَ الأنْصَارِىِّ امْرَأَتَانِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِى أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِى عَلَى السُّوقِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 166 فَأَتَى السُّوقَ فَرَبِحَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وسَمْنٍ، فَرَآهُ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، بَعْدَ أَيَّامٍ، وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ، فَقَالَ: (مَهْيَمْ يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ. . .) الحديث. فى هذا الحديث ما كان عليه الصدر الأول من هذه الأمة من الإيثار على أنفسهم، وبذل النفيس لإخوانهم، كما وصفهم الله فى كتابه. قال المهلب: وفيه جواز عرض الرجل أهله على أهل الصلاح من إخوانه. وفيه: أنه لا بأس أن ينظر الرجل إلى المرأة قبل أن يتزوجها. وفيه: المواعدة بطلاق امرأة لمن يحب أن يتزوجها، وفيه تنزه الرجل عما يبذل له ويعرض عليه من المال وغيره، والأخذ بالشدة على نفسه فى أمر معاشه. وفيه: أن العيش من تجر أو صناعة أولى بنزاهة الأخلاق من العيش من الصدقات والهبات وشبهها. وفيه: مباشرة الفضلاء للتجارات بأنفسهم وتصرفهم فى الأسواق فى معايشهم وليس ذلك نقص لهم. وفيه: سؤال الرجل عن من تزوج وما نقد ليعينه الناس على وليمته ومؤنته. وفيه: سؤاله عما تزوج من البكر أو الثيب، وحضه على البكر للملاعبة والانهمال الحلال، وستأتى سائر معانى هذا الحديث فى مواضعها، إن شاء الله. وقوله: مهيم، كلمة موضوعة للاستفهام، ومعناها ما شأنك وما أمرك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 167 7 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّبَتُّلِ وَالْخِصَاءِ / 11 - فيه: سَعْد، رَدَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاخْتَصَيْنَا. / 12 - وفيه: ابْن مسعود، كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَلَيْسَ لَنَا نساء، فَقُلْنَا: أَلا نَسْتَخْصِى؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) [المائدة: 87] الآية. / 13 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى رَجُلٌ شَابٌّ، وَإِنى أَخَافُ عَلَى نَفْسِى الْعَنَتَ، وَلا أَجِدُ مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ النِّسَاءَ، فَسَكَتَ عَنِّى، ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَسَكَتَ عَنِّى، ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَسَكَتَ عَنِّى، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاقٍ، فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ ذَرْ) . قال المهلب: إنما نهى عليه السلام عن التبتل والترهب من أجل أنه يكاثر بأمته الأمم يوم القيامة، وأنه فى الدنيا مقاتل بهم طوائف الكفار، وفى آخر الزمان يقاتلون الدجال، فأراد عليه السلام أن يكثر النسل. وقال الطبرى: التبتل الذى أراده عثمان بن مظعون ما كان عزم عليه من ترك النساء والطيب وكل ما يلتذ به، مما أحله الله لعباده من الطيبات والترهب، فأنزل الله فى النهى عن ذلك: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) [المائدة: 87] الآية، وروى هذا عن ابن عباس وجماعة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 168 فلا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شىء مما أحله الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح إذا خاف على نفسه بإحلال ذلك له بعض العنت والمشقة أو أمنه، وذلك لرد النبى (صلى الله عليه وسلم) التبتل على عثمان بن مظعون، فثبت أنه لا فضل فى ترك شىء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو فى فعل ما ندب عباده إليه، وعمل به رسوله وسنه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون، إذ كان خير الهدى هدى نبينا محمد. فإذا كان كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لبس ذلك من حله، وآثر أكل الفول والعدس على أكل خبز البر والشعير، وترك أكل اللحم والودك حذرًا من عارض الحاجة إلى النساء، فإن ظن ظان أن الفضل فى غير الذى قلنا لما فى لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس، وصرف فضل ما بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة، فقد ظن خطأ. وذلك أن أولى للإنسان بالنفس إصلاحها وعونها له على طاعة ربها ولا شىء أضر للجسم من المطاعم الردية؛ لأنها مفسدة لعقله، ومضعفة لأدواته التى جعلها الله سببًا إلى طاعاته. وفيه: أن خصاء بنى آدم حرام، وذلك أن التبتل إذ كان منهيًا عنه ولا جناية فيه على النفس غير منعها المباح لها، فمنعها ما فيه جناية عليها بإيلامها وتعذيبها بقطع بعض الأعضاء أحرى أن يكون منهيًا عنه، فثبت بهذا أن قطع شىء من أعضاء الإنسان من غير ضرورة تدعوه إلى ذلك حرام عليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 169 قال المهلب: وقول ابن مسعود: ثم أرخص لنا أن ننكح بالثوب، يعنى المتعة، التى كانت حلالاً فى أول الإسلام، ثم نسخت بالعدة والميراث والصداق، وفى حديث أبى هريرة إثبات القدر، وأن المرء لا يفعل باختياره شيئًا لم يكن سبق فى علم الله. وقال الطبرى: التبتل هو ترك شهوات الدنيا ولذاتها، والانقطاع إلى الله بالتفرغ لعبادته، والبتل القطع، ومنه قيل لمريم: البتول؛ لانقطاعها إلى الله بالخدمة، ومنه قولهم: صدقة بتلة، يعنى منقطعة عن مالكها، وقال أبو زيد الأنصارى: التبتل العزوبة. قال الطبرى: وهذا الذى قاله أبو زيد نوع من أنواع التبتل. 8 - باب نِكَاحِ الأبْكَارِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعَائِشَةَ: لَمْ يَنْكِحِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِكْرًا غَيْرَكِ. / 14 - فيه: عَائِشَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ نَزَلْتَ وَادِيًا وَفِيهِ شَجَرَةٌ قَدْ أُكِلَ مِنْهَا، وَوَجَدْتَ شَجَرة لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا، فِى أَيِّهَا كُنْتَ تُرْتِعُ بَعِيرَكَ؟ قَالَ: فِى التى لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا، يَعْنِى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا. / 15 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (أُرِيتُكِ فِى الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ، إِذَا رَجُلٌ يَحْمِلُكِ فِى سَرَقَةِ حَرِيرٍ، فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَأَكْشِفُهَا، فَإِذَا هِىَ أَنْتِ، فَأَقُولُ إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 170 قال المهلب: فيه فضل الأبكار على غيرهن، وروى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه حض على نكاح الأكبار، وقال: (إنهن أطيب أفواهًا، وأنتق أرحامًا، وأطيب أخلاقًا) ، وقيل فى تفسير: (أنتق أرحامًا) : أقبل للولد. وفيه: فخر النساء على ضرائرهن عند الأزواج. وفيه: ضرب الأمثال وتشبيه الإنسان بالشجرة. وسيأتى معنى قوله: (إن يكن هذا من عند الله يمضه) ، فى كتاب التعبير من هذا الكتاب فى باب كشف المرأة فى المنام، إن شاء الله، فهو أولى به. 9 - باب نِكَاحِ الثَّيِّبَاتِ وَقَالَ النَّبِىّ لأُمُّ حَبِيبَةَ: (لا تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ) . / 16 - فيه: جَابِر، قَفَلْنَا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ غَزْوَةٍ، فَتَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ لِى قَطُوفٍ، قَالَ: (مَا يُعْجِلُكَ) ؟ قُلْتُ: كُنْتُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرُسٍ، قَالَ: (بِكْر أَمْ ثَيِّب) ؟ قُلْتُ: ثَيِّب، قَالَ: (فَهَلا جَارِيَةً تُلاعِبُكَ وَتُلاعِبُهَا. . .) ؟ الحديث. / 17 - وقال أيضًا: (مَا لَكَ وَلِلْعَذَارَى وَلِعَابِهَا؟) . قال المهلب: فيه جواز نكاح الثيبات للشبان إذا كان ذلك لمعنى، كالمعنى الذى قصد له جابر من سبب أخواته، وذلك أن يكون للناكح بنات أو أخوات غير بالغات يحتجن إلى قيم ومتعهد. وفيه: أن نكاح الأبكار للشبان أولى لقوله عليه السلام: (فهلا جارية) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 171 وفيه: سؤال الإمام رجاله عن أحوالهم فى نكاحهم ومفاوضتهم فى ذلك. وفيه: أن ملاعبة الأهل مستحبة؛ لأن ذلك يحبب الزوجين بعضهما لبعض، ويخفف المؤنة بينهما، ويرفع حياء المرأة عما يحتاج إليه الرجل فى مباعلتها، قال الله تعالى فى نساء الجنة: (عربًا أترابًا) [الواقعة: 37] والعروب المتحببة إلى زوجها، ويقال: العاشقة له، ويقال: الحسنة التبعل. وقوله: (أمهلوا حتى تدخلوا ليلاً) ، يريد حتى يسبقكم خبر قدومكم إلى أهليكم، (فتستحد المغيبة وتمتشط الشعثة) ، أى تصلح كل امرأة نفسها لزوجها مما غفلت عنه فى غيبته، وإنما معنى ذلك لئلا يجد منها ريحًا أو حالة يكرهها، فيكون ذلك سببًا إلى بغضتها، وهذا من حسن أدبه عليه السلام. وقوله: (ولعابها) ، هو مصدر لاعب ملاعبة ولعابًا، كما تقول: قاتل مقاتلة وقتالاً. - باب تَزْوِيجِ الصِّغَارِ مِنَ الْكِبَارِ / 18 - فيه: عُرْوَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) خَطَبَ إِلَى أَبِى بَكْرٍ عَائِشَة، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا أَنَا أَخُوكَ، فَقَالَ: (أَنْتَ أَخِى فِى دِينِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ، وَهِىَ لِى حَلالٌ) . أجمع العلماء على أنه يجوز للآباء تزويج الصغار من بناتهم، وإن كن فى المهد، إلا أنه لا يجوز لأزواجهن البناء بهن إلا إذا صلحن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 172 للوطء واحتملن الرجال، وأحوالهن تختلف فى ذلك على قدر خلقهن وطاقتهن، وكانت عائشة حين تزوج بها النبى (صلى الله عليه وسلم) بنت ست سنين، وبنى بها بنت تسع، وقد ذكره البخارى بعد هذا فى باب نكاح الرجل ولده الصغار. قال ابن المنذر: وفى هذا الحديث دليل على أن نهيه، عليه السلام، عن إنكاح البكر حتى تستأذن أنها البالغ التى لها إذن، إذ قد أجازت السنة أن يعقد الأب النكاح على الصغيرة التى لا إذن لها. واختلف العلماء فى تزويج الأولياء غير الآباء اليتيمة الصغيرة، فقال ابن أبى ليلى، ومالك، والليث، والثورى، والشافعى، وابن الماجشون، وأحمد، وأبو ثور: ليس لغير الأب أن يزوج اليتيمة الصغيرة، فإن فعل فالنكاح باطل، وحكى ابن المنذر عن مالك أنه قال: يزوج الوصى الصغيرة دون الأولياء إذا كان وصيًا لها، والجد عند الشافعى عند عدم الأب كالأب. قالت طائفة: إذا زوج الصغيرة غير الأب من الأولياء، فلها الخيار إذا بلغت، روى هذا عن عطاء، والحسن، وطاوس، وهو قول الأوزاعى، وأبى حنيفة، ومحمد، إلا أنهما جعلا الجد كالأب لا خيار فى تزويجه. وقال أبو يوسف: لا خيار لها فى جميع الأولياء. وقال أحمد: لا أرى للولى ولا للقاضى أن يزوج اليتيمة حتى تبلغ تسع سنين، فإذا بلغتها ورضيت فلا خيار لها. وحجة من جعل لها الخيار إذا بلغت أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما أمر باستئمار الجزء: 7 ¦ الصفحة: 173 اليتيمة، ولا تستأمر إلا من لها ميزة ومعرفة كان لها الخيار والاستئمار إذا بلغت. وحجة القول الأول قول النبى، عليه السلام: (تستأمر اليتيمة فى نفسها) ، ولا يصح استئمارها إلا ببلوغها، ولا يجوز أن يكون العقد موقوفًا على استئمارها بدليل امتناع الجميع من دخول الخيار فى عقد النكاح، ووقوفها إلى مدة فيها الخيار. وفرق مالك بين اليتيمة واليتيم، فأجاز للوصى تزويج اليتيم قبل البلوغ من قبل أن اليتيم لما كان قادرًا على رفع العقد الذى يوقعه الولى إن كرهه بعد بلوغه جاز ذلك لقدرته على الخروج منه، وليس كذلك اليتيمة؛ لأنها لا تقدر إذا بلغت على رفع العقد؛ لأن الطلاق ليس بيد النساء، فافترقا لهذه العلة، ولأن السنة وردت فى منع العقد على اليتيمة حتى تستأمر، ولا يصح استئمارها إلا بعد البلوغ، هذا قول مالك. قال المهلب: وفى حديث عائشة من الفقه جواز خطبة الرجل لنفسه إلى ولى المخطوبة إذا علم أنه لا يرده لتأكد ما بينهما، ويحتمل قول أبى بكر للنبى (صلى الله عليه وسلم) : إنما أنا أخوك، أن يعتقد أنه لا يحل له أن يتزوج ابنته للمؤاخاة والخلة التى كانت بينهما، فأعلمه النبى (صلى الله عليه وسلم) أن أخوة الإسلام ليست كأخوة النسب والولادة، فقال: (إنها لى حلال بوحى من الله تعالى) ، كما قال إبراهيم للذى أراد أن يأخذ منه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 174 زوجته: هى أختى، يعنى فى الإيمان؛ لأنه لم يكن أحد مؤمنًا غيرهما يومئذ. - باب إِلَى مَنْ يَنْكِحُ؟ وَأَىُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ وَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَخَيَّرَ لِنُطَفِهِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ؟ / 19 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ: (خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِى صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِى ذَاتِ يَدِهِ) . قال المهلب: إنما يركب الإبل نساء العرب، ونساء قريش من العرب، فنساء قريش خير نساء العرب، وقد أخبر عليه السلام بما استوجبن ذلك، وهو حنوهن على أولادهن، ومراعاتهن لأزواجهن، وحفظهن لأموالهم، وإنما ذلك لكرم نفوسهن، وقلة غائلتهن لمن عاشرهن وطهارتهن من مكايدة الأزواج ومشاحنتهن. وفيه: جواز مدح الرجل نساء قومه وولياته بفضائلهن، ومعنى هذا الحديث الحض على نكاح أهل الصلاح والدين وشرف الآباء؛ لأن ذلك يمنع من ركوب الإثم وتقحم العار، ولهذا المعنى قال عليه السلام: (عليك بذات الدين تربت يداك) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 175 12 - باب اتِّخَاذِ السَّرَارِىِّ وَمَنْ أَعْتَقَ جَارِيَتَهُ، ثُمَّ تَزَوَّجَ بِهَا / 20 - فيه: أَبُو موسى، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَلِيدَةٌ، فَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ. . .) ، الحديث. / 21 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عن النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلا ثَلاثَ كَذَبَاتٍ: بَيْنَمَا إِبْرَاهِيمُ مَرَّ بِجَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ. . .) - وَذَكَرَ الْحَدِيثَ: (فَأَعْطَاهَا هَاجَرَ، قَالَتْ: كَفَّ اللَّهُ يَدَ الْكَافِرِ وَأَخْذَ مَنِى هَاجَرَ) . / 22 - وفيه: أَنَس، أَقَامَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلاثًا يبْنَى عَلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَىٍّ، فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ، فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلا لَحْمٍ، أُمِرَ إلا التَّمْرِ وَالأقِطِ وَالسَّمْنِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَقَالُوا: إِنْ حَجَبَهَا، فَهِىَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا، فَهِىَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّى لَهَا خَلْفَهُ، وَمَدَّ الْحِجَابَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ. قال المؤلف: اتخاذ السرارى مباح؛ لقوله تعالى: (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) [المؤمنون: 6] ، فأباح ملك اليمين كما أباح ملك النكاح، ورغب عليه السلام فى عتق الإماء وتزويجهن بقوله أن فاعل ذلك له أجران، وإنما ذكر حديث أبى هريرة لما فيه من هبة الكافر خادمًا لسارة، وقبول إبراهيم لها. واختلف العلماء فيمن أعتق جاريته وتزوجها، فذهب قوم إلى أنه إن أعتقها، وجعل عتقها صداقها، فذلك جائز، فإن تزوجته فلا مهر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 176 لها غير العتاق على حديث صفية، روى هذا عن أنس بن مالك أنه فعله، وهو راوى حديث صفية، وهو قول سعيد بن المسيب، وطاوس، والنخعى، والحسن البصرى، والزهرى، وإليه ذهب الثورى، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق. وقال آخرون: ليس لأحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يفعل هذا، وإنما كان ذلك خاصًا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن الله أباح له أن يتزوج بغير صداق، ولم يجعل ذلك لأحد من المؤمنين غيره، هذا قول مالك، وأبى حنيفة، وزفر، ومحمد، والشافعى. واحتج أهل المقالة الأولى بأن عبد الله بن عمر، روى عن النبى، عليه السلام، أنه فعل فى جويرية بنت الحارث مثل ما فعله فى صفية أنه أعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها، رواه حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع عنه. وقال أهل المقالة الثانية: لا حجة فى خبر جويرية أيضًا؛ لأن ابن عمر رواه عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وقال: إنه خاص له. قال الطحاوى: فنظرنا فى عتق النبى (صلى الله عليه وسلم) جويرية كيف كان، فروى ابن إسحاق عن عمر بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة، أنه لما أصاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بنى المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث فى سهم ثابت بن قيس، فكاتبت على نفسها وجاءت تستعين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى كتابتها، فقال لها: (هل لك فى خير من ذلك، أقضى عنك كتابتك وأتزوجك؟) ، قالت: نعم، فتزوجها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 177 فبينت عائشة العتاق الذى ذكره ابن عمر الذى جعله مهرها أنه أداه عنها كتابتها لتعتق بذلك الأداء، ويكون مهرًا لها، فلما كان لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يجعل ذلك مهرًا لها كان ذلك له خاصًا دون أمته، كما كان له خاصًا أن يجعل العتاق الذى تولاه هو مهرًا. فإن قال قائل: قد رأيت الرجل يعتق أمته على مال فتقبل منه، فتكون حرة، ويجب له عليها ذلك المال، فما ننكر إذا أعتقها على أن عتقها صداقها فقبلت ذلك منه أن تكون حرة، ويجب ذلك له عليها. قيل: إذا أعتقها على مال فقبلت ذلك منه وجب لها عليه العتاق، ووجب له عليها المال، فوجب لكل واحد منهما بذلك العقد سببًا أوجبه له ذلك العقد لم يكن مالكًا له قبل ذلك. وإذا أعتقها على أن عتقها صداقها، فقد ملكها رقبتها على أن ملكيته بضعها، فملكها رقبة هو لها مالك، ولم تكن هى مالكة لها قبل ذلك، على أن ملكته بضعًا هو له مالك قبل ذلك، فلم تملكه بذلك العتاق شيئًا لم يكن له مالكًا قبله، وإنما ملكته بعض ما قد كان له، فلذلك لم يجب عليها بذلك العتاق شىء، هذه حجة على من يقول: تكون له زوجة بالعتاق الذى هو الصداق. وفيه من الفقه: أنه يجوز للسيد إذا أعتق أمته أن يزوجها من نفسه دون السلطان، وكذلك الولى فى وليته، وسيأتى اختلاف العلماء فى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 178 هذه المسألة فى باب إذا كان الولى هو الخاطب بعد هذا، إن شاء الله. قال ابن المنذر: وفى تزويج النبى (صلى الله عليه وسلم) صفية من نفسه إجازة النكاح بغير شهود إذا أعلن، وهو قول الزهرى، وأهل المدينة، ومالك، وعبد الله بن الحسن، وأبى ثور، وروى عن ابن عمر أنه تزوج ولم يحضر النكاح شاهدين، وأن الحسن بن على زوج عبد الله ابن الزبير وما معهما أحد من الناس ثم أعلنوه بعد ذلك. وقالت طائفة: لا يجوز نكاح إلا بشاهدى عدل، روى ذلك عن ابن عباس، وعطاء، والنخعى، وسعيد بن المسيب، والحسن، وبه قال الثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد ابن حنبل، وقال أبو حنيفة: لا يجوز النكاح إلا بشاهدين، ويجوز أن يكونا محدودين فى قذف، أو فاسقين، أو أعميين، وأجمع العلماء على رد شهادة الفاسق. وكان يزيد بن هارون يعتب أصحاب الرأى، ويقول: أمرنا الله بالإشهاد عند التبايع، فقال: (وأشهدوا إذا تبايعتم) [البقرة: 282] ، وأمر بالنكاح ولم يأمر بالإشهاد عليه، فزعم أصحاب الرأى أن البيع الذى أمر الله بالإشهاد عليه جائز من غير شهود، وأن النكاح الذى لم يأمر بالإشهاد عنده لا يجوز إلا بشهود. قال ابن المنذر: وقد اختلف فى ذلك أصحاب الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وجاء الحديث الثابت الدال على إجازة النكاح من غير شهود، وهو حديث تزويج الرسول (صلى الله عليه وسلم) صفية، ألا ترى أن أصحابه اختلفوا فلم يعرفوا إن كانت زوجة له أو ملك يمين، واستدلوا على أنه تزوجها بالحجاب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 179 فدل ذلك على أنه لم يشهدهم على نكاحها، واجتزأ فيه بالإعلان، ولو كان هناك شهود ما خفى ذلك عليهم، وفيه الحكم بالدليل. ووقع فى المغازى فى هذا الكتاب فى هذا الحديث كلمة من الغريب، وهى قوله: (يحوى لها وراءه بعباءة) ، أى يدير كساء حول سنام البعير لتركب عليه، وهو الحوية. قال الأصمعى: والحوية كساء محشو بثمام أو ليف يجعل على ظهر البعير، وفى قصة بدر أن أبا جهل بعث عمير بن وهب ليحزر أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فطاف عمير برسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فلما رجع قال: رأيت الحوايا عليها المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع. - باب تَزْوِيجِ الْمُعْسِرِ لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النور: 32] / 23 - فيه: سَهْلِ، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُ أَهَبُ لَكَ نَفْسِى، فَنَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 180 جَلَسَتْ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا، فَقَالَ: (وَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَىْءٍ) ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: (اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ، فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا) فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لا، وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) ، فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِى، قَالَ سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ، فَلَه نِصْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ، إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَىْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَىْءٌ، فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِىَ، فَلَمَّا جَاءَ، قَالَ: (مَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) ؟ قَالَ: مَعِى سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا، عَدَّدَهَا، فَقَالَ: (تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) . فيه: جواز إنكاح المعسر، وأن الكفاءة إنما هى فى الدين لا فى المال، فإذا استجازت المرأة أو الولى التقصير فى المال جاز النكاح، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: ابتغوا الغنى فى النكاح، ما رأيت مثل من قعد بعد هذه الآية: (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) [النور: 32] ، وذكر إسماعيل بن إسحاق، قال: حدثنى إسماعيل بن أبى أويس، قال: حدثنا سليمان بن بلال، عن ابن غيلان، عن سعيد بن أبى سعيد، عن أبى هريرة، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (ثلاثة كلهم حق على الله عونه: المجاهد فى سبيل الله، والناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 181 قال المهلب: وفى حديث سهل جواز خطبة المرأة الرجل لنفسها إذا كان صالحًا، ولا عار عليها فى ذلك، وفيه أن النساء يخطبن إلى الأولياء، فإن لم يكن ولى فالسلطان ولى من لا ولى له، وسيأتى اختلاف العلماء فى قوله: (قد ملكتكها بما معك من القرآن) ، بعد هذا إن شاء الله. - باب الأكْفَاءِ فِى الدِّينِ وَقول الله تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا) [الفرقان: 54] / 24 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِشَمْسٍ - وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِىِّ عَلَيْهِ السَّلام - تَبَنَّى سَالِمًا، وَأَنْكَحَهُ بِنْتَ أَخِيهِ هِنْدا بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ - وَهُوَ مَوْلًى لامْرَأَةٍ مِنَ الأنْصَارِ - كَمَا تَبَنَّى النَّبِىُّ عَلَيْهِ السَّلام زَيْدًا. . .) الحديث. / 25 - وفيه: عَائِشَةَ، دَخَلَ النَّبِىّ عَلَيْهِ السَّلام عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهَا: لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الْحَجَّ؟ قَالَتْ: لاَ وَاللَّهِ مَا أَجِدُنِى إِلا وَجِعَةً، قَالَ لَهَا: حُجِّى وَاشْتَرِطِى، وَقُولِى: اللَّهُمَّ مَحِلِّى حَيْثُ حَبَسْتَنِى، وَكَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ بْنِ الأسْوَدِ. / 26 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 182 / 27 - فيه: سَهْل، مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِى هَذَا؟ قَالُوا: حَرِىٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ، ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِى هَذَا؟ قَالُوا: حَرِىٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لا يُسْمَعَ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأرْضِ مِثْلَ هَذَا) . اختلف العلماء فى الأكفاء من هم؟ فقال مالك: الأكفاء فى الدين دون غيره، والمسلمون بعضهم لبعض أكفاء، ويجوز أن يتزوج العربى والمولى القرشية. روى ذلك عن عمر بن الخطاب، قال: لست أبالى إلى أى المسلمين نكحت وأيهم أنكحت. روى مثله عن ابن مسعود، ومن التابعين عمر بن عبد العزيز، وابن سيرين، وقال أبو حنيفة: قريش كلهم أكفاء بعضهم لبعض، والعرب أكفاء بعضهم لبعض، ولا يكون أحد من العرب كفئًا لقريش، ولا أحد من الموالى كفئًا للعرب، ولا يكون كفئًا من لا يجد المهر والنفقة. وقال الشافعى: ليس نكاح غير الكفء بمحرم فأراده بكل حال، وإنما هو تقصير بالمتزوجة والأولياء، فإن تزوجت غير كفء، فإن رضيت به وجميع الأولياء جاز، ويكون حقًا لهم تركوه، وإن رضيت به وجميع الأولياء إلا واحدًا منهم فله فسخه. وقال بعضهم: إن رضيت به وجميع الأولياء لم يجز، وكان الثورى يرى التفريق إذا نكح مولى عربية، ويشدد فيه، وقال أحمد بن حنبل: يفرق بينهما. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 183 واحتج الذين جعلوا الكفاءة فى النسب والمال، فقالوا: العار يدخل على الأولياء والمناسبين؛ لأن حق الكفاءة دفع العار عنها وعنهم، قالوا: وقد روى عن ابن عباس أنه قال: قريش بعضهم لبعض كفء، والموالى بعضهم لبعض كفء، إلا الحاكة والحجامين. واحتج أهل المقالة الأولى بحديث عائشة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة تبنى سالمًا وأنكحه بنت أخيه الوليد بن عتبة، وهى سيدة أيامى قريش، وسالم مولى لامرأة من الأنصار، وتزوج ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب بنت عم النبى (صلى الله عليه وسلم) المقداد بن الأسود، وهو عربى حليف للأسود بن عبد يغوث تبناه ونسب إليه. واحتجوا بقوله عليه السلام: (عليك بذات الدين تربت يداك) ، فجعل العمدة ذات الدين، فينبغى أن تكون العمدة فى الرجل مثل ذلك، ألا ترى قوله عليه السلام فى حديث سهل حين فضل الفقير الصالح على الغنى، وجعله خيرًا من ملء الأرض منه. وقال المهلب: الأكفاء فى الدين هم المتشاكلون وإن كان فى النسب تفاضل، فقد نسخ الله ما كانت تحكم به العرب فى الجاهلية من شرف الأنساب، وجعل الاعتبار بشرف الصلاح والدين، فقال تعالى: (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) [الحجرات: 13] الآية، وقد نزع هذه الآية مالك بن أنس. وأما قولهم: إن العار يدخل عليها وعلى الأولياء، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 184 فيقال لهم: مع الدين والصلاح لا يدخل عار على أحد، وإنما رغبوا فيه لدينه الذى يحمل كل شىء، وفى النسب وعدم الدين كل عار، وقد تزوج بلال امرأة قرشية، وتزوج أسامة بن زيد فاطمة بنت قيس، وهى قرشية. وقد كان عزم عمر بن الخطاب على تزويج ابنته من سلمان الفارسى، فقال عمرو ابن العاص لسلمان: لقد تواضع لك أمير المؤمنين، فقال سلمان: لمثلى يتواضع، والله لا أتزوجها أبدًا، ولولا أن ذلك جائز لما أراده عمر ولا هم به؛ لأنه لا يدخل العار على نفسه وعشيرته، وأما حديث ضباعة فى الاشتراط فى الحج، فإنما ذكره فى هذا الباب لقوله فى آخر الحديث: (كانت تحت المقداد بن الأسود) . واختلف العلماء فى الاشتراط فى الحج، فأجازه طائفة وأخذوا بهذا الحديث، فالاشتراط أن يقول عند إحرامه: لبيك اللهم بحجة أو حجة وعمرة، إلا أن يمنعنى منه ما لا أقدر معه على النهوض، فيكون محلى حيث حبستنى ولا شىء علىّ. وممن أجاز ذلك عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلى، وابن مسعود، وعمار، وابن عباس، ومن التابعين سعيد بن المسيب، وعروة، وعطاء، وعلقمة، وشريح، وعبيدة، وذكر ذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 185 ابن أبى شيبة، وعبد الرزاق، وقال به بعض أصحاب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وأنكر الاشتراط طائفة أخرى، وقالوا: هو باطل، روى ذلك عن ابن عمر، وعائشة، وهو قول النخعى، والحكم، وطاوس، وسعيد بن جبير، وإليه ذهب مالك، والثورى، وأبو حنيفة، وقالوا: لا ينفعه اشتراط، ويمضى على إحرامه حتى يتمه، وكان ابن عمر ينكر ذلك، ويقول: أليس حسبكم سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه لم يشترط، فإن حبس أحدكم بحابس عن الحج، فليأت البيت فليطف به وبين الصفا والمروة ويحلق أو يقصر، وقد حل من كل شىء حتى يحج قابلاً، ويهدى أو يصوم إن لم يجد هديًا. وأنكر ذلك طاوس، وسعيد بن جبير، وهما رويا الحديث عن ابن عباس، وأنكره الزهرى، وهو روى الحديث عن عروة، وهذا كله مما يوهن الاشتراط. قال المهلب: وفى قوله: (تنكح المرأة لمالها) ، دليل على أن للزوج الاستمتاع بمال الزوجة، وأنه يقصد لذلك، فإن طابت به نفسًا فهو له حلال، وإن منعته فإنما له من ذلك بقدر ما بذل من الصداق. واختلفوا إذا أصدقها وامتنعت الزوجة أن تشترى شيئًا من الجهاز، فقال مالك: ليس لها أن تقضى منه دينها، ولا أن تنفق منه فى غير ما يصلحها لعرسها إلا أن يكون الصداق شيئًا كثيرًا فتنفق منه شيئًا يسيرًا فى دينها. وقال أبو حنيفة، والثورى، والشافعى: لا تجبر على شراء ما لا تريد، والمهر لها تفعل فيه ما شاءت، واحتجوا بإجماعهم أنها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 186 لو ماتت والصداق بحاله أن حكمه كحكم سائر مالها، فإذا كان ذلك حكمه بعد وفاتها، فحكمه كذلك فى حياتها كحكم سائر مالها. وقوله عليه السلام: (تنكح المرأة لمالها) ، يدل على أن للزوج الاستمتاع بمالها والارتفاق بمتاعها، ولولا ذلك لم يفدنا قوله: (تنكح المرأة لمالها) فائدة، ولتساوت الغنية والفقيرة فى قلة الرغبة فيها، فقول مالك أشبه بدليل الحديث. وقوله: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) ، فإن حقيقة هذه اللفظة عند أهل اللغة يراد بها الإخبار عن حلول الفقر. قال ابن السكيت: يقال: تربت يداه، إذا افتقر. وقال أبو عمرو: أصابهما التراب، ولم يدع عليه بالفقر. وقال الأصمعى فى تفسير الحديث: لم يرد النبى (صلى الله عليه وسلم) الدعاء عليه بالفقر، وإنما أراد به الاستحثاث كما يقول الرجل: انخ ثكلتك أمك، إذا استعجلته، وأنت لا تريد أن تثكله أمه. وقال ابن قتيبة: وهذا من باب الدعاء الذى لا يراد به الوقوع، وسأتقصى أقوال أهل اللغة فى هذه الكلمة فى كتاب الأدب فى باب قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (ترتب يمينك) ، و: (عقرى حلقى) ، إن شاء الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 187 - باب مَا يُتَّقَى مِنْ شُؤْمِ الْمَرْأَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) [النساء: 12] الآية / 28 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (الشُّؤْمُ فِى: الْمَرْأَةِ، وَالدَّارِ وَالْفَرَسِ) . وقَالَ ابْن عُمر: ذُكَر الشُّؤْمَ عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِى شَىْءٍ فَفِى: الدَّارِ وَالْمَرأَةِ وَالْفَرَسِ) . / 29 - وفيه: أُسَامَةَ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (مَا تَرَكْتُ بَعْدِى فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ) . قد تقدم الكلام فى معنى أحاديث الشؤم فى كتاب الجهاد فى باب ما يذكر من شؤم الفرس، فأغنى عن إعادته، وسيأتى فى كتاب الطب فى باب الطيرة رد قول من زعم أن أحاديث الشؤم تعارض نهيه، عليه السلام، عن الطيرة، ونفى التعارض عنها، وتوجيهها على ما يليق بها، إن شاء الله. وفى حديث أسامة أن فتنة النساء أعظم الفتن مخافة على العباد؛ لأنه عليه السلام عمم جميع الفتن بقوله: (ما تركت بعدى فتنة أضر على الرجال من النساء) ، ويشهد لصحة هذا الحديث قول الله تعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين) [آل عمران: 14] الآية، فقدم النساء على جميع الشهوات، وقد روى عن بعض أمهات المؤمنين أنها قالت: من شقائنا قدمنا على جميع الشهوات. فالمحنة بالنساء أعظم المحن على قدر الفتنة بهن، وقد أخبر الله مع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 188 ذلك أن منهن لنا عدوًا، فينبغى للمؤمن الاعتصام بالله، والرغبة إليه فى النجاة من فتنتهن، والسلامة من شرهن، وقد روى فى الحديث أنه لما خلق الله المرأة فرح الشيطان فرحًا عظيمًا، وقال: هذه حبالتى التى لا يكاد يخطئنى من نصبتها له. - باب الْحُرَّةِ تَحْتَ الْعَبْدِ / 30 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ فِى بَرِيرَةَ ثَلاثُ سُنَنٍ: عَتَقَتْ فَخُيِّرَتْ، وَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) ، وَدَخَلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَبُرْمَةٌ عَلَى النَّارِ، فَقِيلَ: لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ: (هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ) . أجمع العلماء أن الحرة يجوز لها أن تنكح العبد إذا رضيت به؛ لأن ولدها منه حر تبع لأمه لقوله عليه السلام: (كل ذات رحم فولدها بمنزلتها) ، يعنى فى العتق والرق، وذكر ابن المنذر، عن الشافعى، قال: أصل الكفاءة مستنبط من حديث بريرة وصار زوجها غير كفء لها، فخيرها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وأجمعوا أن الأمة إذا عتقت تحت عبد قد كانت زوجته أن لها الخيار فى البقاء معه أو مفارقته، وإنما كان لها الخيار؛ لأنها إذا حدثت لها الحرية فقد حدث لها حال كمال ترتفع به عن العبد، ونقص الزوج عنها، وأيضًا فإنها حين عقد عليها سيدها لم تكن من أهل الاختيار لنفسها، فجعل لها الاختيار حين صارت أكمل حرمة من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 189 زوجها، فأما إذا كان زوجها حرًا فلا خيار لها عند جمهور العلماء؛ لأنه مساو لها فى حرمتها، فلا فضيلة لها عليه. قال الكوفيون: لها الخيار حرًا كان زوجها أو عبدًا، ورووا عن النخعى، عن الأسود، عن عائشة، أن زوج بريرة كان حرًا، وسيأتى بيان هذه الأقوال فى كتاب الطلاق فى باب التخيير مستوفى، إن شاء الله. - باب لا يَتَزَوَّجُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ لِقَوْلِهِ: (مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) [النساء: 3] وَقَالَ عَلِىُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: يَعْنِى مَثْنَى أَوْ ثُلاثَ أَوْ أربع، وَقَوْلُهُ: (أُولِى أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) [فاطر: 1] مثله. / 31 - فيه: عَائِشَةَ: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى) [النساء: 3] ، قَالَتِ: هى الْيَتِيمَةُ، يَتَزَوَّجُهَا وليها عَلَى مَالِهَا، وَيُسِىءُ صُحْبَتَهَا، وَلا يَعْدِلُ فِى مَالِهَا، فَلْيَتَزَوَّجْ من طَابَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهَا مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ. قال ابن القصار: لا يجوز لأحد أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة فى النكاح، وهو عندنا إجماع. وقال قوم، لا يعدون خلافًا: إنه يجوز الجمع بين تسع، واحتجوا أن معنى قوله تعالى: (مثنى وثلاث ورباع) [النساء: 3] ، يفيد الجمع بين العدد، بدليل أنه عليه السلام مات عن تسع، ولنا فيه الأسوة الحسنة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 190 وحجة الجماعة أن أهل التفسير اتفقوا فى تأويل قوله: (مثنى وثلاث ورباع) [النساء: 3] ، أنه أراد التخيير بين الأعداد الثلاثة لا الجمع من وجهين: أحدهما: أنه لو أراد الجمع بين تسع لم يعدل عن لفظ الاختصار، وكان يقول: فانكحوا تسعًا، والعرب لا تعدل أن تقول: تسعة، وتقول: اثنان وثلاثة وأربعة، فلما قال: (مثنى وثلاث ورباع (صار تقديره: مثنى مثنى، وثلاث ثلاث، ورباع رباع، فيفيد التخيير كقوله تعالى: (أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع) [فاطر: 1] . والوجه الثانى أنه قال: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) [النساء: 3] ، واللغة لا تدفع التخيير بين متباعدين يكون بينهما تفاوت، ولا يجوز أن يقال: فإن خفتم ألا تعدلوا فى التسع فواحدة؛ لأنه يصير بمنزلة من يقول: إن خفت أن تخرج إلى مكة على طريق الكوفة فامض إليها على طريق الأندلس أو الصعيد، وبالقرب من مكة طرق كثيرة لا يخاف منها، فعلم أنه أراد التخيير بين الواحدة والاثنين، وبين الثنتين والثلاث. وأما قولهم: إنه عليه السلام مات عن تسع، ولنا أن نتأسى به، فإننا نقول: إنه كان مخصوصًا بالزيادة عن الأربع كما خص بأن ينكح بغير صداق، وكما خص ألا ينكح أزواجه من بعده وأنه اتفق أن مات عن تسع، وروى أن غيلان بن سلمة أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبى (صلى الله عليه وسلم) : (اختر منهن أربعًا وفارق سائرهن) ، فسقط قولهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 191 بسم الله الرحمن الرحيم 48 - كتاب الرضاع - باب) وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِى أَرْضَعْنَكُمْ) [النساء: 23] وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ / 1 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، كَانَ عِنْدَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِى بَيْتِ حَفْصَةَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِى بَيْتِكَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (أُرَاهُ فُلانًا) - لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ - قَالَتْ عَائِشَةُ: ولَوْ كَانَ فُلانٌ حَيًّا - لِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ دَخَلَ عَلَىَّ؟ - فَقَالَ: (نَعَمْ، الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلادَةُ) . / 2 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قِيلَ لِلنَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، أَلا تَتَزَوَّجُ ابْنَةَ حَمْزَةَ؟ قَالَ: (إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ) . / 3 - وفيه: أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِى سُفْيَانَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْكِحْ أُخْتِى بِنْتَ أَبِى سُفْيَانَ، فَقَالَ: (أَوَتُحِبِّينَ ذَلِكِ) ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِى فِى خَيْرٍ أُخْتِى، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ ذَلِكِ لا يَحِلُّ لِى) ، قُلْتُ: فَإِنَّا نُحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِى سَلَمَةَ، قَالَ: (بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: (لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِى فِى حَجْرِى مَا حَلَّتْ لِى، إِنَّهَا لابْنَةُ أَخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 192 أَرْضَعَتْنِى وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلا تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ) . قَالَ عُرْوَةُ: وثُوَيْبَةُ مَوْلاةٌ لأبِى لَهَبٍ كَانَ أَبُو لَهَبٍ أَعْتَقَهَا، فَأَرْضَعَتِ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ، أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ خِيبَةٍ، قَالَ لَهُ: مَاذَا لَقِيتَ؟ قَالَ: لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ، غَيْرَ أَنِّى سُقِيتُ فِى هَذِهِ بِعَتَاقَتِى ثُوَيْبَةَ. لا خلاف بين الأمة أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ لقوله تعالى: (وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) [النساء: 23] ، فإذا كانت الأم من الرضاع محرمة، كان كذلك زوجها، وصار أبًا لمن أرضعته زوجته؛ لأن اللبن منهما جميعًا، وإذا كان زوج التى أرضعت أبًا كان أخوه عمًا، وكانت أخت المرأة خالة، يحرم من الرضاع العمات، والخالات، والأعمام، والأخوال، والأخوات، وبناتهن، كما يحرم من النسب، هذا معنى قوله عليه السلام: (الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة) . قال ابن المنذر: إذا أرضعت امرأة الرجل جارية حرمت على ابنه، وعلى أبيه، وعلى جده، وعلى بنى بنيه وبنى بناته، وعلى كل ولد ذكر، وولد ولده، وعلى كل جد له من قبل أبيه وأمه، وإذا كان المرضع غلامًا حرم الله عليه ولد المرأة التى أرضعته، وأولاد الرجل الذين أرضع هذا الصبى بلبنه، وهو زوج المرضعة، ولا تحل له عمته من الرضاعة ولا خالته، ولا بنت أخيه ولا بنت أخته من الرضاعة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 193 وأما قوله عليه السلام فى ابنة حمزة: (إنها ابنة أخى من الرضاعة) ، فإن حمزة بن عبد المطلب عم النبى (صلى الله عليه وسلم) أرضعته ثويبة مولاة أبى لهب، ثم أرضعت بعده رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ثم أرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد، هذا قول مصعب الزبيرى، قال: فكان أبو سلمة ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) وحمزة بن عبد المطلب أخوة من الرضاعة. قال ابن إسحاق: وكان حمزة أسن من النبى (صلى الله عليه وسلم) بسنتين، وقيل: بأربع. وأما قول أم حبيبة بنت أبى سفيان بن حرب زوج النبى (صلى الله عليه وسلم) : يا رسول الله، انكح أختى، فإنها لم تعلم أن الجمع بين الأختين حرام، فكذلك قال لها ولسائر نسائه: (لا تعرضن علىّ بناتكن ولا إخواتكن، فإن بناتكن ربائب لى) ، والربيبة حرام مثل الجمع بين الأختين، وأما قوله فى بنت أبى سلمة: (لو لم تكن ربيبتى فى حجرى ما حلت لى) ، من أجل أن أباها أبا سلمة أخو النبى، عليه السلام، من الرضاعة، فكانت بنته حرامًا عليه؛ لأنها ربيبة النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وأنها بنت أخيه من الرضاعة. قال ابن المنذر: ولا بأس أن يتزوج الرجل المرأة التى أرضعت ابنه، وكذلك يتزوج بنت المرأة التى هى رضيعة ابنه، ولأخى هذا الصبى المرضع أن يتزوج المرأة التى أرضعت أخاه، ويتزوج ابنتها التى هى رضيع أخيه، وما أراد من ولدها وولد ولدها، وإنما يحرم نكاحهن على المرضع، وهذا مذهب مالك، والكوفيين، والشافعى، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 194 وأبى ثور. وذكر على بن المدينى، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، أن أبا لهب أعتق جارية يقال لها: ثويبة، وكانت أرضعت النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فرأى أبا لهب بعض أهله فى النوم فسأله، فقال: ما وجدت بعدكم راحة، غير أنى سقيت فى هذه، وأشار إلى النقرة التى تحت إبهامه، بعتقى ثويبة، فبان برواية معمر أنه سقط من رواية البخارى فى هذا الحديث: راحة، بعد قوله: لم ألق بعدكم؛ لأنه لا يتم الكلام على ما رواه البخارى، وكذلك سقط منه: وأشار إلى النقرة التى تحت إبهامه، ولا يقوم معنى الحديث إلا بذلك، ولا أعلم ممن جاء الوهم فيه. وفى هذا الحديث من الفقه: أن الكافر بالله قد يعطى عوضًا من أعماله التى يكون مثلها قربة لأهل الإيمان بالله، وذلك أن أبا لهب أخبر أنه سقى فى النار بعتقه ثويبة فى النقرة التى تحت إبهامه، وكان ذلك تخفيفًا له من العذاب، كما جاء أنه يخفف عن أبى طالب العذاب ويجعل فى ضحضاح من نار يغلى منه دماغه، غير أن التخفيف عن أبى لهب أقل من التخفيف عن أبى طالب؛ لأن أبا لهب كان مؤذيًا للنبى (صلى الله عليه وسلم) ، فلم يقع له التخفيف بعتق ثويبة إلا بمقدار ما تحمل النقرة التى تحت إبهامه من الماء، وخفف عن أبى طالب أكثر من ذلك لنصرته للنبى (صلى الله عليه وسلم) وحياطته له، فدل هذا كله أن التخفيف عنهما مع كفرهما بالله تعالى الذى ماتا عليه كان لأجل ما أوقعاه من القربة وفعل الخير فى حال شركهما، ودل هذا على عظيم تفضل الله على عباده الكافرين. وصح قول من تأول فى معنى الحديث الذى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 195 جاء عن الله تعالى: (أن رحمته سبقت غضبه) ، أن رحمته لا تنقطع عن أهل النار المخلدين فيها، إذ فى قدرته تعالى أن يخلق لهم عذابًا يكون عذاب النار لأهلها رحمة وتخفيفًا بالإضافة إلى ذلك العذاب، وقد جاء فى حديث أبى سعيد الخدرى أن الكافر إذا أسلم يكتب له ثواب أعمال أهل الطاعة، وقد قال عليه السلام: (إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه كتب له كل حسنة عملها، ومحى عنه كل سيئة عملها) ، وقال عليه السلام لحكيم بن حزام: (اسلمت على ما سلف من خير) ، وقد تقدم حديث حكيم بن حزام فى كتاب الزكاة، فى باب من تصدق فى الشرك ثم أسلم، وفى كتاب العتق فى باب من أعتق المشرك، وقد تقدم حديث أبى سعيد الخدرى فى كتاب الإيمان فى باب حسن إسلام المرء، ومر هناك من الكلام ما فيه كفاية. - باب مَنْ قَالَ: لا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) [البقرة: 233] وَمَا يُحَرِّمُ مِنْ قَلِيلِ الرَّضَاعِ وَكَثِيرِهِ / 4 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، دَخَلَ عَلَيْهَا، وَعِنْدَهَا رَجُلٌ، فَكَأَنَّهُ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ، كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: إِنَّهُ أَخِى، فَقَالَ: (انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 196 اتفق أئمة الأمصار على أن رضاع الكبير لا يحرم، وشذ الليث وأهل الظاهر عن الجماعة، وقالوا: إنه يحرم، وذهبوا إلى قول عائشة فى رضاعة سالم مولى أبى حذيفة، وحجة الجماعة قوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) [البقرة: 233] ، فأخبر تعالى أن تمام الرضاعة حولان، فعلم أن ما بعد الحولين ليس برضاع، إذ لو كان ما بعده رضاعًا لم يكن كمال الرضاعة حولين، ويشهد لهذا قوله عليه السلام: (إنما الرضاعة من المجاعة) ، وهذا المعنى لا يقع برضاع الكبير، وقد روى هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أم سلمة، عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء، وكان قبل الفطام) . وأما خبر عائشة فى رضاعة سالم، فلا يخلو أن يكون منسوخًا أو خاصًا لسالم وحده، وقد قالت أم سلمة وسائر أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) : كان رضاع سالم خاصًا له؛ وذلك من أجل التبنى الذى انضاف إليه، ولا يوجد هذا فى غيره، وقد نسخ الله التبنى، فلا ينبغى أن يتعلق به حكم، وقوله تعالى: (حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) [البقرة: 233] ، وقوله عليه السلام: (الرضاعة من المجاعة) ، قاطع للخلاف فى هذه المسألة، وما جعله الله حدًا لتمام فلا مزيد لأحد عليه. قال المهلب: وقوله: (انظرن ما إخوانكن) ، أى ما سبب أخوته، فإن حرمة الرضاع إنما هى فى الصغير حين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 197 تسد الرضاعة المجاعة، لا حين يكون الغذاء يغير الرضاع فى حال الكبر. واختلفوا فى مقدار مدة الرضاع، فقال جمهور العلماء: ما كان فى الحولين فهو يحرم، وما كان بعد الحولين فلا يحرم، روى هذا عن ابن مسعود، وابن عباس، وعن الشعبى، وابن شبرمة، وهو قول الثورى، والأوزاعى، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وهو قول مالك فى الموطأ، وفيها قول ثان: روى الوليد ابن مسلم، عن مالك، أن ما كان بعد الحولين بشهر أو شهرين أو ثلاثة يحرم. وفيها قول ثالث حكى عن أبى حنيفة أن ما كان بعد الحولين بستة أشهر فإنه يحرم. وفيها قول رابع: قال زفر: مادام يجتزئ باللبن ولم يطعم، وإن أتى عليه ثلاث سنين فهو رضاع. والقول قول من قال بالحولين لشهادة كتاب الله وسنة رسوله. روى ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، أن النبى، عليه السلام، قال: (لا رضاع إلا ما كان فى الحولين) ، ودليل آخر وهو قوله تعالى: (وفصاله فى عامين) [لقمان: 14] ، فعلم أن ما بعد الحولين بخلافهما. قال ابن المنذر: والذى يعتمد عليه فى ذلك قوله تعالى: (حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) [البقرة: 233] ، وليس لما بعد التمام حكم. واختلفوا فى مقدار الرضاع الذى تثبت به الحرمة، ولا تجوز الزيادة فيه. قال ابن المنذر: قالت طائفة: يحرم قليل ذلك وكثيره، وهو قول على، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 198 وروى عن سعيد بن المسيب، والحسن، وعطاء، ومكحول، وطاوس، والحكم، وهو قول مالك، والليث، والأوزاعى، والثورى، والكوفيين. وقالت طائفة: لا تحرم الرضعة والرضعتان، وإنما تحرم ثلاث، روى ذلك عن عائشة، وابن الزبير، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، واحتجوا بقوله عليه السلام: (لا تحرم الإملاجة والإملاجتان) . وقالت طائفة: لا يقع التحريم إلا بخمس رضعات مفترقات، روى ذلك عن عائشة، وهو قول الشافعى، وحكى عن إسحاق، واحتجوا بقول عائشة: كان فيما نزل فى القرآن عشر رضعات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهى فيما يقرأ من القرآن. وروى عن عائشة أيضًا أنه لا يحرم إلا سبع رضعات، وروى عنها أنها أمرت أختها أم كلثوم أن ترضع سالم بن عبد الله عشر رضعات ليدخل عليها، وروى مثله عن حفصة أم المؤمنين. وحجة القول الأول قوله تعالى: (وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم) [النساء: 23] ، ولم يخص قليل الرضاع من كثيره، وقد قال العلماء: إن أحاديث عائشة فى الرضاع اضطربت، فوجب تركها والرجوع إلى كتاب الله. قال الطحاوى: وكيف يجوز أن تأمر عائشة بعشر رضعات وهى منسوخة، وتركنا ونأخذ بالخمس الناسخة لها، وحديث الإملاجة والإملاجتين لا يثبت؛ لأنه مرة يرويه ابن الزبير عن النبى، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 199 عليه السلام، ومرة عن عائشة، ومرة عن أبيه، ومثل هذا الاضطراب يسقطه. قال الطحاوى: والنظر فى ذلك أنا رأينا الذى يحرم لا عدد فيه، ويحرم قليله وكثيره، ألا ترى لو أن رجلاً جامع امرأة بنكاح أو ملك مرة واحدة أن ذلك يوجب حرمتها على أبيه وعلى ابنه، ويوجب حرمة أمها وابنتها عليه، فكذلك الرضاع لما كان كثيره يحرم كان قليله فى القياس أيضًا كذلك. 3 - باب لَبَنِ الْفَحْلِ / 5 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِى الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا - وَهُوَ عَمُّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ - بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْحِجَابُ، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِى صَنَعْتُ، فَأَمَرَنِى أَنْ آذَنَ لَهُ. اختلف العلماء فى التحريم بلبن الفحل، فذهبت طائفة إلى أنه يحرم، روى ذلك عن على، وابن عباس، وهو قول عطاء، وطاوس، وإليه ذهب مالك، والأوزاعى، والثورى، والكوفيون، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وذهبت طائفة إلى أن لبن الفحل لا يحرم، قالوا: وإنما يقع التحريم من ناحية المرأة لا من ناحية الرجل، روى هذا عن عائشة، وابن عمر، وابن الزبير، والنخعى، وابن المسيب، والقاسم، وأبى سلمة، وهو مذهب أهل الظاهر، واحتجوا بأن عائشة كان يدخل عليها من أرضعته أخواتها وبنات أخيها، ولا يدخل عليها من أرضعته نساء إخوتها، وحجة الذين رأوا به التحريم حديث أفلح أخى أبى القعيس؛ لأن عائشة كانت رضعت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 200 من امرأة أبى القعيس بلبنه، فصار أبو القعيس أبًا لعائشة، وصار أخوه عمًا لعائشة، فأشكل هذا على عائشة إذ لا رضاعة حقيقة إلا من امرأة؛ لقوله تعالى: (وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) [النساء: 23] ، فلم تر للرجل حكمًا للرضاع، فقالت: يا رسول الله، إنما أرضعتنى المرأة ولم يرضعنى الرجل، فأخبرها النبى (صلى الله عليه وسلم) أن لبن الفحل يحرم بقوله: (إنه عمك فأذنى له) . قال ابن المنذر: والسنة مستغنى بها عما سواها، ومن جهة النظر أن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة جميعًا، فوجب أن يكون الرضاع منهما كما كان الولد لهما وإن اختلف سببهما، كما أن الجد لما كان سببًا فى الولد تعلق تحريم ولد الولد به كتعلقه بولده، كذلك حكم الرجل والمرأة، وقد سُئل ابن عباس عن رجل له امرأتان، فأرضعت إحداهما غلامًا والأخرى جارية، فقال: لا يجوز للغلام أن يتزوج الجارية؛ لأن اللقاح واحد، أى الأمهات وإن افترقن فإن الأب واحد الذى هو سبب اللبن للمرأتين، فالغلام والجارية أخوان لأب من الرضاع. 4 - باب شَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ / 6 - فيه: عُقْبَةَ، قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: أَرْضَعْتُكُمَا، فَأَتَيْتُ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ فُلانَةَ، فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: لِى إِنِّى قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، وَهِىَ كَاذِبَةٌ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 201 فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَأَتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فقُلْتُ: إِنَّهَا كَاذِبَةٌ، قَالَ: (كَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا؟ دَعْهَا عَنْكَ) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فقالت طائفة: يجوز شهادة امرأة واحدة فى الرضاع إذا كانت مرضية، وتستحلف مع شهادتها، روى ذلك عن ابن عباس، وطاوس، وهو قول الزهرى، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بقوله عليه السلام: (كيف وقد قيل) ، ونهيه عنها، وذكر عن الأوزاعى أنه إنما أجاز شهادة امرأة واحدة فى ذلك إذا شهدت قبل أن يتزوجها، وأما بعد أن يتزوجها فلا يجيز شهادتها. وقالت طائفة: لا يقبل فى ذلك إلا رجلان أو رجل وامرأتان، روى ذلك عن عمر ابن الخطاب، وهو قول الكوفيين. وقال مالك: تقبل فى ذلك شهادة امرأتين دون رجل، وبه قال الحكم، قال مالك: إذا كان ذلك قد فشا وعرف من قولهما، هذه رواية ابن القاسم، وروى عنه ابن وهب أنه تقبل شهادة امرأتين، وإن لم يفش ذلك من قولهما. وقالت طائفة: لا يقبل فى ذلك أقل من أربع نسوة، روى ذلك عن عطاء، والشعبى، وهو قول الشافعى، قال: ولو شهد فى ذلك رجلان أو رجل وامرأتان لجاز، وتأول أهل هذه المقالات غير أهل المقالة الأولى أن قوله عليه السلام: (كيف وقد قيل) ، إنما هو على وجه التنزه والتورع، لا على الإيجاب، وروى ابن مهدى، و الجزء: 7 ¦ الصفحة: 202 حفص بن غياث، عن حذلم العبسى، عن رجل من بنى عبس، قال: سألت عليًّا وابن عباس عن رجل تزوج امرأة، فجاءت امرأة فزعمت أنها أرضعتهما، فقالا: إن يتنزه عنها فهو خير، وأما أن يحرمها عليه أحد فلا. وقال زيد بن أسلم: إن عمر بن الخطاب لم يجز شهادة امرأة واحدة فى الرضاع، وأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أخبر عن رضاع امرأة فتبسم، وقال: (كيف وقد قيل) . 5 - باب مَا يَحِلُّ مِنَ النِّسَاءِ وَمَا يَحْرُمُ وَقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) [النساء: 23] الآية، وقَوْله تَعَالَى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النساء: 24] الآية. وَقَالَ أَنَسٌ: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ (: ذَوَاتُ الأزْوَاجِ الْحَرَائِرُ حَرَامٌ) إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (: لا نَرَى بَأْسًا أَنْ يَنْزِعَ الرَّجُلُ أمته مِنْ عَبْدِهِ. وَقَالَ: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) [البقرة: 221] ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعٍ، فَهُوَ حَرَامٌ، كَأُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ. / 7 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: حَرُمَ مِنَ النَّسَبِ سَبْعٌ، وَمِنَ الصِّهْرِ سَبْعٌ، ثُمَّ قَرَأَ: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ (الآيَةَ. وَجَمَعَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِىٍّ بَيْنَ ابْنَتَىْ عَمٍّ فِى لَيْلَةٍ. وَجَمَعَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بَيْنَ ابْنَةِ عَلِىٍّ وَامْرَأَةِ عَلِىٍّ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لا بَأْسَ بِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 203 وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ مَرَّةً، ثُمَّ قَالَ: لا بَأْسَ بِهِ. وَكَرِهَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ لِلْقَطِيعَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) [النساء: 24] . وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا زَنَى بِأُخْتِ امْرَأَتِهِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا زَنَى بِهَا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى نَصْرٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَرَّمَهُ، وَأَبُو نَصْرٍ هَذَا لَمْ يُعْرَفْ سَمَاعِهِ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَيُرْوَى عَنْ يَحْيَى الْكِنْدِىِّ، عَنِ الشَّعْبِىِّ وأَبِى جَعْفَرٍ فِيمَنْ يَلْعَبُ بِالصَّبِىِّ: إِنْ أَدْخَلَهُ فِيهِ فَلا يَتَزَوَّجَنَّ أُمَّهُ، وَيَحْيَى هَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ. وَيُرْوَى عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَجَابِرِ ابْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ، وَبَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ تَحْرُمُ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لا تَحْرُمُ حَتَّى يُلْزِقَ بِالأرْضِ، يَعْنِى تُجَامِعَ، وَجَوَّزَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ وَالزُّهْرِىُّ، وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: قَالَ عَلِىٌّ: لا تَحْرُمُ، وَهَذَا مُرْسَلٌ. قال المؤلف: الرواية ثابتة عن ابن عباس أن السبع المحرمات بالنسب الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت، والسبع المحرمات بالصهر والرضاع الأمهات من الرضاعة، والأخوات من الرضاعة، وأمهات النساء، والربائب، وحلائل الأبناء، والجمع بين الأختين، والسابعة: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) [النساء: 22] . قال الطحاوى: وقوله: (حرمت عليكم أمهاتكم) [النساء: 23] ، المراد به الوالدات ومن فوقهن من الجدات من قبل الأمهات ومن قبل الآباء، وقوله: (وبناتكم) [النساء: 23] المراد البنات للأصلاب ومن أسفل منهن من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 204 بنات الأبناء، ومن بنات البنات وإن سفلن، وقوله: (وأخواتكم) [النساء: 23] ، المراد بذلك الأخوات من الآباء والأمهات، ومن الآباء ومن الأمهات، وقوله: (وعماتكم) [النساء: 23] ، المراد به العمات أخوات الآباء من الآباء والأمهات ومن الآباء ومن الأمهات، وكذلك أخوات الأجداد من كل واحدة من الجهات الثلاث وإن علون،) وخالاتكم) [النساء: 23] ، المراد بذلك أخوات الأمهات الوالدات لآبائهن وأمهاتهن، ولآبائهن ولأمهاتهن أخوات الجدات كأخوات الأمهات فى الحرمات؛ لأنه إذا كان لهن حكم الأمهات كان أيضًا لأخواتهن حكم أخوات الأمهات.) وبنات الأخ) [النساء: 23] ، المراد بذلك بنات الأخ من الأب والأم ومن الأب ومن الأم، ومن الأم وبنات بنيهم، وبنات بناتهن وإن سفلن،) وبنات الأخت) [النساء: 23] ، كذلك أيضًا من أى جهة كن وأولادهن وأولاد أولادهن وإن سفلن. وقوله يعنى: (وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم) [النساء: 23] ، فكان هذا على الأم المرضعة وعلى من فوقها من أمهاتها وإن بعدن، وقام ذلك مقام الأم الوالدة ومقام أمهاتها، وكذلك حكم الأخوات من الرضاعة حكم اللواتى من النسب، وتحرم زوجة الرجل على أبيه وعلى ابنه دخل بها أو لم يدخل، وعلى أجداده وعلى ولد ولده الذكور والإناث، ولا تحل لبنى بنيه ولا لبنى بناته ما تناسلوا؛ لقوله: (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) [النساء: 23] ، ولقوله: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) [النساء: 22] ، ولم يذكر تعالى دخولاً، فصارتا محرمتين بالعقد، والملك والرضاع فى ذلك بمنزلة النسب، والمراد بقوله: (ما نكح آباؤكم (، آباء الآباء، وآباء الأمهات ومن فوقهم من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 205 الأجداد، وكل هذا من المحكم المتفق على تأويله، وغير جائز نكاح واحدة منهن بإجماع إلا أمهات النساء اللواتى لم يدخل بهن أزواجهن، فإن بعض السلف اختلفوا إذا بانت الابنة قبل الدخول بها هل تحرم أمها أم لا، فذهب جمهور السلف إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم، وبهذا قال جميع أئمة الفتوى بالأمصار. وقالت طائفة من السلف: الأم والربيبة سواء لا تحرم منهما واحدة إلا بالدخول بالأخرى، وتأولوا القرآن على غير تأويله، فقالوا: المعنى وأمهات نسائكم اللاتى دخلتم بهن وربائبكم اللاتى فى حجوركم من نسائكم اللاتى دخلتم بهن، وزعموا أن شرط الدخول راجع إلى الأمهات والربائب جميعًا، روى هذا القول خلاس، عن على بن أبى طالب، ورواية عن ابن عباس، وزيد بن ثابت، وهو قول ابن الزبير، ومجاهد لم يختلف عنهما. وهذا قول لم يقل به أحد من أئمة الفتوى، وحديث خلاس عن على لا تقوم به حجة؛ لأنه لا يصحح روايته أهل العلم بالحديث، والصحيح عن ابن عباس مثل قول الجماعة، روى سعيد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس فى قوله: (وأمهات نسائكم) [النساء: 23] ، قال: هى مبهمة لا تحل بالعقد على الابنة، وكذلك روى مالك، عن يحيى بن سعيد، أنه قال: سُئل زيد بن ثابت عن رجل تزوج امرأة ثم فارقها قبل أن يصيبها، هل تحل له أمها؟ فقال زيد بن ثابت: لا، الأم مبهمة وإنما الشرط فى الربائب، وهذا الصحيح عن زيد ابن ثابت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 206 قال ابن المنذر: وهذا هو الصحيح، لدخول جميع أمهات النساء فى قوله: (وأمهات نسائكم) [النساء: 23] ، وحجة أهل هذه المقالة أن الاستثناء راجع إلى الربائب؛ لأنهن أقرب مذكور، ولا يرجع إلى أمهات النساء، والدليل على ذلك من طريق العربية من وجهين: أحدهما: أن العرب تحمل الوصف على أقرب الموصوفين دون أن تحمله على أبعدهما أو أن تشرك بينهما فيه، فتقول: هذا جحر ضب خرب وهو لحن؛ لأن الضب ليس بالخرب، وإنما هو الجحر قصد إلى جرى الكلام على طريقة واحدة. والثانى: أن الخبرين إذا اختلفا لم يكن نعتهما واحدًا، لا يجيز النحويون: مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات على أن تكون الظريفات نعتًا لنسائك ونساء زيد. واختلف أهل التأويل فى قوله: (والمحصنات من النساء) [النساء: 24] ، فقالت طائفة: المحصنات فى هذه الآية كل أمة ذات زوج من المسلمين والمشركين حرام على غير أزواجهن، إلا أن تكون مملوكة اشتراها مشتر من مولاها فتحل له ويبطل بيع سيدها إياها النكاح بينها وبين زوجها، روى هذا القول عن ابن مسعود، وأبى بن كعب، وجابر، وأنس، وقالوا: بيع الأمة طلاق لها، وهو قول النخعى، وابن المسيب، والحسن. وقالت طائفة: المحصنات فى هذه الآية ذوات الأزواج المستثنيات منهن بملك اليمين هن السبايا اللواتى فرق بينهن وبين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 207 أزواجهن السبى، فحللن لمن صرن له بملك اليمين من غير طلاق كان من زوجها لها، روى هذا عن ابن عباس، قال: كل ذات زوج إتيانها زنا إلا ما سبيت، وهو قول زيد بن أسلم ومكحول. وقالوا: إن هذه الآية نزلت فى سبى أوطاس، وقالوا: ليس بيع الأمة طلاقها، وإن الآية نزلت فى السبايا خاصة، وبهذا قال مالك، والكوفيون، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واحتجوا بحديث بريرة، قالوا: ولو كان بيع الأمة طلاقها ما خيرت. قال الطحاوى: والقياس يوجب فساد قول من جعل بيع الأمة طلاقها؛ لأنه لا فعل للزوج فى ذلك ولا سبب له، والطلاق لا يقع إلا من الأزواج. وقال آخرون: بل المحصنات فى الآية وإن كن ذوات الأزواج، فإنه تدخل فى ذلك محصنة عفيفة ذات زوج وغير ذات زوج، مسلمة أو كتابية فى أن الله حرم الزنا بهن وأباحهن بالنكاح أو الملك، روى هذا عن على، وابن عباس، ومجاهد، وهو معنى قول ابن المسيب، ويرجع ذلك إلى أن الله حرم الزنا، ومعنى الآية عندهم) إلا ما ملكت أيمانكم) [النساء: 24] ، يعنى تملكون عصمتهن بالنكاح، وتملكون الرقبة بالشراء. وأما قوله: وجمع عبد الله بن جعفر بين بنت على وامرأة على، فإنما فعل ذلك؛ لأن الابنة كانت من غير تلك المرأة، وهذا جائز عند مالك، والثورى، وأبى حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 208 وأبى ثور؛ لأنه إنما حرم على الرجل أن يتزوج المرأة وابنتها، وليس بحرام عليه أن يتزوج المرأة وربيبتها، لا فى كتاب الله ولا فى سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، بل هما داخلتان فى جملة قوله: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) [النساء: 24] ، وفى قوله: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) [النساء: 3] . وقال ابن أبى ليلى: لا يجوز هذا النكاح، وكرهه الحسن وعكرمة. قال ابن المنذر: وقد ثبت رجوع الحسن عنه، وحجة الذين كرهوه ولم يجيزوه ما أصله العلماء فى معنى الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها. قال الشعبى: انظر فكل امرأتين لو كانت إحداهما رجلاً لم يجز له نكاح الأخرى، فلا يجوز الجمع بينهما، قيل له: عمن؟ قال: عن أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) . وقال الثورى: تفسير هذا أن يكون من النسب وليس بين امرأة الرجل وابنته من غيرها نسب يجمعهما، فلذلك يجوز الجمع بينهما، وعلى هذا التفسير جماعة الفقهاء، وكذلك أجاز أكثر العلماء أن تنكح المرأة وتنكح ابنة ابنتها من غيره، وكره ذلك طاوس ومجاهد. وأما الجمع بين ابنتى العم، فكرهه مالك، وليس بحرام عنده، وهو قول عطاء، وجابر ابن زيد، قالا: إنما كره ذلك للقطيعة وفساد ما بينهما، ورخص فيه أكثر العلماء. قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدًا أبطل هذا النكاح وهما داخلتان فى جملة ما أبيح بالنكاح غير خارجتين منه بكتاب ولا سنة ولا إجماع، وكذلك معنى الجمع بين ابنتى عم وعمة، أو بين ابنتى خال وخالة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 209 وقول ابن عباس: إذا زنى بأخت امرأته لم تحرم عليه امرأته، فهو قول أكثر العلماء، وإنما حرم الله الجمع بين الأختين بالنكاح خاصة لا بالزنا، ألا ترى أنه يجوز نكاح واحدة بعد أخرى من الأختين ولا يجوز ذلك فى المرأة وابنتها. واختلفوا إذا زنى بالأم، هل تحرم عليه الابنة أو إذا زنى بالابنة هل تحرم عليه الأم؟ فقال الكوفيون، والثورى، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق: إذا زنى بامرأة حرمت عليه أمها وابنتها، وهذه رواية ابن القاسم عن مالك فى المدونة، وقالوا: الحرام يحرم الحلال. وقالت طائفة: لا يحرم الحرام الحلال، روى ذلك عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعروة، وربيعة، والليث، وهو قول مالك فى الموطأ، وبه قال الشافعى، وأبو ثور، وحجة هذا القول أنه لما ارتفع الصداق فى الزنا ووجوب العدة والميراث ولحوق الولد ووجوب الحد ارتفع أن يحكم له بحكم النكاح الجائز، ورخص أكثر العلماء فى تزويج المرأة التى زنى بها، وشبه ابن عباس ذلك برجل يسرق ثمر النخلة فيأكلها ثم يشتريها، وكره ذلك ابن مسعود، وعائشة، والبراء، وقالوا: لا يزالان زانيين ما اجتمعا. وأما تحريم النكاح باللواط، فإن أصحاب مالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وغيرهم لا يحرمون النكاح باللواط، وقال الثورى: إذا لعب بالصبى حرمت عليه أمه، وهو قول أحمد بن حنبل، قال: إذا تلوط بابن امرأته، أو أبيها، أو أخيها، حرمت عليه امرأته. وقال الأوزاعى: إذا لاط غلام بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 210 أن يتزوجها؛ لأنها بنت من قد دخل هو به، وهو قول أحمد بن حنبل. 6 - باب قَوْلِهِ تَعَالَى) وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِى فِى حُجُورِكُمْ) [النساء: 23] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الدُّخُولُ وَالْمَسِيسُ وَاللِّمَاسُ هُوَ الْجِمَاعُ. وَمَنْ قَالَ: بَنَاتُ وَلَدِهَا مِنْ بَنَاتِهِ فِى التَّحْرِيمِ، لِقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لأمِّ حَبِيبَةَ: لا تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ، وَكَذَلِكَ حَلائِلُ وَلَدِ الأبْنَاءِ هُنَّ حَلائِلُ الأبْنَاءِ، وَهَلْ تُسَمَّى الرَّبِيبَةَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِى حَجْرِهِ، وَدَفَعَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، رَبِيبَةً لَهُ إِلَى مَنْ يَكْفُلُهَا، وَسَمَّى النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، ابْنَ ابْنَتِهِ ابْنًا. / 8 - فيه: أُمِّ حَبِيبَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لَكَ فِى بِنْتِ أَبِى سُفْيَانَ؟ قَالَ: (فَأَفْعَلُ مَاذَا) ؟ قُلْتُ: تَنْكِحُ، قَالَ: (أَتُحِبِّينَ) ؟ قُلْتُ: لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَرِكَنِى فِى خَيْرٍ أُخْتِى، قَالَ: (إِنَّهَا لا تَحِلُّ لِى) ، قُلْتُ: بَلَغَنِى أَنَّكَ تَخْطُبُ، قَالَ: (ابْنَةَ أُمِّ سَلَمَةَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِى فى حَجْرِى مَا حَلَّتْ لِى، أَرْضَعَتْنِى وَأَبَاهَا ثُوَيْبَةُ، فَلا تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ) . اختلف العلماء فى معنى الدخول بالأمهات الذى يقع به تحريم نكاح الربائب، فروى عن ابن عباس أنه قال: الدخول الجماع، وهو قول طاوس، ولم يقل بهذا أحد من الفقهاء، واتفق الفقهاء أنه إذا لمسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها، ثم اختلفوا فى النظر، فقال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 211 مالك: إذا نظر إلى شعرها أو صدرها أو شىء من محاسنها بلذة، حرمت عليه أمها وابنتها. وقال الكوفيون: إذا نظر إلى فرجها بشهوة كان بمنزلة اللمس بشهوة. وقال ابن أبى ليلى: لا تحرم بالنظر حتى يلمس، وهو قول الشافعى، وقد روى التحريم بالنظر عن مسروق، والتحريم باللمس عن النخعى، والقاسم، ومجاهد، وأجمع الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم، وإن لم تكن الربيبة فى حجره. وشذ أهل الظاهر عن جماعة الفقهاء، وقالوا: لا تحرم عليه الربيبة إلا أن تكون فى حجره، واحتجوا بقوله تعالى: (وربائبكم اللاتى فى حجوركم) [النساء: 23] الآية، قالوا: تحريم الربيبة بشرطين: أحدهما: أن تكون فى حجره، والآخر: أن تكون أمها قد دخل بها، فإذا عدم أحد الشرطين، لم يوجد التحريم، قالوا: لأن الزوج إنما جعل محرمًا لها من أجل ما يلحق من المشقة فى استتارها عنه، وهذا المعنى لا يوجد إلا إذا كانت فى حجره. واحتجوا بقوله عليه السلام: (لو لم تكن ربيبتى فى حجرى) ، فشرط الحجر، ورووا عن على بن أبى طالب إجازة ذلك. وقال ابن المنذر والطحاوى: فأما الحديث عن على، فلا يثبت؛ لأن راويه إبراهيم، عن عبيد، عن مالك بن أوس، عن على، وإبراهيم هذا لا يعرف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 212 وأكثر أهل العلم قد تلقوه بالدفع والخلاف، واحتجوا فى دفعه بقوله عليه السلام: (فلا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكن) ، فدل ذلك على انتفائه. قال أبو عبيد: ويدفعه قوله: (لا تعرضن على بناتكن) فعمهن، ولم يقل: اللاتى فى حجرى، ولكنه سوى بينهن فى التحريم. قال المهلب: وإضافته عليه السلام إياهن إلى الحجور، إنما هو على الأغلب مما تكون عليه الربائب لا أنهن لا يحرمن إذا لم يكن كذلك، وقوله تعالى لنبيه: (يا أيها النبى إنا أحللنا لك أزواجك اللاتى آتيت أجورهن) [الأحزاب: 50] ، وإنما أحلهن له بعقد نكاحهن عليه لا بإتيانه إياهن أجورهن؛ لأنه معقول فيهن أنه لو طلقهن بعد عقدة نكاحهن ولم يؤتهن أجورهن أن الطلاق واقع عليهن، كما قال: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة) [البقرة: 236] ، فأثبت الله نكاحهن، وإن كن لم يؤتهن أجورهن، فعلمنا بذلك أن أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما حللن له بعقد النكاح وإتيان الأجور وعقلنا بذلك أن قوله تعالى: (اللاتى آتيت أجورهن) [الأحزاب: 50] ، إنما هو على وصف الأغلب مما تكون عليه الزوجات. وكذلك قوله تعالى: (وربائبكم اللاتى فى حجوركم) [النساء: 23] ، إنما هو على التحريم بالسبب الذى كن به ربائب، ووصفهن بالإضافة إلى الحجور؛ لأنه الأغلب مما تكون عليه الربائب مع أزواج أمهاتهن. قال: والقياس يوجب هذا؛ لأنه لا يكون التحريم بشيئين إلا ولكل واحد منهما إذا انفرد حكم، فلذلك جعلنا التحريم فى الربائب بالسبب الذى صرن به ربائب لا بما سواه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 213 قال ابن القصار: وحجة الجماعة أنه لا تأثير للحجر فى التحريم ولا فى الإباحة، بدليل أن الأخت والعمة والخالة لما حرمن عليه لم يفترق الحكم بين أن يكونوا فى حجره أم لا، ولو كان الحجر شرطًا فى التحريم لوجب إذا ارتفع أن يرتفع التحريم، فلما رأينا التحريم قائمًا، وقد زال الحجر بموت أمها أو طلاقها، علمنا أن لا اعتبار بالحجر، ألا ترى أن بنت أم سلمة لم تكن فى حجره، عليه السلام، ولا ربيت فيه قبل نكاحه بأم سلمة. ويشهد لهذا أنه لو وطئ الأم بملك اليمين لحرمت عليه البنت، سواء كانت فى حجره أم لا، وكل امرأة حرمت عليك فابنتها حرام عليك إلا أربعًا بنت العمة، وبنت الخالة، وبنت حليلة الابن، وبنت حليلة الأب. 7 - باب) وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ) [النساء: 23] / 9 - فيه: أُمَّ حَبِيبَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْكِحْ أُخْتِى بِنْتَ أَبِى سُفْيَانَ، قَالَ: (وَتُحِبِّينَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِى فِى خَيْرٍ أُخْتِى، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (إِنَّ ذَلِكِ لا يَحِلُّ لِى، فَلا تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ) . وأجمع العلماء على أنه لا يجوز جمع نكاح الأختين فى عقد واحد؛ لقوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين) [النساء: 23] ، وأن ذلك جمع بينهما، وأن ذلك حرام متفق على مراد الله تعالى فى الآية، ولقوله عليه السلام: (لا تعرضن على أخواتكن) ، فإنه لا يجوز الجمع بين الأختين، واختلفوا فى الأختين بملك اليمين، فذهب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 214 كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما بالملك فى الوطء، وإن كان يجوز الجمع بينهما، فإن الوطء فى الإماء نظير عقد النكاح فى الحرائر، وشذ أهل الظاهر، فقالوا: يجوز الجمع بينهما فى الوطء كما يجوز الجمع بينهما فى الملك، وقالوا: إن قوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين) [النساء: 23] عائد إلى المنكوحات؛ لأنه قدم ذكر المحرمات بالنكاح، ثم عطف عليهن بذكر الأختين، واحتجوا بما روى عن عثمان بن عفان أنه قال فى الأختين من ملك اليمين: حرمتهما آية، وأحلتهما آية. وذكر الطحاوى، عن على، رضى الله عنه، وابن عباس مثل قول عثمان، والآية التى أحلتهما قوله: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) [النساء: 24] ، ولم يلتفت أحد من أئمة الفتوى إلى هذا القول؛ لأنهم فهموا من تأويل كتاب الله خلافه، ولا يجوز عليهم تحريف التأويل، وممن قال ذلك من الصحابة عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وعمار بن ياسر، وابن عمر، وعائشة، وابن الزبير، وقال على: لو كان الأمر إلىّ ورأيت أحدًا يفعله جعلته نكالاً، وهؤلاء أهل العلم بكتاب الله والمعرفة بكلام العرب، فمن خالفهم متعسف فى التأويل متبع غير سبيل المؤمنين. وأما قولهم: إن قوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين) [النساء: 23] عائد إلى المنكوحات، فإنه لا يمتنع أن يكون أول الآية خاصًا وآخرها عامًا، ألا ترى أن فى أول الآيات تحريم الأمهات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 215 والبنات اللواتى لا يستقر الملك عليهن بالشراء، وبعد ذلك فيهما ذكر العمات والخلات اللواتى يستقر الملك عليهن، فكذلك الجمع بين الأختين فى النكاح والوطء بالملك. وقال الطحاوى: لما اختلفوا فى ذلك نظرنا كيف هو، فرأينا الله قد حرم فى هذه الآية الأمهات والبنات إلى قوله: (وحلائل أبنائكم) [النساء: 23] ، فكأن هؤلاء جميعًا محرمات فى ملك اليمين كما هن محرمات فى النكاح، واختلفوا فى الأختين بملك اليمين، فالقياس على ذلك أن تكونا محرمتين فى ملك اليمين، وأن يكون حكمهما كحكمهما فى النكاح، وهذا هو القياس. 8 - باب (لا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا / 10 - فيه: جَابِر، نَهَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا. / 11 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، مثله. وزاد الزهرى: فَنُرَى خَالَةَ أَبِيهَا بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ؛ لأنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَنِى عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: حَرِّمُوا مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ. أجمع العلماء أنه لا يجوز الجمع بين المرأة وعمتها وإن علت، ولا بين المرأة وخالتها وإن علت. وقال عبد الملك بن حبيب: ولا يجمع بين المرأة وعمة عمتها وعمة أبيها وخالة أبيها، وكذلك المرأة وخالتها وخالة خالتها وخالة أمها وعمة أمها. قال عبد الملك: وأما خالة عمتها، فإن ابن الماجشون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 216 قال لى: إن تكن أم العمة وأم الأب واحدة فهى كالخالة، فإنها خالة أبيها، وإن تكن أمها غير أم الأب، فلا بأس بالجمع بينهما إنما هى امرأة أجنبية، ألا ترى أن أباها ينكحها. قال غيره: إنما ينكح خالة العمة أخو العمة؛ لأنها أخت خالته لأب، والخئولة إنما تحرم من قبل الأم، فإذا كانت من قبل الأب فلا حرمة لها كرجل له أخ لأب، وله أخت لأم، فيجوز أن يتزوج كل واحد منهما بالآخر؛ لأنهما لا يجتمعان لا إلى الأب ولا إلى الأم. قال ابن الماجشون: وأما عمة خالتها، فإن تلك خالتها أخت أمها لأبيها، فإن عمة خالتها عمة أمها، فلا يجتمعان، ألا ترى أنه لو كان فى موضعها رجل لم تحل له، وإن كانت خالتها أخت أمها لأمها دون أبيها فلا بأس أن يجمع بينها وبين عمة خالتها لأبيها؛ لأنها منهما أجنبية لو كانت إحداهما رجلاً حلت له الأخرى. قال ابن المنذر: ولست أعلم فى تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها خلافًا إلا فرقة من الخوارج، وإذا ثبت الشىء بالسنة، وأجمع أهل العلم عليه لم يضر خلاف من خالفه. وأما قول الزهرى: فنرى خالة أبيها بتلك المنزلة؛ لأن عروة حدثنى عن عائشة، قالت: حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب، فلا حاجة إلى تشبيهها بما حرم بالرضاع، فهو استدلال غير صحيح من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 217 الزهرى؛ لأنه استدل على تحريم من حرمت بالنسب بتحريم من حرمت بالرضاع. قال ابن المنذر: ويدخل فى معنى هذا الحديث تحريم نكاح الرجل المرأة على عمتها من الرضاعة وخالتها من الرضاعة؛ لقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) . 9 - باب الشِّغَارِ / 12 - فيه: ابْن عُمَرَ، نَهَى النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، عَنِ الشِّغَارِ. وَالشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآخَرُ ابْنَتَهُ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ. وتفسير الشغار فى اللغة، قال أبو زيد: شغر الكلب يشغر شغرًا، رفع رجله، بال أو لم يبل. وقال صاحب العين: شغر الكلب: رفع إحدى رجليه ليبول. وقال أبو زيد: شغرت بالمرأة شغورًا، رفعت رجلها عند الجماع. ومعناه فى الشريعة أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته لا صداق بينهما، وإنما هو البضع بالبضع. وقال ابن قتيبة: وكل واحد منهما يشغر إذا نكح، وأصل الشغار للكلب، إذا رفع إحدى رجليه ليبول، فكنى بهذا عن النكاح إذا كان على هذا الوجه وجعل له علمًا. واختلف العلماء فيه: إذا وقع، فقال مالك والشافعى: لا يصح نكاح الشغار دخل بها أو لم يدخل ويفسخ أبدًا، وهو قول أبى عبيد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 218 وقالت طائفة: النكاح جائز، ولكل واحدة منهما صداق مثلها، هذا قول عطاء، ومكحول، والزهرى، وإليه ذهب الليث، والثورى، والكوفيون، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. قال ابن المنذر: وفيها قول ثالث، وهو إن لم يدخل بالمرأتين فسخ النكاح، وإن دخل بهما فلهما مهر مثلهما، وهو قول الأوزاعى. وحجة الذين قالوا: العقد فى الشغار صحيح والمهر فاسد ويصح بمهر المثل، إجماع العلماء على أن الخمر والخنزير لا يكون منهما مهر لمسلم، وكذلك الغرر والمجهول، وسائر ما نهى عن ملكه أو تملك على غير وجهه وسنته. وأجمعوا مع ذلك أن النكاح على المهر الفاسد إذا فات بالدخول، فلا يفسخ بفساد صداقه، ويكون فيه مهر المثل ولو لم يكن نكاحًا منعقدًا حلالاً ما صار نكاحًا بالدخول، والأصل فى ذلك أن التزويج مضمن بنفسه لا بالعوض فيه بدليل تجويز الله تعالى النكاح بغير صداق بقوله: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة) [البقرة: 236] ، فلما أوقع الطلاق دل على صحة النكاح دون تسمية صداق؛ لأن الطلاق غير واقع إلا على الزوجات، وكونهن زوجات دليل على صحة النكاح بغير تسمية. وحجة الذين أبطلوا النكاح ظاهر نهى النبى، عليه السلام، عن نكاح الشغار، والنهى يقتضى تحريم المنهى عنه وفساده. قال ابن المنذر: ودل نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن الشغار على إغفال من زعم أنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 219 يجعل ما أباحه الله فى كتابه من عقد النكاح على غير صداق معلوم قياسًا على ما نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) من الشغار ولا يشبه ما نهى الله عنه بما أباحه وهذه غفلة. واختلفوا فى إذا قال: أزوجك أختى على أن تزوجنى أختك على أن يسميا لكل واحدة منهما مهرًا، أو يسمياه لإحداهما، فقالت طائفة: ليس هذا بالشغار المنهى عنه والنكاح ثابت والمهر فاسد، ولكل واحدة منهما مهمر مثلها ما إن دخل بها أو ماتت أو مات عنها، أو نصفه إن طلقها قبل الدخول بها، هذا قول الشافعى، وابن القاسم، وكرهه مالك، ورآه من باب الشغار، وأجازه الكوفيون، ولها ما يسمى لها. وقال أحمد ابن حنبل: إذا كان فى الشغار صداق فليس بشغار. - باب هَلْ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لأحَدٍ؟ / 13 - فيه: خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ، أَنها كانت مِنَ اللائِى وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِلنَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا تَسْتَحِى الْمَرْأَةُ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لِلرَّجُلِ؟ فَلَمَّا نَزَلَتْ: (تُرْجِىُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ) [الأحزاب: 51] فقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَرَى رَبَّكَ إِلا يُسَارِعُ فِى هَوَاكَ. قال ابن القاسم، عن مالك: الموهوبة خاصة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يحل لأحد بعده أن يتزوج بغير صداق؛ لقوله تعالى: (خالصة لك من دون المؤمنين) [الأحزاب: 50] ، ولا خلاف فى هذا بين العلماء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 220 واختلفوا فى عقد النكاح، هل يصح بلفظ الهبة مثل أن يقول الرجل: قد وهبت لك ابنتى أو وليتى، ويسمى صداقًا أو لم يسم، وهو يريد بذلك النكاح، فقال ابن القاسم: هو عندى جائز كالبيع عند مالك؛ لأن من قال: أهب لك هذه السلعة على أن تعطينى كذا وكذا، فهو بيع. وقال ابن المواز: لم يختلف مالك وأصحابه إذا تزوج على الهبة أنه يفسخ قبل البناء، واختلفوا إذا دخل بها، فقال ابن القاسم وعبد الملك: لا يفسخ ولها صداق المثل، وبهذا قال أبو حنيفة، والثورى. وقال أشهب، وابن عبد الحكم، وابن وهب، وأصبغ: أنه يفسخ وإن دخل. قال أصبغ: لأن فساده فى البضع، وبهذا قال الشافعى، قال: لا يصح النكاح بلفظ الهبة ولا ينعقد عنده إلا بأحد لفظين إما: قد أنكحتك أو زوجتك، وهو قول المغيرة، وابن دينار، وأبى ثور. وحجة من قال: لا يصح بلفظ الهبة، أن الله تعالى جعل انعقاد النكاح بلفظ الهبة خاصًا للنبى، عليه السلام، فلو انعقد نكاح به لم يقع الخصوص، ولما أجمعوا أنه لا تنعقد هبة بلفظ نكاح، كذلك لا ينعقد نكاح بلفظ هبة، وأيضًا فإن الهبة لا تتضمن العوض فوجب ألا ينعقد به النكاح كالإحلال والإباحة. قال ابن القصار: واحتج أهل المقالة الأولى بأن التى وهبت نفسها للنبى، عليه السلام، إنما قصدت بلفظ الهبة التزويج برسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ولم يقل عليه السلام أن النكاح بهذا اللفظ لا ينعقد، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 221 وقولهم: إن لفظ الهبة خاص للنبى، عليه السلام، فإننا نقول: إن الخصوصية له أنه بلا مهر، وليس ذلك لغيره. وقولهم: أنه لما لم تنعقد هبة بلفظ نكاح، فكذلك لا ينعقد نكاح بلفظ هبة، فالفرق بينهما أنه إذا قال: أنكحتك مملوكتى، فلا يفهم منه أنه وهبها، ولا يقع بذلك تمليك، والهية يقع بها التمليك فافترقا. وقولهم: إن الهبة لا تتضمن العوض، فإنه يبطل بقوله: قد زوجتك على ألا مهر، فالنكاح ينعقد عندهم، ولفظ الهبة إذا قصد بها النكاح يتضمن العوض؛ لقوله: (خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم فى أزواجهم) [الأحزاب: 50] ، وكذلك الإحلال والإباحة إذا قصد به النكاح صح وضمن العوض عندنا. - باب نَهْىِ النَّبِىّ عَلَيْهِ السَّلام عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ / 14 - فيه: عَلِىّ، قَالَ لابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ. / 15 - قال: أَبُو جَمْرَةَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ فَرَخَّصَ، فَقَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: إِنَّمَا ذَلِكَ فِى الْحَالِ الشَّدِيدِ، وَفِى النِّسَاءِ قِلَّةٌ - ونَحْوَهُ - فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ. / 16 - وفيه: جَابِر، وَسَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ، قَالا: كُنَّا فِى جَيْشٍ، فَأَتى رَسُول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (إِنَّ الله قَدْ أُذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا فَاسْتَمْتِعُوا) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 222 وزاد سَلَمَةَ، عَنْ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (أَيُّمَا رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ تَوَافَقَا، فَعِشْرَةُ مَا بَيْنَهُمَا ثَلاثُ لَيَالٍ، فَإِنْ أَحَبَّا أَنْ يَتَزَايَدَا أَوْ يَتَتَارَكَا تَتَارَكَا) ، فَمَا أَدْرِى أَشَىْءٌ، كَانَ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَبَيَّنَهُ عَلِىٌّ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ مَنْسُوخٌ. وذكر الطحاوى، عن على بن أبى طالب، وابن عمر، أن النهى عن المتعة كان يوم خيبر، ورواه مالك، ومعمر، ويونس، عن ابن شهاب فى هذا الحديث، أن النبى، عليه السلام، نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. وقد رويت آثار أُخر أن نهيه، عليه السلام، عن المتعة كان فى غير يوم خيبر، فروى أبو العميس عن إياس بن سلمة، عن أبيه، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أذن فى المتعة عام أوطاس، ثم نهى عنها، من حديث ابن أبى شيبة. وروى عكرمة بن عمار، عن سعيد المقبرى، عن أبى هريرة، أنه حرم المتعة فى غزوة تبوك، ذكره الطحاوى. وقال عمرو، عن الحسن: ما حلت المتعة قط إلا ثلاثًا فى عمرة القضاء، ما حلت قبلها ولا بعدها. وروى حماد بن زيد، عن أيوب، عن الزهرى، عن الربيع بن سبرة، عن أبيه، قال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 223 نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن المتعة عام الفتح. وروى عبد العزيز عن عمر بن عبد العزيز، عن الربيع بن سبرة، عن أبيه، أنه نهى عنها فى حجة الوداع. قال الطحاوى: فكل هؤلاء الذين رووا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إطلاقها، أخبروا أنها كانت فى سفر، وأن النهى لحقها فى ذلك السفر بعد ذلك فمنع منها، وليس أحد منهم يخبر أنها كانت فى حضر، وكذلك روى عن ابن مسعود، قال: كنا نغزو مع النبى (صلى الله عليه وسلم) وليس لنا نساء، فقلنا: يا رسول الله، ألا نستخصى؟ فنهانا عن ذلك، ورخص لنا أن ننكح بالثوب إلى أجل، من حديث إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس بن أبى حازم، عن ابن مسعود، وأخبر ابن مسعود أن النبى، عليه السلام، إنما كان أباحها لهم فى حال الغزو. فأما حديث سبرة الذى فيه إباح النبى، عليه السلام، لها فى حجة الوداع، فخارج عن معانيها كلها؛ لأن فى حديث ابن مسعود أن إباحتها لهم كان فى حال ضرورتهم إليها، حتى سألوه أن يأذن لهم فى الاستخصاء، وحديث سلمة فى غزوة أوطاس وهو وقت ضرورة. وأخلق بحديث سبرة الذى فيه أنها كانت فى حجة الوداع أن يكون خطأ؛ لأنه لم يكن لهم حينئذ من الضرورات ما كان لهم فى الغزوات الأخر، وقد اعتبرنا هذا الحرف، فلم نجده إلا فى رواية عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز خاصة. فأما عبد العزيز بن الربيع بن سبرة فرواه عن أبيه، وذكر أنه كان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 224 عام الفتح، وقد رواه إسماعيل بن عياش، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، فذكر أن ذلك كان فى فتح مكة، وأنهم شكوا إليه العزبة فى حجة الوداع، فرخص لهم فيها، ومحال أن يشكوا إليه العزبة فى حجة الوداع؛ لأنهم كانوا حجوا بالنساء، وكان تزويج النساء بمكة يمكنهم ولم يكونوا حينئذ كما كانوا فى الغزوات المتقدمة. فلما اختلفت المواطن المذكورة فيها الإباحة فى حديث سبرة ارتفع الموطن والوقت، وصار حديثه لا على موطن ولا على وقت، ولكن على النهى المطلق. قال غيره: روى أهل مكة واليمن عن ابن عباس تحليل المتعة، وروى أنه رجع عنها بأسانيد ضعيفة، وإجازة المتعة عنه أصح، وهو مضهب الشيعة. واتفق فقهاء الأمصار من أهل الرأى والأثر على تحريم نكاح المتعة، وشذ زفر عن الفقهاء، فقال: إن تزوجها عشرة أيام أو نحوها أو شهرًا، فالنكاح ثابت والشرط باطل، ولا خلاف أن المتعة نكاح إلى أجل لا ميراث فيه، وأن الفرقة تقع فيه عند انقضاء الأجل من غير طلاق، وليس هذا حكم الزوجية عند أحد من الأمة، وقد نزعت عائشة، والقاسم بن محمد فى أن تحريمها ونسخها فى القرآن، وذلك أن قوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون) [المؤمنون: 5] الآية، وليست المتعة نكاحًا ولا ملك يمين. وقد روى عن على، وابن مسعود فى قوله تعالى: (فما استمتعتم به منهن) [النساء: 24] ، قالا: ينسخ الطلاق والعدة والميراث المتعة. وقال نافع: سُئل ابن عمر عن المتعة، فقال: حرام، فقيل له: إن ابن عباس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 225 يفتى بها، قال: فهلا يزمزم إذا حرك فاه ولا يتكلم، يزمزم بها فى زمن عمر. وقال ابن عمر، وابن الزبير: المتعة هى السفاح. وقال نافع، عن ابن عمر: قال عمر: متعتان كانتا على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج. قال الطحاوى: فهذا عمر نهى عن المتعة بحضرة أصحاب النبى، عليه السلام، فلم ينكر ذلك عليه منكر، وفى ذلك دليل على متابعتهم له على ما نهى عنه، وذلك دليل على نسخها، ثم هذا ابن عباس يقول: إنما أبيحت والنساء قليل، فلما كثرن ارتفع المعنى الذى من أجله أبيحت. فإن قيل: أليس قد رويتم عن على أن النبى، عليه السلام، حرمها يوم خيبر، فما معنى رواية الربيع بن سبرة أنه حرمها فى حجة الوداع؟ قيل: كانت عادة النبى، عليه السلام، تكرير مثل هذا فى مغازيه، وفى المواضع الجامعة، فذكرها فى حجة الوداع لاجتماع الناس حتى يسمعه من لم يكن سمعه، فأكد ذلك حتى لا تبقى شبهة لأحد يدعى تحليلها، ولأن أهل مكة كانوا يستعملونها كثيرًا. قال الطحاوى: والحجة على زفر حديث الربيع بن سبرة، عن أبيه، أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لما نهى عن المتعة قال لهم: (من كان عنده من هذه النساء شىء فليفارقهن، فإن الله قد حرم المتعة إلى يوم القيامة) ، فدل هذا على أن العقد المتقدم لا يوجب دوام العقد للأبد ولو أوجب دوامه لكان بفسخ الشرط الذى تعاقدا عليه، ولا يفسخ النكاح إذا كان ثبت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 226 على صحته وجوازه قبل النهى، ففى أمره إياهم بالمفارقة دليل على أن مثل ذلك العقد لا يجب به ملك بضع، والله أعلم. - باب عَرْضِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى الرَّجُلِ الصَّالِحِ / 17 - فيه: أَنَس، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى الرسُول (صلى الله عليه وسلم) تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَكَ بِى حَاجَةٌ؟ فَقَالَتْ بِنْتُ أَنَسٍ: مَا أَقَلَّ حَيَاءَهَا، وَاسَوْأَتَاهْ، وَاسَوْأَتَاهْ، قَالَ: هِىَ خَيْرٌ مِنْكِ، رَغِبَتْ فِى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَعَرَضَتْ نَفْسَهَا عَليهِ. / 18 - وفيه: سَهْلِ، أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَوِّجْنِيهَا، فَقَالَ: (مَا عِنْدَكَ) ؟ قَالَ: مَا عِنْدِى شَىْءٌ، قَالَ: (زوجتكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ. . .) مختصرًا. قال المهلب: فيه جواز عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح وتعريفه برغبتها فيه لصلاحه وفضله، ولعلمه وشرفه، أو لخصلة من خصال الدين، وأنه لا عار عليها فى ذلك ولا غضاضة، بل ذلك زائد فى فضلها، لقول أنس لابنته: هى خير منك. وفيه: أن للرجل الذى تعرض المرأة نفسها عليه ألا ينكحها إلا إذا وجد فى نفسه رغبة فيها، ولذلك صوب النبى (صلى الله عليه وسلم) النظر فيها وصعده، فلما لم يجد فى نفسه رغبة فيها سكت عن إجابتها. وفيه: جواز سكوت العالم ومن سئل حاجة إذا لم يرد الإسعاف ولا الإجابة فى المسألة، وأن ذلك أدب فى الرد بالكلام وألين فى صرف السائل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 227 وفيه: أن سكوت المرأة فى الجماعات لازم لها إذا لم يقم الدليل على أن سكوتها كان لحياء أو لحشمة؛ لأنه كان للمرأة أن تقول: يا رسول الله، إنما أرغب فيك ولا أرغب فى غيرك، وكذلك يجب أن يكون سكوت كل من عقد عليه عقد فى جماعة، ولم يمنعه من الإنكار خوف ولا حياء ولا آفة فى فهم ولا سمع أن ذلك العقد لازم له. وفيه: دليل على جواز استمتاع الرجل بشورة المرأة وبما يشترى لها من صداقها؛ لقوله عليه السلام: (ما تصنع بإزارك؟ إن لبسته لم يكن عليها منه شىء) ، مع علمه أن النصف لها، فلم يمنعه من الاستمتاع بنصفه الذى وجب لها، وجوز له لبسه أجمع، وإنما منع من ذلك؛ لأنه لم يكن له ثوب غيره، فخشى أن تحتاج إليه المرأة فيبقى عاريًا. - باب عَرْضِ الرجل ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ عَلَى أَهْلِ الْخَيْرِ / 19 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَتُوُفِّىَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ ابْنَ عَفَّانَ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ، فَقَالَ: سَأَنْظُرُ فِى أَمْرِى، فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ ثُمَّ لَقِيَنِى، فَقَالَ: قَدْ بَدَا لِى أَنْ لا أَتَزَوَّجَ يَوْمِى هَذَا، قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ زَوَّجْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَىَّ شَيْئًا، فَكُنْتُ أَوْجَدَ عَلَيْهِ مِنِّى عَلَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْتُ أيامًا، ثُمَّ خَطَبَهَا النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ، فَلَقِيَنِى أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَىَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَىَّ حَفْصَةَ، فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا. قَالَ عُمَرُ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 228 أَبُو بَكْرٍ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِى أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ عَلَىَّ إِلا أَنِّى كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ أَكُنْ لأفْشِىَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَوْ تَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَبِلْتُهَا. / 20 - وفيه: أُمَّ حَبِيبَةَ بنت أَبِى سفيان، قَالَتْ للنَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: إِنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّكَ نَاكِحٌ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِى سَلَمَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَعَلَى أُمِّ سَلَمَةَ؟ لَوْ لَمْ أَنْكِحْ أُمَّ سَلَمَةَ مَا حَلَّتْ لِى، إِنَّ أَبَاهَا أَخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ) . وفى حديث عمر من الفقه الرخصة فى أن يعرض الرجل ابنته على الرجل الصالح رغبة فيه، ولا نقيصة عليه فى ذلك. وفيه: أن من عرض عليه ما فيه الرغبة فله النظر والاختيار، وعليه أن يخبر بعد ذلك بما عنده؛ لئلا يمنعها من غيره؛ لقول عثمان بعد ليال: قد بدا لى ألا أتزوج يومى هذا. وفيه: الاعتذار لأن عثمان قال: لا أريد التزويج يومى هذا، ولم يقل أبو بكر: لا أريد التزويج، وقد كان يريده حين قال: لو تركها لنكحتها، ولم يقل: نعم، ولا لا. وفيه: الرخصة أن يجد الرجل على صديقه فى الشىء يسأله، فلا يجيبه إليه ولا يعتذر بما يعذره به؛ لأن النفوس جبلت على ذلك، لاسيما إذا عرض عليه ما فيه الغبطة له. وقوله: وكان وجدى على أبى بكر أشد من وجدى على عثمان، لمعنيين: أحدهما: أن أبا بكر لم يرد عليه الجواب. والثانى: أن أبا بكر أخص بعمر منه بعثمان؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) آخى بين أبى بكر وعمر، فكانت موجدته عليه أكثر لثقته به وإخلاصه له. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 229 وفيه: كتمان السر، فإن أظهره الله أو أظهره صاحبه جاز للذى أسر إليه إظهاره، ألا ترى أن النبى، عليه السلام، لما أظهر تزويجها أعلم أبو بكر عمر بما كان أسر إليه منه، وكذلك فعلت فاطمة فى مرض النبى، عليه السلام، حين أسر إليها أنها أول أهله لحاقًا به، فكتمته حتى توفى، وأسر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى حفصة تحريم جاريته مارية، فأخبرت حفصة عائشة بذلك، ولم يكن النبى، عليه السلام، أظهره، فذم الله فعل حفصة وقبول عائشة لذلك، فقال: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) [التحريم: 4] ، أى مالت وعدلت عن الحق. وفى قول أبى بكر لعمر بعد تزويج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بها: لعلك وجدت علىّ، دليل على أن الرجل إذا أتى إلى أخيه ما لا يصلح أن يؤتى إليه من سوء المعاشرة أن يعتذر ويعترف، وأن الرجل إذا وجب عليه الاعتذار من شىء وطمع بشىء تقوى به حجته أن يؤخر ذلك حتى يظفر ببغيته ليكون أبرأ له عند من يعتذر إليه. وفى قول عمر لأبى بكر: نعم دليل على أن على الإنسان أن يخبر بالحق عن نفسه وإن كان عليه فيه شىء. قال المهلب: والمعنى الذى أسر أبو بكر، عن عمر، ما أخبره به النبى، عليه السلام، هو أنه خشى أبو بكر أن يذكر ذلك لعمر، ثم يبدو للنبى الإعراض عن نكاحها فيقع فى قلب عمر للنبى (صلى الله عليه وسلم) مثل ما وقع فى قلبه لأبى بكر. وفى قول أبى بكر لعمر: كنت علمت أن النبى، عليه السلام، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 230 ذكرها، فيه دليل أنه جائز للرجل أن يذكر لأصحابه ولمن يثق برأيه أنه يخطب امرأة قبل أن يظهر خطبتها، وقول أبى بكر: لم أكن لأفشى سر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، يدل أنه من ذكر امرأة قبل أن يظهر خطبتها، فإن ذكره فى معنى السر، فإن إفشاء السر فى النكاح وفى غيره من المباح لا يجوز. وفيه: أن الصديق لا يخطب امرأة علم أن صديقه يريدها لنفسه، وإن كان لم يركن إليها لما يخاف من القطيعة بينهما، ولم تخف القطيعة بين غير الإخوان؛ لأن الاتصال بينهما ضعيف غير اتصال الصداقة فى الله. وفى قول أبى بكر: لو تركها تزوجتها، دليل أن الخطبة إنما تجوز بعد أن يتركها الخاطب. وفيه: الرخصة فى تزويج من عرض النبى، عليه السلام، فيها بخطبة أو أراد أن يتزوجها، ألا ترى قول أبى بكر: لو تركها تزوجتها، وقد جاء فى خبر آخر الرخصة فى نكاح من عقد النبى (صلى الله عليه وسلم) فيها النكاح ولم يدخل بها، وأن أبا بكر كرهه ورخص فيه عمر. روى داود بن أبى هند، عن عكرمة، قال: تزوج النبى (صلى الله عليه وسلم) امرأة من كندة يقال لها: قتيلة، فمات ولم يدخل بها ولا حجبها، فتزوجها عكرمة بن أبى جهل، فغضب أبو بكر، وقال: تزوجت من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 231 نساء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ فقال عمر: ما هى من نسائه وما دخل بها ولا حجبها، ولقد ارتدت مع من ارتد فسكت. وفيه: أن الأب تخطب إليه بنته الثيب كما تخطب إليه البكر، ولا تخطب إلى نفسها، وأنه يزوجها. وفيه: فساد قول من قال: أن للمرأة البالغة المالكة أمرها تزويج نفسها وعقد النكاح عليها دون وليها، وإبطال قول من قال: للبالغ الثيب إنكاح من أحبت دون وليها، وسيأتى بيان ذلك فى باب من قال: لا نكاح إلا بولى إن شاء الله. وفى تركه أن يأمره باستئمارها، ولم نجد عن عمر أنه استأمرها، دليل أن للرجل أن يزوج ابنته الثيب من غير أن يستأمرها إذا علم أنها لا تكره ذلك، وكان الخاطب لها كفئًا؛ لأن حفصة لم تكن لترغب عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فأغنى علم عمر عن استئمارها. وقوله: تأيمت حفصة، أى صارت غير ذات زوج بموت زوجها عنها، والعرب تدعو كل امرأة لا زوج لها وكل رجل لا امرأة له: أيمًا، ومنه قول الشاعر: فإن تنكحى أنكح وإن تتأيمى وإن كنت أفتى منكم أتأيم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 232 - باب قَوله تَعالَى: (وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ) [البقرة: 235] الآية وَقَالَ مُجَاهِد، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ (يَقُولُ: إِنِّى أُرِيدُ التَّزْوِيجَ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّهُ تَيَسَّرَ لِى امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ. وَقَالَ الْقَاسِمُ: يَقُولُ: إِنَّكِ عَلَىَّ لَكَرِيمَةٌ، وَإِنِّى فِيكِ لَرَاغِبٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَسَائِقٌ إِلَيْكِ خَيْرًا - أَوْ نَحْوَ هَذَا - وَقَالَ عَطَاءٌ: يُعَرِّضُ وَلا يَبُوحُ، يَقُولُ: إِنَّ لِى حَاجَةً، وَأَبْشِرِى وَأَنْتِ بِحَمْدِ اللَّهِ نَافِقَةٌ. وَتَقُولُ هِىَ: قَدْ أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، وَلا تَعِدُ شَيْئًا، وَلا يُوَاعِدُ وَلِيُّهَا بِغَيْرِ عِلْمِهَا، وَإِنْ وَاعَدَتْ رَجُلا فِى عِدَّتِهَا، ثُمَّ نَكَحَهَا بَعْدُ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: (لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا (: الزِّنَا. وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ (: تَنْقَضِىَ الْعِدَّةُ. وحرم الله تعالى عقد النكاح فى العدة بقوله: (ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله) [البقرة: 235] ، وهذا من المحكم المجتمع على تأويله أن بلوغ أجله انقضاء العدة، وأباح تعالى التعريض فى العدة بقوله: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء) [البقرة: 235] الآية، ولم يختلف العلماء فى إباحة ذلك. قال المهلب: وإنما منع من عقد النكاح فى العدة، والله أعلم؛ لأن ذلك ذريعة إلى المواقعة فى العدة التى هى محبوسة فيها على ماء الميت أو المطلق، كما منع المحرم بالحج من عقد النكاح؛ لأن ذلك داعيه إلى المواقعة، فحرم عليه السبب والذريعة إلى فساد ما هو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 233 فيه وموقوف عليه، وأباح التعريض فى العدة خشية أن تفوت نفسها. واختلفوا فى ألفاظ التعريض، والمعنى واحد، وقال قتادة، وسعيد بن جبير فى قوله تعالى: (ولكن لا تواعدوهن سرًا) [البقرة: 235] ، قال: لا يأخذ عهدها فى عدتها ألا تنكح غيره. قال إسماعيل بن إسحاق: وهذا أحسن من قول من تأول فى قوله: (ولكن لا تواعدوهن (أنه الزنا؛ لأن ما قبل الكلام وما بعده لا يدل عليه، ويجوز فى اللغة أن يسمى الغشيان سرًا، فسمى النكاح سرًا، إذ كان الغشيان يكون فيه كما يسمى التزويج نكاحًا، وهو أشبه فى المعنى؛ لأنه لما أجيز لهم التعريض فى النكاح لم يؤذن لهم فى غيره، فوجب أن يكون كل شىء يجاوز التعريض فهو محظور، والمواعدة تجاوز التعريض، فوسع الله على عباده فى التعريض فى الخطبة لما علم منهم. وبلغنى عن الشافعى أنه احتج بهذا التعريض فى القذف، وقال: كما لم يجعل التعريض فى هذا الموضع بمنزلة التصريح كذلك لا يجعل التعريض فى القذف بمنزلة التصريح، واحتج بما هو حجة عليه إذ كان التعريض بالنكاح قد فهم عن صاحبه ما أراد، فكذلك ينبغى أن يكون التعريض بالقذف قد فهم عن صاحبه ما أراد، فإذا فهم أنه قاذف حكم عليه بحكم القذف، وينبغى له على قوله هذا أن يزعم أن التعريض بالقذف مباح كما أبيح التعريض بالنكاح، وسيأتى استيعاب الحجة عليه فى كتاب الحدود، إن شاء الله. واختلفوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 234 فى الرجل يخطب امرأة فى عدتها جاهلاً ويواعدها، ويعقد بعد العدة، فكان مالك يقول: فراقها أحب إلىّ دخل بها أو لم يدخل، وتكون تطليقة واحدة، ويدعها حتى تحل ويخطبها. وقال الشافعى: إن صرح بالخطبة وصرحت له بالإجابة، ولم يعقد النكاح حتى تنقضى العدة، فالنكاح ثابت والتصريح لهما مكروه؛ لأن النكاح حادث بعد الخطبة. واختلفوا إذا تزوجها فى العدة ودخل بها، فقال مالك، والليث، والأوزاعى: يفرق بينهما ولا تحل له أبدًا. قال مالك والليث: ولا بملك اليمين. واحتجوا بأن عمر بن الخطاب، قال: لا يجتمعان أبدًا وتعتد منهما جميعًا. وقال الثورى، والكوفيون، والشافعى: يفرق بينهما، فإذا انقضت عدتها من الأول فلا بأس أن يتزوجها، واحتجوا بإجماع العلماء أنه لو زنى بها لم يحرم عليه تزويجها، فكذلك وطؤه إياها فى العدة، قالوا: وهو قول على بن أبى طالب، ذكره عبد الرزاق، وذكر عن ابن مسعود مثله، وعن الحسن أيضًا. وذكر عبد الرزاق، عن الثورى، عن الأشعث، عن الشعبى، عن مسروق، أن عمر رجع عن ذلك وجعلهما يجتمعان. واختلفوا هل تعتد منهما جميعًا، فروى المدنيون عن مالك أنها تتم بقية عدتها من الأول وتستأنف عدة أخرى من الآخر، روى ذلك عن عمر، وعلى، وهو قول الليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وروى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 235 ابن القاسم، عن مالك، أن عدة واحدة تكون لهما جميعًا، سواء كانت العدة بالحيض أو الحمل أو الشهور، وهو قول الأوزاعى، والثورى، وأبى حنيفة، وحجتهم الإجماع على أن الأول لا ينكحها فى بقية العدة منه، فدل ذلك على أنها فى عدة من الثانى، ولولا ذلك لنكحها فى عدتها منه، وهذا غير لازم؛ لأنه منع الأول من أن ينكحها فى بقية عدتها إنما وجب لما يتلوها من عدة الثانى، وهما حقان قد وجبا عليها لزوجين كسائر حقوق الآدميين لا يدخل أحدهما فى صاحبه. - باب النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ / 21 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ لِى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أُرِيتُكْ فِى الْمَنَامِ يَجِىءُ بِكِ الْمَلَكُ فِى سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَقَالَ لِى: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَكَشَفْتُ عَنْ وَجْهِكِ الثَّوْبَ، فَإِذَا أَنْتِ هِىَ، فَقُلْتُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ) . / 22 - وفيه: عَنْ سَهْلِ، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُ لأهَبَ لَكَ نَفْسِى، فَنَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ. . . الحديث. ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا بأس بالنظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها، وهو قول مالك، والثورى، والكوفيين، والشافعى، وأحمد، وقالوا: لا ينظر إلى غير وجهها وكفيها. وقال الأوزاعى: ينظر إليها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 236 ويجتهد وينظر إلى مواضع اللحم، وحجتهم أن النبى (صلى الله عليه وسلم) نظر إلى المرأة التى وهبته نفسها وأراه الله عائشة فى منامه قبل تزويجه بها. قال الطحاوى: ومن حجتهم ما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: حدثنا يحيى بن حسان، حدثنا أبو شهاب الحناط، عن الحجاج بن أرطاة، عن محمد بن سليمان بن أبى حثمة، قال: رأيت محمد بن مسلمة يطارد ثبيتة بنت الضحاك فوق إجار لها ببصره طردًا شديدًا، فقلت: أتفعل هذا وأنت من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ قال: سمعت النبى، عليه السلام، يقول: (إذا ألقى فى قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها) . وروى أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن بكر بن عبد الله، عن المغيرة بن شعبة، قال: خطبت امرأة، فقال لى النبى، عليه السلام: (هل نظرت إليها؟) ، قلت: لا، قال: (فانظر، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) ، ففى هذه الأحاديث إباحة النظر إلى وجه المرأة لمن أراد نكاحها. ورواه أبو حميد، وأبو هريرة، وجابر، عن النبى، عليه السلام. واحتج الشافعى بأن ينظر إليها بإذنها وبغير إذنها إذا كانت مستترة؛ لقوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) [النور: 31] ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 237 قال: الوجه والكفان، وخالفهم آخرون، وقالوا: لا يجوز لمن أراد نكاح امرأة ولا لغيره أن ينظر إليها إلا أن يكون زوجًا لها أو ذا محرم منها، ووجهها وكفاها عورة بمنزلة جسدها، واحتجوا بحديث ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن سلمة بن أبى الطفيل، عن على بن أبى طالب، أن النبى قال له: يا على، لا تتبع بالنظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة. قالوا: فلما حرم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) النظرة الثانية؛ لأنها تكون باختيار الناظر، وخالف بين حكمها وحكم ما قبلها إذا كانت بغير اختيار من الناظر، دل على أنه ليس لأحد أن ينظر إلى وجه امرأة إلا أن تكون زوجة أو ذات محرم. واحتج عليهم أهل المقالة الأولى أن الذى أباحه النبى، عليه السلام، فى الآثار الأُول هو النظر للخطبة لا لغير ذلك، وذلك نظر لسبب هو حلال، ألا ترى لو أن رجلاً نظر إلى وجه امرأة لا نكاح بينه وبينها ليشهد عليها أو لها أن ذلك جائز، وكذلك إذا نظر إلى وجهها ليخطبها، فأما المنهى عنه فالنظر لغير الخطبة ولغير ما هو حلال. ورأيناهم لا يختلفون فى نظر الرجل إلى صدر الأمة إذا أراد أن يبتاعها أن ذلك له جائز حلال، ولو نظر إليها لغير ذلك كان ذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 238 عليه حرامًا، فكذلك نظره إلى وجه المرأة إن كان فعل ذلك لمعنى هو حلال فهو غير مكروه. وإذا ثبت أن النظر إلى وجه المرأة لخطبتها حلال خرج بذلك حكمه من حكم العورة؛ لأنا رأينا ما هو عورة لا يباح لمن أراد نكاحها النظر إليه، ألا ترى أنه من أراد نكاح امرأة فحرام عليه النظر إلى شعرها أو إلى صدرها أو إلى ما أسفل من ذلك من بدنها، كما يحرم ذلك منها على من لم يرد نكاحها، فلما ثبت أن النظر إلى وجهها حلال لمن أراد نكاحها، ثبت أنه حلال أيضًا لمن لم يرد نكاحها إذا كان لا يقصد بنظره ذلك إلى معنى هو عليه حرام، وقد قال المفسرون فى قوله: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) [النور: 31] ، أن ذلك المستثنى هو الوجه والكفان. - باب مَنْ قَالَ: لا نِكَاحَ إِلا بِوَلِىٍّ لقوله تَعَالَى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) [البقرة: 232] فَدَخَلَ فِيهِ الثَّيِّبُ وَالْبِكْرُ. وَقَالَ تَعَالَى: (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) [البقرة: 221] ، وَقَالَ تَعَالَى: (وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ) [النور: 32] . / 23 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النِّكَاحَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ ابْنَتَهُ، فَيُصْدِقُهَا، ثُمَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 239 يَنْكِحُهَا. وَالنِكَاحُ الآخَرُ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لامْرَأَتِهِ - إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا - أَرْسِلِى إِلَى فُلانٍ، فَاسْتَبْضِعِى مِنْهُ، وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلا يَمَسُّهَا أَبَدًا، حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِى تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا، إِذَا أَحَبَّ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِى نَجَابَةِ الْوَلَدِ، فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الاسْتِبْضَاعِ. وَنِكَاحٌ آخَرُ، يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ، فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا، فَإِذَا حَمَلَتْ، وَوَضَعَتْ، وَمَرَّ عَلَيْهَا لَيَالٍ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا، أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا، فَتَقُولُ لَهُمْ: قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِى كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ، وَقَدْ وَلَدْتُ وَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلانُ تُسَمِّى مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ، فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا، لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِهِ الرَّجُلُ. وَالنِكَاحُ الرَّابِعِ، يَجْتَمِعُ النَّاسُ الْكَثِيرُ، فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ لا تَمْتَنِعُ مِمَّنْ جَاءَهَا، وَهُنَّ الْبَغَايَا، كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ تَكُونُ عَلَمًا، فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ، فَإِذَا حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا، وجُمِعُوا لَهَا، وَدَعَوْا الْقَافَةَ لَهُمُ، ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِالَّذِى يَرَوْنَ فَالْتَاطَ بِهِ وَدُعِىَ ابْنَهُ لا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم) بِالْحَقِّ، هَدَمَ نِكَاحَ الْجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ إِلا نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ. / 24 - وفيه: عَائِشَةَ، فِى قوله تَعَالَى: (وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النِّسَاءِ. . .) [النساء: 127] الآية، قَالَتْ: هَذَا فِى الْيَتِيمَةِ الَّتِى تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ لَعَلَّهَا أَنْ تَكُونَ شَرِيكَتَهُ فِى مَالِهِ، وَهُوَ أَوْلَى بِهَا، فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَنْكِحَهَا، فَيَعْضُلَهَا لِمَالِهَا، وَلا يُنْكِحَهَا غَيْرَهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَشْرَكَهُ أَحَدٌ فِى مَالِهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 240 / 25 - وفيه: عُمَر، حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنِ ابْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِىِّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ تُوُفِّىَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: لَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ، فَقَالَ: سَأَنْظُرُ فِى أَمْرِى، فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ، ثُمَّ لَقِيَنِى، فَقَالَ: بَدَا لِى أَنْ لا أَتَزَوَّجَ يَوْمِى هَذَا، فَقَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ. . . . / 26 - وفيه: مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ فِى قوله تَعَالَى: (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ (أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ، قَالَ: زَوَّجْتُ أُخْتًا لِى مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا، فَقُلْتُ لَهُ: إنى زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ فَطَلَّقْتَهَا، ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا، لا وَاللَّهِ، لا تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا، وَكَانَ رَجُلا لا بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ: (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ (، فَقُلْتُ: الآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ. اتفق جمهور العلماء أنه لا يجوز نكاح إلا بولى إما مناسب أو وصى أو السلطان، ولا يجوز عقد المرأة على نفسها بحال، روى هذا عن عمر، وعلى، وابن عباس، وابن مسعود، وأبى هريرة، وروى عن شريح، وابن المسيب، والحسن، وابن أبى ليلى، وهو قول مالك، والثورى، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى عبيد. وحكى ابن المنذر، عن الشعبى، والزهرى أنه إذا تزوجت بغير إذن وليها كفئًا فهو جائز. وقال مالك فى المعتقة والمسكينة التى لا خطب لها، فإنها تستخلف على نفسها من يزوجها، ويجوز ذلك، وكذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 241 المرأة يكفلها الرجل أن تزويجه عليها جائز، وأما كل امرأة لها قدر وغنى فلا يزوجها إلى الولى أو السلطان. قال أبو حنيفة: إذا كانت بالغة عاقلة زالت ولاية الولى عنها، فإن عقدت بنفسها جاز، وإن ولت رجلاً حتى عقد جاز، ووافقنا على أنها إذا وضعت نفسها فى غير كفء كان للولى فسخ النكاح. وشذ أهل الظاهر أيضًا، فقالوا: إن كانت بكرًا فلابد من ولى، وإن كانت ثيبًا لم تحتج إلى ولى، وهذا خلاف الجماعة. قال ابن القصار: والدليل على أنها لا تعقد على نفسها بحال قوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن) [البقرة: 232] ، والدلالة فى الآية من وجهين: أحدهما: أن الله عاتب معقلاً لما امتنع من رد أخته إلى زوجها، ولو كان لها أن تزوج نفسها أو تعقد النكاح لم يعاتب أخوها على الامتناع منه ولا أمره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالحنث، فدل على أن النكاح كان إليه دونها. والوجه الثانى: قوله تعالى: (فلا تعضلوهن) [البقرة: 232] ، والعضل هو المنع من التزويج، فمنع الله الأولياء من الامتناع من تزويجهن كما منع أولياء اليتامى أن يعضلوهن إذا رغبوا فى أموالهن، فلو كان العقد إليهن لم يكن ممنوعات. قال المهلب: وفى هذا دليل على أن الرجل إذا عضل وليته وثبت عضله لها يفتئت عليه السلطان فيزوجها بغير أن يأمره بالعقد لها، ويرده عن العضل كما رد النبى، عليه السلام، معقلاً عن ذلك العقد، ولم يعقد النبى (صلى الله عليه وسلم) ، بل دعاه إلى العقد بالحنث فى يمينه، إذ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 242 عقده لأخته على من تحبه خير من إبرار اليمين، وأيضًا قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) [البقرة: 221] ، وقوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم) [النور: 32] ، فلم يخاطب بالنكاح غير الرجال، ولو كان على النساء لذكرن فى ذلك. قال الطبرى: فى حديث حفصة حين تأيمت، وعقد عمر عليها النكاح ولم تعقده هى، إبطال قول من قال: إن للمرأة البالغة المالكة لنفسها تزويج نفسها، وعقد النكاح عليها دون وليها، ولو كان لها ذلك لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليدع خطبة حفصة إلى نفسها، إذ كانت أولى بنفسها من أبيها، ولخطبها إلى من لا يملك أمرها ولا العقد عليها، وفيه بيان قوله عليه السلام: (الأيم أحق بنفسها من وليها) ، أى أن معنى ذلك أنها أحق بنفسها فى أنه لا ينعقد عليها إلا برضاها، لا أنها أحق بنفسها فى أن تعقد عليها عقدة نكاح دون وليها. قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدًا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثبت عنه خلاف ما قلنا. وقول عائشة: إن النكاح كان على أربعة أنحاء، فنكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل ابنته أو وليته، حجة فى أن سنة عقد النكاح إلى الأولياء. فإن قال من أجاز بغير ولى: فقد روى عن عائشة خلاف هذا، وهو ما رواه مالك فى الموطأ أنها زوجت بنت أخيها عبد الرحمن وهو غائب، فلما قدم قال: مثلى يفتأت عليها فى بناته؟ وهذا يدل أن مذهبها جواز النكاح بغير ولى. قيل: لا حجة لكم فى هذا الخبر، وليس معنى قوله: زوجت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 243 بنت أخيها، إلا الخطبة، والكلام فى الرضا والصداق دون العقد، لما رواه ابن جريج، عن عبد الرحمن بن القاسم ابن محمد بن أبى بكر الصديق التيمى، عن أبيه، عن عائشة، أنها أنكحت رجلاً من بنى أخيها، فضربت بينهم بستر، ثم تكلمت حتى لم يبق إلا العقد، أمرت رجلاً فأنكح، ثم قالت: ليس إلى النساء نكاح. قال ابن المنذر: وأما تفريق مالك بين المولاة والمسكينة، وبين من لها منهن قدر وغنى، فليس ذلك مما يجوز أن يفرق به، إذ قد سوى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين الناس جميعًا، فقال: (المسلمون تتكافأ دماؤهم) ، فسوى بين الجميع فى الدماء، فوجب أن يكون حكمهم فيما دون الدماء سواء. قال المهلب: وأما قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) [البقرة: 221] ، فإنه خاطب الأولياء ونهاهم عن إنكاح المشركين ولياتهم المسلمات من أجل أن الولد تابع للأب فى دينه بقوله تعالى: (أولئك يدعون إلى النار) [البقرة: 221] ، ولا مدعو فى نفس الاعتبار يمكنه الإجابة إلا الولد، إذ هو تبع لأبيه فى الدين، ولذلك نهى الله عن إنكاح الإماء المشركات؛ لأن الذى يتزوجها يتسبب أن يولدها، فيبيعها سيدها حاملاً من مشرك، إذ أولاد الإماء تبع لأمهاتهم فى الرق فيئول ذلك إلى تمليك المشركين أولاد المسلمين فيحملونهم على الكفر، فنهى الله عن ذلك، وحرمه فى كتابه، وجوز لمن لم يستطع طولاً لحرة إذا خشى العنت أن ينكح الأمة المسلمة فى ملك المسلم لامتناع تمليكهن المشركين، وأباح له استرقاق ولده واستعباده لأخيه المسلم، من أجل أنه قد أمن أن يحمله على غير دين الإسلام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 244 والدليل على جواز إرقاق المسلم بنيه قول النبى، عليه السلام: (وفى جنين المرأة غرة عبد أو وليدة) ، فلما جعل عوض الجنين الحر عبدًا، وأقامه مقامه، وجوز لأبيه ملكه واسترقاقه عوضًا من أبيه، علمنا أن للرجل أن ينكح من النساء من يسترق ولده بها، والله أعلم. - باب إِذَا كَانَ الْوَلِىُّ هُوَ الْخَاطِبَ وَخَطَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ امْرَأَةً هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهَا، فَأَمَرَ رَجُلا فَزَوَّجَهُ، وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لأمِّ حَكِيمٍ ابْنَة قَارِظٍ: أَتَجْعَلِينَ أَمْرَكِ إِلَىَّ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: لِيُشْهِدْ أَنِّى قَدْ نَكَحْتُكِ، أَوْ لِيَأْمُرْ رَجُلا مِنْ عَشِيرَتِهَا. وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَتِ امْرَأَةٌ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَهَبُ لَكَ نَفْسِى، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا. / 27 - فيه: عَائِشَةَ، فِى قَوْلِهِ: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النِّسَاءِ (الآيَةِ، قَالَتْ: هِىَ الْيَتِيمَةُ، تَكُونُ فِى حَجْرِ الرَّجُلِ قَدْ شَرِكَتْهُ فِى مَالِهِ، فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ، فَيَدْخُلَ عَلَيْهِ فِى مَالِهِ، فَيَحْبِسُهَا، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. / 28 - وفيه: سَهْلُ، جَاءَت امْرَأَةٌ إلى النَّبِىّ تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، فَلَمْ يُرِدْهَا، فَقَالَ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ فَقَالَ: (اذْهَبْ، فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) . اختلف العلماء فى الولى هل يزوج نفسه من وليته إذا أذنت له وينعقد النكاح ولا يرفع ذلك إلى السلطان، فأجاز ذلك الحسن البصرى، وربيعة، ومالك، والليث، والأوزاعى، والثورى، وأبو حنيفة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 245 وأبو ثور. وقال زفر والشافعى: لا يجوز له أن يتزوجها إلا بالسلطان، أو يزوجها منه ولى لها هو أقعد بها منه أو مثله فى القعدد، واحتجوا أن الولاية من شرط العقد، وكما لا يكون الشاهد ناكحًا ولا منكحًا، كذلك لا يكون الناكح منكحًا. وفيها قول ثالث، وهو أن يجعل أمرها إلى من يزوجها منه، وروى هذا عن المغيرة بن شعبة، وبه قال أحمد بن حنبل ذكره ابن المنذر، واحتج الطحاوى للقول الأول، فقال: لا يختلفون أنه يجوز أن يهب لمن له ولاية عليها، ويكون هو العاقد والقابض، وكذلك النكاح، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) زوج المرأة من الرجل بما معه من القرآن، فكذلك كان له أن يزوجها من نفسه لو قبلها، كما فعل فى خبر صفية حين جعل عتقها صداقها. قال ابن المنذر: وكذلك فعل فى أمر جويرية، قضى كتابتها وتزوجها كما فعل فى حديث صفية سواء. قال المؤلف: ومن الحجة لهذا القول أيضًا حديث عائشة فى الرجل تكون عنده اليتيمة فيرغب عن أن يتزوجها، فنهاهم الله عن عضلهن ومنعهن من التزويج من أجل أنهم لا يقسطون فى صدقاتهن، وجعل لهم أن ينكحوهن من أنفسهن إذا عدلوا فى صدقاتهن، وقد تقدم البيان عن هذه المسألة فى حديث صفية فى باب من أعتق جارية وتزوجها، وأما فعل المغيرة، فهو من باب الأدب فى النكاح أن يأمر الولى رجلآً يعقد نكاحه مع وليته، ولو تولى هو عقده إذا رضيت به لكان حسنًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 246 - باب إِنْكَاحِ الرَّجُلِ وَلَدَهُ الصِّغَارَ لقوله: (وَاللائِى لَمْ يَحِضْنَ) [الطلاق: 4] ، فَجَعَلَ عِدَّتَهَا ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ الْبُلُوغِ / 29 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) تَزَوَّجَهَا وَهِىَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، وَدْخِلَتْ عَلَيْهِ وَهِىَ بِنْتُ تِسْع سِنِين، وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ تِسْعًا. قال المهلب: أجمع العلماء على أنه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة التى لا يوطأ مثلها لعموم الآية: (واللائى لم يحضن) [الطلاق: 4] ، ويجوز نكاح من لم تحض من أول ما تخلق، وأظن البخارى أراد بهذا الباب الرد على ابن شبرمة، فإن الطحاوى حكى عنه أنه قال: تزويج الآباء على الصغار لا يجوز، ولهن الخيار إذا بلغن، وهذا قول لم يقل به أحد من الفقهاء غيره، ولا يلتفت إليه لشذوذه، ومخالفته دليل الكتاب والسنة، وإنما اختلفوا فى الأولياء غير الآباء إذا زوج الصغيرة، وقد تقدم اختلاف العلماء فى ذلك فى باب تزويج الصغار من الكبار قبل هذا. وفيه من الفقه: جواز نكاح لا وطء فيه لعلة بأحد الزوجين: لصغر، أو آفة، أو غير إرب فى الجماع، بل لحسن العشرة والتعاون على الدهر، وكفاية المؤنة والخدمة بخلاف من قال: لا يجوز نكاح لا وطء فيه، ويؤيد هذا فعل سودة حين وهبت يومها لعائشة، وقالت: ما لى فى الرجال إرب. واختلف العلماء فى الوقت الذى تدخل فيه المرأة على زوجها إذا اختلف الزوج وأهل المرأة فى ذلك، فقالت طائفة: تدخل على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 247 زوجها وهى بنت تسع سنين اتباعًا لحديث عائشة، هذا قول أحمد بن حنبل، وأبى عبيد. وقال أبو حنيفة: نأخذ بالتسع غير أنا نقول: إن بلغتها ولم تقدر على الجماع كان لأهلها منعها، وإن لم تبلغ التسع وقويت على الرجال لم يكن لهم منعها من زوجها. وكان مالك يقول: لا نفقة لصغيرة حتى تدرك وتطيق الرجال. وقال الشافعى: إذا قاربت البلوغ وكانت جسيمة تحتمل الجماع، فلزوجها أن يدخل بها، وإن كانت لا تحتمل الجماع فلأهلها منعها من الزوج حتى تحتمل الجماع. - باب تَزْوِيجِ الأبِ ابْنَتَهُ مِنَ الإمَامِ وَقَالَ عُمَرُ: خَطَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَىَّ حَفْصَةَ فَأَنْكَحْتُهُ. / 30 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) تَزَوَّجَهَا وَهِىَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ. . . الحديث. معنى هذا الباب أن الإمام وإن كان وليًا، وكان النبى (صلى الله عليه وسلم) أفضل الأولياء، وخطب حفصة إلى أبيها عمر بن الخطاب، وأنكحه إياها، دل ذلك على أن الأب أولى من الإمام، وأن السلطان ولى من لا ولى له، وهذا إجماع، ودل أيضًا على صحة ما يقوله مالك، والشافعى، وجمهور العلماء أن الولى من شروط النكاح وأنه مفتقر إليه، وكذلك خطب النبى عائشة إلى أبى بكر، فقال له أبو بكر: إنما أنا أخوك، فقال له النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أنت أخى فى دين الله وكتابه، وهى لى حلال) ، فأنكحه أبو بكر إياها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 248 قال ابن المنذر: وفى إنكاح أبى بكر النبى (صلى الله عليه وسلم) دليل على إباحة النكاح بغير شهود، إذ لا نعلم فى شىء من الأخبار أن شاهدًا حضر عقد ذلك النكاح، والأخبار التى رويت عن عائشة وغيرها بخلاف ذلك واهية لا تثبت عند أهل المعرفة بالأخبار، وقد تقدم بيان هذه المسألة فى حديث صفية فى باب اتخاذ السرارى ومن أعتق جارية ثم تزوجها. - باب السُّلْطَانُ وَلِىٌّ لِقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ / 31 - فيه: سَهْلِ، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَتْ: إِنِّى وَهَبْتُ لك نَفْسِى، فَقَامَتْ طَوِيلا، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ، قَالَ: (قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا، بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) . أجمع العلماء على أن السلطان ولى من لا ولى له، وأجمعوا أن السلطان يزوج المرأة إذا أرادت النكاح ودعت إلى كفء وامتنع الولى من أن يزوجها. واختلفوا إذا غاب عن البكر أبوها وعمى خبره وضربت فيه الآجال من يزوجها؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه: يزوجها أخوها بإذنها. وقال الشافعى: يزوجها السلطان دون باقى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 249 أوليائها، وكذلك الثيب إذا غاب أقرب أوليائها. وحجة مالك، والكوفيين أن الأخ عصبة يجوز أن يزوجها بإذنها مع عدم أبيها بالموت لتعذر التزويج من قبله، فكذلك مع حياته إذا تعذر التزويج من جهته، دليل ذلك إذا جن الأب أو فسق عندهم، ألا ترى أن الأب إذا مات كان الأخ أولى من السلطان؟ واحتج الشافعى بأن السلطان يستوفى لها حقوقها وينظر فى مالها إذا فقد أبوها، فلذلك هو أحق بالتزويج من أخيها. واختلفوا فى الولى، فقال مالك، والليث، والثورى، والشافعى: الأولياء هم العصبة الذين يرثون، وليس الخال ولا الجد لأم ولا الإخوة لأم أولياء عند مالك فى النكاح، وخالفهم محمد بن الحسن، فقال: كل من لزمه اسم ولى، فهو ولى يعقد النكاح، وبه قال أبو ثور. قال الأبهرى: والحجة لمالك ومن وافقه فى أن ذوى الأرحام ليسوا أولياء فى النكاح وأن الأولياء فى ذلك العصبة، هو أن الولى لما كان مستحقًا بالتعصيب لم يكن للرحم مدخل فيه لعدم التعصيب، كذلك عقد النكاح؛ لأن ذلك بولاية التعصيب. قال ابن المنذر: وقوله: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) [البقرة: 232] ، دليل على أن الأولياء من العصبة؛ لأن معقلاً لما منع أخته من التزويج نزلت فيه هذه الآية، فتلاها عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 250 واختلفوا من أولى بالنكاح الولى أو الوصى؟ فقال ربيعة، ومالك، والثورى، وأبو حنيفة: الوصى أولى. وقال الشافعى: الولى أولى به؛ لأنه لا ولاية للوصى على الصغير. والحجة للقول الأول أن الأب لو جعل ذلك إلى رجل بعينه فى حياته لم يكن لسائر الأولياء الاعتراض عليه مع بقاء الأب، فكذلك بعد موته، إلا أن مالكًا قال: لا يزوج الوصى اليتيمة قبل البلوغ، إلا أن يكون أبوها أوصى إليه أن يزوجها قبل البلوغ من رجل بعينه فيجوز، وينقطع عنها ما لها من المشورة عند بلوغها. وذكر ابن القصار، قال: ومن أصحابنا من قال: إن الموصى إذا قال: زوج بناتى ممن رأيت أنه يقوم مقام الأب فى تزويج الصغيرة، وفى تزويج البكر البالغ بغير إذنها، وهو يتخرج على مذهب مالك، وهو إذا قالت اليتيمة لوليها: زوجنى ممن رأيت، فزوجها ممن اختار، أو من نفسه ولم يعلمها بعين الرجل قبل العقد، فإنه يلزمها ذلك. - باب لا يُنْكِحُ الأبُ وَغَيْرُهُ الْبِكْرَ وَلاَ الثَّيِّبَ إِلا بِرِضَاهَا / 32 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لا تُنْكَحُ الأيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: (أَنْ تَسْكُتَ) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 251 / 33 - وفيه: عَائِشَةَ، [أَنَّهَا قَالَتْ] : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِى، قَالَ: (رِضَاهَا صَمْتُهَا) . قال ابن المنذر: فى هذا الحديث النهى عن نكاح الثيب قبل الاستئمار، وعن نكاح البكر قبل الاستئذان، ودل هذا الحديث على أن البكر التى أمر باستئذانها البالغ، إذ لا معنى لاستئذان من لا إذن لها، ومن سكوتها وسخطها سواء. اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة: لا يجوز للأب أن ينكح البالغ من بناته بكرًا كانت أو ثيبًا إلا بإذنها، قالوا: والأيم التى لا زوج لها، وقد تكون بكرًا وثيبًا، وظاهر هذا الحديث يقتضى أن تكون البكر لا ينكحها وليها أبًا كان أو غيره حتى يستأمرها، وذلك لا يكون إلا فى البوالغ لما دل عليه الحديث، ولتزويج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عائشة وهى صغيرة. وهذا قول الثورى، والأوزاعى، وأبى حنيفة، وأصحابه، وأبى ثور، واحتجوا بهذا الحديث؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال قولاً عامًا: (لا تنكح البكر حتى تستأذن ولا الثيب حتى تستأمر) ، وكل من عقد نكاحًا على غير ما سنه النبى، عليه السلام، فهو باطل، ودل الحديث على أن البكر إذا نكحت قبل إذنها بالصمت أن النكاح باطل، كما يبطل نكاح الثيب قبل أن تستأمر. وقالت طائفة: للأب أن يزوج البكر بغير إذنها صغيرة كانت أو كبيرة، ولا يزوج الثيب إلا بإذنها، وهو قول ابن أبى ليلى، ومالك، والليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقال أبو قرة: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 252 سألت مالكًا عن قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (البكر تستأذن فى نفسها) ، أيدخل فى هذا الأب؟ قال: لا، لم يعن بهذا الأب إنما عنى به غير الأب. وإنكاح الأب جائز على الصغار ولا خيار لواحدة منهن بعد البوغ. وقال ابن حبيب: وقد ساوى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين البكر والثيب فى مشاورتهما فى أنفسهما، ولم يفرق بينهما إلا فى الجواب بالرضا، فإنه جعل جواب البكر بالرضا فى صماتها لاستحيائها، وجعل جوابها بالكراهة لذلك فى الكلام؛ لأنه لا حياء عليها فى كراهيتها كما يكون الحياء فى رضاها، ولم يلزم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الثيب الرضا بالصمات حتى تتكلم بالرضا لمفارقتها فى الحياء حال البكر لما تقدم من نكاحها، والدليل على أن المراد باستئمار البكر غير ذات الأب ما روى أبو نعيم، قال: حدثنا يونس بن أبى إسحاق، قال: حدثنى أبو بردة بن أبى موسى، عن أبيه، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (تستأمر اليتيمة فى نفسها، فإن سكتت فهو إذنها) ، ففرق بتسميته إياها يتيمة بينها وبين من لها أب. فإذا كانت ثيبًا، فيلزم الأب مؤامرتها، ولا يجوز نكاحه عليها بغير إذنها. وأما قول الكوفيين: الأيم التى لا زوج لها وقد تكون بكرًا، فالجواب أن العرب وإن كانت تسمى كل من لا زوج لها أيمًا فهو على الاتساع وأصل الأيمة عدم الزوج بعد أن كان، لكن المراد بالأيم فى هذا الحديث الثيب، والدليل على ذلك أنه قد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 253 روى جماعة عن مالك: (والثيب أحق بنفسها من وليها) ، مكان قوله: (الأيم أحق بنفسها) ، ثم قال: (والبكر تستأذن) ، فذكر البكر بعد ذكره الأيم، فدل أنها الثيب، ولو كانت الأيم فى هذا الحديث البكر لبطل الولى فى النكاح ولكانت كل بكر لا زوج لها أحق بنفسها من وليها، وكان هذا التأويل ردًا لقوله تعالى: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) [البقرة: 232] ، فخاطب بذلك الأولياء. واختلفوا فى الثيب الصغيرة، فقال مالك وأبو حنيفة: يزوجها أبوها جبرًا كالبكر، وسواء أصيبت بنكاح أو زنا. وقال الشافعى: لا يزوجها إلا بإذنها، وسواء جومعت بنكاح أو زنا. ووافقه أبو يوسف ومحمد إذا كان الوطء بزنا، واعتلوا بأنها إذا جربت الرجال كانت أعرف بحظها من الولى، فوجب أن يكون الأمر لها. واحتج الأولون، فقالوا: لما كانت محجورًا عليها فى مالها حجر الصغير جاز أن يجبرها على النكاح، وأيضًا فإنها قد ساوت البكر الصغيرة فى أنها لا يصح اختيارها، فلا معنى لاستئمارها. - باب إِذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ وَهِىَ كَارِهَةٌ فَنِكَاحُهُ مَرْدُودٌ / 34 - فيه: خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ، أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهْىَ ثَيِّبٌ، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَتَتْ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَرَدَّ نِكَاحَهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 254 اتفق أئمة الفتوى بالأمصار على أن الأب إذا زوج ابنته الثيب بغير رضاها أنه لا يجوز ويرد، واحتجوا بحديث خنساء، وشذ الحسن البصرى، والنخعى، فخالفا الجماعة، فقال الحسن: نكاح الأب جائز على ابنته بكرًا كانت أو ثيبًا، كرهت أو لم تكره. وقال النخعى: إن كانت الابنة فى عياله زوجها ولم يستأمرها وإن لم تكن فى عياله وكانت نائية عنه استأمرها. وإن لم يكن أحد من الأئمة مال إلى هذين القولين لمخالفتهما للسنة الثابتة فى خنساء وغيرها، وما خالف السنة فهو مردود. واختلف الأئمة القائلون بحديث خنساء إن زوجها بغير إذنها، ثم بلغها فأجازت، فقال إسماعيل القاضى: أصل قول مالك أنه لا يجوز إن أجازته إلا أن يكون بالقرب، كأنه فى فور واحد، ويبطل إذا بعد؛ لأن عقده عليها بغير أمرها ليس بعقد ولا يقع فيه طلاق. وقال الكوفيون: إذا أجازته جاز، وإذا أبطلته بطل. وقال الشافعى، وأحمد، وأبو ثور: إذا زوجها بغير إذنها فالنكاح باطل وإن رضيت؛ لأن النبى، عليه السلام، رد نكاح خنساء ولم يقل إلا أن تجيزه. - باب تَزْوِيجِ الْيَتِيمَةِ لِقَوْلِهِ تَعالَى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى فَانْكِحُوا) [النساء: 3] / 35 - فيه: عَائِشَةَ،) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى (إِلَى قَوْلِهِ: (مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النساء: 36] ، قَالَتْ: هى الْيَتِيمَةُ التِى تَكُونُ فِى حَجْرِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 255 وَلِيِّهَا، فَيَرْغَبُ فِى جَمَالِهَا وَمَالِهَا، وَيُرِيدُ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ صَدَاقِهَا، فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِى إِكْمَالِ الصَّدَاقِ، فَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ. معنى هذا الباب أن الولى شرط فى النكاح؛ لمخاطبة الله الأولياء بإنكاح اليتامى إذا خافوا ألا يقسطوا فيهن، وقد تقدم هذا الحديث فى باب من قال: لا نكاح إلا بولى، واحتج أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، بهذه الآية فى أنه يجوز للولى أن يزوج من نفسه اليتيمة التى لم تبلغ؛ لأن الله لما عاتب الأولياء أن يتزوجوهن إذا كن من أهل المال والجمال إلا على سنتهن من الصداق، وعاتبهم على ترك نكاحهن إذا كن قليلات المال والجمال استحال أن يكون ذلك منه تعالى فيمن لا يجوز نكاحه؛ لأنه لا يجوز أن يعاتب أحد على ترك ما هو حرام عليه، ألا ترى أنه أمر وليها أن يقسط لها فى صداقها، ولو أراد بذلك بالغًا لما كان لذكره أصل سنتها فى الصداق معنى، إذ كان له أن يراضيها على ما تشاء ثم يتزوجها على ذلك، فيكون ذلك له حلالاً كما قال الله تعالى: (فإن طبن لكم عن شىء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا) [النساء: 4] . فثبت أن التى أمر أن يبلغ بها أعلى سنتها فى الصداق هى التى لا أمر لها فى صداقها المولى عليها، وهى غير بالغ، ولا يجوز عند مالك والشافعى وجماعة أن يتزوج اليتيمة التى لا أب لها قبل البلوغ، ويفسخ النكاح عند مالك قبل الدخول وبعده، وقد تقدم الاختلاف فى هذه المسألة فى باب تزويج الصغار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 256 وكان من حجة من خالف أبا حنيفة فى ذلك أنه قد يكون فى اليتامى من تجوز حد البلوغ وبعده وهى سفيهة، لا يجوز بيعها ولا شىء من أفعالها، فأمر تعالى أولياءهن بالإقساط لهن فى الصدقات، فلم تدل الآية على جواز نكاح اليتيمة غير البالغ كما زعم أبو حنيفة، وليس هذا أولى بالتأويل ممن عارضه، وتأويل الآية فى اليتيمة البالغ السفيهة. - باب إِذَا قَالَ الْخَاطِبُ لِلْوَلِىِّ: زَوِّجْنِى فُلانَةَ، فَقَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِكَذَا وَكَذَا، جَازَ النِّكَاحُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ الزَوج: رَضيت أَوْ قَبِلت / 36 - فيه: سَهْلِ، أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، فَقَالَ: (مَا لِى الْيَوْمَ فِى النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ) ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَوِّجْنِيهَا، قَالَ: (مَا عِنْدَكَ) ؟ قَالَ: مَا عِنْدِى شَىْءٌ، قَالَ: (أَعْطِهَا، وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) ، قَالَ: مَا عِنْدِى قَالَ: (فَمَا عِنْدَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) ؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: (قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) . وترجم له: (باب إذا قال للولى زوجنى فلانة، فمكث ساعة، أو قال: ما معك من القرآن؟ قال: معى كذا وكذا، أو لبثا، ثم قال: زوجتكها، فهو جائز. قال المهلب: بساط الكلام ومفهوم القصة أغنى فى هذا الحديث عن أن يوقف الخاطب على الرضا، وليس هذا فى كل نكاح، بل يجب أن يسأل الزوج أرضى بالصداق والشرط أم لا؟ إلا أن يكون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 257 مثل هذا المعسر الراغب فى النكاح، فلا يحتاج إلى توقيفه على الرضا لعلمهم به. - باب لا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَدَعَ / 37 - فيه: ابْن عُمَر، نَهَى النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ. / 38 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ) ، إلى قوله: (وَلا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ) . قال ابن المنذر: النهى فى هذا الحديث أن يخطب الرجل على خطبة أخيه نهى تحريم لا نهى تأديب، لما روى الليث، عن ابن أبى حبيب، عن عبد الرحمن بن شماسة، أنه سمع عقبة بن عامر، أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (المؤمن للمؤمن، لا يحل لمؤمن أن يخطب على خطبة أخيه حتى يذر، ولا يحل له أن يبتاع على بيع أخيه حتى يذر) . قال الطبرى: اختلف أهل العلم فى تأويل هذا الحديث، فقال بعضهم: نهيه عليه السلام أن يخطب على خطبة أخيه منسوخ بخطبته، عليه السلام، لأسامة فاطمة بنت قيس على خطبة معاوية وأبى الجهم. وقال آخرون: هو حكم ثابت لم ينسخه شىء، وهو غير جائز لرجل خطبة امرأة قد خطبها غيره حتى يترك ذلك، هذا قول عقبة بن عامر، وعبد الله بن عمر، وابن هرمز. واحتجوا بعموم الحديث. وقال آخرون: نهيه عليه السلام أن يخطب على خطبة أخيه يريد فى حال رضا المرأة به وركونها إليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 258 وقد فسر مالك هذا الحديث فى الموطأ، فقال: معنى النهى عن ذلك إذا كانت المرأة قد ركنت إليه واتفقا على صداق وتراضيا، فتلك التى نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يخطبها على خطبة أخيه، فأما إذا لم تركن إليه ولم يوافقها، فلا بأس أن يخطبها غيره. قال أبو عبيد: وقول مالك هو عندنا وجه الحديث، وبه يقول أهل المدينة، وأهل العراق، أو أكثرهم، واحتج الشافعى والطحاوى بأن النبى، عليه السلام، أباح الخطبة لأسامة على خطبة معاوية وأبى جهم حين خطبا فاطمة بنت قيس، وكان بينًا أن الحالة التى خطب فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاطمة على أسامة غير الحال التى نهى عن الخطبة فيها حتى تصح معانى الآثار ولا تتضاد. واختلف أصحاب مالك إذا أظهرت الرضا ولم يتفقا على صداق، فقال أكثرهم: لا يخطبها؛ لأنه قد يكون نكاحًا ثابتًا إذا تم الرضا وإن لم يسم الصداق، وهو نكاح التفويض، إلا ابن نافع، فإنه قال: لا بأس أن يخطبها ما لم يتفقا على صداق، والقول الأول أولى. واختلف قول مالك وأصحابه إذا ركن إليها، ثم خطب عليه غيره وتزوجها، فروى عنه أنه يفسخ النكاح قبل الدخول، ولا يفسخ بعد الدخول وبئس ما صنع، وذكر عنه ابن المواز أنه يفسخ النكاح على كل حال، كما يفسخ البيع إذا ساوم على سومه، وهو قول أهل الظاهر، وروى عنه أنه لا يفسخ النكاح أصلاً، وهكذا روى سحنون عن ابن القاسم أنه لا يفسخ النكاح ولا البيع ويؤدب فاعله. وقال الكوفيون والشافعى: لا يفسخ، واحتج ابن القصار الجزء: 7 ¦ الصفحة: 259 لقول مالك أنه يفسخ، فقال: النهى يقتضى فساد المنهى عنه، وإذا كان إيقاع المنهى عنه فاسدًا لم تحصل به الاستباحة؛ لقوله عليه السلام: (من أحدث فى أمرنا ما ليس منه فهو رد) ، واحتج ابن حبيب لقوله: إنه لا يفسخ، فقال: ليس يشبه إذا اشترى على شراء أخيه؛ لأن ملك النكاح لا ينتقل بالركون خاصة، هكذا سمعت مطرفًا، وابن الماجشون يقولان: وقال أصبغ، عن ابن القاسم مثله، وقد كان ابن نافع يرى فيه الفسخ قبل البناء وبعده وليس بشىء. قال غيره: والدليل على جواز النكاح أنه لم يملك بضعها بالركون دون العقد، ولا كانت له بذلك زوجة تجب بينهما الموارثة ويقع الطلاق. وأما قولهم: إن النهى يقتضى فساد المنهى عنه، فنقول: العقد صحيح والمنهى عنه الخطبة خاصة ليس العقد كما لو فجر بها أو جردها عن ثيابها ثم نكحها. وأما قوله: إنه يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده، فهو من باب إعادة الصلاة فى الوقت ليدرك العمل على كماله وسننه. قال ابن المنذر: ونهيه عليه السلام أن يخطب على خطبة أخيه المسلم يدل على إباحة أن ينكح على خطبة اليهودى والنصرانى؛ لأن الأمور كانت على الإباحة حتى نهى عن الخطبة على المسلم، فثبتت الإباحة على من ليس بمسلم؛ لأن المؤمنين إخوة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 260 - باب تَفْسِيرِ تَرْكِ الْخِطْبَةِ / 39 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ عُمَرَ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ، لَقِى أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ له: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ، ثُمَّ خَطَبَهَا النَّبِىّ، فَلَقِيَنِى أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: لَمْ يَمْنَعْنِى أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْته إِلا أَنِّى قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ أَكُنْ لأفْشِىَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَوْ تَرَكَهَا لَقَبِلْتُهَا. إن قال قائل: كيف ترجم البخارى لهذا الحديث تفسير ترك الخطبة، وقد تقدم من مذاهب العلماء أن الخطبة جائزة على خطبة غيره إذا لم تركن إليه، والنبى (صلى الله عليه وسلم) حين أخبر بذلك أبا بكر لم يكن أعلم بهذا عمر فضلاً أن تركن إليه؟ فالجواب: أن الترجمة صحيحة والمعنى الذى قصد البخارى معنى دقيق يدل على ثقوب ذهنه ورسوخه فى الاستنباط، وذلك أن أبا بكر علم أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إذا خطب إلى عمر ابنته أنه لا يصرفه ولا يرغب عنه، بل يرغب فيه ويشكر الله على ما أنعم عليه من مصاهرته له وامتزاجه به، فقام علم أبى بكر الصديق بهذه الحالة مكان الركون والتراضى منهما، فكذلك كل من علم أنه لا يصرف إذا خطب لا تنبغى الخطبة على خطبته حتى يترك كما فعل أبو بكر، رضى الله عنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 261 - باب الْخُطْبَةِ / 40 - فيه: ابْن عُمَرَ، جَاءَ رَجُلانِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا، فَقَالَ النَّبِىُّ عَلَيْهِ السَّلام: (إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا) . قال المؤلف: الخطبة عند الحاجة من الأمر القديم المعمول به، وروى عن ابن مسعود أنه قال: علمنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خطبة الحاجة: الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم يقرأ: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة. . .) [النساء: 1] الآية،) اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا. . . (إلى) عظيمًا) [الأحزاب: 70، 71] ،) اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [آل عمران: 102] . قال المهلب: إنما استحبت فى خطبة النساء خطبة من الكلام ليسهل بها الخاطب أمره ويرغب فيما دعا إليه، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد شبه حسن التواصل إلى الحاجة بحسن الكلام فيها، واستنزال المرغوب إليه بالبيان بالسحر، وإنما هذا من أجل ما فى النفوس من الأنفة فى أمر الوليات، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : إن حسن التواصل إلى هذا الذى تألف النفس منه حتى تحبب ذلك المستبشع وجه من وجوه السحر الحلال. واستحب جمهور العلماء الخطبة فى النكاح، فقال مالك: وهى من الأمر القديم وما قل منها فهو أفضل. قال ابن حبيب: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 262 كانوا يستحبون أن يحمد الله الخاطب ويصلى على نبيه ثم يخطب المرأة، ثم يجيبه المخطوب إليه بمثل ذلك من حمد الله والصلاة على نبيه، ثم يذكر إجابته، وأوجبها أهل الظاهر فرضًا، واحتجوا بأن النبى (صلى الله عليه وسلم) خطب حين زوج فاطمة، وأفعاله على الوجوب. واستدل الفقهاء على أنها غير واجبة بقوله: (قد زوجتكها بما معك من القرآن) ، ولم يخطب، وبقوله: (كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع) ، أى ناقص، ولم يقل: إن العقد لا يتم لأنه زوج المرأة ولم يخطب. - باب ضَرْبِ الدُّفِّ فِى النِّكَاحِ وَالْوَلِيمَةِ / 41 - فيه: الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ، جَاءَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَدَخَلَ حِينَ بُنِىَ عَلَىَّ، فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِى كَمَجْلِسِكَ مِنِّى، فَجَعَلَتْ جُوَيْرِيَاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ، وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِى يَوْمَ بَدْرٍ؛ إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ: وَفِينَا نَبِىٌّ يَعْلَمُ مَا فِى غَدٍ، فَقَالَ: (دَعِى هَذِهِ، وَقُولِى بِالَّذِى كُنْتِ تَقُولِينَ) . قال المهلب: السنة إعلان النكاح بالدف والغناء المباح؛ ليكون ذلك فرقًا بينه وبين السفاح الذى يستسر به. وفيه: إقبال العالم والإمام إلى العرس وإن كان فيه لعب ولهو ما لم يخرج اللهو عن المباحات فيه. وفيه: جواز مدح الرجل فى وجهه بما فيه، وإنما المكروه من ذلك مدحه بما ليس فيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 263 - باب قَوْلِ اللَّهِ: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) [النساء: 4] وَكَثْرَةِ الْمَهْرِ وَأَدْنَى مَا يَجُوزُ مِنَ الصَّدَاقِ، وَقَوْلِهِ: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا) [النساء: 20] وَقَوْلِهِ تعَالَى: (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) [النساء: 20] وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) . / 42 - فيه: أَنَس، أَنَّ ابْن عَوْف تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ من ذهب، فَرَأَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَشَاشَةَ الْعُرْسِ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: إِنِّى تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ من ذهب. قال ابن المنذر: هذه الآيات دالة على وجوب المهر. قال المؤلف: ولا حد لأكثر المهر عند العلماء؛ لقوله تعالى: (وآتيتم إحداهن قنطارًا) [النساء: 20] ، ذكر عبد الرزاق، عن قيس بن الربيع، عن أبى حصين، عن أبى عبد الرحمن السلمى، قال: قال عمر بن الخطاب: لا تغالوا فى صدقات النساء، فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر، إن الله قال: (وآتيتم إحداهن قنطارًا (، وكذلك فى قراءة عبد الله: ولا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئًا، فقال: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته. وروى ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمى، قال: أصدق النبى (صلى الله عليه وسلم) كل امرأة من نسائه اثنتى عشرة أوقية ونشا، والنش نصف أوقية، فذلك خمسمائة درهم. قال ابن شهاب: اثنتى عشرة أوقية، فذلك أربعمائة درهم وثمانون درهمًا. وروى عن عمر بن الخطاب أنه أصدق أم كلثوم بنت على بن أبى طالب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 264 أربعين ألف درهم، وأن عمر أصدق صفية عشرة آلاف درهم، وعن ابن عباس وأنس مثله، وروى عن الحسن بن على أنه تزوج امرأة فأرسل إليها مائة جارية مع كل جارية ألف درهم. واختلفوا فى مقدار أقل الصداق الذى لا يجوز النكاح بدونه، فقال مالك: لا أرى أن تنكح المرأة بأقل من ربع دينار وهو ثلاثة دراهم كيلاً، وذلك أدنى ما يجب فيه القطع. وقال الكوفيون: لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم كيلاً قياسًا على ما تقطع فيه اليد عندهم. وقال النخعى: أقله أربعون ردهمًا. وقال سعيد بن جبير: أقله خمسون درهمًا. وقال ابن شبرمة: خمسة دراهم. وقالت طائفة: لا حد فى أقل الصداق، ويجوز بما تراضوا عليه. وروى هذا عن سعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله، وعبد الله بن يسار، والقاسم بن محمد، وسائر فقهاء التابعين بالمدينة: ربيعة، وأبى الزناد، ويحيى بن سعيد، وابن أبى ذئب، ومن العراق ابن أبى ليلى، والحسن البصرى، وهو قول الثورى، والليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وقال الأوزاعى: كل نكاح وقع بدرهم فما فوقه لا ينقضه قاض. وقال الشافعى: ما كان ثمنًا لشىء أو أجرة جاز أن يكون صداقًا، واحتجوا بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أجاز النكاح بخاتم حديد، وأجاز ابن وهب النكاح بدرهم وبنصف درهم، وقال الدراوردى لمالك: تعرقت فيها يا أبا عبد الله، يقول: ذهبت فيها مذهب أهل العراق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 265 واحتج أصحاب مالك، والكوفيون بأن البضع عضو مستباح ببدل من المال، فلابد أن يكون مقدرًا، قياسًا على القطع، واحتجوا بأن الله لما شرط عدم الطول فى نكاح الإماء وأباحه لمن لم يجد طولاً، دل على أن الطول لا يجده كل الناس، ولو كان الفلس والدانق والقبضة من الشعير ونحوه طولاً لما عدمه أحد، والطول فى معنى الآية المال، ولا يقع عندهم اسم مال على أقل من ثلاثة دراهم، فوجب أن يمنع من استباحة الفروج بالشىء التافه. والنواة عند أهل اللغة: زنة خمسة دراهم كيلاً، وأظن الذى قال: إن أقل الصداق خمسة دراهم إنما أخذه من حديث النواة، وهذه غفلة شديدة؛ لأن زنة النواة ثلاثة مثاقيل ونصف من الذهب، فكيف يحتج بها من جعل أقل الصداق خمسة دراهم من فضة. 30 - باب التَّزْوِيجِ عَلَى الْقُرْآنِ وَبِغَيْرِ صَدَاقٍ / 43 - فيه: سَهْل، إِنّ امْرَأَةٌ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ، فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ، فَلَمْ يُجِبْهَا بشَىْء، ففعلت ذلك ثلاثًا، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْكِحْنِيهَا، قَالَ: (هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَىْءٍ) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: (اذْهَبْ، فَاطْلُبْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) ، فَذَهَبَ فَطَلَبَ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، وَلا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَقَالَ: (هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَىْءٌ) ؟ قَالَ: مَعِى سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، قَالَ: (اذْهَبْ فَقَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 266 وترجم له: (باب الْمَهْرِ بِالْعُرُوضِ وَخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ) . اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فذهب قوم إلى أن النكاح على سورة من القرآن مسماة جائز، وقالوا: معنى ذلك أن يعلمها تلك السورة، هذا قول الشافعى. وقال آخرون: لا يكون تعليم القرآن مهرًا، هذا قول مالك، والليث، وأبى حنيفة، وأصحابه، والمزنى، إلا أن أبا حنيفة، قال: إذا تزوج على ذلك فالنكاح جائز، وهو فى حكم من لم يسم لها مهرًا، فلها مهر مثلها إن دخل بها، وإن لم يدخل بها فلها المتعة. وقال الشافعى: قوله عليه السلام: (التمس شيئًا) ، أو: (هل عندك شىء) ، ثم قال: (قد زوجتكها بما معك من القرآن) ، يدل أنه يجوز أن يكون تعليم القرآن وسورة منه مهرًا؛ لأن تعليم القرآن يصح أخذ الأجرة عليه، فجاز أن يكون صداقًا؛ لأنه التمس الصداق بالإزار وخاتم الحديد ثم بتعليم القرآن. قال: ولا فائدة لذكر القرآن فى الصداق غير ذلك، واحتج عليه الطحاوى، فقال: قوله عليه السلام: (قد زوجتكها بما معك من القرآن) ، خاص للنبى (صلى الله عليه وسلم) لا يجوز لغيره، وذلك أن الله أباح لرسوله (صلى الله عليه وسلم) ملك البضع بغير صداق، ولم يجعل ذلك لأحد غيره؛ لقوله تعالى: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبى إن أراد النبى أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين) [الأحزاب: 50] ، فكان له عليه السلام مما خصه الله من ذلك أن يملك غيره ما كان له ملكه بغير صداق، فيكون ذلك خاصًا له كما قال الليث: لا يجوز لأحد بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يتزوج بالقرآن، والدليل على صحة ذلك أنها قالت لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) : قد وهبت نفسى لك، فقام الرجل، فقال: إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 267 ولم يذكر فى الحديث أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شاورها فى نفسها، ولا أنها قالت: زوجنى منه، فدل أنه عليه السلام كان له أن يهبها بالهبة التى جاز له نكاحها. فإن قيل: قد يحتمل أن يكون فى الحديث سؤال من النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يزوجها منه، ولم ينقل فى الحديث. قيل: وكذلك يحتمل أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) جعل لها مهرًا غير السور، ولم ينقل فى الحديث، وليس أحد التأويلين أولى من صاحبه، ويحتمل وجهًا آخر أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) زوجها بما معه من القرآن لحرمته، وعلى وجه التعظيم للقرآن وأهله، لا على أنه مهر بدليل ما روى فى الحديث من قوله: (أتقرؤهن عن ظهر قلب؟) ، قال: نعم، قال: (قد زوجتكها) ، فراعى فيه حرمة القرآن، كما زوج النبى (صلى الله عليه وسلم) أبا طلحة أم سليم على إسلامه، ولم يكن إسلامه مهرًا لها فى الحقيقة، وإنما معنى تزويجها على إسلامه، أى أنه تزوجها لإسلامه. قال غيره: ويحتمل أن يريد بقوله: (ولو خاتمًا من حديد) ، تعجيل شىء يقدمه من الصداق، وإن كان قليلاً كقوله: (بعها ولو بضفير) ، والدليل على أنه أراد تعجيل شىء من الصداق أنه كان يجوز أن يزوجه على مهر يكون فى ذمته، وكان من عادتهم أن يقدموا شيئًا من الصداق؛ لأنه لم تجر عادتهم فى وقته، عليه السلام، فى المهور إلا بالشىء الثقيل، وإذا احتمل هذا كله لم يجعل أصلاً فى استباحة الفروج بالشىء الحقير الذى لا يعدمه أحد ولا بمهر مجهول. قال الطحاوى: والدليل على أنه لم يتزوجها على أن يعلمها السورة عوضًا من بضعها، أنا رأينا النكاح إذا وقع على مهر مجهول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 268 لم يثبت المهر، ورد حكم المرأة إلى حكم من لم يسم لها مهر، فاحتيج المهر أن يكون معلومًا كما تكون الأثمان فى البياعات معلومة، وكما تكون الأجرة فى الإجارات معلومة، وكان الأصل المجتمع عليه لو أن رجلاً استأجر رجلاً على أن يعلمه سورة من القرآن سماها بدرهم أن ذلك لا يجوز، وكذلك إذا استأجره على أن يعلمه شعرًا بعينه بدرهم لم يجز؛ لأن الإجارات لا تجوز إلا على أحد معنيين، إما على عمل بعينه مثل غسل ثوب بعينه أو خياطته، وإما على وقت معلوم، لابد أن يكون الوقت معلومًا كما يكون العمل معلومًا، وكان إذا استأجره على تعليم سورة، فتلك إجارة لا على وقت معلوم ولا على عمل معلوم، وإنما استأجره على أن يعلمه، وقد يتعلم بقليل التعليم وكثيره، وفى قليل الأوقات وكثيرها، وكذلك لو باعه داره على أن يعلمه سورة من القرآن لم يجز للمعانى التى ذكرناها فى الإجارات، وإذا كان التعليم لا تملك به المنافع ولا أعيان الأموال ثبت بالنظر ألا تملك به الأبضاع، والله الموفق. 31 - باب الشُّرُوطِ فِى النِّكَاحِ وَقَالَ عُمَرُ: مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ. وَقَالَ الْمِسْوَرُ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَذَكَرَ صِهْرًا لَهُ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِى مُصَاهَرَتِهِ، فَأَحْسَنَ، قَالَ: حَدَّثَنِى، فَصَدَقَنِى، وَوَعَدَنِى فَوَفَانِى. / 44 - فيه: عُقْبَةَ بْن عامر، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (أَحَقُّ مَا أَوْفَيْتُمْ مِنَ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 269 اختلف العلماء فى الرجل يتزوج المرأة ويشرط لها ألا يخرجها من دارها، ولا يتزوج عليها ولا يتسرى وشبه ذلك من الشروط المباحة. قال ابن المنذر: فقالت طائفة: يلزمه الوفاء بما شرط من ذلك. ذكر عبد الرزاق، وابن المسيب، عن عمر بن الخطاب، أن رجلاً شرط لزوجته ألا يخرجها، فقال عمر: لها شرطها. وقال: المسلمون على شروطهم عند مقاطع حقوقهم. وقال عمرو بن العاص: أرى أن تفى لها بشرطها. وروى مثله طاوس، وجابر بن زيد، وهو قول الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق؛ لقول عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط، ولقوله عليه السلام: (أحق الشروط أن يوفى بها ما استحللتم به الفروج) ، وحملوا الحديث على الوجوب. وقالت طائفة: لا يلزمه شىء من هذه الشروط. روى ابن وهب، عن الليث، عن عمرو ابن الحارث، عن كثير بن فرقد، عن ابن السباق، أن رجلاً تزوج امرأة على عهد عمر، وشرط لها ألا يخرجها من دارها، فوضع عنه عمر بن الخطاب الشرط، وقال: المرأة مع زوجها. وعن على بن أبى طالب مثله، وقال: شرط الله قبل شروطهم، ولم يره شيئًا. وممن هذا مذهبه عطاء، والشعبى، وسعيد بن المسيب، والحسن، والنخعى، وابن سيرين، وربيعة، وأبو الزناد، وقتادة، والزهرى، وهو قول مالك، والليث، والثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وقال عطاء: إذا شرطت أنك لا تنكح ولا تتسرى ولا تذهب ولا تخرج بها، يبطل الشرط إذا نكحها. وحملوا حديث عقبة على الندب، واستدلوا على ذلك بقوله عليه السلام فى صهره: (حدثنى فصدقنى، ووعدنى فوفى لى) ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 270 قالوا: وإنما استحق المدح؛ لأنه وفى له متبرعًا ومتطوعًا لا فيما لزمه الوفاء به على سبيل الفرض. قال ابن المنذر: وأصح ذلك قول من أبطل الشرط وأثبت النكاح، لقوله عليه السلام فى قصة بريرة: (كل شرط ليس فى كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، فأجاز البيع وأبطل الشرط، فلما أبطل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الشروط ما ليس فى كتاب الله، كان من اشترط شروطًا خلاف كتاب الله أولى أن تبطل. من ذلك أن الله أباح للرجال أن ينكحوا أربعًا، وأباح للرجل وطء ما ملكت يمينه؛ لقوله: (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) [المؤمنون: 6] ، فإذا شرطت عليه الزوجة تحريم ما أحل الله له بطل الشرط وثبت النكاح. ولما كان للمرء إذا عقد نكاح امرأة أن ينقلها حيث يصلح أن تنقل إليه مثلها، ويسافر بها، كان اشتراطها عليه كارهًا غير أحكام المسلمين فى أزواجهم، وذلك غير لازم للزوج، فأما معنى قوله عليه السلام: (أحق الشروط أن يوفى بها ما استحللتم به الفروج) ، فيحتمل أن تكون المهور التى أجمع أهل العلم أن على للزوج الوفاء بها، ويحتمل أن يكون ما شرط على الناكح فى عقد النكاح مما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وإذا احتمل الحديث معان كان ما وافق ظاهر كتاب الله وسنن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أولى، وقد أبطل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كل شرط ليس فى كتاب الله، وهذا أولى معنييه. قال المؤلف: فإن كان فى شىء من هذه الشروط ليس بطلاق أو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 271 عتق وجب عليه ولزمه عند مالك والكوفيين، وعند كل من يرى الطلاق قبل النكاح بشرط النكاح لازمًا، وكذلك العتق، وهو قول عطاء، والنخعى، والجمهور. قال النخعى: كل شرط فى نكاح فالنكاح يهدمه إلا الطلاق، ولا يلزم شىء من هذه الأيمان عند الشافعى؛ لأنه لا يرى الطلاق قبل النكاح لازمًا ولا العتق قبل الملك، واحتج بقوله: (كل شرط ليس فى كتاب الله فهو باطل) ، ومعناه ليس فى حكم الله وحكم رسوله لزوم هذه الشروط لإباحة الله تعالى أربعًا من الحرائر وإباحته ما شاء بملك اليمين، وإباحته أن يخرج بامرأته حيث شاء، فكل شرط يحظر المباح فهو باطل. 32 - باب الشُّرُوطِ الَّتِى لا تَحِلُّ فِى النِّكَاحِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لا تَشْتَرِطِ الْمَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا. / 45 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تَسْأَلُ طَلاقَ أُخْتِهَا؛ لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا، فَإِنَّمَا لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا) . قال ابن حبيب: لم يبلغ العلماء بالشروط المكروهة إلى التحريم، وحملوا قوله عليه السلام: (لا تسأل المرأة طلاق أختها) ، على الندب، لا إن فعل ذلك فاعل يكون النكاح مفسوخًا، وإنما هو استحسان من العمل به، وفضل فى ترك ما كره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من ذلك. قال الطحاوى: أجاز مالك، والكوفيون، والشافعى، أن يتزوج المرأة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 272 على أن يطلق زوجته، وقالوا: إن تزوجها على ألف وأن يطلق زوجته، فعند الكوفيين النكاح جائز، فإن وفى بما قال فلا شىء عليه غير الألف، وإن لم يف أكمل لها مهر مثلها. وقال ربيعة، ومالك، والثورى: لها ما سمى لها وفى أو لم يف. وقال الشافعى: لها مهر المثل وفى أو لم يف. قال المؤلف: فإن قيل: قوله عليه السلام: (لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها) ، على ما ثبت فى هذا الباب يدل أن رواية من روى: (لا تسأل المرأة طلاق أختها) ، يراد به التحريم والتحتم، وليس معناه الندب كما قال ابن حبيب، وأن الطلاق إذا وقع بذلك غير لازم. قيل له: ليس كما توهمت، وليس إعلامه عليه السلام لنا تحريم ذلك على المرأة بموجب أن الطلاق إذا وقع غير لازم، وإنما فيه النهى للمرأة والتغليظ عليها ألا تسأل طلاق أختها، ولترض بما قسم الله لها، وليس سؤالها ذلك بزائد فى رزقها شيئًا لم يقدر لها. ودل نهيه عليه السلام المرأة عن اشتراطها طلاق أختها أن الطلاق إذا وقع بذلك ماض جائز، ولئن لم يكن ماضيًا لم يكن لنهيه عليه السلام عن ذلك معنى، وكان اشتراطها ذلك كلا اشتراطها، وقد تقدم فى كتاب الشروط، فى باب الشروط فى الطلاق شىء فى هذا المعنى. 33 - باب الصُّفْرَةِ لِلْمُتَزَوِّجِ / 46 - فيه: أَنَس، أَنَّ ابْن عَوْف جَاءَ إِلَى النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَبِهِ صُفْرَةٍ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 273 فَسَأَلَهُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الأنْصَارِ، قَالَ: (كَمْ سُقْتَ إِلَيْهَا؟) ، قَالَ: وَزْن نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ) . وفى الباب حديث أنس: أولم النبى، عليه السلام، بزينب وأوسع المسلمين خبزًا. . . الحديث. وليس يتعلق بشىء من الترجمة، وفى رواية النسفى: فيه باب قال المهلب: اختلف لفظ حديث أنس فى ذكر الصفرة، فروى: وبه أثر الصفرة. وروى: وبه وضر صفرة. وروى: فرأى النبى (صلى الله عليه وسلم) بشاشة العروس فسأله. وقد روى حماد بن سلمة، عن ثابت البنانى وحميد، عن أنس، فقالا فيه: وبه ردع من زعفران، فعلم أن تلك الصفرة مما التصق بجسمه من الثياب المزعفرة التى تلبسها العروس. قال المهلب: وقيل: إن من كان ينكح فى أول الإسلام كان يلبس ثوبًا مصبوغًا بصفرة علامة العرس والسرور، ألا ترى قوله فى هذا الحديث: فرأى النبى (صلى الله عليه وسلم) بشاشة العروس، ذكره فى باب قوله تعالى: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) [النساء: 4] ، وقيل: إنما كان يلبسها ليعينه الناس على وليمته ومؤنته، وقد قال ابن عباس: أحسن الألوان كلها الصفرة؛ لقوله تعالى: (صفراء فاقع لونها تسر الناظرين) [البقرة: 69] ، فقرن السرور بالصفرة، وكان عليه السلام يحب الصفرة، ألا ترى قول ابن عمر حين سئل عن صبغه بها، فقال: إنى رأيت النبى (صلى الله عليه وسلم) يصبغ بالصفرة، فأنا أصبغ بها وأحبها، وسيأتى من أحب الصفرة ومن كرهها من العلماء فى كتاب اللباس، إن شاء الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 274 وهذا الحديث يدل أن نهيه عليه السلام الرجال عن المزعفر ليس على وجه التحريم، وإنما ذلك فى وجه دون وجه. 34 - باب كَيْفَ يُدْعَى لِلْمُتَزَوِّجِ / 47 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، رَأَى عَلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ أَثَرَ صُفْرَةٍ، قَالَ: (مَا هَذَا) ؟ قَالَ: إِنِّى تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ؟ قَالَ: (بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ) . وإنما أراد بهذا الباب، والله أعلم، رد قول العامة عند العروس: بالرفاء والبنين على ما كانت تقول الجاهلية عند ذلك، وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه نهى أن يقال ذلك للمتزوج من حديث عقيل بن أبى طالب، ذكره أبو عبيد والطبرى. فأدخل فى هذا الباب دعاء النبى، عليه السلام، بالبركة للمتزوج، وحديث عقيل رواه أشعث، عن الحسن، عن عقيل بن أبى طالب، أنه تزوج امرأة من بنى جشم، فقالوا: بالرفاء والبنين، فقال: لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم بارك لهم وعليهم) . قال الطبرى: إلا أن الحسن لم يسمع من عقيل، وقد حدث به عن الحسن غير الأشعث، فلم يرفعه إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) . قال الطبرى: والذى أختار من الدعاء ما صحت به الرواية عن النبى، عليه السلام، أنه قال: إذا رفأ الرجل بتزويج قال: بارك الله لك وبارك عليك، ورواه الدراوردى، عن سهيل، عن أبيه، عن أبى هريرة، عن النبى، عليه السلام، وغير محظور الزيادة على ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 275 35 - باب الدُّعَاءِ لِلنِّسْوَةِ اللاتِى يَهْدِينَ الْعَرُوسَ وَلِلْعَرُوسِ / 48 - فيه: عَائِشَةَ، تَزَوَّجَنِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَتَتْنِى أُمِّى، فَأَدْخَلَتْنِى الدَّارَ، فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنَ الأنْصَارِ فِى الْبَيْتِ، فَقُلْنَ: عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ. قال المؤلف: قد روى هذا الحديث عن النبى (صلى الله عليه وسلم) من رواية ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن معاذ بن جبل، قال: شهد النبى (صلى الله عليه وسلم) إملاك رجل من الأنصار، فقال: (على الألفة والخير والطير الميمون والسعة فى الرزق، بارك الله لكم) . وروى يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، قال: دعوت يونس بن يزيد إلى عرسى فسمعته يقول: سمعت ابن شهاب فى عرس لصاحبه يقول: بالجد الأسعد والطائر الأيمن. وزوج ابن عمر بنته سودة من عروة بن الزبير، فقال: قد زوجتكها، جمع الله ألفتكما على طاعته وطاعة رسوله. 36 - باب مَنْ أَحَبَّ الْبِنَاءَ قَبْلَ الْغَزْوِ / 49 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (غَزَا نَبِىٌّ مِنَ الأنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لا يَتْبَعْنِى رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِىَ بِهَا، وَلَمْ يَبْنِ بِهَا) . قال المهلب: تمام الحديث: (أو رجل بنى دارًا ولم يسكنها) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 276 وفيه من الفقه: وجوب استثبات البصائر فى الغزو والحض على جمع الكلمة والنيات؛ لأن الكلمة إذا اجتمعت واختلفت النيات كان ذريعة إلى اختلاف ذات البين، وقد جعل الله الخذلان فى الاختلاف، وجعل الاعتصام فى الجماعة، فقال: (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا) [آل عمران: 103] ، فلما كان قلب الرجل معلقًا بابتنائه بأهله أو ببنيان يخشى فساده قبل تمامه أو يحب الرجوع إليه ولم يوثق بثباته عند الحرب فقطعت الذريعة فى ذلك. 37 - باب الْبِنَاءِ فِى السَّفَرِ / 50 - فيه: أَنَس، أَقَامَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلاثًا يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَىٍّ، فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ، فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلا لَحْمٍ، أَمَرَ بِالأنْطَاعِ، فَأُلْقِىَ فِيهَا مِنَ التَّمْرِ وَالأقِطِ وَالسَّمْنِ، فَكَانَتْ وَلِيمَتَهُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ؟ فَقَالُوا: إِنْ حَجَبَهَا فَهِىَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِىَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّى لَهَا خَلْفَهُ، وَمَدَّ الْحِجَابَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ. قال المهلب: فيه من الفقه جواز البناء فى السفر كما ترجم. وفيه: جواز بقاء المسافرين على العالم والسلطان اليومين والثلاثة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 277 وليس ذلك من الحابس ظلمًا لهم ولا قطعًا بهم عن سفرهم؛ لأن الثلاثة الأيام سفر وما زاد فهو حضر، فإن حبس الرئيس جنده أكثر من ثلاثة فى حاجة عرضت له خشى عليه الإثم والحرج. وفيه: أن البقاء مع الثيب عند اليناء بها ثلاثًا سنة مؤكدة فى السفر والحضر من أجل حبس النبى، عليه السلام، الجيش ثلاثة أيام ليأتى على الناس علم ذلك. وفيه: جواز إبطال الاشتغال لإجابة الدعوة وإقامة سنة النكاح؛ لأنهم أبطلوا سفرهم لإقامة ابتناء النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وكذلك يلزم أهل المتزوج وإخوانه عونه على نكاحه، وإن قطع ذلك بهم عن بعض أشغالهم، وفيه الحكم بالدليل. 38 - باب الْبِنَاءِ بِالنَّهَارِ بِغَيْرِ مَرْكَبٍ وَلا نِيرَانٍ / 51 - فيه: عَائِشَةَ، تَزَوَّجَنِى النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَأَتَتْنِى أُمِّى، فَأَدْخَلَتْنِى الدَّارَ، فَلَمْ يَرُعْنِى إِلا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ضُحًى. السنة فى النكاح الإعلان، وكلما زاد الإعلان بمركب واجتماع أو نيران فهو أتم، وإلا فالإعلان كاف فى ذلك، وقد ذكر فى هذا الحديث اجتماع فى غير هذا الطريق اجتماع نساء الأنصار عند إدخالها بيتها ودعائهن لها بالبركة وعلى خير طائر، والمراد من اجتماع النساء الإعلان بالنكاح، وقد يجوز أن يبتنى الرجل بأهله بغير إعلان إذا كان النكاح قبل ذلك معروفًا، قاله المهلب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 278 39 - باب الأنْمَاطِ وَنَحْوِهَا لِلنِّسَاءِ / 52 - فيه: جَابِر، قال النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (هَلِ اتَّخَذْتُمْ أَنْمَاطًا) ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَّى لَنَا أَنْمَاطٌ، قَالَ: (إِنَّهَا سَتَكُونُ) . قال المهلب: فيه من علامات النبوة؛ لأنه عليه السلام أخبر بما يكون فكان. وفيه: جواز اتخاذ شورة البيوت للنساء. وفيه: دليل أن الشورة للمرأة دون الرجل، وأنها عليها فى المعروف من أمر الناس القديم؛ لأن النبى، عليه السلام، إنما قال ذلك لجابر؛ لأن أباه ترك سبع بنات، فقام عليهن جابر وشورهن بعد أبيه وزوجهن. 40 - باب النِّسْوَةِ اللاتِى يَهْدِينَ الْمَرْأَةَ إِلَى زَوْجِهَا وَدُعَائِهِنَّ بِالْبَرَكَةِ / 53 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا زَفَّتِ امْرَأَةً إِلَى رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَالَ النِّبِىُ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا عَائِشَةُ، مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ؟ فَإِنَّ الأنْصَارَ يُعْجِبُهُمُ اللَّهْوُ) . اتفق العلماء على جواز اللهو فى وليمة النكاح، مثل ضرب الدف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 279 وشبهه ما لم يكن محرمًا، وخصت الوليمة بذلك ليظهر النكاح وينتشر فتثبت حقوقه وحرمته. قال مالك: لا بأس بالدف والكبر فى الوليمة؛ لأنى أراه خفيفًا، ولا ينبغى ذلك فى غير العرس، وقد سئل مالك عن اللهو يكون فيه البوق، فقال: إن كان كبيرًا مشهرًا فإنى أكرهه، وإن كان خفيفًا فلا بأس بذلك. قال أصبغ: ولا يجوز الغناء فى العرس ولا فى غيره إلا مثلما فعل نساء الأنصار أو رجز خفيف مثلما كان من جواب الأنصار، وسأذكر اختلاف العلماء فى اللهو واللعب فى الوليمة فى باب هل يرجع إذا رأى منكرًا فى الدعوة بعد هذا، إن شاء الله. 41 - باب الْهَدِيَّةِ لِلْعَرُوسِ / 54 - فيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، إِذَا مَرَّ بِجَنَبَاتِ أُمِّ سُلَيْمٍ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَرُوسًا بِزَيْنَبَ، فَقَالَتْ لِى أُمُّ سُلَيْمٍ: لَوْ أَهْدَيْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) هَدِيَّةً، فَقُلْتُ لَهَا: افْعَلِى، فَعَمَدَتْ إِلَى تَمْرٍ وَسَمْنٍ وَأَقِطٍ، فَاتَّخَذَتْ حَيْسَةً فِى بُرْمَةٍ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا مَعِى إِلَيْهِ، فَانْطَلَقْتُ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لِى: (ضَعْهَا) ، ثُمَّ أَمَرَنِى، فَقَالَ: (ادْعُ لِى رِجَالا - سَمَّاهُمْ - وَادْعُ لِى مَنْ لَقِيتَ) ، قَالَ: فَفَعَلْتُ الَّذِى أَمَرَنِى فَرَجَعْتُ، فَإِذَا الْبَيْتُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ، فَرَأَيْتُ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى تِلْكَ الْحَيْسَةِ، وَتَكَلَّمَ بِهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَدْعُو عَشَرَةً عَشَرَةً يَأْكُلُونَ مِنْهُ، وَيَقُولُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 280 لَهُمُ: (اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّا يَلِيهِ) ، قَالَ: حَتَّى تَصَدَّعُوا كُلُّهُمْ عَنْهَا، فَخَرَجَ مِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ، وَبَقِىَ نَفَرٌ يَتَحَدَّثُونَ، قَالَ: وَجَعَلْتُ أَغْتَمُّ، ثُمَّ خَرَجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) نَحْوَ الْحُجُرَاتِ، وَخَرَجْتُ فِى إِثْرِهِ، فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ قَدْ ذَهَبُوا، فَرَجَعَ فَدَخَلَ الْبَيْتَ، وَأَرْخَى السِّتْرَ، وَإِنِّى لَفِى الْحُجْرَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ) [الأحزاب: 53] الآية. قال المهلب: فيه الهدية للعروس من أجل أنه مشغول بأهله ومانع لها عن تهيئة الطعام واستعماله، فلذلك استحب أن يهدى لهم طعام من أجل اشتغالهم عنه بأول اللقاء كما كان هذا المعنى فى الجنائز لاشتغالهم بالحزن حتى كان ذلك الطعام يسمى تعزية. وفيه: أن من سنة العروس إذا فضل له طعام أن يدعو له من خف عليه من إخوانه، فيكون زيادة فى الإعلان بالنكاح وسببًا إلى صالح دعاء الآكلين ورجاء البركة بأكلهم. وفيه: من أعلام النبوة، وهو أكل القوم الكثير من الطعام القليل. وفيه: أنه لا بأس بالصبر على الأذى من الصديق والجار والمعرفة، والاستحياء منه لاسيما إذا لم يقصد الأذى، وإنما كان عن جهل أو غفلة، فهذا أولى أن يستحيى منه لذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 281 42 - باب اسْتِعَارَةِ الثِّيَابِ وَغَيْرِهَا لِلْعَرُوسِ / 55 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلادَةً، فَهَلَكَتْ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِى طَلَبِهَا، فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلاةُ، فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ. . . . الحديث. قال المهلب: إنما استدل البخارى، والله أعلم، على جواز استعارة الثياب للعروس لاستعارة عائشة القلادة من أسماء لتتزين بها للنبى (صلى الله عليه وسلم) فى سفره، فكأن استعارة الثياب للعروس لتتزين بها إلى زوجها أولى، ويحتمل أن تكون عائشة ذلك الوقت قريبة عهد بعرس. وفيه من الفقه: جواز السفر بالعارية وإخراجها إذا أذن فى ذلك صاحبها، أو يعلم أنه يسمح بمثل هذا. وفيه: النهى عن إضاعة المال. وفيه: حبس المسافرين لحاجة تخص الرئيس والعالم. وفيه: استخدام الرئيس والسيد لأصحابه فيما يهمه شأنه؛ لأن أسيد بن حضير وغيره خرجا فى طلب القلادة. 43 - باب مَا يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ / 56 - فيه: ابْن عَبَّاس، قال النَّبِىُّ عَلَيْهِ السَّلام: (أَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ حِينَ يَأْتِى أَهْلَهُ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنِى الشَّيْطَانَ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 282 وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، ثُمَّ قُدِّرَ بَيْنَهُمَا فِى ذَلِكَ، أَوْ قُضِىَ وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا) . قال المهلب: فيه أن الدعاء يصرف البلاء ويعتصم به من نزعات الشيطان وأذاه. قال الطبرى: فإذا قال ذلك عند جماع أهله كان قد اتبع سنة النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ورجونا له دوام الألفة، وينبغى أن يفعل ذلك عند إتيانه مملوكته مثل الذى ينبغى أن يفعله عند إتيانه زوجته، إذ يمكن أن يحدث بينهما ولد. قال المهلب: واختلف العلماء فى هذا الضرر المدفوع بهذا الدعاء من الشيطان ما هو؟ فقال قوم: إنه الطعن الذى يطعن الشيطان المولود عند الولادة الذى عصم منه عيسى، عليه السلام، فطعن شيطانه فى الحجاب لما استعاذت منه أمه. وقيل: هو ألا يصرع ذلك المولود الذى يذكر اسم الله عليه ويستعاذ من الشيطان عند جماع أمه، وكلا الوجهين جائز، والله أعلم بالأولى منهما، ولا يجوز أن يكون الضرر الذى يكفاه من الشيطان كل ما يجوز أن يكون من الشيطان، فلو عصم أحد من ضرر الشيطان لعصم منه النبى، عليه السلام، وقد اعترض عليه فى الصلاة والقراءة. 44 - بَاب الْوَلِيمَةُ حَقٌّ وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: قَالَ لِى النَّبِىُّ عَلَيْهِ السَّلام: (أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 283 / 57 - فيه: أَنَس، أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ فَقْدَمَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، الْمَدِينَةَ، فَكَانَ أُمَّهَاتِى يُوَاظِبْنَنِى عَلَى خِدْمَةِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَخَدَمْتُهُ عَشْرَ سِنِينَ، وَتُوُفِّىَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَأَنَا ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، فَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الْحِجَابِ حِينَ أُنْزِلَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ فِى مُبْتَنَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، أَصْبَحَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِهَا عَرُوسًا، فَدَعَا الْقَوْمَ فَأَصَابُوا مِنَ الطَّعَامِ، ثُمَّ خَرَجُوا. . . . . الحديث. قوله: (الوليمة حق) ، يعنى أن الزوج يندب إليها وتجب عليه وجوب سنة وفضيلة، ولا أعلم أحدًا أوجبها فرضًا، وإنما هى على قدر الإمكان والوجود لإعلان النكاح، وفى حديث أنس فى الباب الذى بعد هذا أنه عليه السلام أولم على زينب بشاة، وفى حديث آخر عن أنس أنه، عليه السلام، أشبع المسلمين خبزًا ولحمًا فى وليمة زينب. وقد روى مالك، عن يحيى بن سعيد، أنه قال: لقد بلغنى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يولم بالوليمة ما فيها خبز ولا لحم، وهذه الوليمة كانت على صفية بنت حيى فى السفر مرجعه من خيبر، قيل لأنس: فبأى شىء أولم؟ قال: بسويق وتمر. 45 - بَاب الْوَلِيمَةِ وَلَوْ بِشَاةٍ / 58 - وفيه: أَنَس، أَن عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ نزل عَلَى سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، لما نزل فَقَالَ: أُقَاسِمُكَ مَالِى، وَأَنْزِلُ لَكَ عَنْ إِحْدَى امْرَأَتَىَّ، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِى أَهْلِكَ وَمَالِكَ، فَخَرَجَ إِلَى السُّوقِ، فَبَاعَ وَاشْتَرَى، فَأَصَابَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ، فَتَزَوَّجَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 284 / 59 - وفيه: أَنَس، مَا أَوْلَمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى شَىْءٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ، أَوْلَمَ بِشَاةٍ. / 60 - وفيه: أَنَس: أَنَّ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَتَزَوَّجَهَا، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا بِحَيْسٍ. / 61 - وفيه: أَنَس، بَنَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِامْرَأَةٍ، فَأَرْسَلَنِى، فَدَعَوْتُ رِجَالا إِلَى الطَّعَامِ. قال المهلب: اختلاف فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى هذه الولائم المختلفة يدل على ما ذكرناه فى الباب قبل هذا أنها إنما تجب على قدر اليسار والوجود فى الوقت، وليس قوله لعبد الرحمن: (أولم ولو بشاة) منعًا لما دون ذلك، وإنما جعل الشاة غاية فى التقليل لعبد الرحمن ليساره وغناه، وأنها مما يستطيع عليها ولا يجحفه، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) أولم على صفية وليمة حيس ليس فيها خبز ولا لحم، وأولم على غيرها بمدين من شعير، ولو وجد حينئذ شاة لأولم بها؛ لأنه كان أجود الناس وأكرمهم. وفى حديث عبد الرحمن بن عوف استحباب الذبح فى الولائم لمن وجد ذلك. وفيه أن الوليمة قد تكون بعد البناء؛ لأن قول النبى (صلى الله عليه وسلم) له: (أولم ولو بشاة) ، كان بعد البناء، وإنما معنى الوليمة إشهار النكاح وإعلانه، إذ قد تهلك البينة، قاله ربيعة، ومالك فى كتاب ابن المواز، فكيفما وقع الإشهار جاز النكاح. قال ابن وضاح: الحيس التمر ينزع نواه ويخلط بالسويق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 285 وقول أنس: بعثنى النبى، عليه السلام، فدعوت رجالاً إلى الطعام، فيه أن لصاحب الوليمة أن يبعث الرسل فيمن يحضر وليمته، وإن لم يتول ذلك بنفسه. 46 - بَاب مَنْ أَوْلَمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ / 62 - فيه: أَنَس، مَا رَأَيْتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أَوْلَمَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ على زينب، أَوْلَمَ بِشَاةٍ. كل من زاد فى وليمته فهو أفضل؛ لأن ذلك زيادة فى الإعلان واستزادة من الدعاء بالبركة فى الأهل، والمال، وليس فى الزيادة فى الوليمة سرف لمن وجد، وإنما السرف لمن استأصل ماله وأجحف بأكثره، وهذا معنى السرف فى كل حال مثل الطيب من الطعام والثياب للجمعة والأعياد وشبه ذلك. 47 - بَاب مَنْ أَوْلَمَ بِأَقَلَّ مِنْ شَاةٍ / 63 - فيه: صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، أَوْلَمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ. قد تقدم قبل هذا أن الوليمة إنما تجب على قدر الوجود واليسار، وليس فيها حد لا يجوز الاقتصار على دونه، وهذا يدل على أنها ليست بفرض؛ لأن الفروض من الله ورسوله مقدرة مبينة. وفيه: إجابة الدعوة إلى الوليمة وإن كان المدعو إليه قليلاً حقيرًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 286 48 - بَاب حَقِّ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ وَالدَّعْوَةِ وَمَنْ أَوْلَمَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَنَحْوَهُ، وَلَمْ يُوَقِّتِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمًا وَلا يَوْمَيْنِ / 64 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ الرسُول، عَلَيْهِ السَّلام: (إِذَا دُعِىَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ، فَلْيَأْتِهَا) . / 65 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ، عَلَيْهِ السَّلام: (فُكُّوا الْعَانِىَ، وَأَجِيبُوا الدَّاعِىَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ) . / 66 - وفيه: الْبَرَاءُ، أَمَرَنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ، منها إِجَابَةِ الدَّاعِى. . . الحديث. / 67 - وفيه: سَهْلِ، دَعَا أَبُو أُسَيْدٍ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى عُرْسِهِ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ يَوْمَئِذٍ خَادِمَهُمْ، وَهِىَ الْعَرُوسُ، أَنْقَعَتْ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا أَكَلَ سَقَتْهُ إِيَّاهُ. اتفق العلماء على وجوب إجابة الوليمة، واختلفوا فى غيرها من الدعوات، فقال مالك، والثورى، وأبو حنيفة، وأصحابه: يجب إتيان وليمة العرس، ولا يجب إتيان غيرها من الدعوات. وقال الشافعى: إتيان وليمة العرس واجبة، ولا أرخص فى ترك غيرها مثل النفاس والختان وحادث سرور، من تركها ليس بعاص كالوليمة. وقال أهل الظاهر: إجابة كل دعوة فيها طعام واجب، واحتجوا بحديث أبى موسى، وحديث البراء، أن النبى، عليه السلام، قال: (أجيبوا الداعى) ، وقالوا: هذا عام فى كل دعوة، وتأول مالك والكوفيون قوله، عليه السلام: (أجيبوا الداعى) ، يعنى فى العرس خاصة، بدليل حديث ابن عمر، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا دعى أحدكم إلى الوليمة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 287 فليأتها) ، قالوا: وحديث ابن عمر مفسر فيه بيان وتفسير ما أجمل، عليه السلام، فى قوله: (أجيبوا الداعى) ، والمفسر يقضى على المجمل. قال ابن حبيب: وقد استحبت الوليمة أكثر من يوم، وأولم ابن سيرين ثمانية أيام، ودعى فى بعضها أبى بن كعب، وكره قوم ذلك أيامًا، وقالوا: اليوم الثانى فضل، والثالث سمعة. وأجاب الحسن رجلاً دعاه فى اليوم الثانى، ثم دعاه فى الثالث فلم يجبه، وفعله ابن المسيب، وقال ابن مسعود: نهينا أن نجيب من يرائى بطعامه. وقول من أباحها بغير توقيت أولى؛ لقول البخارى، رحمه الله: ولم يوقت النبى (صلى الله عليه وسلم) يومًا ولا يومين، وذلك يقتضى الإطلاق ومنع التحديد إلا بحجة يجب التسليم لها، ولم يرخص العلماء للصائم فى التخلف عن إجابة الوليمة. وقال الشافعى: إذا كان المجيب مفطرًا أكل وإن كان صائمًا دعا. واحتج بحديث ابن سيرين، عن أبى هريرة، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا دعى أحدكم إلى وليمة فليجب، فإن كان مفطرًا فليطعم، وإن كان صائمًا فليصل) ، يعنى فليدع. وفعله ابن عمر ومد يده، وقال: بسم الله كلوا، فلما مد القوم أيديهم، قال: كلوا فإنى صائم. وقال قوم: ترك الأكل مباح وإن لم يصم إذا أجاب الدعوة، وقد أجاب على بن أبى طالب فدعا ولم يأكل. وقال مالك فى كتاب ابن المواز: أرى أن يجيب فى العرس وحده إن لم يأكل أو كان صائمًا. والحجة له حديث سفيان، عن أبى الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا دعى أحدكم فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 288 49 - باب مَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ / 68 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، يُدْعَى لَهَا الأغْنِيَاءُ، وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ، وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ، فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ (صلى الله عليه وسلم) . هذا الحديث موقوف على أبى هريرة، إلا أن قوله: (عصى الله ورسوله) ، يقضى برفعه، وقد أخرجه أهل التصنيف فى المسند كما أخرجوا حديث ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبى هريرة، أنه قال: (لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ، وحديث أبى الشعثاء، عن أبى هريرة، أنه رأى رجلاً خارجًا من المسجد بعد الأذان، فقال: (أما هذا فقد عصى أبا القاسم) ، ومثل هذا لا يكون رأيًا، وإنما يكون توقيفًا. وهذا الحديث حجة فى وجوب إجابة دعوة الوليمة، ولا خلاف فى ذلك بين الصحابة والتابعين إلا ما روى عن ابن مسعود أنه قال: نهينا أن نجيب من يدعو الأغنياء ويترك الفقراء، وقد دعا ابن عمر فى دعوته الأغنياء والفقراء، فجاءت قريش والمساكين معهم، فقال ابن عمر للمساكين: هاهنا اجلسوا لا تفسدوا عليهم شأنهم، فإنا سنطعمكم مما يأكلون. قال ابن حبيب: ومن فارق السنة فى وليمة فلا دعوة له ولا معصية فى ترك إجابته، وقد حدثنى المغيرة أنه سمع سفيان الثورى يقول: إنما تفسير إجابة الدعوة إذا دعاك من لا يفسد عليك دينك وقلبك. وحدثنى على بن معبد، عن بقية بن الوليد، عن محمد بن عبد الرحمن، عن شقيق بن سلمة، عن ابن مسعود، قال: إذا اتخذت النجد وخص الغنى وترك الفقير أمرنا ألا نجيب. وحدثنى المغيرة، عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 289 الثورى، عن الأعمش، عن أبى صالح، عن أبى هريرة، أنه كان يقول: أنتم العاصون فى الدعوة تدعون من لا يأتى وتدعون من يأتيكم، يعنى بمن لا يأتى الأغنياء، ومن يأتيهم الفقراء. وليس يحرم الطعام بدعوة الأغنياء وترك الفقراء، وإنما المحرم فعل صاحب الطعام فيه إذا تعمد ذلك، والله أعلم. 50 - بَاب مَنْ أَجَابَ إِلَى كُرَاعٍ / 69 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لأجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِىَ إِلَىَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ) . قال المهلب: معناه التواضع وترك التكبر والاستئلاف بقبول اليسير والإجابة إليه؛ لأن الهدية تؤكد المحبة، وكذلك الدعوة إلى الطعام لا تبعث إلى ذلك إلا صحت محبة الداعى وسروره بأكل المدعو إليه من طعامه والتحبب إليه بالمؤاكلة وتوكيد الذمام معه بها، فلذلك حض النبى (صلى الله عليه وسلم) على قبول التافه من الهدية، وإجابة النذر من الطعام. 51 - بَاب إِجَابَةِ الدَّاعِى فِى الْعُرْسِ وَغَيْرِهِ / 70 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (أَجِيبُوا هَذِهِ الدَّعْوَةَ إِذَا دُعِيتُمْ لَهَا) . وَكَانَ عَبْدُاللَّهِ يَأْتِى الدَّعْوَةَ فِى الْعُرْسِ، وَغَيْرِ الْعُرْسِ وَهُوَ صَائِمٌ. هذا الحديث حجة لمن أوجب إجابة الوليمة وغيرها فرضًا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 290 وقد تقدم أن إجابة الدعوة فى غير العرس عند مالك والكوفيين مندوب إليها، وروى ابن وهب، عن مالك أنه سئل عن الرجل يحضر الصنيع فيه اللهو، قال: ما يعجبنى للرجل ذى الهيبة أن يجيب الدعوات؛ لأن فى ذلك بذلة ومخالطة لمن لا يشاكله. وسُئل عن الدعوة فى الختان، فقال: ليس تلك من الدعوات، وإن أجاب فلا بأس. 52 - بَاب ذَهَابِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ إِلَى الْعُرْسِ / 71 - فيه: أَنَس، أَبْصَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) نِسَاءً وَصِبْيَانًا مُقْبِلِينَ مِنْ عُرْسٍ، فَقَامَ مُمْتَنًّا، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ) . قال المهلب: فيه استحسان شهود النساء والصبيان للأعراس؛ لأنها شهادة لهم عليها، ومبالغة فى الإعلان بالنكاح. وقال أبو الحسن بن القابسى: قوله: ممتنًا، يعنى متفضلاً عليهم بذلك؛ لأن الأنصار أحب الناس إليه، فقال أنس: هو عليه السلام ممتن علينا بمحبته وتخصيصه. 53 - بَاب هَلْ يَرْجِعُ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا فِى الدَّعْوَةِ وَرَأَى ابَنْ مَسْعُودٍ صُورَةً فِى الْبَيْتِ فَرَجَعَ، وَدَعَا ابْنُ عُمَرَ أَبَا أَيُّوبَ، فَرَأَى فِى الْبَيْتِ سِتْرًا عَلَى الْجِدَارِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: غَلَبَنَا عَلَيْهِ النِّسَاءُ، فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهِ، فَلَمْ أَكُنْ أَخْشَى عَلَيْكَ وَاللَّهِ لا أَطْعَمُ لَكُمْ طَعَامًا، فَرَجَعَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 291 / 72 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَامَ عَلَى الْبَابِ، فَلَمْ يَدْخُلْ، فَعَرَفْتُ فِى وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ) ؟ قُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ؛ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُقَالُ: لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ) ، وَقَالَ: (إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِى فِيهِ الصُّوَرُ لا تَدْخُلُهُ الْمَلائِكَةُ) . قال المؤلف: هذه الأحاديث تدل على أنه لا يجوز الدخول فى الدعوة يكون فيها منكر مما نهى الله عنه ورسوله، وما كان مثله من المناكير، ألا ترى أنه عليه السلام رجع من بيت عائشة حين رأى النمرقة بالتصاوير، وقد جاء الوعيد فى المصورين أنهم أشد الناس عذابًا يوم القيامة، وأنه يقال لهم: أحيوا ما خلقتم. فلا ينبغى حضور المنكر والمعاصى ولا مجالسة أهلها عليها؛ لأن ذلك إظهار للرضا بها، ومن كثر سواد قوم فهو منهم، ولا يأمن فاعل ذلك حلول سخط الله وعقابه عليهم وشمول لعنته لجميعهم، وقد روى ابن وهب، عن مالك، أنه سُئل عن الرجل يدعى إلى الوليمة وفيها شراب أيجيب الدعوة؟ قال: لا؛ لأنه أظهر المنكر. وقال الشافعى: إذا كان فى الوليمة خمر أو منكر وما أشبهه من المعاصى الظاهرة نهاهم، فإن نحوه وإلا رجع، وإن علم أن ذلك عندهم لم أحب له أن يجيب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 292 واختلفوا فى اللهو واللعب يكون فى الوليمة، فقال الليث: إذا كان فى الوليمة الضرب بالعود واللهو، فلا ينبغى أن يشهدها. قال ابن القاسم: وإن كان فيها لهو كالمزامير والعود فلا يدخل. وذكر ابن المواز، عن مالك، قال: إذا رأى أحدًا من اللاعبين فليخرج، مثل أن يجعل ضاربًا على جبهته أو يمشى على حبل. فقال ابن وهب، عن مالك: لا أحب لذى الهيبة أن يحضر اللعب، قيل له: فالكبر والمزمار وغيره من اللهو ينبا لك سماعه وتجد لذته وأنت فى طريق أو مجلس؟ قال: فليقم عن ذلك المجلس. وقد رجع ابن مسعود من لهو سمعه فى وليمة، وقال: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (من كثر سواد قوم فهو منهم) ، وقد مر ابن عمر براع يزمر، فجعل أصبعيه فى أذنيه ومشى، وجعل يقول لنافع: أتسمع شيئًا؟ قال: لا، فنحى يديه ثم قال: كنت مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فسمع زمارة راع، ففعل مثل ما فعلت. وقال أبو حنيفة: إذا حضر الوليمة فوجد فيها اللعب، فلا بأس أن يقعد ويأكل. وروى أن الحسن وابن سيرين كانا فى جنازة وهناك نوح، فانصرف ابن سيرين، فقيل ذلك للحسن، فقال: إن كنا ما رأينا باطلاً تركنا حقًا، أسرع ذلك فى ديننا. واحتج الكوفيون فى إجازة حضور اللعب بأن النبى، عليه السلام، قد رأى لعب الحبشة ووقف له وأراه عائشة، وضرب عنده فى العيد بالدف والغناء، فلم يمنع من ذلك، وحجة من كرهه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما لم يدخل البيت الذى فيه الصورة التى نهى عنها فكذلك كل ما كان مثلها من المناكير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 293 54 - بَاب قِيَامِ الْمَرْأَةِ عَلَى الرِّجَالِ فِى الْعُرْسِ وَخِدْمَتِهِمْ بِالنَّفْسِ / 73 - فيه: سَهْلٍ، لَمَّا عَرَّسَ أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِىُّ، دَعَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابَهُ، فَمَا صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا وَلا قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، إِلا امْرَأَتُهُ أُمُّ أُسَيْدٍ، بَلَّتْ تَمَرَاتٍ فِى تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الطَّعَامِ، أَمَاثَتْهُ لَهُ فَسَقَتْهُ، تُتْحِفُهُ بِذَلِكَ. فيه: خدمة العروس زوجها وأصحابه فى عرسها. وفيه: أنه لا بأس أن يعرض الرجل أهله على صالح إخوانه ويستخدمهن لهم. وفيه: شرب الشراب الذى لا يسكر فى العرس، وأن ذلك من الأمر المعروف القديم. وترجم له باب النقيع والشراب الذى لا يسكر فى العرس. وفى كتاب العين: مثت الملح فى الماء ميثًا: أذابته، وقد انماث. 55 - بَاب الْمُدَارَاةِ مَعَ النِّسَاءِ وَقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا الْمَرْأَةُ كَالضِّلَعِ) . / 74 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (الْمَرْأَةُ كَالضِّلَعِ، إِنْ أَقَمْتَهَا كَسَرْتَهَا، وَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا، وَفِيهَا عِوَجٌ) . قال المهلب: المداراة أصل الألفة واستمالة النفوس من أجل ما جبل الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 294 عليه خلقه وطبعهم من اختلاف الأخلاق، وقد قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (مداراة الناس صدقة) ، وعرفنا فى هذا الحديث أن سياسة النساء بأخذ العفو منهن والصبر على عوجهن، وأن من رام إقامة ميلهن عن الحق، فأراد تقويمهن عدم الانتفاع بهن وصحبتهن لقوله عليه السلام: (إن أقمتها كسرتها) ، ولا غنى بالإنسان عن امرأة يسكن إليها ويستعين بها على معايشه ودنياه، فلذلك قال عليه السلام: (إن الاستمتاع بالمرأة لا يكون إلا بالصبر على عوجها) . 56 - باب الْوَصَاةِ بِالنِّسَاءِ / 75 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِى جَارَهُ، وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَىْءٍ فِى الضِّلَعِ أَعْلاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا) . / 76 - وفيه: ابْن عُمَرَ، كُنَّا نَتَّقِى الْكَلامَ وَالانْبِسَاطَ إِلَى نِسَائِنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) هَيْبَةَ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا شَىْءٌ، فَلَمَّا تُوُفِّىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) تَكَلَّمْنَا وَانْبَسَطْنَا. قال المهلب: الوصاة بالنساء يدل على أنه لا يستطاع تقويمهن على ما سلف فى الحديث قبل هذا الباب، وإنما هو تنبيه منه عليه السلام وإعلام بترك الاشتغال بما لا يستطاع، والتأنيس بالأجر بالصبر على ما يكره، وفى هذا الحديث أنه يجب أن تتقى عاقبة الكلام الجافى والمقاومة، والبلوغ إلى ما تدعو النفس إليه من ذلك إذا خشى سوء عاقبته، وإن لم يخش ذلك فله أن يبلغ غاية ما يريد مما يحل له الكلام فيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 295 57 - بَاب قوله تَعَالَى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم: 6] / 77 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رعيته، وَالإمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِىَ مَسْئُولَةٌ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عنه، أَلا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ) . قال المهلب: هذا الحديث مفسر للآية التى ترجم بها؛ لأنه أخبر عليه السلام أن الرجل مسئول عن أهله، وإذا كان كذلك فواجب عليه أن يعلمهم ما يقيهم به النار. قال زيد بن أسلم: لما نزلت هذه الآية: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا) [التحريم: 6] ، قالوا: يا رسول الله، هذا وقينا أنفسنا، فكيف بأهلينا؟ قال: (تأمرونهم بطاعة الله وتنهوهم عن معاصى الله) ، وذكر ذلك عن على. 58 - بَاب حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ الأهْلِ / 78 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ أَنْ لا يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئًا، قَالَتِ الأولَى: زَوْجِى لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ، لا سَهْلٍ فَيُرْتَقَى، وَلا سَمِينٍ فَيُنْتَقَلُ، قَالَتِ الثَّانِيَةُ: زَوْجِى لا أَبُثُّ خَبَرَهُ، إِنِّى أَخَافُ أَنْ لا أَذَرَهُ، إِنْ أَذْكُرْهُ أَذْكُرْ عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 296 قَالَتِ الثَّالِثَةُ: زَوْجِى الْعَشَنَّقُ، إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ، وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ، قَالَتِ الرَّابِعَةُ: زَوْجِى كَلَيْلِ تِهَامَةَ، لا حَرٌّ، وَلا قُرٌّ، وَلا مَخَافَةَ، وَلا سَآمَةَ، قَالَتِ الْخَامِسَةُ: زَوْجِى إِنْ دَخَلَ فَهِدَ، وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ، وَلا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ، قَالَتِ السَّادِسَةُ: زَوْجِى إِنْ أَكَلَ لَفَّ، وَإِنْ شَرِبَ اشْتَفَّ، وَإِنِ اضْطَجَعَ الْتَفَّ، وَلا يُولِجُ الْكَفَّ؛ لِيَعْلَمَ الْبَثَّ، قَالَتِ السَّابِعَةُ: زَوْجِى غَيَايَاءُ - أَوْ عَيَايَاءُ - طَبَاقَاءُ، كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ، شَجَّكِ أَوْ فَلَّكِ، أَوْ جَمَعَ كُلا لَكِ، قَالَتِ الثَّامِنَةُ: زَوْجِى الْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ، قَالَتِ التَّاسِعَةُ: زَوْجِى رَفِيعُ الْعِمَادِ، طَوِيلُ النِّجَادِ، عَظِيمُ الرَّمَادِ، قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنَ النَّادِ. قَالَتِ الْعَاشِرَةُ: زَوْجِى مَالِكٌ، وَمَا مَالِكٌ؟ مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكِ، لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَاتُ الْمَبَارِكِ، قَلِيلاتُ الْمَسَارِحِ، وَإِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمِزْهَرِ، أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ، قَالَتِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: زَوْجِى أَبُو زَرْعٍ، وَمَا أَبُو زَرْعٍ؟ أَنَاسَ مِنْ حُلِىٍّ أُذُنَىَّ، وَمَلأ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَىَّ، وَبَجَّحَنِى فَبَجِحَتْ إِلَىَّ نَفْسِى، وَجَدَنِى فِى أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ، فَجَعَلَنِى فِى أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ، وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ، فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلا أُقَبَّحُ، وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ، وَأَشْرَبُ فَأَتَقَمَّحُ، أُمُّ أَبِى زَرْعٍ، فَمَا أُمُّ أَبِى زَرْعٍ؟ عُكُومُهَا رَدَاحٌ، وَبَيْتُهَا فَسَاحٌ، ابْنُ أَبِى زَرْعٍ، فَمَا ابْنُ أَبِى زَرْعٍ؟ مَضْجَعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ، وَيُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الْجَفْرَةِ، بِنْتُ أَبِى زَرْعٍ، فَمَا بِنْتُ أَبِى زَرْعٍ؟ طَوْعُ أَبِيهَا، وَطَوْعُ أُمِّهَا، وَمِلْءُ كِسَائِهَا، وَغَيْظُ جَارَتِهَا، جَارِيَةُ أَبِى زَرْعٍ، فَمَا جَارِيَةُ أَبِى زَرْعٍ؟ لا تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثًا، وَلا تُنَقِّثُ مِيرَتَنَا تَنْقِيثًا، وَلا تَمْلأ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 297 قَالَتْ: خَرَجَ أَبُو زَرْعٍ وَالأوْطَابُ تُمْخَضُ، فَلَقِىَ امْرَأَةً مَعَهَا وَلَدَانِ لَهَا كَالْفَهْدَيْنِ، يَلْعَبَانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا بِرُمَّانَتَيْنِ، فَطَلَّقَنِى وَنَكَحَهَا، فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رَجُلا سَرِيًّا، رَكِبَ شَرِيًّا، وَأَخَذَ خَطِّيًّا، وَأَرَاحَ عَلَىَّ نَعَمًا ثَرِيًّا، وَأَعْطَانِى مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ زَوْجًا، وَقَالَ: كُلِى أُمَّ زَرْعٍ، وَمِيرِى أَهْلَكِ، قَالَتْ: فَلَوْ جَمَعْتُ كُلَّ شَىْءٍ أَعْطَانِيهِ، مَا بَلَغَ أَصْغَرَ آنِيَةِ أَبِى زَرْعٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ لى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (كُنْتُ لَكِ كَأَبِى زَرْعٍ لأمِّ زَرْعٍ) . / 79 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ الْحَبَشُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ، فَسَتَرَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنَا أَنْظُرُ، فَمَا زِلْتُ أَنْظُرُ حَتَّى كُنْتُ أَنَا أَنْصَرِفُ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ، تَسْمَعُ اللَّهْوَ. قال المهلب: فيه جواز نقل الأخبار عن حسن المعاشرة وضرب الأمثال بها، والتأسى بأهل الإحسان من كل أمة، ألا ترى أن أم زرع أخبرت عن أبى زرع بحسن عشرته، فتمثله النبى، عليه السلام. وفيه: جواز تذكير الرجل امرأته بإحسانه إليها؛ لأنه لما جاز من النساء كفران العشير، جاز تذكيرهن بالإحسان، وفيه فى قصة الحبشة أن تفسير حسن المعاشرة هو الموافقة والمساعدة على الإرادة غير المحرمة، والصبر على أخلاق النساء والصبيان فى غير المحرم من اللهو، وإن كان الصابر كارهًا لما يحبه أهله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 298 وقال أبو عبيد: سمعت أهل العلم يقولون فى تفسير هذا الحديث: قول الأولى: لحم جمل غث، تعنى المهزول. وقال أبو سعيد النيسابورى: ليس شىء من الغثات من الأزواج الثمانية هو أخبث غثاثة من الجمل؛ لأنه يجمع خبث طعم وخبث ريح. قال أبو عبيد: على رأس جبل، تصف قلة خيره وبعده مع القلة كالشىء فى قمة الجبل الصعب لا ينال إلا بالمشقة، لقولها: لا سهل فيرتقى، تعنى الجبل، ولا سمين فينتقى، تعنى اللحم، ومن روى: فينتقل، تريد ليس بسمين فينقله الناس إلى بيوتهم فيأكلونه. وقول الثانية: زوجى لا أبث خبره، إنى أخاف ألا أذره، إن أذكره أذكر عجزه وبجره، فالعجر أن ينعقد العصب أو العروق حتى تراها ناتئة من الجسد، والبجر نحوها، إلا أنها فى البطن خاصة، واحدها بجرة، ومنه قيل: رجل أبجر، إذا كان عظيم البطن، وامرأة بجراء، يقال: لفلان بجرة، إذا كان ناتئ السرة عظيمها. وقال أبو سعيد النيسابورى: لم يأت أبو عبيد بالمعنى، وإنما عنت أن زوجها كثير العيوب فى أخلاقه، منعقد النفس عن المكارم. قال المؤلف: وفيه تفسير آخر. قال ثعلب فى العجر والبجر: ومنه قول على يوم الجمل: إلى الله أشكو عجرى وبجرى، أى همومى وأحزانى. وقول الثالثة: زوجى العشنق، العشنق الطويل، قاله الأصمعى، تقول: ليس عنده أكثر من طوله بلا نفع، فإن ذكرت ما فيه من العيوب طلقنى، وإن سكت تركنى معلقة لا أيم ولا ذات بعل، ومنه قوله تعالى: (فتذروها كالمعلقة) [النساء: 129] . وقال أبو سعيد: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 299 الصحيح غير ما ذكر أبو عبيد، العشنق من الرجال الطويل النجيب الذى ليس أمره إلى امرأته، وأمرها إليه، فهو يحكم فيها بما شاء وهى تخافه. وقول الرابعة: زوجى كليل تهامة، لا حر ولا قر، ولا مخافة ولا سآمة، تقول: ليس عنده أذى ولا مكروه، وتهامة اسم مكة، الحر فيها بالنهار شديد وليلها معتدل بين الحر والبرد، ولذلك خصته بهذا المثل؛ لأن الحر والبرد كلاهما فيه أذى إذا اشتد ولا مخافة، تقول: ليس عنده غائلة ولا شر أخافه ولا سآمة، تقول: لا يسأمنى فيمل صحبتى. وقول الخامسة: زوجى إن أكل لف، فإن اللف فى المطعم الإكثار منه مع التخليط من صنوفه حتى لا يبقى منه شىء، والاشتفاف فى المشرب أن يستقصى ما فى الإناء ولا يسؤر فيه سؤرًا، وإنما أخذ من الشفافة وهى البقية تبقى فى الإناء من الشراب، وقولها: ولا يولج الكف ليعلم البث، فأحسبه كان بجسدها عيب أو داء تكتئب له، والبث هو الحزن، فكان لا يدخل يده فى ثوبها ليمس ذلك العيب فيشق عليها، تصفه بالكرم. وقول السادسة: زوجى غياياء، أو عياياء، فأما غياياء بالغين، فليس بشىء، إنما هو بالعين، والعياياء من الإبل، الذى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 300 لا يضرب ولا يلقح، وكذلك هو فى الرجال، والطباقاء الغبى الأحمق الفدم. قال أبو على: وحكى بعضهم فى تفسير الطباقاء من الرجال، الثقيل الصدر الذى يطبق صدره على صدر المرأة عند المباضعة. وقال يعقوب: هو الذى لا يتجه لشىء. وفسره الخليل بأنه الغبى الأحمق، وقولها: كل داء له داء، أى كل شىء من أدواء الناس فهو فيه ومن أدوائه. وقول السابعة: زوجى إذا دخل فهد، فإنها تصفه بكثرة النوم والغفلة فى منزله على وجه المدح له، وذلك أن الفهد كثير النوم، يقال: أنوم من فهد، والذى أرادت أنه ليس يتفقد ما ذهب من ماله، ولا يلتفت إلى معايب البيت، وما فيه كأنه ساه عن ذلك، ومما يبينه قولها: ولا يسأل عما عهد، تعنى عما كان عندى قبل ذلك. وقولها: إن خرج أسد، تصفه بالشجاعة فى الحروب، يقال: أسد الرجل واستأسد بمعنى. وقول الثامنة: زوجى المس مس أرنب، فإنها تصفه بحسن الخلق، ولين الجانب كمس الأرنب إذا وضعت يدك على ظهرها. وقولها: والريح ريح زرنب، فإن فيه معنيين، قد تكون تريد طيب ريح جسده، ويمكن أن تريد طيب الثناء فى الناس وانتشاره فيهم كريح الزرنب، وهو نوع من أنواع الطيب معروف. وقول التاسعة: زوجى رفيع العماد، فإنها تصفه بالشرف وسناء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 301 الذكر، وأصل العماد عماد البيت وجمعها عمد، وهى العيدان التى تعمد بها البيوت، وإنما هذا مثل تعنى أن بيته فى حسبه رفيع فى قومه. وقولها: طويل النجاد، فإنها تصفه بامتداد القامة، والنجاد حمائل السيف، فهو يحتاج إلى قدر ذلك من طوله، وهذا مما يمتدح به الشعراء. وقولها: عظيم الرماد، فإنها تصفه بالجود وكثرة الضيافة من لحم الإبل وغيرها، فإذا فعل ذلك عظمت ناره وكثر وقودها، فيكون الرماد كثيرًا. وقولها: قريب البيت من النادى، تعنى أنه ينزل بين ظهرانى الناس ليعلموا مكانه، فينزل به الأضياف، ولا يستبعد منهم ولا يتوارى فرارًا من نزول الأضياف والنوائب. وقول العاشرة: زوجى مالك، وما مالك، مالك خير من ذلك، له إبل قليلات المسارح، كثيرات المبارك، تقول: إنه لا يوجههن ليسرحن نهارًا إلا قليلاً، ولكنهن يبركن بفنائه، فإن نزل به ضيف لم تكن الإبل غائبة عنه، ولكنها بحضرته فيقريه من ألبانها ولحومها. وقولها: إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك، فالمزهر العود الذى يضرب به، فأرادت المرأة أن زوجها قد عود إبله إذا نزل به الضيف أن ينحر لهم ويسقيهم الشراب ويأتيهم بالمعازف، فإذا سمعت الإبل ذلك الصوت أيقن أنهن منحورات. قال أبو سعيد: إن كن لا يسرحن إلا قليلاً من النهار ثم تُحبس فى المبارك سائر النهار، فهى هالكة هزالاً، وإن كن يسرحن بالليل فقد ضاع أضياف الليل، والتفسير أن مسارحها قليلة لقلة الإبل، وكثرت مباركها بالفناء لكثرة ما تثار فتحلب ثم تترك، فالقليلة إذا فعل بها هذا كثرت مباركها. وقوله: المزهر العود فنحن ننكره؛ لأن العرب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 302 كانوا لا يعرفون العود إلا من خالط الحضر منهم، والعود إنما أحدث بمكة والمدينة، والذى نذهب إليه أنه المزهر، وهو الذى يزهر النار للأضياف والطراق، فإذا سمعت صوت ذلك وحسه أيقنت بالعقر. وقول الحادية عشرة: زوجى أبو زرع، وما أبو زرع، أناس من حلى أذنى، تريد حلانى قرطة وشنوفًا ينوس بأذنى، والنوس الحركة من كل شىء متدل، يقال منه: قد ناس ينوس نوسًا وأناسه غيره إناسة. قال أبو عبيد: وأخبرنى ابن الكلبى أن ذا نواس ملك اليمن إنما سمى بهذا لضفيرتين كانتا تنوسان على عاتقيه. وقولها: ملأ من شحم عضدى، لم ترد العضد خاصة، وإنما أرادت الجسد كله، تقول: إنه أسمننى بإحسانه إلىّ، فإذا سمن العضد سمن سائر الجسد. وقولها: بجحنى فبجحت، أى فرحنى ففرحت. وقد بجح الرجل يبجح، إذا فرح. وقولها: وجدنى فى أهل غنيمة بشق، والمحدثون يقولون: بشق، فمن قال بشق فهو موضع، تعنى أن أهلها كانوا أصحاب غنم، ليسوا بأصحاب خيل ولا إبل، قالت: فجعلنى فى أهل صهيل وأطيط، أى فى أصحاب خيل وإبل؛ لأن الصهيل أصوات الخيل والأطيط أصوات الإبل. وقولها: دائس ومنق، فإن بعض الناس يتأوله دياس الطعام، وأهل الشام يسمونه الدراس، وأهل العراق يقولون: دائس الطعام، ولا أظن واحدة من هاتين الكلمتين من كلام العرب. وأما قول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 303 المحدثين: منق، فلا أدرى معناه، وأحسبه منق من تنقية الطعام، وأرادت أنهم أصحاب زرع. وقال أبو سعيد: الدياس الطعام الذى أهله فى دياسة، وعندهم من الطعام مقتنى، فخيرهم متصل. وقال غيره: قوله: منق، هو مأخوذ من نقنقة الدجاجة، يقال: أنق الرجل، إذا اتخذ دجاجة تنقنق، تقول: فجعلنى فى أهل طير، أى نقلنى من قفر إلى عمران. قال أبو عبيد: وقولها: فلا أقبح، أى فلا يقبح على قولى، يقبل منى، وأما التقمح من الشراب فهو مأخوذ من الناقة المقامح. قال الأصمعى: وهى التى ترد الماء فلا تشرب. قال أبو عبيد: وأحسب قولها: أتقمح، أروى حتى أدع الشرب من شدة الرى. قال أبو عبيد: ولا أراها قالت هذا إلا من عزة الماء عندهم، وكل رافع رأسه فهو مقامح وقامح، وفى التنزيل: (إلى الأذقان فهم مقمحون) [يس: 8] ، وبعض الناس يروونه فأتقنح، بالنون ولا أعرف هذا الحرف، ولا أراه إلا بالميم. وقال أبو سعيد: أشرب فأتقنح، هو الشرب على رسل لكثرة اللبن؛ لأنها ليست بناهبة غيرها الشرب، وإنما ينتهب ما كان قليلاً يخاف عجزه، وقول الرجل لصاحبه إذا حثه على أن يأكل أو يشرب: والله لتقمحنه، والتقمح الازدياد من الشرب. وقال ابن السكيت فى التقنح بالنون الذى لم يعرفه أبو عبيد أتقنح: أقطع الشراب. قال أبو زيد: قال الكلابيون: قنحت تقنح قنحًا، وهو التكاثر فى الشراب بعد الرى. وقال أبو حنيفة: يقال: قنحت من الشراب قنحًا، وقنحت أقنح قنحًا، تكارهت عليه بعد الرى، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 304 والغالب تقنحت والترنح كالتقنح. قال أبو عبيد: وقولها: عكومها رداح، فالعكوم الأعدال والأحمال التى فيها الأوعية من صنوف الأطعمة من جميع المتاع، واحدها عكم، والرداح العظيمة، تقول: هى عظيمة الحشو. وقولها: كمسل شطبة، والشطبة أصلها ما شطب من جريد النخل، وهو سعفه، وذلك أن تشق منه قضبان دقاق تنسج منه الحصر، يقال منه للمرأة التى تفعل ذلك شاطبة، وجمعها شواطب، فأخبرت المرأة أنه مهفهف ضرب اللحم، شبهته بتلك الشطبة، وهو مما يمدح به الرجل. وقال أبو سعيد: كمسل شطبة، أى كسيف مسلول، شبهته بذى شطب يمان، وسيوف اليمن كلها شطبة. قال أبو عبيد: وقولها: وتشبعه ذراع الجفرة، فالجفرة الأنثى من أولاد الغنم، والذكر جفر، والعرب تمدح الرجل بقلة الأكل والشرب، قال الأعشى: تكفيه حزة فلذ إن ألم بها من الشواء ويروى شربه الغمر وقولها: لا تبث حديثنا تبثيثًا، ويروى تنث بالنون، وأحدهما قريب المعنى من الآخر، أى لا تظهر سرنا. وقولها: ولا تنفث ميرتنا تنفيثًا، تعنى الطعام، لا تأخذه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 305 فتذهب به، تصفها بالأمانة، والتنفث الإسراع فى السير. وقال أبو سعيد: التنفيث إخراج ما فى منزل أهلها إلى الأجانب، وهو النفث والتنفث، والفاء والثاء يتعاقبان. قال أبو عبيد: والأوطاب أسقية اللبن، واحدها وطب. وقال أبو سعيد النيسابورى: هذا منكر فى العربية أن يكون فعل يجمع على أفعال، لا يقال: كلب وأكلاب، ولا وجه وأوجاه، وإنما الصحيح الأوطب فى القلة والأوطاب فى الكثرة. قال أبو عبيد: قالت: فلقى امرأة معها ولدان كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين، تعنى أنها ذات كفل عظيم، فإذا استقلت نأى الكفل بها من الأرض حتى تصير تحت خصرها فجوة يجرى فيها الرمان. قال أبو عبيد: وبعض الناس يذهب بالرمانتين أنهما الثديان، وليس هذا بموضعه. قالت: فطلقنى ونكحها، ونكحت بعده رجلاً سريًا ركب شريًا، تعنى الفرس أنه يستشرى فى سيره، أى يلج ويمضى فيه بلا فتور ولا انكسار، ومن هذا قيل للرجل إذا لج فى الأمر: قد شرى فيه واستشرى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 306 قال ابن السكيت: ركب فرسًا شريًا، أى خيارًا، من قولهم: هذا من سراة المال أى خياره. قال أبو عبيد: وقولها: أخذ خطيا، تعنى الرمح، سمى خطيا لأنه يأتى من بلاد من ناحية البحرين، يقال لها: الخط، فنسبت الرماح إليها، وإنما أصل الرماح من الهند، ولكنها تحمل إلى الخط فى البحرين ثم يفرق منها فى البلاد. وقولها: نعمًا ثريا، تعنى الإبل، والثراء الكثير من المال وغيره. قال الكسائى: يقال: قد ثرى بنو فلان بنى فلان يثرونهم، إذا كثروهم فكانوا أكثر منهم. 59 - بَاب مَوْعِظَةِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ لِحَالِ زَوْجِهَا / 80 - فيه: ابْن عَبَّاس، لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ، عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تظاهرتا على رسول اللَّه. . . وساق الحديث. وَقَالَ عُمَر: وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأنْصَارِ، إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأنْصَارِ، فَصَخِبْتُ عَلَى امْرَأَتِى، فَرَاجَعَتْنِى، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِى، قَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ، فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، لَيُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ إلى اللَّيْلِ، فَأَفْزَعَنِى ذَلِكَ، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: أَىْ حَفْصَةُ، أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) الْيَوْمَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 307 حَتَّى اللَّيْلِ؟ فقَالَتْ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: قَدْ خِبْتِ وَخَسِرْتِ، أَفَتَأْمَنِينَ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) فَتَهْلِكِى، لا تَسْتَكْثِرِى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلا تُرَاجِعِيهِ فِى شَىْءٍ، وَلا تَهْجُرِيهِ، وَسَلِينِى مَا بَدَا لَكِ، وَلا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ، أَوْضَأَ مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، يُرِيدُ عَائِشَةَ. . . وذكر الحديث. قال المهلب: فيه الترجمة. وفيه بذل الرجل المال لابنته لتحسن عشرتها مع زوجها؛ لأن ذلك صيانة لعرضه وعرضها، وبذل المال لصيانة العرض واجب. وفيه: تعريض الرجل لابنته بترك الاستكثار من الزوج إذا كان ذلك يؤذيه ويحرجه. وفيه: سؤال العالم عن بعض أمور أهله إذا كان فى ذلك سنة تنقل ومسألة تحفظ، وإن كان فيه عليه غضاضة وإن كان من سره. وفيه: توقير العالم عما يخشى أن يحسمه والمطل بذلك حتى يخشى فواته، فإذا خشى ذلك جاز للطالب أن يفتش عما فيه غضاضة وعما لا غضاضة فيه. وفيه: إجابة العالم فى ابنته وفى امرأته بما سلف لها من خطأ وما ضلت فيه من سنة. وفيه: سؤال العالم فى الخلوات وفى موضع التبرز لاسيما إذا كان فى شىء من أمر نسائه وأسراره لا يجب أن يسأل عن ذلك فى جماعة الناس ويترقب المواضع الخالية. قال الطبرى: وفيه الدلالة الواضحة على أن الذى هو أصلح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 308 للمرء وأحسن به الصبر على أذى أهله والإغضاء عنهم، والصفح عما يناله منهن من مكروه فى ذات نفسه دون ما كان فى ذات الله، وذلك للذى ذكره عمر، عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من صبره على ما يكون إليه منهن من الشر على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأذاهن له وهجرهن له. ولم يذكر عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه عاقبهن على ذلك، بل ذكر أن عمر هو الذى وعظهن عليه دون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وبنحو الذى ذكر عمر من خلق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تتابعت الأخبار عنه، وإلى مثله ندب أمته عليه السلام. وروى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلى) ، وروى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن زمعة، قال: خطب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فذكر النساء، فقال: (علام يعمد أحدكم فيجلد امرأته جلد العبد، ولعله يضاجعها من يومه) . فإن قال قائل: فإن كان الفضل فى الصبر على أذاهن واحتمال مكروههن فما وجه الخبر الذى روى ابن أبى ليلى، عن داود بن على بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن ابن عباس، أن النبى، عليه السلام، قال: (علق سوطك حيث تراه الخادم) ، وحديث محمد بن واسع، عن عبد الله بن الصامت، عن أبى ذر، قال رجل: يا رسول الله، أوصنى، قال: (أخف أهلك ولا ترفع عنهم عصاك) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 309 قيل: قد اختلف العلماء فى ذلك، فقال بعضهم: هذه أحاديث لا يجوز الاحتجاج بها لوهاء أسانيدها، وأفضل ما تخلق به الرجل فى أهله الصفح عنهن على ما صح به الخبر، عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وقال آخرون بتصحيح هذه الأخبار، ثم اختلفوا فى معناها، فقال بعضهم: معنى ذلك أن يضرب الرجل امرأته إذا أراد منها ما تكره فيما يجب عليها فيه طاعته، واعتلوا بأن جماعة من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) والتابعين كانوا يفعلون ذلك. روى عن جرير، عن مغيرة، عن أم موسى، قال: كانت ابنة على بن أبى طالب تحت عبد الله بن أبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فربما ضربها فتجىء إلى الحسن بن على تشتكى، وقد لزق درع حرير بجسدها من الضرب، فيقسم عليها لترجعن إلى بيت زوجها. وروى أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء، قالت: كنت رابعة أربع نسوة تحت الزبير، فكان إذا عتب على إحدانا فك عودًا من المشجب فضربها به حتى يكسره عليها. وروى شعبة، عن عمارة، قال: دخلت على أبى مجلز، فدار بينه وبين امرأته كلام، فرفع العصا فشجها قدر نصف أنملة أصبعه. وكان محمد بن عجلان يحدث بقوله، عليه السلام: (لا ترفع عصاك عن أهلك) ، فكان يشترى سوطًا فيعلقه فى قبته لتنظر إليه امرأته وأهله. وقال آخرون: بل ذلك أمر من النبى، عليه السلام، بأدب أهلهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 310 ووعظهم، وألا يخلو من تفقدهم بما يكون لهن مانعًا من الفساد عليهم والخلاف لأمرهم. قالوا: وذلك من قول العرب: شق فلان عصا المسلمين، إذا خالف ألفتهم وفارق جماعتهم. قالوا: ومن ذلك قيل للرجل إذا أقام بالمكان واستقر به واجتمع إليه أمره: قد ألقى فلان عصاه، وضرب فيه أرواقه. وأما ضربها لغير الهجر فى المضجع، فغير جائز له ذلك، بل محرم عليه، قالوا: وقد حرم الله أذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فكذلك ضربهن بغير ما اكتسبن حرام، والصواب أنه غير جائز لأحد ضرب أحد ولا أذاه إلا بالحق، لقوله تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا) [الأحزاب: 58] ، سواء كان المضروب امرأة وضاربها زوجها، أو مملوكًا وضاربه مولاه، أو صغيرًا وضاربه والده، أو وصى لأبيه عليه؛ لأن الله أباح لهؤلاء ضرب من ذكرنا بالمعروف، على ما فيه صلاحهم. وأما قوله عليه السلام للذى قال له: أوصنى، قال: (لا تضع عصاك عن أهلك وأخفهم فى الله) ، فمعناه عندى بخلاف قول من وجهه إلى أنه أراد به وعظ أهله، وإنما ذلك حض منه، عليه السلام، على ترهيب أهله فى ذات الله بالضرب؛ لئلا يركبوا موبقة ويكسبوا سيئة باقيًا عليه عارها، إذ كان النبى، عليه السلام، قد جعله قيمًا على أهله وراعيًا عليهن، كما جعل الأمير راعيًا على رعيته، وعلى الراعى سياسة رعيته بما فيه صلاحهم دنيا ودينًا. والدليل على أن قوله، عليه السلام: (لا تضع عصاك عن أهلك. . .) ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 311 هو ما قلنا، قوله عليه السلام لفاطمة بنت قيس: (أما أبو جهل، فلا يضع عصاه عن عاتقه) ، فأعلمها بذلك غلظته على أهله وشدته عليهم، فلو كان معناه: (لا تضع عصاك عن أهلك) ، لا تخلهم من تأديبك بالوعظ والتذكير عند الترهيب بالضرب عند ركوبها ما لا يحل لها، لم يكن لتزهيده، عليه السلام، فاطمة فى أبى جهم بما وصفه به من ترك وضع عصاه عن أهله معنى، إذ كان الوعظ والتذكير لا يوجبان لصاحبهما ذما. وقد جاء هذا المعنى بينًا فى بعض الروايات: روى شعبة، عن أبى بكر بن أبى الجهم، قال: دخلت أنا وأبو سلمة على فاطمة بنت قيس، فحدثنا بحديثها، وأن النبى، عليه السلام، قال لها: أبو جهم يضرب النساء، أو فيه شدة على النساء، فمعنى قوله عليه السلام فى أبى جهم: (لا يضع عصاه عن عاتقه) ، يعنى فى الحق والباطل وفيما يجب وفيما لا يجب. ومن كان كذلك، فلا شك أنه غير متبع قوله عليه السلام: (لا تضع عصاك عن أهلك) ؛ لأنه عليه السلام لا يأمر بضرب أحد من غير حق، بل ذلك مما نهى عنه، عليه السلام، بقوله: (اتقوا الله فى النساء، فإنهن عندكم عوان) . وفيه: أن لذى السلطان وغيره اتخاذ حجبة تحول بينه وبين من أراده، ومن الوصول إليه إلا بإذنه لهم؛ لقول عمر: والنبى عليه السلام فى مشربة له وعلى بابه غلام أسود. وفيه: بيان أن ما روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه لم يكن له بواب أن معناه لم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 312 يكن له بواب فى الأوقات التى يظهر فيها، عليه السلام، لحاجات الناس، ويبرز لهم فيها، فأما فى الأوقات التى كان يخلو بنفسه فيها فيما لابد له منه، فإنه قلما كان يتخذ فيها أحيانًا بوابًا وحاجبًا ليعلم من قصده أنه خال بما لابد له منه من قضاء حاجة، وتلك هى الحال التى وصف عمر أنه وجد على باب مشربته بوابًا، وسيأتى زيادة فى هذا المعنى فى كتاب الأحكام فى باب ما ذكر أن النبى، عليه السلام، لم يكن له بواب. قال المهلب: وفيه أن للإمام والعالم أن يحتجب فى بعض الأوقات عن بطانته وخاصته عندما يطرقه ويحدث عليه من المشقة مع أهله وغيرهم حتى يذهب ما بنفسه من ذلك ليلقى الناس بعد ذلك، وهو منبسط إليهم غير مستنكر لما عرض له. وفى سكوته، عليه السلام، عن الإذن لعمر فى تلك الحال الرفق بالأصهار والحياء منهم عندما يقع للرجل مع أهله؛ لأنه لو أمر غلامه فرد عمر وصرفه لم يجز لعمر أن يتضرب مرة بعد أخرى حتى أذن له، عليه السلام، ودخل عليه، فدل ذلك أن السكوت قد يكون أبلغ من الكلام، وأفضل فى بعض الأحايين. قال الطبرى: وفيه الإبانة عن أن كل لذة وشهوة قضاها المرء فى الدنيا فيما له مندوحة عنها، فهو استعجال بذلك من نعيم الآخرة الذى لو لم يستعجله فى الدنيا كان مدخورًا له فى الآخرة، وذلك لقوله، عليه السلام، لعمر: (أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم فى حياتهم الدنيا) ، فأخبر أن ما أوتيه فارس والروم من نعيم الدنيا تعجيل من الله لهم نظير ما دخر لأهل ولايته عنده؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 313 فكره لأمته أن تؤتى مثل ما أوتى فارس والروم على سبيل التلذذ والتنعم، فأما على صرفه فى وجهه وتفريقه فى سبله التى أمر الله بوضعه فيها، فلا شك فى فضل ذلك وشرف منزلته، إذ هو من منازل الامتحان والصبر على المحن، مع أن الشكر على النعم أفضل من الصبر على الضراء وحدها. تفسير ما فيه الغريب: قوله: فتبرز، يعنى خرج إلى البراز، وهو ما برز عن البيوت والدور وبعد. وقوله: فسكبت على يديه ماء، يعنى صببت، يقال: سكبت أسكب سكبًا، وهو ماء سكوب، إذا سال. والعوالى جمع عالية، وهو ما ارتفع من نجد إلى تهامة، والسوافل ما يسفل من ذلك. وقوله: كنا نتناوب النزول، يعنى كنا نجعله نوبًا أنزل أنا مرة وينزل هو أخرى، ومن ذلك قيل: نابت فلانًا نائبة، إذا حدثت به حادثة، والنوب عند العرب، القرب. وقوله: تراجعنى الكلام، يعنى ترادنى الكلام، ومنه قوله تعالى: (إنه على رجعه لقادر) [الطارق: 8] ، قيل: عنى به رد الماء فى الصلب، وقيل: عنى به رد الإنسان إلى الصغر بعد الكبر، وقيل: عنى به رد الإنسان بعد مماته لهيئته قبل مماته. وقوله: لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك، يعنى ضرتك، والجارة عند العرب الضرة، ومنه قول حمل بن مالك: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 314 كنت بين جارتين لى، يعنى ضرتين، ومنه قول ابن سيرين: كانوا يكرهون أن يقولوا ضرة، ويقولون: أنها لا تذهب من رزقها بشىء، ويقولون: جارة، والعرب تسمى صاحب الرجل وخليطه جاره والصاحبة والخليطة جارة، وتسمى زوجة الرجل جارته لاصطحابهما ومخالطة كل واحد منهما صاحبه، وقد تقدم ذلك فى كتاب الشفعة عند قوله عليه السلام: الجار أحق بصقبه. وقوله: أوضأ منك، يعنى أجمل منك، من الوضاءة، وهو الجمال. والمشربة الخزانة التى يكون فيها طعامه وشرابه، وقيل لها: مشربة، فيما أرى؛ لأنهم كانوا يخزنون فيها شرابهم، كما قيل للمكان الذى تطلع عليه الشمس وتشرق فيه: ضاحية مشرقة. وقوله: على رمال حصير، يقال: رملت الحصير: نسجته، وحصير مرمول: منسوج، والرمل: هو النسج، والراملة: الناسجة. وقوله: غير أهبة ثلاثة، هو جمع إهاب، وهو الجلد غير المدبوغ، يجمع أهبًا وأهبة. 60 - بَاب صَوْمِ الْمَرْأَةِ بِإِذْنِ زَوْجِهَا تَطَوُّعًا / 81 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ، إِلا بِإِذْنِهِ) . قال المهلب: هذا الصوم المنهى عنه المرأة إلا بإذن زوجها هو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 315 صوم التطوع عند العلماء، كما ترجم به البخارى؛ لإجماعهم على أن الزوج ليس له أن يمنعها من أداء الفرائض اللازمة لها، وقوله، عليه السلام: (لا تصوم. . . إلا بإذنه) ، هو محمول على الندب لا على الإلزام، وإنما هو من حسن المعاشرة وخوف المخالفة التى هى سبب البغضة، ولها أن تفعل من غير الفرائض ما لا يضره ولا يمنعه من واجباته بغير إذنه، وليس له أن يبطل عليها شيئًا من طاعة الله عز وجل، إذا دخلت فيه بغير إذنه. وفيه: حجة لمالك ومن وافقه فى أن من أفطر فى صيام التطوع عامدًا أن عليه القضاء؛ لأنه لو كان للرجل أن يفسد عليها صومها بجماع ما احتاجت إلى إذنه، ولو كان مباحًا كان إذنه لا معنى له، وهو قول أبى حنيفة، وأبى ثور، وقال الشافعى، وأحمد، وإسحاق: لا قضاء عليها. وفيه: أن حقوق الزوج آكد على المرأة من التطوع بالخير. 61 - بَاب إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ مُهَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا / 82 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ، فَأَبَتْ أَنْ تَجِىءَ، لَعَنَتْهَا الْمَلائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ) . قال المهلب: هذا يوجب أن منع الحقوق كلها فى الأبدان كانت أو فى الأموال مما يوجب سخط الله تعالى، إلا أن يتغمدها بعفوه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 316 وفيه: جواز لعن العاصى المسلم إذا كان على وجه الإرهاب عليه؛ لئلا يواقع الفعل، فإذا واقعه فإنه يدعى له بالتوبة والهداية. وفيه: أن الملائكة تدعوا على أهل المعاصى ما داموا فى المعصية، وذلك يدل أنهم يدعون لأهل الطاعة ما داموا فيها. 62 - بَاب لا تَأْذَنِ الْمَرْأَةُ فِى بَيْتِ زَوْجِهَا إِلا بِإِذْنِهِ / 83 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى، عَلَيْهِ السَّلام: (لا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلا بِإِذْنِهِ، وَلا تَأْذَنَ فِى بَيْتِهِ إِلا بِإِذْنِهِ، وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ نَفَقَةٍ عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنَّهُ يُؤَدَّى إِلَيْهِ شَطْرُهُ) . قال المهلب: قوله: (لا تأذن فى بيت زوجها إلا بإذنه) ، يعنى لا لرجل ولا لامرأة يكرهها زوجها، فإن ذلك يوجب سوء الظن، ويبعث الغيرة التى هى سبب القطيعة، ويشهد لهذا قوله عليه السلام: (انظرن ما أخواتكن) ، وإن كان الإذن للنساء أخف من الإذن للرجال. فإن قيل: قد جاء لفظ حديث أبى هريرة مختلفًا، وذلك أنه ذكر فى كتاب الطلاق أنه قال: (إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره، فله نصف أجره) ، فهل يعارض قوله عليه السلام: (فإنه يؤدى إليه شطره) ، أم لا؟ قيل: لا تعارض بينهما، بل أحد اللفظين مفسر للآخر، وذلك أن هذا الحديث إنما ورد فى المرأة إذا تصدقت من مال زوجها بغير إذنه بالمعروف مما تعلم أنه يسمح به ولا يتشاح به. وقوله: (فله نصف أجره) ، يفسر قوله: (يؤدى إليه شطره) ، يعنى يتأدى إليه من أجر الصدقة مثل ما يتأدى إلى المتصدق من الأجر، ويصيران فى الأجر نصفين، ويشهد لهذا قوله عليه السلام: (الدال على الخير كفاعله) ، وهذا يقتضى المساواة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 317 63 - بَاب / 84 - فيه: أُسَامَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، قَالَ: (قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَكَانَ عَامَّةَ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينُ، وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ، غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ) . قال المهلب: فيه من الفقه أن أقرب ما يدخل به الجنة التواضع لله تعالى، وأن أبعد الأشياء من الجنة التكبر بالمال وغيره، وإنما صار أصحاب الجد محبوسون لمنعهم حقوق الله الواجبة للفقراء فى أموالهم، فحبسوا للحساب عما منعوه، فأما من أدى حقوق الله فى أمواله، فإنه لا يحبس عن الجنة، إلا أنهم قليل، إذ كثر شأن المال تضيع حقوق الله فيه؛ لأنه محنة وفتنة، ألا ترى قوله: (فكان عامة من دخلها المساكين) ، وهذا يدل أن الذين يؤدون حقوق المال ويسلمون من فتنتة هم الأقل، وقد احتج بهذا الحديث فى فضل الفقر على الغنى، وسيأتى الكلام فى ذلك فى كتاب الزهد، إن شاء الله. 64 - بَاب كُفْرَانِ الْعَشِيرِ وَهُوَ الزَّوْجُ، وَهُوَ الْخَلِيطُ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ / 85 - فِيهِ: عَنْ أَبِى سَعِيدٍ عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام. / 86 - وفيه: ابْن عَبَّاس، خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَصَلَّى وَالنَّاسُ مَعَهُ. . . . وذكر الحديث إلى قوله: (رَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ) ، قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (بِكُفْرِهِنَّ) ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 318 قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: (يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ) . / 87 - وفيه: عِمْرَانَ بن حصين، عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، قَالَ: (اطَّلَعْتُ فِى الْجَنَّةِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِى النَّارِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ) . قال المهلب: إنما استحق النساء النار بكفرانهن العشير من أجل أنهن يكثرن ذلك الدهر كله، ألا ترى أن النبى، عليه السلام، قد فسره، فقال: (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر) ، لجازت ذلك بالكفران الدهر كله، فغلب استيلاء الكفران على دهرها، فكأنها مصرة أبدًا على الكفر، والإصرار من أكبر أسباب النار. وفى هذا الحديث تعظيم حق الزوج على المرأة، وأنه يجب عليها شكره والاعتراف بفضله؛ لستره لها وصيانته وقيامه بمؤنتها وبذله نفسه فى ذلك، ومن أجل هذا فضل الله الرجال على النساء فى غير موضع من كتابه، فقال: (الرجال قوامون على النساء بما فضل) [النساء: 34] الآية، وقال: (وللرجال عليهن درجة) [البقرة: 228] ، وقد أمر عليه السلام من أسديت إليه نعمة أن يشكرها، فكيف نعم الزوج التى لا تنفك المرأة منها دهرها كله؟ وقد قال بعض العلماء: شكر الإنعام فرض. واحتج بقوله عليه السلام: (من أسديت إليه نعمة فليشكرها) ، وبقوله: (أن اشكر لى ولوالديك) [لقمان: 14] ، فقرن بشكره شكر الآباء، قال: فكذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 319 شكر غيرهم واجب، وقد يكون شكر النعمة فى نشرها، ويكون فى أقل من ذلك، فيجزئ فيه الإقرار بالنعمة والمعرفة بقدر الحاجة. وفيه أن الكسوف والزلازل والآيات الحادثة إنما هى كما قال الله: (وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا) [الإسراء: 59] ، وأمرهم عليه السلام عند رؤية آيات الله بالفزع إلى الصلاة، فدل أن الصلاة تصرف النقم، وبها يعتصم من المحن، إذ هى أفضل الأعمال. 65 - بَاب لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقٌّ قَالَهُ أَبُو جُحَيْفَةَ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . / 88 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرِو، قال النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (يَا عَبْدَاللَّهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ) ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَلا تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) . لما ذكر فى الباب قبل هذا حق الزوج على المرأة، ذكر فى هذا الباب حق المرأة على الزوج، وأنه لا ينبغى له أن يجحف نفسه فى العبادة حتى يضعف عن القيام بحق أهله من جماعها والكسب عليها. واختلف العلماء فى الرجل يشتغل بالعبادة عن حقوق أهله، فقال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 320 مالك: إذا كف عن جماع أهله من غير ضرورة لا يترك حتى يجامع أو يفارق على ما أحب أو كره؛ لأنه مضار بها. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يؤمر أن يبيت عندها ويفطر لها. وقال الشافعى: لا يفرض عليه من الجماع شىء بعينه وإنما تفرض لها النفقة والكسوة والسكنى، وأن يأوى إليها. وقال الثورى: إذا شكت المرأة أنه لا يأتيها زوجها له ثلاثة أيام ولها يوم وليلة، وبه قال أبو ثور. وقال ابن المنذر: وأعلى ما فى هذا الباب قول الثورى قياسًا على ما أباح الله للرجال من اتخاذ أربع نسوة. وروى عبد الرزاق، عن الثورى، عن مالك بن مغول، عن الشعبى، قال: جاءت امرأة إلى عمر، فقالت: يا أمير المؤمنين، زوجى خير الناس يصوم النهار ويقوم الليل، فقال عمر: لقد أحسنت الثناء على زوجك، فقال كعب بن سوار: لقد اشتكت فأعرضت الشكية، فقال عمر: اخرج من مقالتك، قال: أرى أن ينزل بمنزلة رجل له أربع نسوة له ثلاثة أيام ولياليها، ولها يوم وليلة. وروى ابن عيينة، عن زكريا، عن الشعبى، أن عمر قال لكعب: فإذا فهمت ذلك فاقض بينهما، فقال: يا أمير المؤمنين، أحل الله من النساء مثنى وثلاث ورباع، فلها من كل أربعة أيام يوم يفطر ويقيم عندها، ولها من كل أربع ليال ليلة يبيت عندها، فأمر عمر الزوج بذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 321 66 - بَاب الْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِى بَيْتِ زَوْجِهَا / 89 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فى بَيْتِ زَوْجِهَا. . . . .) الحديث. كل من جعله الله أمينًا على شىء، فواجب عليه أداء النصيحة فيه، وبذل الجهد فى حفظه ورعايته؛ لأنه لا يسأل عن رعيته إلا من يلزمه القيام بالنظر لها وصلاح أمرها، وسيأتى الكلام فى هذا الحديث فى كتاب الأحكام، إن شاء الله تعالى. 67 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ (إِلَى قَوْلِهِ: (واضربوهن) [النساء 34] / 90 - فيه: أَنَس، آلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، فَقَعَدَ فِى مَشْرُبَةٍ لَهُ، فَنَزَلَ لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ، فقَالَ: (الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ) . قال المهلب: معنى هذا الباب أن الله تعالى أباح هجران الأزواج عند نشوزهن، ورخص فى ذلك عند ذنب أو معصية تكون منهن. وقال أهل التفسير فى قوله تعالى: (واللاتى تخافون نشوزهن) [النساء: 34] ، يعنى معصيتهن لأزواجهن، وأصل النشوز الارتفاع، فنشوز المرأة ارتفاعها عن حق زوجها، ففسر النبى (صلى الله عليه وسلم) مقدار ذلك الهجران بإيلائه شهرًا حين أسر النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى حفصة، فأفشته إلى عائشة وتظاهرتا عليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 322 قيل: إنه أصاب جاريته مارية فى بيت حفصة ويومها. وقال الزجاج: فى يوم عائشة، وسألها أن تكتمه، فأخبرت به عائشة. وقيل: إنه شرب عسلاً عند زينب، وذلك الهجران لا يبلغ به الأربعة الأشهر التى ضربها الله أجل إعذار للمؤالى، وأمر الله أن يبدأ النساء بالموعظة أولا ثم بالهجران بعد ذلك، فإن لم ينجعا فيها، فالضرب ولكن يكون الضرب غير مبرح، وقوله: (بما فضل الله بعضهم على بعض) [النساء: 34] ، يعنى بما فضل الله به الرجال من القوة على الكسب بالحرث وغيرها، وبما أنفقوا من أموالهم فى المهور وغيرها، فهذا يوجب نفقة الرجال على النساء. 68 - بَاب هِجْرَةِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، نِسَاءَهُ فِى غَيْرِ بُيُوتِهِنَّ وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، رَفْعُهُ: (لا تُهْجَرَ إِلا فِى الْبَيْتِ) وَالأوَّلُ أَصَحُّ. / 91 - فيه: أُمَّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، حَلَفَ لا يَدْخُلُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ شَهْرًا، فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، غَدَا عَلَيْهِنَّ. . . . الحديث. / 92 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَصْبَحْنَا يَوْمًا وَنِسَاءُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَبْكِينَ، عِنْدَ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ أَهْلُهَا، فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا هُوَ مَلآنُ مِنَ النَّاسِ، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - فَصَعِدَ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) - وَهُوَ فِى غُرْفَةٍ لَهُ - فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 323 ثُمَّ سَلَّمَ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَنَادَاهُ، فَدَخَلَ عَلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَقَالَ: (لا، وَلَكِنْ آلَيْتُ مِنْهُنَّ شَهْرًا) ، فَمَكَثَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ. قال المهلب: هذا الذى أشار إليه البخارى من أن الهجران لا يكون إلا فى غير بيوت الزوجات من أجل ما فعله النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه انفرد عنهن فى وقت الهجران فى مشربة واعتزل بيوتهن، وكأنه أراد البخارى أن يستن الناس به فى هجر نسائهم لما فيه من الرفق بالنساء؛ لأن هجرانهن مع الكون فى بيوتهن آلم لأنفسهن وأوجع لقلوبهن، لما يتطرق إليه من العتاب والغضب والإعراض، ولما فى غيبة الرجل عن أعينهن من تسليتهن عن الرجال. وهذا الذى أشار إليه ليس بواجب؛ لأن الله قد أمر بهجرانهن فى المضاجع فضلاً عن البيوت. وقال غيره: إنما اعتزلهن فى غير بيوتهن؛ لأنه أنكى لهن وأبلغ فى عقوبتهن. وروى ابن وهب، عن مالك، قال: بلغنى أن عمر بن عبد العزيز كان له نساء، فكان يغاضب بعضهن، فإذا كانت ليلتها جاء فبات عندها ولم يبت عند غيرها، وكان يفترش فى حجرتها فيبيت فيها، وتبيت هى فى بيتها. قلت لمالك: وذلك له واسع؟ قال: نعم، وذلك فى كتاب الله) واهجروهن فى المضاجع) [النساء: 34] . وقال ابن عباس: الهجران أن يكون الرجل وامرأته فى فراش واحد ولا يجامعها. وقال السدى: هجرها فى المضجع أن يرقد معها ويوليها ظهره، ويطأها ولا يكلمها. وقال ابن عباس نحوه، قال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 324 يهجرها بلسانه ويغلظ لها بالقول، ولا يدع جماعها. ذكره الطبرى، فيكون معنى الآية على هذا القول: قولوا لهن من القول هجرًا فى تركهن مضاجعتكم. 69 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَاضْرِبُوهُنَّ (، أَىْ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ / 93 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لا يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِى آخِرِ الْيَوْمِ) . قال بعض أهل العراق: فأمر الله بهجر النساء فى المضاجع وضربهن تذليلاً منه للنساء وتصغيرًا لهن على إيذاء بعولتهن، ولم يأمر فى شىء من كتابه بالضرب صراحًا إلا فى ذلك وفى الحدود العظام، فساوى معصيتهن لأزواجهن بمعصية أهل الكبائر، وولى الأزواج ذلك دون الأئمة، وجعله لهم دون القضاة بغير شهود ولا بينات ائتمانًا من الله للأزواج على النساء. قال المهلب: وإنما يكره من ضرب النساء التعدى فيه والإسراف، وقد بين النبى (صلى الله عليه وسلم) ذلك، فقال: (ضرب العبد) ، فجعل ضرب العبد من أجل الرق فوق ضرب الحر لتباين حالتيهم، ولأن ضرب النساء إنما جوز من أجل امتناعها على زوجها فى المباضعة. واختلف فى وجوب ضربها فى الخدمة، والقياس يوجب إذا جاز ضربها فى المباضعة جاز فى الخدمة الواجبة للزوج عليها بالمعروف. وقوله: (ثم يجامعها ذلك اليوم) ، تقبيح من النبى (صلى الله عليه وسلم) للاضطراب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 325 وقرب التناقض لقلة الرياضة لهن بذلك؛ لأن المرأة إذا عرفت قرب الرجعة وسرعة الفيئة لم تعبأ بإيذائه، ولا يقع فيها ما ندب الله إليه من رياضتها، ويدل على ذلك طول هجران النبى (صلى الله عليه وسلم) لأزواجه المدة الطويلة، ولم يكن ذلك يومًا ولا يومين ولا ثلاثة، وكذلك كان هجران النبى (صلى الله عليه وسلم) والمسلمين لكعب بن مالك وصاحبيه حتى مضت خمسون ليلة. وقال قتادة فى قوله: (ضربًا غير مبرح) ، قال: يعنى غير شائن، وقال الحسن: غير مؤثر. وقد تقدم فى باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها اختلاف العلماء فى ضرب النساء، واختلاف الآثار فى ذلك، وبيان مذاهبهم، والحمد لله. 70 - بَاب لا تُطِيعُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فِى مَعْصِيَةٍ / 94 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأنْصَارِ زَوَّجَتِ ابْنَتَهَا، فَتَمَعَّطَ شَعَرُ رَأْسِهَا، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَتْ: إِنَّ زَوْجَهَا أَمَرَنِى أَنْ أَصِلَ فِى شَعَرِهَا، فَقَالَ: (لا، إِنَّهُ قَدْ لُعِنَ الْمُوصِلاتُ) . قال المؤلف: واجب على المرأة ألا تطيع زوجها فى معصية، وكذلك كل من لزمته طاعة غيره من العباد، فلا تجوز طاعته له فى معصية الله تعالى، ويشهد لهذا قول النبى، عليه السلام، حين أمر على بعث أميرًا، وأمر الناس بطاعته، فأمرهم ذلك الأمير أن يقتحموا فى نار أججها لهم، فامتنعوا منها، وقالوا: لم ندخل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 326 الإسلام إلا فرارًا من النار، فذكر ذلك للنبى (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: (والله لو دخلوها ما خرجوا منها أبدًا، إنما الطاعة فى المعروف) ، وصوب فعلهم، وقد روى عنه، عليه السلام، أنه قال: (لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق) . وقوله: (فتمعط شعرها) ، فالعرب تقول: معط الشعر وامعط معطًا إذا تمرط، ومعطته نتفته، والأمعط من الرجال السنوط. وقال أبو حاتم: الذئب يكنى أبا معطة، وفى كتاب العين: ذئب أمعط خبيث؛ لأن شعره تمعط فتأذى بالذباب. 71 - بَاب) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا) [النساء: 128] / 95 - فيه: عَائِشَةَ،) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا (قَالَتْ: هِىَ الْمَرْأَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ لا يَسْتَكْثِرُ مِنْهَا، فَيُرِيدُ طَلاقَهَا وَيَتَزَوَّجُ غَيْرَهَا، وتَقُولُ لَهُ: أَمْسِكْنِى وَلا تُطَلِّقْنِى، ثُمَّ تَزَوَّجْ غَيْرِى، وَأَنْتَ فِى حِلٍّ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَىَّ، وَالْقِسْمَةِ لِى، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَصَّالَحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [النساء: 128] . أجمع العلماء على جواز هذا الصلح، وكذلك فعلت سودة بالنبى (صلى الله عليه وسلم) حين وهبت يومها لعائشة تبتغى بذلك مرضاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، روى عكرمة عن ابن عباس، قال: خشيت سودة أن يطلقها النبى، عليه السلام، قالت: لا تطلقنى واحبسنى مع نسائك ولا تقسم لى، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 327 فنزلت: (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا) [النساء: 128] ، قال ابن عباس: نشوزًا يعنى البغض. وقال مجاهد: نزلت فى أبى السنابل بن بعكك. واختلفوا هل ينتقض هذا الصلح، فقال عبيدة: هما على ما اصطلحا عليه، فإن انتقضت فعليه أن يعدل عليها أو يفارقها، وبه قال النخعى، ومجاهد، وعطاء. وحكى ابن المنذر أنه قول الثورى، والشافعى، وأحمد. وقال الكوفيون: الصلح فى ذلك جائز. وقال ابن المنذر: لا أحفظ عنهم فى الرجوع شيئًا. وقال الحسن البصرى: ليس لها أن تنقض، وهما على ما اصطلحا عليه. وقول الحسن: هو قياس قول مالك فيمن أنظره بالدين أو أعاره عارية إلى مدة، أنه لا يرجع فى ذلك، وقول عبيدة هو قياس قول أبى حنيفة، والشافعى؛ لأنها هبة منافع طارئة لم تقبض، فجاز فيها الرجوع. 72 - بَاب الْعَزْلِ / 96 - فيه: جَابِر، كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ. / 97 - وفيه: أَبُو سَعِيد، أَصَبْنَا سَبْيًا، فَكُنَّا نَعْزِلُ، فَسَأَلْنَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ؟ قَالَهَا ثَلاثًا، مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلا وَهِىَ كَائِنَةٌ) . اختلف السلف فى العزل، فذكر مالك فى الموطأ، عن سعد بن أبى وقاص، وأبى أيوب الأنصارى، وزيد بن ثابت، وابن عباس، أنهم كانوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 328 يعزلون، وذكره ابن المنذر، عن على بن أبى طالب، وخباب بن الأرت، وجابر بن عبد الله، وقال: كنا نفعله على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وروى ذلك عن جماعة من التابعين منهم ابن المسيب، وطاوس، وبه قال مالك، والكوفيون، والشافعى، وجمهور العلماء. وكرهت طائفة العزل، ذكره ابن المنذر، عن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعن على بن أبى طالب، رواية أخرى، وعن ابن مسعود، وابن عمر. وحجة من أباحه حديث جابر، وروى ابن أبى شيبة، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبى الزبير، عن جابر، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أذن فى العزل، واحتجوا أيضًا بقوله: أو إنكم لتفعلون ذلك، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة، إلا وهى كائنة، قالوا: ولا يفهم من قوله عليه السلام: (أو إنكم لتفعلون ذلك) ، إلا الإباحة. ويشهد لذلك قوله فى آخر الحديث: (ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهى كائنة) ، يقول: قد فرغ من الخلق، فاعزلوا أو لا تعزلوا، فإن قدر أن يكون ولد لم يمنعه العزل؛ لأنه قد يكون مع العزل إفضاء بقليل الماء الذى قدر الله أن يكون منه الولد، وقد يكون الاسترسال والإفضاء ولا يكون ولد، فالعزل والإفضاء سواء فى ألا يكون منه ولد إلا بتقدير الله، هذا معنى قول الطحاوى. قال: واحتج من كره العزل بما حدثنا إبراهيم بن محمد بن يونس، قال: حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا سعيد بن أبى أيوب، عن أبى الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 329 عن عروة، عن عائشة، قالت: حدثتنى جدامة بنت وهب الأسدية، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ذكر عنده العزل، فقال: (ذلك الوأد الخفى) ، وأنكر الذين أباحوا العزل حديث جدامة. ورووا عن النبى، عليه السلام، إنكار ذلك. روى أبو داود: حدثنا هشام، عن يحيى بن أبى كثير، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبى رفاعة، وقال مرة: عن أبى مطيع بن رفاعة، عن أبى سعيد الخدرى، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أتاه رجل، فقال: يا رسول الله، إن عندى جارية، وأنا أعزل عنها وأكره أن تحمل، وإن اليهود يقولون: هى الموءودة الصغرى، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (كذبت يهود، لو أن الله أراد أن يخلقه لم يستطع أحد أن يصرفه) . قال الطحاوى: فهذا أبو سعيد قد حكى عن النبى إكذاب من زعم أن العزل موءودة، ثم قد روى عن على دفع ذلك والتنبيه على فساده بمعنى لطيف حسن، روى الليث، عن معمر بن أبى حبيبة، عن عبيد الله بن عدى بن الخيار، قال: تذاكر أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عند عمر العزل، فاختلفوا فيه، فقال عمر: قد اختلفتم وأنتم أهل بدر الأخيار، فكيف بالناس بعدكم، فقال على: إنها لا تكون موءودة حتى تمر بالتارات السبع، قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) [المؤمنون: 12] الآية، فعجب عمر من قوله، وقال: جزاك الله خيرًا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 330 فأخبر على أنه لا يوأد إلا من قد نفخ فيه قبل ذلك، وما لم ينفخ فيه الروح موات غير موءود. وروى سفيان عن أبى الوداك أن قومًا سألوا ابن عباس عن العزل، فذكر مثل كلام على سواء. فهذا على وابن عباس قد اجتمعا على ما ذكرنا وتابعهما عمر، ومن كان يحضر من الصحابة، فدل على أن العزل غير مكروه، وذهب مالك، والشافعى، وجمهور العلماء، إلى أنه لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها، فإن منعت زوجها لم يعزل. واختلفوا فى العزل عن الزوجة الأمة، فقال مالك والكوفيون: لا يعزل عنها إلا بإذن سيدها. وقال الثورى: لا يعزل عنها إلا بإذنها. وقال الشافعى: يعزل عنها دون إذنها ودون إذن مولاها. 73 - بَاب الْقُرْعَةِ بَيْنَ النِّسَاءِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا / 98 - فيه: عَائِشَةَ قالت: كَانَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، إِذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَطَارَتِ الْقُرْعَةُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، وَكَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ سَارَ مَعَ عَائِشَةَ يَتَحَدَّثُ، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: أَلا تَرْكَبِينَ اللَّيْلَةَ بَعِيرِى وَأَرْكَبُ بَعِيرَكِ؟ تَنْظُرِينَ وَأَنْظُرُ، فَقَالَتْ: بَلَى، فَرَكِبَتْ فَجَاءَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى جَمَلِ عَائِشَةَ وَعَلَيْهِ حَفْصَةُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا، ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلُوا، وَافْتَقَدَتْهُ عَائِشَةُ، فَلَمَّا نَزَلُوا جَعَلَتْ رِجْلَيْهَا بَيْنَ الإذْخِرِ، وَتَقُولُ: يَا رَبِّ سَلِّطْ عَلَىَّ عَقْرَبًا أَوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِى، وَلا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ لَهُ شَيْئًا. قال ابن القصار: إذا أراد أن يسافر بإحدى نسائه، فاختلف قول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 331 مالك فى ذلك، فقال: ليس له أن يسافر بمن شاء منهن بغير قرعة، وهو قول أبى حنيفة، والشافعى، وقال مرة: له أن يسافر بمن شاء منهن بغير قرعة. ووجه القول الأول حديث عائشة، أن النبى، عليه السلام، كان إذا سافر أقرع بين نسائه، وفعله سنة لا يجوز العدول عنها. ووجه القول الثانى أن له ذلك بغير قرعة هو أن ضرورته فى السفر أشد منها فى الحضر، فيحتاج إلى من هى أرفق به من نسائه، وأعون له على أموره، وأقوى على الحركة، فلذلك جاز له بغير قرعة. قال المهلب: وفيه العمل بالقرعة فى المقاسمات والاستهام، وقد تقدم فى كتاب القسمة والشركة، وهو مذكور أيضًا فى آخر كتاب الشهادات والأيمان. وفيه: أن القسم يكون بالليل والنهار، وقد بان ذلك فى حديث عائشة، قالت: فكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها، ذكره البخارى فى باب القرعة فى المشكلات فى آخر كتاب الشهادات، فى غير موضع. وفيه: أن الاستهام بين النساء من السنن وليس من الفرائض، يدل على ذلك أن مدة السفر لا تحاسب بها المتخلفة من النساء الغادية، بل يبتدئ القسم بينهن إذا قدم على سبيل ما تقدم قبل سفره، ولا خلاف بين أئمة الفتوى فى أن الحاضرة لا تقاضى المسافرة بشىء من الأيام التى انفردت بها فى السفر عند قدومه، ويعدل بينهن فيما يستقبل، ذكره ابن المنذر، عن مالك، والكوفيين، والشافعى، وأبى عبيد، وأبى ثور. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 332 قال المهلب: وفى تحيل حفصة على عائشة فى بدل بعيرها فى الركوب دليل على أنه ليس من الفروض؛ لأن حفصة لا يحل لها من النبى (صلى الله عليه وسلم) إلا ما أباحه لها وبذله من نفسه، وقد تحيلت ولم يبين لها النبى (صلى الله عليه وسلم) أن ذلك لا يحل لها. وذكر ابن المنذر أن القسمة تجب بينهن كما تجب النفقة، وهذا يدل أن القسم بينهن فريضة، وقول أهل العلم يدل على ذلك، قال مالك: الصغيرة التى قد جومعت والكبيرة البالغ فى القسم سواء. وقال الكوفيون فى المرأة لم تبلغ إذا كان قد جامعها: أنها والتى قد أدركت فى القسم سواء، وهو قول أبى ثور. وقال الشافعى: إذا أعطاها مالاً على أن تحلله من يومها وليلتها فقبلت، فالعطية مردودة، وعليه أن يوفيها حقها. قال المهلب: ففيه أن دعاء الإنسان على نفسه عند الحرج وما شاكله يعفو الله عنه فى أغلب الحال؛ لقوله تعالى: (ولو يجعل الله للناس الشر) [يونس: 11] ، وفيه أن الغيرة للنساء مسموح لهن فيها وغير منكر من أخلاقهن، ولا معاقب عليها ولا على مثلها لصبر النبى، عليه السلام، لسماع مثل هذا من قولها، ألا ترى قولها له: أرى ربك يسارع فى هواك، ولم يرد ذلك عليها ولا زجرها، وعذرها لما جعل الله فى فطرتها من شدة الغيرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 333 74 - باب الْمَرْأَةِ تَهَبُ يَوْمَهَا مِنْ زَوْجِهَا لِضَرَّتِهَا وَكَيْفَ يَقْسِمُ ذَلِكَ / 99 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، وَكَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ بِيَوْمِهَا وَيَوْمِ سَوْدَةَ. وقوله: وكيف يقسم ذلك، يريد أن تكون فيه الموهوبة بمنزلة الواهبة فى رتبة القسمة، فإن كان يوم سودة ثالثًا ليوم عائشة أو رابعًا أو خامسًا، استحقته عائشة على حسب القسمة التى كانت لسودة ولا تتأخر عن ذلك اليوم ولا تتقدم، ولا يكون ثالثًا ليوم عائشة إلا أن يكون يوم سودة بعد يوم عائشة. قال المهلب: وأجراه النبى (صلى الله عليه وسلم) مجرى الحقوق الواجبة، ولم يجره على أصل المسألة من الحكم فيه بما جعل الله له من ذلك بقوله تعالى: (وتئوى إليك من تشاء) [الأحزاب: 51] ، فأجراه مجرى الحقوق تفضلاً منه، عليه السلام، ليكون أبلغ فى رضاهن، كما قال الله تعالى: (ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن) [الأحزاب: 51] ، أى لا يحزن إذا كان هذا منزلاً عليك من الله، ويرضين بما أعطيتهن من تقريب وإرجاء. وقال قتادة فى قوله: (ترجى من تشاء منهن) [الأحزاب: 51] الآية، قال: هذا شىء خص الله به نبيه (صلى الله عليه وسلم) ، وليس لأحد غيره، كان يدع المرأة من نسائه ما بدا له من غير طلاق، وإذا شاء راجعها. قال غيره: وكان ممن آوى عائشة، وأم سلمة، وزينب، وحفصة، وكان قسمه من نفسه وماله فيهن سواء، وكان ممن أرجى سودة، وجويرية، وصفية، وأم حبيبة، وميمونة، وكان يقسم لهن ما شاء. واختلفوا فى كم يقسم لكل واحدة من نسائه، فقال ابن القاسم: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 334 لم أسمع مالكًا يقول إلا يومًا لهذه ويومًا لهذه. وقال الشافعى: إن أراد أن يقسم ليلتين ليلتين، وثلاثًا ثلاثًا، كان ذلك له، وأكره مجاوزة الثلاث من الغيرة. قال ابن المنذر: ولا أرى مجاوزة يوم، إذ لا حجة مع من تخطى سنة النبى، عليه السلام، إلى غيره، ألا ترى قولها فى الحديث: إن سودة وهبت يومها لعائشة، ولم يحفظ عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى قسمه لأزواجه أكثر من يوم وليلة، ولو جاز ثلاثة أيام لجاز خمسة أيام ولجاز شهر، ثم يتخطى بالقول إلى ما لا نهاية له، ولا يجوز معارضة السنة. وكان مالك يقول: لا بأس أن يقيم الرجل عند أم ولده اليوم واليومين والثلاثة ولا يقيم عند الحرة إلا يومًا من غير أن يكون مضارًا، وكذلك قال الشافعى: يأتى الإماء ما شاء أكثر مما يأتى الحرائر الأيام والليالى، فإذا صار إلى الحرائر عدل بينهن. 75 - باب الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ وَقَوْلِ اللَّهِ: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ ولو حرصتم) [النساء 129] وقوله: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء (، أى لن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 335 تطيقوا أيها الرجال أن تسووا بين نسائكم فى حبهن بقلوبكم حتى تعدلوا بينهن فى ذلك؛ لأن ذلك مما لا تملكونه) ولو حرصتم (، يعنى ولو حرصتم فى تسويتكم بينهن فى ذلك. قال ابن عباس: لا تستطيع أن تعدل بالشهوة فيما بينهن ولو حرصت. قال ابن المنذر: ودلت هذه الآية أن التسوية بينهن فى المحبة غير واجبة، وقد أخبر النبى (صلى الله عليه وسلم) أن عائشة أحب إليه من غيرها من أزواجه،) فلا تميلوا كل الميل) [النساء: 129] بأهوائكم حتى يحملكم ذلك أن تجوروا فى القسم على التى لا تحبون، وقوله: (فتذروها كالمعلقة) [النساء: 129] ، يعنى لا أيم ولا ذات بعل،) وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورًا رحيمًا) [النساء: 129] ، يقول: وإن تصلحوا فيما بينكم وبينهن بالاجتهاد منكم فى العدل بينهن وتتقوا الميل فيهن، فإن الله غفور لما عجزت عنه طاقتكم من بلوغ العدل منكم فيهن. وروى عبد الوهاب، عن أيوب، عن أبى قلابة، عن عائشة، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يقسم بين نسائه، ويقول: (اللهم إن ذا قسمى فيما أملك، فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك) . وروى همام بن يحيى، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبى هريرة، عن النبى، عليه السلام، قال: (من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه ساقط) . قال الطحاوى: وكأن معنى هذا الحديث عندنا على الميل إليها بغير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 336 إذن صاحبتها له فى ذلك، فأما إذا أذنت له فى ذلك وأباحته، فليس يدخل فى هذا المعنى كما فعلت سودة حين وهبت يومها لعائشة؛ لأن حقها إنما تركته بطيب نفسها، فهى فى حكمها لو لم يكن له امرأة غيرها. 76 - باب إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرِ عَلَى الثَّيِّب / 100 - فيه: أَنَس، لَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ: قَالَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَلَكِنْ قَالَ السُّنَّةُ: إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاثًا. قال ابن عبد الحكم: لم يعن بهذا الحديث من ليست له امرأة، ثم تزوج أن يقيم عندها سبعًا أو ثلاثًا، ولكن أريد به من له امرأة، ثم تزوج عليها أخرى، فقال بعض العلماء: المراد بالحديث العموم، والمقام عند البكر سبعًا وعند الثيب ثلاثًا واجب لهما، كان عند الرجل زوجة أم لا؛ لأن السنة لم تخص من له زوجة ممن لا زوجة له. قال المؤلف: والقول الأول هو الصحيح، وقد بينه سفيان، عن أيوب، وخالد، عن أبى قلابة، عن أنس فى الباب بعد هذا، قال: من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا ثم قسم؛ لأنه لا يقسم الذى يقيم عند الثيب ثلاثًا إلا من تقدم عنده زوجة أخرى أو أكثر. فبان بهذا الحديث أن المراد به من له زوجة ثم تزوج عليها أخرى. وروى ابن القاسم، عن مالك، أن مقامه عند البكر سبعًا، وعند الجزء: 7 ¦ الصفحة: 337 الثيب ثلاثًا إذا كان له امرأة أخرى واجب، وروى عنه ابن عبد الحكم أن ذلك مستحب وليس بواجب. قال ابن حبيب: ويخرج إلى حوائجه وصلاته بكرًا كانت أو ثيبًا، كانت له زوجة أخرى أم لا. وروى ابن أبى أويس، عن مالك، فيمن دخل على امرأته ليلة الجمعة أيتخلف عن الجمعة؟ قال: لا، تزوج أمير المؤمنين المهدى بالمدينة، فخرج إلى الصبح وغيرها. وروى ابن القاسم، عن مالك فى العتبية، قال: لا يتخلف العروس عن الجمعة ولا عن حضور الصلوات، وهو قول الشافعى. قال سحنون: وقد قال بعض الناس: لا يخرج، وذلك حق لها بالسنة. قال المؤلف: هذا على من تأول إقامته عند البكر والثيب على العموم، ومن رأى أن يخرج إلى الصلوات، فتأول إقامته عندها على ما يجب لها من القسمة والمبيت دون غيرها من أزواجه، فليس ذلك بمانع له من حضور الصلوات كما يفعل غير العروس فى قسمته بين نسائه، وليس له التخلف عن الجماعة. وقال المهلب: إنما خصت البكر بالسبع، والله أعلم، لما فى خلق الأبكار من الاستيحاش من الرجال والنفار عن مباشرتهم ولما يلقى الرجل من معالجتهن فى الوصول إليهن، وأما الثلاث للثيب فلسهولة أمرها وعلمها بمباشرة الرجال لم تحتج أن يفسح لها فى المدة بأكثر من ثلاث. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 338 77 - باب إِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ / 101 - فيه: أَنَس، إن مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاثًا، ثُمَّ قَسَمَ. وَلَوْ شِئْتُ قُلْتُ: إِنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إِلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام. اختلف العلماء فى هذا الباب، فقالت طائفة: يقيم عند البكر سبعًا وعند الثيب ثلاثًا إذا كانت له امرأة أخرى أو أكثر على نص هذا الحديث، ثم يقسم بينهن ولا يقضى المتقدمات بدل ما أقام عند الجديدة، هذا قول مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وأبى عبيد، واحتجوا بحديث أنس. وقال ابن المسيب، والحسن: للبكر ثلاثًا، وللثيب ليلتين، وهو قول الأوزاعى، قال: إذا تزوج البكر على الثيب مكث ثلاثًا، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام يومين. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يقيم عند البكر إلا كما يقيم عند الثيب، وهما سواء فى ذلك، واحتجوا بحديث أم سلمة، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لها: (إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن، وإن شئت ثلثت ودرت) ، قالت: ثلث ودر، قالوا: فلم يعطها فى السبع شيئًا إلا أعلمها أنه يعطى غيرها مثلها، فدل ذلك على المساواة بينهن. قالوا: وكذلك قوله: (وإن شئت ثلثت ودرت) ، أى أدور مثلثًا أيضًا لهن، كما أدور مسبعًا إن سبعت، قالوا: ولو استحقت الثيب ثلاثة أيام قسم لها لوجب إذا سبع عندها أن يربع لهن. وقال لهم أهل المقالة الأولى: قول النبى، عليه السلام: (ليس بك على أهلك هوان) ، يدل أنه رأى منها أنها استقلت الثلاث التى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 339 هى حق الثيب، فآنسها عليه السلام بقوله: (ليس بك على أهلك هوان) ، أى ليس أقسم ثلاثًا لهوانك عندى، وإنما أقسمها لك؛ لأنه حق الثيب، وخيرها بين أعلى حقوق النساء وأشرفها عندهن وهى السبع وبين الثلاث، على شرط إن اختارت السبع قسم لكل ثيب مثلها، وإن اختارت الثلاث التى هى حقها لم يقسم لغيرها مثلها، فرأت أن الثلاث التى هى حقها أفضل لها، إذ لا يقسم لغيرها مثلها ولسرعة رجوعه إليها، فاختارتها وطابت نفسها عليها، ورأت أنها أرجح عندها من أن يسبع عندها على أن يسبع عند غيرها. وفى هذا ضرب من اللطف والرفق بمن يخشى منه كراهة قبول الحق حتى يتبين له فضله ويختار الرجوع إليه، ومما يبطل قول الكوفيين أنه إن ثلث عندها ثلث عندهن ثم يستأنف القسم أنه، عليه السلام، لما ذكر السبع قرنها بالقضاء، فقال: (سبعت عندك وسبعت عندهن) ، ولما ذكر الثلاث لم يقرنها بالقضاء؛ لأن الدوران عليهن يقتضى ابتداء قسم لا قضاء، فسقط قولهم، هذا قول ابن القصار. قال: وقد خالف الكوفيون حديث أم سلمة؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لها: (إن شئت سبعت عندك) ، فجعل لها الخيار فى القسم، وأبو حنيفة يجعل الخيار إلى الزوج، وفى هذا مخالفة الخبر. قال أحمد بن خالد: هذا الباب عجب؛ لأنه صار فيه أهل المدينة إلى ما رواه أهل العراق؛ لأن حديث أنس حديث بصرى، وصار فيه أهل العراق إلى ما رواه اهل المدينة، وقول أهل المدينة أولى؛ لقول أنس: السنة للبكر سبع، وللثيب ثلاث، والصحابى إذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 340 ذكر السنة بالألف واللام، فإنما أشار إلى سنته، عليه السلام، واللام فى قوله: للبكر سبع وللثيب ثلاث، لام الملك، فدل أن ذلك حق من حقوقها، فمحال أن يحاسبها بذلك، وقول ابن المسيب، والحسن، خلاف الآثار، فلا معنى له. 78 - باب مَنْ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ فِى غُسْلٍ وَاحِدٍ / 102 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِى اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ. قد تقدم هذا الباب فى كتاب الطهارة، وأنه يحتمل أن يكون فعل ذلك حين إقباله من سفره حيث لا قسمة تلزمه؛ لأنه حينئذ لا تكون منهن واحدة أولى بالابتداء من صاحبتها، فلما استوت حقوقهن جمعهن كلهن فى ليلة، ثم استأنف القسمة بعد ذلك، ويحتمل أن يكون ذلك بطيب أنفس أزواجه وإذنهن فيه، يدل على ذلك سؤاله أزواجه أن يمرض فى بيت عائشة، حكاه ابن المنذر، عن أبى عبيد. قال المهلب: يحتمل أن يكون ذلك فى يوم يقرع فيه بالقسمة بين أزواجه، فيقرع هذا اليوم لهن كلهن يجمعهن فيه، ثم يستأنف بعده القسمة، والله أعلم. إلا أن هذا من فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى القسم بينهن شىء تبرع به وتطوع لما جبله الله عليه من العدل؛ لأن الله قد رفع عنه مئونة القسمة بينهن بقوله: (ترجى من تشاء منهن وتئوى إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك) [الأحزاب: 51] . ولا يجوز عند جماعة العلماء أن يطأ الرجل امرأته فى ليلة أخرى، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 341 وإنما يجوز فى الإماء حيث لا قسمة لهن. قال ابن حبيب: وإذا وطئ الرجل إحدى امرأتيه فى يومها، ثم أراد أن يطأ الأخرى قبل أن يغتسل، فحللت امرأته التى لها ذلك اليوم فلا بأس به، ويكره للرجل أن يجمع بين امرأتيه من نسائه فى فراش واحد وإن رضيتا به، لكن لا يجوز أن يطأ إحداهما والأخرى معه فى البيت وإن لم تسمع ذلك. قال ابن الماجشون: ويكره أن تكون معه فى البيت بهيمة أو حيوان، وكان ابن عمر إذا فعل ذلك أخرج كل من عنده فى البيت، حتى الصبى الممهود، ولا بأس أن يطأ امرأته الحرة، ثم يطأ أمته قبل أن يغتسل، ولا بأس أن يطأ أمته، ثم يطأ امرأته قبل أن يغتسل. قال غيره: لما جاز أن يطأ امرأته مرتين وثلاثًا، ثم يغتسل فى آخر ذلك إذا حضر وقت الصلاة جاز له أن يطأ امرأتين فى ليلة إذا أذنت له صاحبة الليلة ويغتسل غُسلاً واحدًا، كما طاف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على نسائه فى غسل واحد فى ليلة. قال ابن الماجشون: ولا يجب على الرجل غشيان امرأتيه جميعًا فى ليلتهما، ولا بأس أن يغشى إحداهما ويكف عن الأخرى ما لم يرد به الضرر والميل. 79 - باب دُخُولِ الرَّجُلِ عَلَى نِسَائِهِ فِى الْيَوْمِ / 103 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الْعَصْرِ، دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ، فَيَدْنُو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 342 مِنْ إِحْدَاهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَاحْتَبَسَ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ. قال المهلب: هذا إنما كان يفعله، عليه السلام، فى النادر، ولم يكن يفعله أبد الدهر، وإنما كان يفعله لما أباح الله تعالى له بقوله: (ترجى من تشاء منهن) [الأحزاب: 51] ، فكان يذكرهن بهذا الفعل فى الغب بإفضاله عليهن فى العدل بينهن؛ لئلا يظنوا أن القسمة حق لهن عليه. وقال غيره: ليس حقيقة القسم بين النساء إلا فى الليل خاصة؛ لأن للرجل التصرف نهاره فى معيشته وما يحتاج إليه من أموره، فإذا كان دخوله على امرأته فى غير يومها دخولاً خفيفًا فى حاجة يقضيها فلا أعلم خلافًا بين العلماء فى جواز ذلك. وذكر ابن المواز عن مالك، قال: لا يأتى إلى واحدة من نسائه فى يوم الأخرى إلا لحاجة أو عيادة، قال غيره: وأما جلوسه عندها ومحادثتها تلذذًا بها، فلا يجوز ذلك عندهم فى غير يومها. 80 - باب اسْتئذانَ الرَّجُلُ نِسَاءَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِى بَيْتِ بَعْضِهِنَّ فَأَذِنَّ لَهُ / 104 - فيه عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَسْأَلُ فِى مَرَضِهِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ: (أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا) ؟ يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ، فَكَانَ فِى بَيْتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَاتَ فِى الْيَوْمِ الَّذِى كَانَ يَدُورُ عَلَىَّ فِيهِ فِى بَيْتِى، فَقَبَضَهُ اللَّهُ، وَإِنَّ رَأْسَهُ لَبَيْنَ نَحْرِى وَسَحْرِى، وَخَالَطَ رِيقُهُ رِيقِى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 343 وفيه: حب الرجل لبعض أزواجه أكثر من بعض. وفيه: أن القسمة حق للزوجة، ولذلك استأذنهن، عليه السلام، أن يمرض فى بيت عائشة، وإنما فعل ذلك لأنها كانت أرفق به وألطف بتمريضه مع أن المرض إذا كان ثقيلاً لا يقدر فيه على الانتقال والحركة سقطت القسمة. قال ابن حبيب: إذا مرض مرضًا يقوى معه على الاختلاف فيما بينهن كان له أن يعدل بينهن فى القسم، إلا أن يكون مرضه مرضًا قد غلبه ولا يقدر على الاختلاف، فلا بأس أن يقيم حيث أحب، ما لم يكن منه ميلاً، فإذا صح عدل بينهن فى القسمة، ولم يحتسب للتى لم يقم عندها ما أقام عند غيرها، وهو قول مالك. واتفقوا إذا مرضت المرأة أن لها أيامها من القسمة كالصحيحة، واختلفوا إذا اشتد مرضها وثقلت، فقال الشافعى: لا بأس أن يقيم عندها حتى تخف أو تموت، ثم يوفى من بقى من نسائه مثل ما أقام عندها، وبه قال أبو ثور، وقال الكوفيون: ما مضى هدر، ويستأنف العدل فيما يستقبل. وقولها: (بين نحرى وسحرى) ، فالنحر معروف وهو الصدر. قال أبو عبيد: قال أبو زيد: وبعضه عن ابن عمر وغيره: السحر ما تعلق بالحلقوم، ولهذا قيل للرجل إذا جبن: قد انتفخ سحره، كأنهم إنما أرادوا الرئة وما معها. وقال أبو عبيدة: هو السحر. وقال الفراء: وأكثر العرب على ما قال أبو عبيدة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 344 81 - باب حُبِّ الرَّجُلِ بَعْضَ نِسَائِهِ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ / 105 - فيه: عُمَرَ، دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّةِ، لا يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِى أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا وحُبُّ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِيَّاهَا - يُرِيدُ عَائِشَةَ - فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَبَسَّمَ. قال الطبرى: وقوله: لا يغرنك أن كانت جارتك أحب إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) منك، يريد عائشة، ففيه دليل على أنه لا حرج على من كان عنده جماعة نسوة فى إيثار بعضهن فى المحبة على بعض إذا سوى بينهن فى القسمة، ومثله قوله عليه السلام: (اللهم هذا قسمى فيما أملك، فلا تلمنى فيما لا أملك) ، والذى سأل ربه ألا يلومه فيه ما كان لا يملكه من نفسه، هو ما جبلت عليه القلوب من الميل بالمحبة إلى من هويته. وذلك مما لا سبيل للعباد إلى خلافه ودفعه عنه، وهو المعنى الذى أخبر عنه تعالى أنهم لا يطيقونه من معانى العدل بين النساء، فعلم بذلك أن كل ما كان عارضًا لقلب ابن آدم من شىء مال إليه بالمحبة والهوى مما لم يجتلبه المرء إليه باكتساب ولم يتجاوز به العارض منه فى قلبه إلى ما يكرهه الله ولا يرضاه من العمل بجوارحه، فلا حرج عليه فيه ولا تبعة تلحقه فيه فيما بينه وبين الله بسبب ما عرض له من فرط هوى وصبابة نفس. قال ابن حبيب: ولما كان القلب لا يملك ولا يستطاع العدل فيه وضع الله عن عباده الحرج فى ذلك، قال تعالى: (لا يكلف الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 345 نفسًا إلا وسعها} [البقرة: 286] ، وحسب الرجل أن يسوى بين نسائه فى القوت والإدام واللباس على قدرها وكفايتها، ويقسم لها يومًا وليلة، فيبيت عندها، وسواء كانت حائضًا أو طاهرًا، ثم لا حرج عليه أن يوسع على إحداهن دون غيرها من صواحباتها بأكثر من ذلك من ماله. فأما المسيس فعلى قدر نشاطه إذا لم يكن حبسه لنفسه عنها إيفاء لغيرها ممن هى أحب إليه وألصق بقلبه، فلذلك لا يحل له أن يفعله، وهو من الميل الذى نهى الله عنه، فأما أن ينشط لهذه فى ليلتها ويكسل عن هذه فى ليلتها، فلا حرج عليه فى ذلك، وذلك من الذى يقع فى القلب مما لا يملكه العبد. قال المهلب: وفيه أن الصهر قد يعاتب ابنته على الإفراط فى الغيرة على زوجها، وينهاها عن مساماة من هى عند الزوج أحظى منها؛ لئلا يحرج ذلك الزوج ويئول الأمر إلى الفرقة. 82 - باب الْمُتَشَبِّعِ بِمَا لَمْ يَنَلْ وَمَا يُنْهَى مِنِ افْتِخَارِ الضَّرَّةِ / 106 - فيه: أَسْمَاءَ، أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِى ضَرَّةً، فَهَلْ عَلَىَّ جُنَاحٌ إِنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِى غَيْرَ الَّذِى يُعْطِينِى؟ فَقَالَ: (الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلابِسِ ثَوْبَى زُورٍ) . قال أبو عبيد: قوله: المتشبع بما لم يعط، يعنى المتزين بأكثر مما عنده يتكثر بذلك ويتزين بالباطل، كالمرأة تكون للرجل ولها ضرة، فتتشبع بما تدعيه من الحظوة عند زوجها بأكثر مما عنده لها تريد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 346 بذلك غيظ صاحبتها وإدخال الأذى عليها، وكذلك هذا فى الرجل أيضًا، وأما قوله: كلابس ثوبى زور، فإنه الرجل يلبس ثياب أهل الزهد فى الدنيا، يريد بذلك الناس ويظهر من التخشع والتقشف أكثر مما فى قلبه، فهذه ثياب الزور والرياء. وفيه وجه آخر أيضًا: أن يكون أراد بالثياب الأنفس، والعرب تفعل ذلك كثيرًا، يقال: فلان نقى الثوب، إذا كان بريئًا من الدنس والآثام، وفلان دنس الثياب، إذا كان مغموصًا عليه فى دينه، ومنه قوله تعالى: (وثيابك فطهر) [المدثر: 4] . وقال أبو سعيد الضرير فى معنى قوله: كلابس ثوبى زور، هو أن يستعير شاهد الزور ثوبين يتجمل بهما ويتحلى بهما عند الحاكم، وإنما يريد أن يقيم شهادته. وقال بعض أهل المعرفة بلسان العرب: ولقوله: ثوبى، التثنية معنى صحيح؛ لأن كذب المتحلى بما لم يعط مثنى، فهو كاذب على نفسه بما لم يأخذ، وكاذب على غيره بما لم يبذل. 83 - بَاب الْغَيْرَةِ وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلا مَعَ امْرَأَتِى لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ. فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، لأنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّى) . / 107 - فيه: ابن مسعود، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 347 / 108 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ تَزْنِى، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا) . / 109 - وفيه: أَسْمَاءَ قَالَ النَّبِىّ: (لا شَىْءَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ) . / 110 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ لاَ يَأْتِىَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ) . / 111 - وفيه: أَسْمَاءَ، تَزَوَّجَنِى الزُّبَيْرُ، وَمَا لَهُ فِى الأرْضِ مِنْ مَالٍ وَلا مَمْلُوكٍ، وَلا شَىْءٍ غَيْرَ نَاضِحٍ، وَغَيْرَ فَرَسِهِ، فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ، وَأَسْقِى الْمَاءَ، وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ، وَأَعْجِنُ وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ، وَكَانَ يَخْبِزُ جَارَاتٌ لِى مِنَ الأنْصَارِ، وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ، وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِى أَقْطَعَهُ النَّبِىّ عَلَى رَأْسِى، وَهِىَ مِنِّى عَلَى ثُلُثَىْ فَرْسَخٍ، فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِى، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَدَعَانِى، ثُمَّ قَالَ: (إِخْ، إِخْ، لِيَحْمِلَنِى خَلْفَهُ) ، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ، وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ - وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ - فَعَرَفَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَنِّى قَدِ اسْتَحْيَيْتُ، فَمَضَى، فَجِئْتُ الزُّبَيْرَ، فَقُلْتُ: لَقِيَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَعَلَى رَأْسِى النَّوَى، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَنَاخَ لأرْكَبَ، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ، وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَىَّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ، قَالَتْ: حَتَّى أَرْسَلَ إِلَىَّ أَبُو بَكْرٍ [بَعْدَ ذَلِكَ] بِخَادِمٍ تَكْفِينِى سِيَاسَةَ الْفَرَسِ، فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 348 / 112 - وفيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتِى النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، فِى بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ، فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ، فَانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِى كَانَ فِى الصَّحْفَةِ، وَيَقُولُ: (غَارَتْ أُمُّكُمْ. . .) الحديث. / 113 - وفيه: جَابِر، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، فَأَبْصَرْتُ قَصْرًا، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ قَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ، فَلَمْ يَمْنَعْنِى إِلا عِلْمِى بِغَيْرَتِكَ) ، قَالَ عُمَرُ: بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى يَا رسول اللَّه، أَوَعَلَيْكَ أَغَارُ؟ . / 114 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) جُلُوسٌ، فَقَالَ: (بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِى فِى الْجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا لِعُمَرَ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا) ، فَبَكَى عُمَرُ وَهُوَ فِى الْمَجْلِسِ، ثُمَّ قَالَ: أَوَعَلَيْكَ أَغَارُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ . قال المهلب: وهذه الغيرة التى جاءت فى هذه الأحاديث فى وصف الله تعالى ليست منه على حسب ما هى عليه فى المخلوقين؛ لأنه لا تجوز عليه صفات النقص تعالى، إذ لا تشبه صفاته صفات المخلوقين، والغيرة فى صفاته بمعنى الزجر عن الفواحش والتحريم لها والمنع منها؛ لأن الغيور هو الذى يزجر عما يغار عليه، وقد بين ذلك بقوله عليه السلام: (ومن غيرته حرم الفواحش) ، أى زجر عنها ومنع منها، وبقوله فى حديث أبى هريرة: (وغيرة الله أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 349 لا يأتى المؤمن ما حرم الله) ، وقوله فى حديث سعد: (لأنا أغير من سعد، والله أغير منى) ، ومعنى ذلك أنه لزجور عن المحارم وأنا أزجر منه، والله أزجر من الجميع عما لا يحل، وكذلك قوله: (غارت أمكم) ، أى زجرت عن إهداء ما أهدت صاحبتها. قال المهلب: وأما نقل النوى وسياسة الفرس وخرز الغرب، فلا يلزم المرأة شىء من ذلك إلا أن تتطوع به، كما تطوعت أسماء. قال ابن حبيب: وكذلك الغزل والنسج ليس للرجل على امرأته ذلك بحال إلا أن تتطوع، وليس عليه إخدامها إذا كان معسرًا، وإن كانت ذات قدر وشرف، وعليها الخدمة الباطنة كما هى على الدنية، وهكذا أوضح لى ابن الماجشون وأصبغ، وسأتقصى مذاهب العلماء فى هذه المسألة فى كتاب النفقات بعد هذا، إن شاء الله. قال المهلب: وفى حديث أسماء من الفقه أن المرأة الشريفة إذا تطوعت من خدمة زوجها بما لا يلزمها كنقل النوى وسياسة الفرس أنه لا ينكر ذلك عليها أب ولا سلطان. وفيه: إرداف المرأة خلف الرجل وحملها فى جملة ركب من الناس، وليس فى الحديث أنها استترت، ولا أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمرها بذلك، فعلم منه أن الحجاب إنما هو فرض على أزواج النبى، عليه السلام، خاصة كما نص الله فى القرآن بقوله: (يا نساء النبى) [الأحزاب: 32] . وفيه: غيرة الرجل عند ابتذال أهله فيما يشق عليهن من الخدمة، وأنفة نفسه من ذلك، لاسيما إذا كانت ذات حسب وأبوة، وكذلك عز على النبى (صلى الله عليه وسلم) إفراط امتهانها ولم يلمها على ذلك، ولا وبخ الزبير على تكليفه لها ذلك لما علم من طيب نفسها به. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 350 وفى حديث القصعة الصبر للنساء على أخلاقهن وعوجهن؛ لأنه عليه السلام، لم يوبخها على ذلك ولا لامها، ولا زاد على قوله: (غارت أمكم) ، وقد تقدم اختلاف العلماء فيمن استهلك شيئًا لصاحبه هل يلزمه غرم مثله، فى كتاب المظالم والغصب عند ذكر حديث القصعة، فأغنى عن إعادته. وفى حديث جابر، أنه إذا علم من الإنسان خلق، فلا يتعرض لما ينافر خلقه ويؤذيه فى ذلك الخلق، كما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) حين لم يدخل القصر الذى كان لعمر لمعرفته بغيرته، وفى قوله: أعليك أغار يا رسول الله، أن الرجل الصالح المعروف بالخير والصلاح لا يجب أن يظن به شىء من السوء. وقوله: لضربته بالسيف غير مصفح، وهو من صفحة السيف، وهو عرضه. قال ابن قتيبة: يقال: أصفحت بالسيف فأنا مصفح، والسيف يصفح به إذا أنت ضربت بعرضه، وأراد سعد أنه لو وجد رجلاً مع أهله لضربه بحد سيفه لا بعرضه، ولم يصبر أن يأتى بأربعة شهداء، وسيأتى فى كتاب الديات الحكم فيمن وجد رجلاً مع امرأته فقتله. وذكر ابن قتيبة فى قوله عليه السلام: (فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر) ، (فإذا امرأة شوهاء إلى جانب قصر) ، من حديث ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وفسره فقال: الشوهاء الحسنة الرائعة، حدثنى بذلك أبو حاتم، عن أبى عبيدة، عن المنتجع، قال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 351 ويقال: فرس شوهاء، ولا يقال للذكر أشوه، ويقال: لا تشوه علىّ، إذا قال: ما أحسنك، أى لا تصبنى بعين. وقال الزبيرى: ذكره أبو على فى التاريخ بفتح التاء والواو وتشديد الواو. قال المؤلف: يشبه أن تكون هذه الرواية الصواب، وتتوضأ تصحيف، والله أعلم؛ لأن الحور طاهرات ولا وضوء عليهن، فكذلك كل من دخل الجنة لا تلزمه طهارة ولا عبادة، وحروف شوهاء يمكن تصحيفها بحروف تتوضأ؛ لقرب صور بعضها من بعض، والله أعلم. 84 - بَاب غَيْرَةِ النِّسَاءِ وَوَجْدِهِنَّ / 115 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ لِى النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (إِنِّى لأعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّى رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَىَّ غَضْبَى) ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: (أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّى رَاضِيَةً، فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لا، وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَىَّ غَضْبَى، قُلْتِ: لا، وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ) ، قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَهْجُرُ إِلا اسْمَكَ. / 116 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ؛ لِكَثْرَةِ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِيَّاهَا، وَثَنَائِهِ عَلَيْهَا، وَقَدْ أُوحِىَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ لَهَا فِى الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ. وفيه الصبر على النساء وعلى ما يبدو منهن من الجفاء والحرج عند الجزء: 7 ¦ الصفحة: 352 الغيرة لما جبلن عليه منها، وأنهن لا تملكنها، فعفى عن عقوبتهن على ذلك وعذرهن الله فيه. قال المهلب: وقولها: ما أهجر إلا اسمك، يدل على أن الاسم فى المخلوقين غير المسمى، ولو كان المسمى وهجرت اسمه لهجرته بعينه، ويدل على ذلك أن من قال: أكلت اسم العسل، واسم الخبز، فإنه لا يفهم أنه أكل الخبز والعسل، وكذلك إذا قال: لقيت اسم زيد، لا يفهم منه أنه لقى زيدًا، ويبين ذلك ما نشاهده من تبديل أسماء المملوكين وتبديل كنى الأحرار ولا تتبدل الأشخاص مع ذلك. قال المهلب: وإنما يصح عند تحقيق النظر أن يكون الاسم هو المسمى فى الله تعالى وحده لا فيما سواه من المخلوقين، لمباينته تعالى فى أسمائه وصفاته حكم أسماء المخلوقين وصفاتهم. فإن قيل: فإذا كان الاسم غير المسمى فى المخلوقين، فيلزم كذلك فى البارى تعالى، قيل: هذا غير لازم؛ لأن طرق العلم بالشىء إنما يؤخذ من جهة الاستدلال عليه بمثله وشبهه، أو من حكم ضده، وعلمنا يقينًا أن الله تعالى لا شبه له بقوله: (ليس كمثله شىء) [الشورى: 11] ، وبقوله: (ولم يكن له كفوًا أحد) [الإخلاص: 3] ، فثبت بذلك أنه لا ضد له؛ لأن حكم الضد إنما يعلم من حكم ضده، فلما لم يكن لله شبه ولا ضد يستدل على اسمه إذا كان غير المسمى، لم يجز لنا أن نقول بذلك فى الله تعالى؛ لإجماع أهل السنة على أن صفات الله تعالى لا تشبه صفات المخلوقين من قبل أن الشيئين لا يشتبهان باتفاق أسمائهما، وإنما يشتبهان بأنفسهما، ولما كانت نفس البارى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 353 سبحانه وتعالى غير مشبهة لشىء من العالم، كانت كذلك صفاته وأسماؤه، ألا ترى وصف البارى تعالى بأنه موجود ووصف الإنسان بذلك لا يوجب تشابهًا بينهما، وإن كانا قد اتفق فى حقيقة الوجود، هذا قول مجاهد. وسيأتى فى كتاب الرد على الجهمية، وهو الجزء الثانى من الاعتصام فى آخر هذا الديوان فى باب السؤال بأسماء الله والاستعاذة بها تبيين مذاهب أهل السنة أن اسم الله عز وجل هو المسمى، فهو موضع ذكره إن شاء الله، وسأذكر فى كتاب الأدب فى باب حسن العهد من الإيمان تفسير الفضل المذكور. 85 - باب ذَبِّ الرَّجُلِ عَنِ ابْنَتِهِ فِى الْغَيْرَةِ وَالإنْصَافِ / 117 - فيه: الْمِسْوَر، سَمِعْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْمِنْبَرِ يقول: (إِنَّ بَنِى هِشَامِ ابْنِ الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُونِى فِى أَنْ يُنْكِحُوا ابْنَتَهُمْ عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ، فَلا آذَنُ، ثُمَّ لا آذَنُ، ثُمَّ لا آذَنُ إِلا أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِى طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتِى، وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ، فَإِنَّمَا هِىَ بَضْعَةٌ مِنِّى، يُرِيبُنِى مَا أَرَابَهَا، وَيُؤْذِينِى مَا آذَاهَا) . قال المهلب: فى هذا من الفقه أنه قد يحكم فى أشياء لم تبلغ التحريم بأن يمنع منها من يريدها، وإن كانت حلالاً، لما يلحقها من الكراهية فى العرض أو المضرة فى المال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 354 وفيه: بقاء عار الآباء فى أعقابهم وأنهم يعيرون به، ولا يوازون الأشراف كما عير رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بنت أبى جهل وهى مسلمة بعداوة أبيها لله، فحط بذلك منزلتها عن أن تحل محل ابنته، وكذلك السابقة إلى الخير والشرف فى الدين تبقى فى العقب فضله، ويرعى فيهم أمره، ألا ترى قوله تعالى: (وكان أبوهما صالحًا) [الكهف: 82] . وفيه: دليل ألا تجتمع أمة وحرة تحت رجل إلا برضا الحرة؛ لأن النبى، عليه السلام، لم يجعل بنت عدو الله مكافئة لبنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فكذلك المرأتان الغير متكافئتين بالحرية فى الإسلام لا تجتمعان إلا برضا الحرة، ألا ترى أن رضا فاطمة لو تأتى منها لما منع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذلك؛ لأنه قال: (يؤذينى ما آذاها وأخاف أن تفتن فى دينها) ، ولم تكن بنت عدو الله مأمونة عليها أن تكون ضرة وصاحبة لها، ولو لم يحزنها ذلك ولا خشى منها الفتنة؛ لما منعه من حال نكاح بنت أبى جهل، ومن هذا المعنى وحديث بريرة وجب تخيير الحرة إذا تزوج عليها أمة؛ لأن بريرة حين عتقت فارقته؛ لأن زوجها لم يكافئها لحريتها، فكذلك الحرة لا تكافئها المملوكة. واختلف العلماء فى ذلك، فقال مالك: إذا نكح أمة على حرة يجوز النكاح، والحرة بالخيار. هذه رواية ابن وهب عنه، وروى عنه ابن القاسم أنه سُئل عمن تزوج أمة وهو يجد طولاً إلى حرة، قال: يفرق بينهما، قيل: إنه يخاف العنت، قال: السوط يضرب به، ثم خففه بعد ذلك، قلت: فإن كان لا يخشى العنت، قال: كان يقول: ليس له أن يتزوجها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 355 وقال الكوفيون، والثورى، والأوزاعى، والشافعى: لا يجوز له أن يتزوج أمة وتحته حرة، ولا يصح نكاح الأمة، ولا فرق بين إذن الحرة وغير إذنها. واختلفوا فى نكاح الحرة على الأمة، فقالت طائفة: النكاح ثابت، روى هذا عن عطاء، وسعيد بن المسيب، وبه قال الكوفيون، والشافعى، وأبو ثور، وفيه قول ثان، وهو أن الحرة بالخيار إذا علمت، هذا قول الزهرى، ومالك. وفيها قول ثالث، وهو أن يكون نكاح الحرة طلاقًا للأمة، روى هذا عن ابن عباس، وبه قال أحمد، وإسحاق. وقد تقدم معنى حديث المسور مستوعبًا فى كتاب الجهاد فى باب ما ذكر من درع النبى (صلى الله عليه وسلم) وعصاه وسيفه؛ لأن الحديث هناك أتم منه فى هذا الباب، والحمد لله. 86 - باب يَقِلُّ الرِّجَالُ وَيَكْثُرُ النِّسَاءُ وَقَالَ أَبُو مُوسَى، عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام: (وَتَرَى الرَّجُلَ الْوَاحِدَ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ، وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ) . / 118 - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَكْثُرَ الْجَهْلُ، وَيَكْثُرَ الزِّنَا، وَيَكْثُرَ شُرْبُ الْخَمْرِ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ) . قال المهلب: هذا إنما يكون من أشراط الساعة، كما قال عليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 356 السلام، ويمكن أن تكون قلة الرجال من اشتداد الفتن وترادف المحن، فيقتل الرجال، والله أعلم. ويحتمل قوله: (القيم الواحد) ، معنيين: أحدهما: أن يكون قيمًا عليهن وناظرًا لهن وقائمًا بأمورهن، ويحتمل أن يكون اتباع النساء له على غير الحل، والله أعلم. قال الطحاوى: ولما احتمل الوجهين نظرنا هل روى فى ذلك شىء يدل على أحدهما، فذكر على بن معبد بإسناده عن حذيفة، قال: سمعت النبى، عليه السلام، يقول: (إذا عمت الفتنة يميز الله أصفياءه وأولياءه حتى تطهر الأرض من المنافقين والقتالين، ويتبع الرجل يومئذ خمسون امرأة، هذه تقول: يا عبد الله، استرنى، يا عبد الله، آونى) ، فدل هذا الحديث على القول الأول. 87 - باب لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا ذُو مَحْرَمٍ وَالدُّخُولُ عَلَى الْمُغِيبَةِ / 119 - فيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ) ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: (الْحَمْوُ الْمَوْتُ) . / 120 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا مَعَ ذِى مَحْرَمٍ) ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْرَأَتِى خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَاكْتُتِبْتُ فِى غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: (ارْجِعْ، فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ) . قال المهلب: معنى قوله: (الحمو الموت) ، النهى عن أن يدخل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 357 على المغيبة صهر ولا غيره خوف الظنون ونزغات الشيطان؛ لأن الحمو قد يكون من غير ذى المحارم، وإنما أباح، عليه السلام، أن يخلو مع المرأة من كان ذا محرم منها. قال الطبرى: وبمثل ذلك قال جماعة من الصحابة والتابعين: روينا عن عمر بن الخطاب، أنه قال: إياكم والمغيبات، ألا فوالله أن الرجل ليدخل على المرأة، فلأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يزنى، فما يزال الشيطان يخطب أحدهما إلى الآخر حتى يجمع بينهما) . وروينا عن عمرو بن العاص أنه أرسل إلى على بن أبى طالب يستأذنه، وكانت له حاجة إلى أسماء، فقيل له: ليس ثم على، ثم أرسل إليه الثانية، فقيل: هو ثم، فلما خرج إليه، قال عمرو: إن لى إلى أسماء حاجة فأدخل؟ قال: نعم، قال: وما سألت عن على، قال: حاجتك إلى أسماء، قال: إنا نهينا أن نكلمهن إلا عند أزواجهن. وقال عمرو بن قيس الملائى: ثلاث لا ينبغى للرجل أن يثق بنفسه عند واحدة منهن: لا يجالس أصحاب زيغ، فيزيغ الله قلبه بما زاغ به قلوبهم، ولا يخلو رجل بامرأة، وإن دعاك صاحب سلطان إلى أن تقرأ عليه القرآن فلا تفعل. قال الطبرى: فلا يجوز أن يخلو رجل بامرأة ليس لها بمحرم فى سفر ولا فى حضر، إلا فى حال لا يجد من الخلوة بها بدًا، وذلك كخلوة بجارية امرأته تخدمه فى حال غيبة مولاتها عنهما، وقد رخص فى ذلك الثورى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 358 قال المهلب: وفيه جواز تبكيت العالم على الجواب إلى المشترك من الأسماء على سبيل الإنكار للمسألة. قال الطبرى: الحمو عند العرب كل من كان من قبل الزوج أخًا كان أو أبًا أو عمًا فهم الأحماء، فأما أم الزوج، فكان الأصمعى يقول: هى حماة الرجل، لا يجوز غير ذلك، ولا لغة فيها غيرها، وإنما عنى بقوله: الحمو الموت، أن خلوة الحمو بامرأة أخيه أو امرأة ابن أخيه بمنزلة الموت فى مكروه خلوته بها، وكذلك تقول العرب إذا وصفوا الشىء يكرهونه إلى الموصوف له، قالوا: ما هو إلا الموت، كقول الفرزدق لجرير: فإنى أنا الموت الذى هو واقع بنفسك فانظر كيف أنت مزاوله وقال ثعلب: سألت ابن الأعرابى عن قوله: الحمو الموت، فقال: هذه كلمة تقولها العرب مثلاً كما تقول: الأسد الموت، أى لقاؤه الموت، وكما تقول: السلطان نار، أى مثل النار، فالمعنى احذروه كما تحذرون الموت. وقال أبو عبيد: معناه فليمت ولا يفعل ذلك، وهو بعيد، وإنما الوجه ما قاله ابن الأعرابى، ومن هذا الباب قوله تعالى: (ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت) [إبراهيم: 17] ، أى مثل الموت فى الشدة والكراهية، ولو أراد نفس الموت لكان قد مات. وقال عامر بن فهيرة: لقد وجدت الموت قبل دنوه وقال الأصمعى: الأحماء من قبل الزوج، والأختان من قبل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 359 المرأة، والصهر يجمعهما، والحماة أم الزوج، والختنة أم المرأة، وفى الحمو لغات. قال صاحب العين: الحما على مثال قفا: أبو الزوج وجميع قرابته، والجمع أحماء، تقول: رأيت حماه ومررت بحماها، وتقول فى هذه اللغة إذا أفرد: هذا حما، وفيه لغة أخرى حموك مثل أبوك، تقول: هذا حموها، ومررت بحميها ورأيت حماها، فإذا لم تضفه سقطت الواو، فتقول: حم، كما تقول: أب، وفيه لغة أخرى: حمء، بالهمز مثل خبء، ودفء، عن الفراء، وحكى الطبرى لغة رابعة: حمها بترك الهمز. وفى حديث ابن عباس إباحة الرجوع عن الجهاد إلى إحجاج امرأته؛ لأن فرضًا عليه سترها وصيانتها، والجهاد فى ذلك الوقت كان يقوم به غيره، فلذلك أمره عليه السلام أن يحج معها إذ لم يكن لها من يقوم بسترها فى سفرها ومبيتها. 88 - باب مَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ عِنْدَ النَّاسِ / 121 - فيه: أَنَس، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأنْصَارِ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَخَلا بِهَا، فَقَالَ: (وَاللَّهِ إِنَّكُنَّ لأحَبُّ النَّاسِ إِلَىَّ) . قال المهلب: فيه من الفقه أنه لا بأس للعالم والرجل المعلوم بالصلاح أن يخلو بالمرأة إلى ناحية عن الناس وتسر إليه بمسائلها وتسأله عن بواطن أمرها فى دينها، وغير ذلك من أمورها، فإن قيل: ليس فى الحديث أنه خلا بها عند الناس كما ترجم، قيل: قول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 360 انس: فخلا بها، يدل أنه كان مع الناس، فتنحى بها ناحية، ولا أقل من أن يكون مع أنس راوى الحديث وناقل القصة، ولم يرد بقوله: فخلا بها، أنه غاب عن أبصارهم، وإنما خلا بها حيث لا يسمع الذين بحضرته كلامها ولا شكواها إليه، ألا ترى أنهم سمعوا قوله لها: (أنتم أحب الناس إلى) يريد الأنصار قوم المرأة. 89 - باب مَا يُنْهَى مِنْ دُخُولِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْمَرْأَةِ / 122 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، كَانَ عِنْدَهَا وَفِى الْبَيْتِ مُخَنَّثٌ، فَقَالَ الْمُخَنَّثُ لأخِى أُمِّ سَلَمَةَ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِى أُمَيَّةَ: إِنْ فَتَحَ اللَّهُ لَكُمُ الطَّائِفَ غَدًا، أَدُلُّكَ عَلَى بِنْتِ غَيْلانَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَدْخُلَنَّ هَذَا عَلَيْكُنَّ) . قال المهلب: أصل هذا الحديث قوله عليه السلام: (لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها حتى كأنه يراها) ، فلما سمع النبى (صلى الله عليه وسلم) وصف المخنث للمرأة بهذه الصفة التى تهيم نفوس الناس، منع أن يدخل عليهن؛ لئلا يصفهن للرجال فيسقط معنى الحجاب. قال غيره: وفيه من الفقه أنه لا ينبغى أن يدخل على النساء من المؤنثين من يفطن لمحاسنهن ويحسن وصفهن، وأن من علم محاسنهن لا يدخل فى معنى قوله تعالى: (غير أولى الإربة من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 361 الرجال} [النور: 31] ، وإنما غير أولى الإربة الأبله العنين الذى لا يفطن لمحاسنهن، ولا إرب له فيهن، وهذا الحديث أصل فى نفى كل من يتأذى به وإبعاده بحيث يؤمن أذاه. قال المهلب: قال ابن حبيب: والمخنث هو المؤنث من الرجال وإن لم تعرف فيه الفاحشة، وهو مأخوذ من تكسر الشىء، ومنه حديثه الآخر أنه نهى عليه السلام عن اختناث الأسقية، وهو أن تكسر أفواه الأسقية ليشرب منها. وكان يدخل على أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه كان عندهن من غير ذوى الإربة. حدثنى ابن حبيب، عن مالك فى قوله: (تقبل بأربع وتدبر بثمان) ، أنه أراد أعكانها؛ لأن العكن هى أربع طوابق فى بطنها بعضها فوق بعض، فإذا بلغت خصريها صارت أحواقها ثمانيًا أربعًا من هاهنا، وأربعًا من هاهنا، وقوله: (تدبر بثمان) ، ولم يقل: بثمانية، وإن كان يقع ذلك على الأطراف، والأطراف مذكرة، فإنما أراد العطن التى هى مؤنثة، واحدها عكنة؛ لأن كل جزء من العطن يلزمه من التأنيث ما يلزم جمعه، وهذا من التأنيث المحمول على المعنى. وقال ابن الكلبى: هذا المؤنث يسمى: هيت، وهو مولى لعبد الله بن أبى أمية أخى أم سلمة لأمها، وكان طوس مولى عبد الله بن أبى أمية ومن قبله سرى إلى طوس الخنث. قال المهلب: وفى وصف المخنث لمحاسن المرأة حجة لمن أجاز بيع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 362 الأعيان الغائبة على الصفة كما قاله مالك خلافًا للشافعى، ولو لم تكن الصفة فى هذا الحديث بمعنى الرؤية لم ينه النبى، عليه السلام، المؤنث عن الدخول على النساء، والله أعلم، وقد تقدمت هذه المسألة فى كتاب البيوع. 90 - باب نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْحَبَشِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ / 123 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: رَأَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتُرُنِى بِرِدَائِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِى الْمَسْجِدِ، حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِى أَسْأَمُ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ. وفى هذا الحديث: حجة لمن أجاز النظر إلى اللعب فى الوليمة وغيرها. وفيه: جواز نظر النساء إلى اللهو واللعب، لاسيما الحديثة السن، فإن النبى عليه السلام قد عذرها لحداثة سنها. وفيه: أنه لا بأس بنظر المرأة إلى الرجل من غير ريبة، ألا ترى إلى ما اتفق عليه العلماء فى الشهادة على المرأة أن ذلك لا يكون إلا بالنظر إلى وجهها، ومعلوم أنها تنظر إليه حينئذ كما ينظر إليها، وإنما أراد البخارى بهذا الحديث، والله أعلم، الرد لحديث ابن شهاب، عن نبهان مولى أم سلمة، عن أم سلمة، أنها قالت: كنت أنا وميمونة جالستين عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فاستأذن عليه ابن أم مكتوم الأعمى، فقال: (احتجبا منه) ، فقلنا: يا رسول الله، أليس أعمى لا يبصرنا؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 363 قال: أفعمياوان أنتما؟) ، وحديث عائشة أصح منه؛ لأن نبهان ليس بمعروف بنقل العلم ولا يروى إلا حديثين، أحدهما هذا، والثانى فى المكاتب إذا كان معه ما يؤدى احتجبت منه سيدته، فلا يشتغل بحديث نبهان لمعارضة الأحاديث الثابت له وإجماع العلماء. 91 - باب خُرُوجِ النِّسَاءِ لِحَوَائِجِهِنَّ / 124 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ لَيْلا، فَرَآهَا عُمَرُ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: إِنَّكِ وَاللَّهِ يَا سَوْدَةُ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا، فَرَجَعَتْ إِلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، وَهُوَ فِى حُجْرَتِى يَتَعَشَّى، وَإِنَّ فِى يَدِهِ لَعَرْقًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَرُفِعَ عَنْهُ، وَهُوَ يَقُولُ: (قَدْ أَذِنَ اللَّهُ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَوَائِجِكُنَّ) . فى هذا الحديث دليل على جواز خروج النساء لكل ما أبيح لهن الخروج فيه من زيارة الآباء والأمهات وذوى المحارم والقرابات، وغير ذلك مما بهن الحاجة إليه، وذلك فى حكم خروجهن إلى المساجد. قال المهلب: وفيه جواز مكالمة المرأة من وراء الستر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 364 92 - باب اسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِى الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ / 125 - فيه: ابُن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلا يَمْنَعْهَا) . قد تقدم هذا الباب فى كتاب الصلاة، ومذاهب العلماء فيه. 93 - باب مَا يَحِلُّ مِنَ الدُّخُولِ وَالنَّظَرِ إِلَى النِّسَاءِ فِى الرَّضَاعِ / 126 - فيه: عَائِشَةَ، جَاءَ عَمِّى مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَىَّ، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: (إِنَّهُ عَمُّكِ، فَأْذَنِى لَهُ. . .) ، الحديث. فائدة هذا الباب أنه أصل فى أن الرضاع يحرم من النكاح ما يحرم النسب، ويبيح من الولوج على ذوات المحارم منه مثل ما يبيح من النسب، وقد تقدم ذلك. 94 - باب لا تُبَاشِرِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا / 127 - فيه: ابْن مَسْعُود، قال النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لا تُبَاشِرُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا) . قال أبو الحسن بن القابسى: هذا من أبين ما تحمى به الذرائع، فإن وصفتها لزوجها بحسن خيف عليه الفتنة، فيكون ذلك سببًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 365 لطلاق زوجته، ونكاحها إن كانت ثيبًا، وإن كانت ذات بعل كان ذلك سببًا لبغضه زوجته ونقصان منزلتها عنده، وإن وصفتها بقبح، كان ذلك غيبة، وقد جاء عن النبى، عليه السلام، أنه نهى الرجل عن مباشرة الرجل مثل نهيه للمرأة سواء. قال الطبرى: وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يباشر الرجل الرجل، ولا المرأة المرأة) . قال الطبرى: وفيه من البيان أن مباشرة الرجل الرجل والمرأة المرأة مفضيًا كل واحد منهما بجسده إلى جسد صاحبه غير جائز. فإن قال قائل: هذه الأخبار هى على العموم أم على الخصوص؟ قيل: على العموم فيما عنيت به، وعلى الخصوص فيما يحتمله ظاهرها. فإن قيل: وكيف كان ذلك؟ قيل: لقيام الحجة بجواز مصافحة الرجل الرجل والمرأة المرأة، وذلك مباشرة من كل واحد منهما صاحبه ببعض جسده، فكان معلومًا بذلك، إذ لم يكن فى قوله عليه السلام: (لا يباشر الرجل الرجل ولا المرأة المرأة) استثناء مقرون به فى الخبر، وكانت المصافحة مباشرة وهى من الأمور التى ندب المسلمون إليها كالذى حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا بكر أبو عبيدة الناجى، حدثنا الحسن، عن البراء بن عازب، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إن المسلمين إذا التقيا فتصافحا تحاتت ذنوبهما) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 366 وحدثنا أبو كريب، حدثنا ابن المبارك، حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن على بن يزيد، عن القاسم، عن أبى أمامة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (تمام تحيتكم بينكم المصافحة) ، ونحو ذلك من الأخبار الدالة على أن المسلمين مندوبون إلى مباشرة بعضهم بعضًا بالأكف مصافحة عند الالتقاء، وكان محالاً اجتماع الأمر بفعل الشىء والنهى عنه فى حالة واحدة، علم أن الذى ندب العبد إلى المباشرة به من جسم أخيه غير الذى نهى عنه من مباشرته به. وقال ابن القاسم: سئل مالك عن الخدم يبيتون عراة فى لحاف واحد فى الشتاء، فكرهه وأنكر أن تبيت النساء عراة لا ثياب عليهن؛ لأن ذلك إشراف على العورات، وذلك غير جائز لنهى النبى، عليه السلام، عن مباشرة الرجال والنساء بعضهم بعضًا. 95 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى نِسَائِى / 128 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ: لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلامًا، يُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِىَ، فَأَطَافَ بِهِنَّ، وَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلا امْرَأَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ، قَالَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ) . قد تقدم معنى هذا الباب فى باب من طاف على نسائه فى غسل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 367 واحد، وأنه لا يجوز أن يجمع الرجل جماعه زوجاته، ولا يطوف عليهن كلهن فى ليلة إلا إذا لم يبدأ القسم بينهن، أو إذا أذن له فى ذلك، أو إذا قدم من سفره، ولعله لم يكن فى شريعة سليمان بن داود من فرض القسمة بين النساء والعدل بينهن ما أخذه الله على أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: وقوله: (لو قال: إن شاء الله، لم يحنث) ، يعنى لم يخب ولا عوقب بالحرمان حين لم يستثن مشيئة الله ويجعل الأمر له، وليس فى الحديث يمين فيحنث فيها، وإنما أراد أنه لما جعل لنفسه القوة والفضل عاقبه الله تعالى بالحرمان، فكان الحنث بمعنى التخييب. وكذلك من نذر لله طاعة أو دخل فى شىء منها وجب عليه الوفاء بذلك؛ لقوله: (أوفوا بالعقود) [المائدة: 1] ، وقوله: (فما رعوها حق رعايتها) [الحديد: 27] ، فكان مطالبًا بما تألى به، فكأنه ضرب من الحنث؛ لأنه تألى فلم يف. وقد احتج بعض الفقهاء بهذا الحديث، فقال: إن الاستثناء بعد السكوت عن اليمين جائز، بخلاف قول مالك، واحتجوا بقوله: (لو قال: إن شاء الله، لم يحنث) ، وليس كما توهموه؛ لأن هذه لم تكن يمينًا، وإنما كان قولاً جعل الأمر فيه لنفسه ولم تجب عليه فيه كفارة، فسقط عنه الاستثناء، وإنما هذا الحديث مثل قوله تعالى: (ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله) [الكهف: 22، 23] ، أدبًا أدب الله به عباده الجزء: 7 ¦ الصفحة: 368 ليردوا الأمر إليه، ويتبرءوا من الحول والقوة إلا لله تعالى، ودل هذا المعنى على صحة قول أهل السنة أن أفعال العباد من الخير والشر خلق الله، وسيأتى الكلام فى ذلك فى كتاب الاعتصام، فهو موضعه. 96 - باب لا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلا إِذَا أَطَالَ الْغَيْبَةَ مَخَافَةَ أَنْ يُخَوِّنَهُمْ أَوْ يَلْتَمِسَ عَثَرَاتِهِمْ / 129 - فيه: جَابِر، كَانَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، يَكْرَهُ أَنْ يَأْتِىَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا. وَقَالَ جَابِر، عن النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الْغَيْبَةَ فَلا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلا) . قال المؤلف: قوله فى الترجمة: مخافة أن يخونهم أو يلتمس عثراتهم، روى هذا اللفظ عن النبى، عليه السلام، من حديث ابن أبى شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن محارب ابن دثار، عن جابر، قال: نهى النبى، عليه السلام، أن يطرق الرجل أهله ليلاً يتخونهم أو يطلب عثراتهم، فبين النبى، عليه السلام، بهذا اللفظ المعنى الذى من أجله نهى عن أن يطرق أهله ليلاً. فإن قيل: وكيف يكون طروقه أهله ليلاً سببًا لتخونهم؟ قيل: معنى ذلك، والله أعلم، أن طروقه إياهم ليلاً هو وقت خلوة وانقطاع مراقبة الناس بعضهم بعضًا، فكان ذلك سببًا لسوء ظن أهله به، وكأنه إنما قصدهم ليلاً ليجدهم على ريبة حين توخى وقت غرتهم وغفلتهم. ومعنى الحديث النهى عن التجسس على أهله، ولا تحمله غيرته على تهمتها إذا لم يأنس منها إلا الخير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 369 قال المهلب: وهذا الحديث يقوم منه الدليل على المنع من التجسس وطلب الغرة والتعرض لما فيه الفتنة وسوء الظن. وقوله: طروقًا، هو مصدر فى موضع الحال، يقال: أتانا طروقًا، أى جاء ليلاً. 97 - باب طَلَبِ الْوَلَدِ / 130 - فيه: جَابِر، كُنْتُ مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى غَزْوَةٍ، فَلَمَّا قَفَلْنَا، تَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ قَطُوفٍ، فَلَحِقَنِى رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِى، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَا يُعْجِلُكَ) ؟ قُلْتُ: إِنِّى حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، قَالَ: (فَبِكْرًا تَزَوَّجْتَ أَمْ ثَيِّبًا) ؟ قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبًا، قَالَ: (فَهَلا جَارِيَةً تُلاعِبُهَا وَتُلاعِبُكَ) ؟ قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ، فَقَالَ: (أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلا - أَىْ عِشَاءً - لِكَىْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ) . قَالَ: وَحَدَّثَنِى الثِّقَةُ، أَنَّهُ قَالَ فِى هَذَا الْحَدِيثِ: (الْكَيْسَ، الْكَيْسَ، يَا جَابِرُ) ، يَعْنِى الْوَلَدَ. وَقَالَ جَابِر مرةً عن النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (فَعَلَيْكَ بِالْكَيْسِ الْكَيْسِ) . قال المهلب: طلب الولد مندوب إليه؛ لقوله عليه السلام: (إنى مكاثر بكم الأمم) ، وأنه من مات من ولده من لم يبلغ الحلم، فإن الله يدخله الجنة بفضل رحمته إياهم. فإن قال قائل: قوله عليه السلام: (أمهلوا حتى تدخلوا ليلاً) ، أى عشاء، يعارض نهيه عليه السلام أن يأتى الرجل أهله طروقًا. قيل: لا تعارض بينهما بحمد الله، وفى هذا الحديث أمر للمسافر إذا قدم نهارًا أن يتربص حتى يدخل إلى أهله عشاء لكى يتقدمه إلى أهله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 370 خبر قدومه، فتمتشط له الشعثة، وتتزين وتستحد له وتتنظف؛ لئلا يجدها على حالة يكرهها فتقع البغضة، رفقًا منه عليه السلام بأمته، ورغبة فى إدامة المودة بينهما وحسن العشرة. وقوله فى الحديث الآخر: (أمهلوا حتى تدخلوا ليلاً) ، أى عشاء، يدل على قدومهم فى النهار، والحديث الآخر الذى نهى فيه عن طروق أهله ليلاً بخلاف هذا المعنى؛ لأن الطروق لا يكون وقت العشاء، وإنما يكون لمن يقدم فجأة بعدما مضى وقت من الليل، فنهى عن ذلك للعلة التى ذكرها فى الحديث، وهى خشية أن يتخونهم أو يطلب غرتهم، لاسيما إذا طالت غيبته، فإنها تبعد مراقبتها له، وتكون يائسة من تعجله إليها، فيجد الشيطان سبيلاً إلى إيقاع سوء الظن. 98 - باب قَوُلُه تَعَالَى: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا) [النور: 31] الآية / 131 - فيه: أَبُو حَازِمٍ، قَالَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ بِأَىِّ شَىْءٍ دُووِىَ جُرْحُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ أُحُدٍ، فَسَأَلُوا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، وَكَانَ مِنْ آخِرِ مَنْ بَقِىَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، [بِالْمَدِينَةِ] ، فَقَالَ: وَمَا بَقِىَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّى، كَانَتْ فَاطِمَةُ تَغْسِلُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَعَلِىٌّ يَأْتِى بِالْمَاءِ عَلَى تُرْسِهِ، فَأُخِذَ حَصِيرٌ، فَحُرِّقَ، فَحُشِىَ بِهِ جُرْحُهُ. قال المهلب: إنما أبيح للنساء أن يبدين زينتهن لمن ذكر فى هذه الآية من أجل الحرمة التى لهم من القرابة والمحرم، إلا فى العبيد، فإن الحرمة إنما هى من جهة السيادة، وأن العبد لا تتطاول عينه إلى سيدته، فهى حرمة ثابتة فى نفسه أبيح للمرأة بها من إظهار الزبينة ما أبيح لها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 371 إلى أبيها وابنها وذوى الحرمة منها مع أنه لا يظن بحرة ما انحطاط إلى عبد، هذا المعلوم من نساء العرب، والأكثر فى العرف والعادة. وسُئل سعيد بن جبير: هل يجوز للرجل أن يرى شعر ختنته؟ فتلا قوله: (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن) [النور: 31] الآية، فقال: لا أراها منهن. وقال الطبرى فى قوله تعالى: (أو إخوانهن أو بنى أخواتهن) [النور: 31] ، قال: إخوان جمع أخ، وإخوة جمع أخ أيضًا، ما تجمع فتى فتيان وتجمع فتية أيضًا. وسُئل عكرمة والشعبى عن قوله تعالى: (لا جناح عليهن فى آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن) [الأحزاب: 55] ، قلت: ما شأن العم والخال لم يذكرا؟ قالا: لأنهما ينعتانها لأبنائهما، وكرها أن تضع خمارها عند عمها وخالها، ومن رأى العم والخال داخلين فى جملة الآباء جاز ذلك. وقال النخعى: لا بأس أن ينظر إلى شعر أمه وأخته وعمته وخالته. وذكر إسماعيل، عن الحسن والحسين أنهما كانا لا يريان أمهات المؤمنين. وقال ابن عباس: إن رؤيتهما لهم تحل. قال إسماعيل: أحسب أن الحسن والحسين ذهبا فى ذلك إلى أن أبناء البعولة لم تذكر فى الآية التى فى أزواج النبى، عليه السلام، وهى قوله: (لا جناح عليهن فى آبائهن (، وقال فى سورة النور: (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن) [النور: 31] ، فذهب ابن عباس إلى هذه الآية، وذهب الحسن والحسين إلى الآية الأخرى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 372 وقوله: (ولا نسائهن) [الأحزاب: 55] ، يعنى ولا حرج عليهن ألا يحتجبن من نساء المؤمنين. وروى عن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، أنه كتب إلى عماله ألا يترك امرأة من أهل الذمة أن تدخل الحمام مع المسلمات، واحتج بهذه الآية. واختلف السلف فى تأويل قوله تعالى: (أو ما ملكت أيمانهن) [النور: 31] ، فقال سعيد بن المسيب: لا تغرنكم هذه الآية، إنما عنى بها الإماء ولم يعن بها العبيد. وكان الشعبى يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته، وهو قول عطاء ومجاهد. وقال ابن عباس: لا بأس أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته، فدل أن الآية عنده على العموم فى المماليك والخدم. وقال إسماعيل: وهذا أعلى القولين وأكثر، وكانت عائشة وسائر أزواج النبى، عليه السلام، يدخل عليهن مماليكهن، قال إسماعيل بن إسحاق: وإنما جاز للمملوك أن ينظر إلى شعر مولاته مادام مملوكًا؛ لأنه لا يجوز له أن يتزوجها مادام مملوكًا، وهو كذوى المحارم كما لا يجوز لذوى المحارم منها أن يتزوجوها ولا يدخل العبد فى المحرم الذى يجوز للمرأة أن تسافر معه؛ لأن حرمته منها لا تدوم، إذ قد يمكن أن تعتقه فى سفرها فيحل له تزويجها. فإن قال قائل: إن حديث أم عطية: كنا نداوى الكلمى. والحديث الآخر: كن النساء ينقلن القرب على متونهن مشمرات حتى يرى خدم سوقهن فى المغازى مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، يخالف الآية وحديث سهل. فالجواب: أنه إن صح أن ظهر من سوقهن غير الخدم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 373 مما لا يجوز كشفه، فالأحاديث منسوخة بسورة النور وسورة الأحزاب؛ لأنهما من آخر ما نزل بالمدينة من القرآن، وبإجماع الأمة أنه ليس يجوز للمرأة أن تظهر شيئًا من عورتها لذى رحمها، فكيف بالأجانب؟ وكذلك لا يجوز لها أن تظهر عورتها للنساء أيضًا. 99 - باب قَوُلُه تَعَالَى: (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) [النور: 58] / 132 - فيه: ابْن عَبَّاس، سَأَلَهُ رَجُلٌ: هَلْ شَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْعِيدَ أَضْحًى أَوْ فِطْرًا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَوْلا مَكَانِى مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ - يَعْنِى مِنْ صِغَرِهِ - قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ - وَلَمْ يَذْكُرْ أَذَانًا وَلا إِقَامَةً - ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ إِلَى آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ، وَيَدْفَعْنَ إِلَى بِلالٍ. . . . الحديث. قال المهلب: كان ابن عباس فى هذا الوقت ممن لم يطلع على عورات النساء، ولذلك قال: لولا مكانى من الصغر ما شهدته، وكان بلال من البالغين، وقال تعالى: (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) [النور: 58] الآية، فأجرى الذين ملكت أيمانهم مجرى الذين لم يبلغوا الحلم، وأمروا بالاستئذان فى العورات الثلاث؛ لأن الناس ينفصلون فى تلك الأوقات ولا يكونون من الستر فيها كما يكونون فى غيرها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 374 0 - باب قَوُل الرَّجُل لِصَاحِبِه: هَل أَعرستُم الليْلَة وَطَعْنِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ فِى الْخَاصِرَةِ عِنْدَ الْعِتَابِ / 133 - فيه: عَائِشَةَ، عَاتَبَنِى أَبُو بَكْرٍ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِى بِيَدِهِ فِى خَاصِرَتِى، فَلا يَمْنَعُنِى مِنَ التَّحَرُّكِ إِلا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) [وَرَأْسُهُ] عَلَى فَخِذِى. أما قوله: باب قول الرجل لصاحبه: هل أعرستم الليلة؟ فلم يخرج فيه هاهنا حديثًا، وأخرجه فى أول كتاب العقيقة، رواه أنس، قال: كان ابن لأبى طلحة يشتكى، فخرج أبو طلحة فقبض الصبى، فلما رجع أبو طلحة، قال: ما فعل بنى؟ قالت أم سليم: هو أسكن مما كان، فقربت إليه العشاء، فتعشى ثم أصاب منها، فلما فرغ قالت: واروا الصبى، فلما أصبح أبو طلحة أتى النبى، عليه السلام، فأخبره فقال: (أعرستم الليلة؟) ، قال: نعم، قال: (اللهم بارك لهما فيه) ، فولدت غلامًا سماه النبى، عليه السلام، عبد الله، وحنكه بتمرات مضغها، عليه السلام. وفيه من الفقه: أن الرجل الفاضل والصديق الملطف يجوز أن يسأل صديقه عما يفعله إذا خلا مع أهله، ولا حرج عليه فى ذلك. وفيه: أنه من أصيب بمصيبة لم يعلم بها أنه لا ينبغى أن يهجم عليه بالتقريع بذكرها والتعظيم لها عند تعريفه بها، بل يرفق له فى القول ويعرض له بألطف التعريض؛ لئلا يحدث عليه فى نفسه ما هو أشد منها، فقد جبل الله النفوس على غاية الضعف، والناس متباينون فى الصبر عند المصائب، ولاسيما عند الصدمة الأولى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 375 وفى حديث عائشة أن للأب أن يعاتب ابنته بمحضر زوجها ويتناولها بيده بضرب وتهديد، وغير ذلك مباح له، فقد أخرجه فى كتاب الحدود، باب من أدب أهله أو غيرهم دون السلطان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 376 بسم الله الرحمن الرحيم 49 - كِتَاب الطَّلاقِ - وقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) [الطلاق: 1] وَطَلاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، وَيُشْهِدَ شَاهِدَيْنِ. أَحْصَيْنَاهُ: حَفِظْنَاهُ. / 1 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِىَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مُرْهُ، فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ) . قال ابن المنذر: أباح الله الطلاق بهذه الآية، وقول النبى، عليه السلام، فى حديث ابن عمر: (فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق) ، وقد طلق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حفصة ثم راجعها. وقال غيره: هكذا روى هذا الحديث عن نافع، مالك، وابن جريج، والليث، وكذلك رواه ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر، ورواه يونس بن جبير، وسعيد بن جبير، وأنس بن سيرين، وابن الزبير، وزيد بن أسلم، كلهم عن ابن عمر، وقال فيه مرة: (فليراجعها حتى تطهر، ثم إن شاء طلق، وإن شاء أمسك) ، ولم يقولوا فيه: (ثم تحيض ثم تطهر) . وأجمعوا أنه من طلق امرأته طاهرًا فى طهر لم يمسها فيه أنه مطلق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 377 للسنة والعدة التى أمر الله تعالى بها، وأن له الرجعة إذا كانت مدخولاً بها قبل أن تنقضى العدة، فإذا انقضت فهو خاطب من الخطاب. وذهب مالك، وأبو يوسف، والشافعى، إلى ما رواه نافع، عن ابن عمر، فقالوا: من طلق امرأته حائضًا أنه يراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء طلق قبل أن يمس، وإن شاء أمسك. وذهب أبو حنيفة وأكثر أهل العراق إلى ما رواه يونس بن جبير، وسعيد بن جبير، عن ابن عمر فى هذا الحديث، قالوا: يراجعها، فإذا طهرت طلقها إن شاء، وإلى هذا ذهب المزنى. وقالوا: إنما أمر المطلق فى الحيض بالمراجعة؛ لأن طلاقه ذلك أخطأ فيه السنة أمر بمراجعتها ليخرجها من أسباب الخطأ، ثم يتركها حتى تطهر من تلك الحيضة، ثم يطلقها إن شاء طلاقًا صوابًا، ولم يروا للحيضة الثانية بعد ذلك معنى. وأما مالك، وأبو يوسف، والشافعى، فقالوا: للطهر الثانى والحيضة الثانية معان صحيحة، منها أنه لما طلق فى الموضع الذى نهى عنه أمر بمراجعتها ليوقع الطلاق على سنته، ولا يطول فى العدة على امرأته، فلو أبيح له أن يطلقها إذا طهرت من تلك الحيضة كانت فى معنى المطلقة قبل البناء لا عدة عليها، ولابد لها أن تبنى على عدتها الأولى، فأراد الله على لسان نبيه أن يقطع حكم الطلاق الأول بالوطء؛ لئلا يراجعها على نية الفراق حتى يعتقد إمساكها ولو طهرًا واحدًا، فإذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 378 وطئها فى طهر لم يتهيأ له أن يطلقها فيه؛ لأنه قد نهى أن يطلقها فى طهر قد مسها فيه حتى تحيض بعده ثم تطهر، فإذا طلقها بعد ذلك استأنفت عدتها من ذلك الوقت ولم تبن. وقالوا: إن الطهر الثانى جعل للإصلاح الذى قال الله تعالى: (وبعولتهن أحق بردهن فى ذلك إن أرادوا إصلاحًا) [البقرة: 228] ؛ لأن حق المرتجع ألا يرتجع رجعة ضرار؛ لقوله تعالى: (ولا تمسكوهن ضرارًا لتعتدوا) [البقرة: 231] ، قالوا: فالطهر الأول فيه الإصلاح بالوطء ولا تعلم صحة المراجعة إلا بالوطء؛ لأنه المبتغى بالنكاح والمراجعة فى الأغلب، فكان ذلك الطهر مرادًا للوطء الذى تستيقن به المراجعة. فإذا مسها لم يكن له سبيل إلى طلاقها فى طهر قد مسها فيه للنهى عن ذلك، ولإجماعهم على أنه لو فعل ذلك كان مطلقًا لغير العدة، فقيل له: دعها حتى تحيض أخرى ثم تطهر، ثم تطلق إن شئت قبل أن تمس. وقد جاء هذا المعنى منصوصًا عن ابن عمر من حديث قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الرحيم، قال: حدثنا معن بن عبد الرحمن الواسطى، قال: حدثنا عبد الحميد ابن جعفر، قال: حدثنى نافع، عن ابن عمر، أنه طلق امرأته وهى فى دمها حائض، فأمره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يراجعها، فإذا طهرت مسها حتى إذا طهرت أخرى، فإن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها. قالوا: ولو أبيح له أن يطلقها بعد الطهر من تلك الحيضة كان قد أمر أن يراجعها ليطلقها، فأشبه النكاح إلى أجل أو نكاح المتعة، فلم يجعل له ذلك حتى يطأ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 379 وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: إنما أجبر ابن عمر على الرجعة؛ لأنه طلق فى الحيضة، والحيضة لا يعتد بها، ولم يبح له التطليق فى أول طهر؛ لأن فيه تستكمل الرجعة، ففرعها له لاستكمال الرجعة بالوطء إن شاء، ثم لم يبح له بعد الوطء الطلاق؛ لأنه شرط ألا يطلقها إلا فى طهر لم يمسها فيه لتكون الحيضة التى قبل الطلاق للمبالغة فى براءة الرحم. وقد قال به مالك فى الأمة، فاستحسن للبائع أن يستبرئها بحيضة قبل البيع، ثم لا يجتزئ بها عن حيضة المواضعة، ولابد من الإتيان بالحيضة بعد البيع كما لابد من الإتيان بثلاث حيض بعد الطلاق، فالواحدة منهن للفصل بين الثنتين، والثنتان للمبالغة فى براءة الرحم، ألا ترى أنها إن تزوجت قبل حيضة نكاحًا فاسدًا أن الولد للأول، وإن تزوجت بعد حيضة نكاحًا فاسدًا أن الولد للثانى فى رواية المصريين عن مالك، فجعلت أربع حيض واحدة قبل الطلاق للمبالغة وواحدة بعد الطلاق للفصل بين الثنتين والثالثة والرابعة للمبالغة فى براءة الرحم. واختلف العلماء فى معنى قوله، عليه السلام: (مره فليراجعها) ، فقال مالك: هذا الأمر محمول على الوجوب، ومن طلق زوجته حائضًا أو نفساء، فإنه يجبر على رجعتها، فسوى دم النفاس بدم الحيض. قال مالك وأكثر أصحابه: يجبر على الرجعة فى الحيضة التى طلق فيها، وفى الطهر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 380 بعدها، وفى الحيضة بعد الطهر، وفى الطهر بعدها ما لم تنقض عدتها، إلا أشهب، فإنه قال: يجبر على رجعتها فى الحيضة الأولى خاصة، فإذا طهرت منها، لم يجبر على رجعتها. قال ابن أبى ليلى، وهو قول الكوفيين، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور: يؤمر برجعتها ولا يجبر على ذلك، وحملوا الأمر فى ذلك على الندب ليقع الطلاق على سنة، ولم يختلفوا أنها إذا انقضت عدتها أنه لا يجبر على رجعتها، فدل على أن الأمر بمراجعتها ندب. وحجة من قال: يجبر على رجعتها قوله (صلى الله عليه وسلم) : (مره فليراجعها) ، وأمره فرض، وأجمعوا أنه إذا طلقها فى طهر قد مسها فيه أنه لا يجبر على رجعتها ولا يؤمر بذلك، وإن كان قد أوقع الطلاق على غير سنته. واختلفوا فى صفة طلاق السنة، فقال مالك: هو أن يطلق الرجل المرأة تطليقة واحدة فى طهر لم يمسها فيه، ثم يتركها حتى تنقضى العدة برؤية الدم من أول الحيضة الثالثة، وهو قول الليث، والأوزاعى. وقال أبو حنيفة وأصحابه: هذا حسن فى الطلاق، وله قول آخر، قال: إذا أراد أن يطلقها ثلاثًا طلقها عند كل طهر واحدة من غير جماع، وهو قول الثورى، وأشهب صاحب مالك. وقال: من طلق امرأته فى طهر لم يمسها فيه طلقة واحدة، ثم إذا حاضت وطهرت طلقها أخرى، ثم إذا حاضت وطهرت طلقها ثالثة فهو مطلق للسنة، وكلا القولين عند الكوفيين طلاق سنة، قالوا: لما كان الطلاق للسنة فى طهر لم تمس فيه، وكانت الزوجة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 381 الرجعية تلزمها ما أردفه من الطلاق فى عدتها بإجماع، كان له أن يوقع فى كل طهر لم تمس فيه طلقة؛ لأنها زوجة مطلقة فى طهر لم تمس فيه، وقد روى هذا القول عن ابن مسعود أنه طلاق للسنة. وليس هو عند مالك وسائر أصحابه مطلقًا للسنة، وكيف يكون مطلقًا للسنة والطلقة الثانية لا يكون بعدها إلا حيضتان، والطلقة الثالثة لا يكون بعدها إلا حيضة واحدة، وهذا خلاف السنة فى العدة، ومن طلق كما قال مالك، شهد له الجميع بأنه طلق للسنة. وقال النخعى: بلغنا عن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنهم كانوا يستحبون ألا يزيدوا فى الطلاق على واحدة حتى تنقضى العدة. وقال الشافعى، وأحمد، وأبو ثور: ليس فى عدد الطلاق سنة ولا بدعة، وإنما السنة فى وقت الطلاق، فمن طلق امرأته واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا فى طهر لم يمسها فيه، فهو مطلق للسنة، وحجتهم قوله تعالى: (فطلقوهن لعدتهن) [الطلاق: 1] ، ولم يخص واحدة من اثنتين ولا ثلاثة، وكذلك أمر ابن عمر بالطلاق فى القرء الثانى، ولم يخص واحدة من غيرها. ومن جهة النظر أن من جاز له أن يوقع واحدة جاز له أن يوقع ثلاثًا، وإنما السنة وردت فى الموضع الذى يخشى فيه الحمل أو تطول فيه العدة، فإذا كان طهر لم يمسها فيه أمن فيه الحمل وجاز أن يوقع ما شاء من الطلاق فى ذلك الموضع. فيقال لهم: قوله تعالى: (فطلقوهن لعدتهن) [الطلاق: 1] ، المراد منه أن لا يطلق فى الحيض، وكذلك حديث ابن عمر، وليس فى الآية والحديث ما يتضمن العدد، وكيف يوقع العدد؟ مأخوذ من دليل آخر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 382 ويقال للشافعى: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم ينكر على ابن عمر الطلاق، وإنما أنكر عليه موضع الطلاق، فعلمه كيف يوقعه ولا يكون الشافعى أعلم بهذا من عمر وابن عمر، وقد قالا جميعًا: من طلق ثلاثًا فقد عصى ربه. ولو كان من السنة طلاق الثلاث فى كلمة كما قال الشافعى لبطلت فائدة قوله تعالى: (لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا) [الطلاق: 1] ، أجمع أهل التفسير أنه يعنى به الرجعة فى العدة، قالوا: وأى أمر يحدث بعد الثلاث، فدل أن الارتجاع لا يسوغ إلا فى المطلقة بدون الثلاث. قال ابن القصار: وقد روى عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وأبى موسى وغيرهم، إظهار النكير على من أوقع ثلاثًا فى مرة واحدة، وكان عمر يوجع من طلق امرأته ثلاثًا فى كلمة واحدة ضربًا، ويفرق بينهما. وفى حديث ابن عمر حجة لأهل المدينة والشافعى لقولهم: إن الأقراء الأطهار لقوله عليه السلام: (ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التى أمر الله أن تطلق لها النساء) ، فأخبر أن الطلاق فى العدة لا يكون إلا فى طهر يعتد به وموضع يحتسب به من عدتها، ويستقبلها من حينئذ، وكان هذا منه، عليه السلام، بيانًا لقوله تعالى: (فطلقوهن لعدتهن) [الطلاق: 1] ، وقد قرئت: لقبل عدتهن، أى لاستقبال عدتهن. ونهى عن الطلاق فى الحيض؛ لأنها لا تستقبل العدة فى تلك الحيضة عند الجميع؛ لأن من قال: الأقراء الحيض، لا يجتزئ بتلك الحيضة من الثلاث حيض عنده حتى تستقبل حيضة بعد طهر، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 383 وكذلك لو طلق عندهم فى طهر لم يعتد إلا بالحيضة المقبلة بعد الطهر الذى طلقت فيه، فجعلوا عليها ثلاثة قروء وشيئًا آخر، وذلك خلاف الكتاب والسنة، ويلزمهم أن يقولوا: إنها قبل الحيضة فى غير عدة، وهذا خلاف قوله تعالى: (فطلقوهن لعدتهن) [الطلاق: 1] ، ولقوله عليه السلام: (فتلك العدة التى أمر الله أن تطلق لها النساء) ، وسيأتى اختلاف العلماء فى هذه المسألة فى كتاب العدة وبيان أقوالهم إن شاء الله تعالى. - باب إِذَا طُلِّقَتِ الْحَائِضُ، هَل يَعْتَدُّ بِذَلِكَ الطَّلاقِ / 2 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِىَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذلك عُمَرُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (لِيُرَاجِعْهَا) ، قُلْتُ: تُحْتَسَبُ، قَالَ: (فَمَهْ) ؟ . وقَالَ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: قُلْتُ: تُحْتَسَبُ؟ قَالَ: (أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ، وَاسْتَحْمَقَ) . وَقَالَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: حُسِبَتْ عَلَىَّ بِتَطْلِيقَةٍ. الطلاق يقع فى الحيض عند جماعة العلماء، وإن كان عندهم مكروهًا غير سنة، ولا يخالف الجماعة فى ذلك إلا طائفة من أهل البدع لا يعتد بخلافها، فقالوا: لا يقع الطلاق فى الحيض ولا فى طهر قد جامع فيه، وهذا قول أهل الظاهر، وهو شذوذ لم يعرج عليه العلماء؛ لأن ابن عمر الذى عرضت له القصة احتسب بتلك التطليقة، وأفتى بذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 384 وفى أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ابن عمر بمراجعتها دليل بيِّن على أن الطلاق فى الحيض لازم واقع؛ لأن المراجعة لا تكون إلا بعد صحة الطلاق ولزومه؛ لأنه من لم يطلق لا يقال له: راجع؛ لأنه محال أن يقال لرجل زوجته فى عصمته لم يفارقها: راجعها، بل كان يقال له: طلاقك لم يعمل شيئًا، ألا ترى قول الله تعالى: (وبعولتهن أحق بردهن فى ذلك) [البقرة: 228] ، يعنى فى العدة، وهذا لا يستقيم أن يقال مثله فى الزوجات غير المطلقات. قال المهلب: وقوله: (أرأيت إن عجز واستحمق) ، يعنى أرأيت إن عجز فى المراجعة التى أمر بها عن إيقاع الطلاق واستحمق، أى فقد عقله، فلم تمكن منه الرجعة، أتبقى معلقة لا ذات زوج ولا مطلقة؟ وقد نهى الله عن ترك المرأة بهذه الحال، فلابد أن يحتسب بتلك التطليقة التى أوقعها على غير وجهها، كما أنه لو عجز عن فرض آخر لله تعالى، فلم يقمه واستحمق فلم يأت به، أكان يعذر بذلك وسقط عنه؟ وهذا إنكار على من شك أنه لم يعتد بتلك التطليقة، وقد روى قتادة، عن يونس بن جبير: قلت لابن عمر: أجعل ذلك طلاقًا؟ قال: إن كان ابن عمر عجز واستحمق، فما يمنعه أن يكون طلاقًا. وقوله: (فمه) ، استفهام كأنه قال: فما يكون إن لم يحتسب بتلك التطليقة، والعرب تبدل الهاء بالألف؛ لقرب مخرجها كقولهم: ومهما يكن عند امرئ من خليقة والأصل ما يكون عند امرئ، فأبدل الهاء من الألف، وقد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 385 أبدلت الهاء من أخت الألف وهى الياء فى قولهم: هذه، وإنما أرادوا هذى، كما أبدلت الياء من الهاء فى قولهم: دهديت الحجر، والأصل: دهدهت، وقالوا: دهدوهة الجمل ودهدوة، وإنما اجتمعت الياء والألف والواو والهاء فى بدل بعضها من بعض لتشابههما، ولأجل تشابههما اجتمعن فى أن يكن ضمائر، وفى أن يكن وصلاً فى القوافى، وقد أبدلت الهاء من الهمزة فى قولهم: أرقت وهرقت، وإياك وهياك، وكأرجت وهرجت. 3 - بَاب هَلْ يُوَاجِهُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالطَّلاقِ / 3 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَدَنَا مِنْهَا، قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ لَهَا: (لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ الْحَقِى بِأَهْلِكِ) . / 4 - وفيه: أَبُو أُسَيْد، قَالَ: لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (هَبِى نَفْسَكِ لِى) ، قَالَتْ: وَهَلْ تَهَبُ الْمَلِكَةُ نَفْسَهَا لِلسُّوقَةِ؟ قَالَ: فَأَهْوَى بِيَدِهِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهَا لِتَسْكُنَ، فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ: (قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ) ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: (يَا أَبَا أُسَيْدٍ، اكْسُهَا رَازِقِيَّتَيْنِ، وَأَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا) . / 5 - قال: يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، لابْنِ عُمَرَ: رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِىَ حَائِضٌ؟ فَقَالَ: أتَعْرِفُ ابْنَ عُمَرَ؟ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِىَ حَائِضٌ. . . . الحديث. مواجهة الرجل أهله بالطلاق جائز له لحديث عائشة، وفى حديث أبى أسيد أنه، عليه السلام، أمره أن يكسوها ويلحقها بأهلها، وليس فيه مواجهته لها، عليه السلام، بالطلاق، وكلا الأمرين سواء غير أن ترك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 386 مواجهة المرأة بالطلاق أرفق وألطف وأيسر فى مراعاة ما جعل الله تعالى بين الزوجين من المودة والرحمة. قال الزجاج: خلق الله حواء من ضلع آدم، وجعل بين الرجل والمرأة المودة والرحمة. قال المهلب: وأما أمره، عليه السلام، أن تكسى فهى المتعة التى أمر الله بها للمطلقة غير المدخول بها، وسيأتى مذاهب العلماء فيها بعد هذا. وقوله للرجل: أتعرف ابن عمر؟ ، وهو يخاطبه، إنما هو تقرير على أصل السنة وعلى ناقلها؛ لأنه لازم للعامة الابتداء بمشاهير أهل العلم، فقرره على ما يلزمه من ذلك لا أنه ظن أنه يجهله، وقد قال مثل هذا لرجل سأله عن أم الولد، فقال: أتعرف أبا حفص أو عمر، يريد أباه، ولا خفاء به، ثم أخبره بقضيته فى أم الولد إلزامًا له حكمه فيها بإمامته فى الإسلام، لا على أن السائل كان يجهل عمر. قال ابن المنذر: واختلفوا فى قوله: الحقى بأهلك، وحبلك على غاربك، ولا سبيل لى عليك، وما أشبه ذلك من كنايات الطلاق، فقالت طائفة: ينوى فى ذلك، فإن أراد طلاقًا كان طلاقًا، وإن لم يرده لم يلزمه شىء، هذا قول الثورى، وأبى حنيفة، قالا: إلا إن نوى واحدة أو ثلاثًا، فهو ما نوى، وإن نوى ثنتين فهى واحدة؛ لأنها كلمة واحدة ولا تقع على اثنتين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 387 وقال مالك فى قوله: الحقى بأهلك، إن أراد به الطلاق فهو ما نوى واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا، وإن لم يرد طلاقًا فليس بشىء. وقال الحسن والشعبى: إذا قال لها: الحقى بأهلك، ولا سبيل لى عليك، والطريق لك واسع، إن كان نوى به طلاقًا فهى واحدة وهو أحق بها، وإن لم ينو طلاقًا فليس بشىء. وروى عن عمر، وعلى فى قوله: حبلك على غاربك، أنهما حلفاه عند الركن على ما أراد وأمضياه، وهو قول أبى حنيفة، وكذلك كل كلام يشبه الفرقة مما أراد به الطلاق، فهو مثل ذلك كقولهم: حبلك على غاربك، وقد خليت سبيلك، ولا ملك لى عليك، واخرجى، واستترى، وتقنعى، واعتدى. وقال مالك: لا ينوى أحد فى: حبلك على غاربك؛ لأنه لا يقوله أحد، وقد بقى من الطلاق شيئًا، ولا يلتفت إلى نيته إن قال: لم أرد طلاقًا. وقال الطحاوى: هذا الحديث أصل فى الكنايات عن الطلاق؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لابنة الجون حين طلقها: الحقى بأهلك، وقد قال كعب بن مالك لامرأته: الحقى بأهلك، حين أمره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) باعتزالها، فلم يكن ذلك طلاقًا، فدل خبر كعب بن مالك على أن هذه اللفظة مفتقرة إلى نية، وأن من قال لامرأته: الحقى بأهلك، فإنه لا يقضى فيه إلا بما ينوى اللافظ بها، وإن لم ينو طلاقًا فليس بطلاق، وهذا قول مالك، والكوفيين، والشافعى. قال غيره: فكذلك سائر الكنايات المحتملات للفراق وغيره. وقال ابن حبيب: قال ابن القاسم، وابن الماجشون، ومطرف: الكنايات المحتملات للطلاق وغيره أن يقول لامرأته: اجمعى عليك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 388 ثيابك، ولا حاجة لى بك، ولا نكاح بينى وبينك، ولا سبيل لى عليك، ولست منى بسبيل، أو اذهبى لا ملك لى عليك، أو لا تحلين لى، أو احتالى لنفسك، أو أنت سائبة، أو منى عتيقة، أو ليس بينى وبينك حلال ولا حرام، أو لم أتزوجك، أو استترى عنى، أو تقنعى، أو لست لى بامرأة، أو لا تكونى لى بامرأة حتى تكون أمه امرأته، أو يا طالقة، أو اعتزلى، أو تأخرى عنى، أو اخرجى، وشبه ذلك، فكله سواء بنى بها أو لم يبن لا شىء عليه إلا أن ينوى طلاقًا، فله ما نوى بعد أن يحلف على ذلك. قال غيره: والأصل أن العصمة متيقنة، فلا تزول إلا بنية وقصد؛ لقوله عليه السلام: (الأعمال بالنيات) . وأما الألفاظ التى ليست من ألفاظ الطلاق، ولا يكنى بها عنه، فأكثر العلماء لا يوقعون بها طلاقًا، وإن قصده القائل. وقال مالك: كل من أراد الطلاق بأى لفظ كان لزمه الطلاق حتى بقوله: كلى، واشربى، وقومى، واقعدى، ونحوه، والحجة له أن الله تعالى جعل الرمز وهو الإشارة كالكلام فى الكناية به عن المراد بقوله: (أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا) [آل عمران: 41] ، وكما كان ما فعله المتلاعنان من تلاعنهما وتفرقهما طلاقًا، وإن لم يلفظ به، وكذلك روى فى المختلعة لما ردت عليه الحديقة فأخذها كان طلاقًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 389 4 - باب مَنْ أَجَازَ طَلاقَ الثَّلاثِ، لِقَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) [البقرة: 229] وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فِى مَرِيضٍ طَلَّقَ: لا أَرَى أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَة. وَقَالَ الشَّعْبِىُّ: تَرِثُهُ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: تَزَوَّجُ إِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ الآخَرُ، فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ. / 6 - فيه: أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلانِىَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ ابْنِ عَدِىٍّ الأنْصَارِىِّ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِمُ، أَرَأَيْتَ رَجُلا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ . . . . . الحديث. فَتَلاعَنَا فَلَمَّا فَرَغَا، قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ تِلْكَ سُنَّةَ الْمُتَلاعِنَيْنِ. / 7 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ الْقُرَظِىِّ جَاءَتْ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِى فَبَتَّ طَلاقِى، وَإِنِّى نَكَحْتُ بَعْدَهُ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ الْقُرَظِىَّ، وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ. فقَالَ لها النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِى إِلَى رِفَاعَةَ، لا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِى عُسَيْلَتَهُ) . / 8 - قالت: عَائِشَةَ مرةً: إِنَّ رَجُلا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثًا، فَتَزَوَّجَتْ، فَطَلَّقَ، فَسُئِلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَتَحِلُّ لِلأوَّلِ؟ قَالَ: (لا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كَمَا ذَاقَ الأوَّلُ) . اتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع طلاق الثلاث فى كلمة واحدة، فإن ذلك عندهم مخالف للسنة، وهو قول جمهور السلف، والخلاف فى ذلك شذوذ، وإنما تعلق به أهل البدع، ومن لا يلتفت إليه لشذوذه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 390 عن الجماعة التى لا يجوز عليها التواطؤ على تحريف الكتاب والسنة، وإنما يروى الخلاف فى ذلك عن السلف الحجاج بن أرطاة، ومحمد بن إسحاق. قال أبو يوسف القاضى: كان الحجاج بن أرطاة يقول: ليس طلاق الثلاث بشىء، وكان ابن إسحاق يقول: ترد الثلاث إلى واحدة. واحتجوا فى ذلك بما رواه ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طلق ركانة بن يزيد امرأته ثلاثًا فى مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا، فسأله النبى، عليه السلام: (كيف طلقتها؟) ، قال: ثلاثًا فى مجلس واحد، قال: (إنما تلك واحدة، فارتجعها إن شئت) ، فارتجعها. وروى ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، أن أبا الصهباء قال لابن عباس: ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وأبى بكر، وصدرًا من خلافة عمر ترد إلى الواحدة؟ قال: نعم. قال الطحاوى: هذان حديثان منكران قد خالفهما ما هو أولى منهما، روى سعيد ابن جبير، ومجاهد، ومالك بن الحارث، ومحمد بن إياس بن البكير، والنعمان بن أبى عياش، كلهم عن ابن عباس فيمن طلق امرأته ثلاثًا أنه قد عصى ربه، وبانت منه امرأته ولا ينكحها إلا بعد زوج، روى هذا عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وابن عمر، وأبى هريرة، وعمران بن حصين، ذكر ذلك الطحاوى بالأسانيد عنهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 391 وروى ابن أبى شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عمرو بن مرة، عن سعيد ابن جبير، قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: إنى طلقت امرأتى ألفًا، أو قال: مائة، قال: بانت منك بثلاث، وسائرها اتخذت بها آيات الله هزوًا. وما رواه الأئمة عن ابن عباس مما يوافق الجماعة يدل على وهن رواية طاوس عنه، وما كان ابن عباس ليخالف الصحابة إلى رأى نفسه، وقد روى معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: كان ابن عباس إذا سُئل عن رجل طلق امرأته ثلاثًا، قال: لو اتقيت الله جعل لك مخرجًا. هذه الرواية لطاوس، عن ابن عباس تعارض رواية ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه؛ لأن من لا مخرج له قد لزمه من الطلاق ما أوقعه، فسقطت رواية ابن جريج، وأيضًا فإن أبا الصهباء الذى سأل ابن عباس عن ذلك لا يعرف فى موالى ابن عباس، وليس تعارض رواية ابن جريج، عن ابن عباس رواية من ذكرنا عن ابن عباس، فصار هذا إجماعًا، وحديث ابن إسحاق منكر خطأ. وأما طلاق ركانة زوجته البتة ثلاثًا، كذلك رواه الثقات من أهل بيت ركانة، روى أبو داود، قال: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، وأبو ثور، قالا: حدثنا الشافعى، قال: حدثنى عمى محمد بن على بن شافع، عن عبد الله بن على بن السائب، عن نافع بن عجير، عن عبد الله بن يزيد بن ركانة، أن ركانة طلق امرأته شهيمة البتة، فأخبر النبى (صلى الله عليه وسلم) بذلك، فقال: (ما أردت؟) ، فقال: والله ما أردت إلا واحدة، فردها النبى، عليه السلام، فطلقها الثانية فى زمن عمر، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 392 والثالثة فى زمن عثمان. قال أبو داود: وهذا أصح ما روى فى حديث ركانة. وحجة الفقهاء فى جواز طلاق الثلاث فى كلمة قوله فى اللعان: فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بذلك، وقبل أن يخبره أنها تطلق عليه باللعان، ولو كان ذلك محظورًا عليه لنهاه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك، وأعلمه أن إيقاع الثلاث محرم ومعصية، فصح أن إيقاع الثلاث مباح، ولولا ذلك لم يقره النبى، عليه السلام. وأما وجه التعلق بحديث رفاعة فى هذا الباب، فقولها: إن رفاعة طلقنى فبت طلاقى، فحمله البخارى على أن ذلك كان فى كلمة واحدة، وقد جاء فى الحديث أنها قالت: يا رسول الله، إن رفاعة طلقنى آخر ثلاث، ذكره فى كتاب الأدب فى باب التبسم والضحك، فبان أن الثلاث كانت مفترقات، ولم تكن فى كلمة، فلا حجة بهذا الحديث فى هذا الباب، وكذلك ما ذكره عن ابن الزبير فى مريض طلق: لا أرى أن ترث مبتوتة، فحمله على ظاهر الكلام، وتأول أن البتة كانت فى كلمة واحدة، ويحتمل أن تكون كانت فى كلمة واحدة أو أكثر منها. واختلف العلماء فى قول الرجل: أنت طالق البتة، فذكر ابن المنذر، عن عمر بن الخطاب أنها واحدة، وعن سعيد بن جبير مثله. وقال عطاء، والنخعى: يدين، فإن أراد واحدة فهى واحدة، وإن أراد ثلاثًا فثلاث، وهو قول أبى حنيفة، والشافعى. وقالت طائفة فى البتة: هى ثلاث، روى ذلك عن على بن أبى طالب، وابن عمر، وعن سعيد ابن المسيب، وعروة، والزهرى، وابن أبى ليلى، ومالك، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 393 والأوزاعى، وأبى عبيدة، واحتج الشافعى بحديث ركانة، واحتج مالك بحديث ابن عمر: أبت الطلاق طلاق البتة. قال ابن المنذر: وقد دفع بعض العلماء حديث ركانة، وقال عبد الله بن على بن يزيد ابن ركانة، عن أبيه، عن جده، لا يعرف سماع بعضهم من بعض. واختلفوا فى طلاق المريض يموت فى مرضه، فقالت طائفة: ترثه ما دامت فى العدة، روى عن عثمان بن عفان أنه ورث امرأة عبد الرحمن بن عوف منه، وكانت فى العدة، وبه قال النخعى، والشعبى، وابن شبرمة، وابن سيرين، وعروة، وهو قول الثورى، والكوفيين، والأوزاعى، وأحد قولى الشافعى. وقالت فرقة: ترثه بعد العدة ما لم تزوج، روى عن عطاء، والحسن، وابن أبى ليلى، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبى عبيد. وقالت فرقة: ترثه وإن تزوجت، هذا قول ربيعة، ومالك، والليث، وهو الصحيح عن عثمان، رواه مالك فى الموطأ عن ابن شهاب. وقالت فرقة: لا ترث مبتوتة بحال، وإن مات فى العدة، كقول ابن الزبير، وهو أحد قولى الشافعى، وبه قال أبو ثور وأهل الظاهر، واحتجوا لقول ابن الزبير بالإجماع على أن الزوج لا يرثها وإن ماتت فى العدة ولا بعد انقضاء العدة إذا طلقها ثلاثًا، وهو صحيح أو مريض، فكذلك الزوجة لا ترثه. ومن قال: لا ترثه إلا فى العدة، استحال عنده أن ترث المبتوتة فى حال لا ترث فيه الرجعية؛ لأنه لا خلاف بين المسلمين أن من طلق امرأته صحيحًا طلقة يملك فيها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 394 رجعتها، ثم انقضت عدتها قبل موته أنها لا ترثه؛ لأنها أجنبية ليست منه ولا هو منها، فلا تكون المبتوتة المختلف فى ميراثها فى العدة أقوى من الرجعية المجتمع على توريثها فى العدة. وأما الذين قالوا: ترثه بعد العدة ما لم تنكح، فإنهم اعتبروا إجماع المسلمين أنه لا ترث امرأة زوجين فى حال واحد، وقولهم غير صحيح؛ لأنه لا يخلو أن تكون له زوجة بعد انقضاء العدة أو لا تكون له زوجة، فإن كانت له زوجة، فلا يحل لها النكاح للإجماع أن امرأة تكون فى عصمة زوج لا يحل لها نكاح غيره، وإن كانت غير زوجة فمحال أن ترثه وهى زوجة لغيره، ومثل هذه العلة تلزم من قال: ترثه بعد العدة وإن تزوجت. وأهل هذه المقالة اتهمت المريض بالفرار من ميراث الزوجة والمريض محجور عليه الحكم فى ثلثى ماله بأن ينقص ورثته بأن يدخل عليهم وارثًا، فكذلك هو ممنوع من أن يخرج عنهم وارثًا، كما منع النبى، عليه السلام، الذى قتل وليه ميراثه بسبب ما أحدث من القتل، فكذلك لا ينبغى أن يكون المريض مانعًا زوجته الميراث بسبب ما أحدثه من الطلاق؛ لأن الميراث حق قد ثبت لها بمرضه. 5 - باب مَنْ خَيَّرَ نِسَاءَهُ، وقوله تَعَالَى: (يا أيها النبِى قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) [الأحزاب 28] الآية / 9 - فيه: عَائِشَةَ، خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَاخْتَرْنَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَلَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا شَيْئًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 395 وَقَالَ مَسْرُوقٌ: لا أُبَالِى خَيَّرْتُهَا وَاحِدَةً أَوْ مِائَةً بَعْدَ أَنْ تَخْتَارَنِى. قال المؤلف: روى مثل قول مسروق عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وعائشة، ومن التابعين عطاء، وسليمان بن يسار، وربيعة، وابن شهاب، كلهم قال: إذا اختارت زوجها فليس بشىء، وهو قول أئمة الفتوى. وروى عن على بن أبى طالب، وزيد بن ثابت: إن اختارت زوجها فواحدة، وهو قول الحسن البصرى، والقول الأول هو الصحيح لحديث عائشة. قال المهلب: والتخيير هو أن يجعل الطلاق إلى المرأة، فإن لم تطلق ما جعل إليها من ذلك، فليس بشىء، وكما أنه إذا جعل طلاق امرأته بيد رجل، فلم يستعمل ما جعل بيده فليس بشىء. وقال ابن المنذر: وحديث عائشة دلالة على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لم يكن ذلك طلاقًا، ويدل على أن اختيارها نفسها يوجب الطلاق؛ لأن فى قولها: فاخترناه، فلم يكن طلاقًا دلالة على أنهن لو اخترن أنفسهن كان ذلك طلاقًا، ويدل على معنى ثالث وهو أن المخيرة إذا اختارت نفسها، فهى تطليقة يملك زوجها رجعتها، إذ غير جائز أن يطلق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بخلاف أمر الله. واختلف العلماء إذا خيرها فاختارت نفسها، فروى عن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، أنها واحدة رجعية، وبه قال ابن أبى ليلى، والثورى، والشافعى، وفيها قول ثان: إن اختارت نفسها فواحدة بائنة، روى هذا عن على بن أبى طالب، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، وقالت طائفة: إن اختارت نفسها فقد طلقت ثلاثًا، روى ذلك عن زيد بن ثابت، وعن الحسن البصرى، وهو قول مالك، والليث، والفرق بين التخيير والتمليك عند مالك أن قول الرجل: قد ملكتك، أى قد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 396 ملكتك ما جعل الله لى من الطلاق واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا، فلما جاز أن يملكها بعض ذلك دون بعض وادعى ذلك، كان القول قوله مع يمينه، وقال فى الخيار: إذا اختارت نفسها المدخول بها فهو الطلاق كله، وإن أنكر زوجها فلا يكره له، وإن اختارت واحدة فليس بشىء، وإنما الخيار البتات إما أخذته وإما تركته؛ لأن معنى التخيير التسريح، قال الله تعالى فى آية التسريح: (فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحًا جميلاً) [الأحزاب: 28] ، فمعنى التسريح البتات؛ لأن الله تعالى قال: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) [البقرة: 229] ، والتسريح بإحسان هى الطلقة الثالثة. قال ابن المنذر: وقالت جماعة: أمرك بيدك، واختارى، سواء. قال الشعبى: هو فى قول عمر، وعلى، وزيد بن ثابت سواء، وهو قول النخعى، وحماد، والكوفى، والزهرى، وسفيان الثورى، والشافعى، وأبى عبيد. 6 - باب إِذَا قَالَ: فَارَقْتُكِ، أَوْ سَرَّحْتُكِ، أَوِ الْبَرِيَّةُ، أَوِ الْخَلِيَّةُ، أَوْ مَا عُنِىَ بِهِ الطَّلاقُ فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا) [الأحزاب: 49] ، وَقَالَ: (وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا) [الأحزاب: 28] ، وَقَالَ: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) [البقرة: 229] ، وَقَالَ: (أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) [الطلاق: 2] . وَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَدْ عَلِمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّ أَبَوَىَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِى بِفِرَاقِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 397 اختلف قول مالك فيمن قال لامرأته: قد فارقتك، أو سرحتك، أو خليت سبيلك، فروى عيسى، عن ابن القاسم، أنها كلها ثلاث فى التى بنى بها إلا أن ينوى أقل، فله نيته ويحلف، وفى التى لم يبن بها حتى ينوى أقل. قال ابن المواز: وأصح قوليه فى ذلك أنها فى التى لم يبن بها واحدة إلا أن يريد أكثر، وقاله ابن القاسم، وابن عبد الحكم. وقال أبو يوسف فى قوله: فارقتك، أو خلعتك، أو خليت سبيلك، أو لا ملك لى عليك: أنها ثلاثًا ثلاثًا. واختلفوا فى الخلية والبرية والبائن، فروى عن على بن أبى طالب أنها ثلاث، وبه قال الحسن البصرى، وروى عن ابن عمر فى الخلية والبرية والبتة: هى ثلاث، وعن زيد ابن ثابت فى البرية: ثلاث. وفيها قول ثان: أن الخلية والبرية والبائن ثلاث فى المدخول بها، هذا قول ابن أبى ليلى. وقال مالك: هى ثلاث فى المدخول بها ويدين فى التى لم يدخل بها تطليقة واحدة أراد أم ثلاثًا، فإن قال: واحدة، كان خاطبًا من الخطاب، وقاله ربيعة. وقال الثورى وأبو حنيفة: نيته فى ذلك، فإن نوى ثلاثًا فهى ثلاث، وإن نوى واحدة فهى واحدة بائنة، وهى أحق بنفسها، وإن نوى ثنتين فهى واحدة. وقال الشافعى: هو فى ذلك كله غير مطلق حتى يقول: أردت بمخرج الكلام منى طلاقًا، فيكون ما نوى، فإن نوى دون الثلاث كان رجعيًا، ولو طلقها واحدة بائنة كانت رجعية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 398 وقال إسحاق: هو إلى نيته يدين. وقال أبو ثور: هى تطليقة رجعية، ولا يسئل عن نيته فى ذلك. ويمكن أن يكون البخارى أشار إلى قول الكوفيين والشافعى وإسحاق فى قوله: أو ما عنى به الطلاق فهو على نيته. والحجة لذلك أن كل كلمة تحتمل أن تكون طلاقًا وغير طلاق، فلا يجوز أن يلزم بها الطلاق إلا أن يقر المتكلم أنه أراد بها الطلاق، فيلزمه ذلك بإقراره، ولا يجوز إبطال النكاح؛ لأنهم قد أجمعوا على صحته بيقين. وقوله: بريت منى، أو بريت منك، وهو من البرية، وكان بعض أصحاب مالك يرى المباراة من البرية ويجعلها ثلاثًا، وتحصيل مذهب مالك أن المباراة من باب الصلح والفدية والخلع، وذلك كله واحدة عندهم بائنة، والحجة لمالك فى قوله: قد فارقتك، وسرحتك، وخلية، وبرية، وبائن، أنها ثلاث فى المدخول بها أن هذه الألفاظ مشهورة فى لغة العرب مستعملة فى عرفهم للإبانة وقطع العصمة كالطلاق الثلاث، بل هذه الألفاظ أشهر عندهم وأكثر استعمالاً من قولهم: أنت طالق، ولم يرد الشرع بخلافها، وإنما ورد أن يفرق عدد الطلاق، فإن ترك ذلك وأوقع الأصل وقع. وأما قوله لعائشة: إنى ذاكر لك أمرًا، فلا تعجلى حتى تستأمرى أبويك، ففيه حجة لمن قال: إنه إذا خير الرجل امرأته أو ملكها، أن لها أن تقضى فى ذلك وإن افترقا من مجلسهما، روى هذا عن الحسن، والزهرى، وقاله مالك، وروى عن مالك أيضًا أن لها أن تقضى ما لم يوقفها السلطان، وكان قول مالك الأول أن اختيارها على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 399 المجلس، وهو اختيار ابن القاسم، وهو قول الكوفيين، والثورى، والأوزاعى، والليث، والشافعى، وأبى ثور. قال أبو عبيد: والذى عندنا فى هذا اتباع السنة فى عائشة فى هذا الحديث حين جعل لها التأخير إلى أن تستأمر أبويها، ولم يجعل قيامها من مجلسها خروجًا من الأمر. وقال المروزى: وهذا أصح الأقاويل عندى، وقاله ابن المنذر والطحاوى، وبهذا نقول؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد جعل لها الخيار فى المجلس وبعده حتى تشاور أبويها، ولم يقل: فلا تستعجلى حتى تستأمرى أبويك فى مجلسك. 7 - باب مَنْ قَالَ لامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَىَّ حَرَامٌ قَالَ الْحَسَنُ: بنِيَّتُهُ، وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِذَا طَلَّقَ ثَلاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ فَسَمَّوْهُ حَرَامًا بِالطَّلاقِ وَالْفِرَاقِ وَلَيْسَ هَذَا كَالَّذِى يُحَرِّمُ الطَّعَامَ؛ لأنَّهُ لا يُقَالُ لِلطَعَامِ الْحِلِّ: حَرَامٌ، وَيُقَالُ لِلْمُطَلَّقَةِ: حَرَامٌ، وَقَالَ فِى الطَّلاقِ ثَلاثًا: لا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِى نَافِعٌ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ ثَلاثًا، قَالَ: لَوْ طَلَّقْتَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَمَرَنِى بِهَذَا، فَإِنْ طَلَّقْتَهَا ثَلاثًا حَرُمَتْ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. / 10 - فيه: عَائِشَةَ، طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَطَلَّقَهَا وَكَانَتْ مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ، فَلَمْ تَصِلْ مِنْهُ إِلَى شَىْءٍ تُرِيدُهُ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ طَلَّقَهَا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 400 فَأَتَتِ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ زَوْجِى طَلَّقَنِى، وَإِنِّى تَزَوَّجْتُ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَدَخَلَ بِى، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلا مِثْلُ الْهُدْبَةِ، فَلَمْ يَقْرَبْنِى إِلا هَنَةً وَاحِدَةً لَمْ يَصِلْ مِنِّى إِلَى شَىْءٍ، فَأَحِلُّ لِزَوْجِى الأوَّلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَحِلِّينَ لِزَوْجِكِ الأوَّلِ، حَتَّى يَذُوقَ الآخَرُ عُسَيْلَتَكِ، وَتَذُوقِى عُسَيْلَتَهُ) . اختلف العلماء فيمن قال لامرأته: أنت علىّ حرام، على ثمانية أقوال سوى اختلاف قول مالك، فقالت طائفة: هى ثلاث، ولا يسئل عن نيته، روى هذا عن على بن أبى طالب، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وبه قال الحسن البصرى فى روايته، والحكم بن عتيبة، وابن أبى ليلى، ومالك، وروى عن مالك وأكثر أصحابه فيمن قال لامرأته قبل أن يدخل بها: أنت علىّ حرام، أنها ثلاث إلا أن يقول: نويت واحدة. وقال عبد العزيز بن أبى سلمة: هى واحدة، إلا أن يقول: أردت ثلاثًا. وقال عبد الملك: لا ينوى فيها، وهى ثلاث على كل حال كالمدخول بها. وقول آخر قاله سفيان: إن نوى ثلاثًا فهى ثلاث، وإن نوى واحدة فهى واحدة بائنة، وإن نوى يمينًا فهى يمين يكفرها، وإن لم ينو فرقة ولا يمينًا فهى كذبة. وقول آخر نحو قول الثورى قاله أبو حنيفة وأصحابه، غير أنهم قالوا: إن نوى اثنتين فهى واحدة، وإن لم ينو طلاقًا فهى يمين وهو مؤل. وقول آخر روى عن ابن مسعود: إن نوى طلاقًا فهى تطليقة، وهو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 401 أملك بها، وإن لم ينو طلاقًا فهى يمين يكفرها، وعن ابن عمر مثله، وبه قال النخعى وطاوس. وقال الشافعى: ليس قوله: أنت علىّ حرام، بطلاق حتى ينويه، فإن أراد الطلاق فهو على ما أراد من الطلاق، وإن قال: أردت تحريمًا بلا طلاق، كان عليه كفارة يمين. قال الشافعى: وليس بمؤل. وقول آخر عن ابن عباس: من قال لامرأته: أنت حرام، لزمته كفارة الظهار، وهو قول أبى قلابة، وسعيد بن جبير، وبه قال أحمد بن حنبل، واحتج ابن عباس بقوله تعالى: (يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك) [التحريم: 1] ، ثم قال: عليه أغلظ الكفارات عتق رقبة. وقول آخر: أن الحرام يمين تكفر، روى ذلك عن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وابن مسعود، وعائشة، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، وجماعة، وبه قال الأوزاعى، وأبو ثور، واحتج أبو ثور بأن الحرام ليس من ألفاظ الطلاق بقوله: (يا أيها النبى لما تحرم ما أحل الله لك) [التحريم: 1] ، ولم يوجب به طلاقًا، وكان حرم على نفسه مارية، ثم قال: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) [التحريم: 2] . والقول الثامن: أن تحريم المرأة كتحريم الماء ليس بشىء، ولا فيه كفارة ولا طلاق؛ لقوله تعالى: (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) [المائدة: 87] ، روى ذلك عن الشعبى، ومسروق، وأبى سلمة. قال مسروق: ما أبالى حرمت امرأتى أو جفنة من ثريد. وقال الشعبى: أنت علىّ حرام أهون من نعلى. وقال أبو سلمة: ما أبالى حرمتها أو حرمت الفرات، وهذا القول شذوذ، وعليه بوب البخارى هذا الباب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 402 وذهب إلى أن من حرم زوجته أنها ثلاث، والحجة لذلك إجماع العلماء أن من طلق امرأته ثلاثًا أنها تحرم عليه، فلما كانت الثلاث تحريمًا كان التحريم ثلاثًا، وإلى هذه الحجة أشار البخارى فى حديث رفاعة؛ لأنه طلق امرأته وبت طلاقها، فلم تحل له إلا بعد زوج، فحرمت عليه مراجعتها بالثلاث تطليقات، فكذلك من حرم على نفسه امرأته كان كمن طلقها ثلاثًا، ومن قال: تلزمه كفارة الظهار، فليس بالبين؛ لأن الله إنما جعل كفارة الظهار للمظاهر خاصة. وقال الطحاوى: من قال: تلزمه كفارة الظهار، كان محمولاً على أنه إن أراد الظهار كان ظهارًا، وإن أراد اليمين كان يمينًا مغلظة على ترتيب كفارة الظهار: عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد: لا يكون ذلك ظهارًا، وإن أراده. وأما قول الحسن فى الحرام: له نيته، فهى رواية أخرى ذكرها عبد الرزاق، عن معمر، عن عمرو، عن الحسن، قال: إن نوى طلاقًا فهى طلاق، وإلا فهى يمين، وهو قول ابن مسعود، وابن عمر. 8 - باب) لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) [التحريم: 1] / 11 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: إِذَا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ لَيْسَ بِشَىْءٍ، وَقَالَ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب 21] . / 12 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلا، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلْتَقُلْ: إِنِّى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 403 أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ: فَقَالَ: (لا، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ) ، فَنَزَلَتْ: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ (إِلَى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ) [التحريم: 4] لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ) [التحريم: 3] بِقَوْلِهِ: (بَلْ شَرِبْتُ عَسَلا) . أما ما ذكره البخارى عن ابن عباس أنه قال: إذا حرم الرجل امرأته فليس بشىء، يعنى فليس بتحريم مؤبد، وعليه كفارة يمين، روى يعلى بن حكيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: إذا حرم الرجل امرأته فهى يمين يكفرها، أما لكم فى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أسوة حسنة؟ وروى عنه أن عليه كفارة الظهار، وقد تقدم ذلك فى الباب قبل هذا، وتقدم فيه مذاهب الفقهاء فى هذه المسألة. وقال الطحاوى: روى فى قوله تعالى: (لم تحرم ما أحل الله لك) [التحريم: 1] ، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (لن أعود لشرب العسل) ، ولم يذكر يمينًا، فالقول هو الموجب للكفارة، إلا أنه يوجب أن يكون قد كان هناك يمين؛ لقوله تعالى: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) [التحريم: 2] ، فدل هذا أنه حلف مع ذلك التحريم. وقال زيد بن أسلم فى هذه الآية: إنه حلف، عليه السلام، ألا يطأ مارية أم ولده، ثم قال بعد ذلك: هى حرام، ثم أمره الله فكفر، فكانت كفارته ليمينه لا لتحريمه. قال ابن المنذر: والأخبار دالة على أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان حرم على نفسه شربة من عسل، وحلف على ذلك، فإنما لزمته الكفارة ليمينه لا لتحريمه ما أحل الله له، فلا حجة لمن أوجب فيه كفارة يمين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 404 قال المهلب: قوله تعالى: (يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك) [التحريم: 1] ، هذا فيما لم يشرع فيه التحريم من المطاعم وغيرها والإماء، وأما الزوجات فقد شرع الله التحريم فيهن بالطلاق، وبألفاظ أخر مثل الظهار وغيره، فالتحريم فيهن بأى لفظ فهم أو عبر عنه لازم؛ لأنه مشروع، وغير ذلك من الإماء والأطعمة والأشربة، وسائر ما يملك ليس فيه شرع على التحريم، بل التحريم فيه منهى عنه؛ لقوله تعالى: (لم تحرم ما أحل الله لك) [التحريم: 1] ، وهذه نعمة أنعم الله بها على محمد وأمته بخلاف ما كان فى سائر الأديان. ألا ترى أن إسرائيل حرم على نفسه أشياء، وكان نص القرآن يعطى أن من حرم على نفسه شيئًا أن ذلك التحريم يلزمه، وقد أحل الله ذلك الإلزام إذا كان يمينًا بالكفارة، فإن لم يكن بيمين لم يلزم ذلك التحريم إنعامًا من الله علينا وتخفيفًا عنا. وكذلك ألزمنا كل طاعة جعلناها لله على أنفسنا كالمشى إلى بيت الله الحرام، ومسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، ومسجد إيلياء، وجهاد الثغور، والصوم، وشبه ذلك ألزمنا هذا، لما فيه لنا من المنفعة، ولم يلزم ما حرمناه على أنفسنا، ألا ترى قوله تعالى: (لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك) [التحريم: 1] ، فلم يجعل الله تعالى لنبيه، عليه السلام، أن يحرم إلا ما حرم الله،) والله غفور رحيم) [التحريم: 1] ، أى قد غفر الله لك ذلك التحريم. وفيه من الفقه: أن إفشاء السر وما تفعله المرأة مع زوجها ذنب ومعصية تجب التوبة منه؛ لقوله: (إن تتوبا إلى الله) [التحريم: 4] ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 405 ويحتمل أن يتوبا إلى الله من هذا الذنب، ومن التظاهر عليه فى الغيرة والتواطؤ على منعه ما كان يناله من ذلك الشراب. وفيه: دليل أن ترك أكل الطيبات لمعنى من معانى الدنيا لا يحل، وإن كان ورعًا وتأخيرًا لها إلى الآخرة كان محمودًا. والمغافير شبيه بالصمغ تكون فى الرمث فيه حلاوة تطيب نكهة آكله، يقال: أغفر الرمث إذا ظهر فيه، واحدها مغفور. وقال صاحب العين: جرست النحل العسل تجرسه جرسًا، وهو لحسها إياها. والعرفط شجر العضاة، والعضاة كل شجر له شوك، وإذا استيك به كانت له رائحة حسنة تشبه رائحة طيب النبيذ. 9 - باب قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) [الأحزاب 49] الآية وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلَ اللَّهُ الطَّلاقَ بَعْدَ النِّكَاحِ. وَيُرْوَى فِى ذَلِكَ عَنْ عَلِىٍّ بْنِ أَبِى طَالِب، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِى بَكْرِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، وَعُبَيْدِاللَّهِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَعَلِىِّ بْنِ حُسَيْنٍ، وَشُرَيْحٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٍ، وَالْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَعَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَسَالِم، وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، وَعَمْرِو بْنِ هَرِموٍ، وَالشَّعْبِىِّ: أَنَّهَا لا تَطْلُقُ. وقال ابن المنذر: اختلف العلماء فيمن حلف بطلاق من لم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 406 يملك على ثلاثة أقوال، فقالت طائفة: لا طلاق قبل نكاح، وهو قول على، وعائشة، وابن عباس، واحتج ابن عباس فى ذلك بقوله: (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات) [الأحزاب: 49] الآية، وقال: جعل الله الطلاق بعد النكاح، وعليه جمهور التابعين المذكورين فى هذا الباب، وهو مذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وروى العتبى، عن على بن معبد، عن ابن وهب، عن مالك أنه أفتى رجلاً حلف: إن تزوجت فلانة فهى طالق، فتزوجها أنه لا شىء عليه، وقاله ابن وهب، ونزلت بالمخزومى فأتاه مالك بذلك، وروى أبو زيد، عن ابن القاسم مثله، وقال محمد بن عبد الحكم: ما أراه حانثًا. وقد قال ابن القاسم: أمر السلطان ألا يحكم فى ذلك بشىء وتوقف فى الفتيا به آخر أيامه. قال محمد: وكان عامة مشايخ المدينة لا يرون به بأسًا، وهو قول ابن أبى ذئب، وأما جمهور أصحاب مالك، فلا يرون ذلك. وفيها قول ثان وهو إيجاب الطلاق قبل النكاح، روى ذلك عن ابن مسعود، والقاسم، وسالم، والزهرى، وأبى حنيفة، وأصحابه. والقول الثالث: إذا لم يسم الحالف بالطلاق امرأة بعينها أو قبيلة أو أرضًا وعم فى يمينه تحريم ما أحل الله له، فلا يلزمه ذلك وليتزوج ما شاء، فإن سمى امرأة أو أرضًا أو قبيلة أو ضرب أجلاً يبلغ عمره أكثر منه لزمه الطلاق، وكذلك لو قال: كل عبد أملكه حر، فلا شىء عليه؛ لأنه عم، وإن خص جنسًا أو بلدًا أو ضرب أجلاً يبلغ مثله لزمه، هذا قول النخعى، وربيعة، ومالك، وابن أبى ليلى، والليث، والأوزاعى، وذكر مالك فى الموطأ أنه بلغه عن ابن مسعود. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 407 قال ابن المنذر: ومن حجة أهل المقالة الأولى ما رواه ابن أبى ذئب عن عطاء، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا طلاق قبل نكاح) . قال ابن المنذر: وحجة أخرى وهو أنه لما أجمعوا أن من باع سلعة لا يملكها ثم ملكها أن البيع غير لازم له، فكذلك إذا طلق امرأة ثم تزوجها أن الطلاق غير لازم له. واحتج الكوفيون بما رواه مالك فى الموطأ أنه بلغه أن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وابن مسعود، وسالم، والقاسم، وفقهاء المدينة أنهم كانوا يقولون: إذا حلف الرجل بطلاق المرأة قبل أن ينكحها، ثم أتم، أن ذلك لازم له إذا نكحها، وتأولوا قوله: (لا طلاق قبل نكاح) ، أن يقول الرجل: امرأة فلان طالق، أو عبد فلان حر، وهذا ليس بشىء، وأما أن يقول: إن تزوجت فلانة فهى طالق، فإنما طلقها حين تزوجها وكذلك فى الحرية يريد إن اشتريتك فأنت حرة. قالوا: ومثله (لا نذر لابن آدم فيما لا يملك) ؛ لأنه يحتمل أن يلزمه فيه النذر إذا ملكه، قالوا: وأيضًا فقد جاء الحديث: (لا طلاق إلا بعد نكاح) ، وليس فيه لا عقد طلاق، وهو الذى أجزناه وشبهه لعلة الاحتباس أنه يجوز فيها الصدقة من قبل أن تخلق فى ملكه. واحتج الأبهرى لقول مالك، فقال: إذا سمى امرأة أو قبيلة أو بلدة، فإنه يلزمه عقد الطلاق؛ لأنه ليس بعاص فى هذا العقد، وكل من عقد عقدًا ليس بعاص فيه، فالعقد له لازم وعليه الوفاء به؛ لقوله تعالى: (أوفوا بالعقود) [المائدة: 1] ، وقوله تعالى: (يوفون بالنذر) [الإنسان: 7] ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 408 والنذر فى لسان العرب إيجاب المرء على نفسه شيئًا، وإن لم يكن فى ملكه، يدل على ذلك قوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) [التوبة: 75] الآية، فثبت بهذا أنه يلزمه ما ألزم نفسه وإن لم يكن فى ملكه، ومخالفنا يقول: إن أوجب على نفسه نذر عتق أو صدقة درهم قبل ملكه أن ذلك يلزمه، فكذلك عقد الطلاق، فأما إذا عم النساء، فإن ذلك معصية؛ لأنه قصد منع نفسه النكاح الذى أباحه الله له، فلا يصح عقده؛ لقوله عليه السلام: (من أحدث فى أمرنا ما ليس منه فهو رد) . - بَاب إِذَا قَالَ لامْرَأَتِهِ وَهُوَ مُكْرَهٌ: هَذِهِ أُخْتِى، فَلا شَىْءَ عَلَيْهِ قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِسَارَةَ: هَذِهِ أُخْتِى، وَذَلِكَ فِى ذَاتِ اللَّهِ . إنما أراد البخارى بهذا التبويب، والله أعلم، رد قول من نهى عن أن يقول الرجل لامرأته: يا أختى؛ لأنه قد روى عبد الرزاق، عن الثورى، عن خالد الحذاء، عن أبى تميمة الهجيمى، قال: مرَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على رجل وهو يقول لامرأته: يا أُخية، فزجره، ومعنى كراهة ذلك، والله أعلم، خوف ما يدخل على من قال لامرأته: يا أختى، أو أنت أختى، أنه بمنزلة من قال: أنت علىَّ كظهر أمى أو كظهر أختى فى التحريم إذا قصد إلى ذلك، فأرشده النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى اجتناب الألفاظ المشكلة التى يتطرق بها إلى تحريم المحلات، وليس يعارض هذا بقول إبراهيم فى زوجته: هذه أختى؛ لأنه إنما أراد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 409 بها أخته فى الدين والإيمان، فمن قال لامرأته: يا أختى، وهو ينوى ما نواه إبراهيم من أخوة الدين، فلا يضره شيئًا عند جماعة العلماء. - باب الطَّلاقِ فِى الإغْلاقِ، وَالْكُرْهِ، وَالسَّكْرَانِ، وَالْمَجْنُونِ، وَأَمْرِهِمَا، وَالْغَلَطِ، وَالنِّسْيَانِ فِى الطَّلاقِ، وَالشِّرْكِ وَغَيْرِهِ لِقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : الأعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَانَوَى وَتَلا الشَّعْبِىُّ: (لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) [البقرة: 286] ، وَمَا لا يَجُوزُ مِنْ إِقْرَارِ الْمُوَسْوِسِ. وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِلَّذِى أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا: (أَبِكَ جُنُونٌ) ؟ وَقَالَ عَلِىٌّ: بَقَرَ حَمْزَةُ خَوَاصِرَ شَارِفَىَّ، فَطَفِقَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، يَلُومُ حَمْزَةَ، فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ: هَلْ أَنْتُمْ إِلا عَبِيدٌ لأبِى؟ فَعَرَفَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ. وَقَالَ عُثْمَانُ: لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلا لِسَكْرَانَ طَلاقٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَلاقُ السَّكْرَانِ وَالْمُسْتَكْرَهِ لَيْسَ بِجَائِزٍ. وَقَالَ عُقْبَةُ ابْنُ عَامِرٍ: لا يَجُوزُ طَلاقُ الْمُوَسْوِسِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا بَدَأ بِالطَّلاقِ فَلَهُ شَرْطُهُ. وَقَالَ نَافِعٌ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ إِنْ خَرَجَتْ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ خَرَجَتْ، فَقَدْ بُتَّتْ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ فَلَيْسَ بِشَىْءٍ. وَقَالَ الزُّهْرِىُّ فِيمَنْ قَالَ: إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَامْرَأَتِى طَالِقٌ ثَلاثًا، يُسْأَلُ عَمَّا قَالَ، وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ بِتِلْكَ الْيَمِينِ، فَإِنْ سَمَّى أَجَلا أَرَادَهُ وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ جُعِلَ ذَلِكَ فِى دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنْ قَالَ لا حَاجَةَ لِى فِيكِ نِيَّتُهُ، وَطَلاقُ كُلِّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 410 قَوْمٍ بِلِسَانهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا قَالَ: إِذَا حَمَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلاثًا، يَغْشَاهَا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً، فَإِنِ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا، فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا قَالَ: الْحَقِى بِأَهْلِكِ نِيَّتُهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الطَّلاقُ عَنْ وَطَرٍ، وَالْعَتَاقُ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ. وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: إِنْ قَالَ مَا أَنْتِ بِامْرَأَتِى نِيَّتُهُ، وَإِنْ نَوَى طَلاقًا فَهُوَ مَا نَوَى. وَقَالَ عَلِىٌّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنْ ثَلاثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يُدْرِكَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ. وَقَالَ عَلِىٌّ: كُلُّ طَّلاقِ جَائِزٌ إِلا طَلاقَ الْمَعْتُوهِ. وَقَالَ قَتَادَة: إِذَا طَلَّقَ فِى نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِشَىْءٍ. / 13 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِى مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ) . / 14 - وفيه: جَابِر، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَهُوَ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ زَنَى، فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَتَنَحَّى لِشِقِّهِ الَّذِى أَعْرَضَ عنه فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعًا، فَدَعَاهُ، فَقَالَ: (هَلْ بِكَ جُنُونٌ؟ هَلْ أَحْصَنْتَ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ جَمَزَ حَتَّى أُدْرِكَ بِالْحَرَّةِ فَقُتِلَ. / 15 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ مثله، إلا أنه زاد: فَأَعْرَضَ عَنْهُ أربعًا، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فَقَالَ: (هَلْ بِكَ جُنُونٌ) ؟ قَالَ: لا، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ. . .) الحديث. تأويل الإغلاق عند العلماء الإكراه، قال أبو عبيد: الإغلاق التضييق، فإذا ضيق على المكره وشدد عليه حتى طلق لم يقع حكم طلاقه، فكأنه لم يطلق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 411 واختلفوا فى طلاق المكره على ما يأتى ذكره فى كتاب الإكراه، ونذكر منه هاهنا طرفًا قال مالك، والأوزاعى، والشافعى: لا يلزم. وقال الكوفيون: طلاق المكره لازم. واحتج أهل المقالة الأولى بقوله: (الأعمال بالنيات) ، وبما رواه الأوزاعى، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (تجاوز الله لأمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ، واحتجوا بقوله: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) [النحل: 106] ، فنفى الكفر باللسان إذا كان القلب مطمئنًا بالإيمان، فكذلك الطلاق إذا لم يرده ولم ينوه بقلبه لم يلزمه، ولذلك قال عطاء: الشرك أعظم من الطلاق. قال الطحاوى: التجاوز معناه العفو عن الإثم؛ لأن العفو عن الطلاق والعتاق لا يصح؛ لأنه غير مذنب فيعفى عنه، قال: وكما ثبت له حكم الوطء بالإكراه، فيحرم به على الواطئ ابنة المرأة وأمها، فكذلك القول لا يمنع من وقوع ما طلق. واختلفوا فى طلاق السكران، فأجازته طائفة ذكره ابن وهب، عن عمر بن الخطاب، ومعاوية بن أبى سفيان، وجماعة من التابعين منهم: سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعطاء، والقاسم، وسالم، وذكره ابن المنذر، عن الحسن، وابن سيرين، والنخعى، والشعبى، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والأوزاعى، والثورى. واختلف فيه قول الشافعى، فأجازه مرة ومنع منه أخرى، وألزمه مالك الطلاق والقود من الجراح والقتل، ولم يلزمه النكاح والبيع. وقال الكوفيون: أقوال السكران وعقوده كلها ثابتة كأفعال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 412 الصاحى إلا الردة، فإذا ارتد فإنه لا تبين منه امرأته استحسانًا. وقال أبو يوسف: يكون مرتدًا فى حال سكره. وهو قول الشافعى إلا أن لا نقتله فى حال سكره ولا نستتيبه. وقالت طائفة: لا يجوز طلاق السكران، روى ذلك عن عثمان بن عفان، وابن عباس، وعن عطاء، وطاوس، والقاسم، وربيعة، وهو قول الليث، وإسحاق، وأبى ثور، والمزنى، واختاره الطحاوى، وقال: أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز، فالسكران معتوه بسكره كالموسوس معتوه بالوسواس، ولا يختلفون أن من شرب البنج، فذهب عقله أن طلاقه غير جائز، فكذلك من سكر من الشراب. ولا يختلف حكم فقدان العقل بسبب من الله أو بسبب من أجله، ألا ترى أنه لا فرق بين من عجز عن القيام فى الصلاة بسبب من الله أو من قبل نفسه بأن يكسر رجل نفسه فى باب سقوط فرض القيام عنه. واحتج أهل المقالة الأولى، وفرقوا بين المجنون والسكران، قال عطاء: ليس السكران كالمغلوب على عقله؛ لأن السكران أتى ما أتى، وهو يعلم أنه يقول ما لا يصلح. قال غيره: ألا ترى أن المجنون لا يقضى ما فاته من صلاته فى حال جنونه، ويلزم السكران ذلك فافترقا، وذكر ابن المنذر أن بعض أهل العلم رد هذا القول، فقال: ليس فى احتجاج من احتج بأن الصلاة تلزم السكران ولا تلزم المجنون حجة؛ لأن الصلاة قد تلزم النائم ولا تلزم المجنون، ولو طلق رجل فى حال نومه، وطلق آخر فى حال جنونه، لم يقع طلاق واحد منهما. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 413 وفى قولهم: إن السكران إذا ارتد لم يستتب فى حال سكره ولم يقتل، دليل على أن لا حكم لقوله، ورد المهلب هذا القول، فقال: معلوم فى الأغلب من الحال أن السكران إذا طلق لم يذهب جميع عقله، والدليل على ذلك أنه أوقع الطلاق، فقد نطق بكلام مفهوم، وقد شرط الله فى حد السكران الذى تبطل الصلاة به وغيرها أن لا يعلم ما يقول، وهذا المطلق يعلم ما يقول، وقصد بالطلاق معنى معلومًا فى السنة، واستدللنا أنه علم ما قال؛ لأنه قاله لمن لا يقال إلا له فصح قصده الطلاق، فوجب إلزامه له. قال ابن القصار: إن شرب السكران للتداوى جائز، ولا حد فى السكر منه كما هو فى الخمر، فلا يقع طلاقه. فيقال لهم: إن شرب الدواء لغير مصلحة، ولكن ليزيل عقله، فإن طلاقه عندنا يقع. قال المهلب: ولا حجة لمن لم يجز طلاق السكران فى حديث حمزة حين سكر؛ لأن الخمر حينئذ كانت مباحة، فلذلك سقط عنه حكم ما نطق به فى حال سكره، وهذه القصة كانت سبب تحريم الخمر، فليس يجب أن نحكم بما كان قبل تحريم الخمر على ما كان بعد تحريمها؛ لاختلاف الحكم فى ذلك، وقد ذكرت فى كتاب الأشربة، فى باب ما جاء أن الخمر ما خامر العقل اختلاف العلماء فى حد السكر الموجب للحد ما هو. قال ابن المنذر: وأجمع العلماء على أن طلاق المعتوه والمجنون لا يلزم وقد احتج فى ذلك على بن أبى طالب فى هذا الباب بما فيه مقنع. قال مالك: وكذلك المجنون الذى يفيق أحيانًا يطلق فى حال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 414 جنونه، والمبرسم قد رفع عنه القلم لغلبة العلم أنه فاسد المقاصد، وأن أفعاله وأقواله مخالفة لرتبة العقل. قال المهلب: ومعنى قوله عليه السلام: (أبك جنون) ، يعنى فى بعض أوقاتك، ولو أراد أبك جنون الدهر كله ما وثق بقوله أن به جنونًا، وإنما معناه أبك جنون فى غير هذا الوقت، فيكون قولك: إنك قد زنيت فى وقت ذلك الجنون، وإنما طلب شبهة يدرأ عنه الحد بها؛ لأن المجنون إنما يحمل أمره على فقد العقل وفساد المقاصد فى وقت جنونه، والسكران أصله العقل، والسكر إنما هو طارئ على عقله، فما وقع منه من كلام مفهوم فهو محمول على أصل عقله حتى ينتهى إلى فقدان عقله. واختلفوا فى الخطأ والنسيان فى الطلاق، فقالت طائفة: من حلف على أمر أن لا يفعله بالطلاق ففعله ناسيًا لم يحنث، هذا قول عطاء، وهو أحد قولى الشافعى، وبه قال إسحاق، وروى عن نافع فيمن حلف بالطلاق وهو لا يريده فسبقه لسانه يدين فيما بينه وبين الله تعالى، وكذلك قال الشافعى فيمن غلبه لسانه بغير اختيار منه، فقوله كلا قول، ولا يلزمه طلاق ولا غيره. وروى عن الشعبى، وطاوس فى الرجل يحلف على الشىء، فيخرج على لسانه غير ما يريد له نيته، وحققه أحمد. وقال الحكم: يؤخذ بما تكلم به، وممن أوجب عليه الحنث مكحول، وعمر بن عبد العزيز، وقتادة، وربيعة، والزهرى، وهو قول مالك، والثورى، والكوفيين، وابن أبى ليلى، والأوزاعى. وحجة من لم يوجب الحنث عليه قوله: (الأعمال بالنيات) ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 415 والناسى لا نية له، وقوله: (إن الله رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه) . واحتج الذين أوجبوا الحنث، فقالوا: معنى رفع الخطأ والنسيان إنما هو فى الإثم بينك وبين الله. وأما فى حقوق العباد، فلازمة فى الخطأ والنسيان، فى الدماء والأموال، وإنما يسقط فى قتل الخطأ ما كان يجب لله من عقوبة أو قصاص، ووقع فى كثير من النسخ، والنسيان فى الطلاق والشرك وهو خطأ، والصواب والشك مكان الشرك. واختلف العلماء فى الشك فى الطلاق، فأوجب الطلاق بالشك مالك، وقال الأوزاعى، وسعيد بن عبد العزيز: أفرق بالشك ولا أجمع بالشك، وممن لم يوجب الطلاق بالشك ربيعة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وقال الشافعى، وأحمد، وإسحاق: من شك فلم يدر أطلق واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا وجبت عليه واحدة، وهى عنده حتى يستيقن، ولا يجوز عندهم أن يرفع يقين النكاح بشك الحنث، وإلى هذا أشار البخارى. وأما قول عطاء: إذا بدأ بالطلاق فله شرطه، وقول نافع: إذا طلق رجل امرأته البتة إن خرجت، وقول الزهرى فيمن قال: إن لم أفعل كذا وكذا فامرأتى طالق، فسيأتى فى كتاب الطلاق. وأما قول إبراهيم: إن قال: لا حاجة لى فيك، نيته، فهو قول أصحاب مالك، قالوا: إن أراد بذلك الطلاق لزمه ما أراد منه، وإن لم يرد طلاقًا أحلف ودين، وقوله: طلاق كل قوم بلسانهم، فالعلماء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 416 مجمعون أن العجمى إذا طلق بلسانه وأراد الطلاق أنه يلزمه؛ لأنهم وسائر الناس فى أحكام الله سواء. وأما قول قتادة: إذا حملت فأنت طالق يغشاها فى كل طهر مرة، فإن استبان حملها فقد بانت منه، فهو قول ابن الماجشون، وحكى مثله ابن المواز، عن أشهب، قال فى قوله: إذا حملت وإذا حضت وإذا وضعت ليس بأجل، ولا شىء عليه حتى يكون ما شرط، وهو قول الثورى، والكوفيين، والشافعى، قالوا: وسواء كان مما هو غيب لا يعلم أو مما يعلم نحو قوله: إن ولدت وإذا أمطرت السماء وإذا جاء رأس الهلال، فإنه لا يقع الطلاق إلا بوجود الوقت والشرط. وقال ابن القاسم فى قوله: إذا حملت فأنت طالق، لا يمنع من وطئها فى ذلك الطهر مرة فقط، ثم يطلق إذا وطئها حينئذ، ولو كان قد وطئها فيه قبل مقالته طلقت مكانها ويصير كالذى قال لزوجته: إن كنت حاملاً فأنت طالق، وإن لم يكن بك حمل فأنت طالق، فإنها تطلق مكانها ولا ينتظر اختبارها أبها حمل أم لا، إذ لو ماتا لم يتوارثا، وكذلك قوله لغير حامل: إذا حملت فوضعت فأنت طالق، أو قال: إذا وضعت فقط فأنت طالق، وإن وطئ فى ذلك الطهر وإلا إذا وطئ مرة طلقت. وقال ابن أبى زيد: اختلف فيه قول مالك. وقال الطحاوى: لا يختلفون فيمن أعتق عبده، إذا كان هذا لما هو كائن لا محالة أو لما قد يكون، وقد لا يكون أنهما سواء ولا يعتق حتى يكون الشرط فكذلك الطلاق. وقول الزهرى: إن قال: ما أنت بامرأتى، نيته، فإن نوى طلاقًا فهو ما نوى، فهو قول مالك، وأبى حنيفة، والأوزاعى. وقال الليث: هى كذبة. وقال أبو يوسف ومحمد: ليس بطلاق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 417 وقول قتادة: فإذا طلق فى نفسه فليس بشىء، هو قول جماعة أئمة الفتوى، واختلف فيه قول مالك، فذكر عنه ابن المواز أن من عقد طلاقًا بقلبه ولم يلفظ به لسانه فإنه لا يقع، وهذا الأظهر من مذهبه، وروى عنه أشهب فى العتبية أنها تطلق عليه، وهذا قول ابن سيرين وابن شهاب، وقال ابن سيرين: إذا طلق فى نفسه أليس قد علمه الله تعالى، وحجة الجماعة قوله: (إن الله تجاوز عن أمتى ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم) ، فجعل ما لم ينطق به اللسان لغوًا لا حكم له، حتى إذا تكلم به يقع الجزاء عليه ويلزم المتكلم. وقال ابن المنذر: وكذلك قوله: (الأعمال بالنيات) ، فجعل الأعمال مقرونة بالنيات، ولو كان حكم من أضمر فى نفسه شيئًا حكم المتكلم، كان حكم من حدث نفسه فى الصلاة بشىء متكلمًا، وفى إجماعهم على أن ذلك ليس بكلام مع قوله، عليه السلام: (من صلى صلاة لا يحدث فيها نفسه غفر له) ، دليل على أن حديث النفس لا يقوم مقام الكلام، وأجمعوا أن من حدث نفسه بالقذف غير قاذف، وكذلك اختلفوا فيمن كتب إلى امرأته بالطلاق من غير لفظ به، فأوجب قوم الطلاق بالكتابة، هذا قول النخعى، والشعبى، والحكم، والزهرى، ومحمد بن الحسن، واحتج الزهرى فى أن الكتاب كلام بقوله: (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) [مريم: 11] ، قال: كتب لهم، وهو قول أحمد بن حنبل إذا كتب طلاق امرأته بيده فقد لزمه؛ لأنه عمل بيده. وقالت طائفة: إن أنفذ الكتاب إليها نفذ الطلاق، روى ذلك عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 418 عطاء، والحسن، وقتادة، وقال مالك والأوزاعى: إذا كتب إليها وأشهد على كتابه، ثم بدا له، فله ذلك ما لم يوجه إليها بالكتاب، فإذا وجهه فقد طلقت فى ذلك الوقت، إلا أن ينوى أنها لا تطلق عليه حتى يبلغ كتابه. وقوله: أذلقته الحجارة، قال صاحب الأفعال: أذلقته، يقال: أذلق الرجل غيره أخرقه بطعنة أو حجر يضربه به، وقد تقدم تفسير الحرة فى كتاب الصيام. وقوله: جمز، يعنى وثب، وفى كتاب الأفعال: جمز الفرس جمزًا وأجمز وثب، فاستعير الجمز للإنسان بمعنى الوثب، وجمز الإنسان أسرع فى مشيه. - باب الْخُلْعِ وَكَيْفَ الطَّلاقُ فِيه وقوله: (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا) [البقرة: 229] الآية وَأَجَازَ عُمَرُ الْخُلْعَ دُونَ السُّلْطَانِ، وَأَجَازَ عُثْمَانُ الْخُلْعَ دُونَ عِقَاصِ رَأْسِهَا، وَقَالَ طَاوُسٌ: (إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) [البقرة: 229] : فِيمَا افْتَرَضَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِى الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ، وَلَمْ يَقُلْ قَوْلَ السُّفَهَاءِ لا يَحِلُّ حَتَّى تَقُولَ: لا أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ. / 16 - وفيه: عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتِ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِى خُلُقٍ وَلا دِينٍ، وَلَكِنِّى أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِى الإسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَتَرُدِّينَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 419 عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ) ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً) . قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: لا يُتَابَعُ فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. / 17 - وعن عِكْرِمَةَ، أَنَّ أُخْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَىٍّ - بِهَذَا - ولم يذكر ابْن عَبَّاس. / 18 - وقال عِكْرِمَةَ: أَنَّ جَمِيلَةَ. . . الحديث. قال ابن المنذر: قوله تعالى: (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن) [البقرة: 229] الآية، فحرم الله على الزوج أن يأخذ من امرأته شيئًا مما أتاها الله إلا بعد الخوف الذى ذكره الله، ثم أكد ذلك بتغليظ الوعيد على من تعدى أو خالف أمره، فقال: (تلك حدود الله فلا تعتدوها) [البقرة: 229] ، وبمعنى كتاب الله جاءت سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى جميلة امرأة ثابت بن قيس حين قالت: يا رسول الله، إنى لا أعتب عليه فى خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر فى الإسلام لا أطيقه بغضًا. رواه قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس. وروى معتمر بن سليمان، عن فضيل، عن ابن أبى جرير، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أول خلع فى الإسلام أخت عبد الله بن أبى، أتت النبى، عليه السلام، فقالت: يا رسول الله، لا تجتمع رأسى ورأسه أبدًا، إنى رفعت جانب الخباء، فرأيته أقبل فى عدة، فإذا هو أشدهم سوادًا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجهًا، فقال: (أتردين عليه حديقته؟) ، قالت: نعم، وإن شاء زدته، ففرق بينهما. وهذا الحديث أصل فى الخلع، وعليه جمهور الفقهاء، قال مالك: ولم أزل أسمع ذلك من أهل العلم، وهو الأمر المجتمع عليه عندنا أن الرجل إذا لم يضر بالمرأة ولم يسىء إليها ولم تؤت من قبله، وأحبت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 420 فراقه، فإنه يحل له أن يأخذ منها كل ما افتدت به، كما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى امرأة ثابت، وإن كان النشوز من قبله بأن يضر بها ويضيق عليها رد عليها ما أخذ منها، روى هذا عن ابن عباس، وعامة السلف، وبه قال الثورى، وإسحاق، وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: إن كان النشوز من قبله لم يحل له أن يأخذ مما أعطاها شيئًا ولا يزداد، فإن فعل جاز فى القضاء، وروى ابن القاسم عن مالك مثله، وهذا القول خلاف ظاهر كتاب الله، وخلاف حديث امرأة ثابت، وإنما فيه أخذ الفدية من الناشز لزوجها إذا كان لنشوزها كارهًا، وللمقام معها محبًا، وإن كانت الإساءة من قبله، لم يجز له أن يأخذ منها شيئًا؛ لقول الله تعالى: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج) [النساء: 20] الآية. قال مجاهد: مجامعة النساء والميثاق الغليظ كلمة النكاح التى تستحل بها فروجهن، فجعله ثمنًا للإفضاء. قال ابن المنذر: واحتج بعض المخالفين، فقال: لما جاز أن يأخذ مالها إذا طابت به نفسًا على غير طلاق، جاز له أن يأخذه على طلاق، قيل: هذا غلط كبير؛ لأنه حمل ما حرمه الله فى كتابه من أبواب المعاوضات على ما أباحه من سائر أبواب العطايا المباحة، أفيجوز لهذا القائل أن يشبه ما حرم الله من الربا فى كتابه بما أباح من العطايا على غير عوض، فنقول: لما أبيح لى أن أهب مالى بطيب نفس من غير عوض، جاز لى أن أعطيه فى أبواب الربا بعوض، فإن قال: لا يجوز ذلك، فليعلم أنه قد أتى مثل ما أنكر فى باب الربا حيث شبه قوله: (فإن طبن لكم عن شىء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا) [النساء: 4] بما حرم فى قوله: (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله) [البقرة: 229] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 421 وفى حديث ابن عباس دلالة على فساد قول من قال: لا يجوز له أخذ الفدية منها حتى تكون من كراهيته لها على مثل ما هى عليه، وهو قول طاوس والشعبى، وروى مثله عن القاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب. قال الطبرى: وذلك أن امرأة ثابت أتت النبى (صلى الله عليه وسلم) شاكية، فقالت له: لا أنا ولا ثابت، فقال لها: (أتردين عليه حديقته؟) ، ولم يسأل ثابتًا هل أنت لها كاره كراهيتها لك؟ فإن ظن أن قوله: (ولا يحل لكم) [البقرة: 229] الآية، يدل أن الزوج إنما أبيح له أخذ الفدية إذا خاف من كل واحد منهما ببغض صاحبه النقص فى الواجب له عليه، قيل: هو خطاب لجميع المؤمنين، وكان معلومًا أن المرأة إذا أظهرت لزوجها البغضة، لم يؤمن عليها النشوز والتقصير على حق زوجها، وإذا كان ذلك لم يؤمن من زوجها مثل ذلك من التقصير فى الواجب عليه، وروى عن ابن سيرين أنه قال: لا يحل للزوج الخلع حتى يجد على بطنها رجلاً، وهذا خلاف الحديث. واختلفوا فى الخلع بأكثر مما أعطاها، فقالت طائفة: لا يجوز له الخلع بأكثر من صداقها، هذا قول عطاء، وطاوس، وكره ذلك ابن المسيب، والشعبى، والحكم، وقال الأوزاعى: كانت القضاة لا يجيزون أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها، وبه قال أحمد، وإسحاق، قالوا: وهو ظاهر حديث ثابت؛ لأن امرأته إنما ردت عليه حديقته فقط. وقالت طائفة: يجوز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، وهو مذهب عثمان بن عفان، وابن عمر، وقبيصة، والنخعى، وبه قال مالك، وأبو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 422 حنيفة، والشافعى، وأبو ثور، وقال مالك: يجوز أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها، وليس من مكارم الأخلاق، قال: ولم أر أحدًا ممن يقتدى به يكره ذلك، وقد قال الله تعالى: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) [البقرة: 229] ، وقد نزع بهذه الآية قبيصة بن ذؤيب. قال إسماعيل بن إسحاق: وقد احتج بهذه الآية من قال: لا يجوز أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها، وليس كما ظن، ولو قال إنسان: لا تضربن فلانًا إلا أن تخاف منه شيئًا، فإن خفته فلا جناح عليك فيما صنعت به لكان مطلقًا له أن يصنع به ما شاء. ومعنى قول البخارى: وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها، يعنى أن يأخذ منها كل ما لها إلى أن يكشف لها رأسها ويترك لها قناعها وشبهه مما لا كثير قيمة له، وقد قال عمر: اخلعها ولو من قرطها. وأما قوله: باب الخلع وكيف الطلاق فيه، فاختلف العلماء فى البينونة بالخلع، فروى عن عثمان، وعلى، وابن مسعود، أن الخلع تطليقة بائنة، إلا أن تكون سميت ثلاثًا فهى ثلاث، وهو قول مالك، والثورى، والكوفيين، والأوزاعى، وأحد قولى الشافعى، وقالت طائفة: الخلع فسخ وليس بطلاق إلا أن ينويه، روى هذا عن ابن عباس، وطاوس، وعكرمة، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وهو أحد قولى الشافعى، واحتج فى أنه ليس بطلاق؛ لأنه مأذون فيه لغيره قبل العدة بخلاف الطلاق، قال ابن عباس: قال الله تعالى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 423 ) والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) [البقرة: 228] ، ثم قال: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) [البقرة: 229] ، ثم ذكر الطلاق بعد الفداء، ولم يذكر فى الفداء طلاقًا، فلا أراه طلاقًا. واحتج من جعله طلاقًا بقوله فى الحديث: فردت الحديقة، وأمره بفراقها، فصح أن فراق الخلع طلاق. قال الطحاوى: روى عن عمر، وعلى، أن الخلع طلاق، وعن عثمان، وابن عباس، أنه ليس بطلاق. قال: وأجمعوا أنه لو أراد به الطلاق لكان طلاقًا، ولما كان يقع به الفرقة عند الجميع بغير نية، علم أنه ليس كالمكنى الذى يحتاج إلى نية، وعلم أنه طلاق. وقال الشافعى: فإن قيل: فإذا جعلته طلاقًا فاجعل فيه الرجعة. قيل له: لما أخذ من الطلقة عوضًا كان كمن ملك عوضًا بشىء خرج من ملكه، فلم يكن له رجعة فيما ملك عليه، فكذلك المختلعة. وقوله: وأجاز عمر الخلع دون السلطان، فهو قول الجمهور، إلا الحسن، وابن سيرين، فإنهما قالا: لا يكون إلا عند السلطان. وقال قتادة: إنما أخذه الحسن عن زياد. وقال الطحاوى: روى عن عثمان، وابن عمر جوازه دون السلطان، وكما جاز النكاح والطلاق دون السلطان كذلك الخلع. - باب الشِّقَاقِ، وَهَلْ يُشِيرُ بِالْخُلْعِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ؟ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) [النساء: 35] الآية / 19 - فيه: الْمِسْوَر، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ بَنِى الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُوا فِى أَنْ يَنْكِحَ عَلِىٌّ ابْنَتَهُمْ، فَلا آذَنُ) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 424 قال المهلب: إنما حاول البخارى بإدخال حديث المسور فى هذا الباب أن يجعل قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (فلا آذن) خلعًا، ولا يقوى هذا المعنى؛ لأنه قال فى الحديث: (إلا أن يريد ابن أبى طالب أن يطلق ابنتى) ، فدل على الطلاق، فإن أراد أن يستدل من دليل الطلاق على الخلع، فهو دليل على دليل، وذلك ضعيف، وإنما فيه الشقاق والإشارة بالطلاق من خوفه، وفيه الحكم بقطع الذرائع؛ لأنه تعالى أمر ببعثه الحكمين عند خوف الشقاق قبل وقوعه. وأجمع العلماء أن المخاطب بقوله تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما) [النساء: 3] الحكام والأمراء، وأن قوله: (إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما) [النساء: 3] ، يعنى الحكمين، وأن الحكمين لا يكونان إلا أحدهما من أهل الرجل، والثانى من أهل المرأة إلا أن يوجد من أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما، وأن الحكمين إذا اختلفا لم ينفذ قولهما، وأن قولهما نافذ فى الجمع بينهما بغير توكيل من الزوجين. واختلفوا فى الفرقة بينهما هل تحتاج إلى توكيل من الزوجين أم لا؟ فقال مالك، والأوزاعى، وإسحاق: يجوز قولهما فى الفرقة والاجتماع بغير توكيل من الزوجين ولا إذن منهما فى ذلك، روى هذا عن عثمان، وعلى بن أبى طالب، وابن عباس، وعن الشعبى، والنخعى. وقال الكوفيون والشافعى: ليس لهما أن يفرقا إلا أن يجعل الزوج إليهما التفريق، وهو قول عطاء، والحسن، وبه قال أبو ثور، وأحمد. واحتج أبو حنيفة بقول على للزوج: لا تبرح حتى ترضى بما رضيت به، فدل أن مذهبه لا يفرقان إلا برضا الزوج، قالوا: والأصل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 425 المجتمع عليه أن الطلاق بيد الزوج أو بيد من جعل ذلك إليه وجعله من باب طلاق السلطان على المولى والعنين. قال ابن المنذر: ولما كان المخاطبون بقوله تعالى: (فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها) [النساء: 35] الحكام وأن ذلك إليهم، دل على أن التفريق إليهم، ولو لم يكن كذلك ما كان للبعثة معنى. وقال مالك فى الحكمين يطلقان ثلاثًا، قال: تكون واحدة، وليس لهما الفراق بأكثر من واحدة بائنة. وقال ابن القاسم: تلزمه الثلاث إن اجتمعا عليها على حديث زيد، وقاله المغيرة، وأشهب، وابن الماجشون، وأصبغ. وقال ابن المواز: إن حكم أحدهما بواحدة والآخر بثلاث فهى واحدة، وحكى ابن حبيب، عن أصبغ، أن ذلك ليس بشىء. - باب لا يَكُونُ بَيْعُ الأمَةِ طَلاقًا / 20 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ فِى بَرِيرَةَ ثَلاثُ سُنَنٍ، أَنَّهَا أُعْتِقَتْ، فَخُيِّرَتْ فِى زَوْجِهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالْبُرْمَةُ تَفُورُ بِلَحْمٍ، فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ وَأُدْمٌ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ، فَقَالَ: (أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ فِيهَا لَحْمٌ) ؟ قَالُوا: بَلَى، وَلَكِنْ ذَلِكَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، وَأَنْتَ لا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، قَالَ: (هو عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ) . اختلف السلف هل يكون بيع الأمة وعتقها طلاقًا لها؟ فروى عن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، أنه لا يكون ذلك طلاقًا لها، وهو مذهب كافة الفقهاء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 426 وقالت طائفة: بيعها طلاق لها، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبى بن كعب، ومن التابعين سعيد بن المسيب، والحسن، ومجاهد، واحتجوا بقوله: (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) [النساء: 24] ، قال: فحرم الله علينا المزوجات من النساء، إلا إذا ملكتهن أيماننا فهن حلال لنا؛ لأن البيع لها حدوث ملك فيها، فوجب أن يرتفع حكم النكاح، ويبطل دليله الأمة المسبية ذات الزوج. وحجة الجماعة أن بيعها ليس بطلاق لها، أن بريرة عتقت فخيرت فى زوجها، فلو كان طلاقها يقع ببيعها لم يخبرها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد ذلك عند العتق ويقول لها: (إن شئت أقمت تحته) ، وأيضًا فإن هذا عقد على منفعة، فوجب ألا يبطله بيع الرقبة، دليله إذا باع رقبة مستأجرة؛ لأن النكاح عقد على منفعة والإجارة كذلك، ثم إن البيع لا يبطل الإجارة كذلك لا يبطل النكاح، وأيضًا فإن انتقال ملك رقبة أحد الزوجين من مالك إلى مالك، فوجب ألا يبطل النكاح، دليله إذا بيع الزوج، ولما لم يمنع ملك البائع صحة النكاح كان ملك المبتاع مثله؛ لأنه يقوم مقامه وهو فرع منه. فإن قالوا: إن الأمة الحربية إذا كانت مزوجة، فإنها إذا استرقت تنتقل من ملك إلى ملك، ومع هذا ينفسخ النكاح عندكم. فالجواب: إن قلنا: لا ينفسخ على إحدى الروايتين كالحربية إذا سبيت سقط سؤالهم، وإن قلنا: ينفسخ على الرواية الأخرى، فالفرق بينهما أن الحربى لا يملك، وإنما له شبهة ملك، فإذا سبيت ملكها المسبى ملكًا صحيحًا، فليس تنتقل من ملك صحيح، وليست كذلك مسألتنا، ولا حجة لهم فى الآية أنها نزلت فى سبى أوطاس خاصة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 427 وتحرج بعض أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) من وطئهن خوفًا أن يكون لهن أزواج، فسألوا النبى (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك، فأنزل الله الآية. فالمراد بها المسبيات إذا حضن قبل أن يحضر أزواجهن أو يسلمن معًا، فإنه يحل وطؤهن وإن كان لهن أزواج مشركون، فأما إن أسلمن وأسلم أزواجهن معًا، فهن على نكاحهن، وستأتى هذه المسألة فى موضعها، إن شاء الله. وفيه: أن الناس على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يكونوا يستنكرون هدية بعضهم لبعض الطعام والشىء الذى يؤكل وما لا يعظم خطره، والدليل على ذلك قوله عليه السلام: (لو أهدى إلى كراع لقبلت) ؛ لأنه لم ينكر من بريرة أن أهدت اللحم ولا أنكر قبول عائشة له. وفيه: أن من أهديت إليه هدية قلت أو كثرت ألا يردها، فإن أطاق المكافأة عليها فعل، وإن لم يقدر على ذلك أثنى عليه بها وشكرها؛ لما روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك. - باب خِيَارِ الأمَةِ تَحْتَ الْعَبْدِ / 21 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: رَأَيْتُهُ عَبْدًا، يَعْنِى زَوْجَ بَرِيرَةَ. وقَالَ مرة: ذَاكَ مُغِيثٌ عَبْدُ بَنِى فُلانٍ أَسْوَدَ، كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتْبَعُهَا فِى سِكَكِ الْمَدِينَةِ يَبْكِى عَلَيْهَا. أجمع العلماء أن الأمة إذا عتقت تحت عبد، فإن لها الخيار فى البقاء معه أو مفارقته، ومعنى ذلك، والله أعلم، أنه لما كان العبد فى حرمته وحدوده وجميع أحكامه غير مكافئ للحرة، وجب أن تخير تحته إذا حدثت لها الحرية فى عصمته، وأيضًا فإنها حين وقعت العقدة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 428 عليها لم تكن من أهل الاختيار لنفسها، فجعل لها ذلك حين صارت أكمل حرمة من زوجها. قال المهلب: وأصل هذا فى كتاب الله، وهو قوله: (ومن لم يستطع منكم طولاً) [النساء: 25] الآية. فكان اشتراط الله تعالى فى جواز نكاح الأحرار الإماء عدم الطول إلى الحرة، وجب مثله فى العبد أن لا يتطاول إلى حرة بعد أن وجدت سبيلاً إلى حر إلا برضاها. واختلفوا فى وقت خيار الأمة إذا أعتقت، فروى عن ابن عمر وأخته حفصة أن لها الخيار ما لم يمسها زوجها، وهو قول مالك، وأحمد بن حنبل، علمت أو لم تعلم. وقالت طائفة: لها الخيار، وإن أصيبت ما لم تعلم، فإذا علمت ثم أصابها، فلا خيار لها، هذا قول عطاء، والحكم، وسعيد بن المسيب، وهو قول الثورى. قال الثورى: هو أن تحلف ما وقع عليها وهى تعلم أن لها الخيار، فإن حلفت خيرت، وكذلك قال الأوزاعى، وإسحاق، وقال الشافعى: إن ادعت الجهالة لها الخيار، وهو أحب إلينا. وفى هذا الحديث ما يبطل أن يكون خيارها على المجلس؛ لأن مشيها فى المدينة لم يبطل خيارها، وقد روى قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: والله لكأنى أنظر إلى زوج بريرة فى طرق المدينة، وإن دموعه لتنحدر على لحيته يتبعها يترضاها لتختاره، فلم تفعل. ومثل هذا فى حديث زبراء، أنها كانت تحت عبد فعتقت، فسألت حفصة أم المؤمنين، فقالت: إن أمرك بيدك ما لم يمسك زوجك، فقالت: هو الطلاق ثلاثًا، ففارقته، رواه مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 429 وفى حديث بريرة حجة لمن قال: لا خيار للأمة إذا عتقت تحت الحر؛ لأن خيارها إنما وقع من أجل كونه عبدًا، وقد روى أهل العراق، عن الأسود، عن عائشة، أن زوج بريرة كان حرًا. واختلف العلماء فى الأمة إذا أعتقت تحت الحر، فروى عن ابن عباس، وابن عمر، أنه لا خيار لها، وهو قول عطاء، وسعيد بن المسيب، والحسن، وابن أبى ليلى، وبه قال مالك، والأوزاعى، والليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وقالت طائفة: لها الخيار حرًا كان زوجها أو عبدًا، روى ذلك عن الشعبى، والنخعى، وابن سيرين، وهو قول الثورى، والكوفيين، وأبى ثور، واحتجوا برواية الأسود، عن عائشة، أن زوجها كان حرًا، وقالوا: الأمة لا رأى لها فى إنكاح مولاها؛ لإجماعهم أنه يزوجها بغير إذنها، فإذا عتقت كان لها الخيار الذى لم يكن لها حال العبودية. وحجة من قال: لا خيار لها تحت الحر، أنها لم تحدث لها حال ترتفع به عن الحر، فكأنهما لم يزالا حرين ولم ينقص حال الزوج عن حالها، ولم يحدث به عيب، فلم يكن لها خيار، وقد أجمع العلماء أنه لا خيار لزوجة العنين إذا ذهبت العلة قبل أن يقضى بفراقه لها، وكذلك سائر العيوب زوالها ينفى الخيار، وأما رواية الأسود، عن عائشة، فقد عارضها من هو ألصق بعائشة وأقعد بها من الأسود، وهو القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، رويا عن عائشة أنه كان عبدًا، والأسود كوفى سمع منها من وراء حجاب، وعروة والقاسم كانا يسمعان منها بغير حجاب؛ لأنها خالة عروة وعمة القاسم، فهما أقعد بها من الأسود. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 430 قال ابن المنذر: ورواية اثنين أولى من رواية واحد مع رواية ابن عباس من الطرق الثابتة أنه كان عبدًا. - باب شَفَاعَةِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى زَوْجِ بَرِيرَةَ / 22 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ: مُغِيثٌ، كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِى، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِعبَّاسٍ: (يَا عَبَّاسُ، أَلا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا) ؟ فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ رَاجَعْتِهِ) ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَأْمُرُنِى، قَالَ: (إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ) ، قَالَتْ: لا حَاجَةَ لِى فِيهِ. قال الطبرى: فيه من الفقه جواز استشفاع العالم والخليفة فى الحوائج والرغبة إلى أهلها فى الإسعاف لسائلها، وأن ذلك من مكارم الأخلاق، وقد قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (اشفعوا تؤجروا، ويقضى الله على لسان رسوله ما شاء) ، وهذا يدل أن الساعى فى ذلك مأجور، وإن لم تنقض الحاجة. وفيه من الفقه: أنه لا حرج على إمام المسلمين وحاكمهم إذا اختصم إليه خصمان فى حق وثبت الحق على أحدهما، إذا سأله الذى ثبت الحق عليه أن يسأل من ثبت ذلك له تأخير حقه أو وضعه عنه، وأن يشفع له فى ذلك إليه، وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) شفع إلى بريرة وكلمها بعدما خيرها وأعلمها ما لها من الخيار، فقال: (لو راجعتيه) . وفيه من الفقه: أن من سئل من الأمور ما هو غير واجب عليه فعله، فله رد سائله وترك قضاء حاجته، وإن كان الشفيع سلطانًا أو عالمًا أو شريفًا؛ لأن النبى، عليه السلام، لم ينكر على بريرة ردها إياه فيما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 431 شفع فيه، وليس أحد من الخلق أعلى رتبة من النبى، عليه السلام، فغيره من الخلق أحرى ألا يكون منكرًا رده فيما شفع فيه. وفيه من الفقه: أن بغض الرجل للرجل المسلم على وجه كراهة قربه والدنو منه على غير وجه العداوة له، ولكن اختيار التبعد منه لسوء خلقه وخبث عشرته وثقل ظله، أو لغير ذلك مما يكره الناس بعضهم من بعض جائز، كالذى ذكر من بغضه امرأة ثابت بن قيس بن شماس له، مع مكانه من الدين والفضل لغير بأس، لكن لدمامة خلقه وقبحه حتى افتدت منه، وفرق بينهما النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ولم ير أنها أتت مأثمًا ولا ركبت معصية بذلك بل عذرها وجعل لها مخرجًا من المقام معه وسبيلاً إلى فراقه والبعد منه، ولم يذمها على بغضها له على قبحه وشدة سواده، وإن كان ذلك جبلة وفطرة خلق عليها، فالذى يبغض على ما فى القدرة تركه من قبيح الأحوال ومذموم العشرة أولى بالعذر وأبعد من الذم. وفيه من الفقه: أنه لا بأس بالنظر إلى المرأة التى يريد خطبتها وإظهار رغبته فيها، وذلك أنه عليه السلام لم ينكر على زوج بريرة وقد اختارت نفسها وبانت منه اتباعه إياها فى سكك المدينة باكيًا على فراقها، وإن ظن أحد أن ذلك كان قبل اختيار بريرة نفسها، فقوله عليه السلام: (لو راجعتيه) ، يدل أن ذلك كان بعد بينونتها، ولو كان قبل بينونتها لقال لها: لو اخترتيه. ولا خلاف بين الجميع أن المملوكة إذا عتقت وهى تحت زوج فاختارت نفسها، أنها لا ترجع إلى الزوج الذى كانت تحته إلا بنكاح جديد غير النكاح الذى كان بينها وبينه قبل اختيارها نفسها، فعلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 432 أن قوله عليه السلام: (لو راجعتيه) ، معناه غير الرجعة التى تكون بين الزوجين فى طلاق يكون للزوج فيه الرجعة، ولو كان ذلك معناه لكان ذلك إلى زوج بريرة دونها، ولم يكن لزوجها حاجة أن يستشفع برسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى أن تراجعه. وفيه: أنه لا حرج على مسلم فى هوى امرأة مسلمة وحبه لها ظهر ذلك منه أو خفى، ولا إثم عليه فى ذلك، وإن أفرط فيه ما لم يأت محرمًا، وذلك أن مغيثًا كان يتبع بريرة بعدما بانت منه فى سكك المدينة مبديًا لها ما يجده من نفسه من فرط الهوى وشدة الحب، ولو كان هذا قبل اختيارها نفسها لم يكن، عليه السلام، يقول لها: (لو راجعتيه) ؛ لأنه لا يقال لامرأة فى حيال رجل وملكه بعصمة النكاح: لو راجعتيه، وإنما يسئل المراجعة المفارق لزوجته، وإذا صح ذلك، فغير ملوم من ظهر منه فرط هوى امرأة يحل له نكاحها نكحته بعد ذلك أم لا، ما لم يأت محرمًا ولم يغش مأثمًا. وفيه: أنه من بانت منه زوجته بخلع أو فدية مما تكون المرأة فيه أولى بنفسها من زوجها ولا رجعة له عليها، أنه يجوز له خطبتها فى عدتها، ولا بأس على المرأة فى إجابته إلى ذلك؛ لأنه عليه السلام شفع إلى بريرة وخطبها على زوجها الذى بانت منه تصريح الخطبة التى هى محظورة فى العدة، ولو أن غيره كان الراغب فيها لما جاز له التصريح بالخطبة. - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ) [البقرة: 221] الآية / 23 - فيه: ابْنَ عُمَرَ، كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ النَّصْرَانِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ، قَالَ: إِنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 433 اللَّهَ حَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلا أَعْلَمُ مِنَ الإشْرَاكِ شَيْئًا أَكْبَرَ مِنْ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ رَبُّهَا: عِيسَى، وَهُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ. وذهب جمهور العلماء إلى أن الله تعالى حرم نكاح المشركات بقوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) [البقرة: 221] ، ثم استثنى من هذه الجملة نكاح نساء أهل الكتاب، فأحلهن فى سورة المائدة فى قوله: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) [المائدة: 5] ، وبقى سائر المشركات على أصل التحريم. قال أبو عبيد: روى هذا القول عن ابن عباس، وبه جاءت الآثار عن الصحابة والتابعين وأهل العلم بعدهم أن نكاح الكتابيات حلال، وبه قال مالك، والأوزاعى، والثورى، والكوفيون، والشافعى، وعامة الفقهاء. وقال غيره: ولا يروى خلاف ذلك إلا عن ابن عمر أنه شذ عن جماعة الصحابة والتابعين، ولم يجز نكاح اليهودية والنصرانية، وخالف ظاهر قوله: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) [المائدة: 5] ، ولم يلتفت أحد من العلماء إلى قوله. قال أبو عبيد: والمسلمون اليوم على الرخصة فى نساء أهل الكتاب، ويرون أن التحليل هو الناسخ للتحريم، فقد تزوج عثمان بن عفان بنائلة بنت الفرافصة الكلبية، وهى نصرانية، تزوجها على نسائه، وتزوج طلحة بن عبيد الله يهودية، وتزوج حذيفة يهودية وعنده حرتان مسلمتان، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه كان يأمر بالتنزه عنهن من غير أن يحرمهن. قال أبو عبيد: حدثنا محمد بن يزيد، عن الصلت بن بهرام، عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 434 شقيق بن سلمة، قال: تزوج حذيفة يهودية، فكتب إليه عمر: أن خل سبيلها، فقال: أحرام هى؟ فكتب إليه عمر: لا، ولكن أخاف أن تواقعوا المومسات منهم، يعنى الزوانى، فيرى أن عمر ذهب إلى قوله تعالى: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) [المائدة: 5] . فنقول: إن الله تعالى إنما شرط العفائف منهن، وهذه لا يؤمن أن تكون غير عفيفة، والذى عليه جماعة الفقهاء فى قوله: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) [البقرة: 221] ، أن المراد بالآية تحريم الوثنيات والمجوسيات، وأنه لم ينسخ تحريمهن كتاب ولا سنة. وشذ أبو ثور عن الجماعة، فأجاز مناكحة المجوس وأكل ذبائحهم، وهو محجوج بالجماعة والتنزيل، وأما الحربيات، فروى مجاهد، عن ابن عباس، أنه قال: لا يحل نكاح نساء أهل الكتاب إذا كانوا حربًا، وتلا قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) [التوبة: 29] الآية، وبه قال الثورى، واتفق مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعى، أن نكاح الحربيات فى دار الحرب حلال، إلا أنهم كرهوا ذلك من أجل أن المقام له ولذريته فى دار الحرب حرام عليه؛ لئلا يجرى عليه وعلى ولده حكم أهل الشرك. واختلفوا فى نكاح إماء أهل الكتاب، فقال مالك، والليث، والأوزاعى، والشافعى: لا يحل نكاح أمة يهودية ولا نصرانية؛ لقوله تعالى: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) [المائدة: 5] ، قال: فهن الحرائر من اليهوديات والنصرانيات، وقال: (ومن لم يستطع منكم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 435 طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} [النساء: 25] ، فقال مالك: وإنما أحل نكاح الإماء المؤمنات ولم يحلل نكاح إماء أهل الكتاب. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا بأس بنكاح إماء أهل الكتاب؛ لأن الله قد أحل الحرائر منهن والإماء تبع لهن، والحجة عليهم نص التنزيل الذى احتج به مالك. وأجمع أئمة الفتوى أنه لا يجوز وطء أمة مجوسية بملك اليمين، وأجاز ذلك طائفة من التابعين، وقالوا: لأن سبى أوطاس وطئن ولم يسلمن، وقد تقدم رد هذا القول فى كتاب الجهاد، فأغنى عن إعادته. - باب نِكَاحِ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكَاتِ وَعِدَّتِهِنَّ / 24 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ مِنَ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَالْمُؤْمِنِينَ، كَانُوا مُشْرِكِى أَهْلِ حَرْبٍ، يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ، وَمُشْرِكِى أَهْلِ عَهْدٍ، لا يُقَاتِلُهُمْ وَلا يُقَاتِلُونَهُ، وَكَانَ إِذَا هَاجَرَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ تُخْطَبْ حَتَّى تَحِيضَ، وَتَطْهُرَ، فَإِذَا طَهُرَتْ حَلَّ لَهَا النِّكَاحُ، فَإِنْ هَاجَرَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ رُدَّتْ إِلَيْهِ، وَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ مِنْهُمْ أَوْ أَمَةٌ فَهُمَا حُرَّانِ، وَلَهُمَا مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ مِثْلَ ذلك فَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ أَهْلِ الْعَهْدِ لَمْ يُرَدُّوا وَرُدَّتْ أَثْمَانُهُمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ [عَنِ] ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتْ قَرِيبَةُ بِنْتُ أَبِى أُمَيَّةَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 436 فَطَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ، وَكَانَتْ أُمُّ الْحَكَمِ بِنْتُ أَبِى سُفْيَانَ، تَحْتَ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ الْفِهْرِىِّ، فَطَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُثْمانَ الثَّقَفِىُّ. قال المؤلف: إذا أسلمت المشركة وهاجرت إلى المسلمين، فقد وقعت الفرقة بإسلامها بينها وبين زوجها الكافر عند جماعة الفقهاء، ووجب استبراؤها بثلاث حيض، ثم بذلك تحل للأزواج، هذا قول مالك، والليث، والأوزاعى، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى. وقال أبو حنيفة: إذا خرجت الحربية إلينا مسلمة ولها زوج كافر فى دار الحرب، فقد وقعت الفرقة ولا عدة عليها، وإنما عليها استبراء رحمها بحيضة، واعتل بأن العدة إنما تكون فى طلاق، وإسلامها فسخ وليس بطلاق، قالوا: وهذا تأويل حديث ابن عباس: أنه إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، أن المراد بذلك الاستبراء، وتأويل هذا عند مالك والليث ومن وافقهما ثلاث حيض؛ لأنها قد حصلت بالهجرة من جملة الحرائر المسلمات، ولا براءة لرحم حرة بأقل من ثلاث حيض. وأكثر العلماء على أن زوجها إن هاجر مسلمًا قبل انقضاء عدتها أنه أحق بها، وسيأتى اختلافهم فى ذلك فى الباب بعد هذا، إن شاء الله. واتفقوا أن الأمة إذا سبيت أن استبراءها حيضة. وأما قوله: وإن هاجر عبد منهم أو أمة فهما حران، فهذا فى أهل الحرب، وأما أهل العهد، فيرد إليهم الثمن عوضًا منهم؛ لأنهم لا يحل للمشركين تملك المسلمين، فيكون وزن الثمن فيهم من باب فداء أسرى المسلمين، وإنما لم يجز تملك العبد والأمة إذا هاجرا مسلمين من أجل ارتفاع العلة الموجبة لاسترقاق المشركين، وهى وجود الكفر فيهم، فإذا أسلموا قبيل القدرة عليهم وقبيل الغلبة لهم وجاءونا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 437 مسلمين، كان حكمهم حكم من هاجر من مكة إلى المدينة فى تمام حرمة الإسلام والحرية إن شاء الله. - بَاب إِذَا أَسْلَمَتِ الْمُشْرِكَةُ أَوِ النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الذِّمِّىِّ أَوِ الْحَرْبِىِّ وَقَالَ ابْنِ عَبَّاس: إِذَا أَسْلَمَتِ النَّصْرَانِيَّةُ قَبْلَ زَوْجِهَا بِسَاعَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ. وسُئِلَ عَطَاءٌ عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ أَسْلَمَتْ، ثُمَّ أَسْلَمَ زَوْجُهَا فِى الْعِدَّةِ، أَهِىَ امْرَأَتُهُ؟ قَالَ: لا، إِلا أَنْ تَشَاءَ هِىَ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، وَصَدَاقٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا أَسْلَمَ فِى الْعِدَّةِ يَتَزَوَّجُهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) [الممتحنة: 10] ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ فِى مَجُوسِيَّيْنِ أَسْلَمَا: هُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَإِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا [صَاحِبَهُ] وَأَبَى الآخَرُ بَانَتْ لا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: امْرَأَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ جَاءَتْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، أَيُعَاوَضُ زَوْجُهَا مِنْهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا (؟ قَالَ: لا، إِنَّمَا كَانَ ذَاكَ بَيْنَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَبَيْنَ أَهْلِ الْعَهْدِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا كُلُّهُ فِى صُلْحٍ بَيْنَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَبَيْنَ قُرَيْشٍ. / 25 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَتِ الْمُؤْمِنَاتُ إِذَا هَاجَرْنَ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَمْتَحِنُهُنَّ بِقَوْلِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ (، فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ، فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِنَّ، قَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (انْطَلِقْنَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 438 فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ) ، لا وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ، غَيْرَ أَنَّهُ بَايَعَهُنَّ بِالْكَلامِ، وَاللَّهِ مَا أَخَذَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى النِّسَاءِ إِلا بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، بِقَوْلِهِ لَهُنَّ إِذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ: قَدْ بَايَعْتُكُنَّ كَلامًا. الذى ذهب إليه ابن عباس وعطاء فى هذا الباب أن إسلام النصرانية قبل زوجها فاسخ لنكاحها؛ لعموم قوله تعالى: (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) [الممتحنة: 10] ، فلم يخص وقت العدة من غيره. وقال ابن عباس: إن الإسلام يعلو ولا يعلى، لا يعلو النصرانى المسلمة، وروى مثله عن عمر بن الخطاب، وهو قول طاوس، وإليه ذهب أبو ثور. وقالت طائفة: إذا أسلم فى العدة يتزوجها، هذا قول مجاهد، وقتادة، وبه قال مالك، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد. وقالت طائفة: إذا أسلمت عرض على زوجها الإسلام، فإن أسلم فهما على نكاحهما، وإن أبى أن يسلم فرق الإمام بينهما، هذا قول الزهرى، والثورى، وبه قال أبو حنيفة إذا كان فى دار الإسلام، وأما إن كانا فى دار الحرب ثم أسلمت، ثم خرجت إلى دار الإسلام، فقد بانت منه بافتراق الدارين، وفيها قول آخر يروى عن عمر بن الخطاب أنه خير نصرانية أسلمت وزوجها نصرانى، إن شاءت فارقته، وإن شاءت أقامت معه. قال ابن المنذر: والقول الأول عندى أصح الأقاويل. قال المؤلف: وإليه أشار البخارى فى قوله: (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) [الممتحنة: 10] ، يعنى ما دام الزوج كافرًا. قال ابن المنذر: وأجمع عوام أهل العلم على أن النصرانيين إذا أسلم الزوج قبل امرأته أنهما على نكاحهما، إذ جائز أنه يبتدئ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 439 نكاحها لو لم تكن له زوجة، وكذلك أجمعوا أنهما لو أسلما معًا أنهما على نكاحهما. وأما قول الحسن وقتادة أن الوثنيين إذا أسلما معًا أنهما على نكاحهما، فهو إجماع من العلماء. واختلفوا إذا سبق أحدهما الآخر بالإسلام، فقالت طائفة: تقع الفرقة بإسلام من أسلم منهما، وقاله غير الحسن، وقتادة، وعكرمة، والحسن، وطاوس، وعطاء، ومجاهد. وقالت طائفة: إذا أسلم المتخلف منهما عن الإسلام قبل انقضاء عدة المرأة فهما على النكاح، هذا قول الزهرى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، ولم يراعوا من سبق بالإسلام إذا اجتمع إسلامهما فى العدة كما كان صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبى جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما فى العدة، واحتج الشافعى بأن أبا سفيان بن حرب أسلم قبل امرأته هند، وكان إسلامه بمر الظهران، ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة، ثم أسلمت بعد أيام، فقرا على نكاحهما فى الشرك؛ لأن عدتها لم تنقض، وكذلك حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته، ثم أسلمت بعده، فكانا على نكاحهما. وقال مالك والكوفيون: إذا أسلم الرجل منهما قبل امرأته تقع الفرقة بينهما فى الوقت إذا عرض عليها الإسلام فلم تسلم. واحتج مالك بقوله: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) [الممتحنة: 10] ، فلا يجوز التمسك بعصمة المجوسية؛ لأن الله لم يرد بالكوافر فى هذه الآية أهل الكتاب، بدليل إباحة تزويج نساء أهل الكتاب، فلما كانت المجوسية غير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 440 جائز ابتداء العقد عليها، فكذلك لا يجوز التمسك بها؛ لأن ما لا يجوز ابتداء العقد عليه لا يجوز التمسك به إذا طرأ على النكاح، وذهب مالك إلى أنه إن أسلمت الوثنية قبل زوجها، فإن أسلم فى عدتها فهو أحق بها، وعند الكوفيين يعرض على الزوج الإسلام فى الوقت كما يعرض على المرأة إذا أسلمت، ولم يراعوا انقضاء عدة فيها. واحتج مالك فى اعتبار العدة فى إسلام المرأة قبل زوجها بما رواه فى الموطأ عن ابن شهاب أنه قال: لم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وزوجها كافر مقيم بدار الحرب، إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها، إلا أن يقدم زوجها مهاجرًا قبل أن تنقضى عدتها، فهذا من جهة الأثر. وأما من جهة القياس، فإن إسلامه بمنزلة الارتجاع، فلما كان له الارتجاع فى الطلاق، فكذلك إذا أسلم؛ لأن إسلامه فعلة والرجعة فعلة، فاشتبها لهذه العلة. ولم تجب عند الكوفيين مراعاة العدة؛ لأن العدة إنما تكون فى طلاق، والكفر فرق بينهما وفسخ نكاحهما كالمرتد، ولم يعلموا الآثار التى عند أهل المدينة فى اعتبار العدة إذا أسلمت المرأة قبل زوجها. قال ابن المنذر: واحتج أهل المقالة الأولى فى أن النكاح يفسخ بالإسلام إذا أسلم بقوله تعالى: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) [الممتحنة: 10] ، قالوا: فكل امرأة لا يجوز للمسلم ابتداء عقد نكاحها، فلا يجوز له أن يتمسك بذلك النكاح، ولا يرجع إليه فى عدة ولا غير عدة إلا بنكاح مستأنف؛ لأن الله إنما حرم على المشركين نكاح المسلمات، ونهى المسلمين عن نكاح المشركات، فكان ابتداؤه فى معنى استدامته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 441 وقول عطاء ومجاهد: إذا جاءت امرأة من المشركين إلى المسلمين أنه لا يعطى زوجها المشرك عوض صداقها؛ لأن ذلك إنما كان فى عهد بين النبى (صلى الله عليه وسلم) وبين المشركين، وعلى ذلك انعقد الصلح بينهم، ولو كان أهل حرب للنبى (صلى الله عليه وسلم) لم يجز رد شىء مما أنفقوا إليهم، وكذلك قال الشعبى فى قوله تعالى: (وإن فاتكم شىء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم) [الممتحنة: 11] ، قال: هى منسوخة. - بَاب الإيلاء، وقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا) [البقرة: 226] / 26 - فيه: أَنَس، آلَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ نِسَائِهِ، وَكَانَتِ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ، فَأَقَامَ فِى مَشْرُبَةٍ لَهُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آلَيْتَ شَهْرًا، فَقَالَ: (الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ) . / 27 - قَالَ ابْن عُمَر فِى الإيلاءِ الَّذِى سَمَّى اللَّهُ: لا يَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدَ الأجَلِ إِلا أَنْ يُمْسِكَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يَعْزِمَ بِالطَّلاقِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ أيضًا: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يُوقَفُ حَتَّى يُطَلِّقَ، وَلا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلاقُ حَتَّى يُطَلِّقَ، وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِىٍّ وَأَبِى الدَّرْدَاءِ وَعَائِشَةَ وَاثْنَىْ عَشَرَ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام. الإيلاء فى لغة العرب اليمين، وفى قراءة أبى بن كعب وابن عباس: (للذين يؤلون من نسائهم) [البقرة: 229] ، قالا: يقسمون. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 442 وقال ابن عباس: كل يمين منعت جماعًا فهى إيلاء. وقال ابن المنذر: وهو قول كل من أحفظ عنه من أهل العلم. واختلف فى إيلاء المذكور فى القرآن، قال ابن المنذر: فروى عن ابن عباس: لا يكون مؤليًا حتى يحلف ألا يمسها أبدًا. وقالت طائفة: الإيلاء إنما هو إلى حلف ألا يطأ أكثر من أربعة أشهر، هذا قول مالك، والشافعى، وأحمد بن حنبل، وأبى ثور، فإن حلف على أربعة أشهر فما دونها لم يكن مؤليًا، وكان هذا عندهم يمينًا محضًا لو وطئ فى هذه اليمين حنث ولزمته الكفارة، وإن لم يطأ حتى تنقضى المدة لم يكن عليه شىء كسائر الأيمان. وقال الثورى والكوفيون: الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدًا، وهو قول عطاء. وقالت طائفة: إذا حلف ألا يقرب امرأته يومًا أو أقل أو أكثر، ثم لم يطأها أربعة أشهر بانت منه بالإيلاء، روى هذا عن ابن مسعود، والنخعى، وابن أبى ليلى، والحكم، وبه قال إسحاق، واعتل أهل هذه المقالة، فقالوا: إذا آلى منها أكثر من أربعة أشهر فقد صار مؤليًا، ولزمه أن يفىء بعد التربص أو يطلق؛ لأنه قصد الإضرار باليمين، وهذا المعنى موجود فى المدة القصيرة. قال ابن المنذر: وأنكر هذا القول أكثر أهل العلم، وقالوا: لا يكون الإيلاء أقل من أربعة أشهر. قال ابن عباس: كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر، فوقت الله لهم أربعة أشهر، فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء، وليس فى حديث أنس إيلاء بأربعة أشهر، وإنما فيه أنه، عليه السلام، حلف ألا يجامع نساءه شهرًا، فبر يمينه ونزل لتمامه. واحتج الكوفيون، فقالوا: جعل الله التربص فى الإيلاء أربعة أشهر، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 443 كما جعل فى عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا، وفى عدة الطلاق ثلاثة قروء، فلا تربص بعدها، قالوا: فيجب بعد المدة سقوط الإيلاء، ولا يسقط إلا بالفىء وهو الجماع فى داخل المدة والطلاق بعد انقضاء الأربعة الأشهر. واحتج أصحاب مالك، فقالوا: جعل الله للمؤلى تربص أربعة أشهر، فهى له بكمالها لا اعتراض لزوجته عليه فيها، كما أن الدين المؤجل لا يستحق صاحبه المطالبة به إلا بعد تمام الأجل وتقدير الكوفيين للآية: فإن فاءوا فيهن، وتقدير المدنيين: فإن فاءوا بعدهن. قال إسماعيل بن إسحاق: لا يخلو التخيير الذى جعل للمؤلى فى الفىء أو الطلاق أن تكون فى الأربعة الأشهر أو بعدها، فإن كان فى الأربعة الأشهر فقد نقصوه من الأجل الذى ضربه الله له، وإن قالوا: بعد الأربعة الأشهر، وهو ظاهر كتاب الله صاروا إلى قولنا، وكذلك قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن (إلى) بالمعروف) [البقرة: 234] ، فلا يجوز لها أن تعمل فى نفسها شيئًا بالمعروف، وهو التزويج، إلا بعد تمام الأجل الذى ضربه الله لها، وكل من أجل له أجل فلا سبيل عليه فى الأجل، وإنما عليه السبيل بعد الأجل، فنحن وهم مجمعون على صاحب الدين أنه كذلك، وعلى العنيين إذا ضرب له أجل سنة أنه لا سبيل عليه قبل تقضى السنة، فإن وطئ من غير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 444 أن يؤخذ بذلك سقط عنه حكم العنيين وإن انقضت السنة ولم يطأ فرق بينه وبين امرأته، فكذلك المؤلى لا سبيل عليه فى الأربعة الأشهر، فإن وطئ فيها من غير أن يؤخذ بذلك سقط عنه الإيلاء، وإن لم يطأ حتى انقضت أخذه الحاكم بالطلاق، فإن لم يطلق فرق بينهما الحاكم. قال ابن المنذر: وأجمع كل من نحفظ عنه العلم أن الفىء هو الجماع لمن لا عذر له، فإن كان له عذر فيجزئه فيؤه بلسانه وقلبه. وقال بعضهم: إذا أشهد على فيئه فى حال العذر أجزأه. وخالف الجماعة سعيد بن جبير، فقال: الفىء الجماع، لا عذر له إلا أن يجامع وإن كان فى سفر أو فى سجن، وأوجب أكثر أهل العلم الكفارة عليه إذا فاء بجماع امرأته، وروى هذا عن ابن عباس، وزيد بن ثابت، وهو قول النخعى، وابن سيرين، ومالك، والثورى، والكوفيين، والشافعى، وعامة العلماء. وقالت طائفة: إذا فاء فلا كفارة عليه، هذا قول الحسن، وقال النخعى: كانوا يقولون: إذا فاء فلا كفارة عليه. وقال إسحاق بن راهويه: قال بعض أهل التأويل فى قوله: (فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم) [البقرة: 226] ، يعنى اليمين الذى حنثوا فيها، وهو مذهب فى الأيمان لبعض التابعين، فمن حلف على بر أو تقوى أو باب من الخير ألا يفعله، فإنه يفعله ولا كفارة عليه، وهو ضعيف ترده السنة الثابتة عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذى هو خير وليكفر يمينه) . وما ذكره البخارى عن ابن عمر، أن المؤلى يوقف حتى يطلق، وذكره عن اثنى عشر رجلاً من الصحابة، منهم عثمان، وعلى، وذكره الجزء: 7 ¦ الصفحة: 445 ابن المنذر، عن عمر، وعثمان، وعلى، وعائشة، وابن عمر، وأبى الدرداء. وقال سليمان بن يسار: كان تسعة عشر رجلاً من أصحاب النبى، عليه السلام، يوقفون فى الإيلاء. قال مالك: وذلك الأمر عندنا، وبه قال الليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، فإن طلق فهى واحدة رجعية، إلا أن مالكًا قال: لا تصح رجعته حتى يطأ فى العدة، ولا أعلم أحدًا قاله غيره. وقالت طائفة: إذا مضت للمؤلى أربعة أشهر بانت منه امرأته دون توقيف بطلقة بائنة لا يملك فيها الرجعة، وروى عن ابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن ثابت، ورواية عن عثمان، وعلى، وابن عمر، ذكرها ابن المنذر، وهو قول عطاء، والنخعى، ومسروق، والحسن، وابن سيرين، وإليه ذهب الأوزاعى، والثورى، وجماعة الكوفيين. وقالت طائفة: هى طلقة يملك فيها الرجعة إذا مضت أربعة أشهر، روى عن سعيد ابن المسيب، وأبى بكر بن عبد الرحمن، ومكحول، والزهرى. والصواب أن يوقف المؤلى؛ لأن الله جعل له تربص أربعة أشهر لا يطالب فيها بالوطء، وجعله بعدها مخيرًا فى الفىء بالجماع أو إيقاع الطلاق؛ لقوله: (فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم) [البقرة: 226] ، فمن خيره الله فى أمر، فلا سبيل للافتئات عليه فيه، ودفع ما جعله الله له من دون إذنه. قال الأبهرى: والحجة لقول مالك أنه إذا لم يطأ فى العدة، فلا تصح رجعته، لأن الطلاق إنما أوقع لرفع الضرر، فإذا لم يطأ فالضرر قائم، فلا معنى للرجعة، ومنى ارتجع كانت رجعته معتبرة بالوطء، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 446 فإن وطئ وإلا علم أنه لم تكن له رجعة إلا أن يكون له عذر يمنعه من الوطء فتصح رجعته؛ لأن الضرر قد زال، وامتناعه من الوطء ليس من أجل الضرر، وإنما من أجل العذر. - بَاب حُكْمِ الْمَفْقُودِ فِى أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: إِذَا فُقِدَ فِى الصَّفِّ عِنْدَ الْقِتَالِ تَرَبَّصُ امْرَأَتُهُ سَنَةً، وَاشْتَرَى ابْنُ مَسْعُودٍ جَارِيَةً، وَالْتَمَسَ صَاحِبَهَا سَنَةً، فَلَمْ يَجِدْهُ وَفُقِدَ فَأَخَذَ يُعْطِى الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَنْ فُلانٍ، فَإِنْ أَتَى فُلانٌ فَلِى وَعَلَىَّ، وَقَالَ: هَكَذَا فَافْعَلُوا بِاللُّقَطَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَقَالَ الزُّهْرِىُّ فِى الأسِيرِ يُعْلَمُ مَكَانُهُ: لا تَتَزَوَّجُ امْرَأَتُهُ، وَلا يُقْسَمُ مَالُهُ، فَإِذَا انْقَطَعَ خَبَرُهُ، فَسُنَّتُهُ سُنَّةُ الْمَفْقُودِ. / 28 - وفيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، سُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ، فَقَالَ: (خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِىَ لَكَ أَوْ لأخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ) ، وَسُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الإبِلِ، فَغَضِبَ وَاحْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، وَقَالَ: (مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا الْحِذَاءُ وَالسِّقَاءُ، تَشْرَبُ الْمَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا) ، وَسُئِلَ عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: (اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا وَعَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ مَنْ يَعْرِفُهَا، وَإِلا فَاخْلِطْهَا بِمَالِكَ) . اختلف العلماء فى حكم المفقود إذ لم يعرف مكانه وعمى خبره، فقالت طائفة: إذا خرج من بيته وعمى خبره، فإن امرأته لا تنكح أبدًا، ولا يفرق بينه وبينها حتى توقن بوفاته أو ينقضى تعميره، وسبيل زوجته سبيل ماله، روى هذا القول عن على بن أبى طالب، وهو قول الثورى، وأبى حنيفة، ومحمد، والشافعى، وإليه ذهب البخارى، والله أعلم؛ لأنه بوب باب حكم المفقود فى أهله وماله، وذكر حديث الجزء: 7 ¦ الصفحة: 447 اللقطة والضالة، ووجه الاستدلال فى ذلك أن الضالة إذا وجدت ولم يعلم ربها، فهى فى معنى المفقود؛ لأنه لا يعلم من هو، ولا أين هو، فلم يزل الجهل به وبمكانه ملكه عن ماله، وبقى محبوسًا عليه، فكذلك يجب أن تكون عصمته باقية على زوجته لا يحلها إلا يقين موته أو انقضاء تعميره، وهذه الزوجية قد ثبتت بالكتاب والسنة والاتفاق، ولا تحل إلا بيقين مثله. وقالت طائفة: تتربص امرأته أربع سنين، ثم تعتد أربعة أشهر وعشرًا، ثم تحل للأزواج، روى هذا عن عمر بن الخطاب، وعثمان، وعلى بن أبى طالب، وابن عباس، وابن عمر، وعطاء بن أبى رباح، وإليه ذهب مالك وأهل المدينة، وبه قال أحمد، وإسحاق. واحتج ابن المنذر لهم، فقال: اتباع خمسة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أولى. قال: وقد دفع أحمد بن حنبل ما روى عن على بن أبى طالب من خلاف هذا القول، وقال: إن راويه أبا عوانة، ولم يتابع عليه. فكما وجب تأجيل العنين تقليدًا لعمر وابن مسعود، كذلك وجب تأجيل امرأة المفقود؛ لأن العدد الذين قالوا بالتأجيل أكثر وهم أربعة من الخلفاء، وقد قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى) . واختلفوا إذا فقد فى الصف عند القتال، فقال ابن المسيب: تؤجل امرأته سنة، وروى أشهب عن مالك أنه يضرب لامرأته أجل سنة بعد أن ينظر فى أمرها، ولا يضرب لها من يوم فقد، وسواء فقد فى الصف بين المسلمين أو فى قتال المشركين، وروى عيسى، عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 448 ابن القاسم، عن مالك، إذا فقد فى المعترك أو فتن المسلمين بينهم أنه ينتظر يسيرًا بمقدار ما ينصرف المنهزم، ثم تعتد امرأته ويقسم ماله. وروى ابن القاسم، عن مالك فى المفقود فى فتن المسلمين أنه يضرب لامرأته سنة ثم تتزوج، واحتج المهلب لهذا القول بحديث اللقظة؛ لأنه حكم فيها عليه السلام بتعريف سنة. وقال الكوفيون، والثورى، والشافعى فى الذى يفقد بين الصفين كقولهم فى المفقود: لا يفرق بينهما، واتفق مالك، والكوفيون، والشافعى فى الأسير لا يستبين موته أنه لا يفرق بينه وبين امرأته، ويوقف ماله وينفق منه عليها. قال الأبهرى: والفرق بين الأسير والمفقود أن الأسير غير مختار لترك الرجوع إلى زوجته، ولا قاصد لإدخال الضرر عليها، فلم يجز دفع نكاحه، وهو كالذى لا يقدر على الوطء لعلة عرضت له، والمفقود فغير معذور بالتأخير عن زوجته، إذ لا سبب له ظاهر يمنعه من ذلك، وحكم زوجة الأسير فى النفقة عليها من ماله كامرأة المفقود؛ لأنا نقدر أن نوصلها إلى حقها من النفقة، سواء غاب أو حضر، ولا خلاف أنه لا يفرق بين الأسير وزوجته حتى يصح موته أو فراقه. ومالك يعمر الأسير الذى تعرف حياته وقتًا، ثم ينقطع خبره فلا يعرف له موت، يعمره ما بين السبعين إلى الثمانين، وكذلك يعمر المفقود بين الصفين والمفقود الذى فقد فى غير الحرب، يعمره كذلك أيضًأ فى قسمة ماله وميراثه، والكوفيون يقولون: لا يقسم ماله حتى يأتى عليه من الزمان ما لا يعيش مثله، وهذا يشبه قول مالك، وقال الشافعى: لا يقسم ماله حتى تعلم وفاته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 449 - بَاب الظِّهَارِ وقوله: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا) [المجادلة: 1] الآية وسَأَلَ مالك ابْنَ شِهَابٍ عَنْ ظِهَارِ الْعَبْدِ، فَقَالَ: نَحْوَ ظِهَارِ الْحُرِّ. فَقَالَ مَالِكٌ: وَصِيَامُ الْعَبْدِ شَهْرَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: ظِهَارُ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ مِنَ الْحُرَّةِ وَالأمَةِ سَوَاءٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِنْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ فَلَيْسَ بِشَىْءٍ إِنَّمَا الظِّهَارُ مِنَ النِّسَاءِ، وَفِى الْعَرَبِيَّةِ لِمَا قَالُوا أَىْ فِيمَا قَالُوا - وَفِى بَعْضِ مَا قَالُوا - وَهَذَا أَوْلَى؛ لأنَّ اللَّهَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْمُنْكَرِ وَقَوْلِ الزُّورِ. قال ابن القصار: اختلف العلماء فى كفارة الظهار بماذا تجب؟ على قولين، فقال قوم: إنها تجب بمجرد الظهار، وليس من شرطها العود، روى هذا عن مجاهد، وبه قال سفيان الثورى. وذهب جماعة الفقهاء إلى أنها تجب بشرطين، وهما: الظهار والعود. واختلف هؤلاء فى العود على مذاهب، فقال مالك: العود هو العزم على الوطء، وحكى عنه أنه الوطء بعينه، ولكن تقدم الكفارة عليه، وهذا قول ابن القاسم، وأشار فى الموطأ إلى أنه العزم على الإمساك والإصابة، وعليه أكثر أصحابه، وحكاه ابن المنذر، عن أبى حنيفة، وبه قال أحمد، وإسحاق، وذهب الحسن البصرى، وطاوس، والزهرى، أن العود الوطء نفسه. قال الطحاوى: ومعنى العود عند أبى حنيفة: ألا يستبيح وطأها إلا بكفارة يقدمها. وعند الشافعى العود أن يمكنه طلاقها بعد الظهار بساعة فلا يطلقها، فإن أمسكها ساعة ولم يطلقها عاد لما قال، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 450 ووجبت عليه الكفارة ماتت أو مات، وعباراتهم وإن اختلفت فى العود فمعناها متقارب. وقال أهل الظاهر: العود أن يقول: أنت كظهر أمى، ثانية، وروى هذا القول عن بكير بن الأشج. واحتج من قال: إن الكفارة تجب بمجرد الظهار بأن الله ذكر الكفارة وعلل وجوبها، فقال: (وإنهم ليقولون منكرًا من القول وزورًا) [المجادلة: 2] ، فدل أنها وجبت بمجرد القول، قالوا: لأن العود الذى هو إحدى الروايتين العزم على الإمساك، والرواية الثانية العزم على وطئها. قال ابن الجلاب: وقد ذكر فى الموطأ الأمرين جميعًا، ونقيض ذلك الخلاف أن إيراد كل واحد منهما بالعزم عودة العزم على وطئها فمباح، والمباح لا تجب فيه الكفارة. وحجة الجماعة قوله تعالى: (والذين يظاهرون من نسائهم) [المجادلة: 3] الآية، فأوجب الكفارة بالظهار والعود جميعًا، فمن زعم أنها تجب بشرط واحد، فقد خالف الظاهر، وهذا بمنزلة قول القائل: من دخل الدار فصلى فله دينار، فإنه لا يستحق الدينار إلا بدخوله وصلاته؛ لأنهما شرطان فى استحقاق الدينار، فلا يجوز أن يستحق الدينار بأحد الشرطين، والكلام على الشافعى أن العود هو الإمساك فقط. والدليل على بطلان ذلك، أن الذى كان مباحًا بالعقد هو الوطء، فإذا حرمه بالظهار كانت الكفارة له دون ما سواه؛ لأن الأنكحة إنما وضعت له فقط، ولما ثبت أنه لا يجوز أن يطأ حتى يكفر، وجب أن يكون العود هو العزم على الإمساك وعلى الوطء جميعًا، ولو كان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 451 الإمساك حتى يكون العود إليه راجعًا، لكان طلاقًا؛ لأن الإمساك إذا حرم ارتفع العقد، وما يرفع النكاح إنما هو الطلاق، ولو كان الظهار كذلك، لكانت الكفارة لا تدخله ولا تصلحه؛ لأن الفراق لا يرتفع حكمه بالكفارة، ولما صح ذلك ثبت أن الكفارة تبيح العود إلى ما حرمه الظهار من الوطء والعزم عليه، ألا ترى أنه إذا حلف ألا يطأها فقد حرم وطأها دون إمساكها، فإذا فعل الوطء، فقد خالف ما حرمته اليمين، فكذلك الظهار، ومن ظاهر فإنما أراد الإمساك دون الطلاق، فكذلك لم يكن العود هو الإمساك. واحتج أهل الظاهر بأن قالوا: كل موضع ذكر الله تعالى فيه العود للشىء، فالمراد به العود إليه بعينه، ألا ترى أنه أخبر عن الكفار أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وقال تعالى: (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه) [المجادلة: 8] ، فكذلك قوله: (ثم يعودون لما قالوا) [المجادلة: 8] ، فيقال لهم: العود فى الشىء يكون فى اللغة بمعنى المصير إليه كما تأولتم، ويكون أيضًا بمعنى الرجوع فيه كما قال: (العائد فى هبته كالكلب يعود فى قيئه) ، أراد به الناقض لهبته، وهذا تفسير الفراء فى العود المذكور فى الآية أنه الرجوع فى قولهم وعن قولهم. قال إسماعيل بن إسحاق: ولو كان معنى قوله: (ثم يعودون لما قالوا) [المجادلة: 8] ، أى يلفظوا بالظهار مرة أخرى لما وقع بعده،) فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) [المجادلة: 3] ؛ لأنه لم يذكر للمسيس سبب، فيقال من أجله: (من قبل أن يتماسا (، وإنما ذكر التظاهر وهو ضد المسيس، والمظاهر إنما حرم على نفسه المسيس، فكيف يقال له: إذا حرمت على نفسك المسيس، ثم حرمت على نفسك المسيس فأعتق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 452 رقبة قبل أن تمس؟ هذا كلام واه ضعيف. ولو قال رجل لرجل: إذا لم ترد أن تمس فأعتق رقبة قبل أن تمس نسبة الناس إلى الجهل، ولو قال: إذا أردت أن تمس فاعتق رقبة قبل أن تمس كان كلامًا صحيحًا مفهومًا أنه لا تجب الكفارة حتى يريد المس، وأيضًا فإن الظهار كان طلاق الجاهلية، تعلق عليه حكم التكفير بشرط العود والرجوع فيه، ألا ترى أن الكفارة إذا وجبت باللفظ وشرط آخر كان ذلك الشرط مخالفة اللفظ لا إعادته كالأيمان. وأجمع العلماء أن الظهار للعبد لازم له كالحر، وأن كفارته الصوم شهران، واختلفوا فى الإطعام والعتق، فقال الكوفيون والشافعى: لا يجزئه إلا الصوم خاصة. وقال ابن القاسم، عن مالك: إن أطعم بإذن مولاه أجزأه، وإن أعتق بإذنه لم يجزئه، وأحب إلينا أن يصوم، يعنى شهرين كالحر. قال ابن القاسم: ولا أرى هذا الجواب إلا وهم منه؛ لأنه إذا قدر على الصوم لم يجزئه الإطعام فى الحر كيف العبد، وعسى أن يكون جواب هذه المسألة فى كفارة اليمين بالله. وقال الحسن: إن أذن له مولاه فى العتق أجزأه. وعن الأوزاعى: إن أذن له مولاه فى العتق والإطعام أجزأه إذا لم يقدر على الصيام. واختلفوا فى الظهار من الأمة وأم الولد، فقال الكوفيون والشافعى: لا يصح الظهار منهما. وقال مالك، والثورى، والأوزاعى، والليث: يكون من أمته مظاهرًا، واحتج الكوفيون بقوله: (والذين يظاهرون منكم من نسائهم) [المجادلة: 3] ، والأمة ليست من نسائنا؛ لأن الظهار كان طلاقًا، ثم أحل بالكفارة، فإذا كان لا حظ للإماء فى الطلاق، فكذلك ما قام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 453 مقامه. ومن أوجب الظهار فى الإماء جعلهن داخلات فى جملة النساء لمعنى تشبيه الفرج الحلال بالفرج الحرام فى حال الظهار؛ لأن الله حرم جميع النساء، ولم يخص امرأة دون امرأة، وهذا مذهب على بن أبى طالب، وهو حجة فى معرفة لسان العرب، وهو مذهب الفقهاء السبعة، وعطاء، وربيعة. قال ابن المنذر: يدخل فى عموم قوله: (والذين يظاهرون منكم من نسائهم) [المجادلة: 1] ، أن الظهار يكون من الأمة والذمية والصغيرة وجميع النساء. وقول البخارى: فى العربية لما قالوا، أى فيما قالوا، فقد تقدم فى الباب أنه قول الفراء، وفيها قول ثان قاله الأخفش، قال: المعنى على التقديم والتأخير، أى والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون، فتحرير رقبة لما قالوا، وهذا قول حسن، وفيها وجه آخر: يجوز أن تكون ما بمعنى من، كأنه قال: ثم يعودون لمن قالوا فيهن أو لهن: أنتن علينا كظهور أمهاتنا، وفيها وجه آخر: يجوز أن تكون ما بمعنى مع، قالوا بتقدير المصدر، فيكون التقدير: ثم يعودون للقول، فسمى القول فيهن باسم المصدر، وهذا القول كما قالوا: ثوب نسج اليمن، ودرهم ضرب الأمير، وإنما هو منسوج اليمن، ومضروب الأمير. - باب الإِشَارَةِ فِى الطَّلاقِ وَالأُمُورِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لا يُعَذِّبُ اللَّهُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا) ، وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: أَشَارَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَىَّ، خُذِ الشطر. وَقَالَتْ أَسْمَاءُ: صَلَّى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْكُسُوفِ، فَقُلْتُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 454 لِعَائِشَةَ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ وَهِىَ تُصَلِّى، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى الشَّمْسِ، فَقُلْتُ: آيَةٌ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، أَنْ نَعَمْ. وَقَالَ أَنَسٌ: أَوْمَأَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدِهِ إِلَى أَبِى بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْمَأَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدِهِ: (لا حَرَجَ) . وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: قَالَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، فِى الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ: (أحَدٌ مِنْكُمْ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ؟) ، قَالُوا: لا، قَالَ: (فَكُلُوا) . / 29 - فيه: ابْن عَبَّاسٍ، طَافَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى بَعِيرِهِ، وَكَانَ كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ وَكَبَّرَ. وَقَالَتْ زَيْنَبُ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (فُتِحَ مِنْ [رَدْمِ] يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَعَقَدَ تِسْعِينَ) . وفى هذا الباب أحاديث أخر فيها كلها إشارة النبى (صلى الله عليه وسلم) بيده. قال المهلب: الإشارة إذا فهمت وارتفع الإشكال بها محكوم بها، وما ذكره البخارى فى الأحاديث من الإشارات فى الضروب المختلفة شاهدة بجواز ذلك، وأوكد الإشارات ما حكم النبى (صلى الله عليه وسلم) فى أمر السوداء حين قال لها: (أين الله؟) ، فأشارت بيدها إلى السماء، فقال: (أعتقها فإنها مؤمنة) ، فأجاز الإسلام بالإشارة الذى هو أصل الديانة، الذى يحقن به الدماء ويمنع المال والحرمة، وتستحق به الجنة وينجى به من النار، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك، فيجب أن تكون الإشارة عاملة فى سائر الديانة، وهو قول عامة الفقهاء. روى ابن القاسم، عن مالك، أن الأخرس إذا أشار بالطلاق أنه يلزمه، وقال الشافعى فى الرجل يمرض فيختل لسانه: فهو كالأخرس فى الرجعة والطلاق، وإذا أشار إشارة تعقل أو كتب لزمه الطلاق. وقال أبو ثور فى إشارة الأخرس: إذا فهمت عنه تجوز عليه. وقال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 455 أبو حنيفة وأصحابه: إن كانت إشارته تعرف فى طلاقه ونكاحه وبيعه، وكان ذلك منه معروفًا فهو جائز عليه، وإن شك فيه فهو باطل، وليس ذلك بقياس إنما هو استحسان، والقياس فى هذا أنه كله باطل؛ لأنه لا يتكلم ولا تعقل إشارته. قال ابن المنذر: فزعم أبو حنيفة أن القياس فى ذلك أنه باطل، وفى ذلك إقرار منه أنه حكم بالباطل؛ لأن القياس عنده حق، فإذا حكم بضده وهو الاستحسان فقد حكم بضد الحق، وفى إظهاره القول بالاستحسان وهو ضد القياس دفع منه للقياس الذى هو عنده حق. قال المؤلف: وأظن البخارى حاول فى هذا الباب الرد عليه؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) حكم بالإشارة فى هذه الأحاديث وجعل ذلك شرعًا لأمته، ومعاذ الله أن يحكم، عليه السلام، فى شىء من شريعته التى ائتمنه الله عليها، وشهد له التنزيل أنه قد بلغها لأمته غير ملوم، وأن الدين قد كمل به بما يدل القياس على إبطاله، وإنما حمل أبا حنيفة على قوله هذا أنه لم يعلم السنن التى جاءت بجواز الإشارات فى أحكام مختلفة من الديانة فى مواضع يمكن النطق فيها ومواضع لا يمكن، فهى لمن لا يمكنه النطق أجوز وأوكد، إذ لا يمكن العمل بغيرها، وفى أحاديث هذا الباب فى قصة اليهودى الذى رضخ رأس الجارية فأخذ أوضاحًا لها، قال صاحب العين: الوضح حلى من فضة. وقوله فى حديث المنفق والبخيل: مادت، قال صاحب العين: ماد الشىء مددًا، تردد فى عرض، والناقة تمدد فى سيرها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 456 - بَاب اللِّعَانِ وَقَوْلِ اللَّهِ: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ (إِلَى: (الصَّادِقِينَ) [النور: 6 - 9] . فَإِذَا قَذَفَ الأخْرَسُ امْرَأَتَهُ بِكِتَابَةٍ أَوْ بِإِشَارَةٍ أَوْ بِإِيمَاءٍ مَعْرُوفٍ فَهُوَ كَالْمُتَكَلِّمِ؛ لأنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، قَدْ أَجَازَ الإشَارَةَ فِى الْفَرَائِضِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيًّا) [مريم: 29] ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: (إِلا رَمْزًا (: إِلا إِشَارَةً. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لا حَدَّ وَلا لِعَانَ. ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ الطَّلاقَ بِكِتَابٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ إِيمَاءٍ جَائِزٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الطَّلاقِ وَالْقَذْفِ فَرْقٌ، فَإِنْ قَالَ: الْقَذْفُ لا يَكُونُ إِلا بِكَلامٍ، قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ الطَّلاقُ لا يَجُوزُ إِلا بِكَلامٍ، وَإِلا بَطَلَ الطَّلاقُ وَالْقَذْفُ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ، وَكَذَلِكَ الأصَمُّ يُلاعِنُ. وَقَالَ الشَّعْبِىُّ وَقَتَادَةُ: إِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ، فَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ تَبِينُ مِنْهُ بِإِشَارَتِهِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: الأخْرَسُ إِذَا كَتَبَ الطَّلاقَ بِيَدِهِ لَزِمَهُ. وَقَالَ حَمَّادٌ: الأخْرَسُ وَالأصَمُّ إِنْ قَالَ بِرَأْسِهِ جَازَ. / 30 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الأنْصَارِ) ؟ قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بَنُو عَبْدِالأشْهَلِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بَنُو سَاعِدَةَ) ، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ: فَقَبَضَ أَصَابِعَهُ، ثُمَّ بَسَطَهُنَّ كَالرَّامِى بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: (وَفِى كُلِّ دُورِ الأنْصَارِ خَيْرٌ) . / 31 - وفيه: سَهْل، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَذِهِ مِنْ هَذِهِ - أَوْ كَهَاتَيْنِ - وَقَرَنَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 457 / 32 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ، عَلَيْهِ السَّلام: (الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا ثَلاَثًا) - يَعْنِى ثَلاثِينَ - ثُمَّ قَالَ: (وَهَكَذَا وَهَكَذَا ثَلاًثًا) - يَعْنِى تِسْعًا وَعِشْرِينَ - يَقُولُ: مَرَّةً ثَلاثِينَ وَمَرَّةً تِسْعًا وَعِشْرِينَ. / 33 - وفيه: ابْن مَسْعُود، قَالَ: أَشَارَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، بِيَدِهِ نَحْوَ الْيَمَنِ: (الإيمَانُ هَا هُنَا مَرَّتَيْنِ، أَلا وَإِنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِى الْفَدَّادِينَ، حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ) . / 34 - وفيه: سهل: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِى الْجَنَّةِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا) . اختلف العلماء فى لعان الأخرس وقذفه، فقال مالك، وأبو ثور: يلاعن الأخرس إذا عقل الإشارة، وفهم الكتابة، وعلم ما يقوله، وفهم منه، وكذلك الخرساء تلاعن أيضًا بالكتاب. وقال الكوفيون: لا يصح قذفه ولا لعانه، فإذا قذف الأخرس امرأته بإشارة لم يحد ولم يلاعن، وكذلك لو قذف بكتاب، وروى مثله عن الشعبى، وبه قال الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بأن هذه المسألة مبنية لهم على أصل، وهو أن صحة القذف تتعلق بصريح الزنا دون معناه، ألا ترى أن من قذف آخر، فقال له: قد وطئت وطئًا حرامًا ووطئت بلا شبهة، لم يكن قاذفًا، فإن أتى بمعنى الزنا كان قاذفًا، فبان أن المعتبر فى هذا الباب صريح اللفظ، وهذا المعنى لا يحصل من الأخرس ضرورة، فلم يكن قاذفًا ولا يتميز بالإشارة الزنا من الوطء الحلال والشبهة. وأيضًا فإن إشارته لما تضمنت وجهين لم يجز إيجاب الحد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 458 بها كالكتابة والتعريض، قالوا: واللعان عندنا شهادة، وشهادة الأخرس عندنا لا تقبل بالإجماع. قال ابن القصار: فيقال لهم: قولكم: إن القذف لا يصح إلا بالتصريح، فهو باطل بسائر الألسنة ما عدا العربية، فإنها كلها قائمة مقام العربية، ويصح بكل واحد منها القذف، فكذلك إشارة الأخرس، وقولهم: إنه لا يتميز بالإشارة الزنا من الوطء الحلال والشبهة، فإنه باطل، إذا أقر بقتل عمد، فإنه مقبول منه بالإشارة وصورته غير صورة قتل الخطأ، وما حكموه من الإجماع فى شهادة الأخرس فهو غلط، وقد نص مالك أن شهادته مقبولة إذا فهمت إشارته وأنها تقوم مقام اللفظ بالشهادة، وأما مع القدرة فلا تقع منه إلا باللفظ، وعلى أنهم يصححون لعان الأعمى ولا يجيزون شهادته، فقد فرقوا بين الشهادة واللعان. واحتج ابن القصار بأن إشارة الأخرس إذا فهمت قامت مقام النطق بما احتج به البخارى من قوله: (فأشارت إليه) [مريم: 29] ، يعنى مريم، فعرفوا بإشارتها ما يعرفونه من نطقها، وبقوله تعالى: (قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا) [آل عمران: 41] ، أى إيماء وإشارة، فلولا أنه يفهم منها ما يفهم من النطق لم يقل تعالى: ألا تكلمهم إلا رمزًا، فجعل الرمز كلامًا، وأيضًا فإن النبى، عليه السلام، كبر للصلاة وذكر أنه لم يغتسل، فأشار إليهم أن اثبتوا مكانكم، وكذلك أشار إلى أبى بكر فى الصلاة، والأحاديث فى هذا أكثر من أن تحصى، فصح أنه يعقل من الإشارة ما يعقل من النطق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 459 قال المهلب: وقد تكون الإشارة فى كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام مثل قوله، عليه السلام: (بعثت أنا والساعة كهاتين) ، ومتى كان يبلغ البيان إلى ما بلغت إليه الإشارة، والإعراب بما بينهما بمقدار زيادة الوسطى على السبابة، وفى إجماع العقول على أن العيان أقوى من الخبر دليل أن الإشارة قد تكون فى بعض المواضع أقوى من الكلام. قال ابن المنذر: والمخالفون يلزمون الأخرس الطلاق والبيوع وسائر الأحكام، فينبغى أن يكون القذف مثل ذلك. واتفق مالك، والكوفيون، والشافعى، أن الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه. وقال الكوفيون: إذا كان رجل أصمت أيامًا، فكتب لم يجز من ذلك شىء. قال الطحاوى: والخرس مخالف للصمت العارض، كما أن العجز عن الجماع العارض بالمرض ونحوه يومًا أو نحوه مخالف للعجز الميئوس معه الجماع نحو الجنون فى باب خيار المرأة فى الفرقة. قال المهلب: وأما الأصم، فإن فى أمره بعض إشكال، ولكن قد يستبين إشكال أمره بترداد الإشارة على الشىء حتى يرتفع الإشكال، فإن فهم عنه ذلك جاز جميع ما أشار به، وأما المتكلم فإذا كتب الطلاق بيده فله أن يقول: إنما كتبته مراوضًا لنفسى لأستخير الله تعالى فى إنفاذه؛ لأن لى درجة فى البيان بلسانى هى غايتى، فلا يحال بينى وبين غاية ما لى من البيان، والأخرس لا غاية له إلا الإشارة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 460 - باب إِذَا عَرَّضَ بِنَفْىِ الْوَلَدِ / 35 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وُلِدَ لِى غُلامٌ أَسْوَدُ، فَقَالَ: (هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ) ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: (مَا أَلْوَانُهَا) ؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: (هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَأَنَّى ذَلِكَ) ؟ قَالَ: لَعَلَّ عرقًا نَزَعَهُ، قَال: (فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ) . احتج بهذا الحديث الكوفيون والشافعى، فقالوا: لا حد فى التعريض، ولا لعان بالتعريض؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يوجب على هذا الرجل الذى عرض له بامرأته حدا. وأوجب مالك الحد فى التعريض واللعان بالتعريض إذا فهم منه من القذف ما يفهم من التصريح. وقال أصحابه فى تأويل هذا الحديث للكوفيين: لا حجة لكم فيه؛ لأن الرجل لم يرد بتعريضه القذف وإنما جاء سائلاً مستشيرًا، ودليل ذلك فى الحديث، وذلك لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما ضرب له المثل سكت، ورأى أن الحق فيما ضرب له النبى (صلى الله عليه وسلم) من ذلك. قال المهلب: فالتعريض إذا لم يكن على سبيل المشاتمة والمواجهة، وكان على سبيل السؤال عما يجهل من المشكلات، فلا حد فيه، ولو وجب فى هذا حد، لبقى شىء من علم الدين لا سبيل إلى التوصل إليه من ذكر من عرض له فى ذلك عارض، ولا يجب عند مالك فى التعريض حد إلا أن يكون على سبيل مشاتمة ومواجهة يعلم قصده لذلك. وسيأتى اختلاف العلماء وبيان مذاهبهم فى التعريض فى كتاب الحدود، إن شاء الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 461 قال أبو عبيد، عن الأصمعى: إذا كان البعير أسود يخالط أسوده بياض كدخان الرمث، فذلك الورقة. - بَاب إِحْلافِ الْمُتلاعِنِين / 36 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ رَجُلا مِنَ الأنْصَارِ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَأَحْلَفَهُمَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. قوله: باب إحلاف المتلاعنين، يريد أيمان اللعان المعروفة ومعناه: أن الرجل لما قذف امرأته كان عليه الحد إن لم يأت بأربعة شهداء، يشهدون بتصديق ما قال، على ظاهر قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) [النور: 4] ، فلما رمى العجلانى زوجته بالزنا أنزل الله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم) [النور: 6] الآية، فأخرج الله الزوج من عموم الآية وأقام أيمانه الأربع مع الخامسة مقام الشهود الأربعة يدرأ بها عن نفسه الحد كما يدرأ سائر الناس عن أنفسهم بالشهود الأربعة حد القذف، فإذا حلف بها لزم المرأة الحد إن لم تلتعن، فإن التعنت وحلفت دفعت الحد عن نفسها بأيمانها أيضًا كما دفع الرجل بأيمانه عن نفسه. - بَاب يَبْدَأُ الرَّجُلُ بِالتَّلاعُنِ / 37 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ هِلالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَجَاءَ فَشَهِدَ وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ) ؟ ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 462 أجمع العلماء أن الرجل يبدأ باللعان قبل المرأة؛ لأن الله تعالى بدأ بذلك، وإن بدأت المرأة قبل زوجها لم يجزئها ذلك وإعادة الأيمان بعده على ما رتبه الله وبينه رسوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث ابن عباس. قال ابن المنذر: وفيه دليل أنهما يتلاعنان وهما قائمان. قال الطبرى: وفى استحلافه، عليه السلام، المتلاعنين قائمين الدليل الواضح على أنه ينبغى لكل حاكم من حكام المسلمين أن يستحلف كل من أراد استحلافه على عظيم من الأمر قائمًا للأخبار الواردة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) بذلك. قال المهلب: وفيه دليل أن المحتلفين المتضارين اللذين لا يكون الحق إلا فى قول واحد منهما يعتدان فى دعاويهما ولا يعاقب كل واحد منهما بتكذيب صاحبه وإبطال قوله؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) عذر المتلاعنين فى الحدود ولم يقم الحد بالتحالف. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: الصحيح أن القاذف لزوجته عويمر وهلال بن أمية خطأ، وقد روى القاسم، عن ابن عباس، أن العجلانى قذف امرأته كما روى ابن عمر، وسهل بن سعد، وأظنه غلط من هشام بن حسان، ومما يدل على أنها قصة واحدة توقف النبى (صلى الله عليه وسلم) فيها حتى أنزل الله فيها الآية، ولو أنها قضيتان لم يتوقف عن الحكم فيها ولحكم فى الثانية بما أنزل الله فى الأولى. قال الطبرى: يستنكر قوله فى الحديث: هلال بن أمية، وإنما القاذف عويمر بن الحارث بن زيد بن الجد بن العجلانى شهد أحد مع النبى، عليه السلام، رماها بشريك ابن السحماء والسحماء أمه، قيل لها ذلك لسوادها، وهو شريك بن عبدة بن الجد بن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 463 العجلانى، كذلك كان يقول أهل الأخبار، وكانت هذه القصة فى شعبان سنة تسع من الهجرة منصرف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من تبوك إلى المدينة. - بَاب اللِّعَانِ وَمَنْ طَلَّقَ / 38 - فيه: سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلانِىَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِىٍّ الأنْصَارِىِّ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِمُ، أَرَأَيْتَ رَجُلا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ سَلْ لِى يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ ذَلِكَ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا، حَتَّى كَبَرَ عَلَى عَاصِم مَا سَمَعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ، جَاءَهُ عُوَيْمِرٌ، فَقَالَ: يَا عَاصِمُ، مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَقَالَ عَاصِمٌ لِعُوَيْمِرٍ: لَمْ تَأْتِنِى بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْمَسْأَلَةَ الَّتِى سَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللَّهِ لا أَنْتَهِى حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا، فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَسَطَ النَّاسِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفِى صَاحِبَتِكَ فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا) ، قَالَ سَهْلٌ: فَتَلاعَنَا، وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلاعُنِهِمَا، قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلاعِنَيْنِ. فى قول عويمر: أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه؟ وسكوت النبى (صلى الله عليه وسلم) على ذلك ولم يقل له: لا نقتله، دليل على أن من قتل رجلاً وجده مع امرأته أنه يقتل به إن لم يأت ببينة تشهد بزناه بها. قال الطبرى: وبذلك حكم على بن أبى طالب إن لم يأت بأربعة شهداء، فليعط برمته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 464 فإن قيل: قد روى عن عمر وعثمان أنهما أهدرا دمه، قيل: إن صح عنهما ذلك فإنما أهدرا دمه؛ لأن البينة قامت عندهما بصحة ما ادعى القاتل على الذى قتله، وسيأتى بيان ما للعلماء فى هذه المسألة فى كتاب الحدود، إن شاء الله. وفيه: أن التلاعن لا يكون إلا عند السلطان، أو عند من استخلفه من الحكام، وهذا إجماع من العلماء. وفى قول عويمر: أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، دليل أن اللعان بين كل زوجين؛ لأنه لم يُخَص رجل من رجل، ولا امرأة من امرأة، وكذلك قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم) [النور: 6] ، ولم يخص زوجًا من زوج، ففى هذا حجة لمالك والشافعى أن العبد بمنزلة الحر فى قذفه ولعانه، غير أنه لا حد على من قذف مملوكته؛ لقوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات) [النور: 4] ، وهن الحرائر المسلمات، والأمة المسلمة والحرة اليهودية أو النصرانية تلاعن الحر المسلم، وكذلك العبد وإن تزوج الحرة المسلمة والأمة المسلمة أو الحرة اليهودية أو النصرانية لاعنها، وبه قال الشافعى، وقال أبو حنيفة والثورى: إذا كان أحد الزوجين مملوكًا أو ذميًا أو كانت المرأة ممن لا يجب على قاذفها الحد، فلا لعان بينهما إذا قذفها. واختلف العلماء فى صفة الرمى الذى يوجب اللعان بين الزوجين، فقال مالك فى المشهور عنه: إن اللعان لا يكون حتى يقول الرجل لامرأته: رأيتها تزنى أو ينفى حملاً بها أو ولدًا منها، وحديث سهل هذا وإن لم يكن فيه تصريح بالرؤية، فإنه قد جاء التصريح بذلك فى حديث ابن عباس وغيره فى قصة هلال بن أمية أنه وجد مع امرأته الجزء: 7 ¦ الصفحة: 465 رجلاً، فقال: يا رسول الله، رأيت بعينى وسمعت بأذنى، فنزلت آية اللعان، ذكره المصنفون، وذكره الطبرى. وقال الثورى، والكوفيون، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: إنه من قال لزوجته: يا زانية، وجب اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء، وسواء قال لها: يا زانية أو زنيت، ولم يدعى رؤية. وقد روى هذا القول عن مالك أيضًا، وحجة هذا القول عموم قوله: (والذين يرمون أزواجهم) [النور: 6] ، كما قال: (والذين يرمون المحصنات) [النور: 4] ، فأوجب بمجرد القذف الحد على الأجنبى إن لم يأت بأربعة شهداء، وأوجب على الزوج اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء، فسوى بين الرميتين بلفظ واحد، وقد أجمعوا أن الأعمى يلاعن ولا تصح منه الرؤية، وإنما يصح لعانه من حيث وطؤه لزوجته، وقد ذكر ابن القصار عن مالك أن لعان الأعمى لا يصح إلا أن يقول: لمست فرجًا فى فرجها. وذهب جمهور العلماء إلى أن تمام اللعان منها تقع الفرقة بينهما، وسيأتى بيان هذه المسألة فى بابها بعد هذه المسألة، إن شاء الله تعالى. وشذ قوم من أهل البصرة منهم عثمان البتى، فقالوا: لا تقع الفرقة ولا تأثير للعان فيها، وإنما يسقط النسب والحد وهما على الزوجية كما كانا حتى يطلق الزوج، وذكر الطبرى أن هذا قول جابر بن زيد، واحتج أهل هذه المقالة بقول عويمر: كذبت عليها إن أمسكتها، فطلقها ثلاثًا، قالوا: ولم ينكر النبى (صلى الله عليه وسلم) ذلك عليه ولم يقل له: لم قلت وأنت لا تحتاج إليه؟ لأنها باللعان قد طلقت. فقال لهم مخالفوهم: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 466 لا حجة لكم فى حديث عويمر؛ لأن قوله: كذبت عليها إن أمسكتها، وطلاقه لها ثلاثًا إنما كان منه؛ لأنه لم يظن أن الفرقة تحصل باللعان، ولو كان عنده أن الفرقة تحصل باللعان لم يقل هذا، وقد جاء فى حديث ابن عمر، وابن عباس، بيان هذا أن النبى، عليه السلام، فرق بين المتلاعنين، وقال: لا سبيل لك عليها، فطلاق عويمر لها لغو، ولم ينكر ذلك النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه يحتمل أن يكون العجلانى أراد التأكيد، أى أنها لو لم تقع الفرقة وأمسكتها فهى طالق ثلاثًا. قال الطحاوى: فإن قال من يذهب إلى قول البتى، قول ابن عمر، وابن عباس، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) فرق بين المتلاعنين، إنما كان فى قضية عويمر، وكان طلاقها بعد اللعان، فلذلك فرق بينهما، وقد روى ابن شهاب، عن سهل بن سعد، قال: فطلقها العجلانى ثلاث تطليقات، فأنفذه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . قال الطبرى: يحتمل أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) فرق بينهما بعد اللعان، ثم طلقها ثلاثًا حتى يكون تفريق النبى (صلى الله عليه وسلم) واقعًا موقعه على ما روى ابن عمر. وقد قال الأكثر: لا يجوز أن يمسكها ويفرق بينهما، وقد استحب النبى (صلى الله عليه وسلم) الطلاق بعد اللعان، ولم يستحبه قبله، فعلم أن اللعان قد أحدث حكمًا. وقد احتج من قال: إن الطلاق الثلاث مجتمعات تقع للسنة بطلاق عويمر زوجته ثلاثًا، ولم ينكر ذلك عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قالوا: ولو كان وقوع الثلاث مجتمعات لا يجوز لبينه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنكره، وقال: لا يجوز ذلك فى ديننا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 467 - بَاب التَّلاعُنِ فِى الْمَسْجِدِ / 39 - فيه: سَهْلِ، فَتَلاعَنَا فِى الْمَسْجِدِ، وَأَنَا شَاهِدٌ، فَطَلَّقَهَا ثَلاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ فَرَغَا مِنَ التَّلاعُنِ، فَفَارَقَهَا عِنْدَ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ: ذَاكَ تَفْرِيقٌ بَيْنَ كُلِّ مُتَلاعِنَيْنِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتِ السُّنَّةُ بَعْدَهُمَا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلاعِنَيْنِ، وَكَانَتْ حَامِلا، وَكَانَ ابْنُهَا يُدْعَى لأمِّهِ، قَالَ: ثُمَّ جَرَتِ السُّنَّةُ فِى مِيرَاثِهَا أَنَّهَا تَرِثُهُ وَيَرِثُ مِنْهَا مَا فَرَضَ اللَّهُ لَها. قَالَ سَهْل، عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنْ جَاءَتْ بِهِ أَحْمَرَ قَصِيرًا كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ، فَلا أُرَاهَا إِلا قَدْ صَدَقَتْ، وَكَذَبَ عَلَيْهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ أَعْيَنَ ذَا أَلْيَتَيْنِ، فَلا أُرَاهُ إِلا قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا) ، فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى الْمَكْرُوهِ مِنْ ذَلِكَ. قال ابن المنذر: فيه أن سنة اللعان أن يكون فى المسجد. وقال الطبرى: فى أمر النبى، عليه السلام، المتلاعنين بالتلاعن فى المسجد دليل على أنه ينبغى لكل حاكم من حكام المسلمين أن يستحلف كل من أراد استحلافه على عظيم من الأمر كالقسامة على الدم وعلى المال ذى القدر والخطر العظيم، ونحو ذلك فى المساجد العظام، فإن كانا بالمدينة فعند قبر النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وإن كانا بمكة فبين الركن والمقام، وإن كانا ببيت المقدس ففى مسجدها، ثم فى موضع الصخرة، وإن كانا ببلدة غيرها، ففى جامعها وحيث يعظم منها، وإنما أمرهما، عليه السلام، باللعان فى مسجده لعلمه أنهما يعظمان ذلك الموضع، فأراد التعظيم عليهما ليرجع المبطل منهما إلى الحق وعجز عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 468 الأيمان الكاذبة، وكذلك أيضًا كان لعانه بينهما بعد العصر لعظم اليمين الكاذبة عند الله فى ذلك الوقت. وقال الشافعى: يلاعن فى المسجد إلا أن تكون حائضًا، فعلى باب المسجد. قال الطبرى: ولست أقول أنه إن لاعن بينهما فى مجلس يكره، أو حيث كان من الأماكن، وفى أى الأوقات أنه مضيع فرضًا أو مدخل بذلك من فعله فى اللعان فسادًا. وقوله: وكانت حاملاً، اختلفوا فى الرجل ينتفى من حمل زوجته، فقالت طائفة: له أن يلاعن إذا قال: ليس هو منى، وقد استبرأتها قبل هذا الحمل، ويسقط عنه الولد، هذا قول مالك. وقال ابن أبى ليلى: يجوز اللعان بنفى الحمل، وبه قال الشافعى، ولم يراع استبراء، وزعم أن المرأة قد تحمل مع رؤية الدم وتلد مع الاستبراء. وقال أبو حنيفة والثورى وزفر: إذا قال لامرأته: ليس هذا الحمل منى، سواء قال: استبرأتها أم لا، لم يكن قاذفًا، وبه قال ابن الماجشون. وقال أبو يوسف ومحمد: إن جاءت بالولد بعدما قال لستة أشهر لاعن، وإن جاءت به لأكثر لم يلاعن، وحجة من لم يوجب اللعان على الحمل أنه قال بنفس الحمل، ولا يقطع على صحته ولعله ريح، ولا لعان إلا بيقين. قال ابن القصار: وحجة مالك ومن وافقه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لاعن بين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 469 العجلانى وامرأته وكانت حاملاً، ألا ترى قوله: إن جاءت به أحمر قصيرًا فلا أراها إلا صدقت وكذب عليها، وإن جاءت به أسود أعين، فلا أراه إلا قد صدق عليها، فجاءت به على النعت المكروه. وقول الكوفيين خلاف لهذا الحديث، فلا يلتفت إلى قولهم. وأما فساده من جهة النظر، فإن اللعان وضع بين الزوج لمعنى، وهو أن لا يلحق به ولد ليس منه، فالضرورة داعية إلى حصول اللعان فى هذه الحال، وقد جعل اللعان يدفع العار عما يلحقه فى زوجته، فهو محتاج إلى اللعان. قال الطبرى: وقد زعم أبو حنيفة أن رجلاً لو اشترى جارية فوجدها حاملاً أن ذلك عيب ترد به، فإن كان الحمل لا يوقف عليه ولا يعلم، فقد يجب أن لا يكون لمشترى الجارية الحامل ردها، إذ لا سبيل له إلى العلم بذلك، وإن كان إلى العلم به سبيل حتى يجوز به رد الجارية، فكذلك السبيل إلى العلم حتى يجوز به اللعان مثله لا فرق بينهما. قال الطبرى: وفى قوله عليه السلام: (إن جاءت به أحمر قصيرًا، فلا أراها إلا قد صدقت وكذب عليها، وإن جاءت به أسود أعين، فلا أراه إلا قد صدق عليها) ، فجاءت به على النعت المكروه، البيان البين أن الله تعالى منع العباد أن يحكموا فى عباده بالظنون والتهم، وأنه جعل الأحكام بينهم على ما ظهر دون ما بطن منهم واستتر عنهم، وأنه وكل الحكم فى سرائرهم وما خفى من أمورهم إلى الله دون سائر خلقه، وأنه لو كان لأحد من ذى سلطان أو غيره أخذ أحد بغير الظاهر، لكان أولى الناس بذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، لعلمه بكثير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 470 من سرائر الناس، ولكنه كان لا يأخذ أحدًا إلا بما ظهر من أمره، وتبين للناس منه. ولذلك كان يقبل ظاهر ما يبديه المنفقون ولا يأخذهم بما يبطنون مع علمه بكذبهم، وكان يجعل لهم بظاهر ما يظهرونه، من الإقرار بتصديقه والإيمان بما جاء به من عند الله، حكم الله فى المناكحة والموارثة والصلاة عليهم إذا ماتوا، وغير ذلك من الأمور، فكذلك الواجب على كل ذى سلطان أن يعمل فى رعيته مثل الذى عمل به النبى، عليه السلام، فيمن وصفت ممن كان يظهر قولاً وفعلاً، من أخذه بما يظهر من القول والفعل دون أخذه بالظنون والتهم التى يجوز أن تكون حقًا ويجوز أن تكون باطلاً. قال المهلب: وفيه من الفقه أن الحاكم إذا حكم بالبينة المنصوصة، ثم تبين له بدليل غير ما ظهر إليه فيما حكم به، أنه لا يرد ما حكم فيه إلا بالنص لا بما قام له من الدليل، ألا ترى أنه بعد أن جاءت به على المكروه لم يحدها، وكذلك قام له الدليل من الشبه فى ابن وليدة زمعة، فلم يقض به لسعد بن أبى وقاص، ولكن أمر سودة بنت زمعة بالاحتجاب منه، فحكم للشبه فى عين الحكم المنصوص أولا، ولم يعرض لحكم الله بفسخ من أجل الدليل. وفيه من الفقه: أن من اقتطع شيئًا من الحقوق بيمين كاذبة أن الله يلعنه ويغضب عليه كما جاء فى الحديث، ألا ترى أنه قام الدليل على كذب المرأة بعد يمينها بوضعها الصفة المكروهة، فكان ذلك هتك سترها فى الدنيا وفضيحتها بين قومها التى منها فرت، وهذا من العقوبات فى الدنيا، فكيف فى الآخرة؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 471 وقوله: كأنه وحرة، دويبة حمراء كالعضاة تلزق بالأرض، ومنه قيل: وحر الصدر يوحر وحرًا ذهبوا إلى لزوق الحقد بالصدر فشبهوه بإلزاق الوحرة بالأرض. 30 - بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ عَلَيْهِ السَّلام: (لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ / 40 - فيه: ابْن عَبَّاس: أَنَّهُ ذُكِرَ التَّلاعُنُ عِنْدَ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِىٍّ فِى ذَلِكَ قَوْلا، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يَشْكُو إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ وَجَدَ مَعَ أَهْلِهِ رَجُلا، فَقَالَ عَاصِمٌ: مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا الأمْرِ إِلا لِقَوْلِى، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِى وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا، قَلِيلَ اللَّحْمِ سَبْطَ الشَّعَرِ، وَكَانَ الَّذِى ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ، خَدْلا آدَمَ كَثِيرَ اللَّحْمِ، فَقَالَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (اللَّهُمَّ بَيِّنْ) ، فَجَاءَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِى ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ، فَلاعَنَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، بَيْنَهُمَا، فَقَالَ رَجُلٌ لابْنِ عَبَّاسٍ فِى الْمَجْلِسِ: هِىَ الَّتِى قَالَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ رَجَمْتُ هَذِهِ) ، فَقَالَ: لا، تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ فِى الإسْلامِ السُّوءَ. وترجم له: (باب قول الإمام: اللهم بين) . قال المهلب: فيه أنه قد يبتلى الإنسان بقوله، وذلك أن عاصم بن عدى كان قد قال عند النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه لو وجد مع امرأته رجلاً لضربه بالسيف حتى يقتله، فابتلاه الله بعويمر رجل من قومه ليريه الله كيف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 472 حكمه فى ذلك، وليعرفه أن التسلط فى الدماء لا يسوغ بالدعوى، ولا يكون إلا بحكم من الله ليرفع أمر الجاهلية. وأما قوله: (لو كنت راجمًا بغير بينة) ، فى المرأة التى كانت تعلن بالسوء، أى لو كنت متعديًا حق الله فيها إلى ما قام من الدلالة عليها لرجمت هذه، لبيان الدلائل على فسقها، ولكن ليس لأحد أن يرجم بغير بينة فيتعدى حدود الله، والله قد نص أن لا يتعدى حدوده لما أراد تعالى من ستر عباده. قال غيره: وقوله عليه السلام: (اللهم بين) ، معناه الحرص على أن يعلم من باطن المسألة ما يقف به على حقيقتها، وإن كانت شريعته قد أحكمها الله عز وجل فى القضاء بالظاهر، وإنما صارت شرائع الأنبياء يقضى فيها بالظاهر؛ لأنها تكون سننًا لمن بعدهم من أمتهم ممن لا سبيل له إلى وحى يعلم به بواطن الأمور. وقال ابن قتيبة فى قوله: (خدل) ، الخدل العظيم الساقين، وهو ضد الحمش، يقال: رجل حمش الساقين إذا كان رقيقهما، وخدل إذا كان عظيمهما. 31 - بَاب صَدَاقِ الْمُلاعَنَةِ / 41 - فيه: ابْن جُبَيْر قال: قُلْتُ لابْنِ عُمَر: رَجُلٌ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ: فَرَّقَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ أَخَوَىْ بَنِى الْعَجْلانِ، وَقَالَ: (اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ) ؟ فَأَبَيَا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. قَالَ أَيُّوبُ: فَقَالَ لِى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: إِنَّ فِى الْحَدِيثِ شَيْئًا لا أَرَاكَ تُحَدِّثُهُ. قال: قال الرَّجُلُ: مَالِى، قَالَ: قِيلَ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 473 لا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، فَقَدْ دَخَلْتَ بِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْكَ. وترجم له (باب قول الإمام للمتلاعنين: إن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟) . صداق الملاعنة واجب لها بالإجماع؛ لأنهما كانا على نكاح صحيح قبل التعانهما، وكل من وطئ امرأة بشبهة، فالصداق لها واجب، فكيف النكاح الصحيح؟ قال ابن المنذر: وفى حديث ابن عمر دليل على وجوب صداقها، وأن الزوج لا يرجع عليها بالمهر، وإن أقرت بالزنا؛ لقوله: (إن كنت صدقت عليها فبما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد منك) ، هكذا رواه فى باب قول الإمام للمتلاعنين: إن أحدكما كاذب. قال ابن المنذر: ولو قال قائل: إن فيه دليلاً على أن المهر إنما يجب بالمسيس لا بالخلوة لساغ ذلك. قال المؤلف: وحديث هذا الباب يوجب الصداق بالدخول. قال المهلب فى قوله: (إن كنت صادقًا فقد دخلت بها) ، فيه دليل على أن الدخول بالمرأة يكنى به عن الجماع، وهو دليل على وجوب جماعها، وإن كان قد لا يكون جماع مع الدخول، فغلب عليه السلام ما يكون فى الأكثر وهو الجماع، لما ركب الله فى نفوس عباده من شهوة النساء، وسيأتى اختلاف أهل العلم فى هذه المسألة فى باب المهر للمدخول عليها بعد هذا إن شاء الله. قال الطبرى: فى قوله عليه السلام: (الله يعلم إن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 474 أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب؟) ، أنه ينبغى للإمام إذا أراد استحلاف من لزمته يمين لغيره فرآه ماضيًا على اليمين أن يذكره بالله ويعظه ويتلوا عليه قول الله: (إن الذين يشترون بعهد الله) [آل عمران: 77] الآية، ليرتدع عن اليمين إن كان مبطلاً فيها، ولذلك أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يوقف كل واحد منهما عند الخامسة، فيقال له: اتق الله، فإنها الموجبة التى توجب عذاب الله وإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. قال ابن المنذر: وفيه بدء الإمام بعظة الزوجين والبدء بالزوج فى ذلك قبل المرأة. 32 - بَاب التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلاعِنَيْنِ / 42 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَرَّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ قَذَفَهَا وَأَحْلَفَهُمَا. اختلف العلماء متى تقع الفرقة باللعان، فذكر ابن المنذر، عن ابن عباس، أن بانقضاء اللعان تقع الفرقة بينهما، وإن لم يفرق الحاكم، وهو قول ربيعة، ومالك، والليث، والأوزاعى، وزفر، وأبى ثور. وقال الثورى، وأبى حنيفة وصاحباه: لا تقع الفرقة بينهما بتمام اللعان حتى يفرق بينهما الحاكم، وبه قال أحمد. وقال الشافعى: إذا أكمل الزوج اللعان وقعت الفرقة بينهما ولم يتوارثا ولو لم تكمل الفرقة ومات ورثه ابنه. واحتج الشافعى، فقال: لما كان التعان الزوج يسقط الحد وينفى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 475 الولد كان يقطع العصمة ويرفع الفراش؛ لأن المرأة لا مدخل لها فى الفراق وقطع للعصمة، ولا معنى لالتعان المرأة إلا فى درء الحد عنها. قال الطحاوى: وقول الشافعى خلاف القرآن، قال الله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم) [النور: 6] إلى آخر الآيات، وعلى قوله: ينبغى أن لا تلاعن المرأة وهى غير زوجة، وقد اتفقوا أنه من طلق امرأته وأبانها ثم قذفها أن لا تلاعن؛ لأنها ليست بزوجة كذلك لو بانت بلعان الزوج لم يجز لعان المرأة. وحجة الكوفيين أن الفرقة لا تقع إلا بتفريق الحاكم حديث ابن عمر أن النبى (صلى الله عليه وسلم) فرق بين المتلاعنين، فأضاف الفرقة إليه لا إلى اللعان، قالوا: فلما كان اللعان مفتقرًا إلى حضور الحاكم كان مفتقرًا إلى تفريقه بخلاف الطلاق قياسًا على العنين أنه لا يفرق بينه وبين امرأته إلا الحاكم، والحجة لمالك ومن وافقه حديث ابن عمر، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) فرق بين المتلاعنين بلعانهما جميعًا، فدل أن اللعان أوجب الفرقة التى قضى بها النبى (صلى الله عليه وسلم) عند فراغهما من اللعان، وقال: لا سبيل لك عليها إعلامًا منه أن اللعان رفع سبيله عليها، وليس تفريقه بينهما باستئناف حكم، وإنما كان تنفيذًا لما أوجب الله بينهما من المباعدة، وهو معنى اللعان فى اللغة. وإذا قيل: لاعن، فهى مفاعلة من اثنين، ولو كان النكاح بينهما باقيًا حتى يفرق الحاكم لكان إنما يفرق بين زوجين صحيح النكاح غير فاسد من غير سبب حدث من أجله فساده، فإن قال ذلك خرج من قول جميع الأمة وأجاز للحاكم التفريق بين من شاء من الأزواج من غير سبب حدث بينهما يبطل به نكاحهم، وقياسه على العنين خطأ؛ لأنه يجوز لها أن تراجع العنين إن رضيت به، ولا يجوز لها مراجعة الملاعن فافترقا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 476 قال ابن المنذر: وفى إجماعهم أن زوجة الملاعن لا تحل له بعد زوج إذا لم يكذب نفسه، دليل بين أن النكاح لو لم يكن منفسخًا باللعان، لكان طلاق العجلانى يقع عليها، وكانت تحل له بعد النكاح. وذكر جمهور العلماء أن المتلاعنين لا يتناكحان أبدًا، وإن أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد ولم ترجع إليه أبدًا. قال مالك: وعلى هذا السنة التى لا شك فيها ولا اختلاف، ذكر ابن المنذر، عن عطاء، أن الملاعن إذا أكذب نفسه بعد اللعان لم يحد. وقال: قد تفرقا بلعنة من الله. وقال أبو حنيفة ومحمد: إذا أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد، وكان خاطبًا من الخطاب إن شاء، وهو قول سعيد بن المسيب، والحسن، وسعيد بن جبير، وحجة هؤلاء الإجماع على أنه إن أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد، قالوا: فيعود النكاح حلالاً كما عاد الولد؛ لأنه لا فرق بين شىء من ذلك. وحجة الجماعة فى أنهما لا يجتمعان أبدًا أن النبى (صلى الله عليه وسلم) فرق بين المتلاعنين، وقال: لا سبيل لك عليها، ولم يقل له: إلا أن تكذب نفسك، فكان كالتحريم المؤبد فى الأمهات ومن ذكر معهن، وهذا شأن كل تحريم مطلق التأبيد، ألا ترى أن المطلق ثلاثًا لما لم يكن تحريمه تأبيدًا أوقع فيه الشرط بنكاح زوج غيره، ولو قال: فإن طلقها فلا تحل له، لكان تحريمًا مطلقًا لا تحل له أبدًا، وقد أطلق النبى (صلى الله عليه وسلم) التحريم فى الملاعنة، ولم يضمنه بوقت، فهو مؤبد، فإن أكذب نفسه لحق به الولد؛ لأنه حق جحده ثم عاد إلى الإقرار به، وليس كذلك النكاح؛ لأنه حق ثبت عليه بقوله: (لا سبيل لك عليها) ، فلا يتهيأ له إبطاله، وقد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 477 روى ابن إسحاق وجماعة عن الزهرى، قال: فمضت السنة بأنهما إذا تلاعنا فرق بينهما فلا يجتمعان أبدًا. 33 - بَاب يَلْحَقُ الْوَلَدُ بِالْمُلاعِنَةِ / 43 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) لاعَنَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ، فَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرأَةِ. أما قول ابن عمر: وأحلق الولد بالمرأة، فمعلوم أن الأم لا ينتفى عنها ولدها؛ لأنها ولدته ومعناه أنه لما انتفى عن أبيه بلعانها ألحقه بأمه خاصة، كأنه لا أب له، فلا يرث أباه ولا يرثه أبوه ولا أحد ينسبه، وإنما ينسب إلى عصبة أمه، وعلى هذا علماء الأمصار. وقيل: بل ألحقه بأمه، فجعل أمه له كأبيه وأمه، ولهذا الحديث، والله أعلم، اختلف العلماء فى ميراث ابن الملاعنة على ما نذكره فى كتاب الفرائض. قال الطبرى: وإنما يلحق ولد الملاعنة بأمه ولا يدعى لأب ما دام الملاعن مقيمًا على نفيه عن نفسه بعد الالتعان فأما إن هو أقر به يومًا، فإنه يلحق به نسبه، وهذا إجماع من العلماء. 34 - بَاب إِذَا طَلَّقَهَا ثَلاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ زَوْجًا غَيْرَهُ فَلَمْ يَمَسَّهَا / 44 - فيه: عَائِشَة، أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِىَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 478 فَأَتَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّهُ لا يَأْتِيهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلا مِثْلُ هُدْبَةٍ، فَقَالَ: (لا، حَتَّى تَذُوقِى عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ) . فى هذا الحديث من الفقه: أن المطلقة ثلاثًا لا تحل لزوجها إلا بطلاق زوج قد وطئها، ومعنى ذوق العسيلة هو الوطء. قال ابن المنذر: وعلى هذا جماعة العلماء، إلا سعيد بن المسيب. قال: أما الناس فيقولون: لا تحل للأول حتى يجامعها الثانى، وأنا أقول: إذا تزوجها تزويجًا صحيحًا لا يريد بذلك إحلالها، فلا بأس أن يتزوجها الأول، وهذا قول لا نعلم أحدًا من أهل العلم وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج، والسنة مستغنى بها عما سواها. قال غيره: وأظنه لم يبلغه حديث العسيلة، فأخذ بظاهر من القرآن، وهو قوله: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره فإن طلقها (، يعنى الثانى،) فلا جناح عليهما أن يتراجعا) [البقرة: 230] ، وليس فى القرآن ذكر مسيس فى هذا الموضع، وغابت عنه السنة فى ذلك، وكذلك شذ عنه الحسن البصرى، فقال: لا تحل للأول حتى يطأها الثانى وطئًا فيه إنزال، وقال: معنى العسيلة الإنزال، وخالفه سائر الفقهاء، وقالوا: التقاء الختانين يحلها للزوج الأول، وقالوا: ما يوجب الحد والغسل ويفسد الصوم والحج ويحصن الزوجين، ويوجب كمال الصداق يحل المطلقة، والعسيلة كناية عن اللذة. قال ابن المنذر: وقد اعتل بعض أهل العلم بقوله: (حتى تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك) ، أن الزوج الثانى إن أتاها نائمة أو مغمى عليها لا تشعر، أنها لا تحل للزوج الأول حتى يذوقا جميعًا العسيلة، إذ غير جائز أن يسوى بينهما، عليه السلام، فى ذوق العسيلة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 479 وتحل بأن يذوقها أحدهما، وهذا قول على، وابن عباس، وجابر، وعائشة، وابن عمر، وهو قول جماعة العلماء، ولا خلاف فى ذلك إلا ما روى عن ابن المسيب. وقوله فى هذا الحديث: (أو يذوق عسيلتك) ، لا يوجب ذوق أحدهما للعسيلة دون صاحبه، و (أو) هاهنا بمعنى الواو، وذلك مشهور فى لغة العرب، وقد بين ذلك رواية من روى: (ويذوق عسيلتك) ، ذكره فى باب من أجاز طلاق الثلاث، وفى باب من قال لامرأته: أنت علىّ حرام. واختلفوا فى صفة الوطء الذى يحل المطلقة ثلاثًا، فقال مالك: لا يحلها إلا الوطء المباح، فإن وقع الوطء فى صوم أو اعتكاف أو حيض أو نفاس، لم تحل المطلقة ثلاثًا، ولا يحل الذمية عنده وطء الذمى ولا الصبى إذا لم يكن بالغًا. وقال الكوفيون، والأوزاعى، والشافعى: يحلها وطء كل زوج بنكاح صحيح، وكذلك لو أصابها محرمة أو صائمة أو حائضًا أو وطئها مراهق لم يحتلم تحل بذلك كله، وتحل الذمية للمسلم بوطء زوج ذمى، وبهذا كله قال ابن الماجشون وبعض المدنيين؛ لأنه زوج. واختلفوا فى عقد نكاح المحلل، فقال مالك: لا يحلها إلا نكاح رغبة، وإن قصد التحليل لم يحلها، وسواء علم ذلك الزوجان أو لم يعلما لا تحل ويفسخ قبل الدخول وبعده، وهذا قول الليث، والثورى، والأوزاعى، وأحمد. وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعى: النكاح جائز، وله أن يقيم على نكاحه، وهو قول عطاء والحكم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 480 وقال القاسم، وسالم، وعروة، والشعبى: لا بأس أن يتزوجها ليحللها إذا لم يعلم بذلك الزوجان، وهو مأجور بذلك، وهو قول ربيعة، ويحيى بن سعيد. والحجة لمالك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لعن المحلل والمحلل له من حديث على، وابن مسعود، وعقبة ابن عامر، وفى حديث عقبة: (ألا أدلكم على التيس المستعار) ، وهو المحلل ولا فائدة للعنة إلا إفساد النكاح والتحذير منه، وقد سئل ابن عمر عن نكاح المحلل، فقال: ذلك السفاح. واحتج الكوفيون بعموم قوله تعالى: (حتى تنكح زوجًا غيره) [البقرة: 230] ، وقد وجد الشرط وعقد الثانى على شرائطه بعد تحليلها للأول، فلا فرق بين أن ينوى التحليل أم لا، قالوا: ألا ترى أن عقد النكاح يبيح الوطء ويوجب الصداق والنفقة وتحليل الطلاق، ولا فرق بين أن ينوى ذلك، فيقول: أنكح لأطأ، وبين أن لا ينوى ذلك. وفى هذا الحديث دليل على أن للمرأة المطالبة بحقها من الجماع وأن لها أن تدعو إلى فسخ النكاح، وذلك أنها إذا ادعت بهذا القول العُنَّة، ولم ترد أن ذلك منه فى رقة الهدبة إنما أرادت أنه كالهدبة ضعفًا واسترخاء، وقد بان ذلك فى رواية أيوب، عن عكرمة، أنها قالت: والله ما لى إليه من ذنب إلا أن ما معه ليس بأغنى عنى من هذه، وأخذت هدبة من ثوبها، فقالت: كذبت يا رسول الله، إنى لأنفضها نفض الأديم. وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم فى الرجل ينكح المرأة، ثم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 481 تطالبه بالجماع، فقال كثير من أهل العلم: إذا وطئها مرة لم يؤجل أجل العنين، روى هذا عن عطاء، وطاوس، والحسن، والزهرى، وهو قول مالك، والأوزاعى، وأبى حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وحكى أبو ثور عن بعض أهل الأثر أنه كلما أمسك عنها أجل لها سنة؛ لأنه ليس لها فيما مضى من جماعها مقنع. وقال أبو ثور: إذا غشيها مرة واحدة ثم أمسك، فإن رافعته أجل لها سنة، وذلك أن العلة التى فى العنين قد صارت فيه، ولست أنظر فى هذا إلى أول النكاح ولا آخره إذا كانت العلة موجودة، وذلك أن من حقوقها الجماع، فمتى كان المنع لعلة كان حكمه حكم العنين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 482 بسم الله الرحمن الرحيم 50 - كتاب العدة - بَاب قوله: (وَاللائِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ) [الطلاق: 4] قَالَ مُجَاهِدٌ: وَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا يَحِضْنَ أَوْ لا يَحِضْنَ، وَاللائِى قَعَدْنَ عَنِ الْمَحِيضِ: (وَاللائِى لَمْ يَحِضْنَ () فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) [الطلاق: 4] . وقوله: (وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) [الطلاق: 4] / 1 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ سُبَيْعَةُ، كَانَتْ تَحْتَ زَوْجِهَا، تُوُفِّىَ عَنْهَا، وَهِىَ حُبْلَى، فَخَطَبَهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ، فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا يَصْلُحُ أَنْ تَنْكِحِيهِ حَتَّى تَعْتَدِّى آخِرَ الأجَلَيْنِ، فَمَكُثَتْ قَرِيبًا مِنْ عَشْرِ لَيَالٍ، ثُمَّ جَاءَتِ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ: (انْكِحِى) . وكَتَبَ ابْنِ الأرْقَمِ إِلَى سُبَيْعَة: كَيْفَ أَفْتَاهَا النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام؟ فَقَالَتْ: أَفْتَانِى إِذَا وَضَعْتُ حملى أَنْ أَنْكِحَ. أجمع العلماء أن عدة اليائسة من المحيض لكبر ثلاثة أشهر، وأن عدة التى لم تحض لصغر ثلاثة أشهر. واختلفوا إذا ارتفعت حيضة المرأة الشابة التى يمكن مثلها أن تحيض، فروى عن عمر أنه قال: أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين، ثم رفعتها حيضتها أنها تنتظر تسعة أشهر، فإن بان بها حمل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 483 وإلا اعتدت بعد التسعة الأشهر ثلاثة أشهر ثم حلت. وروى مثله عن ابن عباس، قال: عدة المرتابة سنة، وروى عن الحسن البصرى، وهو قول مالك، والأوزاعى. وروى ابن القاسم عن مالك أنها تعتد من يوم رفعتها حيضتها لا من يوم طلقت تنتظر تسعة أشهر، فإن لم تحض فيهن اعتدت ثلاثة أشهر، فإن حاضت قبل أن تستكمل الثلاثة أشهر استقبلت الحيض. وقال الأوزاعى: إذا طلق امرأته وهى شابة فارتفعت حيضتها، فلم تر شيئًا ثلاثة أشهر فإنها تعتد سنة. وقال أبو حنيفة، والثورى، والليث، والشافعى، فى التى ترتفع حيضتها وهى غير يائسة: أن عدتها الحيض أبدًا، وإن تباعد ما بين الحيضتين حتى تدخل فى السن التى لا يحيض فى مثله أهلها من النساء، وتستأنف عدة اليائسة ثلاثة أشهر، روى هذا عن ابن مسعود، وزيد بن ثابت. وأخذ مالك فى ذلك بقول ابن عمر، وهو الذى رأى عليه الفتوى والعمل بالمدينة، وأخذ الكوفيون بظاهر القرآن، وظاهر القرآن لا مدخل فيه لذوات الأقراء فى الاعتداد بالأشهر، وإنما تعتد بالأشهر اليائسة والصغيرة، فمن لم تكن يائسة ولا صغيرة فعدتها الأقراء وإن تباعدت. وحجة مالك أن المرتابة تعتد بالأشهر؛ لأن فى ذلك يظهر حملها على كل حال، فلا يمكن أن يستمر الحمل فى الشهر التاسع، فإذا استوقن أن لا حمل فى هذه المدة، قيل: قد علمنا أنك لست مرتابة، ولا من ذوات الأقراء، فاستأنفى ثلاثة أشهر كما قال الله تعالى فيمن لسن من ذوات القراء قياسًا على أن العدة بالشهور الجزء: 7 ¦ الصفحة: 484 لصغر إذا حاضت قبل تمام الثلاثة الأشهر علم أنها من ذوات القراء، فقيل لها: استأنفى الأقراء. وأما قوله تعالى: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) [الطلاق: 4] ، فإن إسماعيل بن إسحاق قال: قال أكثر العلماء: والذى مضى عليه العمل أنها إذا وضعت حملها فقد انقضت عدتها، وذهبوا إلى أن الآية قد عمت كل معتدة من طلاق أو وفاة إذ جاءت مجملة لم يذكر فيها أنها للمطلقة خاصة ولا للمتوفى عنها زوجها خاصة، فكانت عامة فى كل معتدة، فوجب أن تكون الأقراء والشهور الثلاثة للمطلقة إذا لم تكن حاملاً على ما جاء فيها من النص، ووجب أن تكون الأربعة الأشهر والعشر للمتوفى عنها إذا لم تكن حاملاً، ووجب أن تكون كل ذات حمل مات عنها زوجها أو طلقها، فأجلها أن تضع حملها. قال غيره: وجاء حديث سبيعة شاهدًا لصحة هذا القول، وعليه العلماء بالحجاز، والعراق، والشام، لا أعلم فيه مخالفًا من السلف إلا ابن عباس، ورواية عن على فإنهما قالا فى المتوفى عنها زوجها: عدتها آخر الأجلين أربعة أشهر وعشرًا أو الوضع. وقال ابن مسعود: لما بلغه قول على فى ذلك من شاء لاعنته بأن هذه الآية التى فى سورة النساء القصرى: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) [الطلاق: 4] ، نزلت بعد التى فى البقرة: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا) [البقرة: 234] ، ولولا حديث سبيعة، وهذا البيان من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى هاتين الآيتين لكان القول ما قاله على، وابن عباس؛ لأنهما عدتان مجتمعتان، فلا يخرج منهما إلا بيقين، واليقين فى ذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 485 آخر الأجلين، ألا ترى إلى قول فقهاء الحجاز والعراق فى أم الولد يموت عنها زوجها ويموت سيدها، ولا تدرى أيهما مات أولاً أن عليها عدتين أربعة أشهر وعشرًا فيها حيضة عند الشافعى، وذلك لها آخر الأجلين. وعند أبى حنيفة لا حيضة فيها، وعند أبى يوسف ومحمد فيها ثلاث حيض، إلا أن السنة وردت من ذلك فى الحامل المتوفى عنها فى سبيعة، ولو بلغت السنة عليا ما تركها، وأما ابن عباس، فقد روى عنه أنه رجع إلى حديث سبيعة بعد المنازعة منه، ويصحح ذلك أن أصحابه عطاء، وعكرمة، وجابر بن زيد يقولون: إنها إذا وضعت حملها فقد حلت، ولو وضعت بعد موته بساعة. - بَاب قوله تَعَالَى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة: 228] وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ فِيمَنْ تَزَوَّجَ فِى الْعِدَّةِ فَحَاضَتْ عِنْدَهُ ثَلاثَ حِيَضٍ: بَانَتْ مِنَ الأوَّلِ، وَلا تَحْتَسِبُ بِهِ لِمَنْ بَعْدَهُ. وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: تَحْتَسِبُ به، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَى سُفْيَانَ - يَعْنِى قَوْلَ الزُّهْرِىِّ - وَقَالَ مَعْمَرٌ: يُقَالُ: أَقْرَأَتِ الْمَرْأَةُ، إِذَا دَنَا حَيْضُهَا، وَأَقْرَأَتْ إِذَا دَنَا طُهْرُهَا. وَيُقَالُ: مَا قَرَأَتْ بِسَلًى قَطُّ إِذَا لَمْ تَجْمَعْ وَلَدًا فِى بَطْنِهَا. اختلف العلماء فى الأقراء التى تجب على المرأة إذا طلقت ما هى؟ والوقت الذى تبين فيه المطلقة من زوجها حتى لا يكون له عليها رجعة، فقالت طائفة: هو أحق بها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، هذا قول ابن عمر، وعلى، وابن مسعود، وروى ذلك عن أبى بكر الصديق، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 486 وعثمان، وأبى موسى، وعبادة بن الصامت، وأبى الدرداء، وإليه ذهب الثورى، وإسحاق، وأبو عبيد. وفيها قول ثان: أنه أحق بها ما كانت فى الدم، روى ذلك عن طاوس، وسعيد بن جبير، وهذا على مذهب من يقول: الأقراء الحيض، ومن قال: الأقراء الأطهار، يرى له الرجعة ما لم يكن أول الدم من الحيضة الثالثة إذا طلقها وهى طاهر، هذا قول مالك، والشافعى، وأبى ثور، وممن قال: إن الأقراء الأطهار من السلف، زيد بن ثابت، وابن عمر، وعائشة، والقاسم، وسالم. وقال أبو بكر بن عبد الرحمن: ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا يقول بقول عائشة، ولم يختلف أهل اللغة أن العرب تسمى الحيض قرءًا، وتسمى الطهر قرءًا، وتسمى الوقت الذى يجمع الحيض والطهر قرءًا، فلما احتملت اللفظة هذه الوجوه فى اللغة وجب أن يطلب الدليل على مراد الله بقوله: (ثلاثة قروء) [البقرة: 228] ، فوجدنا الدليل على أن الأقراء الأطهار حديث ابن عمر، وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما أمره أن يطلقها فى الطهر، وجعل العدة بقوله، عليه السلام: (فتلك العدة التى أمر الله أن تطلق لها النساء) ، ونهاه أن يطلق فى الحيض، وأخرجه من أن تكون عدة، ثبت أن الأقراء الأطهار. فإن قال الكوفيون: الدليل على الأقراء الحيض قوله، عليه السلام: (اقعدى أيام أقرائك) ، أى حيضتك؛ لأنه لا يأمر بترك الصلاة أيام الطهر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 487 قيل لهم: ليس فى هذا أكثر من أن القرء اسم يصلح للحيض كما يصلح للطهر، ونحن لا نمتنع من هذا، وإنما نطلب ترجيح قولنا، وذلك أن قوله: (دعى الصلاة أيام أقرائك) ، هو خطاب للمستحاضة أن تترك الصلاة عند إقبال دم حيضتها، ولا خلاف فى ذلك، وحديث ابن عمر الأقراء فيه الأطهار، يدل على أن الأقراء المعتد بها الأطهار، وأن أقراء المستحاضة إقبال الدم، فلا تضر رواية من روى: (دعى الصلاة أيام أقرائك) ؛ لأنهما مسألتان مختلفتان، مسألة عدة، ومسألة صلاة. فإن قالوا: إطلاق اسم القروء ينطلق على الحيض؛ لأنها إنما تسمى من ذوات الأقراء إذا حاضت. فالجواب: أن اسم القرء للطهر الذى ينتقل إلى الحيض، ولا نقول: أنه اسم للطهر المحض، فإنما لم نقل هى من ذوات الأقراء إذا لم تحض؛ لأنه طهر لم يتعقبه حيض، فإذا حاضت فقد وجد طهر يتعقبه حيض. وقد اختلف الصحابة فى هذه المسألة، فينبغى أن يقدم قول عائشة وابن عمر؛ لأن عائشة أعرف بحال الحيض؛ لما تختص به من حال النساء وقربها من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وكذلك ابن عمر؛ لأنه قد عرف الطلاق فى الحيض وما أصابه فيه، فهو أعلم به من غيره، وعلى أن الطريق إلى ما ذكره عن الصحابة غير ثابت. وأما قول النخعى: من تزوج فى العدة فحضات عنده ثلاث حيض بانت من الأول ولا تحتسب به، يعنى بالحيض لا يكون عدة للثانى؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 488 لأن العلماء مجمعون على أن الناكح فى العدة يفسخ نكاحه ويفرق بينه وبينها، وهذه مسألة اجتماع العدتين. واختلف العلماء فيها، فروى المدنيون عن مالك: إن كانت حاضت حيضة أو حيضتين من الأول أنها تتم بقية عدتها منه، ثم تستأنف عدة أخرى من الآخر على ما روى عن عمر ابن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وهو قول الليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وروى ابن القاسم، عن مالك، أن عدة واحدة تكون لهما، سواء كانت العدة بالحمل أو الحيض أو الشهور، وهو قول الأوزاعى، والثورى، وأبى حنيفة وأصحابه. والحجة لرواية ابن القاسم، عن مالك، إجماعهم أن الأول لا ينكحها فى بقية العدة من الثانى، فدل على أنها فى عدة من الثانى، ولولا ذلك لنكحها فى عدتها منه. ووجه الرواية الأخرى أنهما حقان قد وجبا عليها لزوجين كسائر الحقوق لا يدخل أحدهما فى صاحبه. قال الأصمعى: هو قرء، بضم القاف. وقال أبو زيد: هو قرء، بفتح القاف، وكلاهما قال: أقرأت المرأة. 3 - بَاب قِصَّةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ وَقَوْلِ اللَّهِ: (وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ) [الطلاق 1] الآية وقوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) [الطلاق: 6] الآية / 2 - فيه: أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدِ طَلَّقَ بِنْتَ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ، فَانْتَقَلَهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 489 عَبْدُالرَّحْمَنِ، فَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ إِلَى مَرْوَانَ - وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ - اتَّقِ اللَّهَ وَارْدُدْهَا إِلَى بَيْتِهَا. قَالَ مَرْوَانُ فِى حَدِيثِ سُلَيْمَانَ: إِنَّ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الْحَكَمِ غَلَبَنِى، وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: أَوَمَا بَلَغَكِ شَأْنُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ؟ قَالَتْ: لا يَضُرُّكَ أَنْ لا تَذْكُرَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ. فَقَالَ مَرْوَانُ: إِنْ كَانَ بِكِ شَرٌّ، فَحَسْبُكِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ مِنَ الشَّرِّ. / 3 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: مَا لِفَاطِمَةَ؟ أَلا تَتَّقِى اللَّهَ - يَعْنِى فِى قَوْلِهَا: لا سُكْنَى وَلا نَفَقَةَ. / 4 - وقَالَ عُرْوَةُ لِعَائِشَةَ: أَلَمْ تَرَىْ إِلَى فُلانَةَ بِنْتِ الْحَكَمِ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا الْبَتَّةَ فَخَرَجَتْ، فَقَالَتْ: بِئْسَ مَا صَنَعَتْ، قَالَ: أَلَمْ تَسْمَعِى فِى قَوْلِ فَاطِمَةَ؟ قَالَتْ: أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ لَهَا خَيْرٌ فِى ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ. قال ابن المنذر: اختلف العلماء فى خروج المبتوتة بالطلاق من بيتها فى عدتها، فمنعت من ذلك طائفة، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، وعائشة أم المؤمنين. ورأى سعيد بن المسيب، والقاسم، وسالم، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار، أن تعتد فى بيت زوجها حيث طلقها، وحكى أبو عبيد هذا القول عن مالك، والكوفيين، والثورى أنهم كانوا يرون أن لا تبين المبتوتة والمتوفى عنها زوجها إلا فى بيتها. وفيها قول آخر: أن المبتوتة تعتد حيث شاءت، روى ذلك عن ابن عباس، وجابر، وعطاء، وطاوس، والحسن، وعكرمة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 490 وقال أحمد وإسحاق: تخرج المطلقة ثلاثًا على حديث فاطمة: ولا سكنى لها ولا نفقة. قال ابن المنذر: واختلف أهل العلم فى خروج المطلقة ثلاثًا من بيتها أو مطلقة لا رجعة للزوج عليها، فأما من له عليها رجعة، فتلك فى معانى الأزواج، وكل من أحفظ عنه العلم يرى لزوجها منعها من الخروج حتى تنقضى عدتها لقوله: (ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) [الطلاق: 1] . وكان مالك يقول فى المتوفى عنها زوجها: تزور وتقيم إلى قدر ما يهدأ الناس بعد العشاء، ثم تنقلب إلى بيتها، وهو قول الليث، والثورى، والشافعى، وأحمد. وقال أبو حنيفة: تخرج المتوفى عنها نهارًا ولا تبيت إلا فى بيتها، ولا تخرج المطلقة ليلاً ولا نهارًا، وفرقوا بينهما، فقالوا: المطلقة لها السكنى عندنا، والنفقة فى عدتها على زوجها، فذلك يغنيها عن الخروج، والمتوفى عنها لا نفقة لها، فلها أن تخرج فى بياض نهارها وتبتغى من فضل ربها. وقال محمد: لا تخرج المطلقة ولا المتوفى عنها ليلاً ولا نهارًا فى العدة. وقالت طائفة: المتوفى عنها تعتد حيث شاءت، روى هذا عن على بن أبى طالب، وابن عباس، وجابر، وعائشة، وعن عطاء، والحسن البصرى. وقال ابن عباس: إنما قال الله: تعتد أربعة أشهر وعشرًا، ولم يقل: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 491 تعتد فى بيتها، فتعتد حيث شاءت، وأجمع العلماء أن المطلقة التى يملك زوجها رجعتها لها السكنى والنفقة إذ حكمها حكم الزوجات فى جميع أمورها. واختلفوا فى وجوب النفقة والسكنى للمطلقة ثلاثًا إذا لم تكن حبلى، فقالت طائفة: لا سكنى لها ولا نفقة، على نص حديث فاطمة بنت قيس، روى هذا القول عن على، وابن عباس، وجابر، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وقالت طائفة: للمبتوتة السكنى ولا نفقة لها، روى هذا عن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعطاء، والشعبى، والحسن، وهو قول مالك، وابن أبى ليلى، والليث، والأوزاعى، والشافعى. وقالت طائفة: لكل مطلقة السكنى والنفقة مادامت فى العدة، حاملاً كانت أو غير حامل، مبتوتة كانت أو رجعية، هذا قول الثورى، والكوفيين، وروى عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، واحتج الكوفيون بأن عمر بن الخطاب، وعائشة، وأسامة بن زيد، ردوا حديث فاطمة بنت قيس وأنكروه عليها، وأخذوا فى ذلك بما رواه الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر بن الخطاب، أنه قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة وهمت أو نسيت. وكان عمر يجعل لها النفقة والسكنى، وقالوا: ما احتج به عمر فى دفع حديث فاطمة حجة صحيحة، وذلك أن الله قال: (يا أيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) [الطلاق: 1] ، ثم قال: (لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا) [الطلاق: 1] ، وأجمعوا أن الأمر إنما هو الرجعة، ثم قال تعالى: (اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) [الطلاق: 6] ، ثم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 492 قال: (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن) [الطلاق: 1] ، يريد فى العدة. فكانت المرأة إذا طلقها زوجها اثنتين للسنة ثم راجعها كما أمره الله، ثم طلقها أخرى للسنة حرمت عليه، ووجب عليها العدة التى جعل لها فيها السكنى، وأمرها فيها أن لا تخرج، وأمر الزوج أن لا يخرجها، ولم يفرق الله بين هذه المطلقة للسنة التى لا رجعة فيها، وبين المطلقة للسنة التى عليها الرجعة. فلما جاءت فاطمة بنت قيس، فروت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما السكنى والنفقة لمن كانت عليها الرجعة، خالفت بذلك كتاب الله نصًا؛ لأن كتاب الله قد جعل السكنى لمن لا رجعة عليها، وخالفت سنة النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن عمر قد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) خلاف ما روت، فخرج المعنى الذى منه أنكر عمر عليها ما أنكر خروجًا صحيحًا، وبطل حديث فاطمة، فلم يجب العمل به أصلاً لما بينا. قال الكوفيون: إن السكنى تتبع النفقة، وتجب بوجوبها، وتسقط بسقوطها، فقال لهم أصحاب مالك: السكنى التى فى حال الزوجية هى تتبع النفقة من أجل التمكن من الاستمتاع، فلا يجوز أن تسقط إحداهما وتجب الأخرى، والسكنى التى بعد البينونة حق الله، فلا تتبعها النفقة، ألا ترى أنهما لو اتفقا على سقوطها لم يجز أن تعتد فى غير منزل الزوج الذى طلق فيه، وفى الزوجية يجوز أن ينقلها إلى حيث شاء، وبعد الطلاق ليس كذلك. وقال الذين منعوا السكنى والنفقة وأخذوا بحديث فاطمة: إن عمر إنما أنكر عليها لأنها خالفت عنده كتاب الله، يريد قوله: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) [الطلاق: 6] ، وهذا إنما هو فى المطلقة الرجعية، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 493 وفاطمة كانت مبتوتة لا رجعة لزوجها عليها، وقد قالت: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لها: (إنما النفقة والسكنى لمن كانت عليها الرجعة) ، وفاطمة لم يكن لزوجها عليها رجعة، فما روت من ذلك فلا يدفعه كتاب الله ولا سنة نبيه، فإن كان عمر، وعائشة، وأسامة أنكروا على فاطمة ما روت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وقالوا بخلافه، فقد تابع فاطمة على ذلك على، وابن عباس، وجابر، وحديث الشعبى بين فى ذلك. روى هشيم، قال: حدثنا مغيرة، وحصين، وإسماعيل بن أبى خالد، ومجالد، عن الشعبى، قال: دخلت على فاطمة بنت قيس، فسألتها عن قضاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى السكنى والنفقة، فقالت: طلقنى زوجى البتة، فخاصمته إلى النبى، عليه السلام، فى السكنى والنفقة، فلم يجعل لى سكنى ولا نفقة، وأمرنى أن أعتد فى بيت ابن أم مكتوم، وقال مجالد فى حديثه: (إنما السكنى والنفقة لمن كانت له الرجعة) . واحتج الذين قالوا بالسكنى، ولم يوجبوا النفقة، فقالوا: حديث الشعبى عندنا غلط؛ لأنه قد روى عن الشعبى أنه جعل للمبتوتة السكنى، وقال بعضهم: السكنى والنفقة. وقال إسماعيل بن إسحاق: حدثنا ابن أبى شيبة، حدثنا حميد، عن حسين بن صالح، عن السدى، عن إبراهيم والشعبى فى المطلقة ثلاثًا، قالا: لها السكنى والنفقة، وهذا يوهن رواية الشعبى. وقال ابن إسحاق: كنت مع الأسود بن يزيد فى المسجد الجامع ومعنا الشعبى، فحدثنا بحديث فاطمة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، فأخذ الأسود كفًا من حصا فحصبه، وقال: ويحك، أتحدث بها أنت عمر بن الخطاب. قال إسماعيل: فلعل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 494 الشعبى أفتى بخلاف ما روى عن فاطمة بنت قيس، لما روى من إنكار الناس عليه. وروى أبو عوانة، عن منصور، عن إبراهيم، قال فى المطلقة ثلاثًا: لها السكنى والنفقة، ولا يجبر على النفقة. قال إسماعيل: فلخص منصور فى روايته شيئًا يدل على ضبطه، وبين أن إبراهيم إنما أراد إثبات السكنى دون النفقة، وإسقاط السكنى هو الذى أنكر على فاطمة بنت قيس، وكذلك أنكرت عليها عائشة إطلاق اللفظ وكتمان السبب الذى من أجله أباح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خروجها من منزل الزوج، فقالت: اتق الله ولا تكتمى السر الذى من أجله نقلك، وذلك أنها كانت فى لسانها ذرابة، فاستطالت على أحمائها، أهل زوجها، فلهذا نقلها لا أنه لا سكنى لها، والمرأة عندنا إذا آذت أهل زوجها جاز نقلها من ذلك الموضع، فدل أن عائشة علمت معنى ما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاطمة، ولم يكن قولها شيئًا قالته برأيها. ألا ترى قولها لمروان: دع عنك حديث فاطمة، فإن لها شأنًا، وقالت: ألا تتقى الله فاطمة، علمت يقينًا أنها عرفت كيف كانت، وقول مروان لعائشة: إن كان بك الشر فحسبك ما بين هذين من الشر، يدل أن فاطمة إنما أمرت بالتحويل إلى الموضع الذى أمرت به لشر كان بينها وبينهم، وإذا كان الشر والشفاق واقعًا بين الزوجين، جاز للحاكم أن يبعث إليها بحكمين يكون لهما الجمع بينهم والفرقة، فكان تحويل المعتدة من مسكن إلى مسكن إذا وقع الشر أحرى أن يجوز. وقد روى فى قول الله: (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 495 إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) [الطلاق: 1] أحاديث، فمنهم من ذهب إلى أن الفاحشة البذاء وسوء الخلق، وهذا يشبه قول مروان: وإن كان بك الشر فحسبك ما بين هذين من الشر، وقد روى غير ذلك على ما يأتى ذكره فى الباب بعد هذا إن شاء الله. قال المهلب: فى إنكار عائشة على فاطمة فتياها بما أباح لها النبى (صلى الله عليه وسلم) من الانتقال وترك السكنى، ولم تخبر بالعلة. فيه من الفقه: أن الرجل العالم لا يجب أن يفتى فى المسألة إذا لم يعرف معناها، كما لم تعرف فاطمة الوجه الذى أباح لها النبى (صلى الله عليه وسلم) إخراجها من أجله من مسكنها، فتوهمت أنه ليس لها بهذا سكنى. واحتج الذين قالوا بوجوب السكنى وإبطال النفقة بقوله تعالى: (أسكنوهن من حيث سكنتم (إلى قوله: (فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) [الطلاق: 6] ، قالوا: فلو كانت النفقة تجب كما تجب السكنى لما كان لاختصاص النفقة للحامل معنى، فلما وقع الاختصاص وجب أنه لا نفقة للمرأة إذا لم تكن حاملاً، ووجب أيضًا أن يعلم أن هذه المرأة ليست التى يملك زوجها رجعتها؛ لأن التى يملك زوجها رجعتها نفقتها واجبة عليه، كانت حاملاً أو غير حامل على الأصل التى كانت عليه قبل الطلاق. واحتيج إلى ذكر السكنى فى قوله تعالى: (أسكنوهن من حيث سكنتم) [الطلاق: 6] ؛ لأن المبتوتة قد وجدت فى طلاقها ما خرجت به عن أحكام الزوجات كلها الوارثة وغيرها، فأعيد ذكر السكنى من طريق التحصين لها ما دامت فى عدتها وأجريت مجرى التى قبلها، وأسقطت عنها النفقة التى كانت تجب لها قبل أن تبين من زوجها، ولم يجعل لها ذلك فى عدتها إلا أن تكون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 496 حاملاً، فيجب عليه حينئذ أن يغذو ولده بغذاء أمه، كما يجب عليه إذا وضعت وقد انقضت عدتها أن يغذو ولده بغذاء التى ترضعه، فكما وجب على الأب أن ينفق على من ترضعه، وجب عليه أن ينفق على أمه مادام فى بطنها، فدل هذا كله أنها إذا لم تكن حاملاً فلا نفقة عليها، وسيأتى اختلاف العلماء فى السكنى للمتوفى عنها بعد هذا إن شاء الله. 4 - بَاب الْمُطَلَّقَةِ إِذَا خُشِىَ عَلَيْهَا فِى مَسْكَنِ زَوْجِهَا أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيْهَا أَوْ تَبْذُوَ عَلَى أَهْلِه بِفَاحِشَةٍ / 5 - فيه: عَائِشَةَ أنها أَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَلَى فَاطِمَةَ. وَزَادَ ابْنُ أَبِى الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامٍ بْن عروة، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: عَابَتْ عَائِشَةُ أَشَدَّ الْعَيْبِ، وَقَالَتْ: إِنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ فِى مَكَانٍ وَحْش، فَخِيفَ عَلَى نَاحِيَتِهَا، وَلِذَلِكَ أَرْخَصَ لَهَا رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) . وفى حديث أبى الزناد: أن خروج فاطمة بنت قيس من بيت زوجها ولم تعتد فيه، لأنه كان فى مكان وحش، فخشى عليها فيه. ولم يذكر البخارى ما شرط فى الترجمة من البذاء، وقد روى عن عائشة أنها قالت لفاطمة بنت قيس: إنما أخرجك هذا اللسان، وذكره إسماعيل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن عائشة. وقد روى مثل هذا عن ابن عباس، قال: الفاحشة المبينة النشوز وسوء الخلق، وأن تبذو عليهم، فإذا بذت فقد حل لهم إخراجها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 497 وقال عكرمة: كان ابن عباس يقرأ بقراءة أبى بن كعب: إلا أن تفحش عليكم. وروى الحارث بن أبى أسامة، عن يزيد بن هارون، عن عمرو بن ميمون بن مهران، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب، أن فاطمة استطالت على أحمائها وآذتهم بلسانها. وروى عن ابن عمر، أنه قال: خروجهن من بيوتهن فاحشة، وهو قول الشعبى، وروى عن ابن عباس: (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) [الطلاق: 1] ، قال: الزنا، قال: فإذا زنت أخرجت فأقيم عليها الحد، وهو قول زيد بن أسلم. قال إسماعيل بن إسحاق: ذهب كل واحد من هؤلاء إلى غير مذهب صاحبه، غير أنه إذا قيل: فاحشة مبينة، دل أنه شىء يكون بعضه أبين من بعض، وأما الزنا وغيره من الحدود، فإنما هو حد محدود إذا بلغه الإنسان كان زانيًا، وأما غير ذلك من الشر الذى يقع بين الرجل وامرأته، فإن بعضه أكثر من بعض، ونحتاج فيه إلى اجتهاد الرأى، فإن كان شرًا لا يطمع فى صلاحه بينهم انتقلت المرأة إلى مسكن غيره، وأما الزنا فليس فيه اجتهاد رأى. وأما من قال: إن خروجها فاحشة، فهو جائز فى كلام العرب، غير أن الأظهر أن خروجها غير الفاحشة، والله أعلم بما أراد من ذلك، وليس يمكن للإنسان أن يوجب قولاً يزعم أنه الصواب دون غيره، وإن كان ما حكى من قراءة أبى بن كعب محفوظًا فهو حجة قوية. وما رواه البخارى، عن عائشة أنها كانت فى مكان وحش، فخيف عليها، فيشبه قول مالك وغيره فى البدوية المعتدة أنها تتبوأ مع أهلها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 498 حيث تبوءوا. قال المهلب: وإن صحت الروية أنها أخرجت من أجل البذاء، ففيه دليل أنه يجوز إخراج الرجل البذى المؤذى لجيرانه بأذاه وتباع الدار عليه ويسقط حق سكناه. 5 - بَاب قوله تَعَالَى: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ) [البقرة: 228] يريد مِنَ الحمل الْحَيْضِ / 6 - فيه: عَائِشَةَ، لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَنْفِرَ إِذَا صَفِيَّةُ عَلَى بَابِ خِبَائِهَا كَئِيبَة، فَقَالَ لَهَا: عَقْرَى - أَوْ حَلْقَى - إِنَّكِ لَحَابِسَتُنَا؟ أَكُنْتِ أَفَضْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: فَانْفِرِى إِذًا. وروى عن السلف فى تفسير هذه الآية، قال أبى بن كعب: إن من الأمانة أن المرأة ائتمنت على فرجها. وقال ابن عباس، وابن عمر: لا يحل لها إن كانت حاملاً أن تكتم حملها، ولا يحل لها إن كانت حائضًا أن تكتم حيضها، يعنى المطلقة. قال ابن شهاب: لتنقضى العدة، فلا يملك الزوج الرجعة إذا كانت له. قال مجاهد: وذلك كله فى بغض المرأة زوجها وجيه. وقال قتادة: فكانت المرأة تكتم حملها، فتذهب به إلى أجل آخر مخافة الرجعة، فنهى الله عن ذلك، وتقدم فيه. قال إسماعيل بن إسحاق: وهذه الآية تدل أن المرأة المعتدة مؤتمنة على رحمها من الحيض والحمل، فإن قالت: قد حضت، كانت مصدقة، وإن قالت: قد ولدت، كانت مصدقة، إلا أن تأتى من ذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 499 بما يعرف كذبها فيه، وكذلك كل مؤتمن، فالقول قوله، قال تعالى فى آية الدين: (فليكتب وليملل الذى عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئًا) [البقرة: 282] ، فوعظ الذى عليه الحق حين جعل القول قوله كما وعظت المرأة حين جعل القول قولها، وقول أبى بن كعب يدل على ذلك. وقال سليمان بن يسار: لم يؤمر أن تفتح النساء فينظر إلى فروجهن ليعلم صدق قولهن، ولكن وكل ذلك إليهن إذا كن مؤمنات. قال المهلب: وحديث عائشة شاهد لتصديق النساء فيما يدعينه من الحيض والحمل دون شهادة القوابل، وكذلك الإماء، ألا ترى أن النبى، عليه السلام، أراد أن يحبس المسلمين كلهم بما ذكرت صفية من حيضتها ولم يمتحن ذلك عليها ولا أكذبها، وقد تقدم فى كتاب الحيض اختلاف أهل العلم فى أقل ما تصدق فيه المرأة من انقضاء عدتها. 6 - بَاب قول الله تَعَالَى: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِى ذلك) [البقرة: 228] أى فِى الْعِدَّةِ، وَكَيْفَ تُرَاجِعُ الْمَرْأَةَ إِذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ؟ / 7 - فيه: مَعْقِل، أن أُخْتُهُ كَانت تَحْتَ رَجُلٍ، فَطَلَّقَهَا، ثُمَّ خَلَّى عَنْهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ خَطَبَهَا، فَحَمِىَ مَعْقِلٌ مِنْ ذَلِكَ أَنَفًا، فَقَالَ: خَلَّى عَنْهَا، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَخْطُبُهَا، فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَإِذَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 500 طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) [البقرة: 231] إِلَى آخِرِ الآيَةِ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَرَأَ عَلَيْهِ، فَتَرَكَ الْحَمِيَّةَ، وَاسْتَقَادَ لأمْرِ اللَّهِ. / 8 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ، أنّهُ طَلَّقَ امْرَأته وَهِىَ حَائِضٌ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُرَاجِعَهَا، ثُمَّ يُمْسِكَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ عِنْدَهُ حَيْضَةً، أُخْرَى، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضِتهَا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَلْيُطَلِّقْهَا حِينَ تَطْهُرُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُجَامِعَهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ. . . الحديث. وترجم لحديث ابن عمر: (باب مراجعة الحائض) . قال أهل التفسير فى قوله: (وبعولتهن أحق بردهن فى ذلك) [البقرة: 228] ، أى فى العدة، هذا قول النخعى، وقتادة، ومجاهد. وأما قول البخارى: وكيف تراجع المرأة إذا طلقها واحدة أو اثنتين؟ فالمراجعة على ضربين: مراجعة فى العدة على حديث ابن عمر، ومراجعة بعد العدة على حديث معقل، وأجمع العلماء أن الحر إذا طلق زوجته الحرة وكان مدخولاً بها تطليقة أو تطليقتين أنه أحق برجعتها حتى تنقضى عدتها وإن كرهت المرأة. وكذلك قال المفسرون فى قوله: (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا) [الطلاق: 1] أنه الرجعة، ولذلك كان ابن عمر يقول: لو طلقت مرة أو مرتين خشية أن يبدوا لى فى مراجعتها، وهو قد بت طلاقها فلا يمكنه، فإن لم يراجعها المطلق للسنة حتى انقضت عدتها فهى أحق بنفسها، وتصير أجنبية منه لا تحل إلا بخطبة ونكاح مستأنف بولى وإشهاد، ليس على سنة المراجعة، هذا إجماع من العلماء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 501 قال المهلب وغيره: وعلى هذا جاء حديث معقل بن يسار، ألا ترى أن زوج أخته لو راجعها فى العدة كان أملك بها، فلما انقضت عدتها وصارت أجنبية منه أحب مراجعتها فعضلها أخوها ومنعها نكاحه، ولم يجز له عضلها إلا إن كان ذلك مباحًا له، ولم يجز لزوجها أن يردها بعد ذلك إلا بنكاح جديد وصداق وإشهاد، فهذا معنى حديث معقل فى هذا الباب. وأما حديث ابن عمر، ففيه خلاف هذا المعنى، وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمره بمراجعتها فى تلك الحيضة التى طلقها فيها، ولم يذكر فى الحديث أنه احتاج إلى صداق ولا ولى من أجل أن النبى (صلى الله عليه وسلم) حين أمره بارتجاعها لم يذكر رضاها ولا رضا وليها؛ لأنه إنما يرد من لم تقطع عصمته منها، ولو احتيج إلى ذلك لم يكن ابن عمر المأمور بذلك وحده دون المرأة والولى، فكان هذا حكم كل من راجع فى العدة أنه لا يلزمه شىء من أحكام النكاح غير الإشهاد على المراجعة فقط، وهذا إجماع من العلماء، وإنما لم يلزمه شىء من فروض النكاح؛ لأن المطلق للسنة لم يدخل على نكاحه ما ينقضه، وإنما أحدث فيه ثلمة، فإذا راجعها فى العدة فقد سد تلك الثلمة، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: (وبعولتهن أحق بردهن فى ذلك) [البقرة: 228] ، يعنى فى العدة) إن أرادوا إصلاحًا) [البقرة: 228] ، يعنى الرجعة، فجعل لهم تعالى الرجعة دون استئذان النساء ودون اشتراط شىء من فروض النكاح. ولم يختلف العلماء أن السنة فى الرجعة أن تكون بالإشهاد عليها؛ لأن الله ذكر الإشهاد فى الرجعة، ولم يذكره فى النكاح ولا فى الطلاق، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 502 فقال فى الرجعة: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوى عدل منكم وأقيموا الشهادة لله) [الطلاق: 2] . واخلتفوا فيما يكون به الرجل مراجعًا فى العدة للمطلقة واحدة أو اثنتين، فقالت طائفة: إذا جامعها فقد راجعها، روى هذا عن ابن المسيب، وعطاء، وطاوس، وهو قول الأوزاعى. وقال مالك وإسحاق: إذا وطئها فى العدة وهو يريد الرجعة وجهل أن يشهد فهى رجعة، وينبغى للمرأة أن تمنعه الوطء حتى يشهد. وقال ابن أبى ليلى: إذا راجع ولم يشهد صحت الرجعة. وقال الكوفيون والثورى: إن لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة فهى رجعة، وينبغى له أن يشهد. وقال الشافعى: لا تكون رجعة إلا بالكلام أن يقول: قد راجعتها، وهو قول أبى ثور، وقال الشافعى: إن جامعها ينوى الرجعة أو لا ينوى فليس برجعة، ولها عليه مهر المثل، وليس هذا بصواب؛ لأنها فى حكم الزوجات وترثه ويرثها، فكيف يجب مهر فى وطء زوجة؟ ولم يختلفوا فى من باع جاريته بالخيار، ثم وطئها فى أيام الخيار أنه قد ارتجعها بذلك إلى ملكه، واختار نقض البيع، وللمطلقة الرجعية حكم من هذا. قال ابن المنذر: واختلفوا فى مراجعة الحائض، فقال مالك: ومن طلق امرأته وهى حائض أو نفساء أجبر على رجعتها. وقال الكوفيون: ينبغى له أن يراجعها، وهو قول أبى ثور، وقال الشافعى: لا يجبر على رجعتها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 503 قال ابن المنذر: ويشبه أن تكون حجة من أجبره على الرجعة قوله، عليه السلام، لعمر: (مره فليراجعها) ، وأمره فرض. قال المهلب: فى حديث معقل دليل على أنه ليس للمرأة أن تنكح بغير إذن وليها، وأنه إذا عضلها فللسلطان أن يسأله ما الذى حمله على عضلها، ولا يفتأت عليه فيزوجها بغير أمره حتى يعرف معنى فعله، فربما عضلها لأمر إن تم عليه كانت فيه غضاضة عليه فى عرضه، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ضم معقلاً إلى العقد عليها بعد أن ثبت عضله لها، ولم يعقد لها، عليه السلام، دونه، ففى هذا حجة لما يقوله جمهور العلماء أن الولى من شرط النكاح. وقال أبو عبيد: هذه الآية التى نزلت فى قصة معقل هى الأصل عندنا فى إنكاح الأولياء؛ لأنه لو لم يكن لهم فيه حظ، ما كان لنهيهم عن عضلهن معنى. 7 - بَاب تُحِدُّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: لا أَرَى أَنْ تَقْرَبَ الصَّبِيَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الطِّيبَ، لأنَّ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ. / 9 - فيه: زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِى سَلَمَةَ، أَنَّهَا دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ تُوُفِّىَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ، فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةٌ خَلُوقٌ - أَوْ غَيْرُهُ - فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً، ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِى بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أَنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ، إِلا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) . قَالَتْ زَيْنَبُ: فَدَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّىَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 504 أَخُوهَا، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَتْ: أَمَا وَاللَّهِ مَا لِى بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أَنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: (لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ، إِلا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) . قَالَتْ زَيْنَبُ: وَسَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ، تَقُولُ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَتِى تُوُفِّىَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا، أَفَتَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا) ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، كُلَّ ذَلِكَ يَقُولُ: (لا) ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا هِىَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِى الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِى بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ؟) . قَالَ حُمَيْدٌ: فَقُلْتُ لِزَيْنَبَ: وَمَا تَرْمِى بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ؟ فَقَالَتْ زَيْنَبُ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تُوُفِّىَ عَنْهَا زَوْجُهَا، دَخَلَتْ حِفْشًا، وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ، أَوْ شَاةٍ، أَوْ طَائِرٍ، فَتَفْتَضُّ بِهِ، فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَىْءٍ إِلا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ، فَتُعْطَى بَعَرَةً، فَتَرْمِى بَهَا، ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ. وسُئِلَ مَالِكٌ مَا تَفْتَضُّ بِهِ؟ قَالَ: تَمْسَحُ بِهِ جِلْدَهَا. الإحداد ترك المرأة الزينة كلها من اللباس، والطيب، والحلى، والكحل، ما دامت فى عدتها؛ لأن الزينة داعية إلى الأزواج، فنهيت عن ذلك قطعًا للذرائع وحماية لحرمات الله أن تنتهك، يقال: امرأة حاد ومحد. قال ابن المنذر: وحديث أم حبيبة يدل على معان، فمنها: تحريم إحداد المسلمات على غير أزواجهن فوق ثلاث، وإباحة إحدادهن عليهم ثلاثًا، ومنها أن المأمور بالإحداد الزوجة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 505 المسلمة دون اليهودية والنصرانية، وإن كانت تحت مسلم؛ لأن قوله: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر) ، دليل على أن الذمية لم تخاطب بذلك. ومنها الدلالة على أن المخاطب بالإحداد من الزوجات من عدتهن الشهور دون الحوامل منهن. وفيه: دليل على أن المطلقة ثلاثًا لا إحداد عليها. قال ابن المنذر: هذا يدل عليه ظاهر الحديث، وقد قاله بعض من لقيته من أهل العلم، فإن يكن فى ذلك إجماع فهو مسلم له، وليس فيه إجماع؛ لأن الحسن البصرى كان لا يرى الإحداد. ومنها: وجوب الإحداد على جميع الزوجات المسلمات، مدخولاً بهن أو غير مدخول بهن؛ لدخولهن فى جملة من خوطب بالإحداد فى عدة الوفاة إذا كانت العدة بالشهور، وتدخل فيما ذكرناه الحرة تحت العبد، والأمة تحت الحر والعبد والمكاتب والمدبر، وأم الولد المزوجة يتوفى عنهن أزواجهن، والمطلقة يطلقها زوجها طلاقًا يملك رجعتها، ثم يتوفى عنها قبل انقضاء عدتها، إذ أحكامها أحكام الأزواج إلى أن توفى عنها. وممن قال أن على الأمة إحداد إذا توفى عنها زوجها، مالك، والثورى، والكوفيون، والشافعى، وأبو ثور، وحكى ذلك عن ربيعة؛ لأنها داخلة فى جملة الأزواج، وفى عموم الأخبار، ولا أحفظ فى ذلك خلافًا إلا ما ذكر عن الحسن. وأجمعوا أن أم الولد لا إحداد عليها إذا توفى سيدها، والحجة فى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 506 ذلك أن الأحاديث إنما جاءت فى الأزواج، وأم الولد ليست بزوجة، ذكر هذا كله ابن المنذر. قال المؤلف: واختلف قول مالك فى الكتابية هل يلزمها الإحداد على زوجها المسلم، فروى عنه أشهب أنه لا إحداد عليها، وهو قول ابن نافع، والكوفيين، وقد تقدم أن هذا القول يدل عليه الحديث. قال الكوفيون: وكيف يكون عليها الإحداد مع ما فيها من الشرك، وما تترك من فرائض الله أعظم من ذلك. وروى أيضًا عن مالك أنه قال: عليها الإحداد، وهو قول الليث، والشافعى، وأبى ثور، وحجة هذا القول أن الإحداد من حق الزوج، وهو يحفظ النسب كالعدة، قالوا: وتدخل الكافرة فى ذلك المعنى، كما دخل الكافر فى أنه لا يجوز أن يُستام على سومه، وإنما فى الحديث: (لا يسم على سوم أخيه) ، كما يقال: هذا طريق المسلمين، وقد يسلكه غيره، قالوا: وإن كان الخطاب يتوجه إلى المؤمنات، فإن الذمية خلت فى ذلك لحق الزوجية؛ لأنها فى النفقة والسكنى والعدة كالمسلمة، فكذلك تكون فى الإحداد. واختلفوا فى الزوجة الصغيرة يتوفى عنها زوجها، فقالت طائفة: عليها من ذلك ما على البالغ منهن، هذا قول مالك، والشافعى، وأحمد بن حنبل، وأبى عبيد، وأبى ثور. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 507 وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا إحداد عليها؛ لقوله عليه السلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث) ، فعلم أن ذلك لا يلزم إلا المكلفين البالغين. واحتج أبو عبيد للقول الأول، فقال: لما كان نكاحها غير محرم على كل ناكح كنكاح الكبيرة، وجب أن تكون فى الإحداد كذلك، وكان يقول: إنما ذلك على من يتولاها من الأبوين وغيرهما. قال المؤلف: ولما أجمعوا أن على الصغيرة عدة الوفاة، فكذلك الإحداد. واختلفوا فى المطلقة ثلاثًا، فقالت طائفة: عليها الإحداد كالمتوفى عنها زوجها سواء، روى ذلك عن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وابن سيرين، والحكم، وهو قول الكوفيين، وأبى ثور، وأبى عبيد. وقال الشافعى وأحمد وإسحاق: الاحتياط أن تتقى المطلقة الزينة. قال الشافعى: ولا يتبين لى أن أوجبه. واحتج من أوجبه عليها؛ لأنها فى عدة يحفظ بها النسب، كالمتوفى عنها زوجها. وقالت طائفة: لا إحداد على مطلقة، ورخصوا لها فى الزينة، روى ذلك عن عطاء، وربيعة، وهو قول مالك والليث. وقال ابن المنذر: قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث) ، دليل على أن المطلقة ثلاثًا والمطلق حى لا إحداد عليها؛ لأنه عليه السلام أخبر أن الإحداد إنما هو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 508 على نساء الموتى، مع أن الأشياء على الإباحة حتى يدل كتاب أو سنة أو إجماع على حظر شىء فيمتنع منه. وفسر مالك الحفش أنه البيت الردىء، وروى ابن وهب عنه أنه البيت الصغير، وهو قول الخليل. وقال أبو عبيد: الحفش الدرج، وجمعه أحفاش، يشبه البيت الصغير. وقال الخطابى: سمى حفشًا؛ لضيقه وانضمامه، والتحفش الانضمام والاجتماع. وقال مالك: تفتض به، تمسح جلدها كالنشرة. قال صاحب العين: الفضض ماء عذب تصيبه ساعتئذ، وتقول: افتضضته. وقال غيره: كانت المرأة فى الجاهلية تفتض بالدابة، ثم تغتسل وتتنظف، ثم ترمى ببعرة من بعر الغنم، فترمى بها وراء ظهرها، ويكون ذلك إحلالاً لها، ومعنى رميها بالبعرة إعلام لها أن صبرها عامًا أهون عليها من رميها بالبعرة. 8 - بَاب الْكُحْلِ لِلْحَادَّةِ / 10 - فيه: زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّهَا، أَنَّ امْرَأَةً تُوُفِّىَ زَوْجُهَا فَخَشُوا عَلَى عَيْنَيْهَا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَاسْتَأْذَنُوهُ فِى الْكُحْلِ، فَقَالَ: (لا تَكْتَّحِلْ، قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِى شَرِّ أَحْلاسِهَا - أَوْ شَرِّ بَيْتِهَا - فَإِذَا كَانَ حَوْلٌ، فَمَرَّ كَلْبٌ. . . .) الحديث. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 509 / 11 - وفيه: أُمُّ عَطِيَّةَ: نُهِينَا أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثٍ إِلا عَلَى زَوْجٍ. قال المؤلف: روى مالك أنه بلغه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دخل على أم سلمة وهى حادة على أبى سلمة، وقد جعلت على عينها صبرًا، فقال: (ما هذا يا أم سلمة؟) ، قالت: إنما هو صبر يا رسول الله، قال: (فاجعليه بالليل وامسحيه بالنهار) ، وهذا مخالف لحديث هذا الباب؛ لأن النبى، عليه السلام، لم يرخص لبنت أم سلمة حين توفى عنها زوجها فى الكحل ليلاً ولا نهارًا. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: والجمع بين الحديثين أن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما نهى عن الطيب والزينة فى العدة قطعًا للذرائع؛ لأن ذلك من دواعى التزويج التى منعت منه حتى تخرج من العدة احتياطًا للميت، إذ قد زالت مراعاته لها، لكن إذا دخلت على الناس المشقة من قطعها رفعت عنهم، ودلت إباحته، عليه السلام، للكحل بالليل، أن نهيه عنه فى الحديث الآخر ليس على وجه التحريم، وإنما هو على الكراهية، فمن شاء أخذ بالشدة على نفسه كما فعلت صفية بنت أبى عبيد فى ترك الكحل حتى كادت عيناها ترمضان، ومن شاء أخذ بالرخصة فى ذلك. فقد أجاز ذلك جماعة من السلف، ذكر مالك فى الموطأ أنه بلغه عن سالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار، أنهما أجازا للمتوفى عنها زوجها إذا خشيت على بصرها من شكوى بها أن تكتحل وتتداوى بما فيه طيب. قال مالك: فإذا كانت الضرورة، فإن دين الله يسر. وقد قال فى المختصر الصغير: لا تكتحل إلا أن تضطر إليه من غير طيب يكون فيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 510 وقال الشافعى: كل كحل فيه زينة للعين مثل الإثمد وشبهه، فلا خير فيه، وأما الفارسى وشبهه عند الضرورة، فلا بأس به؛ لأنه ليس بزينة بل يزيد العين قبحًا، وما اضطر إليه مما فيه زينة اكتحلت به ليلاً ومسحته نهارًا، واحتج ببلاغ مالك، عن أم سلمة. قال الشافعى: فالصبر يصفر العين، فيكون زينة وليس بطيب، فأذن لها النبى (صلى الله عليه وسلم) فيه بالليل حتى لا ترى، فكذلك ما أشبهه. وذكر ابن المنذر، قال: رخص فى الكحل عند الضرورة، عطاء، والنخعى، وهو قول مالك، والكوفيين، قالوا: لا بأس بالكحل الأسود وغيره إذا اشتكت عينها. 9 - بَاب الْقُسْطِ لِلْحَادَّةِ عِنْدَ الطُّهْرِ / 12 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ إِلا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلا نَكْتَحِلَ، وَلا نَطَّيَّبَ، وَلا نَلْبَسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطُّهْرِ، إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا فِى نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ، وَكُنَّا نُنْهَى عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ. وترجم لحديث أم عطية: (باب الحاد تلبس ثياب العصب) . قال ابن المنذر: أجمع العلماء غير الحسن على منع الطيب والزينة للحادة إلا ما ذكر فى حديث أم عطية مما رخص لها عند الطهر من المحيض فى النبذة من القسط؛ لأن القسط ليس من الطيب الذى منعت منه، وإنما تستعمل القسط على سبيل المنفعة ودفع الروائح الزفرة والنظافة، وقد رخص لها فى الدهن بما ليس بطيب، هذا قول عطاء، والزهرى، ومالك، والشافعى، وأبى ثور. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 511 قال مالك: تدهن المتوفى عنها زوجها بالزيت والشبرق وما أشبه ذلك إذا لم يكن فيه طيب. قال مالك: وبلغنى أن أم سلمة زوج النبى (صلى الله عليه وسلم) كانت تقول: تجمع المرأة الحاد رأسها بالشبرق والزيت، وذلك ليس بطيب. وقال عطاء: تمتشط بالحناء والكتم. وقال مالك: لا تمتشط بالحناء والكتم ولا بشىء مما يحتمر، وإنما تمتشط بالسدر ونحوه مما لا يحتمر فى رأسها، ونهى عن الامتشاط، وكره الخضاب ابن عمر، وأم سلمة، وعروة، وسعيد بن المسيب. وقال ابن المنذر: ولا نحفظ عن سائر أهل العلم فى ذلك خلافًا، والخضاب داخل فى جملة الزينة المنهى عنها. قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنه لا يجوز لها اللباس المصبغة والمعصفرة إلا ما صبغ بالسواد، ورخص فى السواد عروة بن الزبير، ومالك، والشافعى، وكره الزهرى لبس السواد، وكان عروة يقول: لا تلبس من الحمرة إلا العصب. وقال الثورى: تتقى المصبوغ إلا ثوب عصب. وقال الزهرى: لا تلبس العصب، وهو خلاف للحديث. وكان الشافعى يقول: كل صبغ يكون زينة ووشى فى الثوب كان زينة أو تلميع مثل العصب والحبرة والوشى وغيره، فلا تلبسه الحاد، غليظًا كان أو رقيقًا، وذكر ابن المنذر عن مالك، قال: تجتنب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 512 الحناء والصباغ إلا السواد، فلها لبسه، وإن كان حريرًا، ولا تلبس الملون من الصوف وغيره، ولا أدكن ولا أخضر. وقال فى المدونة: إلا أن تجد غيره، فيجوز لها لبسه. قال فى المدونة: ولا تلبس رقيق ولا عصب اليمن، ووسع فى غليظه، وتلبس رقيق البياض وغليظه من الحرير والكتان والقطن. وقال ابن المنذر: رخص كل من أحفظ عنه فى لباس البياض. قال الأبهرى: وهذه الثياب التى أبيحت لها لا زينة فيها، وإنما هى ممنوعة من الزينة والطيب دون غيرهما من اللباس. قال ابن المنذر: وكان الحسن البصرى من بين سائر أهل العلم لا يرى الإحداد، وقال: المطلقة ثلاثًا والمتوفى عنها زوجها تكتحلان وتمتشطان وتنتعلان وتختضبان وتتطيبان وتصنعان ما شاءا. قال ابن المنذر: وقد ثبتت الأخبار عن النبى (صلى الله عليه وسلم) بالإحداد، وليس لأحد بلغته إلا التسليم بها، ولعل الحسن لم تبلغه أو بلغته، فتأول حديث أسماء بنت عميس، روى حماد بن سلمة، عن الحجاج، عن الحسن بن سعد، عن عبد الله بن شداد، أن أسماء بنت عميس استأذنت النبى، عليه السلام، أن تبكى على جعفر وهى امرأته، فأذن لها ثلاثة أيام، ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام أن تطهرى واكتحلى. قال ابن المنذر: وقد دفع أهل العلم هذا الحديث بوجوه، وكان أحمد بن حنبل يقول: هذا الشاذ من الحديث لا يؤخذ به، وقاله إسحاق. وقال أبو عبيد: إن أمهات المؤمنين اللواتى روى عنهن خلافه أعلم بالنبى (صلى الله عليه وسلم) ، ثم كانت أم عطية تحدث به مفسرًا فيما تجتنبه الحاد فى عدتها، ثم مضى عليه السلف، وكان شعبة يحدث به عن الحكم ولا يشذه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 513 والنبذة ما نبذته وطرحته من الكست فى النار قدر ما يتبخر به. - بَاب قوله تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا (إِلَى قَوْلِهِ: (خَبِيرٌ) [البقرة: 234] / 13 - فيه: مُجَاهِدٍ: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا (قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ، تَعْتَدُّ عِنْدَ أَهْلِ زَوْجِهَا وَاجِبًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ (إلى) مَعْرُوفٍ (، قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ لَهَا تَمَامَ السَّنَةِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَصِيَّةً إِنْ شَاءَتْ سَكَنَتْ فِى وَصِيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ: (غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) [البقرة: 240] ، فَالْعِدَّةُ كَمَا هِىَ وَاجِبةٌ عَلَيْهَا زَعَمَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ عِدَّتَهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ، وَقَوْلُه: (غَيْرَ إِخْرَاجٍ (قَالَ عَطَاءٌ: إِنْ شَاءَتِ اعْتَدَّتْ عِنْدَ أَهْلِهَا وَسَكَنَتْ فِى وَصِيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ لِقَوْلِ اللَّهِ: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنْفُسِهِنَّ (، قَالَ عَطَاءٌ: ثُمَّ جَاءَ الْمِيرَاثُ فَنَسَخَ السُّكْنَى فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ، وَلا سُكْنَى لَهَا. / 14 - فيه: أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِى سُفْيَانَ، لَمَّا جَاءَهَا نَعِىُّ أَبِيهَا، دَعَتْ بِطِيبٍ، فَمَسَحَتْ ذِرَاعَيْهَا، وَقَالَتْ: مَا لِى بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، لَوْلا أَنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ، إِلا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 514 قال المؤلف: ذهب مجاهد إلى أن الآية التى فيها: (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا) [البقرة: 234] ، إنما نزلت قبل الآية التى فيها: (وصية لأزواجهم متاعًا إلى الحول غير إخراج) [البقرة: 240] ، كما هى قبلها فى التلاوة، ولم يجعل آية الحول منسوخة بالأربعة أشهر وعشرًا، وأشكل عليه المعنى؛ لأن المنسوخ لا يمكن استعماله مع الناسخ، ورأى أن استعمال هاتين الآيتين ممكن، إذ حكمهما غير مدافع، ويجوز أن يوجب الله على المعتدة التربص أربعة أشهر وعشر ألا تخرج فيها من بيتها فرضًا عليها، ثم يأمر أهله أن تبقى سبعة أشهر وعشرين ليلة، تمام الحول، إن شاءت، أو تخرج إن شاءت وصية لها؛ لقوله تعالى: (وصية لأزواجهم متاعًا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن) [البقرة: 240] . فحصل له فائدتان فى استعمال الآيتين، ورأى ألا يسقط حكمًا فى كتاب الله يمكنه استعماله، ولا يتبين له نسخه، وهذا قول لم يقله أحد من المفسرين للقرآن غيره، ولا تابعه عليه أحد من فقهاء الأمة، بل اتفق جماعة المفسرين وكافة الفقهاء أن قوله: (متاعًا إلى الحول) [البقرة: 240] ، منسوخ بقوله: (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا) [البقرة: 234] ، ويشهد لذلك قوله، عليه السلام، فى حديث زينب بنت أبى سلمة: (وقد كانت إحداكن ترمى بالبعرة على رأس الحول) . ومما يدل على خطأ مجاهد أن الله إنما أوجب السكنى للمتوفى عنهن أزواجهن عند من رأى إيجابه فى العدة خاصة، وهى الأربعة أشهر وعشر، وما زاد عليها فالأمة متفقة أن المرأة فيها أجنبية من زوجها لا سكنى لها ولا غيره، شاءت أو لم تشأ، وكيف يجوز أن تبقى فى بيت زوجها بعد العدة إن شاءت وهى غير زوجة منه، ولا فى بطنها حمل يوجب حبسها به، ومنعها من الأزواج حتى تضعه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 515 وأيضًا فإن التسكين إنما كان فى الحول حين كانت العدة حولاً والسكنى مرتبطة بها، فلما نسخ الله الحول بالأربعة أشهر وعشر، استحال أن يكون سكنى فى غير عدة، والله الموفق. وأما ابن عباس، فإنه دفع السكنى للمتوفى عنها زوجها، وقال: قوله عز وجل: (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا) [البقرة: 234] ، ولم يقل: يعتددن فى بيوتهن، ولتعتد حيث شاءت، وذهب إلى قول ابن عباس: أن المتوفى عنها زوجها تعتد حيث شاءت، على بن أبى طالب، وعائشة، وجابر، ومن حجتهم أن السكنى إنما وردت فى المطلقة، وبذلك نطق القرآن وإيجاب السكنى إيجاب حكم، والأحكام لا تجب إلا بنص كتاب أو سنة أو إجماع، وقد ذكرت اختلاف أهل العلم فى ذلك فى باب قصة فاطمة بنت قيس، فأغنى عن إعادته. وقال إسماعيل بن إسحاق: أما قول ابن عباس فى قوله تعالى: (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا) [البقرة: 234] ، ولم يقل: فى بيتها، فمثل هذا يجوز أن لا يبين فى ذلك الموضع، ويبين فى غيره، وقد قال الله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) [البقرة: 228] ، ولم يقل فى هذا الموضع أنها تتربص فى بيتها، ثم قال فى أمر المطلقة فى الموضع الآخر: (لا تخرجوهن من بيوتهن) [الطلاق: 1] ، وقال: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) [الطلاق: 6] ، فبين فى هذا الموضع ما لم يذكر فى ذلك الموضع، وقد بين أمر المتوفى بما جاء فى حديث الفريعة، وعمل به جملة أهل العلم، ورأينا المتوفى عنها احتيط فى أمرها فى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 516 العدة بأكثر ما احتيط فى المطلقة؛ لأن المطلقة إن لم يدخل بها فلا عدة عليها، وعلى المتوفى عنها العدة دخل بها أم لا، ويمكن ذلك، والله أعلم؛ لأن الدخول قد يكون ولا يعلم به الناس، فإذا كان الزوج حيًا ذكر ذلك وطالب به، وأمكن أن يبين حجته فيه، والميت قد انقطع عن ذلك، وليس ينبغى فيه النظر إذا كانت المتوفى عنها قد جعلت عليها العدة فى الموضع الذى لم يجعل على المطلقة، أو يكون السكنى على المطلقة، ولا تكون على المتوفى عنها لما فى التسكين من الاحتياط فى أمر المرأة وما يلحق من النسب. وروى وكيع، عن أبى جعفر الرازى، عن الربيع بن أنس، عن أبى العالية، أنه سُئل: لم ضمت العشر إلى الأربعة أشهر؟ قال: لأن الروح تنفخ فيها فى العاشر. فأما إن كان المسكن بكرى قدمه الميت، فلها أن تسكن فى عدتها، وإن كان لم يقدم الكرى وأخرجها رب الدار لم تكن لها سكنى فى مال الزوج، هذا قول مالك، وعلى قول الكوفيين والشافعى أنه لا سكنى للمتوفى عنها فى مال زوجها إن لم يخلف مسكنًا؛ لأن المال صار للورثة، حاملاً كانت أم غير حامل، ولا نفقة لها، وأوجب مالك لها السكنى إن كانت حاملاً من مال الميت ونفقتها من مالها؛ لقوله: (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا) [البقرة: 234] ، فكان الواجب على ظاهر الآية أن تتربص المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا تفعل فيها ما كانت تفعل قبل وفاته، فلما ثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 517 ثلاث إلا على زوج) ، وجب اتباعه لتفسيره لما أجمل فى الآية. وقال الخطابى: قوله: (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا) [البقرة: 234] ، يريد والله أعلم الأيام بلياليها. وقال المبرد: إنما أتت العشر؛ لأن المراد به المدة، وذهب مالك، والكوفيون، والشافعى، أن المراد الأيام والليالى. قال ابن المنذر: فلو عقد عاقد عليها النكاح على هذا القول وقد مضت أربعة أشهر وعشر ليال كان باطلاً حتى يمضى اليوم العاشر، وذهب بعض الفقهاء إلى أنه إن انقضى لها أربعة أشهر وعشر ليال حلت للأزواج، وذلك لأنه رأى العدة مبهمة، فغلب التأنيث وتأولها على الليالى، وإليه ذهب الأوزاعى من الفقهاء، وأبو بكر الأصم من المتكلمين، ويقال: إنهما اعتبرا أن إنشاء التاريخ من الليالى؛ لأن الأهلة تستهل فيها. - بَاب مَهْرِ الْبَغِىِّ وَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا تَزَوَّجَ مُحَرَّمَةً، وَهُوَ لا يَشْعُرُ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَهَا مَا أَخَذَتْ، وَلَيْسَ لَهَا غَيْرُهُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: لَهَا صَدَاقُهَا. / 15 - فيه: أَبُو مَسْعُود، قَالَ: نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَمَهْرِ الْبَغِىِّ. . . . الحديث. وقَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ، نَهَى النَّبِىّ عَنْ مَهْرِ البْغِىِّ. وقال أَبُو هُرَيْرَةَ: نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ كَسْبِ الإمَاءِ. مهر البغى حرام بإجماع الأمة، ولا يلحق فيه نسب، وأما النكاح الفاسد ينقسم قسمين: يكون فساده فى العقد، أو فى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 518 الصداق، فما فسد فى العقد لا ينعقد عند أكثر الأمة، ومنه ما ينعقد عند بعضهم، فما فسخ قبل البناء مما فسد لعقد فلا صداق فيه، ويرد ما أخذت، وما فسخ بعد البناء ففيه المسمى، وما فسد لصداقه كالبيع فى فساد ثمنه، أنه يفسخ قبل الدخول، ويمضى إذا فات بالدخول ويرد إلى قيمته. وآخر قول ابن القاسم: أن كل ما نص الله ورسوله على تحريمه ولا يختلف فيه، فإنه يفسخ بغير طلاق، وإن طلق فيه لا يلزم ولا يتوارثان كمتزوج الخامسة، وأختًا من الرضاعة، والمرأة على عمتها وخالتها، أو من تزوج امرأة فلم يبن بها حتى تزوج ابنتها، أو نكح فى العدة. قال: فكل ما اختلف الناس فى إجازته أو فسخه، فالفسخ فيه بطلاق، وتقع فيه الموارثة والطلاق والخلع بما أخذ، ما لم يفسخ، كالمرأة تزوج نفسها أو تنكح بغير ولى أو أمة بغير إذن السيد أو بغرر فى صداق، إذ لو قضى به قاض لم أنقضه، وكذلك نكاح المحرم والشغار للاختلاف فيهما. وأما من تزوج محرمة وهما لا يعلمان التحريم، ففرق بينهما، فلا حد عليهما، واختلف العلماء فى صداقها على قولين بحسب اختلاف قول الحسن البصرى، فقوله: لها ما أخذت، يعنى صداقها المسمى، وقوله بعد ذلك: لها صداقها، يريد صداق مثلها، وسائر الفقهاء على هذين القولين؛ طائفة تقول بصداق المثل، وطائفة تقول المسمى، وأما من تزوج محرمة وهو عالم بالتحريم، فقال مال، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعى: عليه الحد، ولا صداق فى ذلك. وقال الثورى، وأبو حنيفة: لا حد عليه، وإن علم عزر. قال أبو حنيفة: ولا يبلغ به أربعين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 519 وفرق ابن القاسم بين الشراء والنكاح، فأوجب فى نكاح المحرمة إذا علم تحريمها الحد، ولا حد عليه إذا اشتراها ووطئها وهو عالم بتحريمها، وسائر الفقهاء غير الكوفيين لا يفرقون بين النكاح والملك فى ذلك، ويوجبون الحد فى كلا الوجهين. وحجة أبى حنيفة، قال: العقد شبهة، وإن كان فاسدًا كما لو وطئ جارية بينه وبين شريكه، فالوطء محرم باتفاق، ولا حد عليه للشبهة، وكذلك الأنكحة الفاسدة كنكاح المتعة، والنكاح بلا ولى ولا شهود، ووطء الحائض، والمعتكفة، والمحرمة، وهذا كله وطء محرم لا حد فيه، وحجة مالك قوله تعالى: (واللاتى يأتين الفاحشة من نسائكم) [النساء: 15] الآية، وهذه فاحشة، وقد بين النبى (صلى الله عليه وسلم) السبيل ما هى بالرجم، وأجمع العلماء أن العقد على أمه وأخته لا يجوز بإجماع ولا شبهة فيه، وإنما هو قاصد إلى الزنا وإسقاط الحد عن نفسه بالنكاح. - بَاب إرخاء الستور والْمَهْرِ لِلْمَدْخُولِ عَلَيْهَا وَكَيْفَ الدُّخُولُ أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْمَسِيسِ؟ / 16 - فيه: ابْن عُمَرَ، فَرَّقَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ أَخَوَىْ بَنِى الْعَجْلانِ، وَقَالَ: (اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ. . . .) ؟ الحديث فَقَالَ الرَّجُلُ: مَالِى؟ قَالَ: (لا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، فَقَدْ دَخَلْتَ بِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْكَ) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 520 اختلف العلماء فى الدخول وبما يثبت؟ فقالت طائفة: إذا أغلق بابًا، أو أرخى سترًا على المرأة، فقد وجب الصداق والعدة، روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وابن عمر، وهو قول الكوفيين، والثورى، والليث، والأوزاعى، وأحمد، واحتجوا بقوله عليه السلام: (إن كنت صادقًا فقد دخلت بها) ، قالوا: فجعل النبى (صلى الله عليه وسلم) الدخول بالمرأة دليلاً على الجماع، وإن كان قد لا يقع الجماع مع الدخول، لكن حمله على ما يقع فى الأكثر، وهو الجماع لما ركب الله فى نفوس عباده من شهوة النساء. قال الكوفيون: فالخلوة الصحيحة يجب معها المهر كله بعد الطلاق، وطئ أو لم يطأ، إن ادعته أو لم تدعه، إلا أن يكون أحدهما محرمًا، أو مريضًا، أو صائمًا، أو كانت المرأة حائضًا، فإن كانت الخلوة فى مثل هذه الحال، ثم طلق لم يجب إلا نصف المهر، وعليها العدة عندهم فى جميع هذه الوجوه. وقالت طائفة: لا يجب المهر إلا بالمسيس، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس، وبه قال شريح، والشعبى، وابن سيرين، وإليه ذهب الشافعى، وأبو ثور، واحتجوا بقوله تعالى: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) [البقرة: 237] ، وقال: (فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) [الأحزاب: 49] ، فأخبر تعالى أنها تستحق بالطلاق قبل المسيس نصف ما فرض لها، وأوجب العدة بالمسيس، ولا تعرف الخلوة دون وطء مسيسًا، ومن حجة هذا القول رواية من روى فى هذا الحديث: (إن كنت صدقت عليها فبما استحللت من فرجها) ، ذكره فى باب قول الإمام للمتلاعنين: إن أحدكما كاذب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 521 وفيها قول ثالث: قال سعيد بن المسيب: إذا دخل بالمرأة فى بيتها صدق عليها، وإذا دخلت عليه فى بيته صدقت عليه، وهو قول مالك، واحتج أصحابه، فقالوا: تفسير قول سعيد بن المسيب أنها تصدق عليه فى بيته؛ لأن البيت فى البناء بيت الرجل وعليه الإسكان، فدخلوها فى بيته هو دخول بناء، ومعنى قوله: (فى بيتها) ، يريد إذا زارها فى بيتها عند أهلها أو وجدها ولم يدخل عليها دخول بناء، فادعت أنه مسها وأنكر فالقول قوله؛ لأنه مدعى عليه، وهذا أصله فى المتداعين أن القول قول من شبهته قوية كاليد وشبهها. قال مالك: فإذا دخل بها فقبلها أو كشفها واتفقا أنه لم يمسها، فلها نصف الصداق إن كان ذلك قريبًا، وإن تطاول مكثه معها ثم طلقها، فلها المهر كاملاً، وعليها العدة أبدًا. وروى ابن وهب، عن مالك أنه رجع عن قوله فى الموطأ، فقال: إذا خلا بها حيث كان فالقول قول المرأة. وذكر ابن القصار عن الشافعى أنه إذا دخل بها، فقال: لم أطأ، وقالت: وطئنى، فالقول قول الزوج؛ لأن الخلوة غير المسيس الذى يوجب المهر. وروى ابن علية، عن عوف، عن زرارة بن أوفى، قال: مضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه من أغلق بابًا أو أرخى سترًا فقد وجب المهر والعدة، بهذا احتج الكوفيون بأنه معلوم أنه لا يرخى الستر فى الغالب إلا للوطء، فهى دلالة عليه. وقوله فى الترجمة: وكيف الدخول أو طلقها قبل الدخول، تقديره: أو كيف طلاقها؟ فاكتفى بذكر الفعل عن ذكر المصدر لدلالته عليه، كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 522 تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون) [الصف: 10] ، فأقام) تؤمنون (، وهو فعل مقام الإيمان وهو مصدر. - بَاب الْمُتْعَةِ لِلَّتِى لَمْ يُفْرَضْ لَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) [البقرة: 236] الآية، وَقَوْلِهِ: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: 241] وَلَمْ يَذْكُرِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْمُلاعَنَةِ مُتْعَةً حِينَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا / 17 - فيه: ابْن عُمَر: أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ لِلْمُتَلاعِنَيْنِ: (حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا) . قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَالِى؟ قَالَ: (لا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَذَاكَ أَبْعَدُ وَأَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا) . اختلف العلماء فى المتعة، فقالت طائفة: المتعة واجبة للمطلقة التى لم يدخل بها ولم يسم لها صداقًا، روى ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وهو قول عطاء، والشعبى، والنخعى، والزهرى، وبه قال الكوفيون، ولا يجمع مهر مع المتعة. وقالت طائفة: لكل مطلقة متعة مدخولاً بها كانت أو غير مدخول بها، إذا وقع الفراق من قبله ولم يتم إلا به إلا للتى سمى لها وطلقها قبل الدخول، هذا قول الشافعى، وأبى ثور، وروى عن على بن أبى طالب: لكل مطلقة متعة، وروى مثله عن الحسن، وأبى قلابة، وطائفة، وحجتهم عموم قوله: (وللمطلقات متاع بالمعروف) [البقرة: 241] ، ولم يخص. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 523 وقالت طائفة: المتعة ليست بواجبة فى موضع من المواضع، هذا قول ابن أبى ليلى، وأبى الزناد، وربيعة، وهو قول مالك، والليث، وابن أبى سلمة. واحتج الشافعى بما روى مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أنه قال: لكل مطلقة متعة، إلا التى فرض لها مهر، وقد طلقت ولم يدخل بها فحسبها نصف المهر، وقال الشافعى: وأحسب ابن عمر استدل بقوله تعالى: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) [البقرة: 237] ، فاستدل بالقرآن على أنها مخرجة من جميع المطلقات. ولعله رأى أنه إنما أريد أن تكون المطلقة تأخذ بما استمتع به زوجها منها عند طلاقها شيئًا، فلما كانت المدخول بها تأخذ شيئًا، وغير المدخول بها تأخذ أيضًا إذا لم يفرض لها، وكانت التى لم يدخل بها، وقد فرض لها تأخذ بحكم الله نصف المهر، وهو أكثر من المتعة، ولم يستمتع منها بشىء، فلم تجب لها متعة. وقال أبو عبيد: حجة الكوفيين: وجدنا النساء فى المتعة على ثلاثة ضروب، فكانت الآية التى فيها ذكر المعين لصنفين منهن من المطلقات بعد الدخول إن كان فرض لها صداق أو لم يفرض، والمطلقات قبل الدخول مع تسمية صدقاتهن، فلأولئك المهور كوامل بالمسيس، ولهؤلاء الشطر منها بالتسمية، فلما صار هذان الحقان واجبين، كانت المتعة حينئذ تقوى من الله غير واجبة، ووجدنا الآية التى فيها ذكر الموسر والمقتر هى للنصف الثالث، وهى للمطلقات من غير دخول بهن ولا فرض لهن، وذلك قوله تعالى: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء) [البقرة: 236] الآية، فصارت المتعة لهن حتمًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 524 واجبًا، ولولا هذه المتعة لصار عقد النكاح إذًا يذهب باطلاً من أجل أنهن لم يمسسن، فيستحققن الصدقات ولم يفرض لهن، فيستحققن أيضًا فيها، فلابد من المتعة على كل حال. واحتج من لم يوجب المتعة أصلاً، فقال: قوله تعالى: (ومتعوهن) [البقرة: 236] ، وإن كان ظاهره الوجوب، فقد قرن به ما يدل على الاستحباب، وذلك أنه تعالى قرن بين المعسر والموسر، والواجبات فى النكاح على ضربين، إما أن يكون على حسل حال المنكوحات كالصداق الذى يرجع فيه إلى صداق مثلها، أو يكون على حسب حالهما جميعًا كالنفقات، والمتعة خارجة من هذين المعنيين؛ لأنه اعتبر فيها حال الرجل وحده بأن يكون على الموسر أكثر مما على المعسر، وأيضًا فإن المتعة لو كانت فرضًا كانت مقدرة معلومة كسائر الفرائض فى الأموال، ولم نر فرضًا واجبًا فى المال غير معلوم، فلما لم تكن كذلك خرجت من حد الفرائض إلى حد الندب، وصارت كالصلة والهدية، وأيضًا فإن الله تعالى لما علقها بقوم دل على أنها غير واجبة؛ لأن الواجبات ما لزمت الناس عمومًا كالصلاة والصيام والحج والزكاة، فلما قال: (حقًا على المحسنين) [البقرة: 236] ، و) حقًا على المتقين) [البقرة: 180] ، سقط وجوبها عن غيرهم. وكذلك تأوله شريح، فقال لرجل: متع إن كنت محسنًا، متع إن كنت متقيًا. وقول البخارى: ولم يذكر النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الملاعنة متعة حين طلقها زوجها، حجة لمن قال: لكل مطلقة متعة، والملاعنة غير داخلة فى جملة المطلقات، فلا متعة لها عند مالك والشافعى. قال ابن القاسم: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 525 لا متعة فى كل نكاح مفسوخ، والتلاعن عندهم كالفسخ؛ لأنهما لا يقران على النكاح، فأشبه الردة، قال: وكل فرقة كانت من قبل المرأة قبل البناء وبعده فلا متعة فيها. وأوجب الشافعى للمختلعة والبارية متعة. وقال أصحاب مالك: كيف يكون للمفتدية متعة وهى تعطى، فكيف تأخذ متاعًا؟ وقال ابن المنذر: قوله تعالى: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن) [البقرة: 236] ، دليل على إباحة نكاح المرأة ولا يفرض لها صداقًا، ثم يفرض لها إن مات أو دخل عليها مهر مثلها. واختلفوا إن مات ولم يفرض لها، فقالت طائفة: لها مهر مثلها ولها الميراث وعليها العدة، روى هذا عن ابن مسعود، وبه قال ابن أبى ليلى، والثورى، والكوفيون، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وقالت طائفة: لها الميراث وعليها العدة ولا مهر لها، روى هذا عن على بن أبى طالب، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وابن عمر، وبه قال مالك، والأوزاعى، والشافعى، واستحب مالك ألا يدخل عليها حتى يقدم لها شيئًا أقله ربع دينار. والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 526 بسم الله الرحمن الرحيم 51 - كِتَاب النَّفَقَاتِ - بَاب فَضْلِ النَّفَقَةِ عَلَى الأهْلِ وَقَوْلهُ تَعَالَى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) [البقرة: 219] ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْعَفْوُ الْفَضْلُ. / 1 - فيه: أَبُو مَسْعُود الأنْصَارِىِّ، قَالَ النَّبِىّ عَلَيْهِ السَّلام: (إِذَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُ نَفَقَةً عَلَى أَهْلِهِ، وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً) . / 2 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (قال اللَّهُ: أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ) . / 3 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (السَّاعِى عَلَى الأرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ كالْقَائِمِ اللَّيْلَ، الصَّائِمِ النَّهَارَ) . / 4 - وفيه: سَعْد، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَعُودُنِى، وَأَنَا مَرِيضٌ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ: لِى مَالٌ، أُوصِى بِمَالِى كُلِّهِ؟ قَالَ: (لا) ، قُلْتُ: فَالشَّطْرِ، قَالَ: (لا) ، قُلْتُ: فَالثُّلُث، قَالَ: (الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِى أَيْدِيهِمْ، وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إلى فِى امْرَأَتِكَ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يَرْفَعُكَ حَتَّى يَنْتَفِعُ بِكَ نَاسٌ، وَيُضَرُّ بِكَ آخَرُونَ) . اختلف السلف فى تأويل قوله تعالى: (ويسألونك ماذا ينفقون قل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 527 العفو} [البقرة: 219] ، فروى عن أكثر السلف أن المراد بذلك صدقة التطوع، روى ذلك عن القاسم وسالم، قالا: العفو فضل المال ما تصدق به عن ظهر غنى. وقال الحسن: لا تنفق حتى يجهد مالك فتبقى تسأل الناس، وفيها قول ثالث عن مجاهد، قال: العفو الصدقة المفروضة. قال إسماعيل بن إسحاق: وما ذكره مجاهد غير ممتنع؛ لأن الذى يؤخذ فى الزكاة قليل من كثير، ولكن ظاهر التفسير ومقصد الكلام يدل أنه فى غير الزكاة، والله أعلم. وقال الزجاج: أمر الناس أن ينفقوا الفضل إلى أن فرضت الزكاة، فكان أهل المكاسب يأخذ الرجل من كسبه كل يوم ما يكفيه ويتصدق بباقيه، ويأخذ أهل الذهب والفضة ما ينفقون فى عامهم وينفقون باقيه، روى هذا فى التفسير. ذكر البخارى أن الآية عامة فى النفقة على الأهل وغيرهم؛ لأن الرجل لا تلزمه النفقة على أهله إلا بعد ما يعيش به نفسه، وكان ذلك عن فضل قوته، وقد جاء فى الحديث عن النبى، عليه السلام، فى هذه الأحاديث أن نفقة الرجل على أهله صدقة، فلذلك ترجم بالآية فى النفقة على الأهل. قال الطبرى: إن قال قائل: ما وجه حديث أبى مسعود وحديث سعد وما تأويلهما، وكيف يكون إطعام الرجل أهله الطعام صدقة وذلك فرض عليه؟ فالجواب: أن الله تعالى جعل من الصدقة فرضًا وتطوعًا، ومعلوم أن أداء الفرض أفضل من التطوع، فإذا كان عند الرجل قدر قوته ولا فضل فيه عن قوت نفسه، وبه إليه حاجة، فهو خائف بإيثاره غيره الجزء: 7 ¦ الصفحة: 528 به هلاك نفسه، كائنًا من كان غيره الذى حاجته إليه مثل حاجته، والدًا كان أو ولدًا أو زوجة أو خادمًا، فالواجب عليه أن يحيى به نفسه، وإن كان فيه فضل كان عليه صرف ذلك الفضل حينئذ إلى غيره ممن فرض الله نفقته عليه، فإن كان فيه فضل عما يحيى به نفسه ونفوسهم، وحضره من لم يوجب الله عليه نفقته، وهو مخوف عليه الهلاك إن لم يصرف إليه ذلك الفضل كان له صرف ذلك إليه بثمن أو بقيمة، وإن كان فى سعة وكفاية ولم يخف على نفسه ولا على أحد ممن تلزمه نفقته، فالواجب عليه أن يبدأ بحق من أوجب الله حقه فى ماله، ثم الأمر إليه فى الفضل من ماله، إن شاء تطوع بالصدقة به، وإن شاء ادخره، وإذا كان المنفق على أهله إنما يؤدى فرضًا لله واجبًا له فيه جزيل الأجر، فذلك إن شاء الله معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ومهما أنفقت نفقة، فهى لك صدقة حتى اللقمة ترفعها إلى فى امرأتك) ؛ لأنه بفعله ذلك يؤدى فرضًا لله عليه هو أفضل من صدقة التطوع التى يتصدق بها على غريب منه لا حق له فى ماله. - بَاب وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الأهْلِ وَالْعِيَالِ / 5 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال: قال النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، تَقُولُ الْمَرْأَةُ: إِمَّا أَنْ تُطْعِمَنِى، وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِى، وَيَقُولُ الْعَبْدُ: أَطْعِمْنِى، وَاسْتَعْمِلْنِى، وَيَقُولُ الابْنُ: أَطْعِمْنِى إِلَى مَنْ تَدَعُنِى) ؟ فَقَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: لا، هَذَا مِنْ كِيسِ أَبِى هُرَيْرَةَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 529 قال المهلب: النفقة على الأهل والعيال واجبة بإجماع، وهذا الحديث حجة فى ذلك. وقوله عليه السلام: (وابدأ بمن تعول) ، ولم يذكر إلا الصدقة يدل أن نفقته على من يعول من أهل وولد محسوب له فى الصدقة، وإنما أمرهم الله أن يبدءوا بأهليهم خشية أن يظنوا أن النفقة على الأهل لا أجر لهم فيها، فعرفهم عليه السلام أنها لهم صدقة حتى لا يخرجوها إلى غيرهم إلا بعد أن يقوتوهم. قال الطبرى: وقوله عليه السلام: (وابدأ بمن تعول) ، إنما قال ذلك؛ لأن حق نفس المرء عليه أعظم من حق كل أحد بعد الله، فإذا صح ذلك فلا وجه لصرف ما هو مضطر إليه إلى غيره، إذ كان ليس لأحد إحياء غيره بإتلاف نفسه وأهله، وإنما له إحياء غيره بغير إهلاك نفسه وأهله وولده، إذ فرض عليه النفقة عليهم، وليست النفقة على غيرهم فرضًا عليه، ولا شك أن الفرض أولى بكل أحد من إيثار التطوع عليه. وفيه: أن النفقة على الولد ما داموا صغارًا فرض عليه؛ لقوله: إلى من تدعنى؟ وكذلك نفقة العبد والخادم للمرء واجبة لازمة. قال ابن المنذر: واختلفوا فى نفقة من بلغ من الأبناء ولا مال له ولا كسب، فقالت طائفة: على الأب أن ينفق على ولد صلبه الذكور حتى يحتلوا والنساء حتى يزوجن ويدخل بهن، فإن طلقها بعد البناء أو مات عنها فلا نفقة لها على أبيها، وإن طلقها قبل البناء فهى على نفقتها، ولا نفقة لولد الولد على الجد، هذا قول مالك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 530 وقالت طائفة: ينفق على ولده حتى يبلغ الحلم والمحيض، ثم لا نفقة عليه إلا أن يكونوا زمنى، وسواء فى ذلك الذكور والإناث ما لم يكن لهم أموال، وسواء فى ذلك ولده أو ولد ولده وإن سفلوا ما لم يكن لهم أب دونه يقدر على النفقة عليهم، هذا قول الشافعى. وقال الثورى: يجبر الرجل على نفقة ولده الصغار غلامًا كان أو جارية، فإن كانوا كبارًا أجبر على نفقة النساء ولا يجبر على نفقة الرجال إلا أن يكونوا زمنى. وأوجبت طائفة النفقة لجميع الأطفال والبالغين من الرجال والنساء إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها عن نفقة الوالد على ظاهر قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لهند: (خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، ولم يستثن ولدًا بالغًا دون طفل. وقوله فى حديث أبى هريرة: يقول الابن: أطعمنى إلى من تدعنى؟ يدل على أنه إنما يقول ذلك من لا طاقة له على الكسب والتحرف، ومن بلغ سن الحلم فلا يقول ذلك؛ لأنه قد بلغ حد السعى على نفسه والكسب لها، بدليل قوله تعالى: (حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم) [النساء: 6] ، فجعل بلوغ النكاح حدًا فى ذلك. واختلفوا فى المعسر هل يفرق بينه وبين امرأته بعدم النفقة؟ فقال مالك، والليث، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: إذا أعسر بالنفقة، فللزوجة الخيار بين أن تقيم عليه، ولا يكون لها شىء فى ذمته أصلاً، وبين أن تطلب الفراق فيفرق الحاكم بينهما، وقاله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 531 من الصحابة عمر، وعلى، وأبو هريرة، ومن التابعين سعيد بن المسيب، وقال: إن ذلك سنة. وقالت طائفة: لا يفرق بينهما ويلزمها الصبر عليه وتتعلق النفقة بذمته بحكم الحاكم، هذا قول عطاء، والزهرى، وإليه ذهب الكوفيون والثورى، واحتجوا بقوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) [البقرة: 280] ، فوجب أن ينظر حتى يوسر، وبقوله: (وأنكحوا الأيامى منكم (إلى) يغنهم الله) [النور: 32] ، فندب تعالى إلى إنكاح الفقير، فلا يجوز أن يكون الفقر سببًا للفرقة، وهو مندوب معه إلى النكاح. واحتج عليهم أهل المقالة الأولى بقوله عليه السلام فى حديث أبى هريرة: إما أن تطعمنى، وإما أن تطلقنى، وهذا نص قاطع فى موضع الخلاف، وقالوا أيضًا: أما قوله: (إن يكونوا فقراء يغنهم الله) [النور: 32] ، لم يرد الفقير الذى لا شىء معه أصلاً، وإنما المراد الفقير الذى حالته منحطة عن حالة الغنى، بدليل أنه ندبه إلى النكاح، وأجمعوا أنه من لا يقدر على نفقة الزوجة غير مندوب إلى النكاح ولا مستحب له. وأما قوله: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) [البقرة: 280] ، فإنما ورد فى المداينات التى تتعلق بالذمم، واحتجوا بقوله تعالى: (ولا تمسكوهن ضرارًا لتعتدوا) [البقرة: 231] ، وإذا لم ينفق عليها فهو مضر بها، فوجب عليه الفراق إن طلبته، فإن قال الكوفيون: لو كان قوله تعالى: (ولا تمسكوهن ضرارًا لتعتدوا (، نهيًا واجبًا لم يجز الإمساك وإن رضيته، فيقال لهم: قامت دلالة الإجماع على جواز الجزء: 7 ¦ الصفحة: 532 إمساكهن إذا رضين بذلك، وأما الإعسار فلو أعسر بنفقة خادم أو حيوان له، فإن ذلك يزيل ملكه عنه ويباع عليه، كذلك الزوجة، وأيضًا فإن العنين يجبر على طلاق زوجته إذا لم يطأ، والوطء لمدة يمكن الصبر على فقدها ويقوم بدن المرأة بعدمها، والصبر عن القوت ليس كذلك فصارت الفرقة أولى عند عدم النفقة. 3 - بَاب حَبْسِ الرَّجُلِ قُوتَ سَنَةٍ عَلَى أَهْلِهِ / 6 - وَقَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ لِى الثَّوْرِىُّ: هَلْ سَمِعْتَ فِى الرَّجُلِ يَجْمَعُ لأهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ أَوْ بَعْضِ السَّنَةِ؟ قَالَ مَعْمَرٌ: فَلَمْ يَحْضُرْنِى، ثُمَّ ذَكَرْتُ حَدِيث ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عُمَرَ بن الخطاب: أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، كَانَ يَبِيعُ نَخْلَ بَنِى النَّضِيرِ، وَيَحْبِسُ لأهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ. / 7 - وفيه: إِنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ (صلى الله عليه وسلم) فِى هَذَا الْمَالِ بِشَىْءٍ. . . . . - إلى قوله -: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنه، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِىَ، فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ. . . الحديث. قال المهلب: فى هذا الحديث دليل على جواز ادخار القوت للعالم للأهل والعيال، وأن ذلك لا يكون حكرة، وأن ما ضمه الإنسان من أرضه أو جَدَّه من نخله وثمره وحبسه لقوته لا يسمى حكرة، ولا خلاف فى هذا بين الفقهاء. قال الطبرى: فى هذا رد على الصوفية فى قولهم: إنه ليس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 533 لأحد ادخار شىء فى يومه لغده، وأن فاعل ذلك قد أساء الظن بربه، ولم يتوكل عليه حق توكله، ولا خفاء بفساد هذا القول؛ لثبوت الخبر عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يدخر لأهله قوت السنة. وفيه أكبر الأسوة لأمر الله تعالى عباده باتباع سنته، فهو الحجة على جميع خلقه، وقد تقدم هذا المعنى مستوعبًا فى كتاب الخمس فى باب نفقة نساء النبى (صلى الله عليه وسلم) بعد وفاته، فأغنى عن إعادته. 4 - بَاب قول اللَّهُ تَعَالَى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ (إِلَى: (بَصِيرٌ) [البقرة: 233] وَقَالَ: (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) [الطلاق: 6] الآية وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِىِّ: نَهَى اللَّهُ أَنْ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا، وَذَلِكَ أَنْ تَقُولَ الْوَالِدَةُ: لَسْتُ مُرْضِعَتَهُ. وَهِىَ أَمْثَلُ لَهُ غِذَاءً، وَأَشْفَقُ عَلَيْهِ، وَأَرْفَقُ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَأْبَى بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ نَفْسِهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْمَوْلُودِ لَهُ أَنْ يُضَارَّ بِوَلَدِهِ وَالِدَتَهُ، فَيَمْنَعَهَا أَنْ تُرْضِعَهُ ضِرَارًا لَهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَسْتَرْضِعَا عَنْ طِيبِ نَفْسِ الْوَالِدِ وَالْوَالِدَةِ: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا [عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ] فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) [البقرة: 233] بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ،) فِصَالُهُ (: فِطَامُهُ. قال أهل التأويل: قوله: (والوالدات يرضعن أولادهن) [البقرة: 233] ، لفظه لفظ الخبر، ومعناه الأمر لما فيه من الإلزام، كما تقول: حسبك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 534 درهم، فلفظه لفظ الخبر، ومعناه: اكتف بدرهم، ومعنى الآية: لترضع الوالدات أولادهن، يعنى اللواتى بن من أزواجهن، ولهن أولاد قد ولدنهن منهم قبل بينونتهن، يرضعن أولادهن، يعنى أنهن أحق برضاعهن من غيرهن، وليس ذلك بإيجاب من الله عليهن رضاعهم إذا كان المولود له حيًا موسرًا، بقوله فى سورة النساء القصرى: (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى) [الطلاق: 6] ، فأخبر أن الوالدة والمولود له إن تعاسرا فى الأجرة التى ترضع بها المرأة ولدها أن أخرى سواها ترضعه، فلم يوجب عليها فرضًا رضاع ولدها. وبيان ذلك أن قوله: (والوالدات يرضعن أولادهن) [البقرة: 233] ، دلالة على مبلغ غاية الرضاعة التى متى اختلف الوالدان فى إرضاع الولد بعدها جعل حدا يفصل به بينهما، لا دلالة على أن فرضًا على الوالدات رضاع أولادهن، وأكثر أهل التفسير على أن المراد بالوالدات هاهنا المبتوتات بالطلاق، وأجمع العلماء على أن أجر الرضاع على الزوج إذا خرجت المطلقة من العدة. قال مالك: الرضاع على المرأة إن طلقها طلاقًا رجعيًا ما لم تنقض العدة، فإن انقضت فعلى الأب أجر الرضاع، وكذلك إن كان الطلاق ثلاثًا فعليه أجر الرضاع، وإن لم تنقض العدة، والأم أولى بذلك إلا أن يجد الأب بدون ما سألت، فذلك له إلا ألا يقبل الولد غيرها ويخاف على الولد الموت فلها رضاعه بأجر مثلها وتجبر على ذلك. واختلفوا فى ذات الزوج هل تجبر على رضاع ولدها؟ فقال ابن أبى ليلى: تجبر على رضاعه ما كانت امرأته، وهذا قول مالك، وأبى ثور. وقال الكوفيون، والثورى، والشافعى: لا يلزمها رضاعه وهو على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 535 الزوج على كل حال. وقال ابن القاسم: تجبر على رضاعه إلا أن يكون مثلها لا يرضع، فذلك على الزوج، وحجة من جعل الرضاع على الأم ظاهر قوله: (والوالدات يرضعن أولادهن (إلى قوله: (بالمعروف) [البقرة: 233] ، فأمر الوالدات الزوجات بإرضاع أولادهن، وأوجب لهن على الأزواج النفقة والكسوة، والزوجية قائمة، فلم يجمع لهما النفقة والأجرة، فلو كان الرضاع على الأب لذكره مع ما ذكر من رزقهن وكسوتهن، ولم يوجب ذلك على الوالدات، ولا يراد بالآية الوالدات اللاتى بنَّ من أزواجهن. وحجة من قال: الرضاع على الأب، أنه لا يخلو أن تجبر على رضاعه لحرمة الولد أو لحرمة الزوج، قالوا: فبطل أن تجبر لحرمة الولد؛ لأنها لا تجبر عليه إذا كانت مطلقة ثلاثًا بإجماع، وحرمة الولد موجودة، وبطل أن تجبر لحرمة الزوج؛ لأنه لو أراد أن يستخدمها فى حق نفسه لم يكن له ذلك، فلئلا يكون له ذلك فى حق غيره أولى، فصح أنها لا تجبر عليه أصلاً. ومن رد الأمر فى ذلك إلى العادة والعرف، فلأن ذلك أصل محكوم به فى نفقته عليها وخدمتها له، فكذلك فى الرضاع إذا كانت ممن ترضع أو لا ترضع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 536 5 - بَاب نَفَقَةِ الْمَرْأَةِ إِذَا غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَنَفَقَةِ الْوَلَدِ / 8 - فيه: عَائِشَةَ، جَاءَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَىَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنِ الَّذِى لَهُ عِيَالَنَا؟ قَالَ: (لا، إِلا بِالْمَعْرُوفِ) . / 9 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ، فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِهِ) . وفيه: وجوب نفقة الأهل والولد وإلزام ذلك الزوج، وإن كان غائبًا إذا كان له مال حاضر، واختلف العلماء فى ذلك، فقالت طائفة: نفقتها عليه ثابتة فى غيبته، روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعن الحسن البصرى، وهو قول مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وقال أبو حنيفة: ليس لها نفقة عليه إلا أن يفرضها السلطان، ولو استدانت عليه وهو غائب لم يفرض لها شيئًا. قال ابن المنذر: نفقات الزوجات فرض على أزواجهن، وقد وجب عليه فرض، فلا يسقط عنه لغيبته إلا فى حال واحدة، وهى أن تعصى المرأة وتنشز عليه وتمتنع منه، فتلك حال قد أجمع أهل العلم على سقوط النفقة فيها عنه إلا من شذ عنهم، وهو الحكم بن عتيبة وابن القاسم صاحب مالك، ولا يلتفت إلى من شذ عن الجماعة، ولا يزيل وقوف الحاكم عن إنفاذ الحكم بما يجب فرضًا أوجبه الله، والسنة مستقلة بنفسها عن أن يزيدها حكم الحاكم تأكيدًا، والفرائض والديون التى يجب أداؤها، والوفاء بالنذور، وما يجب فى الأموال من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 537 الجنايات على الأبدان مثلما يجب فى الحج من الصوم من كفارة وفدية لا يزيله وقوف الحاكم عن الحكم به. ووجد حديث أبى هريرة فى هذا الباب، وإن كان فى صدقة التطوع وحديث هند فى الانتصاف من حق لها منعته، فإن المعنى الجامع بينهما أنه كما جاز للمرأة أن تتصدق من مال زوجها بغير أمره بما يشبه وتعلم أنه يسمح الزوج بمثله، وذلك غير واجب عليه ولا عليها أن تتصدق عنه بماله كان أخذها من مال الزوج من غير علمه ما يجب عليه ويلزمه غرمه أجوز أن تأخذه، ويقضى لها به، والله الموفق. وفى حديث عائشة جواز القضاء على الغائب، وسيأتى فى كتاب الأحكام. 6 - بَاب عَمَلِ الْمَرْأَةِ فِى بَيْتِ زَوْجِهَا / 10 - فيه: عَلِىٌّ، أَنَّ فَاطِمَةَ أَتَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِى يَدِهَا مِنَ الرَّحَى، وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ، فَلَمْ تُصَادِفْهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ، قَالَ: فَجَاءَنَا، وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا نَقُومُ، فَقَالَ: عَلَى مَكَانِكُمَا، فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنِى وَبَيْنَهَا، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِى، فَقَالَ: أَلا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا، إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا - أَوْ أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا - فَسَبِّحَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ وَاحْمَدَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلاثِينَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 538 وترجم له باب خادم المرأة. وقال فيه على: فما تركتها بعد، قيل: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين. قال ابن حبيب: إن الزوج إذا كان معسرًا وإن كانت الزوجة ذات قدر وشرف، فإن عليها الخدمة الباطنة كالعجن والطبخ والكنس وما شاكله، وهكذا أوضح لى ابن الماجشون وأصبغ. قال ابن حبيب: وكذلك حكم النبى، عليه السلام، على فاطمة بالخدمة الباطنة من خدمة البيت، وحكم على علىّ بالخدمة الظاهرة، وقال بعض شيوخى: لا نعرف فى شىء من الأخبار الثابتة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قضى على فاطمة بالخدمة الباطنة، وإنما كان نكاحهم على المتعارف بينهم من الإجمال وحسن العشرة، وأما أن تجبر المرأة على شىء من الخدمة، فليس لها أصل فى السنة، بل الإجماع منعقد على أن على الزوج مئونة الزوجة كلها. وقال الطحاوى: لم يختلفوا أن المرأة ليس عليها أن تخدم نفسها، وأن على الزوج أن يكفيها ذلك، وأنه لو كان معها خادم لم يكن للزوج إخراج الخادم من بيته، فوجب أن تلزمه نفقة الخادم على حسب حاجتها إليه، وذكر ابن الحكم عن مالك أنه ليس على المرأة خدمة زوجها. وقال الطبرى: فى حديث فاطمة الإبانة عن أن كل من كانت به طاقة من النساء على خدمة نفسها فى خبز أو طحين وغير ذلك مما تعانيه المرأة فى بيتها أو لا يحتاج فيه إلى الخروج أن ذلك موضوع عن زوجها إذا كان معروفًا لها أن مثلها تلى ذلك بنفسها، وأن زوجها غير مأخوذ بأن يكفيها ذلك، كما هو مأخوذ فى حال عجزها عنه إما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 539 بمرض أو زمانة، وذلك أن فاطمة إذ شكت ما تلقى فى يدها من الطحن والعجين إلى أبيها، وسألته خادمًا لعونها على ذلك، لم يأمر زوجها عليًّا بأن يكفيها ذلك، ولا ألزمه وضع مئونة ذلك عنها إما بإخدامها أو باستئجار من يقوم بذلك، بل قد روى عنه، عليه السلام، أنه قال لها: (يا بنية اصبرى، فإن خير النساء التى نفعت أهلها) . وفى هذا القول من النبى، عليه السلام، دليل بين أن فاطمة مع قيامها بخدمة نفسها كانت تكفى عليًّا بعض مؤنه من الخدمة، ولو كانت كفاية ذلك على علىّ، لكان قد تقدم عليه السلام إلى علىّ فى كفايتها ذلك، كما تقدم إليه إذ أراد الابتناء بها أن يسوق إليها صداقها حين قال له: (أين درعك الحطمية؟) . وغير جائز أن يعلم النبى (صلى الله عليه وسلم) أمته الجميل من محاسن الأخلاق ويترك تعليمهم الفروض التى ألزمهم الله، ولا شك أن سوق الصداق إلى المرأة فى حال إرادته الابتناء بها غير فرض إذا رضيت بتأخيره عن زوجها. فإن قيل: فإنك تلزم الرجل إذا كان ذا سعة كفاية زوجته الخدمة إذا كانت المرأة ممن لا يخدم مثلها. قيل: حكم من كان كذلك من النساء حكم ذوات الزمانة والعاهة منهن اللواتى لا يقدرن على خدمة، ولا خلاف بين أهل العلم أن على الرجل كفاية من كان منهن كذلك، فلذلك ألزمنا الرجل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 540 كفاية التى لا تخدم نفسها مئونة الخدمة التى لا تصلح لها، وألزمناه مئونة خادم إذا كان فى سعة، وبنحو الذى قلنا نزل القرآن، وذلك قوله: (لينفق ذو سعة) [الطلاق: 7] الآية، وعليه علماء الأمة مجمعة. وقال غيره: وشذ أهل الظاهر عن الجماعة، فقالوا: ليس عليه أن يخدمها إن كان موسرًا أو كانت ممن لا يخدم مثلها، وحجة الجماعة قوله: (وعاشروهن بالمعروف) [النساء: 19] ، وإذا احتاجت إلى من يخدمها فلم يفعل لم يعاشرها بالمعروف. وقال مالك، والليث، ومحمد بن الحسن: يفرض لها ولخادمين إذا كانت خطيرة. وقال الكوفيون والشافعى: يفرض لها ولخادمها النفقة، وقد تقدم شىء من معنى هذا الباب فى كتاب النكاح فى باب الغيرة فى حديث أسماء. وقوله: باب خادم المرأة، فإن عامة الفقهاء متفقون أن الرجل إذا أعسر عن نفقة الخادم أنه لا يفرق بينه وبين امرأته، وإن كانت ذات قدر؛ لأن عليًا لم يلزمه النبى، عليه السلام، إخدام فاطمة فى عسرته، ولا أمره أن يكفيها ما شكت من الرحى. قال المهلب: وفى هذا الحديث من الفقه أن المرأة الرفيعة القدر يجمل بها الامتهان فى المشاق من خدمة زوجها مثل الطحن وشبهه؛ لأنه لا أرفع منزلة من بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ولكنهم كانوا يؤثرون الآخرة ولا يترفهون عن خدمتهم احتسابًا لله وتواضعًا فى عبادته. وفيه: إيثار التقليل من الدنيا والزهد فيها رغبة فى ثواب الآخرة، ألا ترى إلى قوله عليه السلام: (ألا أدلكما على خير مما سألتما) ، فدلهما على التسبيح والتحميد والتكبير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 541 7 - بَاب خِدْمَةِ الرَّجُلِ فِى أَهْلِهِ / 11 - فيه: الأسْوَدِ: أنه سَأَل عَائِشَةَ، مَا كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَصْنَعُ فِى الْبَيْتِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ فِى مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا سَمِعَ الأذَانَ خَرَجَ. قال المهلب: هذا من فعله، عليه السلام، على سبيل التواضع وليسن لأمته ذلك، فمن السنة أن يمتهن الإنسان نفسه فى بيته فيما يحتاج إليه من أمر دنياه وما يعينه على دينه، وليس الترفه فى هذا بمحمود ولا من سبيل الصالحين، وإنما ذلك من سير الأعاجم. وفيه: أن شهود صلاة الجماعة من آكد السنن، فلم يتخلف عن ذلك، عليه السلام، إلا فى مرضه، وكان شديد المحافظة عليها. 8 - بَاب إِذَا لَمْ يُنْفِقِ الرَّجُلُ فَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْخُذَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا بِالْمَعْرُوفِ / 12 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ هِنْدًا، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ، يُعْطِينِى مَا يَكْفِينِى وَوَلَدِى، إِلا مَا أَخَذْتُ مِنْهُ، وَهُوَ لا يَعْلَمُ، فَقَالَ: (خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ) . فى هذا الحديث من الفقه: أنه يجوز للإنسان أن يأخذ من مال من منعه من حقه أو ظلمه بقدر ماله عنده، ولا إثم عليه فى ذلك؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أجاز لهند ما أخذت من مال زوجها بالمعروف، وأصل هذا الحديث فى التنزيل فى قوله تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) [النحل: 126] ، وقد تقدم فى كتاب المظالم اختلاف العلماء فيمن يجحد وديعة ثم يجد المودع له مالاً هل يأخذ عوضًا من حقه أم لا؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 542 وفيه: أن وصف الإنسان بما فيه من النقص على سبيل التظلم منه والضرورة إلى طلب الإنصاف من حق عليه أنه جائز وليس بغيبة؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم ينكر عليها قولها. واختلف العلماء فى مقدار ما يفرض السلطان للزوجة على زوجها، فقال مالك: يفرض لها بقدر كفايتها فى اليسر والعسر، ويعتبر حالها من حاله، وبه قال أبو حنيفة، وليست مقدرة. قال الشافعى: هى مقدرة باجتهاد الحاكم فيها، وهى معتبرة بحال الزوج دون حال المرأة، فإن كان موسرًا فمدان لكل يوم، وإن كان متوسطًا فمد ونصف، وإن كان معسرًا فمد، فيجب لبنت الخليفة ما يجب لبنت الحارس. وحجة مالك والكوفيون قوله: (لينفق ذو سعة من سعته) [الطلاق: 7] ، ولم يذكر لها تقديرًا. وقال لهند: (خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، فلم يقدر لها ما تأخذه لولدها ونفسها، فثبت أنها غير مقدرة وأنها على قدر كفايتها، وإنما يجب ذلك كله بالعقد والتمكين وهو عوض من الاستمتاع عند العلماء. 9 - بَاب حِفْظِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِى ذَاتِ يَدِهِ وَالنَّفَقَةِ عليه / 13 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ عَلَيْهِ السَّلام: (خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ - وَقَالَ الآخَرُ: صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ - أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِى صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِى ذَاتِ يَدِهِ) . وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 543 قال المهلب: فى هذا تفضيل نساء قريش على نساء العرب، وذلك لمعنيين: أحدهما: الحنو على الولد والتهمم بأمره وحسن تربيته وإلطافه. والثانى: الحفظ بذات يد الزوج وعونه على دهره، فى هاتين الخصلتين تفضل المرأة غيرها عند الله وعند رسوله، وكذلك يروى عن عمر أنه مدح المرأة التى تعين على الدهر ولا تعين الدهر عليك. وقال الحسن فى تفسير هذا الحديث: الحانية التى لا تزوج ولها ولد. - بَاب كِسْوَةِ الْمَرْأَةِ بِالْمَعْرُوفِ / 14 - فيه: عَلِىّ، آتَى إِلَىَّ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، بِحُلَّةٍ سِيَرَاءَ فَلَبِسْتُهَا، فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِى وَجْهِهِ، فَشَقَّقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِى. أجمع العلماء أن للمرأة نفقتها وكسوتها بالمعروف واجبة على الزوج، وقد ذكر بعض أهل العلم أنه يجب أن يكسو ثياب بلد كذا، والصحيح فى ذلك ألا يحمل أهل البلدان على كسوة واحدة، وأن يؤمر أهل كل بلد من الكسوة بما يجرى فى عرف بلدهم، بقدر ما يطيقه المأمور على قدر الكفاية لها، وما يصلح لمثلها، وعلى قدر يسره وعسره، ألا ترى أن عليًّا شق الحلة بين نسائه حين لم يقدر على أن يكسو كل واحدة منهن بحلة كاملة، وكذلك قال عليه السلام لهند: (خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، ولو كان فى ذلك حد معلوم لأمرها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) به، فينبغى للحاكم أن يجتهد فى ذلك بقدر ما يراه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 544 - بَاب عَوْنِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِى وَلَدِهِ / 15 - فيه: جَابِر، هَلَكَ أَبِى، وَتَرَكَ سَبْعَ بَنَاتٍ - أَوْ تِسْعَ بَنَاتٍ - فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً ثَيِّبًا، فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (تَزَوَّجْتَ يَا جَابِرُ) ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا) ؟ قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبًا، قَال: (فَهَلا جَارِيَةً، تُلاعِبُهَا وَتُلاعِبُكَ، وَتُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ) ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ عَبْدَاللَّهِ هَلَكَ، وَتَرَكَ بَنَاتٍ، وَإِنِّى كَرِهْتُ أَنْ أَجِيئَهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ، فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً تَقُومُ عَلَيْهِنَّ وَتُصْلِحُهُنَّ، فَقَالَ: (بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، أَوْ قَالَ: خَيْرًا) . عون المرأة زوجها فى ولده من غيرها ليس بواجب عليها، وإنما هو من حسن الصحبة وجميل المعاشرة، ومن سير صالحات النساء وذوات الفضل منهن مع أزواجهن، وقد تقدم هل يلزم المرأة خدمة زوجها. - بَاب نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ عَلَى أَهْلِهِ / 16 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَتَى النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، رَجُلٌ، فَقَالَ: هَلَكْتُ، قَالَ: (وَلِمَ) ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِى فِى رَمَضَانَ، قَالَ: (فَأَعْتِقْ رَقَبَةً) ، قَالَ: لَيْسَ عِنْدِى، قَالَ: (فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) ، قَالَ: لا أَسْتَطِيعُ، قَالَ: (فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا) ، قَالَ: لا أَجِدُ، فَأُتِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ: (أَيْنَ السَّائِلُ) ؟ قَالَ: هَا أَنَا ذَا، قَالَ: (تَصَدَّقْ بِهَذَا) ، قَالَ: عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّه، فَوَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا، قَالَ فَضَحِكَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، قَالَ: (فَأَنْتُمْ إِذًا) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 545 إنما أراد البخارى فى هذا الحديث إثبات نفقة المعسر على أهله ووجوبها عليه، وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أباح له إطعام أهله بوجود العرق من التمر، وهو ألزم له من الكفارة، وزعم الطبرى أن قياس قول أبى حنيفة، والثورى: أن الكفارة دين عليه لا تسقطها عنه عسرته، وهو قول مالك وعامة العلماء وأصلهم أن كل ما لزم أداؤه فى اليسار لزم الذمة إلى الميسرة، إن شاء الله. - بَاب) وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) [البقرة: 233] وَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْهُ شَىْءٌ؟) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ) [النحل: 76] الآية / 17 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ، لِى مِنْ أَجْرٍ فِى بَنِى أَبِى سَلَمَةَ أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْهِمْ، وَلَسْتُ بِتَارِكَتِهِمْ هَكَذَا وَهَكَذَا، إِنَّمَا هُمْ بَنِىَّ، قَالَ: (نَعَمْ لَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ) . / 18 - وفيه: هِنْدُ، قالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ فَهَلْ عَلَىَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِينِى وَبَنِىَّ؟ قَالَ: (خُذِى بِالْمَعْرُوفِ) . اختلف العلماء فى تأويل قوله تعالى: (وعلى الوارث مثل ذلك) [البقرة: 233] ، فروى عن ابن عباس، قال: عليه أن لا يضار، وهو قول الشعبى، ومجاهد، والضحاك، ومالك، قالوا: عليه أن لا يضار ولا غرم عليه. وقالت طائفة: على الوارث ما كان على الوالد من أجر الرضاع إذا كان الولد لا مال له. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 546 ثم اختلفت هذه الطائفة فيمن الوارث الذى عناه الله فى هذه الآية على أقوال: فقالت طائفة: هو كل وارث للأب أبًا كان أو عمًا، أو ابن عم، أو ابن أخ، روى هذا عن الحسن البصرى، قال: (وعلى الوارث مثل ذلك) [البقرة: 233] ، قال: على الرجال دون النساء، وهو قول النخعى ومجاهد. وقال آخرون: هو من ورثته من كان ذا رحم محرم للمولود، فمن كان ذا رحم وليس بمحرم كابن العم والمولى، فليس ممن عناه الله بالآية، هذا قول أبى حنيفة وأصحابه. وقال آخرون: الذى عنى الله بقوله: (وعلى الوارث مثل ذلك (هو المولود نفسه، روى هذا عن قبيصة بن ذؤيب، والضحاك، وتأولوا على الوارث المولود ما كان على المولود له. وقال آخرون: هو الباقى من والدى المولود بعد وفاة الآخر منهما، وهذا يوجب أن تدخل الأم فى جملة الورثة الذين عليهم أجر الرضاع، فيكون عليها رضاع ولدها واجبًا إن لم يترك أبوه مالاً، روى هذا القول عن زيد بن ثابت، قال: إذا خلف أمًا وعمًا، فعلى كل واحد رضاعه بقدر ميراثه، وهو قول الثورى. وإلى رد هذا القول أشار البخارى بقوله: وهل على المرأة منه شىء؟ يعنى من رضاع الصبى ومئونته، فذكر قوله تعالى: (وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر) [النحل: 76] ، شبه منزلة المرأة من الوارث منزلة الأبكم الذى لا يقدر على النطق من المتكلم، وجعلها كلا على من يعولها، وذكر حديث أم سلمة والمعنى فيه أن أم سلمة كان لها ابنًا من أبى سلمة، ولم يكن لهم مال، فسألت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 547 النبى (صلى الله عليه وسلم) إن كان لها أجر فى الإنفاق عليهم مما يعطيها النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فأخبرها أن لها أجرًا فى ذلك، فدل هذا الحديث أن نفقة بنيها لا تجب عليها، ولو وجبت عليها لم تقل للنبى (صلى الله عليه وسلم) : (ولست بتاركتهم) ، وبين لها النبى (صلى الله عليه وسلم) أن نفقتهم واجبة عليها سواء تركتهم أو لم تتركهم. وأما حديث هند، فإن النبى، عليه السلام، أطلقها على أخذ نفقة بنيها من مال الأب، ولم يوجبها عليها كما أوجبها على الأب، فاستدل البخارى أنه لما لم يلزم الأمهات نفقة الأبناء فى حياة الآباء، فكذلك لا يلزمها بموت الآباء، وحجة أخرى وذلك أن قوله: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن) [البقرة: 233] ، يعنى رزق الأمهات وكسوتهن من أجل الرضاع للأبناء، فكيف يعطيهن فى أول الآية وتجب عليهن نفقة الأبناء فى آخرها. وأما من قال: (وعلى الوارث مثل ذلك (، هو الولد، فيقال له: لو أريد بذلك الولد لقال تعالى: وعلى المولود مثل ذلك، فلما قال: (وعلى الوارث مثل ذلك (، وكان الوارث اسمًا عامًا يقع على جماعة غير الولد، لم يجز أن يخص به الولد ويقتصر عليه دون غيره إلا بدلالة بينة وحجة واضحة. قال إسماعيل بن إسحاق: وأما قول أبى حنيفة فى إيجابه رضاع الصبى ونفقته على كل ذى رحم محرم، مثل أن يكون رجل له ابن أخت صغير محتاج وابن عم صغير محتاج وهو وارثه، فإن النفقة تجب على الخال لابن أخته الذى لا يرثه، وتسقط عن ابن العم لابن عمه الذى يرثه، فقالوا قولاً ليس فى كتاب الله، ولا نعلم أحدًا قاله، وإنما أوجب بعضهم الرضاعة على الوارث لما تأول من القرآن، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 548 وأسقط بعضهم ذلك عنه لما تأول أيضًا، وهم الذين قالوا: على الوارث ألا يضار، ولا غرم عليه، فأما النفقة على كل ذى رحم محرم، فليس فى قولهم تأويل للقرآن، ولا اتباع للحديث، ولا قياس على أصل يرجع إليه، ومذهب مالك فى هذا الباب أنه لا تجب نفقة الصغير إلا على الأب خاصة، وهو المذكور فى القرآن فى قوله: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) [البقرة: 233] ، وفى قوله: (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) [الطلاق: 6] . فلما وجب على الأب الإنفاق على من ترضع ولده وجب عليه النفقة على ولده إذا خرج من الرضاع ما دام صغيرًا، ووجب أن يغذى بالطعام كما كان يغذى بالرضاع، ولم تجب النفقة على الوارث لما فى تأويل الآية من الاختلاف، وليس مجراهم فى النظر مجرى الأب؛ لأن الأب وجب عليه رضاع ولده حين ولد، ولم يجب على غيره من ورثته، فلا يرجع ذلك عليهم بعد أن لم يكن واجبًا فى الأصل إلا بحجة، وكان يجب على قولهم: إذا مات الرجل عن امرأته وهى حامل ولم يخلف مالاً أن يلزموا العصبة النفقة على المرأة من أجل ما فى بطنها، وكان يجب على مذهب أبى حنيفة أن يلزموا كل ذى رحم محرم النفقة على هذه الأم من أجل ما فى بطنها، كما يلزموا أجر رضاعه إذا أرضعته أمه؛ لأنهم إنما يلزمون الرحم النفقة على الأم التى ترضع المولود من أجل المولود. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 549 - بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ عَلَيْهِ السَّلام: (مَنْ تَرَكَ كَلا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَىَّ / 19 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَيَسْأَلُ هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلا؟ فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً صَلَّى عليه، وَإِلا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: (صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ) ، الحديث، إلى قوله: (فَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَعَلَىَّ قَضَاؤُهُ) . وقد تقدم فى باب الكفالة والحوالة. - بَاب الْمَرَاضِعِ مِنَ الْمَوَالِيَاتِ وَغَيْرِهِنَّ / 20 - فيه: أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْكِحْ أُخْتِى بِنْتَ أَبِى سُفْيَانَ، قَالَ: (وَتُحِبِّينَ ذَلِكِ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِى فِى الْخَيْرِ أُخْتِى، فَقَالَ: (إِنَّ ذَلِكِ لا يَحِلُّ لِى) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِى سَلَمَةَ، فَقَالَ: (بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِى فِى حَجْرِى مَا حَلَّتْ لِى، إِنَّهَا بِنْتُ أَخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِى وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلا تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ) . وَقَالَ عُرْوَةُ: ثُوَيْبَةُ أَعْتَقَهَا أَبُو لَهَبٍ. قال المهلب: الترجمة صحيحة، وكانت العرب فى أول أمرها تكره رضاع الإماء، وتقتصر على العربيات من الظئورة، طلبًا لنجابة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 550 الولد، فأراهم النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قد رضع فى غير العرب، وأن رضاعة الإماء لا يهجن. وفيه: أن الأخوة بالرضاع حرمتها كحرمة الأخوة من النسب. وقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (بنت أم سلمة) ، إنما هو على وجه التقرير على تصحيح المسألة؛ لأنه قد كان يجوز للنبى (صلى الله عليه وسلم) أن ينكح بنات أبى سلمة من غير أم سلمة زوج النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن الجمع بين امرأة الرجل وابنته من غيرها حلال عند جماعة الفقهاء؛ لأنه ليس بينهما نسب، وقد تقدمت هذه المسألة فى كتاب النكاح فى باب ما يحل من النساء ويحرم. وقوله فى الترجمة: (المواليات) ، كان الأقرب أن يقول: الموليات جمع مولاة، و (المواليات) جمع موالى، جمع التكسير، ثم جمع موالى جمع السلامة بالألف والتاء، فصار مواليات جمع الجمع، والحمد لله وحده. مسألة الكفلاء الستة وذلك أن رجلاً باع لست رجال سلعة بستمائة درهم: زيد، وعمرو، وعبد الله، وسليمان، وعبد الصمد، وعبد الواحد، فلقى رب المال زيدًا، فأخذه بالستمائة، ثم إن زيدًا لقى عمرًا، فقال له زيد: أعطنى ما أعطيت عنك، وذلك مائة درهم ومائتين من قبل الكفالة التى تكفلنا بها، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 551 فيصبح على عمرو ثلاثمائة وعلى زيد ثلاثمائة. ثم إن عبد الله لقيه عمرو، فقال له: أعطنى خمسين أديتها عنك، وأنا وأنت كفيلان بمائة وخمسين، فيكون عليك النصف منها وعلىّ أنا النصف، وذلك خمسة وسبعون، فقد أديت بالكفالة خمسة وسبعين، وكذلك أنت أيضًا، فجملة ما أدى عبد الله خمسة وعشرون ومائة. ثم إن عبد الله لقيه زيد، فقال له زيد: أعطنى ما أديت عنك، وذلك خمسة وخمسون ومائة بينى وبينك من الكفالة، فقال له عبد الله: فقد أديت أنا أيضًا لعمرو خمسة وسبعين من الكفالة، فنقسم أنا وأنت المائة وخمسين والخمسة وسبعين، وذلك مائتان وخمسة وعشرون، اثنا عشر ونصف ومائة عليك، وكذلك علىّ أيضًا. ثم إن سليمان لقيه زيد، فقال: أديت اثنا عشر ونصف ومائة من قبل الكفالة، وعليك منها الثلث، وذلك سبع وثلاثون ونصف، وتبقى خمسة وسبعون بينى وبينك من الكفالة، فيجب عليك منها سبعة وثلاثون ونصف. ثم إن سليمان لقيه عمرو، فقال له: أعطنى ما أعطيت عنك؛ لأنى أعطيت من قبل الكفالة خمسة وسبعين، عليك منها الثلث، وذلك خمسة وعشرون، ثم أقسم أنا وأنت خمسين التى بقيت، فقال له سليمان: قد أديت لزيد أنا سبعة وثلاثين ونصف من طريق الكفالة، فاجمع خمسين وسبعة وثلاثين ونصفًا، فذلك سبعة وثمانون ونصف، النصف منها ثلاثة وأربعون وثلاثة أرباع على كل واحد منا. ثم إن سليمان لقيه عبد الله، فقال له: يا عبد الله، أعطنى ما أديت عنك وذلك ثلث اثنى عشر ونصف ومائة، وهو سبعة وثلاثون ونصف، وتبقى خمسة وسبعون أديتها بالكفالة أغرمها أنا وأنت، قال له سليمان: قد أديت أنا أيضًا ثلاثة وأربعين وثلاثة أرباع، فتجمع خمسة وسبعين مع ثلاث وأربعين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 552 وثلاثة أرباع، فجملة ذلك مائة وثمانية عشر وثلاثة أرباع، عليك منها النصف، وذلك تسعة وخمسون وثلاثة أثمان، وكذلك علىّ أنا أيضًا. ثم إن عبد الله لقيه زيد، فقال له زيد: قد بقى لى مما أديت من الكفالة سبعة وثلاثون ونصف، فعليك النصف منها، وذلك ثمانية عشر وثلاثة أرباع، ثم أقسم معك ما بقى، وذلك ثمانية عشر وثلاثة أرباع، فيجب عليك تسعة وثلاثة أثمان من طريق الكفالة، وكذلك علىّ أنا أيضًا. ثم إن عبد الصمد لقيه عمرو، فقال: أعطنى ما أعطيت عنك، وذلك نصف ثلاثة وأربعين وثلاثة أرباع، وأخذ منها نصفًا وهى أحد وعشرون وسبعة أثمان، ثم إن عمرًا يقول له: أقسم معك أحد وعشرين وسبعة أثمان، فيقول عبد الصمد: قد أديت أنا أيضًا من طريق الكفالة تسعة وثلاثة أثمان، فيجتمع أحد وعشرون وسبعة أثمان من تسعة وثلاثة أثمان، فذلك ثلاثون وعشرة أثمان على كل واحد منهما خمسة عشر وخمسة أثمان. ثم إن عبد الصمد لقيه عبد الله، فقال له عبد الله: أعطنى ما أعطيت عنك، وذلك نصف تسعة وخمسين وثلاثة أثمان، فقال له عبد السمد: نعم، هى لك علىّ، وذلك تسعة وعشرون وخمسة أثمان ونصف ثمن، ثم إننى أقسم معك ما بقى، وهى تسعة وعشرون وخمسة أثمان ونصف ثمن، فقال له عبد الصمد: قد أديت أنا أيضًا خمسة عشر وخمسة أثمان، فاجمع ذلك وهو خمسة وأربعون وثمنان ونصف الثمن، فيجب عليك منها اثنا وعشرون وخمسة أثمان وربع الثمن، وكذلك أنا أيضًا. ثم إن عبد الصمد لقيه سليمان، فقال له سليمان: أعطنى ما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 553 أعطيت عنك، وذلك نصف تسعة وخمسين وثلاثة أثمان من طريق الكفالة، فأخذ منها نصفًا، وذلك تسعة وعشرون وخمسة أثمان ونصف، ثم قال له سليمان: نقسم معك ما بقى، فقال له عبد الصمد: قد أديت أنا أيضًا اثنين وعشرين وخمسة أثمان وربع الثمن من قبل الكفالة، فجمعنا ذلك فهو اثنان وخمسون وثلاثة أرباع الثمن، وكذلك أيضًا أديت أنا. هذه المسألة ليست من الشرح فتأمل. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 554 الجزء الثامن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 بسم الله الرحمن الرحيم 52 - كِتَاب الشَّهَادَاتِ - بَاب مَا جَاءَ فِى الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ (إلى) عَلِيمٌ) [البقرة: 282] ، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ (إلى قوله: (بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء: 135] قال إسماعيل بن إسحاق: ظاهر قوله تعالى: (وليملل الذى عليه الحق) [البقرة: 282] يدل أن القول قول من عليه الشىء. قال غيره: لأن الله حين أمره بالإملاء اقتضى تصديقه فيما يمليه، فإذا كان مصدقًا فالبينة على من يدعى تكذيبه. وأما الآية الأخرى فوجه الدلالة منها أن الله قد أخذ عليه أن يقر بالحق على نفسه وأقربائه لمن ادعاه عليهم، فدل الكتاب أن القول قول المدعى عليه، وإن أكذبه المدعى كان على المدعى عليه إقامة البينة، والأمة مجمعة أن البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه فى الأموال، إلا ما خصت به القسامة. وقد ذكر البخارى بعد هذا من حديث ابن مسعود وابن عباس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أن البينة على المدعى، واليمين على المدعى عليه) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 واختلفوا فى صفة يمين المدعى عليه فى الحدود والنكاح والطلاق والعتق على ما يأتى بعد هذا فى بابه، إن شاء الله. - باب إِذَا عَدَّلَ رَجُلٌ رجلا فَقَالَ: لا نَعْلَمُ إِلا خَيْرًا، أَوْ مَا عَلِمْتُ إِلا خَيْرًا / 1 - فساق حديث الإفْكِ، حيث قَالَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) لأُسَامَةُ، فَقَالَ: (أَهْلُكَ وَلا نَعْلَمُ إِلا خَيْرًا) . وقَالَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ يَعْذِرُنَى فِى رَجُلٍ بَلَغَنِى أَذَاهُ فِى أَهْلِى، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِلا خَيْرًا) . اختلف العلماء فى قول المسئول عن التزكية: ما أعلم إلا خيرًا، فذكر ابن المنذر عن ابن عمر أنه كان إذا أنعم مدح الرجل قال: ما علمت إلا خيرًا. وذكر الطحاوى عن أبى يوسف أنه إذا قال ذاك قبلت شهادته، ولم يذكر خلافًا عن الكوفيين، واحتجوا بالحديث الأول، قال محمد بن سعيد الترمذى: سألنى عبد الرحمن بن إسحاق القاضى عن رجل شهد عنده فزكيته له، فقال لى: هل تعلم منه إلا خيرًا؟ فقلت: اللهم غفرًا، قد أعلم منه غير الخير ولا تسقط بذلك عدالته، يلقى كناسته فى الطريق، وليس ذلك من الخير. فسكت. وروى ابن القاسم، عن مالك، أنه أنكر أن يكون قوله: لا أعلم إلا خيرًا، تزكية، وقال: لا تكون تزكية حتى يقول: رضًا وأراه عدلاً رضًا. وذكر المزنى، عن الشافعى قال: لا يقبل فى التعديل، إلا أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 يقول عدل علىّ ولىّ، ثم لا يقبله حتى يسأله عن معرفته؛ فإن كانت باطنة متقدمة وإلا لم يقبل ذلك. قال الأبهرى: والحجة لمالك أنه قد لا يعلم منه إلا الخير، ويعلم غيره منه غير الخير مما يجب به رد شهادته، فيجب أن يقول: أعلمه عدلا رضًا؛ لأن هذا الوصف الذى أمر الله تعالى بقبول شهادة الشاهد معه بقوله: (وأشهدوا ذوى عدل منكم) [الطلاق: 2] ) ممن ترضون من الشهداء) [البقرة: 283] فيجب أن يجمع الشاهد العدالة والرضا. قال المهلب: وأما قول أسامة: (لا أعلم إلا خيرًا) فى التزكية، فإن هذا كان فى عصر الرسول الذين شهد الله لهم أنهم خير أمة أخرجت للناس، فكانت الجرحة فيهم شاذة نادرة؛ لأنهم كانوا كلهم على العدالة، فتعديلهم أن يقال: لا أعلم إلا خيرًا، فأما اليوم فالجرحة أعم فى الناس، وليست لهم شهادة من كتاب الله ولا من سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعدالة مستولية على جميعهم، فافترق حكمهم. وفى قول بريرة: (ما أعلم عليها شيئًا أغمصه) دليل على أن من اتهم فى دينه بأمر أنه يطلب فى سائر أحواله نظير ما اتهم به، فإن لم يوجد له نظير لم يصدق عليه ما اتهم فيه، وإن وجد لذلك نظير قويت الشبهة، وحكم عليه بالتهمة فى أغلب الحال لا فى الغيب، والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 3 - باب شَهَادَةِ الْمُخْتَبِى وَأَجَازَهُ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالْخائن الْفَاجِرِ. وَقَالَ الشَّعْبِىُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ: السَّمْعُ شَهَادَةٌ، وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: لَمْ يُشْهِدُونِى عَلَى شَىْءٍ، وَلَكَنِ سَمِعْتُ كَذَا وَكَذَا. / 2 - فيه: ابْنَ عُمَرَ: (انْطَلَقَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ الأنْصَارِىُّ، يَؤُمَّانِ النَّخْلَ الَّتِى فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) طَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَتَّقِى بِجُذُوعِ النَّخْلِ، وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ، وَابْنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ فِى قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْرَمَةٌ، أَوْ زَمْزَمَةٌ، فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ يَتَّقِى بِجُذُوعِ النَّخْلِ، فَقَالَتْ لابْنِ صَيَّادٍ أَىْ صَافِ، هَذَا مُحَمَّدٌ، فَتَنَاهَى ابْنُ صَيَّادٍ، قَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ) . / 3 - وفيه: عَائِشَةَ: جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفاعَةَ الْقُرَظِىِّ إلى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَتْ: (كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ، فَطَلَّقَنِى، فَأَبَتَّ طَلاقِى، فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، إِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَقَالَ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِى إِلَى رِفَاعَةَ؟ لا، حَتَّى تَذُوقِى عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ، وَأَبُو بَكْرٍ جَالِسٌ عِنْدَهُ، وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلا تَسْمَعُ إِلَى هَذِهِ مَا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . اختلف العلماء فى شهادة المختبئ، فروى عن شريح والشعبى والنخعى أنهم كانوا لا يجيزونها، وقالوا: إنه ليس بعدل حين اختبأ ممن يشهد عليه. وهو قول أبى حنيفة والشافعى. وذكر الطحاوى فى المختصر قال: جائز للرجل أن يشهد بما سمع، إذا كان معاينًا لمن سمعت منه؛ وإن لم يشهده على ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 قال الشافعى فى الكتاب الكبير للمزنى: العلم من ثلاثة وجوه: ما عاينه فشهد به، وما تظاهرت به الأخبار وثبت موقعه فى القلوب، وشهادة ما أثبته سمعًا إثبات بصر من المشهود عليه، ولذلك قلنا: لا تجوز شهادة الأعمى. وأجاز شهادة المختبئ ابن أبى ليلى، ومالك، وأحمد، وإسحاق، إلا أن مالكًا لا يجيزها له على صحة إلا أن يكون المقر مختدعًا ومقدرًا على حق لا يقوله بالبراءة، والمخرج منه ومثله من وجوه الحيل. وروى ابن وهب، عن مالك فى رجل أدخل رجلين بيتًا، وأمرهما أن يحفظا ما سمعا، وقعد برجل من وراء البيت حتى أقر له بما له عليه فشهدا عليه بذلك، فقال: أما الرجل الضعيف أو الخائف أو المخدوع الذى يخاف أن يستميل أو يستضعف إذا شهد عليه؛ فلا أرى ذلك يثبت عليه، وليحلف أنه ما أقر له بذلك إلا لما يذكر، وأما الرجل الذى ليس على ما وصفت وعسى أن يقول فى خلوته: أنا أقر لك خاليًا، ولا أقر لك عند البينة، فإنه يثبت ذلك عليه، وهذا معنى قول ابن حريث، وكذلك يفعل بالفاجر الخائن. واحتج مالك فى العتبية بشهادة المختبئ قال: إذا شهد الرجل على المرأة من وراء الستر وعرفها وعرف صورتها وأثبتها قبل ذلك، فشهادته جائزة عليها. قال: وقد كان الناس يدخلون على أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) وبينهم وبينهن حجاب، فيسمعون منهن، ويحدثون عنهن. وقد سأل أبو بكر بن عبد الرحمن وأبوه عائشة وأم سلمة من وراء حجاب وأخبرا عنهما. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 قال المهلب: فى حديث ابن عمر من الفقه جواز الاحتيال على المستترين بالفسق، وجحود الحقوق، بأن يختفى عليهم حتى يسمع منهم ما يستترون به من الحق ويحكم به عليهم، ولكن بعد أن يفهم عنهم فهمًا حسنًا؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لو تركته بين) . وهذا حجة لمالك، وكذلك فى حديث رفاعة جواز الشهادة على غير الحاضر من وراء الباب والستر؛ لأن خالد بن سعيد سمع قول امرأة رفاعة عند النبى (صلى الله عليه وسلم) وهو من وراء الباب، ثم أنكره عليها بحضرة النبى (صلى الله عليه وسلم) وأبى بكر حين دخل إليهما، ولم ينكر ذلك عليه. قال الأبهرى: ومن الحجة لمالك أيضًا فى جواز شهادة المختبئ أن المعرفة بصوت زيد تقع كما تقع بشخصه، وذلك إذا كان قد عرف صوته وتكرر، فجاز له أن يشهد، كما يجوز للأعمى أن يشهد على الصوت الذى يسمعه إذا عرفه. قال المهلب: وفيه إنكار الهجر من القول، إلا أن يكون فى حق لابد له من البيان عند الحاكم فى الحكم بين الزوجين، فحينئذ يجوز أن يتكلم به. قال غيره: وقول الشعبى وغيره: السمع شهادة. قد فسره ابن أبى ليلى قال: السمع سمعان إذا قال: سمعت فلانًا يقر على نفسه بكذا أجزته، وإذا قال: سمعت فلانًا يقول: سمعت فلانًا. لم أجزه. وهذا مذهب مالك وأحمد وإسحاق والجمهور، وليس معنى قولهم: إن السمع شهادة أن شهادة المختبئ جائزة؛ لأن القائلين ذلك لا يجيزونها. قال ابن المنذر: قال النخعى والشعبى: السمع شهادة وأبيا أن يجيزا شهادة المختبئ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 وقد تقدم شرح ما فى حديث ابن صياد من اللغة فى كتاب الجنائز فى باب إذا أسلم الصبى. وقوله: فيها رمرمة. قال ثابت: ترمرم الرجل: إذا حرك فاه للكلام، ولم يتكلم. قال بعض الشعراء يصف ملكًا: إذا ترمرم أغضى كل جبار قال الخطابى: قد يكون ترمرم: تحركت مرمته بالصوت. قال الشاعر: ومستعجب مما يرى من أناتنا ولو زبنته الحرب لم يترمرم أى لم ينطق. وقال صاحب الأفعال: الرمرمة: كلام لا يفهم. قال أبو حنيفة: الرمرمة من الرعد ما لم يعل أو يفصح، وقد زمزم السحاب، وهو سحاب زمزام: إذا كثرت زمزمته. 4 - باب إِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَوْ شُهُودٌ بِشَىْءٍ فَقَالَ آخَرُونَ: مَا عَلِمْنَا ذَلِكَ يُحْكَمُ بِقَوْلِ مَنْ شَهِدَ. قَالَ الْحُمَيْدِىُّ: هَذَا كَمَا أَخْبَرَ بِلالٌ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى فِى الْكَعْبَةِ، وَقَالَ الْفَضْلُ: لَمْ يُصَلِّ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِشَهَادَةِ بِلالٍ كَذَلِكَ إِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ لِفُلانٍ عَلَى فُلانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ يُقْضَى بِالزِّيَادَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 / 4 - فيه: عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ: أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لأبِى إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِى تَزَوَّجَ، فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ: مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِى، وَلا أَخْبَرْتِنِى، فَأَرْسَلَ إِلَى آلِ أَبِى إِهَابٍ فَسْأَلُهُمْ، فَقَالُوا: مَا عَلِمْنَاهُ أَرْضَعَتْ صَاحِبَتَنَا، فَرَكِبَ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْمَدِينَةِ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (كَيْفَ، وَقَدْ قِيلَ فَفَارَقَهَا، وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ) . إذا شهد شهود بشىء، وقال آخرون: ما علمنا بذلك. فليس هذا شهادة؛ لأن من لم يعلم الشىء فليس بحجة على من علمه، ولهذا المعنى اتفقوا أنه إذا شهد شاهدان بألف وشاهدان بألف وخمسمائة أنه يقضى بالزيادة. ولا خلاف بين الفقهاء أن البينتين إذا شهدت إحداهما بإثبات شىء، وشهدت الأخرى بنفيه، وتكافئا فى العدالة أنه يؤخذ بقول من أثبت دون من نفى؛ لأن المثبت علم ما جهل النافى، والقول قول من علم. وليس حديث عقبة بمخالف لهذا الأصل؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يحكم بشهادة المرأة ولا غلب قولها على قول عقبة، وقول من نفى الرضاع من ظهور الإيجاب، وإنما أشار (صلى الله عليه وسلم) إلى أن قول المرأة شبهة يصلح التورع والتنزه للزوج عن زوجته لأجلها، والدليل على أن ذلك من باب الورع والتنزه اتفاق أئمة الفتوى على أنه لا تجوز شهادة امرأة واحدة فى الرضاع إذا شهدت بذلك بعد النكاح، ومن هذا الباب إذا شهد قوم بعدالة الشاهد، وشهد آخرون بتجريحه فالقول قول من شهد بالجرحة إذا تكافأت البينتان؛ لأن العدالة علم ظاهر والجرحة علم باطن، فهو زيادة على ما علم الشاهد بالعدالة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 وهذا قول مالك فى المدونة، وهو قول الكوفيين والشافعى وجمهور العلماء، ولمالك فى العتبية خلاف هذا القول، وسأذكر ذلك فى باب تعديل كم يجوز. 5 - باب الشَّهَادَةِ عَلَى الأنْسَاب وَالرَّضَاعِ الْمُسْتَفِيضِ وَالْمَوْتِ الْقَدِيمِ وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَرْضَعَتْنِى وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ) ، وَالتَّثَبُّتِ فِيهِ. / 5 - فيه: عَائِشَةَ: (اسْتَأْذَنَ عَلَىَّ أَفْلَحُ، فَلَمْ آذَنْ لَهُ، فَقَالَ: أَتَحْتَجِبِينَ مِنِّى، وَأَنَا عَمُّكِ؟ فَقُلْتُ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرْضَعَتْكِ امْرَأَةُ أَخِى، بِلَبَنِ أَخِى، فَقَالَتْ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: صَدَقَ أَفْلَحُ، ائْذَنِى لَهُ) . / 6 - وقالت مرة: إن رَجُلٍ اسْتَأْذِنُ فِى بَيْتِ حَفْصَةَ، فَقَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أُرَاهُ فُلانًا) ، لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْ كَانَ فُلانٌ حَيًّا، لِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، دَخَلَ عَلَىَّ، فَقَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : (نَعَمْ، إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلادَةِ) . / 7 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ الرسول فِى بِنْتِ حَمْزَةَ: (لا تَحِلُّ لِى، يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، هِىَ بِنْتُ أَخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ) . / 8 - وفيه: عَائِشَةَ: (دَخَلَ عَلَىَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَعِنْدِى رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: أَخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ، قَالَ: انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ) . معنى هذا الباب أن ما صح من الأنساب والموت والرضاع بالاستفاضة وثبت علمه فى النفوس، وارتفعت فيه الريب والشك؛ أنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 لا يحتاج فيه المعرفة بعدد الذين به ثبت علم ذلك، ولا يحتاج إلى معرفة الشهود، ألا ترى أن الرضاع الذى فى هذه الأحاديث كلها كان فى الجاهلية، وكان مستفيضًا معلومًا عند القوم الذين وقع الرضاع فيهم، وثبتت به الحرمة والنسب فى الإسلام. ويجوز عند مالك والكوفيين والشافعى الشهادة بالسماع المستفيض فى النسب والموت القديم والنكاح. وقال الطحاوى: اتفقوا أن شهادة السماع تجوز فى النكاح، ولا تجوز فى الطلاق، وتجوز عند مالك والشافعى الشهادة على ملك الدار بالسماع، زاد الشافعى: وعلى ملك الثوب أيضًا، ولا يجوز ذلك عند الكوفيين. قال مالك: لا تجوز الشهادة على ملك الدار بالسماع على خمس سنين ونحوها إلا فيما يكثر من السنين وهو بمنزلة سماع الولاء. قال ابن القاسم: وشهادة السماع إنما هى عليه فيما أتت عليه أربعون أو خمسون سنة. قال مالك: وليس يشهد على أجناس الصحابة إلا على السماع. وقال عبد الملك: أقل ما يجوز فى الشهادة على السماع أربعة شهداء من أهل العدل أنهم لم يزالوا يسمعون أن هذه الدار صدقة على بنى فلان محتبسة عليهم مما يصدق به فلان، ولم يزالوا يسمعون أن فلانًا مولى فلان، قد تواطأ ذلك عندهم وفشا من كثرة ما سمعوه من العدول وغيرهم ومن المرأة والخادم والعبد. واختلف فيما يجوز من شهادة النساء فى هذا الباب، فقال مالك: لا يجوز فى الأنساب والولاء شهادة النساء مع الرجال، وهو قول الشافعى، وإنما تجوز مع الرجال فى الأموال خاصة أو منفردات فى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 الاستهلال، وما لا يطلع عليه الرجال من أمور النساء، وأجاز الكوفيون شهادة رجل وامرأتين فى الأنساب. وأما الرضاع فيجوز فيه عند مالك شهادة امرأتين دون رجل، وسيأتى مذاهب العلماء فى هذا فى كتاب الرضاع إن شاء الله. 6 - باب شَهَادَةِ الْقَاذِفِ وَالسَّارِقِ وَالزَّانِى وَقَوْلِه: (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا) [النور: 4، 5] وَجَلَدَ عُمَرُ أَبَا بَكْرَةَ وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ وَنَافِعًا بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ، ثُمَّ اسْتَتَابَهُمْ. وَقَالَ: مَنْ تَابَ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُ، وَأَجَازَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسَعِيدُ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِىُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَالزُّهْرِىُّ، وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ، وَشُرَيْحٌ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ، وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: الأمْرُ عِنْدَنَا بِالْمَدِينَةِ إِذَا رَجَعَ الْقَاذِفُ عَنْ قَوْلِهِ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ. وَقَالَ الشُعَّبِّى وَقَتَادَة: إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ جُلِّدَ وَقُبْلَت شَهَادَتُه. وَقَالَ الثَّوْرِىُّ: إِذَا جُلِدَ الْعَبْدُ ثُمَّ أُعْتِقَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنِ اسْتُقْضِىَ الْمَحْدُودُ، فَقَضَايَاهُ جَائِزَةٌ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ، وَإِنْ تَابَ، ثُمَّ قَالَ: لا يَجُوزُ نِكَاحٌ بِغَيْرِ شَاهِدَيْنِ، فَإِنْ تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ مَحْدُودَيْنِ جَازَ، وَإِنْ تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ لَمْ يَجُزْ، وَأَجَازَ شَهَادَةَ الْمَحْدُودِ وَالْعَبْدِ وَالأمَةِ لِرُؤْيَةِ هِلالِ رَمَضَانَ، وَكَيْفَ تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ؟ وَقَدْ نَفَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الزَّانِىَ سَنَةً وَنَهَى عَنْ كَلامِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ حَتَّى مَضَى خَمْسُونَ لَيْلَةً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 / 9 - فيه: عَائِشَةُ أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ فِى غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَأُتِىَ بِهَا النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَمَرَ بِهَا، فَقُطِعَتْ يَدُهَا، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا، وَتَزَوَّجَتْ، وَكَانَتْ تَأْتِى بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . / 10 - وفيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) أَمَرَ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ، بِجَلْدِ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبِ عَامٍ. اختلف العلماء فى شهادة القاذف: هل ترد شهادته قبل الحد أم لا؟ فروى ابن وهب عن مالك أنه لا ترد شهادته حتى يحد. وهو قول الكوفيين. وقال الليث والأوزاعى والشافعى: ترد شهادته وإن لم يحد. وهو قول ابن الماجشون. وحجة من أجازها قبل الحد بأن الحد لا يكون إلا بأن يطلبه المقذوف ويعجز القاذف عن البينة، فإذا لم يطلب القاذف لم يؤمن عليه أن يعترف بالزنا أو تقوم عليه بينة فلا يفسق ولا يحد؛ لأنه على أصل العدالة حتى يتبين كذبه. وحجة الشافعى أنه بالقذف يفسق؛ لأنه من الكبائر، ولا تقبل شهادته حتى تصح براءته بإقرار المقذوف له بالزنا أو قيام البينة عليه، وهو عنده على الفسق حتى تتبين براءته ويعود إلى العدالة، وهو قبل الحد شر حالا منه حين يحد؛ لأن الحدود كفارات للذنوب، وهو بعد الحد خير منه قبله، فكيف أرد شهادته فى خير حالتيه وأجيزها فى شرها. واختلفوا إذا حد وتاب فقال جمهور السلف: إذا تاب وحسنت حالته قبلت شهادته، وممن روى عنه سوى من ذكره البخارى فى قول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 ابن المنذر عطاء، واختلف فيه عن سعيد ابن المسيب، وهو قول مالك والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور وأبى عبيد. وممن قال: إن شهادة القاذف لا تجوز أبدًا وإن تاب: شريح، والحسن، والنخعى، وسعيد ابن جبير، وهو قول الثورى، والكوفيين، وقالوا: توبته فيما بينه وبين الله قال: وأما المحدود فى الزنا والسرقة والخمر إذا تابوا قبلت شهادتهم. واحتج الكوفيون فى رد شهادة القاذف بعموم قوله: (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا) [النور: 4] ، وقالوا: إن الاستثناء فى قوله: (إلا الذين تابوا) [النور: 5] راجع إلى الفسق خاصة لا إلى قبول الشهادة. وقال آخرون: الاستثناء راجع إلى الفسق والشهادة جميعًا إلا أن يفرق بين ذلك بخبر يجب التسليم له، وإذا قبل الكوفيون شهادة الزانى والقاتل والمحدود فى الخمر إذا تابوا، أو المشرك إذا أسلم وقاطع الطريق، ثم لا تقبل شهادة من شهد بالزنا فلم تتم الشهادة فجعل قاذفًا، وأجمعت الأمة أن التوبة تمحو الكفر، فوجب أن يكون ما دون الكفر أولى، وقد قال الشعبى: يقبل الله توبته ولا تقبلون شهادته. واحتجوا بأن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، جلد الذين قذفوا المغيرة واستتابهم وقال: من تاب قبلت شهادته. وكان هذا بحضرة جماعة الصحابة من غير نكير، ولو كان تأويل الآية ما تأوّله الكوفيون لم يجز أن يذهب علم ذلك عن الصحابة، ولقالوا لعمر: لا يجوز قبول توبة القاذف أبدًا. ولم يسعهم السكوت عن القضاء بتحريف تأويل الكتاب، فسقط قولهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 17 واختلف قول مالك وأصحابه هل تقبل شهادته فى كل شىء؟ فروى عنه ابن نافع أن المحدود إذا حسنت حاله قبلت شهادته فى كل شىء وهى رواية ابن عبد الحكم عنه، وهو قول ابن كنانة، ورواه أبو زيد عن أصبغ. وذكر الوقار عن مالك أنه لا تقبل شهادته فيما حد فيه خاصة وتقبل فيما سوى ذلك إذا تاب. وهو قول مطرف وابن الماجشون. وروى العتبى عن أصبغ وسحنون مثله، والقول الأول أولى لعموم الاستثناء، ورجوعه إلى أول الكلام وآخره، ومن ادعى تخصيصه فعليه الدليل. واختلف مالك والشافعى فى توبة القاذف ما هى؟ فقال الشافعى: توبته أن يكذب نفسه. روى ذلك عن عمر بن الخطاب، واختاره إسماعيل بن إسحاق. وقال مالك: توبته أن يزداد خيرًا. ولم يشترط إكذاب نفسه فى توبته؛ لجواز أن يكون صادقًا فى قذفه. قال المهلب: وكان المسلمون احتجوا فى هذا على أبى بكرة، ألا ترى أنهم يروون عنه الأحاديث، ويحملون عنه السنة وهو لم يكذب نفسه، وقد قال له عمر: ارجع عن قذفك المغيرة ونقبل شهادتك. وإنما قال له عمر ذلك، والله أعلم، استظهارًا له كمال التوبة بالرجوع عما قال فى القذف، وإن كان يستجزئ بصلاح حاله عن تكذيب نفسه فى قبول شهادته. وأما قوله: وكيف تعرف توبته، وقد نفى النبى (صلى الله عليه وسلم) الزانى سنة، ونهى عن كلام كعب ابن مالك وصاحبيه حتى مضى خمسون ليلة؟ فتقدير الكلام. باب شهادة القاذف والسارق والزانى وباب كيف تعرف توبته، وكثيرًا ما يفعله البخارى يردف ترجمة على ترجمة وإن بعد ما بينهما، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 18 وأراد بقوله: وكيف تعرف توبته. . . إلى آخر الكلام الاحتجاج لقول مالك أنه ليس من شرط توبة القاذف تكذيب النفس وتخطئتها، والرد على الشافعى؛ فإنه زعم أن ذلك من شرط التوبة، ووجه الحجة لذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) بعث معلمًا للناس، وأمرهم بالتوبة من ذنوبهم، ولم يأمرهم بأن يستهلوا بأنهم على معاصى الله، بل قد أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) من أتى معصية ألا يتحدث بها ولا يفشيها. واستدل البخارى أن القاذف يكون تائبًا بصلاح الحال، دون إكذابه لنفسه واعترافه أنه عصى الله أو خالف أمره بلسانه؛ حين لم يشترط ذلك على الزانى فى مدة تغريبه، ولا كعب بن مالك وصاحبيه فى الخمسين ليلة، فإن زعم الشافعى أن توبة القاذف كانت مخصوصة بذلك؛ كلف الدليل عليه من كتاب أو سنة، أو إجماع أو قياس صحيح. وإنما أدخل البخارى حديث عائشة فى هذا الباب لقولها فى التى سرقت: (فحسنت توبتها) لأن فيه دليلاً أن السارق إذا تاب وحسنت حاله قبلت شهادته، وكذلك حديث زيد بن خالد أن النبى (صلى الله عليه وسلم) جعل حد الزانى جلد مائة وتغريب عام، ولم يشترط عليه (صلى الله عليه وسلم) بعد الحد والتغريب، إن تاب ألا تقبل شهادته، ولو كان ذلك شرطًا لذكره (صلى الله عليه وسلم) . وإنما ذكر قول الثورى وأبى حنيفة؛ ليلزمها التناقض فى قولهما أن القاذف لا تجوز شهادته، وهم يجيزونها فى مواضع، وأجاز الثورى شهادة العبد إذا جلد قبل العتق وهذا تناقض؛ لأن من قذف فقد فسق، وليس العتق توبة، وهو لو قذف بعد العتق وتاب لم تجز شهادته عنده، وكذلك أجاز قضايا المحدود فى القذف وهذا تناقض، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 19 وكيف تجوز قضايا المحدود ولا تجوز شهادته، وكذلك يلزم أبا حنيفة التناقض فى إجازته النكاح بشهادة محدودين، وإنما أجاز ذلك؛ لأن من مذهبه أن الشهود فى النكاح خاصة على العدالة وفيما سوى ذلك على الجرحة وهذا تحكم، وتغنى حكاية هذا القول عن الرد عليه. وقال ابن المنذر: أجاز أبو حنيفة النكاح بشهادة فاسقين، وقد أجمع أهل العلم على رد شهادتهم، وأبطل النكاح بشهادة عبدين. وقد اختلف أهل العلم فى قبول شهادتهم، والنظر دال على أن شهادتهم مقبولة إذا كانا عدلين، ودليل القرآن وهو قوله: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) [الحجرات: 13] . وأما إجازته شهادة المحدود فى هلال رمضان، فإنه أجرى ذلك مجرى الخبر، والخبر يخالف الشهادة فى المعنى؛ لأن المخبر له مدخل فى حكم ما شهد به وهذا غلط؛ لأن الشاهد على هلال رمضان لا يزول عنه اسم شاهد ولا يسمى مخبرًا، فحكمه حكم الشاهد فى المعنى لاستحقاقه ذلك بالاسم، وأيضًا فإن الشهادة على هلال رمضان حكم من الأحكام، ولا يجوز أن يكون يقبل فى الأحكام إلا من تجوز شهادته فى كل شىء، ومن جازت شهادته فى هلال رمضان ولم تجز فى القذف؛ فليس بعدل ولا هو ممن يرضى؛ لأن الله إنما تعبدنا بقبول من نرضى من الشهداء، والله الموفق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 20 7 - باب شَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَقَوْلِهِ: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) [البقرة 282] / 11 - فيه أَبِو سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا) . أجمع العلماء على أن القول بظاهر قوله تعالى: (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) [البقرة: 282] على أن شهادة النساء تجوز مع الرجال فى الديون والأموال، وأجمع أكثر العلماء على أن شهادتهن لا تجوز فى الحدود والقصاص. هذا قول سعيد بن المسيب، والشعبى، والنخعى، والحسن البصرى، والزهرى، وربيعة، ومالك، والليث، والكوفيين، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور. واختلفوا فى النكاح والطلاق والعتق والنسب والولاء، فذهب ربيعة، ومالك، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور إلى أنه لا تجوز فى شىء من ذلك كله مع الرجال. وأجاز شهادتهن فى ذلك كله مع الرجال الكوفيون، ولا دليل لهم يوجب قبول شهادتهن فى شىء من ذلك، واتفقوا أنه تجوز شهادتهن منفردات فى الحيض والولادة، والاستهلال وعيوب النساء، وما لا يطلع عليه الرجال من عورتهن للضرورة، واختلفوا فى الرضاع فمنهم من أجاز فيه شهادتهن منفردات، ومنهم من أجازها مع الرجال على ما سيأتى ذكره فى النكاح. وقال أبو عبيد: اجتمعت العلماء على أنه لا حظ للنساء فى الشهادة فى الحدود، وكذلك أجمعوا على شهادتهن فى الأموال أنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 21 لا حظ لهن فيها، قال المؤلف: يعنى منفردات، وذلك لآيتين تأولهما، فيما نرى والله أعلم، أما آية الحدود فقوله: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) [النور: 4] فعلم أن الشهادة فى اللغة لا تقع إلا على الذكور، ثم أمضوا على هذا جميع الحدود من الزنا والسرقة والفدية وشرب الخمر والقصاص فى النفس وما دونها. وأما آية الأموال فقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم (إلى) ترضون من الشهداء) [البقرة: 282] ثم أمضوا على هذا جميع الحقوق والمواريث والوصايا والودائع والوكالات والدين، فلما صاروا إلى النكاح والطلاق والعتاق لم يجدوا فيها من ظاهر القرآن ما وجدوا فى تلك الآيتين. واختلفوا فى التأويل فشبهها قوم بالأموال فأجازوا فيها شهادة النساء. وقالوا: ليست بحدود وإنما توجب مهورًا ونفقات النساء. وأبى ذلك آخرون ورأوها كلها حدودًا؛ لأن بها يكون استحلال الفروج وتحريمها. قال أبو عبيد: وهذا القول يختار؛ لأن تأويل القرآن يصدقه، ألا تسمع قوله تعالى حين ذكر الطلاق والرجعة فقال: (وأشهدوا ذوى عدل منكم) [الطلاق: 2] فخص بها الرجال ولم يجعل للنساء فيها حظا كما جعله فى الدين، ثم أبْينُ من ذلك أنه سماها: حدود الله فقال: (تلك حدود الله فلا تعتدوها) [البقرة: 229] فكان هذا أكثر من التأويل. والأمر عندنا عليه أنه لا تجوز شهادتهن فى نكاح ولا طلاق ولا رجعة، وكيف يقبل قولهن فى هذه الحال على غيرهن ولا يملكنها من أنفسهن، ولم يجعل الله إليهن عقد نكاح ولا حله؟ لأن الله خاطب الرجال فى ذلك دونهن فى كتابه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 22 قال أبو عبيد: والعتاق عندنا مثل ذلك كله لا تجوز فيه شهادتهن لما يدخل فيه من تحليل الفروج وتحريمها. قال المهلب: وفى حديث أبى سعيد دليل أن الناس يجب أن يتفاضلوا فى الشهادة بقدر عقولهم وفهمهم وضبطهم، وأن يكون الرجل الصالح الذى نعرف منه الغفلة والبلادة يتوقف عند شهادته فى الأمور الخفية، وتقل شهادة اليقظان الفهم العدل، والتفاضل فى شهادتهما على قدر أفهامهما. وفيه: أن الشاهد إذا نسى الشهادة ثم ذكره بها صاحبه حتى ذكرها أنها جائزة؛ لقوله: (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) [البقرة: 282] فدخل فى معنى ذلك الرجال أيضًا. 8 - باب الشُّهَدَاءِ الْعُدُولِ وَقَوْلِهِ: (وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق 6] / 12 - فيه: عُمَرَ: إِنَّ نَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْىِ فِى عَهْدِ النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وَإِنَّ الْوَحْىَ قَدِ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ، وَقَرَّبْنَاهُ، وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ، اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِى سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا شَرًا لَمْ نَأْمَنْهُ، وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ: إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ. قال أبو الحسن بن القابسى: ينبغى لكل من سمع هذا الحديث أن يحفظه ويتأدب به. والمرفوع من هذا الحديث إخبار عمر عما كان الناس يؤخذون به على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبقية الخبر بيان لما يستعمله الناس بعد انقطاع الوحى بوفاة النبى (صلى الله عليه وسلم) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 23 وفى هذا الحديث من الفقه: أن من ظهر منه الخير فهو العدل الذى تجب قبول شهادته. واختلفوا فى ذلك فقال النخعى: العدل: الذى لم تظهر له ريبة. وهو قول أحمد وإسحاق. وقال أبو عبيد: من ضيع شيئًا مما أمره الله به أو ركب شيئًا مما نهى الله عنه، فليس بعدل؛ لقوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض. .) [الأحزاب: 72] الآية، والأمانة جميع الفرائض اللازمة واللازم تركها. وقال أبو يوسف، ومحمد، والشافعى: من كانت طاعته أكثر من معاصيه، وكان الأغلب عليه الخير، زاد الشافعى: والمروءة، ولم يأت كبيرة يجب بها الحد أو ما يشبه الحد قبلت شهادته؛ لأنه لا يسلم أحد من ذنب. ومن أقام على معصية أو كان كثير الكذب غير مستتر به لم تجز شهادته. وقال الطحاوى: لا يخلو ذكر المروءة أن يكون فيما يحل أو يحرم، فإن كانت فيما يحل فلا معنى لذكرها، وإن كانت فيما يحرم فهى من المعاصى، فالمراعاة هى فى إتيان الطاعة واجتناب المعصية. قال المهلب: فى هذا الحديث دليل أن سلف الأمة كانوا على العدالة؛ لشهادة الله لهم أنهم خير أمة أخرجت للناس. وقال الحسن البصرى وغيره وذكره ابن شهاب: إن القضاة فيما مضى كانوا إذا شهد عندهم الشاهد قالوا: قد قبلناه لدينه، وقالوا للمشهود عليه: دونك فجرح؛ لأن الجرحة كانت فيهم شاذة، فعلى هذا كان السلف، ثم حدث فى الناس غير ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 24 واتفق مالك والكوفيون والشافعى أن الشهود اليوم على الجرحة حتى تثبت العدالة. قال أبو حنيفة: إلا شهود النكاح فإنهم على العدالة. وهذا قول لا سلف له فيه ولا دليل عليه، ولو عكس عليه هذا القول لم يكن أحد القولين أولى بالحكم من الآخر، وحجة الفقهاء أن الشهود على الجرحة قوله: (وأشهدوا ذوى عدل منكم) [الطلاق: 2] ) ممن ترضون من الشهداء) [البقرة: 282] فخاطب الحكام ألا يقبلوا إلا من كان بهذه الصفة، ودل القرآن فى الناس غير مرضى ولا عدل، فلذلك كلف الطالب إذا جعل القاضى أحوال الشهود أن يعدلوا عنده. 9 - باب تَعْدِيلِ كَمْ يَجُوزُ / 13 - فيه: أَنَسٍ: (مُرَّ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ: وَجَبَتْ، ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: وَجَبَتْ، فسئل فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : شَهَادَةُ الْقَوْمِ، الْمُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِى الأرْضِ) . / 14 - وفيه: عُمَرَ، أنه مُرَّ عليه بجَنَازَةٌ، فَأُثْنِىَ خَيْرًا، فَقَالَ: وَجَبَتْ، ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى، فَأُثْنِىَ خَيْرًا، فَقَالَ: وَجَبَتْ. . . الحديث. فسئل، فَقَالَ: قُلْتُ كَمَا قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ، قُلْنَا: وَثَلاثَةٌ؟ قَالَ: وَثَلاثَةٌ، قُلْتُ: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: وَاثْنَانِ، فلَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ) . اختلف العلماء فى عدد من يجوز تعديله، فقال مالك ومحمد بن الحسن والشافعى: لا يقبل فى التعديل والجرح أقل من رجلين. وقال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 25 أبو حنيفة وأبو يوسف: يقبل تعديل الواحد وجرحه. وحديث عمر حجة لمالك ومن وافقه. واحتج الطحاوى لذلك فقال: لما لم ينفذ الحكم إلا برجلين فكذلك الجرح والتعديل، فلما كان من شرط المزكى والجارح العدالة وجب أن يكون من شرطها العدد. واتفقوا أنه لو عدل رجلان وجرح واحد أن التعديل أولى، فلو كان الواحد مقبولا لما صح التعديل مع جرح الواحد. واتفقوا إذا استوى الجرح والتعديل، فإن الجرح أولى أن يعمل به من التعديل وهو قول مالك فى المدونة، والحجة لذلك أن الجرح باطن والعدالة علم ظاهر، والجارح يصدق المعدل ويقول: قد علمت من حاله مثل ما علمت أنت وانفردت أنا بعلم ما لم تعلم أنت من أمره بعلم انفردت به لا ينافى خبر المعدل وخبر المعدل لا ينافى صدق الجارح، فوجب أن يكون الجرح أولى من التعديل. ولمالك قول آخر فى العتبية من رواية أشهب وابن نافع أنه ينظر إلى أعدل البينتين فيقضى بها وقال ابن نافع: الجرحة أولى. والحجة لقول ابن نافع ما تقدم من تصديق الجارحين للمعدلين وإخبارهم بما انفردوا به دونهم، وكذلك لو كثر عدد المعدلين على عدد الجارحين كان قول الجارحين أولى، وهو قول الجمهور والأكثر، والحجة له ما تقدم ذكره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 26 - باب لا يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ جَوْرٍ إِذَا أُشْهِدَ / 15 - فيه: النُّعْمَانِ قَالَ: سَأَلَتْ أُمِّى أَبِى بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِى مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَوَهَبَهَا لِى، فَقَالَتْ: لا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَخَذَ بِيَدِى، وَأَنَا غُلامٌ فَأَتَى بِىَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: إِنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْنِى بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِهَذَا، قَالَ: أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأُرَاهُ قَالَ لا تُشْهِدْنِى عَلَى جَوْرٍ. وَقَالَ مرة: لا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ. / 16 - فيه: عِمْرَانَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (خَيْرُكُمْ قَرْنِى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، قَالَ عِمْرَانُ: لا أَدْرِى، أَذَكَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَعْدُ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً، فَقَالَ النَّبِىُّ عليه السلام: إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلا يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ) . / 17 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (خَيْرُكم قَرْنِى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، مرتين، ثُمَّ يَجِىءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ) . قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَكَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْد. قال المهلب: فى حديث النعمان دليل أن الرجل إذا فهم من عطيته فرار من بعض الورثة أنه لا يعان عليها بشهادة ولا بإمضاء ويؤمر بارتجاعها، وإنما فهم (صلى الله عليه وسلم) الجور فى ذلك لقولها: (لا أرضى حتى تشهد النبى (صلى الله عليه وسلم)) مع علمه بميله إليها وتقمن مسرتها. ففيه دليل أن الحاكم يحكم بما فهم من المسائل كما فهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 27 النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه يطلب رضاها وتفضيل ولدها على إخوته فهذا هو الجور. قال غيره: وفى قوله: (لا أشهد على جور) من الفقه ألا يضع أحد اسمه فى وثيقة لا تجوز. ومن العلماء من رأى أن يضع اسمه فى وثيقة الجور؛ ليكون شاهدًا عليه بأنه فعل ما لا يجوز له فيرد فعله، وإن تعمد ذلك كان فى الشهادة عليه جرحة تسقط شهادته، والقول الأول الذى يوافق الحديث أولى. قال المهلب: وفى حديث عمران تعديل القرون الثلاثة على منازل متفاضلة، وفيه شمول التجريح لمن يأتى بعدهم، وصفة لمن لا تقبل شهادته ممن شهد على ما لم يشهد عليه، ويخون فيما اؤتمن ولا يفى بما حلف به أو نذره، فهذه صفات الجرحة. وقوله: (ويظهر فيهم السمن) يعنى أنه ليس لهم فى الدنيا إلا كثرة الأكل، واتباع اللذات، ولا رغبة لهم فى أسباب الآخرة؛ لغلبة شهوات الدنيا عليهم. قال الطحاوى: واحتج قوم بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (يشهدون ولا يستشهدون) فقالوا: لا تجوز شهادة من شهد بها قبل أن يسألها، وهو مذموم. وخالفهم فى ذلك آخرون وقالوا: بل هو محمود مأجور على ذلك. واحتجوا بأن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما ذكر هذا فى تغير الزمن فقال: (يفشو الكذب حتى يشهد الرجل على الشهادة ولا يسألها، وحتى يحلف على اليمين ولا يستحلف) فمعنى ذلك أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 28 يشهد كاذبًا؛ لقوله: (ثم يفشو الكذب) فيكون كذا وكذا، فلا يجوز أن يكون ذلك الذى يكون إذا فشا الكذب إلا كذبًا، وإلا فلا معنى لذكره فشو الكذب، وأيضًا فإن هذه الشهادة المذمومة لم يرد بها الشهادة على الحقوق، وإنما أريد بها الشهادة فى الأيمان، يدل على ذلك قول النخعى فى آخر الحديث، وهو الذى رواه، قال: وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد. فدل هذا من قول إبراهيم أن الشهادة التى ذم النبى (صلى الله عليه وسلم) صاحبها فى قول الرجل أشهد بالله ما كان كذا على كذا على معنى الحلف، فكره ذلك كما كره الحلف، لأنه مكروه للرجل الإكثار منه وإن كان صادقًا، فنهى عن الشهادة التى هى حلف بها، كما نهى عن اليمين إلا أن يستحلف فيكون حينئذ معزورًا، واليمين قد تسمى شهادة، قال الله تعالى: (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله) [النور: 6] ، أى أربع أيمان، وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى تفضيل الشاهد المبتدئ بالشهادة ما رواه مالك، عن عبد الله بن أبى بكر، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن ابن أبى عمرة الأنصارى، عن زيد بن خالد الجهنى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (ألا أخبركم بخير الشهداء، الذى يأتى بالشهادة قبل أن يسألها) وفسره مالك فقال: الرجل تكون عنده الشهادة فى الحق لمن لا يعلمها فيخبر بشهادته ويرفعها إلى السلطان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 29 قال الطحاوى: فهذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد مدحه وجعله خير الشهداء، فأولى بنا أن نحمل الأخبار على هذا التأويل حتى لا تتضاد ولا تختلف، فتكون أحاديث هذا الباب على هذا المعنى الذى ذكرناه، ويكون حديث زيد بن خالد على تفضيل المبتدئ بالشهادة لمن هى له أو المخبر بها الإمام. وقد فعل ذلك أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) وشهدوا ابتداء، شهد أبو بكرة ومن كان معه على المغيرة بن شعبة، ورأوا ذلك لأنفسهم لازمًا، ولم يعنفهم عمر على ابتدائهم بها؛ بل سمع شهادتهم، ولو كانوا فى ذلك مذمومين لذمهم، وقال: من سألكم عن هذا ألا قعدتم حتى تسألوا، ولما لم ينكر عليهم عمر ولا أحد ممن كان بحضرته دل أن فرضهم ذلك وابتداؤهم لا عن مسألة محمود، وهو قول مالك والكوفيين. قال الطحاوى: قوله: (ويشهدون ولا يستشهدون) حجة لابن شبرمة فى قوله أنه من سمع رجلا يقول لفلان، عندى كذا وكذا، ولم يشهده الذى عليه بذلك على نفسه فلا يقبل؛ لأنه لعله أن يكون ذلك وديعة عنده فليس بشىء، فأما أن يناقله الكلام فيقول: يا فلان، ألا تعطنى كذا الذى لى عندك. فقال: بل أنا معطيك فأنظرنى، فيجوز أن يشهد عليه. قال: والحجة عليه قوله فى حديث ابن مسعود: (ثم يجئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته) . قال إبراهيم: وكانوا ينهوننا ونحن غلمان أن نحلف بالشهادة والعهد. فدل أن الشهادة المذمومة هى المحلوف بها التى يجعلها الإنسان عادته كما قال تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم) [البقرة: 224] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 30 ولا خلاف بين العلماء أن من رأى رجلا يقتل رجلا أو يغصبه مالا أنه يجوز أن يشهد به، وإن لم يشهده الجانى على نفسه بذلك. فإن قيل: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) يدل أن الشهادة والحلف عليها يبطلها. قيل: لا خلاف بين العلماء أنه تجوز الشهادة والحلف عليها، وهو فى كتاب الله فى ثلاثة مواضع: (ويستنبئونك أحق هو قل إى وربى إنه لحق) [يونس: 53] ، وقال: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربى. .) [التغابن: 7] الآية) وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربى لتأتينكم) [سبأ: 3] إلا ما ذكره ابن شعبان فى (كتاب الزاهى) قال: من قال: أشهد بالله: لفلان على فلان كذا. لم تقبل شهادته؛ لأنه حالف وليس بشاهد. والمعروف غير هذا عن مالك، فانظره فى كتبه. - باب مَا قِيلَ فِى شَهَادَةِ الزُّورِ؛ لِقَوْلِ الله تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) [الفرقان 72] وَكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ، لِقَوْلِهِ: (وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة 283] / 18 - فيه: أَنَسٍ: (سُئِلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْكَبَائِرِ، فَقَالَ: الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ) . / 19 - وفيه: أَبِو بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقَالَ: أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ، قَالَ: فكَرِّرُهَا، حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ) . فى حديث أبى بكرة أن شهادة الزور أكبر الكبائر. وقد روى عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 31 ابن مسعود أنه قال: عدلت شهادة الزور بالشرك بالله. ثم قرأ: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله (. واختلف العلماء فى عقوبة شاهد الزور، فذكر عبد الرزاق، عن مكحول، عن الوليد ابن أبى مالك، أن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله بالشام فى شاهد الزور أن يجلد أربعين، ويسخم وجهه، ويحلق رأسه، ويطال حبسه. ورواية أخرى عن عمر أنه أمر أن يسخم وجهه وتلقى عمامته فى عنقه، ويطاف به فى القبائل ويقال: شاهد زور، ولا تقبل شهادته أبدًا. وروى ابن وهب، عن مالك: أنه يجلد ويطاف به ويشنع به. وقال ابن القاسم: بلغنى عن مالك أنه قال: لا تقبل شهادته أبدًا وإن تاب وحسنت توبته اتباعًا لعمر بن الخطاب. قال ابن أبى ليلى: يعزره. وهو قول أبى يوسف ومحمد، وقال الشافعى: يعزره ويشهر به وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال شريح: يشهر ولا يعزر. وهو قول أبى حنيفة. قال الطحاوى: شهادة الزور فسق، ومن فسق رجلا عزر بوجود الفسق فيه أولى أن يستحق به التعزير، ولا يختلفون أن من فسق بغير شهادة الزور؛ أن توبته مقبولة وشهادته بعدها، كذلك شاهد الزور. - باب شَهَادَةِ الأعْمَى، وَأَمْرِهِ، وَنِكَاحِهِ، وَإِنْكَاحِهِ، وَمُبَايَعَتِهِ، وَقَبُولِهِ فِى التَّأْذِينِ وَغَيْرِهِ، وَمَا يُعْرَفُ بِالأصْوَاتِ وَأَجَازَ شَهَادَتَهُ القَاسِمٌ بن محمد، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِىُّ وَعَطَاءٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 32 وَقَالَ الشَّعْبِىُّ: تَجُوزُ شَهَادَتُهُ إِذَا كَانَ عَاقِلا. وَقَالَ الْحَكَمُ: رُبَّ شَيْءٍ تَجُوزُ فِيهِ. وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: أَرَأَيْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ لَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَةٍ أَكُنْتَ تَرُدُّهُ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَبْعَثُ رَجُلا إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ أَفْطَرَ، وَيَسْأَلُ عَنِ الْفَجْرِ، فَإِذَا قِيلَ: طَلَعَ الْفَجْرِ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَعَرَفَتْ صَوْتِى، قَالَتْ: سُلَيْمَانُ ادْخُلْ، فَإِنَّكَ مَمْلُوكٌ مَا بَقِىَ عَلَيْكَ شَيْءٌ. وَأَجَازَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ مُنْتَقِبَةٍ. / 20 - فيه: عَائِشَةَ: (سَمِعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، رَجُلا يَقْرَأُ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِى كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهُنَّ مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا، وَقَالتْ: عَائِشَةَ: تَهَجَّدَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى بَيْتِى، فَسَمِعَ صَوْتَ عَبَّادٍ يُصَلِّى فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، أَصَوْتُ عَبَّادٍ هَذَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ عَبَّادًا) . / 21 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، (قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ بِلالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَكَانَ أَعْمَى لا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَقُولَ لَهُ النَّاسُ: أَصْبَحْتَ) . / 22 - وفيه: الْمِسْوَرِ: (قَدِمَتْ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَقْبِيَةٌ، فَقَالَ لِى أَبِى مَخْرَمَةُ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ، عَسَى أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْهَا شَيْئًا، فَقَامَ أَبِى عَلَى الْبَابِ، فَتَكَلَّمَ، فَعَرَفَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، صَوْتَهُ، فَخَرَجَ النَّبِىُّ وَمَعَهُ قَبَاءٌ، وَهُوَ يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، خَبَأْتُ هَذَا لَكَ) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 33 اختلف العلماء فى شهادة الأعمى فأجازها سوى من ذكره البخارى مالك والليث فيما طريقه الصوت، وسواء علم ذلك قبل العمى أو بعده، قال مالك: وإن شهد على زنا حد للقذف ولم تقبل شهادته. وقال النخعى وابن أبى ليلى: إذا علمه قبل العمى جازت، وما علمه فى حال العمى لم تجز. وهو قول أبى يوسف والشافعى، وقال أبو حنيفة ومحمد: لا تجوز شهادة الأعمى بحال. وحجة الذين أجازوا شهادته أن النبى (صلى الله عليه وسلم) سمع عبادًا فعرف شخصه بكلامه ودعا له، وسمع صوت مخرمة من بيته فعرفه، وكذلك عرفت عائشة صوت سليمان بن يسار. وقد احتج مالك بقصة ابن أم مكتوم فقال: وكان أعمى إمامًا مؤذنًا على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وقَبِلَ النبى (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه والمسلمون المؤذنين فى الأوقات والسماع منهم، وقال: إنما حفظ الناس عن أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) ما حفظوه وهن من وراء حجاب. قال المهلب: والذى سمع صوت ابن أم مكتوم من بيته فعلم أنه الذى أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بالكف عن الطعام بصوته، فهو كالأعمى أيضًا يسمع صوت رجل فعرفه فتجوز شهادته عليه بما سمع منه وإن لم يره. قال ابن القصار: والصوت فى الشرع قد أقيم مقام الشهادة، ألا ترى أن الأعمى يطأ زوجته بعد أن يعرف صوتها، والإقدام على الفرج واستباحته أعظم من الشهادة فى الحقوق، واحتج الجزء: 8 ¦ الصفحة: 34 من لم يجز شهادته فقال: إن العقود والإقرارات لا تجوز الشهادة عليها بالاستفاضة، فكذلك لا تجوز شهادة الأعمى؛ لأنه لا يتيقن أن هذا صوت فلان لجواز شبهه بصوت غيره، كالخط لا يجوز أن يشهد عليه حتى يذكر أنه شاهد فيه، وإنما كان ذلك لأن الخط يشبه الخط. قالوا: وهذه دلالة لا انفصال عنها. قال ابن القصار: فالجواب أن العقود والإقرارات مفتقرة إلى السماع ولا تفتقر إلى المعاينة بخلاف الأفعال التى تفتقر إلى المعاينة، والدليل على ذلك قوله تعالى: (واختلاف ألسنتكم وألوانكم) [الروم: 22] ، فجعل من الدلائل على محكم صنعته ووحدانيته اختلاف الألسنة والألوان، ثم وجدنا الخلق قد يتشابه كما تتشابه الأصوات، فلما تقرر أنه إذا شهد على عين جاز، وإن جاز أن تشبه عينًا أخرى، كذلك يشهد على الصوت وإن جاز أن يشبه صوتًا آخر. وقد رجع مالك عن الشهادة على الخط؛ لأن الخطوط كثيرة الشبه وليست الأصوات والخلق كذلك، ألا ترى أنه تعالى ذكر اختلاف الألسنة والألوان ولم يذكر الخطوط. قال ابن القابسى: قد روى الاثنان الحكم بشهادة الخط منهم ابن القاسم وابن وهب واستمر عليه العمل. - باب شَهَادَةِ الإمَاءِ وَالْعَبِيدِ وَقَالَ أَنَسٌ: شَهَادَةُ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ، إِذَا كَانَ عَدْلا. وَأَجَازَهُ شُرَيْحٌ وَزُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 35 وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: شَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ إِلا الْعَبْدَ لِسَيِّدِهِ. وَأَجَازَهُ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ فِى الشَّيْءِ التَّافِهِ، وَقَالَ شُرَيْحٌ: كُلُّكُمْ بَنُو عَبِيدٍ وَإِمَاءٍ. / 23 - عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَة أَبِى إِهَابٍ، فَجَاءَتْهُ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَعْرَضَ عَنِّى، قَالَ: فَتَنَحَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: كَيْفَ، وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا، فَنَهَاهُ عَنْهَا) . اختلف الناس فى شهادة العبيد على ثلاثة مذاهب: فروى عن على بن أبى طالب كقول أنس وشريح أنها تقبل فى كل شىء كالأحرار، وهو قول أحمد وإسحاق وأبى ثور. وأجازها الشعبى فى الشىء التافه كقول الحسن والنخعى. والمذهب الثالث أنها لا تجوز فى شىء أصلا، روى ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس وهو قول عطاء ومكحول، وإليه ذهب مالك والثورى وأبو حنيفة والأوزاعى والشافعى. وأما الذين أجازوها فى كل شىء فإنهم قالوا: إذا كان رضىً فإنه داخل فى جملة قوله تعالى: (ممن ترضون من الشهداء) [البقرة: 282] ، وأيضًا فإن إشارة النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى عقبة بالتنزه عن زوجته من أجل شهادة الأمة دليل على سماع شهادة المملوك والحكم بشبهتها، واحتج الذين لم يجيزوها فى شىء. فقالوا: ليس قوله (صلى الله عليه وسلم) : (كيف وقد زعمت) مما حكم به (صلى الله عليه وسلم) ، من طريق الوجوب، وإنما هو عرض وندب، فلا تلزم الحجة به. قال تعالى: (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) [البقرة: 282] والإباءة إنما تكون من الحر، والعبد ممنوع من الإجابة لحق المولى فلم يدخل تحت النهى كما لم يدخل فى قوله: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 36 ) فاسعوا إلى ذكر الله) [الجمعة: 9] ، وقوله: (انفروا خفافًا وثقالاً) [التوبة: 41] ، وقوله: (ولله على الناس حج البيت) [آل عمران: 97] ، وذلك كله لحق المولى. وقال ابن القصار: فإن قيل: أداء الشهادة عليه فرض كالصلاة والصيام ليس لسيده منعه من ذلك. قيل: هذا غلط؛ لأن فرض الصلاة والصيام إيجاب من الله ابتداء، وتحمل الشهادة هو من قبل العبد، فلا فرض عليه فى أدائها حتى يأذن له السيد أو يُعتق كما ينذر على نفسه نذرًا. فإن قيل: كل من جاز قبول خبره جاز قبول شهادته كالحر. قيل: الفرق بين ذلك أن الخبر قد سومح فيه ما لم يسامح فى الشهادة؛ لأن الخبر يقبل من الأمة منفردة والعبد منفردًا، ولا تقبل شهادة الأمة منفردة ولا العبد منفردًا، والعبد ناقص عن رتبة الحر فى الأحكام فكذلك فى الشهادة. - باب تَعْدِيلِ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ بَعْضًا / 24 - فيه: عَائِشَةَ: حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإفْكِ، مَا قَالُوا، فسأل النبى، (صلى الله عليه وسلم) بَرِيرَةَ: هَلْ رَأَيْتِ مِنْهَا شَيْئًا يَرِيبُكِ؟ قَالَتْ: لا، وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنْ العَجِينِ، فَتَأْتِى الدَّاجِنُ، فَتَأْكُلُهُ، وذكر الحديث. . إلى قولها: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِى، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحْمِى سَمْعِى وَبَصَرِى وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلا خَيْرًا، قَالَتْ: وَهِىَ الَّتِى كَانَتْ تُسَامِينِى، فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 37 اختلف العلماء فى تعديل النساء فذكر الطحاوى فى كتاب الخلاف قال: تعديل المرأة مقبول عند أبى حنيفة وأبى يوسفَ، وقال محمد: لا يقبل فى التعديل إلا رجلان أو رجل وامرأتان. وقال مالك: لا يجوز تعديل النساء بوجه لا فى مال ولا غيره. وقال الشافعى: لا تعدل النساء ولا يجرحن ولا يشهد على شهادتهن إلا الرجال. وقال الطحاوى: الدليل على أنه يقبل تعديل النساء أنه يقبل فى التزكية ما لا يقبل فى الشهادة؛ لأنه يقول فى الشهادة: أشهد، ولا يحتاج فى التزكية إلى لفظ الشهادة، وفى سؤال النبى (صلى الله عليه وسلم) بريرة وزينب بنت جحش عن عائشة حجة لأبى حنيفة فى جواز تعديل النساء ألا ترى قول عائشة عن زينب: (وهى التى كانت تسامينى فعصمها الله بالورع) . وهذا تزكية من عائشة أيضًا لزينب وشهادة لها بالفضل، ومن كانت بهذه الصفة جازت تزكيتها. قال المؤلف: ومن لم يجز تزكية النساء فإنما ذهب إلى ذلك، والله أعلم، لنقصان النساء عن معرفة وجوه التزكية؛ لأن من شرط مالك والشافعى فى التزكية أن يقول: أراه عدلا رضىً أو عدلا علىّ ولى، ولأن هذا لا يعلم إلا بالاختيار لأحوال الرجال وطول المباشرة فى المعاملة وغيرها، والنساء لا يمكنهن تعرف أحوال الرجال من هذه الوجوه، وقد خص الله أزواج نبيه من الفضل ما لا يوجد فى غيرهن ممن يأتى بعدهن من النساء، فاحتيط فى التعديل وأخذ فيه بشهادة الرجال. فإن قيل: فإذا كان كما ذكرت فجوزّ تعديل النساء على ما ترجم به البخارى لإمكان تعريف النساء أحوال النساء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 38 قيل: لو قال قائل: إنه يجوز أن يزكى بعضهن بعضًا بقول حسن وثناء جميل، ولا يكون تعديلا فى شهادة توجب أخذ مال، وإنما هو إبراء من شر قيل؛ لكان حسنًا، وشهادة النساء إنما أجازها الله تعالى فى الديون والأموال مع الرجال، وأجازها المسلمون فى عيوب النساء وعوراتهن وحيث لا يمكن الرجال مشاهدته، وأما فى غيره فلا يجوز فيه غير الرجال، ألا ترى أنه لا تجوز شهادتهن منفردات على شهادة امرأة، ولا رجل عند جمهور العلماء، ولا تجوز مع الرجال فى ذلك عند الشافعى، وابن الماجشون، وابن وهب، واختاره سحنون، وإنما تجوز مع الرجال عند مالك والكوفيين، فكيف يجوز تعديلهن منفردات عند أبى حنيفة وأبى يوسف، وهما يجيزان شهادتهن على الشهادة منفردات؟ هذا تناقض. قال المهلب: وفى حديث الإفك من الفقه سوى ما مر منه فى غير هذا الموضع خروج النساء إلى حاجة الإنسان بغير إذن أزواجهن. وفيه: خدمة الرجال لما يركبنه النساء من الدواب، واحتمالهن فى الهوادج. وفيه: ترك مكالمة النساء ومخاطبتهن فى ذلك. وفيه: كتم ما يقال فى الإنسان من القبيح عنه، كما كتم قول الناس فى عائشة عنها حتى أعلمتها أم مسطح به. وفيه: تشكى السلطان والإمام بمن يؤذيه فى أهله، وفى غير ذلك إلى المسلمين والاستعذار منه. وفيه: مشاورة الرجل بطانته فى فراق أهله لقول قيل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 39 وفيه: الكشف والبحث عن الأخبار الواردة إن كان له نظائر أم لا، لسؤال النبى (صلى الله عليه وسلم) بريرة وأسامة وزينب وغيرهم من بطانته عن عائشة، وعن سائر أفعالها وما يغمص عليها، والحكم بما يظهر من الأفعال على ما قيل. وفيه: أن المرأة لا تخرج إلى دار أبويها إلا بإذن زوجها. وفيه: فضيلة من شهد بدرًا من المسلمين وأن الدعاء عليهم وجفاء الكلمة منهم مما يجب أن ينكر كما أنكرته عائشة على أم مسطح فى ابنها مع ما للأبوين من المقال مما ليس لغيرهما. وفيه: توقيف المقول فيه على ما يقال وأمره بالتوبة إن كان أذنب. وفيه: أن الاعتراف بما فشا من الباطل لا يحل ولا يجمل. وفيه: أن عاقبة الصبر الجميل فيه الغبطة والعزة فى الدارين. وفيه: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ليس كان يأتيه الوحى متى أراد لبقائه شهرًا لا يوحى إليه. وفيه: ترك حد من له منعة والتعرض لما يخشى من تفرق الكلمة وظهور الفتنة، كما ترك النبى (صلى الله عليه وسلم) التعرض لحد عبد الله بن أبى ابن سلول. وفيه: غضب المسلمين لعرض إمامهم وسلطانهم. وفيه: أن المعصية تنقل عن اسم الصلاح كما نقلت سعد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 40 بن عبادة من الصلاح عصبيته لعبد الله بن أبى عن حاله؛ لقول عائشة: (وكان قبل ذلك رجلا صالحًا) . وفيه: أنه قد يسب الرجل أو يرمى بشىء نسب إليه، وإن لم يكن فيه ما نسب؛ لقول أسيد: (كذبت لعمرو الله؛ فإنك منافق تجادل عن المنافقين) ولم يكن سعد منافقًا لكن مجادلته عنه استحل منه أسيد أن يرميه بالنفاق. وفيه: أن الشبهة تسقط العقوبة كما سقط الحد، وتبيح الفرض وتسقط الحرمة. وفيه: أن من آذى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى أهله أو فى عرضه أنه يقتل؛ لقول أسيد: (إن كان من الأوس قتلناه) ولم يرد عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) شيئًا، فكذلك من سب عائشة بما برأها الله منه، أنه يقتل لتكذيبه القرآن المبرئ لها وتكذيبه الله ورسوله. وقال قوم: لا يقتل من سبها بغير ما برأها الله منه. قال المهلب: والنظر عندى يوجب أن يقتل من سب أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) بما رميت به عائشة أو بغير ذلك؛ لأن قول أسيد: (إن كان من الأوس قتلناه) إنما قال ذلك قبل نزول القرآن، ولم يرد النبى (صلى الله عليه وسلم) قوله، ولو كان قوله غير الصواب لما وسع النبى (صلى الله عليه وسلم) السكوت عنه؛ لأنه مفروض عليه بيان حدود الله، ومن سب أزواجه (صلى الله عليه وسلم) فقد آذاه ونقصه فهو متهم بسوء العقيدة فى إيمانه بالنبى (صلى الله عليه وسلم) فهو دليل على إبطانه النفاق. وفيه: معاقبة المؤذى بقطع المعروف عنه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 41 وفيه: الأخذ بالعفو والصفح عن المسئ، وأن ذلك مما يغفر الله به الذنوب. ذكر ألفاظ من الغريب وقعت فى حديث الإفك، وفى المغازى، والتفسير قولها: (فإذا عقد لى من جزع أظفار) هكذا رواه فليح بن سليمان، عن ابن شهاب، وكذلك رواه يونس، عن ابن شهاب فى تفسير القرآن فى سورة النور، وأهل اللغة لا يعرفون هذا ويقولون: من جزع ظفار وهو مبنى على الكسر كما تقول: حزام ورقاس، وقد رواه البخارى (ظفار) كما قال أهل اللغة فى كتاب المغازى من رواية صالح بن كيسان، عن ابن شهاب. قال ابن قتيبة: ظفار مدينة باليمن وهو جزع ظفارى. قال صاحب العين: الجزع ضرب من الجزر، والجزع بكسر الجيم، جانب الوادى ومنعطفه. والعلقة ما فيه بلغة من الطعام إلى وقت الغداة، والعلاق مثله. عن صاحب العين. وقوله: (معرسين فى نحر الظهيرة) التعريس: النزول. قال الخطابى: ونحر الظهيرة أول القائلة. وقد روى: (موغرين فى نحر الظهيرة) فمعنى موغرين أى: مهجرين، يقال: رأيت فلانًا فى وغر الهاجرة. وهو شدة الحر حين تكون الشمس فى كبد السماء، ومنه وغر الصدر: وهو التهاب الحقد وتوقده فى القلب ومن هذا إيغار الماء. قال ابن السكيت: وهو أن تسخن الحجارة، ثم تلقى فى الماء لتسخنه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 42 والمتبرز: المكان الذى تقضى فيه حاجة الإنسان، والبراز أيضًا اسم ذلك المكان، وبها سمى الحدث برازًا، كما يسمى الحدث بالغائط وهو المطمئن من الأرض. والتنزه: البعد عن البيوت، وكانوا يبعدون عنها عند حاجة الإنسان. وقولها: (تعس مسطح) التعس: ألا ينتعش من عثرته. وقد تعس تعسًا وأتعسه الله. وقد تقدم فى باب الحراسة فى الغزو. وقول بريرة: (ما رأيت أمرًا أغمصه عليها) يقال: رجل مغموص عليه فى دينه: إذا طعن عليه فيه. وفى كتاب الأفعال: غمص الناس غمصًا: احتقرهم وطعن عليهم، والغمص فى العين كالرمص. وقال الطبرى: (الداجن) الشاة المعتادة للقيام فى المنزل إذا سمنت للذبح واللبن، ولم تسرح فى المسرح، وكل معتاد موضعًا هو به مقيم فهو كذلك داجن. يقال: دجن فلان بمكان كذا ودجن به إذا أقام به. وقوله: (ما دام مجلسه) أى: ما برح منه. عن صاحب العين. (والبرحاء) : شدة الحر. من كتاب العين. وقال الخطابى: البرحاء: شدة الكرب، مأخوذ من قولك: برحت بالرجل إذا بلغت به غاية الأذى والمشقة. ويقال: لقيت منه البرح. (تسامينى) : المسامة مفاعلة من سما يسمو إذا ارتفع وتطاول. قال صاحب الأفعال: سما الفحل سماوة: تطاول على سواه. ومما وقع فى حديث الإفك من الغريب فى كتاب المغازى والتفسير قولها: (وكان النساء خفافًا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم) قال صاحب العين: المهل: الكثير اللحم. قال أبو عبيدة: يقال منه: أصبح فلان مهبلا إذا كان مورم الوجه متهيجًا وأنشد أبياتًا: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 43 ريان لا غاش ولا مهبل الغش: الرقيق عظام اليدين والرجلين. وقول عروة فى عبد الله بن أبىّ أنه كان يشاع ويتحدث عنده فيقره ويسمعه ويستوشيه. قال ثابت: يستوشيه أى: يأتلف عليه ويستدعيه ويستخرجه كما يستخرج الفارس جرى الفرس بعقبه وبالسوط. وقال يعقوب: يقال: مرّ فلان يركض فرسه ويربه ويستزده ويستوشيه، كل ذلك طالب ما عنده ليزيده. وقيل: هو من قولك: وشى الكذب وشاية. وقال صاحب العين: وشى النمام يشى وشاية، ووشى الحائك الثوب يشى وشيًا. وفيه: (قلص دمعى نابت) ، يقال: قلص الدمع: ارتفع. وقلص الظل: تقلص. ابن السكيت: قلص الماء فى البئر إذا ارتفع، وهو ماء قليص. وفيه: (ما كشف كنف أنثى) قال ثابت: الكنف هاهنا الثوب الذى يكنفها أى: يسترها، ومنه قولهم: هو فى حفظ الله وكنفه. قال أبو حاتم: وبعض العرب يقول: أنت فى كنفى. وكنفا الطائر: جناحاه. والكنف أيضًا: الجانب. وناحيتا كل شىء: كنفاه. وأكناف الجبل والوادى: نواحيه. ومما وقع فى تفسير القرآن فى سورة النور قول أم مسطح لعائشة: (أى هنتاه) معناه: يا امرأة. وقد تقدم تفسير هذه اللفظة فى كتاب الحج فيمن قدم ضعفة أهله بالليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون فى حديث أسماء وفيه: أشيروا على فى أناس أبنوا أهلى التائبين. ذكر الشىء وتتبعه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 44 وقال الراعى: فرفع أصحابى المطى وأبنوا هنيدة فاشتاق العيون اللوامح قال ابن السكيت: أبنوا هنيدة كأنهم جروا بها وذكروها. ومن روى: أبنوا علىّ أهلى بالتخفيف معناه: فرقوها. قال ابن دريد: أمر الرجل الخيل وأبن به، فهو مأمور ومأبون وهما سواء. وقولها: (فنفرت لى الحديث) أى: شرحته وبينته. عن ثابت. وقال صاحب العين: نفر عن الأمر أى: بحث عنه. وفيه بريرة: (أنهرها بعض أصحابه فقال لها: اصدقى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى أسقطوا لها به. فقالت: سبحان الله، والله ما أعلم عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر) يحتمل أن يكون معنى قولها (حتى أسقطوا لها به) مأخوذ من قولهم سقط إلى الخبر: إذا علمته، ومن قولهم: فلان يساقط الحديث، معناه: يرويه، ومنه قول بشير بن سعد: كنا نجالس سعدًا فكان يتحدث حديث الناس والأخلاق، وكان يساقط فى ذلك الحديث عن رسول الله، وقوله: (يساقط) معناه يروى الحديث فى خلال كلامه. قال أبو حميد النمرى: إذا هن ساقطن الحديث وقلن لى أخفت علينا [. . . . .] وتخدعا فمعنى قولها: (حتى أسقطوا لها به) أى: ذكروا لها الحديث وبينوه فعند ذلك قالت: (سبحان الله، والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر) إنكارًا أو إعظامًا أن تنطق بمثل هذا القول عمن اختارها الله زوجًا لأطيب خلقه وأفضلهم وجعلها أحب إليه من جميع نساء العالمين، ولا تجوز أن تكون إلا طيبة مثله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 45 بقوله تعالى: (والطيبات للطيبين) [النور: 26] ، فلذلك برأها الله فى القرآن المكرم بما تكرر تلاوته إلى يوم القيامة. - باب إِذَا زَكَّى رَجُلٌ رَجُلا كَفَاهُ وَقَالَ أَبُو جَمِيلَةَ: وَجَدْتُ مَنْبُوذًا، فَلَمَّا رَآنِى عُمَرُ، قَالَ: عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا، كَأَنَّهُ يَتَّهِمُنِى، قَالَ عَرِيفِى: إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ، قَالَ: كَذَاكَ اذْهَبْ، وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ. / 25 - فيه: أَبو بَكْرَةَ: أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، مِرَارًا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لا مَحَالَةَ، فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلانًا، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلا أُزَكِّى عَلَى اللَّهِ أَحَدًا، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ) . هذا الباب موافق لمذهب أبى حنيفة أنه يجوز تعديل رجل واحد، واحتج أصحابه بحديث أبى جميلة فى ذلك. وقد تقدم اختلاف العلماء فى ذلك فى باب تعديل كم يجوز. قال المهلب: وأما الذين لم يجيزوا تزكية رجل واحد فقالوا: إن هذا السؤال من عمر إنما كان على طريق الخبر لا على طريق الشهادة، وهذا أصل فى أن القاضى إذا سأل عن أحد فى مجلس نظره، فإنه يجتزئ بخبر الواحد وتعديله إذا كان القاضى هو الكاشف لأمره؛ لأن ذلك بمنزلة علم القاضى إذا علم عدالة الشاهد، ألا ترى أن عمر قنع بقول العريف إذ كان خبرًا. وأما إذا كلف المشهود له أن يعدل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 46 شهوده فلا يقبل أقل من رجلين كما ذكر الله فى كتابه. هذا قول أصبغ بن الفرج. قال المهلب: وإنما أنكر (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أبى بكرة قطعه بالصلاح والخير له، ولم يرد العلم إلى الله فى ذلك، ألا ترى أنه أمره إذا أثنى أحد على أحد أن يقول: أحسب. ولا يقطع؛ لأنه لا يعلم السرائر إلا الله، وهو فى معنى الخبر لا فى معنى الشهادة. وروى أشهب عن مالك أنه سئل عن قول عمر بن الخطاب: (ما حملك على أخذ هذه النسمة؟) فقال مالك: اتهمه عمر أن يكون ولده أتاه به ليفرض له فى بيت المال، ويحتمل أنه ظن به أنه يريد أن يفرض له ويلى أمره ويأخذ ما يفرض له ويصنع به ما شاء، فلما قال له عريفه: إنه رجل صالح، صدقه. وأما قوله: (وعلينا نفقته) يعنى: رضاعه ومئونته من بيت المال. وقال عيسى بن دينار: وكان عمر دوّن الدواوين، وقسم الناس أقسامًا، وجعل على كل ديوان عريفًا ينظر عليهم، فكان الرجل الذى وجد المنبوذ من ديوان الرجل الذى زكاه عند عمر. وفى قول العريف لعمر: (إنه رجل صالح) وتقرير عمر للرجل على ذلك فقال: نعم. فيه: أن مباحًا للإنسان أن يزكى نفسه ويخبر بالصلاح عنها إذا احتيج إلى ذلك وسئل عنه، وهكذا رواه مالك فى الموطأ فقال عمر: (أكذلك؟ قال: نعم) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 47 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الإطْنَابِ فِى الْمَدْحِ وَلْيَقُلْ مَا يَعْلَمَهُ / 26 - فيه: أَبُو مُوسَى: (سَمِعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلا يُثْنِى عَلَى رَجُلٍ، وَيُطْرِيهِ فِى مَدْحِهِ، فَقَالَ: أَهْلَكْتُمْ، أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهَرَ الرَّجُلِ) . قال المهلب: وإنما قال هذا، والله أعلم، لئلا يغتر الرجل بكثرة المدح، ويرى أنه عند الناس بتلك المنزلة، فيترك الازدياد من الخير ويجد الشيطان إليه سبيلا، ويوهمه فى نفسه حتى يضع التواضع لله، وكان السلف يقولون: إذا أثنى على أحدهم: اللهم اغفر لنا ما لا يعلمون واجعلنا خيرًا مما يظنون. وقال يحيى بن معاذ: العاقل لا يدعه ما ستر الله عليه من عيوبه بأن يفرح بما أظهره من محاسنه. - باب بُلُوغِ الصِّبْيَانِ وَشَهَادَتِهِمْ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) [النور: 59] . وَقَالَ مُغِيرَةُ: احْتَلَمْتُ، وَأَنَا ابْنُ ثِنْتَىْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَبُلُوغُ النِّسَاءِ فِى الْحَيْضِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَاللائِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ) [الطلاق: 4] إِلَى قَوْلِهِ: (أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: أَدْرَكْتُ جَارَةً لَنَا جَدَّةً بِنْتَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً. وذكر الشافعى أنه رأى باليمن جدة بنت إحدى وعشرين سنة حاضت لتسع وولدت لعشر وعرض مثل ذلك لابنتها، ويذكر أن عمرو بن العاص بينه وبين ابنه اثنتا عشرة سنة. / 27 - فيه: ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 48 سَنَةً، قَالَ: فَلَمْ يُجِزْنِى، ثُمَّ عَرَضَنِى يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَنِى، قَالَ نَافِعٌ، فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِالْعَزِيزِ، وَهُوَ خَلِيفَةٌ، فَحَدَّثْتُهُ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ. / 28 - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) : (غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ) . أجمع العلماء على أن الاحتلام فى الرجال والحيض فى النساء هو البلوغ الذى تلزم به العبادات والحدود والاستئذان وغيره، وأن من بلغ الحلم فأونس منه الرشد جازت شهادته ولزمته الفرائض وأحكام الشريعة؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) فعلق الغسل بالاحتلام. وببلوغ الحلم وإيناس الرشد يجوز دفع ماله إليه؛ لقوله: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم) [النساء: 6] ، وبلوع النكاح هو الاحتلام، واختلفوا فيمن تأخر احتلامه من الرجال أو حيضته من النساء، فروى عن القاسم وسالم أن الإنبات حد البلوغ. وهو قول الليث، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال مالك بالإنبات أو أن يبلغ من السن ما يعلم أن مثله قد بلغ. قال ابن القاسم: وذلك سبع عشرة أو ثمان عشرة سنة، وفى النساء هذه الأوصاف أو الحبل. إلا أن مالكًا لا يقيم الحد بالإنبات إذا زنى أو سرق ما لم يحتلم، أو يبلغ من السن ما يعلم أن مثله لا يبلغه حتى يحتلم فيكون عليه الحد. ولم يعتبر أبو حنيفة الإنبات، وقال: حد البلوغ فى الجارية سبع عشرة سنة، وفى الغلام تسع عشرة. وروى عنه فى الغلام ثمان عشرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 49 مثل قول ابن القاسم، وهو قول الثورى، واختلف قول الشافعى فى الإنبات فقال: يكون بالغًا فى المسلمين. وقال: لا يكون بلوغًا. ولم يختلف قوله أنه محكوم به فى المشركين إذا عدم الاحتلام. اعتبر الشافعى خمس عشرة سنة فى الذكور والإناث، وأخذ بحديث ابن عمر أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أجازه يوم الخندق. وهو مذهب الأوزاعى وأبى يوسف ومحمد، وبه قال ابن الماجشون وابن وهب. واحتج من اعتبر الإنبات بما رواه سعيد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد بن أبى وقاص، عن أبيه أن سعد بن معاذ حكم على بنى قريظة أن يقتل منهم كل من جرت عليه المواسى، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (حكمت فيهم بحكم الله) . وبما روى نافع، عن أسلم، عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أمراء الأجناد ألا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسى. وقال عثمان بن عفان فى غلام سرق: إن اخضر مئزره فاقطعوه، وإن لم يخضر فلا تقطعوه. قال ابن القصار: ووجه قول من جعل الثمان عشرة وشبهها حدا للبلوغ، وإن لم يكن إنبات ولا احتلام قول الله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده) [الأنعام: 152] ، فقال ابن عباس فى تفسير ذلك: ثمان عشرة سنة. ومثل هذا لا يعلم إلا من جهة التوقيف، وقد أجمعوا على اعتبار البلوغ فى دفع المال إليه، فدل أن البلوغ يتعلق بهذا القدر من السن دون غيره إلا أن يقوم دليل. وأما تفرقة الشافعى بين المسلمين والمشركين فى الإنبات على أحد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 50 قوليه فلا معنى له؛ لأن كل ما جاز أن يكون علامة فى البلوغ للكافر جاز أن يكون فى المسلم، أصله الحيض فى النساء. وأما اعتبار خمس عشرة سنة فى حد البلوغ إذا لم يحصل فيها احتلام ولا إنبات، فليس فى خبر ابن عمر ذكر البلوغ الذى به تعلق أحكام الشريعة، وإنما فيه ذكر الإجازة فى القتال، وهذا المعنى يتعلق بالقوة والجلد، ومن أصل الجميع أن الحكم متى نقل سببه تعلق به، فإنما أجازه للقتال خاصة بها السن ومن أجلها عرض، ونحن نجيز قتال الصبى إذا لم يبلغ هذا السن ويسهم له إذا قاتل. وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يجيز المراهقين إذا بلغوا حد من يقاتل، وقال سمرة بن جندب: عرضت على النبى (صلى الله عليه وسلم) فى بعض غزواته فلم يجزنى، وعرض عليه غلام غيرى فأجازه، فقلت: يا رسول الله، قبلته ورددتنى، فلو صارعنى لصرعته، فقال: (صارعه) ، فصرعته، ففرض له النبى (صلى الله عليه وسلم) . وعلى ما تأول ابن القصار حديث ابن عمر تأوله أبو حنيفة وقال: إنما أجاز النبى (صلى الله عليه وسلم) ابن عمر لقوته لا لبلوغه، ورده لضعفه. قال الطحاوى: ولا ينكر أبو حنيفة أن يفرض للصبيان إذا كانوا يحتملون القتال ويحضرون الحرب، وإن كانوا غير بالغين. قال ابن المنذر: اختلف العلماء فى شهادة الصبى غير البالغ، فقالت طائفة: لا تجوز شهادته؛ لأنه ليس ممن يرضى، وإنما قال الله: (ممن ترضون من الشهداء) [البقرة: 282] ، روى هذا عن ابن عباس وعن القاسم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 51 وسالم وعطاء، والشعبى والحسن وابن أبى ليلى، وهو قول الثورى والكوفيين، والشافعى وأحمد، وإسحاق وأبى ثور وأبى عبيد. وقالت طائفة: تجوز شهادتهم بعضهم على بعض فى الجراح والدم. روى عن على بن أبى طالب وابن الزبير، وشريح وعروة، والنخعى وربيعة، والزهرى ومالك. ويؤخذ بأول قولهم ما لم ينخسوا أو يتفرقوا. قال مالك: فإذا تفرقوا فلا شهادة لهم، إلا أن يكونوا قد أشهدوا العدول قبل أن يتفرقوا. قال أبو الزناد: وهى السنة أن تؤخذ شهادة الصبيان أول ما يسألون عنه ويكون مع الولى كذلك وإن هم أحدثوا ما يخالف شهادتهم الأولى لم يلتفت إليه، ويؤخذ بالأول من شهادتهم، وبذلك كان يقضى عمر بن عبد العزيز. - باب سُؤَالِ الْحَاكِمِ الْمُدَّعِىَ هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ قَبْلَ الْيَمِينِ / 29 - فيه: عَبْدِاللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ؛ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِىَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، قَالَ: فَقَالَ الأشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: فِىَّ وَاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ، كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ، فَجَحَدَنِى، فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَلَكَ بَيِّنَةٌ قَالَ: قُلْتُ: لا، قَالَ: فَقَالَ لِلْيَهُودِىِّ: احْلِفْ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِى، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا) [آل عمران: 77] ) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 52 قال المؤلف: إنما يلزم الحاكم أن يسأل المدعى: هل لك بينة؟ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) جعل البينة على المدعى، وأجمعت الأمة على القول بذلك، وأنه لا تقبل دعوى أحد على أحد دون بينة. وقال المهلب: معنى سؤال الحاكم المدعى البينة قبل اليمين، خوفًا أن يحلف له المطلوب، ثم يأتى بعد ذلك المدعى ببينة فيأخذ منه حقه؛ فيحصل المطلوب تحت يمين كاذبة غموس يستحق بها عقاب الله، إن شاء أن ينفذ عليه الوعيد، ثم يؤخذ المال منه له كالظلم، فإذا سأله: هل لك بينة؟ فقال: لا. لم يكن له الرجوع عليه ببينة إلا أن يحلف أنه ما علم بها يوم قال: لا، وسيأتى بعد. واختلف العلماء فى المدعى يثبت البينة على ما يدعيه هل للحاكم أن يستحلفه مع بينته أم لا؟ فكان شريح وإبراهيم النخعى يريان أن يستحلف مع بينته أنها شهدت بحق، وقد روى ابن أبى ليلى، عن الحكم، عن حنش أن عليا استحلف عبيد الله بن الحر مع بينته، وهو قول الأوزاعى والحسن بن حى، وقال إسحاق: إذا استراب الحاكم أوجب ذلك، وذهب مالك والكوفيون، والشافعى وأحمد إلى أنه لا يمين عليه، والحجة لهم قوله، عليه السلام، للأشعث: (ألك بينة؟) ، ولم يقل له: وتحلف معه، فلم يوجب على المدعى غير البينة، وأيضًا قوله: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء. . .) [النور: 4] الآية، فأبرأه الله من الجلد بإقامة أربعة شهداء من غير يمين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 53 - باب الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِى الأمْوَالِ وَالْحُدُودِ وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ) . وَقَالَ ابْنِ شُبْرُمَةَ، كَلَّمَنِى أَبُو الزِّنَادِ فِى شَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِى، فَقُلْتُ: قَالَ اللَّهُ: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) [البقرة: 282] الآية. قُلْتُ: إِذَا كَانَ يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِى، فَمَا تَحْتَاجُ أَنْ تُذْكِرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى، مَا كَانَ يَصْنَعُ بِذِكْرِ هَذِهِ الأخْرَى. / 30 - فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. / 31 - وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ. أجمع العلماء على استحلاف المدعى عليه فى الأموال، واختلفوا فى الحدود والطلاق والنكاح والعتاق، فذهب الشافعى أن اليمين واجب على كل مدعى عليه إذا لم يكن للمدعى بينة، وسواء كانت الدعوى فى دم أو جراح أو طلاق أو نكاح أو عتق أو غير ذلك، واحتج بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (شاهداك أو يمينه) قال: ولم يخص النبى (صلى الله عليه وسلم) مدعى مال دون مدعى دم أو غيره، بل الواجب أن يحمل قوله على العموم، ألا ترى أنه جعل القسامة فى دعوى الدم، وقال للأنصار: (تبرئكم يهود بخمسين يمينًا) والدم أعظم حرمة من المال. وقال الشافعى وأبو ثور: إذا ادعت المرأة على زوجها خلعًا أو طلاقًا، وجحد الزوج الطلاق، فالمرأة المدعية عليها البينة، فإن لم يكن لها بينة استحلف الزوج، وإن ادعى الزوج أنه خالعها على مال وهى ناشز فأنكرت المرأة، فإن أقام البينة لزمها المال، وإن لم يقم بينة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 54 حلفت ولزم الزوج الفراق؛ لأنه أقرَّ بذلك، وإن ادعى العبد العتق ولم تكن له بينة استحلف السيد فإن حلف برئ، وإن ادعى السيد أنه أعتق عبده على مال، والعبد منكر لذلك حلف ولزم السيد العتق. وكان سوار يحلف فى الطلاق، وكان أبو يوسف ومحمد يريان أن يستحلف على النكاح، فإن أبى أن يحلف ألزم النكاح. وذكر ابن المنذر، عن الشعبى، والثورى، وأصحاب الرأى، أنه لا يستحلف على شىء من الحدود ولا على القذف، وقالوا: يستحلفه على السرقة فإن نكل عن اليمين لزمه النكال، وفيه قول آخر: لا يمين فى الطلاق والنكاح والعتق والفرية إلا أن يقيم المدعى شاهدًا واحدًا، فإذا أقامه استحلف المدعى عليه. هذا قول مالك بن أنس. قال ابن حبيب: إذا أقامت المرأة أو العبد شاهدًا واحدًا على أن الزوج طلقها أو أن السيد أعتقه؛ فإن اليمين تكون على السيد والزوج، فإن حلفا سقط عنهما الطلاق والعتق، هذا قول مالك وابن الماجشون وابن كنانة قال مالك فى المدونة: فإن نكل قضى بالطلاق والعتق. ثم رجع مالك فقال: لا يقضى بالطلاق والعتق. ثم رجع مالك فقال: لا يقضى بالطلاق وليسجن، فإن طال سجنه دين وترك. وبهذا أخذ ابن القاسم، وطول السجن عنده سنة، وروى أشهب عن مالك فى العتبية فى الرجل يأتى بشاهد واحد على رجل شتمه: أيحلف مع شاهده ويستحق ذلك، أو يستحلف المدعى عليه ويبرأ؟ قال: لا يحلف فى مثل هذا مع الشاهد، وأرى إن كان الشاتم معروفًا بالسفه أن يعزر ويؤدب. قلت له: أفترى على المدعى عليه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 55 يمينًا؟ قال: نعم، وليس كل ما رأى المرء يحب أن يجعله سنة فيذهب به إلى الأمصار، فتضعف يمين المدعى عليه فى هذه المسألة حين رأى ألا يجعل قوله سنة. وذهب أهل المقالة الأولى إلى وجوب اليمين على المدعى عليه بمجرد الدعوى فى كل دعوى، ولم ير مالك على المدعى عليه يمينًا، حتى يقيم المدعى شاهدًا واحدًا فى دعوى النكاح والطلاق، والعتق والفرية. والعتاقة عند مالك حد من الحدود؛ لأنه إذا أعتق العبد ثبتت حرمته وجازت شهادته ووقعت الحدود له وعليه بخلاف ما كانت قبل ذلك ورأى فى الأموال خاصة اليمين على المدعى عليه دون شاهد يقيمه المدعى؛ لأن إيجاب البينة على المدعى واليمين على من أنكر إنما ورد فى خصام فى أرض بين الأشعث وبين رجل آخر، ففيه قال (صلى الله عليه وسلم) : (شاهداك أو يمينه) . فرأى مالك حمل الحديث على ما ورد عليه فى الأموال خاصة، ورأى فى دعوى النكاح والطلاق والعتق والفرية إذا أقام المدعى شاهدًا واحدًا أن يحلف المدعى عليه فيتبرأ بذلك من الدعوى التى قويت شبهتها بالشاهد، ولو جاز فيها دخول الأيمان دون شاهد يقيمه المدعى لأدى ذلك إلى إضاعة الحدود واستباحة الفروج ورفع الملك. ولا يشاء أحد أن يدعى نكاح امرأة فتنكر فيحلفها أو يبتذلها بذلك، فإن لم تحلف أخذها زوجها واستباح فرجها الذى هو أعلى رتبة من المال؛ لأن المال يقبل فيه شاهد وامرأتان ولا يقبل ذلك فى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 56 النكاح، ولو أدعى أنها زوجته وصدقته المرأة لم يحكم بينهما بثبوت الزوجية بتقاررهما دون بينة تشهد على ذلك، فكذلك لا تقبل دعوى المرأة على زوجها أنه طلقها إلا بالبينة ولا تحلفه بدعواها؛ لأن هذا يؤدى إلى أن يستبيح الأجنبى فرجها مع كونها زوجة الأول؛ لأنه لا تشاء امرأة تكره زوجها إلا ادعت عليه كل يوم طلاقها، ولا يشاء عبد العتق إلا ادعى على مولاه أنه أعتقه، ولا سيما إذا علم أن الزوج أو السيد ممن لا يحلف فى مقطع الحقوق فكثير من الناس يتجنب ذلك، وإن لم يحلف الزوج ولا السيد طلقت المرأة وعتق العبد، هذا على قول مالك الأول الذى أوجب العتق والطلاق بالنكول، والقول الآخر الذى رجع إليه أشد احتياطًا فى تحصين الفروج والحدود. وأما قياس الشافعى كل دعوى على القسامة، فالقسامة باب مخصوص ولا يجوز أن يقاس على المخصوص، ولا يجوز أن يؤخذ ما أصله موجود فى سنة النبى (صلى الله عليه وسلم) فيجعل فرعًا يقاس على أصل لا يشبهه؛ لأن قياس الأصول بعضها على بعض لا يجوز، ولو كان فرعًا ما جاز قياسه على أصل لا يشبهه وأحق الناس بأن يمنع أن يجعل فى باب الدعوى بالدم قياسًا على القسامة من لا يرى القود بالقسامة وهو الشافعى، والقسامة يبدأ فيها المدعى باليمين عند مالك والشافعى، والمدعى عليه فى غير هذا يبدأ باليمين وأيضًا فإن القسامة لم يحكم فيها بالأيمان إلا بعد اللوث، وأقيمت الأيمان مقام الشهادة وغلظت حتى جعلت خمسين يمينًا، وليس هذا فى شىء من الأحكام. وقال محمد بن عمر بن لبابة: مذهب مالك على ما روى عن عمر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 57 بن عبد العزيز أنه لا يجب يمين إلا بخلطة، وبذلك حكم القضاة عندنا، والذى أذهب إليه فى خاصة نفسى وأفتى به من قلدنى فاليمين بالدعوى؛ لقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (اليمين على المدعى عليه) . وقال ابن المنذر: لما جعل النبى (صلى الله عليه وسلم) اليمين على المدعى عليه دخل فى ذلك الخيار والشرار، والمسلمون والكفار، والرجال والنساء علم بين المدعى والمدعى عليه معاملة أم لا. هذا قول الكوفيين والشافعى، وأصحاب الحديث وأحمد بن حنبل. قال ابن المنذر: ولما قال من خالفنا أن البينة تقبل بغير سبب تقدم من معاملة بين المدعى وبين صاحبه، وجب كذلك أن يستحلف المدعى عليه وإن لم تعلم معاملة تقدمت بينهما؛ لأن مخرج الكلام من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) واحد، وما أحد فى أول ما يعامل صاحبه إلا ولا معاملة كانت بينهما قبلها. واحتج الكوفيون بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (شاهداك أو يمينه) فى أن اليمين لا يجب ردها على المدعى إذا نكل المدعى عليه. قالوا: ويحكم بنكول المدعى عليه، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (شاهداك أو يمينه) ولم يقل: أو يمينك، ولو كان الحكم يتعلق بيمين المدعى لذكره كما ذكر بينة المدعى ويمين المدعى عليه، وستأتى مذاهب العلماء فى رد اليمين فى باب القسامة. وقوله: (شاهداك أو يمينه) . قال سيبويه: المعنى: ما يثبت لك شاهداك، وتأويله ما يثبت لك بشهادة شاهديك فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 58 وأما احتجاج ابن شبرمة على أبى الزناد فى إبطال الحكم باليمين مع الشاهد، فإن العلماء اختلفوا فيه، فممن وافق ابن شبرمة فى ذلك: ابن أبى ليلى، وعطاء، والنخعى، والشعبى، والكوفيون، والأوزاعى قالوا: لا يجوز القضاء باليمين مع الشاهد. قال محمد ابن الحسن: وإن حكم قاض بذلك نقض حكمه، وهو بدعة. قالوا: وقال ابن شهاب: إنه بدعة، أول ما حكم به معاوية، وهو قول الزهرى، والليث. وروى عن أبى بكر الصديق وعمر وعلى وأبى بن كعب أنه يحكم باليمين مع الشاهد، وهو قول الفقهاء السبعة المدنيين وربيعة وأبى الزناد، وقال به من أهل العراق: الحسن البصرى وعبد الله بن عتبة وإياس بن معاوية. قال مالك والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور والحكم به فى الأموال عندهم خاصة، وأجمعوا أنه لا يجب حد بيمين وشاهد. واحتج الكوفيون فقالوا: الحكم باليمين مع الشاهد خلاف القرآن والسنة؛ لقوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) [البقرة: 282] ، وقوله: (شاهداكم أو يمينه) فيقال لهم: ليس بخلاف للقرآن والسنة كما توهمتموه، وإنما هو زيادة كنكاح المرأة على عمتها وخالتها مع قوله تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) [النساء: 24] ، ومثل المسح على الخفين مع ما نزل به القرآن من غسل الرجلين ومسحهما، فكذلك ما قضى به النبى (صلى الله عليه وسلم) لعبد الله مع اليمين مع الشاهد مع قوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) [البقرة: 282] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 59 ويقال لهم: إن مالكًا أوجب القصاص فى الجراح باليمين مع الشاهد، فقال فى المدونة: وكل جرح فيه قصاص فإنه يقتص فيه بيمين وشاهد، وقاله عمر بن عبد العزيز، ووقع له فى كتاب الأقضية ما يوهم خلاف هذا الأصل فقال: ومن ادعى على رجل قصاصًا وأنه ضربه بالسوط لم يجب عليه يمين إلا أن يأتى بشاهد فيستحلف له، وقد كان يجب على أصله المتقدم أن يحلف المضروب مع شاهده ويقتص، ولم يجب ذلك له مالك فى هذه المسألة، ووجه المسألتين أن القصاص المذكور فى هذه المسألة الأخيرة ليس بجرح يجب فيه قصاص ولا دية معلومة، وإنما هو فى الركضة واللطمة، ألا ترى أنه جعل القصاص المذكور مع الضربة بالسوط؛ وليس فى شىء من ذلك قصاص عنده مثله، وإنما فيه أدب الإمام، والأدب لا يجب بشاهد ويمين، وإنما هو إلى اجتهاد الإمام، ولو وجب ذلك بشاهد ويمين لكن مقدرًا، ولم يكن فيه لاجتهاد السلطان مدخل، والمسألة الأولى القصاص فيها إلى المجروح وهو من حقوقه فهو كسائر الحقوق التى يستحقها بشاهد ويمين، ولابد مع القصاص من أدب السلطان بجرأته على جرحه، والمسألة الأخرى إنما فيها أدب التعدى فقط فلذلك يحلف فيها المدعى، واحتج الكوفيون أيضًا فقالوا: الزيادة عندنا على النص نسخ له. قال ابن القصار: فالجواب أن ذلك بيان وليس بنسخ؛ لأن النسخ إنما هو لو ورد مقترنًا به لم يمكن الجمع بينهما، وفى هذا الموضع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 60 لو ورد مقترنًا لجاز أن يجمع بينهما وهو أن يقول تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم أو شاهدًا وامرأتين أو شاهدًا ويمين) فإن ذلك لا يتنافى، وإثبات شاهد ويمين هو إثبات حكم كما يأمرنا بالصلاة ثم يوجب الصوم. وقد تناقض الكوفيون فى هذا الأصل، فنقضوا الطهارة بالقهقهة وزادوها على الأحداث الثمانية، وجوزوا الوضوء بالنبيذ، وزادوه على الوضوء بالماء المنصوص عليه فى الكتاب والسنة، ولم يجعلوا ذلك نسخًا لما تقدم فتركوا أصلهم. وقد احتج مالك لهذه المسألة فى الموطأ فقال: من الحجة فيها أن يقال: أرأيت لو أن رجلا ادعى على رجل مالا، أليس يحلف المطلوب ما ذلك الحق عليه؟ فإن حلف بطل ذلك الحق عنه، وإن نكل عن اليمين حلف صاحب الحق أن حقه لَحَق، وثبت حقه على صاحبه، فهذا ما لا اختلاف فيه عند أحد من الناس، فمن أقر بهذا فليقر باليمين مع الشاهد. يريد مالك أنه إذا حلف صاحب الحق فإنه يقضى له بحقه ولا شاهد معه، فكيف بمن معه شاهد؟ فهو أولى أن يحلف مع شاهده. قال المهلب: والشاهد واليمين إنما جعله الله رخصة عند عدم الشاهد الآخر بموت أو سفر أو غير ذلك من العوائق كما جعل تعالى رجلا وامرأتين رخصة عند عدم شاهدين؛ لأنه معلوم أنه لا يحضر المتبايعين شاهدان عدلان أو أكثر فيقتصرا على شاهد وامرأتين أو على شاهد واحد، هذا غير موجود فى العادات، بل من شأن الناس الاستكثار من الشهود، فنقل الله العباد فى صفة الشهود من حال إلى حال أسهل منها رفقًا من الله بخلقه، وحفظًا لأموالهم فلا تناقض فى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 61 شىء من ذلك، والحديث فى ذلك رواه مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قضى باليمين مع الشاهد) . - باب إِذَا ادَّعَى أَوْ قَذَفَ فَلَهُ أَنْ يَلْتَمِسَ الْبَيِّنَةَ وَيَنْطَلِقَ لِطَلَبِ الْبَيِّنَةِ / 32 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ هِلالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِى ظَهْرِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلا، يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: الْبَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِى ظَهْرِكَ، فَذَكَرَ حَدِيثَ اللِّعَانِ) . هذا الحديث إنما هو فى رمى أحد الزوجين صاحبه، فهو الذى يقال له: انطلق فائت بالبينة؛ لأن الزوجين ليس بينهما جلد، وإنما سقط الجلد بينهما بالتلاعن، والأجنبيون بخلاف حكم الزوجين فى ذلك؛ فإذا قذف أجنبى أجنبيا لم يترك لطلب البينة ولا يضمنه أحد، بل يحبسه الإمام خشية أن يفوت أو يهرب، أو يرتاد من يطلب بينته، وإنما لم يضمنه أحد، لأن الحدود لا كفالة فيها ولا ضمان؛ لأنه لا يحد أحد عن أحد. وقوله: (البينة وإلا حد فى ظهرك) كان قبل نزول حكم اللعان على ظاهر قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات) [النور: 4] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 62 الآية. فدخل فى حكم الآية الزوجان وغيرهما، فلما نزل قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم) [النور: 5] ، وحكم الله باللعان بين الزوجين بخلاف حكم الأجنبيين، وخص الزوجين بألا يحد المتلاعن إلا أن يأبى من اللعان، وكذلك المرأة إذا أبت من اللعان بعد لعان الزوج حدت، بخلاف أحكام الأجنبيين أنه من لم يقم البينة على قذفه وجب عليه الحد؛ لقوله: (وإلا حد فى ظهرك) . - باب يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَيْثُمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَلا يُصْرَفُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى غَيْرِهِ قَضَى مَرْوَانُ بِالْيَمِينِ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: أَحْلِفُ لَهُ مَكَانِى، فَجَعَلَ زَيْدٌ يَحْلِفُ، وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ مِنْهُ، وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ، فَلَمْ يَخُصَّ مَكَانًا دُونَ مَكَانٍ. / 33 - فيه: ابْنِ مَسْعُود، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ؛ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالا، لَقِىَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ) . اختلف العلماء فى هذا الباب فقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجب استحلاف أحد عند منبر النبى (صلى الله عليه وسلم) ولا بين الركن والمقام فى قليل الأشياء ولا كثيرها ولا فى الدماء، وإنما يحلفون الحكام من وجبت عليه اليمين فى مجالسهم. وإلى هذا القول ذهب البخارى، وقال مالك: لا يحلف أحد عند منبر إلا منبر النبى (صلى الله عليه وسلم) ومن أبى أن يحلف عند منبر النبى (صلى الله عليه وسلم) فهو كالناكل عن اليمين، ويجلب فى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 63 أيمان القسامة إلى مكة من كان من عملها فيحلف بين الركن والمقام، ويجلب إلى المدينة من كان من عملها فيحلف عند المنبر. وهو قول الشافعى. ولا يكون اليمين عند مالك فى مقطع الحق فى أقل من ثلاثة دراهم قياسًا على القطع، وعند الشافعى فى عشرين دينارًا قياسًا على الزكاة، كذلك عند منبر كل مسجد، وروى ابن جريج، عن عكرمة قال: أبصر عبد الرحمن بن عوف قومًا يحلفون بين المقام والبيت فقال: أعلى دم؟ فقيل: لا. قال: أفعلى عظيم من المال؟ قيل: لا. قال: لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام. قال: ومنبر النبى (صلى الله عليه وسلم) فى التعظيم مثل ذلك؛ لما ورد فيه من الوعيد على من حلف عنده بيمين كاذبة. واحتج أبو حنيفة بأنا روينا عن زيد بن ثابت أنه لم يحلف على المنبر وخالفتموه إلى قول مروان بغير حجة. قال: وليس قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من حلف على منبرى هذا. .) يوجب أن الاستحلاف لم يجب. واحتج عليه الشافعى فقال: لو لم يعلم زيد أن اليمين عند المنبر سنة لأنكر ذلك على مروان، وقال له: لا والله ما أحلف إلا فى مجلسك. وما كان يمنع أن يقول لمروان ما هو أعظم من هذا لجلالة قدره عنده، وقد أنكر عليه أمر الصكوك وقال له: أتحل الربا يا مروان؟ فقال مروان: أعوذ بالله من هذا. فقال: الناس يتبايعون الصكوك قبل أن يقبضوها. فبعث مروان الحرس ينتزعونها من أيدى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 64 الناس. فكذلك كان ينكر عليه اليمين عند المنبر لولا علمه أنها السنة، وإنما كره أن يحلف عند المنبر. قال المؤلف: واليمين عند المنبر بمكة والمدينة لا خلاف فيه فى قديم ولا حديث وأن نقل الحديث فيه تكلف؛ لإجماع السلف عليه، ولقد بلغنى أن عمر بن الخطاب حلف عند المنبر فى خصومة كانت بينه وبين رجل، وأن عثمان ردت عليه اليمين عند المنبر، فافتدى منها وقال: أخاف أن توافق قدرًا فيقال: إنه بيمينه. قال المهلب: وإنما أمر أن يحلف فى أعظم موضع فى المسجد، ليرتدع أهل الباطل، وهذا مستنبط من قوله تعالى: (تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله) [المائدة: 106] ، فاشتراطه بعد الصلاة تعظيمًا للوقت وإرهابًا به؛ لشهود الملائكة ذلك الوقت، مخصوصة وقت التعظيم كخصوصة موضع التعظيم، ألا ترى ما ظهر من تهيب زيد بن ثابت للموضع، فمن هو دون ذلك من أهل المعاصى الخائفين من العقوبات أولى أن يرهبوا المكان العظيم. - باب الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَصْرِ / 34 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمِ الِقْيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلا لا يُبَايِعُهُ إِلا لِلدُّنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ، وَإِلا لَمْ يَفِ لَهُ وَرَجُلٌ سَاوَمَ رَجُلا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا كَذَا وَكَذَا فَأَخَذَهَا) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 65 قال المهلب: إنما خص النبى (صلى الله عليه وسلم) هذا الوقت بالتعظيم وجعل الإثم فيه أكبر من غيره؛ لشهود ملائكة الليل والنهار فى وقت العصر، وليرتدع الناس عن الأيمان الكاذبة فى هذا الوقت المعظم. وقوله: (ثلاثة لا يكلمهم الله) يعنى: وقتًا دون وقت لمن أنفذ الله عليه الوعيد، وليس على الاستمرار والخلود. هذا مذهب أهل السنة، وفيه أنه قد يستحق النوع من العذاب على ذنوب مختلفة، فالمانع لفضل الماء أصغر معصية من المبايع الناكث، والحالف الآثم، والله أعلم. - باب إِذَا تَسَارَعَ قَوْمٌ فِى الْيَمِينِ / 35 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ، فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ فِى الْيَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ. إنما كره النبى (صلى الله عليه وسلم) تسارعهم فى اليمين والله أعلم لئلا تقع أيمانهم معًا فلا يستوفى الذى له الحق أيمانهم على معنى دعواه، ومن حقه أن يستوفى يمين كل واحد منهم على حدته، فإذا استوفى قوم فى حق من الحقوق لم يبدأ أحد منهم قبل صاحبه فى أخذ ما يأخذ أو دفع ما يدفع عن نفسه إلا بالقرعة، والقرعة سنة فى مثل هذا، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أقرع بين نسائه عند سفره، وكن قد استوين فى الحرمة والعصمة، ولم تكن واحدة أولى بالسفر من صاحبتها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 66 - باب كَيْفَ يُسْتَحْلَفُ وَقَالِهِ تَعَالَى: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا) [النساء: 62] . وَقَوْلُهُ: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) [التوبة: 56] ) يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) [التوبة: 62] ) فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا) [المائدة: 107] . يُقَالُ: بِاللَّهِ، وَتَاللَّهِ، وَوَاللَّهِ. وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (وَرَجُلٌ حَلَفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا بَعْدَ الْعَصْرِ) وَلا يُحْلَفُ بِغَيْرِ اللَّهِ / 36 - فيه: طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِاللَّهِ، يَقُولُ: (أَنَّ رجلاً جَاءَ إِلَى النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُهُ عَنِ الإسْلامِ. .، إلى قَوْلهُ: وَاللَّهِ لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلا أَنْقُصُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ) . / 37 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ) . قال ابن المنذر: اختلف العلماء فى كيفية اليمين التى يجب أن يحلف بها. فقالت طائفة: يحلف بالله ولا يزيد عليه. وقال مالك: يحلف بالله الذى لا إله إلا هو ما له عنده حق وما ادعيت علىّ إلا باطلا. وقال الكوفى: يحلف بالله الذى لا إله إلا هو، فإن اتهمه القاضى غلظ عليه اليمين فيزيد: عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذى يعلم من السر ما يعلم من العلانية الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور. قال ابن المنذر: وبأى ذلك حلفه الحاكم يجزئ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 67 وكل ما أورده البخارى من آيات القرآن ومن الأحاديث فى هذا الباب حجة لمن اقتصر على الحلف بالله ولم يزد عليه، وكذلك قال عثمان لابن عمر: تحلف بالله لقد بعته وما به داء تعلمه. وأجمعوا أنه لا ينبغى للحاكم أن يستحلف بالطلاق أو العتاق أو الحج أو المصحف. - باب مَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الْيَمِينِ وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ. وَقَالَ طَاوُسٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَشُرَيْحٌ: الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ أَحَقُّ مِنَ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ . / 38 - وفيه: أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلا يَأْخُذْهَا) . اختلف العلماء فى هذه المسألة، فذهب جمهور العلماء إلى أنه إن استحلف المدعى عليه، ثم أقام المدعى البينة قبلت بينته وقضى له بها على ما ذكر البخارى، عن شريح وطاوس والنخعى، وهو قول الثورى والكوفيين، والليث والشافعى، وأحمد وإسحاق، وقال مالك فى المدونة: إن استحلفه وهو لا يعلم بالبينة ثم علمها قضى له بها، وإن استحلفه ورضى بيمينه تاركًا لبينته وهى حاضرة أو غائبة فلا حق له إذا شهدت له. قاله مطرف، وابن الماجشون. وقال ابن أبى ليلى: لا تقبل بينته بعد استحلاف المدعى عليه. وبه قال أبو عبيد وأهل الظاهر. قال ابن المنذر: واحتج لابن أبى ليلى بعض الناس فقال: لما حكم النبى (صلى الله عليه وسلم) بالبينة على المدعى واليمين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 68 على المنكر كان المدعى لا يستحق المال بدعواه والمنكر لا يبرأ من حق المدعى بجحوده، فإذا أقام المدعى البينة أخذ المال، وإذا حلف المدعى عليه برئ، وإذا برئ فلا سبيل إليه. واحتج أهل المقالة الأولى بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فإنما أقطع له قطعة من النار) فدل هذا أن يمين المدعى عليه لا يسقط الحق، وقطعه لا يوجب له ملكه، فهو كالقاطع الطريق لا يملك ما قطعه، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد نهاه عن أخذه بقوله: (فلا يأخذه) . وقد ذكر ابن حبيب أن عمر بن الخطاب تخاصم إليه يهودى ورجل من المسلمين، فقال عمر: بينتك. فقال: ما تحضرنى اليوم. فأحلف عمر المدعى عليه، ثم أتى اليهودى بعد ذلك بالبينة فقضى له عمر ببينته. وقال: البينة العادلة خير من اليمين الفاجرة. وروى أبو زيد عن ابن الماجشون فى اليمانية أنه يقضى له بالبينة، وإن كان عالمًا بها على قول عمر بن الخطاب. واختلف عن مالك، إذا أقام الطالب شاهدًا واحدًا، وأبى أن يحلف معه فحلف المطلوب، ثم وجد الطالب شاهدًا آخر هل يضيفه إلى الشاهد الأول أم لا؟ فروى ابن الماجشون عن مالك أنه يضيفه إلى الأول، وروى ابن كنانة عن مالك أنه لا يضيفه إلى الشاهد الأول، ورواه يحيى، عن ابن القاسم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 69 - باب مَنْ أَمَرَ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ وَفَعَلَهُ الْحَسَنُ، وَذَكَرَ إِسْمَاعِيلَ: (إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ) [مريم: 54] ، وَقَضَى ابْنُ الأشْوَعِ بِالْوَعْدِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وَقَالَ: الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَذَكَرَ صِهْرًا لَهُ، قَالَ: وَعَدَنِى فَوَفَانِى. / 39 - فيه: ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِى أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاةِ، وَبالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأمَانَةِ، قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِىٍّ. / 40 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النبى، (صلى الله عليه وسلم) : آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ) . / 41 - وفيه: جَابِرِ: لَمَّا مَاتَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، جَاءَ أَبَا بَكْرٍ مَالٌ مِنْ قِبَلِ الْعَلاءِ بْنِ الْحَضْرَمِىِّ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) دَيْنٌ أَوْ كَانَتْ لَهُ قِبَلَهُ عِدَةٌ، فَلْيَأْتِنَا، قَالَ جَابِرٌ: فَقُلْتُ: وَعَدَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُعْطِيَنِى هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، فَبَسَطَ يَدَيْهِ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ جَابِرٌ: فَعَدَّ فِى يَدِى خَمْسَ مِائَةٍ، ثُمَّ خَمْسَ مِائَةٍ، ثُمَّ خَمْسَ مِائَةٍ. / 42 - وفيه: ابْنِ جُبَيْرٍ: سَأَلَنِى يَهُودِىٌّ: أَىَّ الأجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قُلْتُ: لا أَدْرِى، حَتَّى أَقْدَمَ عَلَى حَبْرِ الْعَرَبِ، فَأَسْأَلَهُ، فَقَدِمْتُ: فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَالَ فَعَلَ. قال المهلب: إنجاز الوعد مندوب إليه مأمور به، وليس بواجب فرضًا، والدليل على ذلك اتفاق الجميع على أن من وعد بشىء لم يضرب به مع الغرماء، ولا خلاف أن ذلك مستحسن، وقد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 70 أثنى الله على من صدق وعده، ووفى بنذره، وذلك من مكارم الأخلاق، ولما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أولى الناس بها وأبدرهم إليها أدى عنه أبو بكر الصديق خليفته، وقام فيه مقامه، ولم يسأل أبو بكر جابرًا البينة على ما ادعاه على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من العدة، لأنه لم يكن شيئًا ادعاه جابر فى ذمة النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وإنما ادعى شيئًا فى بيت المال والفئ، وذلك موكول إلى اجتهاد الإمام، وقد تقدم اختلاف الفقهاء فيما يلزم من العدة، وما لا يلزم منها فى كتاب الهبات. - باب لا يُسْأَلُ أَهْلُ الشِّرْكِ عَنِ الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا وَقَالَ الشَّعْبِىُّ: لا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْمِلَلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ) [المائدة: 14] ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ وَ) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلينا (الآيَةَ [البقرة: 136] . / 43 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَكِتَابُكُمِ الَّذِى أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَحْدَثُ الأخْبَارِ بِاللَّهِ، تَقْرَءُونَهُ لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمُ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ وَغَيَّرُوا بِأَيْدِيهِمُ الْكِتَابَ، وَقَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا) [البقرة: 79] أَفَلا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ مُسَاءَلَتِهِمْ؟ ، وَلا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلا قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِى أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 71 اختلف العلماء فى هذا الباب فقالت طائفة: لا تجوز شهادة أهل الكفر بعضهم على بعض ولا على مسلم. روى ذلك عن الحسن البصرى، وهو قول مالك والشافعى وأحمد وأبى ثور. وقالت طائفة: تقبل على المشركين وإن اختلفت مللهم، ولا تقبل على المسلمين. روى هذا عن شريح وعمر بن عبد العزيز، وهو قول أبى حنيفة والثورى وقالوا: الكفر كله ملة واحدة. وقال ابن أبى ليلى والحكم وعطاء: تجوز شهادة أهل كل ملة بعضهم على بعض، ولا تجوز على ملة غيرها، وهو قول الليث وإسحاق، للعداوة التى بينهم، وقد ذكر الله فى كتابه فقال: (فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء) [المائدة: 14] . وقال ابن شعبان: أجمع العلماء أنه لا تجوز شهادة العدو على عدوّه فى شىء، وإن كان عدلا، والعداوة تزيل العدالة فكيف بعداوة كافر؟ واحتج الكوفيون بما رواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر: (أن اليهود جاءوا إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) برجل منهم وامرأة زنيا فأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) برجمهما) . واحتج من لم يجزها فقال: لا حجة لكم فى هذا الحديث؛ لأنكم لا تقولون به ولا نحن؛ لأن عندنا وعندكم أن من شروط الرجم الإسلام، وقد روى أن اليهوديين اعترفا بالزنا فرجمهما بإقرارهما لا بالشهادة. قال المهلب: وحجة من لم يجز شهادتهم على كافر ولا على مسلم أن الله وصفهم بالكذب عليه وعلى كتابه، واتفق العلماء أن الكاذبين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 72 على الناس لا تقبل شهادتهم، فالكذب على الله أعظم فهو أولى برد شهادتهم. قال ابن القصار: وأيضًا فإن المسلم الفاسق لا تقبل شهادته، والكافر أفسق، فلا يجوز قبوله على فاسق مثله ولا على مطيع. فإن قيل: فقد أجازت طائفة من السلف شهادتهم على المسلم فى الوصية فى السفر للضرورة، روى ذلك عن شريح والنخعى، وبه قال الأوزاعى، وقال ابن عباس فى تأويل قوله: (أو آخران من غيركم) [المائدة: 106] : من غير المسلمين. قيل: قد قال الحسن البصرى: (أو آخران من غيركم) [المائدة: 106] : من غير قومكم من أهل الملة. واتفق مالك والكوفيون والشافعى على أنهم لا تجوز شهادتهم فى الوصية فى حضر ولا سفر، والآية عندهم منسوخة، فلم يلزمهم تأويل ابن عباس؛ لأجل من خالفه من العلماء، وقد شرط الله قبول العدول فى الشهادة بقوله: (ممن ترضون من الشهداء) [البقرة: 282] ، وقال تعالى: (وأشهدوا ذوى عدل منكم) [الطلاق: 2] . قال المهلب: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تصدقوا أهل الكتاب) حجة لمن لم يجز شهادتهم. وقوله: (ولا تكذبوهم) يعنى: فيما ادعوا من الكتاب ومن أخبارهم؛ مما يمكن أن يكون صدقًا أو كذبًا؛ لإخبار الله تعالى عنهم أنهم بدلوا الكتاب ليشتروا به ثمنًا قليلا، ومن كذب على الله فهو أحرى بالكذب فى سائر حديثه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 73 وسأل بعض علماء النصارى محمد بن وضاح فقال: ما بال كتابكم معشر المسلمين لا زيادة فيه ولا نقصان وكتابنا بخلاف ذلك؟ فقال له: لأن الله وكل حفظ كتابكم إليكم فقال: (بما استحفظوا من كتاب الله) [المائدة: 44] فما وكله إلى المخلوقين دخله الخرم والنقصان، وقال فى القرآن: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر: 9] فتولى الله حفظه فلا سبيل إلى الزيادة فيه ولا إلى النقصان. - باب الْقُرْعَةِ فِى الْمُشْكِلاتِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) [آل عمران: 44] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اقْتَرَعُوا فَجَرَتِ الأقْلامُ مَعَ الْجِرْيَةِ، وَعَالَ قَلَمُ زَكَرِيَّاءَ الْجِرْيَةَ، فَكَفَلَهَا زكَرِيَّاءُ وَقَوْلِهِ: (فَسَاهَمَ) [الصافات: 141] أَقْرَعَ) فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (مِنَ الْمَسْهُومِينَ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَرَضَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ، فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهِمَ بَيْنَهُمْ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ. / 44 - فيه: النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْمُدْهِنِ فِى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، مَثَلُ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا سَفِينَةً، فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِى أَسْفَلِهَا وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِى أَعْلاهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِى أَسْفَلِهَا يَمُرُّونَ بِالْمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِى أَعْلاهَا، فَتَأَذَّوْا بِهِ، فَأَخَذَوا فَأْسًا، فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ، فَأَتَوْهُ، فَقَالُوا مَا لَكَ؟ قَالَ: تَأَذَّيْتُمْ بِى، وَلا بُدَّ لِى مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ، وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ، وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 74 / 45 - وفيه: أُمَّ الْعَلاءِ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ طَارَ لَهُمْ سَهْمُهُ فِى السُّكْنَى حِينَ أَقْرَعَتِ الأنْصَارُ سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ، قَالَتْ أُمُّ الْعَلاءِ: فَسَكَنَ عِنْدَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَاشْتَكَى، فَمَرَّضْنَاهُ حَتَّى إِذَا تُوُفِّىَ، وَجَعَلْنَاهُ فِى ثِيَابِهِ، دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِى عَلَيْكَ، لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ لِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ، فَقُلْتُ: لا أَدْرِى، بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَمَّا عُثْمَانُ فَقَدْ جَاءَهُ وَاللَّهِ الْيَقِينُ، وَإِنِّى لأرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِى، وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِهِ، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ، لا أُزَكِّى أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا، وَأَحْزَنَنِى ذَلِكَ، قَالَتْ: فَنِمْتُ، فَأُرِيتُ لِعُثْمَانَ عَيْنًا تَجْرِى، فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ذَاكِ عَمَلُهُ) . / 46 - وفيه: عَائِشَةَ: كَانَ النبى (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا أَرَادَ سَفَرًا، أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ. . . الحديث. / 47 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِى النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا. . . الحديث. القرعة فى المشكلات سنة عند جمهور الفقهاء فى المستوين فى الحجة؛ ليعدل بينهم، وتطمئن قلوبهم وترتفع الظنة عمن تولى قسمتهم، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعًا للكتاب والسنة. قال أبو عبيد: وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء: يونس وزكريا ومحمد نبينا، قاله ابن المنذر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 75 واستعماله القرعة كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء، فلا معنى لقول من ردها ورد الآثار الواردة المتواترة بالعمل بها. قال الشافعى: ولا يعدم المقترعون على مريم أن يكونوا تنافسوا كفالتها، فكان أرفق بها وأعطف عليها، وأعلم بما فيه مصلحتها أن تكون عند كافل واحد، ثم يكفلها آخر مقدار تلك المدة، أو تكون عند كافل واحد ويغرم من بقى مئونتها بالحصص، وهم بأن يكونوا تشاحوا كفالتها أشبه من أن يكونوا تدافعوها؛ لأنها كانت صبية غير ممتنعة مما يمتنع منه من عقل ستره ومصالحه، فإن يكفلها واحد من الجماعة أستر عليها وأكرم لها، وأى المعنيين كان، فالقرعة تلزم أحدهم ما يدفعه عن نفسه أو يخلص له ما يرغب فيه. وهكذا معنى قرعة يونس، وقفت بهم السفينة فقالوا: ما عليها إلا مذنب، فتقارعوا فوقعت القرعة على يونس، فأخرجوه منها. وذكر أهل التفسير أنه قيل ليونس: إن قومك يأتيهم العذاب يوم كذا. فخرج ذلك اليوم، ففقده قومه فخرجوا فأتاهم العذاب ثم صرف عنهم، فلما لم يصبهم العذاب ذهب مغاضبًا، فركب البحر فى سفينة مع ناس، فلما لجُّوا ركدت السفينة فلم تسر فقالوا: إن فيكم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 76 لشرا. فقال يونس: أنا صاحبكم فألقونى. قالوا: لا حتى نضرب بالسهام. فطار عليه السهم مرتين فألقوه فى البحر، فالتقمه الحوت، فأوحى الله إلى الحوت أن يلتقمه ولا يكسر له عظمًا. قال الشافعى: وكذلك كان إقراع النبى (صلى الله عليه وسلم) فى العدل بين نسائه حين أراد السفر ولم يمكنه الخروج بهن كلهن فأقرع بينهن ليعدل بينهن ولا يخص بعضهن بالسفر، ويكل ذلك إلى الله، ويخرج ذلك من اختياره، فأخرج من خرج سهمها، وسقط حق غيرها، فلما رجع عاد للقسمة بينهن ولم يقسم أيام سفره، فكذلك قسم خيبر وكان أربعة أخمساها لمن حضر فأقرع على كل جزء، فمن خرج فى سهمه أخذه وانقطع منه حق غيره، وقد تقدم فى كتاب الشركة شىء من الكلام فى القرعة. وقوله: (المدهن فى حدود الله) يعنى: المداهن فيها المضيع لها الذى لا يغير المعاصى ولا يعملها فهو مستحق بالعقوبة على سكوته ومداهنته. ومعنى المثل الذى ضربه (صلى الله عليه وسلم) فى السفينة وقوله: (طار لهم سهمه) يقال: طار له فى سهمه كذا. إذا خصه ذلك وأصابه فى سهمه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 77 53 - كِتَاب الصُّلْحِ - باب مَا جَاءَ فِى الإصْلاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَقَوْلِهِ: (لا خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ. . .) [النساء: 114] الآية، وَخُرُوجِ الإمَامِ إِلَى الْمَوَاضِعِ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ بِأَصْحَابِهِ. / 1 - فيه: سَهْلِ، (أَنَّ أُنَاسًا مِنْ بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ، فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ. . الحديث. / 2 - وفيه: أَنَس: قِيلَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَاللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَرَكِبَ حِمَارًا، فَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ مَعَهُ، وَهِىَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ، فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: إِلَيْكَ عَنِّى، وَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِى نَتْنُ حِمَارِكَ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ مِنْهُمْ، وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ، فَغَضِبَ لِعَبْدِاللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَشَتَمَهُ، فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالأيْدِى وَالنِّعَالِ، فَبَلَغَنَا أَنَّهَا أُنْزِلَتْ: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا. . .) [الحجرات: 9] الآية. الإصلاح بين الناس واجب على الأئمة وعلى من ولاه الله أمور المسلمين. قال المهلب: إنما يخرج الإمام ليصلح بين الناس إذا أشكل عليه أمرهم وتعذر ثبوت الحقيقة عنده فيهم، فحينئذ ينهض إلى الطائفتين، ويسمع من الفريقين ومن الرجل والمرأة، ومن كافة الناس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 78 سماعًا فاشيًا يدله على الحقيقة. هذا قول كافة العلماء، وكذلك ينهض الإمام إلى العقارات والأرضين المتشاح فى قسمتها فيعاين ذلك. وقال عطاء: لا يحل للإمام إذا تبين له القضاء أن يصلح بين الخصوم وإنما يسعه ذلك فى الأموال المشكلة، فأما إذا استنارت الحجة لأحد الخصمين على الآخر، وتبين للحاكم موضع الظالم من المظلوم فلا يسعه أن يحملها على الصلح. وبه قال أبو عبيد. وقال الشافعى: يأمرهما بالصلح، ويؤخر الحكم بينهما يومًا أو يومين، فإن لم يجتمعا لم يكن له ترديدهما وأنفذ الحكم بينهما، والحكم قبل البيان ظلم، والحبس للحكم بعد البيان ظلم. وقال الكوفيون: إن طمع القاضى أن يصطلح الخصمان فلا بأس أن يرددهما ولا ينفذ الحكم بينهما لعلهما يصطلحان، ولا يردهم أكثر من مرة أو مرتين إن طمع فى الصلح بينهم، فإن لم يطمع فيه أنفذ القضاء بينهم. واحتجوا بما روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث بين الناس الضغائن. وأما مسير النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى عبد الله بن أبىّ، فإنما فعل ذلك أول قدومه المدينة؛ ليدعوه إلى الإسلام؛ إذ التبليغ فرض عليه، وكان يرجو أن يسلم من وراءه بإسلامه لرياسته فى قومه، وقد كان أهل المدينة عزموا أن يتوجوه بتاج الإمارة، وكذلك قال سعد بن عبادة للنبى (صلى الله عليه وسلم) أنه صنع ما صنع عن التوقف عن الإسلام ما كانوا عزموا عليه من توليته الإمارة، حتى بعث الله نبيه فأبطل الباطل وصدع بالحق وبلغ الدين. وفيه من الفقه: أن الإمام إذا مضى إلى موضع فيه أعداء له أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 79 على المسلمين أن يمشوا معه ويحرسوه فإن جفى عليه نصروه، كما فعل عبد الله بن رواحة حين قال: والله لحمار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أطيب ريحًا منك. فإن نوزع قاتلوا دونه. وقول أنس: (فبلغنا أنها نزلت: (وإن طائفتان) [الحجرات: 9] يستحيل أن تكون الآية نزلت فى قصة عبد الله بن أبى وفى قتال أصحابه مع النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن أصحاب عبد الله ابن أبىّ ليسوا بمؤمنين، وقد تعصبوا له بعد الإسلام فى قصة الإفك، وقد جاء هذا المعنى مبينًا فى هذا الحديث فى كتاب الاستئذان من رواية أسامة بن زيد أن النبى (صلى الله عليه وسلم) مر فى مجلس فيه أخلاط من المشركين والمسلمين وعبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد الله بن أبى. . وذكر الحديث. فدل أن الآية لم تنزل فى قصة عبد الله بن أبى، وإنما نزلت فى قوم من الأوس والخزرج اختلفوا فى حق فاقتتلوا بالعصى والنعال. هذا قول سعيد بن جبير والحسن وقتادة. - باب لَيْسَ الْكَاذِبُ الَّذِى يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ / 3 - فيه: أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ، قَالَتَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : لَيْسَ الْكَاذِبُ الَّذِى يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِى خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا) . وفى هذا الحديث: زيادة لم يذكرها البخارى فى حديثه، حدثنا بذلك أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله الهمدانى قال: حدثنا أبو الربيع محمد بن الفضيل البلخى الصفار، حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق الخزاعى، حدثنى أبو يحيى بن أبى ميسرة، حدثنا يحيى بن محمد الحارثى، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عبد الوهاب بن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 80 رفيع، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أمه أم كلثوم بنت عقبة قالت: (ما سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يرخص فى الكذب إلا فى ثلاث: كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: لا أعدهن كذبًا: الرجل يصلح بين الناس يقول قولا يريد به الصلاح، والرجل يحدث زوجته، والمرأة تحدث زوجها، والرجل يقول فى الحرب) . قال الطبرى: اختلف العلماء فى هذا الباب فقالت طائفة: الكذب الذى رخص فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى هذه الثلاث هو جميع معانى الكذب. واحتجوا بما رواه الأعمش، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة قال: كنا عند عثمان، وعنده حذيفة فقال له عثمان: إنه بلغنى عنك أنك قلت كذا وكذا. فقال حذيفة: والله ما قلته. وقد سمعناه قبل ذلك يقوله، فلما خرج قلنا له: أليس قد سمعناك تقول؟ قال: بلى. قلنا: فلم حلفت؟ قال: إنى أشترى دينى بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله. واحتجوا بحديث ابن شهاب أن عمر بن الخطاب قال لقيس بن مكشوح: هل حدثت نفسك بقتلى؟ قال: لو هممت فعلت. فقال عمر له: لو قلت: نعم ضربت عنقك، فنفاه من المدينة، فقال له عبد الرحمن بن عوف: لو قال: نعم ضربت عنقه؟ قال: لا ولكن أسترهبه بذلك. وقالت طائفة: لا يصلح الكذب تعريضًا فى جد ولا لعب. روى سفيان عن الأعمش قال: ذكرت لإبراهيم الحديث الذى رخص فيه الكذب فى الإصلاح بين الناس، فقال إبراهيم: كانوا لا يرخصون فى الكذب فى جد ولا هزل. وروى مجاهد عن أبى معمر، عن ابن مسعود قال: لا يصلح الكذب فى جد ولا هزل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 81 ولا أن يعد أحدكم ولده شيئًا ثم لا ينجزه، اقرءوا إن شئتم: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) [التوبة: 119] . وقال آخرون: بل الذى رخص فيه هو المعاريض. وقد قال ابن عباس: ما أحب بأن لى بمعاريض الكذب كذا وكذا. وهو قول سفيان وجمهور العلماء. وقال المهلب: ليس لأحد أن يعتقد إباحة الكذب، وقد نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن الكذب نهيًا مطلقًا، وأخبر أنه مجانب للإيمان، فلا يجوز استباحة شىء منه، وإنما أطلق (صلى الله عليه وسلم) للصلح بين الناس أن يقول ما علم من الخير بين الفريقين، ويسكت عما سمع من الشر بينهم ويعد أن يسهل ما صعب ويقرب ما بعد، لا أنه يخبر بالشىء على خلاف ما هو عليه لأن الله قد حرم ذلك ورسوله، وكذلك الرجل يعد المرأة ويمنيها وليس هذا من الكذب؛ لأن حقيقة الكذب الإخبار عن الشىء على خلاف ما هو عليه، والوعد لا يكون حقيقة حتى ينجز، والإنجاز مرجو فى الاستقبال فلا يصح أن يكون كذبًا. وكذلك فى الحرب أيضًا إنما يجوز فيها المعاريض والإيهام بألفاظ تحتمل وجهين فيؤدى بها عن أحد المعنيين ليغتر السامع بأحدهما عن الآخر، وليس حقيقة الإخبار عن الشىء بخلافه وضده، ونحو ذلك ما روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أنه مازح عجوزًا فقال: إن العجز لا يدخلن الجنة) فأوهمها فى ظاهر الأمر أنهن لا يدخلن أصلا، وإنما أراد بهن لا يدخلن الجنة إلا شبابًا، فهذا وشبهه من المعاريض التى فيها مندوحة عن الكذب، فإن لم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 82 يسمع المصلح شيئًا فله أن يعد بخير ولا يقول: سمعت وهو لم يسمع ونحوه. قال الطبرى: والصواب فى ذلك قول من قال: الكذب الذى أذن فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) هو ما كان تعريضًا ينحو به نحو الصدق، نحو ما روى عن إبراهيم النخعى أن امرأته عاتبته فى جارية وفى يده مروحة فجعل إبراهيم النخعى يقول: اشهدوا أنها لها ويشير بالمروحة فلما قامت امرأته قال: على أى شىء أشهدتكم؟ قالوا: أشهدتنا على أنها لها. قال: ألم ترونى أنى أشير بالمروحة. وأما صريح الكذب فهو غير جائز لأحد كما قال ابن مسعود لما روى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من تحريمه والوعيد عليه، وأما قول حذيفة فإنه خارج عن معانى الكذب التى روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه أذن فيها، وإنما ذلك من جنس إحياء الرجل نفسه عند الخوف، كالذى يضطر إلى الميتة ولحم الخنزير فيأكل ليحيى به نفسه، وكذلك الحالف له أن يخلص نفسه ببعض ما حرم الله عليه، وله أن يحلف على ذلك ولا حرج عليه ولا إثم، وسيأتى فى كتاب الأدب باب المعاريض مندوحة عن الكذب. 3 - بَاب قولِ الإمامِ لأصحابهِ: (اذهَبوا بنا نُصلِح / 4 - فيه: سَهْلِ: (أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِذَلِكَ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ) . يشبه أن يكون فى هذه القصة نزلت: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا. .) [الحجرات: 9] الآية لا فى قصة عبد الله بن أبىّ بن سلول كما قال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 83 أنس، روى عن الحسن أن قومًا من المسلمين كان بينهم تنازع حتى اضطربوا بالجريد والنعال والأيدى، فأنزل الله فيهم: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) [الحجرات: 9] قال قتادة: كان بينهما حق فتنازعا فيه فقال أحدهما: لآخذنه عنوة. وقال الآخر: بينى وبينك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . فتنازعا حتى كان بينهما ضرب بالأيدى والنعال. وقال قتادة فى تأويل هذه الآية: كان الأوس والخزرج اقتتلوا بالعصى. وفيه: خروج الإمام مع أصحابه للإصلاح بين الناس عند تفاقم أمورهم وشدة تنازعهم، وقد تقدم. وفيه: ما كان عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) من التواضع والخضوع والحرص على قطع الخلاف وحسم دواعى الفرقة عن أمته كما وصفه الله تعالى. 4 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (أَنْ يَصَّلَحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [النساء: 128] / 5 - فيه: عَائِشَةَ: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا) [النساء: 128] قَالَتْ: هُوَ الرَّجُلُ يَرَى مِنِ امْرَأَتِهِ مَا لا يُعْجِبُهُ كِبَرًا أَوْ غَيْرَهُ، فَيُرِيدُ فِرَاقَهَا، فَتَقُولُ: أَمْسِكْنِى وَاقْسِمْ لِى مَا شئْتَ، قَالَتْ: فَلا بَأْسَ إِذَا تَرَاضَيَا. قال المهلب: الصلح خير فى كل شىء من التمادى على الخلاف والشحناء والبغضاء التى هى قواعد الشر، والصلح وإن كان فيه صبر مؤلم فعاقبته جميلة، وأمرُّ منه وشر عاقبة العداوة والبغضاء، وقد قال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 84 (صلى الله عليه وسلم) فى البغضة إنها الحالقة يعنى: حالقة الدين لا حالقة الشعر، أراد النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يطلق سودة لسن كان بها، فأحست منه ذلك فقالت له: قد وهبت يومى لعائشة فلا حاجة لى بالرجال، وإنما أريد أن أحشر فى نسائك فلم يطلقها واصطلحا على ذلك. ودل هذا أن ترك التسوية بين النساء وتفضيل بعضهن على بعض لا يجوز إلا بإذن المفضولة ورضاها، ويدخل فى هذا المعنى جميع ما يقع عليه بين الرجل والمرأة فى مال أو وطء أو غير ذلك، وكل ما تراضيا عليه من الصلح فهو حلال للرجل من زوجته لهذه الآية. 5 - باب إِذَا اصْطَلَحُوا عَلَى صُلْحِ جَوْرٍ فَهْوَ مَرْدُودٌ / 6 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِىِّ قَالا: جَاءَ أَعْرَابِىٌّ، فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَامَ خَصْمُهُ، فَقَالَ: صَدَقَ، اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ الأعْرَابِىُّ: إِنَّ ابْنِى كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَقَالُوا لِى: عَلَى ابْنِكَ الرَّجْمُ، فَفَدَيْتُ ابْنِى مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنَ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَقَالُوا: إِنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ، لِرَجُلٍ، فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَارْجُمْهَا، فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا) . / 7 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَحْدَثَ فِى أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ) . قال المؤلف: أما قضاء النبى (صلى الله عليه وسلم) فى هذه القصة بكتاب الله فهو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 85 رد الغنم والجارية اللذين أخذا بالباطل، وقد نهى الله عباده عن ذلك فقال: (ولا تأكلو أموالكم بينكم بالباطل) [البقرة: 188] ولم يجز هذا الصلح؛ لاشتراء حدود الله ببعض عرض الدنيا، وحدود الله لا تسقط ولا تباع ولا تشترى، وأجمع العلماء أنه لا يجوز الصلح المنعقد على غير السنة وأنه منتقض، ألا ترى أنه رد الغنم والوليدة وألزم ابنه من الحد ما ألزمه الله، فقال: (من أحدث فى أمرنا ما ليس منه فهو رد) وبذلك كتب عمر بن الخطاب إلى أبى موسى الأشعرى فى رسالته إليه يعلمه القضاء فقال: والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالا. وذهب مالك وابن القاسم إلى أن الصلح كالبيع، لايجوز فيه المكروه ولا الغرر. وذكر ابن حبيب عن مطرف قال: كل ما وقع به الصلاح من الأشياء المكروهة التى ليست بحرام صراح فالصلح بها جائز. قال ابن الماجشون: إن عثر عليه بحدثانه فسخ، وإن طال أمر مضى. وقال أصبغ: إن وقع الصلح بالحرام والمكروه مضى ولم يرد، وإن عثر عليه بحدثان ذلك؛ لأنه كالهبة، ألا ترى أنه لو صالح من دعواه تنتقض لم يكن فيه شفعة؛ لأنه كالهبة، وقد حدثنا سفيان بن عيينة أن على بن أبى طالب أتى بصلح فقرأه فقال: هذا حرام، ولولا أنه صلح لفسخته. قال ابن حبيب: وقول مطرف وابن الماجشون أحب إلىّ، لموافقته قوله فى الحديث: (إلاصلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالا) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 86 6 - باب كَيْفَ يُكْتَبُ: هَذَا مَا صَالَحَ فُلانُ بْن فُلانٍ، وَفُلانُ بْن فُلانٍ وَإِنْ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى قَبِيلَتِهِ أَوْ نَسَبِهِ / 8 - فيه: الْبَرَاءَ، قَالَ: (لَمَّا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ، كَتَبَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ بَيْنَهُمْ كِتَابًا، فَكَتَبَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لا تَكْتُبْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، لَوْ كُنْتَ رَسُولا لَمْ نُقَاتِلْكَ، فَقَالَ لِعَلِىٍّ: امْحُهُ، فَقَالَ عَلِىٌّ: مَا أَنَا بِالَّذِى أَمْحَاهُ، فَمَحَاهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدِهِ، وَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَلا يَدْخُلُوهَا إِلا بِجُلُبَّانِ السِّلاحِ، فَسَأَلُوهُ: مَا جُلُبَّانُ السِّلاحِ؟ فَقَالَ: الْقِرَابُ بِمَا فِيهِ) . (1) / 9 - وَقَالَ الْبَرَاءِ: (اعْتَمَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى ذِى الْقَعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، إِلَى قَوْلِهِ: بجلبان السِلاحٌ، وأَلا يَخْرُجَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَحَدٍ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّبِعَهُ، وَأَنْ لا يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا، فَلَمَّا دَخَلَهَا وَمَضَى الأجَلُ أَتَوْا عَلِيًّا، فَقَالُوا: قُلْ لِصَاحِبِكَ اخْرُجْ عَنَّا، فَقَدْ مَضَى الأجَلُ، فَخَرَجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَتَبِعَتْهُمُ ابْنَةُ حَمْزَةَ: يَا عَمِّ، يَا عَمِّ، فَتَنَاوَلَهَا عَلِىُّ، فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ، عَلَيْهَا السَّلام: دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّكِ، حَمَلَتْهَا، فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ، فَقَالَ عَلِىٌّ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا، وَهِىَ ابْنَةُ عَمِّى، وَقَالَ جَعْفَرٌ: ابْنَةُ عَمِّى وَخَالَتُهَا تَحْتِى، وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أَخِى، فَقَضَى بِهَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِخَالَتِهَا، وَقَالَ: الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأمِّ، وَقَالَ لِعَلِىٍّ: أَنْتَ مِنِّى، وَأَنَا مِنْكَ، وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: أَشْبَهْتَ خَلْقِى، وَخُلُقِى وَقَالَ لِزَيْدٍ: أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلانَا) . أصل هذا الباب أن يكتب فى اسم الرجل من تعريفه ما لا يشكل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 87 على أحد، فإن كان اسمه واسم أبيه مشهورين شهرة ترفع الإشكال لم يحتج فى ذلك إلى زيادة ذكر نسبه ولا قبيلته، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) اقتصر فى كتاب المقاضاة مع المشركين على أن كتب محمد بن عبد الله، ولم يزد عليه لما أمن الالتباس فيه؛ لأنه لم يكن هذا الاسم لأحد غير النبى (صلى الله عليه وسلم) . واستحب الفقهاء أن يكتب اسمه واسم أبيه وجده ونسبه ليرفع الإشكال فيه، فقل ما يقع مع ذكر هذه الأربعة اشتباه فى اسمه ولا التباس فى أمره. قال المهلب: وفيه من الفقه رجوع النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى اسمه واسم أبيه فى العقد، ومحوه لحظة النبوة إنما كان لأن الكلام فى الصلح وميثاق العقد كان إخبارًا عن أهل مكة، ألا تراهم قالوا: (لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك ولا قاتلناك) فخشوا أن ينعقد عليهم إقرارهم برسالته، فلذلك قالوا ما قالوا هربًا من الشهادة بذلك. وأما محو (الرحمن) من الكتاب فليس بمحو من الصدور، وربما آل التشاح فى ذلك إلى فساد ما كان أحكموه من الصلح. وإباءة علىّ من محو (رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) أدب منه وإيمان وليس بعصيان فيما أمره به، والعصيان هاهنا أبر من الطاعة له وأجمل فى التأدب والإكرام. قال الطبرى: وفى كتابه (صلى الله عليه وسلم) باسمك اللهم، ولم يأب عليهم أن يكتبه إذ لم يكن فى كتابة ذلك نقض شىء من شروط الإسلام، ولا تبديل شىء من شرائعه، وإن كانت سنته الجارية بين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 88 أمته أن يستفتحوا كتبهم (بسم الله الرحمن الرحيم) . وكان فعله ذلك والمسلمون يومئذ فى قلة من العدد وضعف من القوة، والمشركون فى كثرة من العدد وشدة من الشوكة، فتبين أن نظير ذلك إذا حدثت للمسلمين حالة تشبه حالة المسلمين يوم الحديبية فى القلة والضعف، وامتنع المشركون من الصلح إلا على حذف بعض أسماء الله أو صفاته، أو حذف بعض محامده أو بعض الدعاء لرسوله أو حذف بعض صفاته، ورأى القيم بأمر المسلمين أن النظر للمسلمين إتمام الصلح أن له أن يفعل كفعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك. ولو امتنعوا من الصلح على أن يبتدىء الكتاب هذا ما قاضى عليه فلان بن فلان، ويحذف منه كل ما يبتدأ به من ذكر أسماء الله تعالى وصفاته فى ابتداء الكتاب، أو يحذف منه ذكر الخلافة؛ أنه ليس فى ترك ذلك ترك فرض من فرائض الله عز وجل لا يسع المسلمون تضييعه؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) لما أجابهم إلى ما أرادوا من كتاب محمد بن عبد الله؛ لم يكن ذلك مزيلا لصفة من النبوة، ولا يكون للخليفة إذا لم يوصف بالخلافة دخول منقصة عليه، ولا زواله عن منزلة من الإمامة، كما لم يكن فى رضا النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يكتب محمد ابن عبد الله منقصة عن النبوة التى جعلها الله تعالى فيه. قال المهلب: وأما اشتراطهم عليه ألا يخرج بأحد من أهلها إن تبعه، ثم خرجت بنت حمزة وفرت معه، فإنما جاز ذلك لأن المشارطة إنما وقعت على الرجال دون النساء، وقد بينه البخارى فى كتاب الشروط بعد هذا، وفى بعض طرق هذا الحديث، فقال سهيل: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 89 (وعلى أنه لا يأتيك منا رجل هو على دينك إلا رددته إلينا) ولم يذكر النساء، فصح بهذا أن أخذه لابنة حمزة كان لهذه العلة، ألا تراه رد أبا جندل إلى أبيه، وهو العاقد لهذه المقاضاة. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الخالة بمنزلة الأم) يعنى فى الحضانة وهو أصل فى الحكم للخالة بالحضانة. وقال الطبرى: فيه دليل على أن أم الصغير ومن كان من قرابتها من النساء أولى بالحضانة من عصبتها من قبل الأب، وإن كانت ذات زوج غير الوالد الذى هو منه؛ وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قضى بابنة حمزة لخالتها فى الحضانة، وقد تنازع فيها ابنا عمها على وجعفر ومولاها أخو أبيها الذى كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) آخى بيينه وبينه، وخالتها يومئذ لها زوج غير أبيها، وذلك بعد مقتل حمزة، فصح قول من قال: إنه لا حق لعصبة الصغير من قبل الأب فى حضانته ما لم يبلغ حد الاختيار مع قرابته من النساء من قبل الأم وإن كن ذوات أزواج. فإن قيل: فإذا كانت قرابة الأم أحق وإن كن ذوات أزواج، فهلا كانت الأم ذات الزوج كذلك كما كانت الخالة ذات الزوج أحق به؟ قيل: فرق بين ذلك قيام الحجة بالنقل المستفيض رواته عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أن الأم أحق بحضانة الطفل ما لم تنكح، فإذا نكحت فالأب أحق بحضانته، وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وكل واحدة من المسألتين أصل، إحداهما من جهة النقل المستفيض والأخرى من جهة نقل الآحاد العدول، وغير جائز رد حكم إحداهما على الأخرى، إذ القياس لا يجوز استعماله إلا فيما لا نص فيه من الأحكام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 90 وقوله: (أنت مولانا) فالولاء فى هذا الموضع لا يصلح أن يكون إلا الانتساب فقط لا الموارثة؛ لأنه قد كان نزل فى القران ترك التبنى وترك التوارث به وبالحلف، ولم يبق من ذلك إلا الانتساب أن ينتسب الرجل إلى حلفائه ومعاقديه خاصة، وإلى من أسلم على يديه، فيكتب كما يكتب النسب والقبيلة غير أنه لا يرثه بذلك. قال الخطابى: الجلبان: يشبه الجراب من الأدم ويضع الراكب فيه سيفه بقرابه، ويضع فيه سوطه، يعلقه الراكب من واسطة رحله أو من آخره، وإنما اشترطوا دخول مكة والسيوف فى قربها؛ ليكون ذلك علمًا للصلح، ولو دخلوها متقلدين بها لم تؤمن الفتنة كقول الشاعر: إن تسألوا الحق نعطى سائله والدرع مخفية والسيف مقروب والعرب لا تضع السلاح إلا فى الأمن. 7 - باب الصُّلْحِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ عَنْ أَبِى سُفْيَانَ، وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (ثُمَّ تَكُونُ هُدْنَةٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِى الأصْفَرِ) ، وَفِيهِ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَأَسْمَاءُ وَالْمِسْوَرُ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . قَالَ الْبَرَاءِ: صَالَحَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَلاثَةِ أَشْيَاءَ، عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ، وَمَنْ أَتَاهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ، وَعَلَى أَلاَّ يَدْخُلَهَا مِنْ قَابِلٍ، وَيُقِيمَ بِهَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَلا يَدْخُلَهَا إِلا بِجُلُبَّانِ السِّلاحِ السَّيْفِ وَالْقَوْسِ وَنَحْوِهِ، فَجَاءَ أَبُو جَنْدَلٍ يَحْجُلُ فِى قُيُودِهِ، فَرَدَّهُ إِلَيْهِمْ) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 91 / 10 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) خَرَجَ مُعْتَمِرًا، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ هَدْيَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَقَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يَعْتَمِرَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ وَلا يَحْمِلَ سِلاحًا عَلَيْهِمْ إِلا سُيُوفًا، وَلا يُقِيمَ بِهَا إِلا مَا أَحَبُّوا، فَاعْتَمَرَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَدَخَلَهَا كَمَا كَانَ صَالَحَهُمْ، فَلَمَّا أَقَامَ بِهَا ثَلاثًا، أَمَرُوهُ أَنْ يَخْرُجَ فَخَرَجَ. / 11 - وفيه: سَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ قَالَ: انْطَلَقَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ إِلَى خَيْبَرَ وَهِىَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ. قال المؤلف: صلح المسلمين هذا للمشركين جائز إذا دعت الضرورة إلى ذلك، فلم يكن بالمسلمين طاقة على العدو، فأما إذا قدروا عليهم فلا يجوز مصالحتهم؛ لقوله عز وجل: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم) [محمد: 35] . قال المهلب: وإنما قاضاهم النبى (صلى الله عليه وسلم) هذه القضية التى ظاهرها الوهن على المسلمين؛ لسبب حبس الله عز وجل ناقة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن مكة حين توجه إليها فبركت به، فقال أصحابه: خلأت. فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (ما خلأت ولا هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل) وكانت إذا حولت عن مكة قامت ومشت، وإذا حرفت إلى مكة بركت،، وكذلك كانت حالة الفيل، ففهمها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من ربه ولم يتعرض لدخوله مكة، وقبل مصالحة المشركين، وحبس جيشه عن انتهاك حرمات الحرم وأهله، ولما كان قد سبق فى علمه عز وجل من دخول أهل مكة فى الإسلام فقال (صلى الله عليه وسلم) : (لا يسألونى اليوم خطة يعظمون فيها حرمات الله أو الحرم إلا أعطيتهم إياها) فكان مما سألوه أن يعظم به أهل الحرم أن يرد إليهم من خرج الجزء: 8 ¦ الصفحة: 92 عنهم ومن حرمهم مسلمًا أو غيره، وألا يردوا ولا يخرجوا من الحرم من فر إليه من المسلمين، وكان هذا من إجلال حرمة الحرم، فلهذا عاقدهم على ذلك مع يقين ما وعده الله تعالى أنه ستفتح عليه مكة ويدخلها حتى قال له عمر: (ألست أخبرتنا أنا داخلون مكة؟ فقال: هل أخبرتك أنك داخلها العام؟) فدل هذا أن المدة التى قاضى النبى (صلى الله عليه وسلم) أهل مكة فيها إنما كانت من الله عز وجل مبالغة فى الإعذار إليهم مع ما سبق من علمه من دخولهم فى الإسلام. قال ابن المنذر: اختلف العلماء فى المدة التى كانت بين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبين أهل مكة عام الحديبية. فقال عروة بن الزبير: كانت أربع سنين. وقال ابن جريج: كانت ثلاث سنين. وقال ابن إسحاق: كانت عشر سنين. وقال الشافعى: لا يجوز مهادنة المشركين أكثر من عشر سنين على ما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) بالحديبية، فإن هودن المشركون أكثر من ذلك فهى منتقضة؛ لأن الأصل فرض قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية. وقال ابن حبيب عن مالك: يجوز مهادنة المشركين السنة والسنتين والثلاث وإلى غير مدة، وإجازته ذلك إلى غير مدة يدل على أنه تجوز مدة طويلة، وأن ذلك لاجتهاد الإمام، بخلاف قول الشافعى. وقوله: (يحجل فى قيوده) والحجل: مشى المقيد. من كتاب العين. 8 - باب الصُّلْحِ فِى الدِّيَةِ / 12 - فيه: أَنَس: (أَنَّ الرُّبَيِّعَ، وَهِىَ ابْنَةُ النَّضْرِ، كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا الأرْشَ، وَطَلَبُوا الْعَفْوَ، فَأَبَوْا، فَأَتَوُا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَمَرَهُمْ بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 93 أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، قَالَ: يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ، فَرَضِىَ الْقَوْمُ، وَعَفَوْا، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأبَرَّهُ، فَرَضِىَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الأرْشَ. الصلح فى الدية من قول الله: (فمن عفى له من أخيه شىء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) [البقرة: 178] . قال المهلب: (فطلبوا الأرش) يعنى: فطلبوا أن يعطوا الأرش، ويُعفى عن القصاص، فأبى أهل الجارية وتحاكموا إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فالحكم بالقصاص السن بالسن. وإنما أقسم أنس بن النضر: (والله لا تكسر ثنية الربيع) ثقة منه بالله فى أن يجعل له مخرجًا؛ لأنه كان ممن يتقى الله، فأجاب الله دعاءه وأبر قسمه بأن يسر القوم لقبول الأرش والعفو عن القصاص، فلذلك قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) ولم يجعله فى معنى المتألى على الله بغير ثقة. 9 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِىٍّ: (ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) [الحجرات: 9] / 13 - فيه: الْحَسَنَ البصرى قَالَ: (اسْتَقْبَلَ، وَاللَّهِ، الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ مُعَاوِيَةَ بِكَتَائِبَ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: إِنِّى لأرَى كَتَائِبَ لا تُوَلِّى حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا، فَقَالَ مُعَاوِية، وَكَانَ وَاللهِ خَيْرُ الرَّجُلينِ، أَىّ عَمْرُو، إِنْ قُتِلَ هَؤُلاءِ هَؤُلاءِ، وَهَؤُلاءِ هَؤُلاءِ، مَنْ لِى بِأُمُورِ النَّاسِ، مَنْ لِى بِنِسَائِهِمْ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 94 مَنْ لِى بِضَيْعَتِهِمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِى عَبْدِشَمْسٍ: عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، فَقَالَ: اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَاعْرِضَا عَلَيْهِ، وَقُولا لَهُ، وَاطْلُبَا إِلَيْهِ، فَأَتَيَاهُ، فَدَخَلا عَلَيْهِ، وَتَكَلَّمَا، فَقَالا لَهُ، وَطَلَبَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ: إِنَّا بَنُو عَبْدِالْمُطَّلِبِ قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا الْمَالِ: وَإِنَّ هَذِهِ الأمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِى دِمَائِهَا، قَالا: فَإِنَّا نَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا، وَنَطْلُبُ إِلَيْكَ، وَنَسْأَلُكَ، قَالَ: فَمَنْ لِى بِهَذَا؟ قَالا: نَحْنُ لَكَ بِهِ، فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئًا، إِلا قَالا: نَحْنُ لَكَ بِهِ، فَصَالَحَهُ، قَالَ الْحَسَنُ: وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ، يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْمِنْبَرِ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ إِلَى جَنْبِهِ، وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً، وَعَلَيْهِ أُخْرَى، وَيَقُولُ: إِنَّ ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ البخارى: قَالَ لِى عَلِىُّ بْنُ عَبْدِاللَّهِ: إِنَّمَا ثَبَتَ لَنَا سَمَاعُ الْحَسَنِ مِنْ أَبِى بَكْرَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ. قال المهلب: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن ابنى هذا سيد) يدل أن السيادة إنما يستحقها من انتفع به الناس لأنه علق السيادة بالإصلاح بين الناس ونفعهم، هذا معنى السيادة. وقوله: (إن قتل هؤلاء هؤلاء) يدل على نظر معاوية فى العواقب ورغبته فى صرف الحرب. وقوله: (وكان والله خير الرجلين) يريد معاوية خير من عمرو بن العاص. وقوله: (اذهبا إلى هذا الرجل واطلبا إليه واعرضا عليه) يدل على أن معاوية كان الراغب فى الصلح، وأنه عرض على الحسن المال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 95 وبذله ورغبه فيه حقنًا للدماء وحرصًا على رفع سيف الفتنة، وعرفه ما وعد به النبى (صلى الله عليه وسلم) من سيادته، وأن الله يصلح به بين فئتين من المسلمين، فقال له الحسن: إنا بنو عبد المطلب المجبولون على الكرم والتوسع لمن حوالينا من الأهل والموالى، وقد أصبنا من هذا المال بالخلافة ما صارت لنا به عادة إنفاق وإفضال على الأهل والحاشية، فإن تخليت من هذا الأمر قطعنا العادة (وإن هذه الأمة قد عاثت فى دمائها) يقول: قتل بعضها بعضًا فلا يكفون إلا بالمال، فأراد أن يسكن أمر الفتنة ويفرق المال فيما لا يرضيه غير المال، فقالا: نفرض لك من المال فى كل عام كذا ومن الأقوات والثياب ما تحتاج إليه لكل ما ذكرت، فصالحاه على ذلك. وفيه من الفقه: أن الصلح على الانخلاع من الخلافة والعهد بها على أخذ مال جائز للمختلع والمال له طيب، وكذلك هو جائز للمصالح الدافع المال إذا كان كل واحد منهما له سبب فى الخلافة يستند إليه، وعقد من الإمارة يعول عليه. وقوله: (بين فئتين من المسلمين) يدل أن قتال المسلم للمسلمين لا يخرجه من الإسلام إذا كان على تأويل، ويفسر قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار) . يريد إن أنفذ الله عليهما الوعيد. وذكر أهل الأخبار أنه لما قتل على بن أبى طالب بايع أهل الكوفة الحسن بن على، وبايع أهل الشام معاوية، فسار معاوية بأهل الشام يريد الكوفة، وسار الحسن بأهل العراقين، فالتقيا بمنزل من أرض الكوفة، فنظر الحسن إلى كثرة من معه من أهل العراق، فنادى: يا معاوية، إنى قد اخترت ما عند الله، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 96 فإن يكن هذا الأمر لك فما ينبغى لى أن أنازعك عليه، وإن يكن لى فقد جعلته لك. فكبر أصحاب معاوية، وقال المغيرة ابن شعبة عند ذلك: أشهد أنى سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول للحسن: (إن ابنى هذا سيد سيصلح الله به بين فئتين من المسلمين) . فجزاك الله عن المسلمين خيرًا. وقال الحسن: اتق الله يا معاوية على أمة محمد، لا تفنيهم بالسيف على طلب الدنيا وغرور فانية زائلة، فسلم الحسن الأمر إلى معاوية وصالحه وبايعه على السمع والطاعة على إقامة كتاب الله وسنة نبيه، ثم دخلا الكوفة فأخذ معاوية البيعة لنفسه على أهل العراقين، فكانت تلك السنة سنة الجماعة لاجتماع الناس واتفاقهم وانقطاع الحرب وبايع معاوية كلُ من كان معتزلا عنه، وبايعه سعد بن أبى وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة، وتباشر الناس بذلك، وأجاز معاوية الحسن بن على بثلاثمائة ألف وألف ثوب وثلاثين عبدا ومائة جمل، وانصرف الحسن بن على إلى المدينة وولى معاوية الكوفة المغيرة بن شعبة، وولى البصرة عبد الله بن عامر، وانصرف إلى دمشق واتخذها دار مملكته. - باب هَلْ يُشِيرُ الإمَامُ بِالصُّلْحِ / 14 - فيه: عَائِشَةَ: سَمِعَ النَّبىِّ (صلى الله عليه وسلم) صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ، عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمْ، وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ، وَيَسْتَرْفِقُهُ فِى شَيْءٍ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: أَيْنَ الْمُتَأَلِّى عَلَى اللَّهِ، لا يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ، فَقَالَ: أَنَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَهُ أَىُّ ذَلِكَ أَحَبَّ) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 97 / 15 - وفيه: كَعْبِ، أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِى حَدْرَدٍ الأسْلَمِىِّ مَالٌ، فَلَقِيَهُ، فَلَزِمَهُ حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَمَرَّ بِهِمَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا كَعْبُ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: النِّصْفَ، فَأَخَذَ نِصْفَ مَا لَهُ عَلَيْهِ، وَتَرَكَ نِصْفًا. قال المهلب: فى هذين الحديثين الحض على الرفق بالغريم والإحسان إليه والوضع عنه. قال المهلب: وفى حديث عائشة النهى عن التألى على الله؛ لأن فيه معنى الاستبداد بنفسه، والقدرة على إرادته، فكأنه لما حتم بألا يفعل شابه ما يدعيه القدرية من إثبات القدرة لأنفسها، فوبخه النبى (صلى الله عليه وسلم) بقوله، ففهم ذلك ورجع عن تأليه ويمينه، وقال: (له أى ذلك أحب) من الوضع عنه أو الرفق به متبرئًا من الفعل إلى الله، ورد الحول والقوة إليه، ويمينه إن كانت بعد نزول الكفارة ففيها الكفارة. وفى حديث كعب أصل قول الناس فى حضهم على الصلح: خير الصلح الشطر؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) أمره بوضع النصف عن غريمه فوضعه عنه. - باب فَضْلِ الإصْلاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَالْعَدْلِ بَيْنَهُمْ / 16 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاس عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ صَدَقَةٌ) . قال المهلب: قوله: (كل سلامى) يعنى: كل مفصل وكل عظم وإن صغر، والسلاميات: عظام مفاصل الكف، فعلى كل واحد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 98 منها صدقة لله من فعل الطاعة والخير كل يوم، إذ كل موضع شعرة فما فوقها من جسد الإنسان عليه فيه نعمة لله، يلزمه شكره والاعتراف بها حين خلقه صحيحًا يتصرف فى منافعه وإرادته، ولم يجعل فى ذلك الموضع داء يمنعه ألمه من استعماله والانتفاع به. وإنما سميت طاعة الله من صلاة وغيرها صدقة؛ لأنه كان لله أن يفترض على عباده ما شاء من الأعمال دون أجر يأجرهم عليها، ولا ثواب فيها، ولكنه برحمته تفضل علينا بالأجر والثواب على ما فرضه، فلما كان لأفعالنا أجر فكأننا نحن ابتدأنا بالعمل فاستحققنا الأجر، فشابه به الصدقة المبتدأة التى عليها الأجر لازم فى فضل الله. وفيه أن العدل بين الناس من الأعمال الزاكية عند الله المرجو قبولها. - باب إِذَا أَشَارَ الإمَامُ بِالصُّلْحِ فَأَبَى حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ الْبَيِّنِ / 17 - فيه: الزُّبَيْرَ، أَنَّهُ خَاصَمَ رَجُلا مِنَ الأنْصَارِ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى شِرَاجٍ مِنَ الْحَرَّةِ، كَانَا يَسْقِيَانِ بِهِ كِلاهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِلْزُّبَيْرِ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ، فَغَضِبَ الأنْصَارِىُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ آنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ قَالَ: اسْقِ، ثُمَّ احْبِسْ حَتَّى يَبْلُغَ الْجَدْرَ، فَاسْتَوْعَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حِينَئِذٍ حَقَّهُ لِلْزُّبَيْرِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَبْلَ ذَلِكَ أَشَارَ عَلَى الزُّبَيْرِ بِرَأْىٍ سَعَةٍ لَهُ وَلِلأنْصَارِىِّ، فَلَمَّا أَحْفَظَ الأنْصَارِىُّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) اسْتَوْعَى لِلْزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِى صَرِيحِ الْحُكْمِ) . قَالَ عُرْوَة: قَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ مَا أَحْسِبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ إِلا فِى ذَلِكَ: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ. . . (الآيَةَ [النساء: 65] . قال المهلب: الترجمة صحيحة؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر أن يسقى ويأخذ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 99 بأيسر ما يكفيه من الماء، ثم يرسله إلى جاره، فأبى ذلك جاره، واتهم النبى (صلى الله عليه وسلم) وأساء الظن بالنبوة من الجور والميل، فغضب النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فأمر الزبير أن يسقى ويمسك الماء حتى يبلغ إلى منتهى حاجته، واستوعى الزبير حقه ولم يحمله غضبه (صلى الله عليه وسلم) على أكثر من أنه استوعى له حقه، ونزل القرآن بتصديقه، وهو قوله: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك. .) [النساء: 65] الآية. يعنى: لا يؤمنون إيمانًا كاملا؛ لأنه لا يخرج من الإيمان بخطرة أخطرها الشيطان ونزغ بها. وفيه من الفقه: أنه لا ينبغى الاقتداء بالنبى (صلى الله عليه وسلم) فى غضبه ورضاه وجميع أحواله، وأن يكظم المؤمن غيظه ويملك نفسه عند غضبه، ولا يحملها على التعدى والجور، بل يعفو ويصفح. وقوله: (أحفظ الأنصارى) يعنى: أغضبه. - باب الصُّلْحِ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَأَصْحَابِ الْمِيرَاثِ وَالْمُجَازَفَةِ فِى ذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لا بَأْسَ أَنْ يَتَخَارَجَ الشَّرِيكَانِ، فَيَأْخُذَ هَذَا دَيْنًا، وَهَذَا عَيْنًا، فَإِنْ تَوِىَ لأحَدِهِمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ. / 18 - فيه: جَابِرِ: (تُوُفِّىَ أَبِى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَعَرَضْتُ عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يَأْخُذُوا التَّمْرَ بِمَا عَلَيْهِ، فَأَبَوْا، وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ فِيهِ وَفَاءً، فَأَتَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إِذَا جَدَدْتَهُ، فَوَضَعْتَهُ فِى الْمِرْبَدِ، آذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَجَاءَ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَدَعَا بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ غُرَمَاءَكَ فَأَوْفِهِمْ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 100 فَمَا تَرَكْتُ أَحَدًا لَهُ عَلَى أَبِى دَيْنٌ إِلا قَضَيْتُهُ، وَفَضَلَ ثَلاثَةَ عَشَرَ وَسْقًا: سَبْعَةٌ عَجْوَةٌ وَسِتَّةٌ لَوْنٌ. . الحديث. قال المؤلف: كان الدين الذى على أبى جابر ثلاثين وسقًا من تمر ذكره البخارى فى باب إذا قاضاه أو جازفه فى دين فهو جائز. وقال فيه جابر: توفى أبى وترك عليه ثلاثين وسقًا لرجل من اليهود. وقد تقدم هناك أنه لا يجوز عند العلماء أن يأخذ من له دين من تمر على أحد تمرًا مجازفة فى دينه؛ لأن ذلك من الغرر، وإنما يجوز أن يأخذ مجازفة فى ذلك أقل من دينه، وكذلك لا يجوز عندهم أن يأخذ من الطعام مكيل معلوم الكيل طعامًا جزافًا من جنسه إلا أن يكون طعامًا مخالفًا لجنس الطعام المكيل يجوز فيه التفاضل، فلا يجوز إلا يدًا بيد. وروى ابن القاسم عن مالك، أنه كره لمن كان له دين على رجل أن يأخذ فيه ثمرة يجتنيها أو دارًا يسكنها أو جارية يواضعها، وكذلك إذا اشترى منه بدينه كيلا من حنطة، كره أن يفارقه حتى يقبض الحنطة؛ لأنه يكون دينًا فى دين. وقال أشهب: لا بأس بذلك كله. وهو قول أبى حنيفة: وقالوا: ليس من الدين بالدين؛ لأنه إذا شرع فى اجتناء الثمرة. وفى سكنى الدار فقد خرج من معنى الدين بالدين؛ لأن ما كان أوله مقبوضًا وتأخر قبض سائره فهو كالمقبوض. قال مالك: ولا يجوز لمن له طعام من بيع أو سلم أن يصالحه على دراهم يعجلها أو يؤخرها؛ لأنه بيع الطعام قبل أن يستوفى، فلم يجز لجابر أن يعطى اليهودى فيما كان له على أبيه من التمر دراهم. ووجه حديث جابر فى هذا الباب أنه كان على أبيه دين من جنس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 101 تمر حائطه فرغب إلى الغرماء أن يأخذوا تمر نخله ويسقطوا عنه باقى دينهم؛ لاتفاقهم أن التمر لا يبلغ قدر الدين، ومثل هذا يجوز عند جميع العلماء؛ لأنه حط وإحسان وليس ببيع، ويجوز عند جماعة العلماء فى الصلح ما لا يجوز فى البيع، وإلى هذا المعنى ذهب البخارى فى ترجمته، والله أعلم. وأما قول ابن عباس فقد اختلف العلماء فيه، فقال الحسن البصرى: إذا اقتسم الشريكان الغرماء فأخذ هذا بعضهم وهذا بعضهم فتوى نصيب أحدهما وخرج نصيب الآخر، قال: إذا أبرأه منه فهو جائز. وقال النخعى: ليس بشىء ما توى أو خرج فهو بينهما نصفان، وهو قول مالك، والكوفيين، والشافعى. وحجة من لم يجز ذلك أنه غرر؛ إذ قد يتوى ما على أحدهما فلا يحصل للذى خرج إليه شىء، ومن حق الشريكين أن يساويا فى الأخذ. وحجة من قال: لا يرجع أحدهما على صاحبه أن الذمة تقوم مقام العين، فإذا توى ما على أحد الغرماء فإنه يبيعه به دينًا. وقال سحنون: إذا قبض أحد الشريكين من دينه عرضًا فإن صاحبه بالخيار إن شاء جوز له ما أخذ وأتبع الغريم بنصيبه، وإن شاء رجع على شريكه بنصف ماقبض وأتبعا الغريم جميعًا بنصف جميع الدين فاقتسماه بينهما نصفين. وهذا قول ابن القاسم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 102 - باب الصُّلْحِ وَالْعَيْنِ بِالدَّيْنِ / 19 - فيه: كَعْبَ: أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِى حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْمَسْجِدِ، حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ فِى بَيْتِهِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: يَا كَعْبُ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ، فَقَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْتُ، فَقَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : قُمْ فَاقْضِهِ) . اتفق العلماء أنه إن صالح غريمه عن دراهم بدراهم أقل منها أو عن ذهب بذهب أقل منه أنه جائز إذا حل الأجل، وإن أخره بذلك؛ لأنه حط عنه وأحسن إليه ولا يدخله دين فى دين، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (من أنظر معسرًا أو وضع عنه تجاوز الله عنه) ولا يجوز أن يحط عنه شيئًا قبل حلول الأجل على أن يقضيه مكانه؛ لأنه يدخله ضع وتعجل وأما إن صالحه بعد حلول الأجل عن دراهم بدنانير أو عن دنانير بدراهم لم يجز ذلك إلا بالقبض؛ لأنه صرف، فإن قبض بعضًا وبَقَّى بعضًا جاز فيما قبض وانتقض فيما لم يقبض، فإن كان الدين عرضًا فلا يجوز له فى غير جنسه مما يتأخر قبض جميعه؛ لأنه الدين بالدين، وإن كان ناجزًا فلا بأس به. هذا قول مالك. وإذا تقاضاه مثل دينه عند حلول الأجل على غير وجه الصلح فإنه يقبضه مكانه، ولا يجوز أن يحيله به غريمه على من له عليه دين؛ لأنه يكون الدين بالدين الذى نهى عنه، ولذا قال (صلى الله عليه وسلم) : (قم فاقضه) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 103 54 - كِتَاب الشُّرُوطِ - باب مَا يَجُوزُ مِنَ الشُّرُوطِ فِى الإسْلامِ وَالأحْكَامِ وَالْمُبَايَعَةِ / 1 - فيه: مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرَ يُخْبِرَانِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: لَمَّا كَاتَبَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو يَوْمَئِذٍ كَانَ فِيمَا اشْتَرَطَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَنَّهُ لا يَأْتِيكَ مِنَّا أَحَدٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، وَخَلَّيْتَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَكَرِهَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ، وَامْتَعَضُوا مِنْهُ، وَأَبَى سُهَيْلٌ إِلا ذَلِكَ، فَكَاتَبَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى ذَلِكَ، فَرَدَّ يَوْمَئِذٍ أَبَا جَنْدَلٍ إِلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ مِنَ الرِّجَالِ إِلا رَدَّهُ فِى تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَجَاءَتِ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ، وَكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِى مُعَيْطٍ مِمَّنْ خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَئِذٍ، وَهِىَ عَاتِقٌ، فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَرْجِعَهَا إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَرْجِعْهَا إِلَيْهِمْ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ: (إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ) [غافر: 34] . قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنْهُنَّ، قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : قَدْ بَايَعْتُكِ كَلامًا يُكَلِّمُهَا بِهِ، وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ فِى الْمُبَايَعَةِ، وَمَا بَايَعَهُنَّ إِلا بِقَوْلِهِ. / 2 - وفيه: جَابِر: (بَايَعْتُ النبى (صلى الله عليه وسلم) فَاشْتَرَطَ عَلَىَّ: وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. وَقَالَ مرة: بَايَعْتُ النبى (صلى الله عليه وسلم) عَلَى إِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. قال المؤلف: الشروط الجائزة فى الإسلام والأحكام هى الشروط الجزء: 8 ¦ الصفحة: 104 الموافقة لكتاب الله وسنة ورسوله، وشروط المبايعة هى التزام الفرائض والنصيحة للمؤمنين وما فى آية الممتحنة مما ألزمه الله عز وجل المؤمنات فى الآية أن) لا يسرقن ولا يزنين) [الممتحنة: 10] إلى آخر الآية. فاختلف العلماء فى صلح المشركين على أن يرد إليهم من جاء منهم مسلمًا، فقال قوم: لا يجوز هذا وهو منسوخ بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أنا برئ من كل مسلم أقام مع مشرك فى دار الحرب لا تراءى نارهما) . قالوا: فهذا ناسخ لرد المسلمين إلى المشركين؛ إذ كان النبى (صلى الله عليه وسلم) قد برئ ممن أقام معهم فى دار الحرب. وأجمع المسلمون أن هجرة دار الحرب فريضة على الرجال والنساء وذلك الذى بقى من فرض الهجرة. هذا قول الكوفيين، وقول أصحاب مالك. ذكر ابن حبيب عن ابن الماجشون قال: إذا اشترط أهل الحرب فى الصلح رد من أسلم منهم لم ينبغ أن يعطوا ذلك، فإن جهل معطيهم ذلك لم يوف لهم بالشرط؛ لأنه خلاف سنة الإسلام، وفيه إباحة حرمته. وقال الشافعى: هذا الحكم فى الرجال غير منسوخ، ليس لأحد هذا العقد إلا للخليفة أو لرجل يأمره، فمن عقده غير الخليفة فهو مردود، وقول الشافعى: وهذا الحكم فى الرجال غير منسوخ؛ يدل أن مذهبه فى النساء منسوخ، وحجته فى حديث مروان والمسور قوله: (وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط ممن خرج إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فجاء أهلها إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) يسألونه أن يرجعها إليهم فلم يرجعها لما نزل فيهن ورد أبا جندل. وذكر معمر عن الزهرى قال: نزلت الآية على النبى (صلى الله عليه وسلم) وهو بأسفل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 105 الحديبية، وكان صالحهم على أن من أتاه منهم رده إليهم، فلما جاء النساء نزلت عليه الآية وأمر أن يرد الصداق إلى أزواجهن فحكم النبى (صلى الله عليه وسلم) فى النساء بحكم الله فى القرآن وبين المعنى فى ذلك بقوله: (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) [الممتحنة: 10] فأخبر تعالى أن وطء المؤمنات حرام على الكفار، فلذلك لم ترد إليهم النساء. وقد روى فى هذا الحديث ما يدل أن الشرط إنما وقع فى صلح أهل مكة أن يرد الرجال خاصة ولم يقع على النساء وهو قول سهيل: (وعلى أنه لا يأتيك منا رجل إلا رددته إلينا) فلم يدخل فى ذلك النساء. ذكره البخارى فى باب الشروط فى الجهاد بعد هذا. وقوله: (فامتعضوا) قال صاحب العين: معض الرجل وامتعض: إذا غضب للشىء. وأمعضته ومعضته أنا: إذا أنزلت به ذلك. وقوله: (وهى عاتق) قال ابن دريد: عتقت الجارية: صارت عاتقًا، وذلك إذا أوشكت البلوغ. وقد تقدم تفسير العواتق فى أبواب صلاة العيدين. - باب إِذَا بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِّرَتْ وَلَمْ يَشْتَرِطِ الثَّمَرَةَ / 3 - فيه: ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (مَنْ بَاعَ نَخْلا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ) . قد تقدم فى كتاب البيوع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 106 3 - باب الشُّرُوطِ فِى الْبُيُوعِ / 4 - فيه: عَائِشَةَ (أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُهَا فِى كِتَابَتِهَا، وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ، ارْجِعِى إِلَى أَهْلِكِ، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِىَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ، وَيَكُونَ وَلاؤُكِ لِى، فَعَلْتُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا، فَأَبَوْا، وَقَالُوا: إِنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ فَلْتَفْعَلْ، وَيَكُونَ لَنَا وَلاؤُكِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ لَهَا، ابْتَاعِى فَأَعْتِقِى، فَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) . وقد تقدم فى البيوع. ونذكر هاهنا منه طرفًا. وروى عن عبد الصمد بن عبد الوارث قال: وجدت فى كتاب جدى قال: أتيت مكة فأصبت بها أبا حنيفة وابن أبى ليلى وابن شبرمة، فأتيت أبا حنيفة فقلت له: ما تقول فى رجل باع بيعًا واشترط شرطًا؟ قال: البيع باطل والشرط باطل. فأتيت ابن أبى ليلى فسألته فقال: إن البيع جائز والشرط باطل. فأتيت ابن شبرمة فسألته، فقال: البيع جائز والشرط جائز. فقلت: سبحان الله ثلاثة من فقهاء الكوفة اختلفوا فى مسألة. فأتيت أبا حنيفة فأخبرته بقولهما فقال: لا أدرى ما قالا، حدثنى عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهى عن بيع وشرط) فأتيت ابن أبى ليلى فأخبرته بقولهما فقال: لا أدرى ما قالا، حدثنى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (اشترى بريرة واشترطى لهم الولاء، فإن الولاء لمن أعتق) فأجاز البيع وأبطل الشرط. فأتيت ابن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 107 شبرمة فأخبرته بقولهما فقال: لا أدرى ما قالا، حدثنى مسعر بن كدام، عن محارب بن دثار، عن جابر بن عبد الله قال: (اشترى منى النبى (صلى الله عليه وسلم) ناقة فاشترطت حملانى) فأجاز البيع والشرط. قال المهلب: هذه الثلاث فتاوى جائزة كلها فى مواضعها، فلا يتعدى كل واحد منها ما وضع له ولها أحكام مختلفة على حسب تأويل الأحاديث الثلاثة، وهؤلاء الفقهاء حملوا تأويلها على العموم وظنوا أن كل واحد من هؤلاء الأحاديث عامل فى السنة كلها، وليس كذلك، ولكل واحد موضع لا يتعداه، وقد تقدم فى كتاب البيوع. 4 - باب إِذَا اشْتَرَطَ الْبَائِعُ ظَهْرَ الدَّابَّةِ إِلَى مَكَانٍ مُسَمًّى جَازَ / 5 - فيه: جَابِرٌ: أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعْيَا، فَمَرَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَضَرَبَهُ، فَدَعَا لَهُ، فَسَارَ سيرًا لَيْسَ يَسِيرُ مِثْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: بِعْنِيهِ بِوَقِيَّةٍ، قُلْتُ: لا، ثُمَّ قَالَ: بِعْنِيهِ بِوَقِيَّةٍ، فَبِعْتُهُ، فَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلانَهُ إِلَى أَهْلِى، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَتَيْتُ بِالْجَمَلِ، وَنَقَدَنِى ثَمَنَهُ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ، فَأَرْسَلَ عَلَى إِثْرِى: وَقَالَ: مَا كُنْتُ لآخُذَ جَمَلَكَ، فَخُذْ جَمَلَكَ ذَلِكَ، فَهُوَ مَالُكَ وَقَالَ شُعْبَةُ،: أَفْقَرَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 108 وَقَالَ إِسْحَاقُ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مُغِيرَةَ: فَبِعْتُهُ عَلَى أَنَّ لِى فَقَارَ ظَهْرِهِ حَتَّى آتِى الْمَدِينَةَ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ: وَلَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، شَرَطَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ جَابِرٍ: وَلَكَ ظَهْرُهُ حَتَّى تَرْجِعَ. وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَفْقَرْنَاكَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالَ الأعْمَشُ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابِرٍ: تَبَلَّغْ عَلَيْهِ إِلَى أَهْلِكَ. قَالَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ: الاشْتِرَاطُ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ عِنْدِى. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ جَابِرٍ: أَخَذْتُهُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ، وَهَكَذَا تَكُونُ أوَقِيَّةً عَلَى حِسَابِ الدِّينَارِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَلَمْ يُبَيِّنِ الثَّمَنَ مُغِيرَةُ. عَنِ الشَّعْبِىِّ، عَنْ جَابِرٍ وَابْنُ الْمُنْكَدِرِ وَأَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، وَقَالَ الأعْمَشُ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابِرٍ: أوَقِيَّةُ ذَهَبٍ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابِرٍ مِائَتَىْ دِرْهَمٍ. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ جَابِرٍ: اشْتَرَاهُ بِطَرِيقِ تَبُوكَ، أَحْسِبُهُ قَالَ: بِأَرْبَعِ أَوَاقٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 109 وَقَالَ أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ: اشْتَرَاهُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا. وَقَوْلُ الشَّعْبِىِّ: بِوَقِيَّةٍ أَكْثَرُ. اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث لاختلاف ألفاظه، فمرة روى بلفظ الهبة والإفقار ومرة روى بلفظ الاستثناء والاشتراط، واختلاف اللفظ يوجب اختلاف المعانى عند الفقهاء إلا أن البخارى غلب لفظ الاشتراط وقضى له على غيره بالصحة، وممن قال بذلك من الفقهاء: الأوزاعى وأحمد وأبو ثور ومحمد بن نصر المروزى، وأهل الحديث قالوا: لا بأس أن يبيع الرجل الدابة ويشترط ظهرها إلى مكان معلوم، والبيع فى ذلك جائز والشرط ثابت. وقال مالك: إن كان الاشتراط للركوب إلى مكان قريب مثل اليوم واليومين والثلاثة فلا بأس بذلك، وإن كان بعيدًا فلا خبر فيه على ظاهر حديث جابر أنه باع الجمل من النبى (صلى الله عليه وسلم) واستثنى ركوبه إلى المدينة، وكان بينه وبينها ثلاثة أيام. وقال مالك: ولا بأس أن يشترط سكنى الدار الأشهر والسنة. وقالت طائفة: إذا اشترط ركوب الدابة أو خدمة العبد أو سكنى الدار فالبيع فاسد. هذا قول الكوفيين والشافعى. وقالوا: قد ورد حديث جابر بلفظ الإفقار والهبة، وهو أولى من حديث الاشتراط. قالوا: ولا يخلو شرط ركوب البائع أن يكون الركوب مستحقا من مال المشترى، فيكون البيع فاسدًا؛ لأنه شرط لنفسه ما قد ملكه المشترى، أو يكون استثناؤه الركوب أوجب بقاء الركوب فى ملك البائع، فهذا محال لأن المشترى لم يملك المنافع بعد البيع من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 110 جهة البائع، وإنما ملكها لأنها طرأت فى ملكه، وكذلك سكنى الدار ونحوها. واحتج عليهم من خالفهم، فقال: إنه لا خلاف بيننا أنه لو باع نخلا عليها ثمر قد أبر وبقاها لنفسه أنه جائز، والثمرة تبقى على نخل المبتاع إلى وقت جدادها، وقد باع النخل واستثنى منفعة تلك الثمرة لنفسه، وجاز ذلك فكذلك فى مسألتنا، وقد أجمعوا على جواز الفرد اليسير فى البيوع، وقد أجازه النبى (صلى الله عليه وسلم) وروى عن عثمان أنه باع دارًا واشترط لنفسه سكناها مدة معلومة، وعثمان إمام فعل ذلك بين الصحابة، فلم ينكره أحد. فإن قالوا: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) نهى عن بيع وشرط. قيل: الذى نهى عن ذلك هو الذى جوز البيع والشرط فى حديث جابر، فدل أن الخبر مخصوص؛ لأن من الشروط ما يجوز ومنها ما لا يجوز، وقد قال: (المؤمنون عند شروطهم) قال ابن المنذر: وحديث جابر مستغنى به عن قول كل أحد، وإنما نهى أن يستثنى مجهولا من معلوم، فأما إذا علم المستثنى فذلك جائز، ومن خالف حديث جابر مستثنى برأيه فيما لا سنة فيه، كالدار يبيعها الرجل وقد أكراها وقتًا معلومًا أن سكناها للمكترى على المشترى إلى انقضاء المدة، فإذا جاز هذا ولا سنة فيه فالسنة الثابتة أولى أن نستنها. قال المهلب: ومن روى (لك ظهره إلى المدينة) يدل على أنه تفضل عليه بركوبه إلى المدينة، ولم يكن من اشتراط جابر على النبى (صلى الله عليه وسلم) فى أصل البيع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 111 ويؤيد ذلك رواية من روى: فأفقره ظهره إلى المدينة) والإفتقار لا يكون إلا تفضلا، فيكون معنى رواية من روى: (وشرط له ظهره إلى المدينة) شرط تفضل؛ لأن القصة كلها جرت على جهة التفضل من النبى (صلى الله عليه وسلم) والرفق بجابر؛ لأنه وهبه الجمل بعد أن أعطاه ثمنه وزيادة، وكيف يشرط عليه جابر ركوبه وحين قال له النبى (صلى الله عليه وسلم) : (بعنيه. قال له جابر: هو لك يا رسول الله بلا ثمن) فلم يقبله النبى (صلى الله عليه وسلم) إلا بثمن رفقًا به. ذكره البخارى فى كتاب الوكالات فى باب إذا وكل رجلا أن يعطى شيئًا فلم يبين كم يعطى. قال المهلب: وأما اختلافهم فى ثمن الجمل فلا حاجة بنا إلى علم مقداره؛ لأنه لا يجوز بيعه بالقليل والكثير، وإنما الغرض فى الحديث نقل العقد وأنه كان بثمن، فلذلك لم يعتبر مقداره. الإفقار فى الإبل: أن يعار للركوب والحمل عليها. عن الخطابى: وفى كتاب العين: أفقرت الرجل الدابة إذا أعرته ظهرها. والفقار: عظم الصلب. 5 - باب الشُّرُوطِ فِى الْمُعَامَلَةِ / 6 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَتِ الأنْصَارُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ، قَالَ: لا، فَقَالَ: تَكْفُونَا الْمَئُونَةَ، وَنُشْرِكْكُمْ فِى الثَّمَرَةِ، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) . / 7 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خَيْبَرَ الْيَهُودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 112 قال المهلب: أراد الأنصار مقاسمة المهاجرين للإخاء الذى آخى بينهما النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وهذه المعاملة هى المساقاة بعينها، وهى خارجة عن معانى البيوع؛ لأنه لا يجوز بيع الثمار قبل بدو صلاحها، وجاز بيعها فى المساقاة قبل أن تخلق وتظهر، وأما خروجها عن الإجارة، فإنه لا تجوز الإجارة المجهولة، وفى المساقاة لا يعلم مقدار ما يخرج النخيل من الثمر، وربما لا يخرج شيئًا، وإنما جازت المساقاة بالسنة، فهى مخصوصة فى نفسها لا تتعدى إلى غيرها مما يشبه معناها، فلا يجوز من الشروط فى معاملاتهم إلا ما كان فى كتاب الله أو سنة نبيه - صلىالله عليه وسلم -. 6 - باب الشُّرُوطِ فِى الْمَهْرِ عِنْدَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ وَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ مَقَاطِعَ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ، وَلَكَ مَا شَرَطْتَ، وَقَالَ الْمِسْوَرُ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِى مُصَاهَرَتِهِ، فَأَحْسَنَ، وَقَالَ: حَدَّثَنِى فَصَدَقَنِى وَوَعَدَنِى فَوَفَى لِى. / 8 - فيه عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ) . هذا الباب مكرر فى كتاب النكاح وهو موضعه وسأذكر مذاهب العلماء فى شروط النكاح إن شاء الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 113 7 - باب الشُّرُوطِ فِى الْمُزَارَعَةِ / 9 - فيه: رَافِعَ: كُنَّا أَكْثَرَ الأنْصَارِ حَقْلا، فَكُنَّا نُكْرِى الأرْضَ، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ ذِهِ، فَنُهِينَا عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ نُنْهَ عَنِ الْوَرِقِ. تقدم معنى حديث رافع واختلاف مساقه فى كتاب المزارعة. 8 - باب مَا لا يَجُوزُ مِنَ الشُّرُوطِ فِى النِّكَاحِ / 10 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا؛ لِتَسْتَكْفِئَ إِنَاءَهَا) . هذا فى كتاب النكاح. 9 - باب الشُّرُوطِ الَّتِى لا تَحِلُّ فِى الْحُدُودِ / 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ: حَدِيث العَسِيف: (. . . فَأَخْبَرُونِى أَنَّ عَلى ابنى الرَّجم، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَأَخْبَرُونِى أَنَّ عَلَى ابْنِى جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ الرَّجْمَ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَقَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ. . .) الحديث. قال المهلب: كل شرط وقع فى رفع حد من حدود الله فلا يجوز منه شىء، ولا يجوز فيه صلح ولا فدية، وذلك مردود كله، وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب الصلح فى باب إذا اصطلحوا على جور فهو مردود، وسيأتى فى كتاب الرجم فى غير موضع إن شاء الله، وأتقصى ما للعلماء فى معانيه بحول الله وقوته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 114 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَاتَبِ إِذَا رَضِىَ بِالْبَيْعِ عَلَى أَنْ يُعْتَقَ / 12 - فيه: حديث بَرِيرَةُ، أَنَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) قال لعَائِشَةَ: اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقِيهَا فإن الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. وترجم له باب المكاتب ومالا يحل من الشروط التى تخالف كتاب الله وقد تقدم فى كتاب المكاتب. - باب الشُّرُوطِ فِى الطَّلاقِ وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: إِنْ بَدَأ بِالطَّلاقِ أَوْ أَخَّرَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِشَرْطِهِ. / 13 - فيه أَبُو هُرَيْرَةَ: نَهَى النبى (صلى الله عليه وسلم) أَنْ تَشْتَرِطَ الْمَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا. أما قول ابن المسيب وغيره: إن بدأ بالطلاق أو أخر فهو أحق بشرطه فمعناه أن يقول: أنت طالق إن دخلت الدار أو إن دخلت الدار فأنت طالق، فالطلاق يلزمه عند جماعة الفقهاء، وإنما يروى الخلاف فى ذلك عن شريح والنخعى قالا: إذا بدأ بالطلاق قبل يمينه فإنه يلزمه الطلاق وإن برت يمينه، وإن بدأ باليمين قبل الطلاق فإنه لا يلزمه الطلاق إذا برت. وأما الشروط فى الطلاق فهى عندهم كالشروط فى النكاح، فمنهم من كرهها ومنهم من أجازها إذا وقعت بيمين وسيأتى اختلاف العلماء فى كتاب النكاح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 115 وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تشترط المرأة طلاق اختها) حجة لمن أجاز الشروط المكروهة؛ لأنه لو لم تكن هذه الشروط عاملة إذا وقعت لم يكن لنهيه عن اشتراط المرأة طلاق أختها معنى، ولكان اشتراطها ذلك كلا اشتراط، فكذلك ما شابه ذلك من الشروط، وإن كانت مكروهة فهى لازمة؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أحق الشروط أن يوفى بها ما استحللتم به الفروج) . - باب الشُّرُوطِ مَعَ النَّاسِ بِالْقَوْلِ / 14 - فيه ابْنِ عَبَّاس، عَنْ أُبَىُّ، قَالَ: قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : مُوسَى رَسُولُ اللَّهِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ: (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا) [البقرة: 33] كَانَتِ الأولَى نِسْيَانًا، وَالْوُسْطَى شَرْطًا، وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا. وإنما أراد البخارى بهذا الباب والله أعلم ليدل على أن ما يقع بين الناس فى محاوراتهم مما يكثر بينهم، فإن الشرط بالقول يغنى فى ذلك عن الشرط بالكتاب والإشهاد عليه، ألا ترى أن موسى (صلى الله عليه وسلم) لم يشهد أحدًا على نفسه حين قال للخضر: (ستجدنى إن شاء الله صابرًا ولا أعصى لك أمرًا) [الكهف: 69] وكذلك الخضر حين شرط على موسى ألا يسأله عن شىء حتى يحدث له منه ذكرًا؛ لم يكتب بذلك كتابًا ولا أشهد شهودًا، وإنما يجب الإشهاد والكتاب فى الشروط التى يعم المسلمين نفعها ويخاف أن يكون فى انتقاضها والرجوع فيها خرم وفساد، وكذلك ما كان فى معناها مما يخص بعض الناس، واحتيج فيها إلى الكتاب والإشهاد خوف ذلك، ألا ترى أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 116 النبى (صلى الله عليه وسلم) كتب الصلح مع سهيل بن عمرو وأهل مكة ليكون حاجزًا للمشركين عن التناقض والرجوع فى شىء من الصلح وشاهدًا عليهم إن هموا بذلك. قال المهلب: وفيه أن النسيان لا يعد ولا يؤاخذ به. وفيه دليل: أنه يجب الرفق بالعلماء، وألا يهجم عليهم بالسؤال عن معانى أقوالهم فى كل وقت إلا عند انبساط نفوسهم وانشراح صدورهم، لا سيما إذا شرط ذلك العالم على المتعلم. وفيه: أنه يجوز سؤال العالم عن معانى أفعال النبى (صلى الله عليه وسلم) وأقواله؛ لأن موسى سأل الخضر عن معنى قتل الغلام وخرق السفينة وإقامة الجدار، فأخبره بعلل أفعاله، ووجه الحكمة فيها، وإنما كان شرط ألا يسأله عن شىء حتى يحدث له منه ذكرًا والله أعلم أنه أراد أن يتأدب عليه فى تعليمه، ويأخذ عفوه فيه حتى ينبسط إلى الشرح والتفسير، ففى إخباره بتأويل ذلك دليل على أن أفعال الأنبياء وأقوالهم ينبغى أن تعرف معانيها ووجه ما صنعت له، والله الموافق للصواب. - باب من اسشْتَرَطَ فِى الْمُزَارَعَةِ إِذَا شىءتُ أَخْرَجْتُكَ / 15 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: لَمَّا فَدَعَ أَهْلُ خَيْبَرَ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ، قَامَ عُمَرُ خَطِيبًا، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَقَالَ: نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ، وَإِنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى مَالِهِ هُنَاكَ، فَعُدِىَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَفُدِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلاهُ، وَلَيْسَ لَنَا هُنَاكَ عَدُوٌّ غَيْرَهُمْ، هُمْ عَدُوُّنَا، وَتُهْمَتُنَا وَقَدْ رَأَيْتُ إِجْلاءَهُمْ، فَلَمَّا أَجْمَعَ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ، أَتَاهُ أَحَدُ بَنِى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 117 أَبِى الْحُقَيْقِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتُخْرِجُنَا، وَقَدْ أَقَرَّنَا مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم) ، وَعَامَلَنَا عَلَى الأمْوَالِ وَشَرَطَ ذَلِكَ لَنَا، فَقَالَ عُمَرُ: أَظَنَنْتَ أَنِّى نَسِيتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : كَيْفَ بِكَ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْ خَيْبَرَ، تَعْدُو بِكَ قَلُوصُكَ لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ؟ فَقَالَ: كَانَتْ هَذِهِ هُزَيْلَةً مِنْ أَبِى الْقَاسِمِ، قَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، فَأَجْلاهُمْ عُمَرُ، وَأَعْطَاهُمْ قِيمَةَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الثَّمَرِ مَالا وَإِبِلا وَعُرُوضًا مِنْ أَقْتَابٍ وَحِبَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وقد تقدم فى كتاب المزارعة فى باب: إذا قال رب الأرض أقرك ما أقرك الله. وهذا الحديث يدل أن عمر إنما أخرجهم لعداوتهم للمسلمين ونصبهم الغوائل لهم اقتداء بالنبى (صلى الله عليه وسلم) فى إجلائه بنى النضير، وأمره لهم ببيع أرضهم حين أرادوا الغدر برسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وأن يلقوا عليه حجرًا مع أنه بلغه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال عند موته: (لا يبقين دينان بأرض العرب) فرأى عمر إنفاذ وصية النبى (صلى الله عليه وسلم) عندما بدا منهم من فدعهم لابنه وخشى منهم أكثر من هذا. قال المهلب: وفيه دليل على أن العداوة توجب المطالبة بالجنايات كما طالبهم عمر بفدعهم ابنه ورجح ذلك بأن قال: ليس لنا عدو غيرهم، فعلق المطالبة بشاهد العداوة، فأخرجهم من الأرض على ما كان أوصى به النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وإنما ترك عمر مطالبة اليهود بالقصاص فى فدع ابنه؛ لأنه فدع ليلا وهو نائم، فلم يعرف ابن عمر أشخاص من فدعه، فأشكل الأمر كما أشكلت قصة عبد الله بن سهل حين وداه (صلى الله عليه وسلم) من عند نفسه. وفيه: أن أفعال النبى (صلى الله عليه وسلم) وأقواله محمولة على الحقيقة على وجهها، لا على الهزل حتى يقوم دليل المجاز والتعريض، وإنما أقر النبى (صلى الله عليه وسلم) يهود الجزء: 8 ¦ الصفحة: 118 خيبر على أن سلمهم فى أنفسهم ولا حق لهم فى الأرض، واستأجرهم على المساقاة ولهم شطر الثمرة، فلذلك أعطاهم عمر قيمة شطر الثمر من إبل وأقتاب وحبال يستقلون بها؛ إذ لم يكن لهم فى رقبة الأرض شىء. وقد استدل بعض الناس من هذا الحديث أن المزارع إذا كرهه رب الأرض بجناية بدت منه أن له أن يخرجه بعد أن يبتدئ فى العمل ويعطيه قيمة عمله ونصيبه، كما فعل عمر. وقال غيره: إنما يجوز إخراج المساقى والمزارع عند رءوس الأعوام وتمام الحصاد والجداد. - باب الشُّرُوطِ فِى الْجِهَادِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَكِتَابَةِ الشُّرُوطِ مع الناس بالقول / 16 - فيه: الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ، قَالا: (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِى خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةٌ، فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ، فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِى يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ، حَلْ، فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلأتِ الْقَصْوَاءُ، خَلأتِ الْقَصْوَاءُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : مَا خَلأتِ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لا يَسْأَلُونِى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا، ثُمَّ زَجَرَهَا، فَوَثَبَتْ، قَالَ: فَعَدَلَ عَنْهُمْ، حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا، فَلَمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 119 يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ، وَشُكِىَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْعَطَشُ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّىِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِىُّ فِى نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ، وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ، فَقَالَ: إِنِّى تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَىٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَىٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمَعَهُمُ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الْحَرْبُ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً، وَيُخَلُّوا بَيْنِى وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلا فَقَدْ جَمُّوا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لأقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِى هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِى، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ، فَقَالَ بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ، قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا، قَالَ: إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ، قَوْلا، فَإِنْ شىءتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ، وَقَالَ ذَوُو الرَّأْىِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ، يَقُولُ: قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: أَىْ قَوْمِ، أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَهَلْ تَتَّهِمُونِى، قَالُوا: لا، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّى اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَىَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِى وَوَلَدِى وَمَنْ أَطَاعَنِى؟ قَالُوا: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 120 بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ اقْبَلُوهَا وَدَعُونِى آتِيهِ، قَالُوا: ائْتِهِ، فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَىْ مُحَمَّدُ، أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ، وَإِنْ تَكُنِ الأخْرَى فَإِنِّى وَاللَّهِ لأرَى وُجُوهًا، وَإِنِّى لأرَى أَوْشَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: امْصُصْ بِبَظْرِ اللاتِ، أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟ فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ قَالُوا: أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: أَمَا وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوْلا يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِى لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لأجَبْتُكَ، قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ، وَقَالَ لَهُ: أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَقَالَ: أَىْ غُدَرُ، أَلَسْتُ أَسْعَى فِى غَدْرَتِكَ؟ وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : أَمَّا الإسْلامَ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِى شَيْءٍ، ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِعَيْنَيْهِ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نُخَامَةً إِلا وَقَعَتْ فِى كَفِّ رَجُلٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 121 مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ؛ تَعْظِيمًا لَهُ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَىْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِىِّ، وَاللَّهِ، إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلا وَقَعَتْ فِى كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ؛ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا، فَقَالَ رَجُلٌ، مِنْ بَنِى كِنَانَةَ: دَعُونِى آتِيهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : هَذَا فُلانٌ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ، فَابْعَثُوهَا لَهُ، فَبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِى لِهَؤُلاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، قَالَ: رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ: مِكْرَزُ ابْنُ حَفْصٍ، فَقَالَ: دَعُونِى آتِيهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : هَذَا مِكْرَزٌ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ؛ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو. وَقَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِى أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : قَدْ سَهُلَ لَكُمْ، مِنْ أَمْرِكُمْ. قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِىُّ فِى حَدِيثِهِ: فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا، فَدَعَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الْكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ، قَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ، فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا هُوَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لا نَكْتُبُهَا إِلا: بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : اكْتُبْ (بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ) ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ، وَلا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ (مُحَمَّدُ ابْنُ عَبْدِاللَّهِ) فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : وَاللَّهِ إِنِّى لَرَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِى، اكْتُبْ (مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ) . قَالَ الزُّهْرِىُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: لا يَسْأَلُونِى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 122 حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَنَطُوفَ بِهِ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ؟ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ؛ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِى قُيُودِهِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَىَّ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : فَأَجِزْهُ لِى، قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ، قَالَ: بَلَى، فَافْعَلْ، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، قَالَ مِكْرَزٌ: بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ، قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: أَىْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا؟ أَلا تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ؟ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِى اللَّهِ، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِىَّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا، قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ، وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِى، قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ، فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لا، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ، قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِىَّ اللَّهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 123 حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ، وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَيْسَ يَعْصِى رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ، وَمُطَّوِّفٌ بِهِ. قَالَ الزُّهْرِىُّ: قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالا، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لأصْحَابِهِ: قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِىَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ، اخْرُجْ ثُمَّ لا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ، قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ) [الممتحنة: 10] ، فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِى الشِّرْكِ فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ وَالأخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى الْمَدِينَةِ فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ، رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا فِى طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَقَالُوا: الْعَهْدَ الَّذِى جَعَلْتَ لَنَا، فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ، لأحَدِ الرَّجُلَيْنِ: وَاللَّهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 124 إِنِّى لأرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلانُ جَيِّدًا، فَاسْتَلَّهُ الْآخَرُ، فَقَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ، ثُمَّ جَرَّبْتُ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَرِنِى، أَنْظُرْ إِلَيْهِ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ وَفَرَّ الآخَرُ، حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : حِينَ رَآهُ لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِى، وَإِنِّى لَمَقْتُولٌ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ، فَقَالَ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ، قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ قَدْ رَدَدْتَنِى إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَنْجَانِى اللَّهُ مِنْهُمْ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ، قَالَ: وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ، فَلَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ، فَجَعَلَ لا يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلا لَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلا اعْتَرَضُوا لَهَا، فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ، لَمَّا أَرْسَلَ فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَأَرْسَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَيْهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) [الفتح: 24] إِلَى) الْجَاهِلِيَّةِ) [الفتح: 26] وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِىُّ اللَّهِ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِ (بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ) . فَأَخْبَرَتْنِى عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ، وَبَلَغْنَا أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرُدُّوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ مَا أَنْفَقُوا عَلَى مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، وَحَكَمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ لا يُمَسِّكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ، أَنَّ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَيْنِ: قَرِيبَةَ بِنْتَ أَبِى أُمَيَّةَ وَابْنَةَ جَرْوَلٍ الْخُزَاعِىِّ، فَتَزَوَّجَ قَرِيبَةَ مُعَاوِيَةُ، وَتَزَوَّجَ الأخْرَى أَبُو جَهْمٍ، فَلَمَّا أَبَى الْكُفَّارُ أَنْ يُقِرُّوا بِأَدَاءِ مَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ، أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ) [الممتحنة: 11] وَالْعَقْبُ: مَا يُؤَدِّى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 125 الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَنْ هَاجَرَتِ امْرَأَتُهُ مِنَ الْكُفَّارِ، فَأَمَرَ أَنْ يُعْطَى مَنْ ذَهَبَ لَهُ زَوْجٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَنْفَقَ مِنْ صَدَاقِ نِسَاءِ الْكُفَّارِ اللائِى هَاجَرْنَ، وَمَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ ارْتَدَّتْ بَعْدَ إِيمَانِهَا، وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا بَصِيرِ بْنَ أَسِيدٍ الثَّقَفِىَّ، قَدِمَ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا فِى الْمُدَّةِ، فَكَتَبَ الأخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْأَلُهُ أَبَا بَصِيرٍ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قال المؤلف: فى هذا الحديث من الفقه جواز صلح المشركين ومهادنتهم دون مال يؤخذ منهم إذا رأى لذلك الإمام وجهًا. وفيه: كتاب الشروط التى تنعقد بين المسلمين والمشركين والإشهاد عليها؛ ليكون ذلك شاهدًا على من رام نقض ذلك والرجوع فيه. قال المهلب: وفيه من الفقه: الاستتار عن طلائع المشركين ومفاجأتهم وطلب غرتهم إذا بلغتهم الدعوة. وفيه: جواز التنكيب على الطريق بالجيوش وإن كان فى ذلك مشقة. وفيه: بركة التيامن فى الأمور كلها. وقوله (صلى الله عليه وسلم) فى الناقة: (ما خلأت وما هو لها بخلق) فالخلأ فى النوق مثل الحران فى الخيل. وفيه: دليل على أن الأخلاق المعروفة من الحيوان كلها يحكم بها على الطارئ الشاذ منها، وكذلك فى الناس إذا نسب إنسان إلى غير خلقه المعلوم فى هفوة كانت منه لم يحكم بها. وفيه: أن ما عرض للسلطان وقواد الجيوش وجميع الناس مما هو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 126 خارج عن العادة يجب عليهم أن يتأملوه وينظروا شبهه فى قضاء الله فى الأمم الخالية فيتمثلوا صواب الخير فيه، ويعلموا أن ذلك مثل ضرب لهم ونبهوا عليه، كما امتثله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى أمر ناقته وبروكها بقصة الفيل؛ لأنها كانت إذا وجهت إلى مكة بركت وإذا صرفت عنها مشت، كما دار الفيل، وهذا خارج عن العادة، فعلم أن الله صرفها عن مكة كما صرف الفيل، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (والله لا يسألونى خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها) يريد بذلك موافقة الله فى تعظيم الحرمات؛ لأنه فهم عن الله إبلاغ الأعذار إلى أهل مكة فأبقى عليهم لما كان سبق لهم فى علمه أنهم سيدخلون فى دين الله أفواجًا. وفيه: علامات النبوة، وبركة النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وبركة السلاح المحمولة فى سبيل الله، ونبع الماء من السهم، فإنما قدم النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى مكة غير مستأمن مما كان بينه وبين أهل مكة من الحرب والمناصبة والعداوة ولا أخذ إذنهم فى ذلك؛ لأنه جرى على العادة من أن مكة غير ممنوعة من الحجاج والمعتمرين، فلما علم الله أنهم صادوه ومقاتلوه حبس الناقة عن مكة كما حبس الفيل تنبيهًا له على الإبقاء عليهم. وقوله: (إن شاء قريشًا قد نهكتهم الحرب) على وجه بذل النصيحة للقرابة التى كانت بينهم، فقال لهم: (إن شئتم ماددتكم) أى: صالحتكم مدة تستجمون فيها إن أردتم القتال وتدعونى مع الناس، يعنى: طوائف العرب فإن ظهرت عليهم دخلتم فيما دخلوا فيه، وإنما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 127 نصحهم النبى (صلى الله عليه وسلم) لما فهم عن الله فى حبس الناقة أنهم سيدخلون فى الإسلام، فأراد أن يجعل بينهم مدة يقلب الله فيها قلوبهم، وفى لين قول بديل وعروة لقريش دليل على أنهم كانوا أهل إصغاء إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) وميل إليه كما قال فى الحديث. وقول عروة للنبى: (أرأيت إن استأصلت قومك) دليل على أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يومئذ فى جمع يخاف منه عروة على أهل مكة الاستئصال لو قاتلهم. وخوف عروة إن دارت الدائرة فى الحرب عليه أن يفر عنه من تبعه من أخلاط الناس؛ لأن القبائل إذا كانت متميزة لم يفر بعضها عن بعض حتى إذا كانت أخلاطًا فر كل واحد ولم ير على نفسه عارًا، والقبيلة بأصلها ترى العار وتخافه، ولم يعلم عروة أن الذى عقده الله بين قلوب المؤمنين من محض الإيمان فوق ما تعتقده القرابات لقراباتهم؛ فلذلك قال له أبو بكر: (امصص بظر اللات) وهكذا يجب أن يجاوب من جفا على سروات الناس وأفاضلهم ورماهم بالفرار. وقوله: (لم أجزك بها) ، يدل على أن الأيادى تجب على أهل الوفاء مجازاتها والمعاوضة عليها. وقوله: (فكلما أخذ بلحيته) يعنى: على ما جرت به عادة العرب عند مخاطبتها لرؤسائها فإنهم يمسون لحاهم ويصافحونهم، يريدون التحبب إليهم والتبرك بتناولهم، وقد حكى عن بعض العجم أنهم يفعلون ذلك أيضًا، فلما أكثر عروة من فعله ذلك رأى المغيرة أن منزلة النبوة مباينة لمنازل الناس، وأنها لا تحتمل هذا العمل لما يلزم من توقير النبى (صلى الله عليه وسلم) وإجلاله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 128 وفيه من الفقه: أن من جالس إمامًا فرأى أحدًا جفا عليه أنه يلزمه تغيير ذلك ويصون الإمام عن الكلام فيه. وفيه: جواز قيام الناس على رأس الإمام بالسيوف إذا كان ذلك ترهيبًا للعدو ومخافة الغدر. وقوله: (ألست أسعى فى غدرتك) يريد أن عروة كان يصلح على قوم المغيرة ويمنع منهم أهل القتيل الذى قتله المغيرة؛ لأن أهل المغيرة بقوا بعده فى دار الكفر. وقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أما المال فلست منه فى شىء) يعنى: فى حل؛ لأنه علم أن أصله غصب، وأموال المشركين وإن كانت مغنومة عند القهر فلا يحل أخذها عند الأمن، وإذا كان الإنسان مصاحبًا لهم فقد أمن كل واحد منهم صاحبه، فسفك الدماء وأخذ المال عند ذلك غدر، والغدر بالكفار وغيرهم محظور. وتدلكهم بنخامته (صلى الله عليه وسلم) على وجه التبرك ورجاء نفعها فى أعضائهم. وفيه: طهارة النخامة بخلاف من جعلها تنجس الماء، وإنما أكثروا من ذلك بحضرة عدوه، وتزاحموه عليه؛ لأجل قوله: (إنى لأرى وجوهًا وأشوابًا من الناس خليقًا أن يفروا عنك ويدعوك) فأروه أنهم أشد اغتباطًا وتبركًا بأمره، وتثبتًا فى نصرته من القبائل التى تراعى الرحم بينهم. وأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بإقامة البدن للرجل من أجل علمه بتعظيمه لها؛ ليخبر بذلك قومه، فيخلوا بينه وبين البيت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 129 وفيه: التفاؤل من الاسم وغيره. وقول سهيل: (ما نعرف الرحمن) فإن العرب الله قد أخبر عنهم بذلك فى كتابه) قالوا وما الرحمن) [الفرقان: 60] وفى يمين المسلمين: (والله لا نكتب إلا بسم الله الرحمن الرحيم) فيه من الفقه أن أصحاب السلطان يجب عليهم مراعاة أمره وعونه وعزة البارى التى بها عز السلطان. وترك النبى (صلى الله عليه وسلم) إبرار قسمهم، وقد أمرنا بإبرار القسم، إنما هو مندوب إليه فيما يحسن ويجمل، وأما من حلف عليه فى أمر لا يحسن فى دين ولا مروءة فلا يجيب إليه كما لم يجب النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى ما حلف عليه أصحابه؛ لأنه كان يئول إلى انخرام المقاضاة والصلح مع أن ما دعا إليه سهيل لم يكن إلحادًا فى أسمائه تعالى، وكذلك ما أباه سهيل من كتابة محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليس فيه إلحاد فى الرسالة، فلذلك أجابه (صلى الله عليه وسلم) إلى ما دعاه إليه مع أنه لم يأنف سهيل من هذا، إلا أنه كان مساق العقد عن أهل مكة، وقد جاء فى بعض الطرق (هذا ما قاضى عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أهل مكة) فخشى أن ينعقد فى مقالهم الإقرار برسالته. وقوله فى هذا الحديث: (وعلى أنه لا يأتيك منا رجل) يدل أن المقاضاة إنما انعقدت على الرجال دون النساء، فليس فيه نسخ حكم النساء على هذه الرواية؛ لأن النساء لم يردهن كما رد الرجال من أجل أن الشرط إنما وقع برد الرجال خاصة ثم نزلت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 130 الآية فى أمر النساء حين هاجرن إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) مثبتة لما تقدم من حكم ذلك وقد تقدم هذا المعنى فى أول كتاب الشروط. وقول النبى (صلى الله عليه وسلم) لسهيل: (إنا لم نفض الكتاب بعد) أراد أن يخلص أبا جندل وقد كان تم الصلح بالكلام والعقد قبل أن يكتب. وفيه: أن من عاقد وصالح على شىء بالكلام ثم لم يوف له به أنه بالخيار فى النقض. وأما قول عمر وما قرر عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من أنهم على الحق (ولم نعطى الدنية فى ديننا) ، أى نرد من استجار بنا من المسلمين إلى المشركين فقال له: (إنى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ولست أعصيه) تنبيهًا لعمر أنى إنما أفعل هذا من أجل ما أطلعنى الله عليه بحبس الناقة عن أهل مكة مما فى غيبه لهم من الإبلاغ فى الإعذار إليهم، ولست أفعل ذلك برأى، إنما أفعله بوحى من الله لقوله: (ولست أعصيه) . وفيه: جواز المعارضة فى العلم حتى تتبين المعانى. وفيه: أن الكلام محمول على العموم حتى يقوم عليه دليل الخصوص ألا ترى أن عمر حمل كلامه (صلى الله عليه وسلم) على الخصوص لأنه طالبه بدخول البيت فى ذلك العام فأخبره (صلى الله عليه وسلم) أنه لم يعده به فى ذلك العام، بل وعده وعدًا مطلقًا فى الدهر حتى وقع، فدل أن الكلام محمول على العموم حتى يأتى دليل الخصوص. وفى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإنك آتيه) يدل أن من حلف على فعل ولم يوقت وقتًا أن وقته أيام حياته. قال ابن المنذر: فإن حلف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 131 بالطلاق ليفعلن كذا إلى وقت غير معلوم. فقالت طائفة: لا يطأها حتى يفعل الذى حلف عليه فأيهما مات لم يرثه صاحبه. هذا قول سعيد بن المسيب والحسن البصرى والشعبى والنخعى، وأبى عبيد. وقالت طائفة: إن مات ورثته، وله وطؤها. روى هذا عن عطاء، وقال يحيى بن سعيد: ترثه إن مات. وقال مالك: إن ماتت امرأته يرثها. وقال الثورى: إنما يقع الحنث بعد الموت، وبه قال أبو ثور. وقال أبو ثور أيضًا: إذا حلف ولم يوقت فهو على يمينه حتى يموت، ولا يقع حنث بعد الموت، فإذا مات لم يكن على شىء. قال ابن المنذر: وهذا نظر. وقالت طائفة: يضرب لهما أجل المؤلى أربعة أشهر. روى هذا عن القاسم وسالم، وهو قول ربيعة ومالك والأوزاعى. وقال أبو حنيفة: إن قال: أنت طالق ثلاثًا إن لم آت البصرة. فماتت امرأته قبل أن يأتى البصرة فله الميراث ولا يضره ألا يأتى البصرة بعد؛ لأن امرأته ماتت قبل أن يحنث، ولو مات قبلها حنث وكان لها الميراث؛ لأنه فارق، ولأن الطلاق إنما وقع عليها قبل أن يموت بقليل فلها الميراث، ولو قال: أنت طالق إن لم تأت البصرة أنت فماتت فليس له منها ميراث، وإن مات قبلها فلها الميراث ولا يضرها ألا تأتى البصرة. وفيه قول سادس حكاه أبو عبيد عن بعض أهل النظر قال: إن أخذ الحالف فى التأهب لما حلف عليه والسعى فيه حين تكلم باليمين حتى يكون متصلا بالبر وإلا فهو حانث عند ترك ذلك. قال ابن المنذر: فى هذا الحديث دليل أنه من لم يحد ليمينه أجلا أنه على يمينه ولا يحنث إن وقف عن الفعل الذى حلف يفعله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 132 قال المهلب: وقول عمر: (فعملت لذلك أعمالا) يعنى أنه كان يحض الناس على ألا يعطوا الدنية فى دينهم بإجابة سهيل إلى رد أبى جندل إليهم، يدل على ذلك إتيانه أبا بكر وقوله له مثل ذلك. وفيه: فضل علم أبى بكر الصديق وجودة ذهنه، وحسن قريحته، وقوة نفسه؛ لأنه أجاب عمر بمثل ما أجابه به النبى (صلى الله عليه وسلم) حرفًا حرفًا. وأما توقف أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) عن النحر والحلق فلمخالفتهم العادة التى كانوا عليها ألا ينحر أحد حتى يبلغ الهدى محله، ولا يحلق إلا بعد الطواف والسعى، حتى شاور النبى (صلى الله عليه وسلم) أم سلمة فأراه الله بركة المشورة، ففعل ما قالت، فاقتدى به أصحابه، وكذلك لو فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى حجة الوداع ما أمر به أصحابه من الحلاق والحل ما اختلف عليه اثنان، ففى هذه من الفقه أن الفعل أقوى من القول. وفيه: جواز مشاورة النساء ذوات الفضل والرأى. وأما إسلام النبى (صلى الله عليه وسلم) لأبى بصير وأصحابه إلى رسل مكة فهو على ما انعقد فى الرجال، وأما قتل أبى بصير لأحد الرسل بعد أن أسلمه إليهم النبى (صلى الله عليه وسلم) فليس على النبى (صلى الله عليه وسلم) حراسة المشركين ممن يدفعه إليهم، ولا عليه القود ممن قتل فى الله وجاهد؛ لأن هذا لم يكن من شرطه، ولا طالب أولياء القتيل النبى (صلى الله عليه وسلم) بالقود من أبى بصير. وقول أبى بصير للنبى: (قد أوفى الله ذمتك) يعنى: أنك قد رددتنى إليهم كما شرطت لهم، فلا تردنى الثانية، فلم يرض النبى (صلى الله عليه وسلم) إلا بما لا شك فيه من الوفاء، فسكت عنه النبى (صلى الله عليه وسلم) ونبهه على ما ينجو به من كفار قريش بتعريض عرض له به وذلك قوله: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 133 (لو كان له أحد) يعنى: من ينصره ويمنعه، ففهمها أبو بصير، وخرج إلى سيف البحر، وجعل يطلب غرة أهل مكة، وآذاهم حتى لحق به أبو جندل وجماعة، فرضى المشركون بحل هذا الشرط وأن يكفيهم النبى (صلى الله عليه وسلم) نكايته، ويكف عنهم عاديته. وأما قوله: (ما كانوا يؤدونه إلى المشركين عوضًا مما أنفقوا على أزواجهم المهاجرات فى ذلك الصلح) فهو منسوخ عن الشعبى وعطاء ومجاهد. ذكر ما فى هذا الحديث من غريب اللغة: قوله: (فإذا هم بقترة الجيش) قال صاحب العين: القترة والقتر: الغبار. وقولهم للناقة: (حل حل) يقال: حلحلت الإبل: إذا قلت لها: حل حل. زجرتها بذلك. والخلأ فى الإبل كالحران فى الخيل، وقد تقدم. والقصواء: اسم ناقة النبى (صلى الله عليه وسلم) . والثمد: الماء القليل. عن صاحب العين والتبرض: جمع الماء باليدين. قال صاحب العين: ماء برض: قليل. وتبرض الماء: جمع البرض منه ونزحه. يقال: نزحت البئر: نقص ماؤها. وبئر نزوح: قليلة الماء. عن صاحب العين. وقوله: (أعداد مياة الحديبية) جمع عد، والعد مجتمع الماء. والعوذ: النوق الحديثات العهد بالنتاج، واحدتها عائذ. و (المطافيل) التى معها أولادها. وماددتهم: جعلت بينى وبينهم مدة للصلح. وقوله: (جمعوا) يعنى: استراحوا وقووا. يقال: جم الفرس وأجم، إذا ترك ولم يركب ولم يتعب. وقوله: (حتى تنفرد سالفتى) أى: حتى أنفرد فى قتالهم وحدى. وقولهم: (بلحوا) قال صاحب العين: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 134 يقال أبلح البعير والدابة بلوحًا: إذا أعيا، وبلح الغريم: أفلس و (الأشواب) : الأخلاط من الناس. وقوله: (يرسف فى قيوده) والرسف: مشية المقيد. والحجل مثله. من كتاب العين. ويروى: يجلجل فى قيوده. وقد تقدم فى باب الصلح مع المشركين فى كتاب الصلح. وأما قوله: (ويل أمه مسعر حرب) فإعرابه ويل أمه من مسعر حرب فانتصب على التمييز. وقالت الخنساء: ويلمه مسعر حرب إذا التقى فيها وعليه السليل وقال جماعة من أهل اللغة: والمعنى أن الخنساء لم ترد الدعاء بإيقاع الهلكة عليها لكنها أرادت ما من عادة العرب استعماله من نقلها الألفاظ الموضوعة فى بابها إلى غيره، ومرادها بقولها هذا المدح لأمها وأخيها لولادتها مثل أخيها فى بسالته وشجاعته دون الدعاء عليها بالويل الذى معناه الهلكة، كما يقال: انج ثكلتك أمك وتربت يدالك، من غير إرادة مقتضى هاتين اللفظتين بالمخاطب. وقوله: (استمسك بغرزه) قال ثابت: أى تمسك به واتبعه. والغرز لقتب البعير مثل ركاب السرج للدابة. - باب الشُّرُوطِ فِى الْقَرْضِ / 17 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النبى (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلا سَأَلَ بَعْضَ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَعَطَاءٌ: إِذَا أَجَّلَهُ فِى الْقَرْضِ جَازَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 135 وهذا خلاف قول أبى حنيفة فإنه يقول: إذا كان القرض إلى أجل أو غير أجل فله أن يأخذه متى أحب وكذلك العارية، ولا يلزم عنده تأخير القرض البتة. وبنحوه قال الشافعى، ويخالفهم مالك، وقد تقدم هذا مبنيًا لأقوال العلماء فى كتاب الاستقراض والديون فأغنى عن إعادته، والحمد لله. - باب مَا يَجُوزُ مِنَ الاشْتِرَاطِ وَالثُّنْيَا فِى الإقْرَارِ وَالشُّرُوطِ الَّتِى يَتَعَارَفُهَا النَّاسُ بَيْنَهُمْ وَإِذَا قَالَ: مِائَةٌ إِلا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ رَجُلٌ لِكَرِيِّهِ: أَرْحِلْ رِكَابَكَ، فَإِنْ لَمْ أَرْحَلْ مَعَكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَلَكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَلَمْ يَخْرُجْ فَقَالَ شُرَيْحٌ مَنْ شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ شَرْطًا غَيْرَ مُكْرَهٍ فَهُوَ عَلَيْهِ وَقَالَ أَيُّوبُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ إِنَّ رَجُلا بَاعَ طَعَامًا وَقَالَ إِنْ لَمْ آتِكَ الأرْبِعَاءَ فَلَيْسَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ بَيْعٌ فَلَمْ يَجِئْ فَقَالَ شُرَيْحٌ لِلْمُشْتَرِى أَنْتَ أَخْلَفْتَ فَقَضَى عَلَيْهِ. / 18 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) . الاستثناء على ضربين: استثناء القليل من الكثير، وهذا ما لا خلاف فى جوازه بين أهل الفقه واللغة: والضرب الثانى: استثناء الكثير من القليل وهو جائز عند أصحاب مالك والكوفيين والشافعى وغيرهم من الفقهاء، وهو مذهب اللغويين من أهل الكوفة وأنشد الفراء فى ذلك: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 136 أدوا التى نقضت تسعين من مائة ثم ابعثوا حكمًا بالعدل حكامًا فاستثنى تسعين من مائة، فكذا إذا أقر الرجل فقال: لفلان عندى ألف إلا تسعمائة وخمسين لزمه خمسون. أو قال: له عندى مائة إلا تسعين. فهو جائز على ما أنشد الفراء، واحتج له ابن القصار فقال: حجة من أجازه أن حقيقة الاستثناء هو إخراج بعض ما اشتمل عليه اللفظ؛ فإن جميع ما يقتضيه اللفظ ليس بمراد، فإذا كان الاستثناء هذا معناه فقد يكون المراد إخراج الأول، وقد يكون إخراج الأكثر، فإذا جاز إخراج الأقل جاز إخراج الأكثر. وقال عبد الملك بن الماجشون: لا يجوز استثناء الكثير من القليل. وحكى أنه مذهب البصريين من أهل اللغة. وإلى هذا ذهب البخارى فى هذا الباب، ولذلك أدخل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدة) فاستثنى القليل من الكثير. واحتج ابن قتيبة لذلك فقال: لا يجوز عندى فى اللغة استثناء الكثير من القليل؛ لأن تأسيس الاستثناء على تدارك قليل من كثير كأنك أغفلته أو نسيته لقلته، ثم تداركت بالاستثناء، ولأن الشىء قد ينقص نقصانًا يسيرًا فلا يزول عنه اسم الشىء بنقصان القليل، فإذا نقص أكثره زال عنه الاسم، ألا ترى أنك لو قلت: صمت هذا الشهر إلا تسعة وعشرين يومًا. أحال لأنه صام يومًا، واليوم لا يسمى شهرًا، ومما يزيد فى وضوح هذا أنه يجوز لك أن تقول: صمت الشهر كله إلا يومًا واحدًا. فتؤكد الشهر وتستقصى عدده بكل ولا يجوز: صمت الشهر كله إلا تسعة وعشرين يومًا. وتقول: لقيت القوم جميعًا إلا واحدًا أو اثنين. ولا تقول: القوم جميعًا إلا أكثرهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 137 وأما قول ابن سيرين فيمن قال لكريه: (أرحل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم) فيفسر ذلك أن المكارين لإبلهم فى الأمصار يخرجون الإبل إلى المسارح الخصبة البعيدة، ويبقون فى الأمصار يعقدون الكرى مع الناس ويتعدون على الرحيل يوم كذا، فربما استجلبوا الإبل ذلك اليوم، فيقول التجار: لم يتهيأ لنا الخروج اليوم فيشق على الحمالين علف إبلهم فيقول التجار: إن لم أرحل معك يوم كذا فلك كذا تعلف به إبلك. فهذا شرط لا يجوز فى السنة عند أكثر العلماء، وإنما قضى بذلك شريح؛ لأنه من طريق العدة والتطوع، ومن تطوع بشىء استحب له إنجازه وإنفاذه، إلا أن جمهور الفقهاء لا يقضون بوجوب العدة، وإنما يستحبون الوفاء بها. وأما قول الذى ابتاع الطعام: (إن لم آتك يوم الأربعاء فلا بيع بينى وبينك) فذهب شريح إلى أنه إن لم يأت للأجل فلا بيع بينهما، فإن العلماء اختلفوا فى جوازه، فقال ابن الماجشون: البيع والشرط جميعًا جائزان وحمله محمل بيع الخيار إلى وقت مسمى، فإذا جاز الوقت فلا خيار له ويبطل البيع، ومصيبه قبل ذلك من البائع، كان ذلك بيده أو بيد المبتاع على سنة بيع الخيار، وممن أجاز البيع والشرط فى هذه المسألة: الثورى وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة: إن كان الأجل ثلاثة أيام فالبيع جائز. وقال محمد بن الحسن: يجوز الأجل أربعة أيام وعشرة أيام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 138 وقال مالك فى المدونة: من باع سلعة وشرط إن لم ينقده المشترى إلى أجل فلا بيع بينهما، فهذا بيع مكروه، فإن وقع ثبت البيع وبطل الشرط، ومصيبة السلعة من البائع حتى يقبضها المشترى. ووقع فى بعض النسخ باب ما لا يجوز من الاشتراط والثنيا وهو خطأ، والصواب ما يجوز بإسقاط (لا) وكذلك فى نسخة النسفى وفى رواية أبى ذر أيضًا. وحديث أبى هريرة الذى أدخله البخارى فى هذا الباب يدل على صحة رواية النسفى وأبى ذر، والله الموفق للصواب. - باب الشُّرُوطِ فِى الْوَقْفِ / 19 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِى مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شَئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا، قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، أَنَّهُ لا يُبَاعُ، وَلا يُوهَبُ، وَلا يُورَثُ، وَتَصَدَّقَ بِهَا فِى الْفُقَرَاءِ، وَفِى الْقُرْبَى، وَفِى الرِّقَابِ، وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ، لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَيُطْعِمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ ابْنَ سِيرِينَ، فَقَالَ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالا. للواقف أن يشترط فى وقفه ما شاء إذا أخرجه من يده إلى متولى النظر فيه، فيجعله فى صنف واحد أو أصناف مختلفة، إن شاء فى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 139 الأغنياء أو فى الفقراء، وإن شاء فى الأقارب أو الأباعد، وإن شاء فى إناث بيته دون الذكور، أو الذكور دون الإناث، وإن كان يستحب له التسوية بين بنيه لقوله: فتصدق بها عمر فى الفقراء وفى القربى وسائر من ذكر، فدل ذلك إلى اختيار المحبس يضعه حيث شرط. قال المهلب: وإنما تصدق عمر لأنفس ماله؛ لقوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) [آل عمران: 92] فشاور النبى (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك فأشار عليه بتحبيس أصله، والصدقة بثمرته. وهذا الحديث أصل فى تحبيس رقاب الأرض. قال الطبرى: وكل ما كان نظير الأرض التى حبسها عمر مما يحد بوصف ويوصف بصفة، وله منافع تدرك بالعمارة، والإصلاح ففى حكمها فى جواز تحبيسه، وذلك كالدابة تحبس فى سبيل الله إذا كان ممكنًا صفتها بصفة بيان لها من سائر أملاك المتصدق، ومنفعة تدرك منها لا يبطلها الانتفاع بها كالركوب، والعبد يحبس كذلك وسائر الحيوان والمواشى والرقيق والسلاح يحبس فى سبيل الله وأجزاء القرآن وما أشبه ذلك، وبمثل ذلك عملت الأئمة الراشدون والسلف الصالحون، وسأذكر من خالف ذلك وأرد قوله بأقوال العلماء فى باب الوقف وكيف يكتب بعد هذا إن شاء الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 140 55 - كِتَاب الْوَصَايَا - باب الْوَصَايَا وَقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : وَصِيَّةُ الرَّجُلِ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) [البقرة: 180] الآية. / 1 - فيه: ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِى فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ. / 2 - وفيه: عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ خَتَنِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَخِى جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، قَالَ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا وَلا دِينَارًا، وَلا عَبْدًا وَلا أَمَةً، وَلا شَيْئًا إِلا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ، وَسِلاحَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً) . / 3 - وفيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ أَبِى أَوْفَى قيل له: هَلْ كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَوْصَى؟ قَالَ: لا، فَقُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَ عَلَى النَّاسِ الْوَصِيَّةُ أَوْ أُمِرُوا بِالْوَصِيَّةِ؟ قَالَ: أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ. / 4 - وفيه: عَائِشَةَ ذكر عندها أَنَّ عَلِيًّا كَانَ وَصِيًّا، قَالَتْ: مَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ؟ وَقَدْ كُنْتُ مُسْنِدَتَهُ إِلَى صَدْرِى، فَدَعَا بِالطَّسْتِ، وَلَقَدِ انْخَنَثَ فِى حَجْرِى، فَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَمَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ. قال المهلب: فى حديث ابن عمر الحض على الوصية خشية فجأة الموت للإنسان على غير عدة. قال المهلب: واختلف العلماء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 141 فى وجوب الوصية على من خلّف مالا فقالت طائفة: الوصية واجبة على ظاهر الآية. قال الزهرى: جعل الله الوصية حقا مما قل أو كثر. قيل لأبى مجلز: على كل مثر وصية؟ قال: كل من ترك خيرًا. وقالت طائفة: ليست الوصية واجبة كان الموصى موسرًا أو فقيرًا. هذا قول النخعى والشعبى، وهو قول مالك والثورى والشافعى. قال الشافعى: قوله: (ما حق امرئ مسلم) يحتمل ما الجزم، ويحتمل ما المعروف فى الأخلاق إلا هذا من جهة الفرض. وقال أبو ثور: ليست الوصية واجبة إلا على رجل عليه دين أو عنده مال قوم؛ فواجب عليه أن يكتب وصيته ويخبر بما عليه؛ لأن الله فرض أداء الأمانات إلى أهلها، فمن لا حق عليه ولا أمانة قبله؛ فليس عليه أن يوصى، والدليل على صحة هذا قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما حق امرئ مسلم) فأضاف الحق إليه كقوله: هذا حق زيد. فلا ينبغى أن يتركه، فإذا تركه لم يلزمه. وقد روى أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (ما حق امرئ يريد الوصية) فعلق ذلك بإرادة الموصى، ولو كانت واجبة لم يعلقها بإرادته، ومما يدل على ذلك أيضًا أن ابن عمر روى الحديث عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ولم يوص، ومحال أن يخالف ما رواه لو كان واجبًا، ولكنه عقل منه الاستحباب، وروى عن ابن عباس وابن عمر أن قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت) [البقرة: 180] نسختها آية المواريث وهو قول مالك والشافعى وجماعة. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (يبيت ليلتين إلا ووصيته كتوبة عنده) فيه من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 142 الفقه أن الوصية نافذة، وإن كانت عند صاحبها ولم يجعلها عند غيره وكذلك إن جعلها غيره وارتجعها. فإن قيل: إن حديث ابن أبى أوفى وعائشة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يوص. قال المهلب: فالجواب: أن قول ابن أبى أوفى لم يوص إنما يريد الوصية التى زعم بعض الشيعة أنه أوصى بالأمر إلى على، وقد تبرأ على من ذلك حين قيل له: أعهد إليك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بشىء لم يعهده إلى الناس؟ فقال: لا والذى فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا كتاب الله وما فى هذه الصحيفة. وأما أرضه وسلاحه وبغلته فلم يوص فيها على جهة ما يوصى الناس فى أموالهم؛ لأنه قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا نورث ما تركنا صدقة) فرفع الميراث عن أزواجه وأقاربه وإنما تجوز الوصية لمن يجوز لأهله وراثته. قال ابن المنذر: ووصيته بكتاب الله غير معنى قول عائشة: (ولا أوصى بشىء) قال المهلب: (أوصى بكتاب الله) قد فسره على بقوله: (ما عندنا إلا كتاب الله) وكذلك قال عمر: حسبنا كتاب الله. حين أراد أن يعهد عند موته، وذكر النخعى أن طلحة والزبير كانا يشددان فى الوصية فقال: ما كان عليهما ألا يفعلا، توفى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فما أوصى، وأوصى أبو بكر، فإن أوصى فحسن وإن لم يوص فلا بأس. قال صاحب العين: انخنث السقاء وخنث: إذا مال، وخنثته أنا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 143 - باب الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ وَأَنْ يَتْرُكَ وَرَثَتَهُ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتْرُكَهُمْ يَتَكَفَّفُون النَّاسَ / 5 - فيه: سَعْدِ: جَاءَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَعُودُنِى، وَأَنَا بِمَكَّةَ، وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالأرْضِ الَّتِى هَاجَرَ مِنْهَا، قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ عَفْرَاءَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوصِى بِمَالِى كُلِّهِ؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: فَالشَّطْرُ؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: الثُّلُثُ، قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً، يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِى أَيْدِيهِمْ، وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ حَتَّى اللُّقْمَةُ تَرْفَعُهَا إِلَى فِى امْرَأَتِكَ، وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَكَ، فَيَنْتَفِعَ بِكَ نَاسٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَئِذٍ إِلا ابْنَةٌ) . ذكر الله الوصية فى كتابه ذكرًا مجملا، ثم بين النبى (صلى الله عليه وسلم) أن الوصايا مقصورة على ثلث مال الميت؛ لإطلاقه (صلى الله عليه وسلم) لسعد الوصية بالثلث فى هذا الحديث، وأجمع العلماء على القول به واختلفوا فى القدر الذى يستحب أن يوصى به الميت، وسيأتى بعد هذا، إلا أن الأفضل لمن له ورثة أن يقصر فى وصيته عن الثلث غنيا كان أو فقيرًا؛ لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما قال لسعد: (الثلث كثير) أتبع ذلك بقوله: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس) ولم يكن لسعد إلا ابنة واحدة كما ذكر فى هذا الحديث، فدل هذا أن ترك المال للورثة خير من الصدقة به وأن النفقة على الأهل من الأعمال الصالحة، وروى ابن أبى شيبة من حديث ابن أبى مليكة، عن عائشة قال لها رجل: إنى أريد أن أوصى. قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف. قالت: فكم عيالك؟ قال: أربعة. قالت: إن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 144 الله يقول: (إن ترك خيرًا) [البقرة: 180] وإن هذا شىء يسير فدعه لعيالك فإنه أفضل. وروى حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه ذكر له الوصية فى مرضه فقال: أما مالى فالله أعلم ما كنت أعمل فيه، وأما رباعى فلا أحب أن يشارك فيها ولدى أحد. وعن على بن أبى طالب أنه دخل على رجل من بنى هاشم يعوده، وله ثمانمائة درهم وهو يريد أن يوصى، فقال له: يقول الله: (إن ترك خيرًا) [البقرة: 180] ، ولم تدع خيرًا توصى به. وعن ابن عباس: من ترك سبعمائة درهم فلا يوص، فإنه لم يترك خيرًا. وقال قتادة فى قوله: (إن ترك خيرًا) [البقرة: 180] : ألف درهم فما فوقها. قال ابن المنذر: فدلت هذه الآثار على أن من ترك مالا قليلا، فالاختيار له ترك الوصية وإبقاؤه للورثة. وقوله: (عسى الله أن يرفعك فينتفع بك ناس، ويضر بك آخرون) فهذا قد خرج كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، ثبت أن سعدًا أمر على العراق فأتى بقوم ارتدوا عن الإسلام، فاستتابهم فأبى بعضهم فقتلهم، فضر أولئك، وتاب بعضهم فانتفعوا به، وعاش سعد بعد حجة الوداع خمسًا وأربعين سنة. وقال الطحاوى: فى حديث سعد جواز الوصية بالثلث، ولو كان جورًا لأنكر ذلك (صلى الله عليه وسلم) وأمره بالتقصير عنه، ثم تكلم الناس بعد هذا فى هبات المريض وصدقاته إذا مات من مرضه، فقال قوم، وهم أكثر العلماء: هى من الثلث كسائر الوصايا. واتفق على ذلك فقهاء الحجاز والعراق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 145 وقالت فرقة: هى من جميع المال كأفعاله وهو صحيح. وهذا القول لم نعلم أحدًا من المتقدمين قاله، وأظنه قول أهل الظاهر إذا قبضت هبة المريض وعطاياه فهى فى رأس ماله؛ لأن ما قبض قبل الموت ليس بوصية، وإنما الوصية ما يستحق بموت الموصى، وسواء قبضت عند جماعة الفقهاء أو لم تقبض؛ هى من الثلث. قال الطحاوى: وحديث عائشة أن أباها نحلها جداد عشرين وسقًا بالغابة فلما مرض قال: لو كنت حزتيه لكان لك، وإنما هو اليوم مال وإرث. فأخبر الصديق أنها لو كانت قبضته فى الصحة تم لها ملكه، وأنها لا تستطيع قبضه فى المرض قبضًا يتم لها ملكه، وفعل ذلك غير جائز كما لا تجوز الوصية لها به، ولم تنكر ذلك عائشة على أبى بكر ولا سائر الصحابة، فدل أن مذهبهم جميعًا كان فيه مثل مذهبه، وفى هذا أعظم الحجة على من خالف قول جماعة العلماء. وكذلك فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الذى أعتق ستة أعبد له عند الموت لا مال له غيرهم، فأقرع النبى (صلى الله عليه وسلم) بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة، فجعل العتاق فى المرض من الثلث، فكذلك الهبات والصدقات؛ لأنها كلها سواء فى تفويت المال. وقوله: (خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس) والعالة: جمع عائل: وهو الفقير الذى لا شىء له، ومنه قوله: (ووجدك عائلا فأغنى) [الضحى: 8] ويتكففون الناس: يبسطون أكفهم لمسألتهم. قال صاحب العين: استكف السائل: بسط كفه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 146 3 - باب الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ وَقَالَ الْحَسَنُ: لا يَجُوزُ لِلذِّمِّىِّ وَصِيَّةٌ إِلا بِالثُّلُثَ، وَقَالَ تَعَالَى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) [المائدة: 49] . / 6 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: (لَوْ غَضَّ النَّاسُ إِلَى الرُّبْعِ؛ لأنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، أَوْ كَبِيرٌ) . / 7 - وفيه: سَعْدٍ: مَرِضْتُ، فَعَادَنِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ لا يَرُدَّنِى عَلَى عَقِبِى، قَالَ: لَعَلَّ اللَّهَ يَرْفَعُكَ، وَيَنْفَعُ بِكَ نَاسًا، قُلْتُ: أُرِيدُ أَنْ أُوصِىَ، وَإِنَّمَا لِى ابْنَةٌ، قُلْتُ: أُوصِى بِالنِّصْفِ؟ قَالَ: النِّصْفُ كَثِيرٌ، قُلْتُ: فَالثُّلُثِ؟ قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، أَوْ كَبِيرٌ، قَالَ: فَأَوْصَى النَّاسُ بِالثُّلُثِ، وَجَازَ ذَلِكَ لَهُمْ. أجمع العلماء على أن الوصية بالثلث جائزة، وأوصى الزبير بالثلث، واختلف العلماء فى القدر الذى تستحب الوصية به، فروى عن أبى بكر أنه أوصى بالخمس، وقال: إن الله تعالى رضى من غنائم المسلمين بالخمس. وقال معمر، عن قتادة: أوصى عمر بالربع. وذكره البخارى عن ابن عباس. وروى عن على بن أبى طالب أنه قال: لأن أوصى بالخمس أحب إلىّ من الربع، ولأن أوصى بالربع أحب إلىّ من الثلث. واختار آخرون السدس قال إبراهيم: كانوا يكرهون أن يوصوا بمثل نصيب أحد الورثة حتى يكون أقل، وكان السدس أحب إليهم من الثلث. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 147 واختار آخرون العشر، روى آدم بن أبى إياس قال: حدثنا رقاء، عن عطاء بن السائب، عن أبى عبد الرحمن السلمى، قال: حدثنا سعد بن أبى وقاص (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دخل عليه فى مرضه يعوده فقال له: أوص. قال: قد أوصيت يا رسول الله بمالى كله فى سبيل الله وفى الرقاب والمساكين. قال: فما تركت لولدك؟ قال: هم أغنياء بخير. قال: أوص بعشر مالك قال: فلم يزل يناقصنى وأناقصه حتى قال: أوص بالثلث، والثلث كثير) فجرت سنة يأخذ بها الناس إلى اليوم، وقال أبو عبد الرحمن: فمن نقص من الثلث لقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : والثلث كثير. واختار آخرون ولمن كان ماله قليلا وله وارث ترك الوصية. روى ذلك عن على بن أبى طالب وابن عباس وعائشة على ما تقدم فى الحديث قبل هذا. وقال رجل للربيع بن خثيم: أوص لى بمصحفك. فنظر إليه ابنه وقرأ: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله) [الأنفال: 75] . وأجمع الفقهاء أنه لا يجوز لأحد أن يوصى بأكثر من الثلث إلا أبا حنيفة وأصحابه فقالوا: إن لم يترك الموصى ورثة جاز له أن يوصى بماله كله، وقالوا: إن الاقتصار على الثلث فى الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء، ومن لا وارث له فليس ممن عنى بالحديث. وروى هذا القول عن ابن مسعود، وبه قال عبيدة ومسروق وإليه ذهب إسحاق بن راهويه. وقال زيد بن ثابت: لا يجوز لأحد أن يوصى بأكثر من ثلثه وإن لم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 148 يكن له وارث. وهو قول مالك والأوزاعى والحسن بن حى والشافعى، واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الثلث كثير) وبما رواه آدم ابن أبى إياس حدثنا عقبة بن الأصم، حدثنا عطاء بن أبى رباح، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله جعل لكم ثلث أموالكم عند الموت زيادة فى أعمالكم) وروى أبو اليمان حدثنا أبو بكر بن أبى مريم، عن ضمرة بن حبيب، عن أبى الدرداء، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم) ولم يخص من كان له وارث أو غيره. وفى المسألة قول شاذ آخر، وهو جواز الوصية بالمال كله، وإن كان له وارث. روى الوليد بن مسلم، عن الأوزاعى، قال: أخبرنى هارون بن رئاب، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال عمرو بن العاص حين حضرته الوفاة: إنى قد أردت الوصية فقلت له: أوص فى مالك ومالى. فدعا كاتبًا فأملى عليه قال عبد الله: حتى قلت: ما أراك إلا قد أتيت على مالك ومالى فلو دعوت إخوتى فاستحللتهم. وعلى هذا القول وقول أبى حنيفة رد البخارى فى هذا الباب، ولذلك صدر بقول الحسن: لا تجوز وصية إلا بالثلث. واحتج بقوله: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) [المائدة: 49] وحكم النبى (صلى الله عليه وسلم) أن الثلث كثير هو الحكم بما أنزل الله، فمن تجاوز ما حد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وزاد على الثلث فى وصيته فقد أتى ما نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عنه، وكان بفعله ذلك عاصيًا إذا كان بحكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عالمًا. قال الشافعى: وقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (الثلث كثير) يريد أنه غير قليل وهذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 149 أولى معانيه، ولو كرهه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لقال له: غض منه. وقاله الطحاوى. وفى قول سعد: (ولا يرثنى إلا ابنة لى) إبطال قول من يقول بالرد على الابنة؛ لأن الابنة لا تحيط بالميراث وقد كان لسعد عصبة يرثونه. 4 - باب قَوْلِ الْمَرِيض لِوَصِيِّهِ: تَعَاهَدْ وَلَدِى وَمَا يَجُوزُ لِلْوَصِىِّ إِلَيْهِ مِنَ الدَّعْوَى / 8 - فيه: عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: (كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّى، فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ، فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: ابْنُ أَخِى، قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ، فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِى وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِى، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ أَخِى، كَانَ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ، فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِى وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ. . الحديث لا يجوز عند أحد من أهل العلم دعوى أحد لغيره؛ لحى أو ميت إلا بوصية تثبت أو وكالة، فإذا ثبت ذلك كلف حينئذ ما تكلف المدعى لنفسه إذا ادعى ولا بينة له. وفيه: ادعاء أخى الميت، وفى ذلك ثبوت حق للأب ولا يستحلق عند جمهور العلماء إلا الأب، وقد تقدم فى باب أم الولد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 150 5 - باب إِذَا أَوْمَأَ الْمَرِيضُ بِرَأْسِهِ إِشَارَةً بَيِّنَةً جَازَتْ / 9 - فيه: أَنَسٍ أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِكِ أَفُلانٌ، أَوْ فُلانٌ حَتَّى سُمِّىَ الْيَهُودِىُّ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَجِىءَ بِهِ، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى اعْتَرَفَ، فَأَمَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ. اختلف العلماء: فى إشارة المريض فذهب مالك والليث والشافعى إلى أنه إذا ثبتت إشارة المريض على ما يعرف من حضره جازت وصيته. وقال أبو حنيفة والثورى والأوزاعى أنه إذا سئل المريض عن الشىء فأومأ برأسه أو بيده فليس بشىء حتى يتكلم. قال أبو حنيفة: وإنما تجوز إشارة الأخرس أو من مرت عليه سنة لا يتكلم، وأما من اعتقل لسانه ولم يدم به ذلك. فلا تجوز إشارته. واحتج الطحاوى عليه بحديث أنس أن النبى (صلى الله عليه وسلم) رض رأس اليهودى بين حجرين بإشارة المرضوضة. قال الطحاوى: فجعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إشارته بمنزلة دعواها ذلك بلسانها من غير اعتبار دوام ذلك عليها مدة من الزمان، فدل على أن من اعتقل لسانه فهو بمنزلة الأخرس فى جواز إقراره بالإيماء والإشارة، وقد ثبت أن النبى (صلى الله عليه وسلم) صلى وهو قاعد فأشار إليهم فقعدوا. واحتج الشافعى بأنه قد أصمت أمامة بنت أبى العاص فقيل لها: لفلان كذا ولفلان كذا؟ فأشارت أى نعم. فنفذت وصيتها. قال المهلب: وأصل الإشارة فى كتاب الله فى قصة مريم: (فأشارت إليه) [مريم: 29] يعنى سلوه. وقوله تعالى: (ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا) [آل عمران: 41] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 151 6 - باب لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ (1) / 10 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلأبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ، وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ، وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ. أجمع العلماء على أن الوصية للوارث لا تجوز. قال ابن المنذر: وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) مثل ما اتفق عليه من ذلك، حدثنا محمد بن على، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا شرحبيل ابن مسلم الخولانى قال: سمعت أبا أمامة الباهلى يقول: (خطبنا النبى (صلى الله عليه وسلم) فى حجة الوداع فقال: إن الله قد أعطى كل ذى حق حقه، فلا وصية لوارث. .) وذكر الحديث. وروى قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم عن عمرو بن خارجة (سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) فى خطبته. .) بمثله. قال ابن المنذر: واختلفوا إذا أوصى لبعض ورثته فأجازه بعضهم فى حياته ثم بدا لهم بعد وفاته. فقالت طائفة: ذلك جائز عليهم، وليس لهم الرجوع فيه. هذا قول عطاء والحسن وابن أبى ليلى والزهرى وربيعة والأوزاعى. وقالت طائفة: لهم الرجوع فى ذلك إن أحبوا، هذا قول ابن مسعود وشريح والحكم وطاوس، وهو قول الثورى وأبى حنيفة والشافعى وأحمد وأبى ثور. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 152 وقال مالك: إذا أذنوا له فى صحته فلهم أن يرجعوا، وإن أذنوا له فى مرضه وحين يحجب عن ماله، فذلك جائز عليهم. وهو قول إسحاق. وحجة القول الأول أن المنع إنما وقع من أجل الورثة، فإذا أجازوا جاز وصار بمنزلة أن يجب لهم على إنسان مال فيبرئوه منه. وقد اتفقوا أنه إذا أوصى بأكثر من الثلث لأجنبى جاز بإجازتهم، فكذلك هذا. وحجة الذين رأوا فيه الرجوع أنهم أجازوا شيئًا لم يملكوه فى ذلك الوقت، وإنما يملك المال بعد وفاته، وقد يموت الوارث المستأذن قبله، ولا يكون وارثًا وقد يرثه غيره، وقد أجاز من لا حق له فيه فلا يلزمه شىء منه. وحجة مالك أن الرجل إذا كان صحيحًا فهو أحق بماله كله يصنع فيه ما شاء، فإذا أذنوا له فى صحته فقد تركوا شيئًا لم يجب لهم، وذلك بمنزلة الشفيع يترك شفعته قبل البيع، أو الولى إذا عفا عمن سيقتل وليه، فتركه لما لم يجب له غير لازم، فإذا أذنوا له فى مرضه فقد تركوا ما وجب لهم من الحق، فليس لهم أن يرجعوا فيه إذا كان قد أنفذه؛ لأنه قد فات، فإن لم ينفذ المريض ذلك كان للوارث الرجوع فيه؛ لأنه لم يفت بالتنفيذ قاله الأبهرى. وذكر ابن المنذر عن إسحاق بن راهويه أن قول مالك فى هذه المسألة أشبه بالسنن من غيره، قال ابن المنذر: واتفق مالك والثورى والكوفيون والشافعى وأبو ثور أنهم؛ إذا أجازوا ذلك بعد وفاته لزمهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 153 7 - بَاب الصدقَةِ عندَ الموت (1) / 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قيل لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (أَنْ تَصَدَّقَ، وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ، تَأْمُلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلانٍ كَذَا وَلِفُلانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ) . قال المهلب: فيه دليل على أن أفضل الصدقات ما جاهد الإنسان فيه نفسه وغلب طاعة الله على شهواته، وقد جاهدها أيضًا على حب الغنى وجمع المال. وقوله: (إذا بلغت الحلقوم) فيه ذم من أذهب طيباته فى حياته ولم يقدم لنفسه من ماله فى وقت شحه وحب غناه، حتى إذا رأى المال لغيره جعل يسرع بالوصية لفلان كذا ولفلان كذا، ويتورع عن التبعات والمظالم، وروى عن ابن مسعود فى قوله: (وآتى المال على حبه) [البقرة: 177] قال: أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر. وقال قتادة: يا ابن آدم، اتق الله ولا تجمع إساءتين فى مالك إساءة فى الحياة الدنيا وإساءة عند الموت، انظر قرابتك الذين يحتاجون ولا يرثونك، أوص لهم من مالك بالمعروف. وقال ابن عباس: الضرار فى الوصية من الكبائر، ثم قرأ: (تلك حدود الله ومن يتعد حدود الله) [الطلاق: 1] . وقال عطاء فى قوله تعالى: (فمن خاف من موص جنفًا أو إثمًا) [البقرة: 182] قال: ميلا. وقال أبو عبيدة: جورًا عن الحق وعدولا. وقال طاوس: هو الرجل يوصى لولد ابنته. ويحتمل قول طاوس قد أوصيت لولد ابنتى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 154 بكذا، ومعناه أن يريد بذلك ابنته، فذلك مردود بإجماع، فإن لم يرد فوصيته له من الثلث. ويستحب له أن يوصى لقرابته الذين لا يرثون؛ لقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (الصدقة على المساكين صدقة، وهى على ذى الرحم ثنتان: صدقة، وصلة) . والذى يجب أن يرد من الوصية من باب الجور والميل الوصية بأكثر من الثلث، والوصية للوارث، والوصية فى أبواب المعاصى. 8 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ) [النساء: 11] وَيُذْكَرُ أَنَّ شُرَيْحًا وَعُمَرَ بْنَ عَبْدِالْعَزِيزِ وَطَاوُسًا وَعَطَاءً وَابْنَ أُذَيْنَةَ أَجَازُوا إِقْرَارَ الْمَرِيضِ بِدَيْنٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أَحَقُّ مَا تَصَدَّقَ بِهِ الرَّجُلُ آخِرَ يَوْمٍ مِنَ الدُّنْيَا وَأَوَّلَ يَوْمٍ مِنَ الآخِرَةِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَالْحَكَمُ: إِذَا أَبْرَأَ الْوَارِثَ مِنَ الدَّيْنِ بَرِئَ. وَأَوْصَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنْ لا تُكْشَفَ امْرَأَتُهُ الْفَزَارِيَّةُ عَمَّا أُغْلِقَ عَلَيْهِ بَابُهَا، وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا قَالَ لِمَمْلُوكِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ: كُنْتُ أَعْتَقْتُكَ جَازَ. وَقَالَ الشَّعْبِىُّ: إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ عِنْدَ مَوْتِهَا: إِنَّ زَوْجِى قَضَانِى وَقَبَضْتُ مِنْهُ جَازَ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لا يَجُوزُ إِقْرَارُهُ لِسُوءِ الظَّنِّ بِهِ لِلْوَرَثَةِ ثُمَّ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالْوَدِيعَةِ وَالْبِضَاعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 155 وَلا يَحِلُّ مَالُ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : آيَةُ الْمُنَافِقِ إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء: 58] فَلَمْ يَخُصَّ وَارِثًا وَلا غَيْرَهُ. فِيهِ ابْنُ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . / 12 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ) . قال ابن المنذر: أجمع العلماء أن إقرار المريض بالدين لغير الوارث جائز إذا لم يكن عليه دين فى الصحة. واختلفوا إذا أقر لأجنبى وعليه دين فى الصحة ببينة. فقالت طائفة: يبدأ بدين الصحة. هذا قول النخعى والكوفيين، قالوا: فإذا استوفاه صاحبه فأصحاب الإقرار فى المرض يتحاصون. وقالت طائفة: هما سواء دين الصحة والدين الذى يقر به فى المرض إذا كان لغير وارث. هذا قول الشافعى وأبى ثور وأبى عبيد، وذكر أبو عبيد أنه قول أهل المدينة، ورواه عن الحسن. وممن أجاز إقرار المريض بالدين للأجنبى الثورى وأحمد وإسحاق. قال: واختلفوا فى إقرار المريض للوارث بالدين فأجازه طائفة، هذا قول الحسن وعطاء، وبه قال إسحاق وأبو ثور. قال: وروينا عن شريح والحسن أنهما أجازا إقرار المريض لزوجته بالصداق. وبه قال الأوزاعى، وقال الحسن بن صالح: لا يجوز إقراره لوارث فى مرضه إلا لامرأته بصداق. وقالت طائفة: لا يجوز إقرار المريض للوارث. روى ذلك عن القاسم وسالم ويحيى الأنصارى والثورى وأبى حنيفة وأحمد بن حنبل، وهو الذى رجع إليه الشافعى وفيها قول ثالث قاله مالك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 156 قال: إذا أقر المريض لوارثه بدين نظر، فإن كان لا يتهم فيه قبل إقراره، مثل أن يكون له بنت وابن عم فيقر لابن عمه بدين فإنه يقبل إقراره، ولو كان إقراره لبنته لم يقبل؛ لأنه يهتم فى أنه يزيد ابنته على حقها من الميراث وينقص ابن عمه، ولا يتهم فى أن يفضل ابن عمه على ابنته. قال: ويجوز إقراره لزوجته فى مرضه إذا كان له ولد منها أو من غيرها، فإن كان يعرف منه انقطاع إليها ومودة، وقد كان الذى بينه وبين ولده متفاقمًا ولعل لها الولد الصغير منه فلا يجوز إقراره لها. واحتج من أبطل إقرار المريض للوارث بأن الوصية للوارث لما لم تجز فكذلك الإقرار فى المرض، ويتهم المريض فى إقراره بالدين للوارث؛ لأنه أراد بذلك الوصية. واحتج من أجاز ذلك بقول الحسن: إن أحق ما تصدق به الرجل آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة؛ لأنه فى حال يرد على الله، فهو فى حالة يتجنب المعصية والظلم ما لا يتجنبه فى حال الصحة، والتهمة منتفية عنه، وقد نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن الظن وقال: (إنه أكذب الحديث) وقال: (آية المنافق إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان) وقد أجمع العلماء على أنه إذا أوصى رجل لوارثه بوصية وأقر له بدين فى صحته ثم رجع عنه؛ أن رجوعه عن الوصية جائز، ولا يقبل رجوعه عن الإقرار. ولا خلاف أن المريض لو أقر بوارث لصح إقراره، وذلك يتضمن الإقرار بالمال وشىء آخر وهو النسب والولاية، فإذا أقر بمال فهو أولى أن يصح، وهذا معنى صحيح. وقد تناقض أبو حنيفة فى استحسانه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 157 جواز الإقرار بالوديعة والمضاربة والبضاعة ولا فرق بين ذلك وبين الإقرار بالدين؛ لأن ذلك كله أمانة ولازم للذمة. واحتج أصحاب مالك بأنه يجوز إقراره فى الموضع الذى تنتفى عنه التهمة؛ وذلك أن المرض يوجب حجرًا فى حق الورثة، يدل على ذلك أن الثلث الذى يملك التصرف فيه من جميع الجهات لا يملك وضعه فى وارثه على وجه الهبة والمنحة، فلما لم تصح هبته فى المرض لم يصح إقراره له، ويجوز أن يهب ماله كله فى الصحة للوارث، وفى المرض لا يصح، فاختلف حكم الصحة والمرض. وأما قول إبراهيم والحكم: إذا أبرأ الوارث من الدين، فلا يبرأ عند مالك؛ لأنه تلحقه تهمة أنه أراد الوصية لوارثه. وأما قول رافع بن خديج: ألا تكشف امرأته. فلا خلاف عن مالك، أن كل زوجة فإن جميع ما فى بيتهما لها وإن لم يشهد لها زوجها بذلك، وإنما يحتاج إلى الإشهاد والإقرار إذا علم أنه تزوجها فقيرة وأن ما فى بيتها من متاع الرجل، أو فى أم الولد. وأما قول الحسن: إذا قال لمملوكه عند الموت كنت أعتقتك جاز. فلا يجوز عند مالك؛ لأنه يتهم أن يكون أراد عتقه من رأس ماله وهو ليس له من ماله إلا الثلث، فكأنه أراد الهروب بثلثى المملوك عن الورثة، ولو أعتقه عند موته كان من ثلثه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 158 9 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ) [النساء: 11] وَيُذْكَرُ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء: 58] فَأَدَاءُ الأمَانَةِ أَحَقُّ مِنْ تَطَوُّعِ الْوَصِيَّةِ، وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : لا صَدَقَةَ إِلا عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لا يُوصِى الْعَبْدُ إِلا بِإِذْنِ أَهْلِهِ، وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : الْعَبْدُ رَاعٍ فِى مَالِ سَيِّدِهِ. / 13 - فيه: حَكِيمَ: سَأَلْتُ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَأَعْطَانِى، ثُمَّ قَالَ لِى: يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِى يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَدْعُو حَكِيمًا لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ، فَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ، فَقَالَ، يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، إِنِّى أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ الَّذِى قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ هَذَا الْفَىْءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى تُوُفِّىَ. / 14 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِى أَهْلِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِى بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِى مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) ، قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: (وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِى مَالِ أَبِيهِ) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 159 ذكر إسماعيل بن إسحاق بإسناده عن على بن أبى طالب قال: (تعدون الوصية قبل الدين، وقد قضى محمد أن الدين قبل الوصية) والأمة مجمعة على هذا. قال إسماعيل: وليس يوجب تبدية اللفظ بالوصية قبل الدين أن تكون مبداة على الدين، وإنما يوجب الكلام أن يكون الدين والوصية تخرجان قبل قسم الميراث؛ لأنه لما قيل من بعد كذا وكذا علم أنه من بعد هذين الصنفين قال الله: (ولا تطع منهم آثمًا أو كفورًا) [الإنسان: 24] ، أى لا تطع أحدًا من هذين الصنفين، وقد يقول الرجل: مررت بفلان وفلان فيجوز أن يكون الذى بدأ بتسميته مر به أخيرًا ويجوز أن يكون مر به أولا؛ لأنه ليس فى اللفظ ما يوجب تبدئة الذى سمى أولا. قال تعالى: (يا مريم اقنتى لربك واسجدى واركعى مع الراكعين) [آل عمران: 43] ، ففهم إنما أمرت بذلك كله، ولم يجب أن يكون السجود قبل الركوع، ولو قال: مررت بفلان ففلان أو مررت بفلان ثم فلان لوجب أن يكون الذى بدأ بتسميته هو الذى مر به أولا، فلما قال تعالى: (من بعد وصية يوصى بها أو دين) [النساء: 11] وجب أن تكون قسمة المواريث التى فرض الله بعد الدين والوصية ولم يكن فى القرآن تبدئة أحدهما على الآخر باللفظ المنصوص، ولكن فهم بالسنُّة التى مضت، والمعنى أن الدين قبل الوصية؛ لأن الوصية إنما هى تطوع يتطوع بها الموصى وأداء الدين فرض عليه، فعلم أن الفرض أولى من التطوع. قال المهلب: وإنما أدخل حديث حكيم فى هذا الباب؛ لأنه جعله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 160 من باب الديون وإن لم يعرفوها لأنه لما رآه قد سماه له ورأى الاستحقاق من حكيم متوجهًا إلى المال إن رضيه وقبله أجرى مجرى مستحقات الديون. وأما حديث أبى هريرة فوجهه فى هذا الباب والله أعلم أنه لما كان العبد مسترعى فى مال سيده؛ صح أن المال للسيد، وأن العبد لا ملك له فيه، فلم تجز وصية العبد بغير إذن سيده، كما قال ابن عباس وأشبه فى المعنى الموصى الذى عليه الدين، فلم تنفذ وصيته إلا بعد قضاء دينه؛ لأن المال الذى بيده إنما هو لصاحب الدين ومسترعى فيه ومسئول عن رعيته، فلم يجز له تفويته على ربه بوصية أو غيرها إلا أن يبقى منه بعد أداء ذلك بقية، كما أن العبد مسترعى فى مال سيده، ولا يجوز له تفويته على سيده إلا بإذنه، فاتفقا فى الحكم لاتفاقهما فى المعنى. - باب إِذَا وَقَفَ أَوْ أَوْصَى لأقَارِبِهِ وَمَنِ الأقَارِبُ وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لأبِى طَلْحَةَ: (اجْعَلْهَا لِفُقَرَاءِ أَقَارِبِكَ) ، فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ، وَأُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ، وَقَالَ الأنْصَارِىُّ: حَدَّثَنِى أَبِى، عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ مِثْلَ حَدِيثِ ثَابِتٍ، قَالَ: (اجْعَلْهَا لِفُقَرَاءِ قَرَابَتِكَ) ، قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ، وَأُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ، وَكَانَا أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنِّى، وَكَانَ قَرَابَةُ حَسَّانٍ وَأُبَىٍّ، مِنْ أَبِى طَلْحَةَ، وَاسْمُهُ: زَيْدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ الأسْوَدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَدِىِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ المُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ، فَيَجْتَمِعَانِ إِلَى حَرَامٍ، وَهُوَ الأبُ الثَّالِثُ، وَحَرَامُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَدِىِّ بْنِ عَمْرِو ابْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، فَهُوَ يُجَامِعُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 161 حَسَّانَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيًّا إِلَى سِتَّةِ آبَاءٍ إِلَى عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ، وَهُوَ أُبَىُّ بْنُ كَعْبِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ زَيدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، فَعَمْرُو بْنُ مَالِكٍ يَجْمَعُ حَسَّانَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيًّا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَوْصَى لِقَرَابَتِهِ فَهُوَ إِلَى آبَائِهِ فِى الإسْلامِ. / 15 - فيه: أَنَس قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لأبِى طَلْحَةَ: (أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِى الأقْرَبِينَ) ، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِى أَقَارِبِهِ وَبَنِى عَمِّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَتْ: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) [الشعراء: 214] جَعَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُنَادِى: (يَا بَنِى فِهْرٍ، يَا بَنِى عَدِىٍّ) ، لِبُطُونِ قُرَيْشٍ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمَّا نَزَلَتْ: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ (قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ) . اختلف العلماء إذا أوصى بثلثه لأقاربه أو لأقارب فلان من الأقارب الذين يستحقون الوصية فقال الكوفيون والشافعى: يدخل فى ذلك من كان من قبل الأب والأم. غير أنهم رتبوا أقوالهم على ترتيب مختلف فقال أبو حنيفة: القرابة هم كل ذى رحم محرم من قبل الأب والأم ممن لا يرث غير أنه يبدأ بقرابة الأب على قرابة الأم، وتفسير ذلك أن يكون له خال وعم فيبدأ بعمه على خاله، فيجعل له الوصية. وقال أبو يوسف، ومحمد، والشافعى: سواء فى ذلك قرابة الأب والأم ومن بعد منهم أو قرب، ومن كان ذا رحم محرم أو لم يكن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 162 وهو قول أبى ثور. وقال أبو يوسف ومحمد: من جمعه أب واحد منذ كانت الهجرة. وقال آخرون: القرابة كل من جمعه والموصى أبوه الرابع إلى ما هو أسفل منه. وهو قول أحمد بن حنبل. وقال آخرون: القرابة كل من جمعه والموصى أب واحد فى الإسلام أو الجاهلية ممن يرجع بآبائه وأمهاته إليه أبًا عن أب أو أم عن أم إلى أن يلقاه. وقال مالك: لا يدخل فى الأقارب إلا من كان من قبل الأب خاصة: العم وابنة الأخ وشبههم، ويبدأ بالفقراء حتى يغنوا ثم يعطى الأغنياء. قال الطحاوى: وإنما جوز أهل هذه المقالات الوصية للقرابة إذا كانت تلك القرابة تحصى وتعرف، فإن كانت لا تحصى ولا تعرف فإن الوصية لها باطل فى قولهم جميعًا إلا أن يوصى لفقرائهم، فتكون الوصية جائزة لمن رأى الموصى دفعها إليه منهم، وأقل ما يجوز أن يجعلها فيهم اثنان فصاعدًا. فى قول محمد. وقال أبو يوسف: إن دفعها إلى واحد أجزأه. واحتج لأبى يوسف ومحمد بأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما قسم سهم ذى القربى أعطى بنى هاشم جميعًا، وفيهم من رحمه منهم محرمة وغير محرمة، وأعطى بنى المطلب وأرحامهم منه جميعًا غير محرمة؛ لأن بنى هاشم أقرب إليه من بنى المطلب، فلما لم يقدم فى ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من قربت رحمه على من بعدت، وجعلهم كلهم قرابة يستحقون ما جعل الله لقرابته، سقط الجزء: 8 ¦ الصفحة: 163 قول أبى حنيفة فى اعتباره ذا الرحم المحرم واعتباره الأقرب فالأقرب، وسقط قول من جعل أهل الحاجة منهم أولى؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) عم بعطيته بنى هاشم وفيهم أغنياء. وحجة أخرى على أبى حنيفة وذلك أن أبا طلحة لما أمره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يجعل أرضه فى فقراء قرابته جعلها لحسان وأبىّ، وأبى إنما يلقى أبا طلحة عند أبيه السابع ويلتقى مع حسان عند أبيه الثالث، فلم يقدم أبو طلحة حسان لقرب رحمه على أبىّ لبعد رحمه منه ولم ير واحدًا منهما مستحقا لقرابته منه فى ذلك إلا كما يستحق منه الآخر، فثبت فساد قول أبى حنيفة. واحتج بعض أصحاب الشافعى فقال: إنما استحقوا باسم القرابة فيستوى فى ذلك القريب والبعيد والغنى والفقير، كما أعطى من شهد القتال باسم الحضور. قال الطحاوى: ثم نظرنا لقول من قال: هو إلى آبائه فى الإسلام. فرأينا النبى (صلى الله عليه وسلم) أعطى سهم ذوى القربى بنى هاشم وبنى المطلب، ولا يجتمع هو مع واحد منهم إلى أب مذ كانت الهجرة، وإنما يجتمع معهم فى آباء كانت فى الجاهلية، وكذلك أبو طلحة وأبىّ وحسان لا يجتمعون عند أب إسلامى، ولم يمنعهم ذلك أن يكونوا قرابة يستحقون ما جعل للقرابة؛ فبطل قول أبى يوسف ومحمد، وثبت أن الوصية لكل من يوقف على نسبه أب عن أب أو أم عن أم، حتى يلتقى هو والموصى لقرابته إلى جد واحد فى الجاهلية أو فى الإسلام. وأما الذين قالوا: إن القرابة هم الذين يلتقون عند الأب الرابع، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 164 فإنهم ذهبوا إلى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما قسم سهم ذى القربى أعطى بنى هاشم وبنى المطلب، وإنما يلتقى هو وبنو المطلب عند أبيه الرابع؛ لأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، والآخرون هم بنو المطلب بن عبد مناف. فإنما يلتقى معهم عند عبد مناف وهو أبوه الرابع، فمن الحجة عليهم فى ذلك للآخرين أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما أعطى بنى هاشم وبنى المطلب حرم بنى أمية وبنى نوفل، وقرابتهم منه كقرابة بنى المطلب فلم يحرمهم؛ لأنهم ليسوا قرابة، ولكن لمعنى غير القرابة فكذلك من فوقهم لم يحرمهم؛ لأنهم ليسوا قرابة، ولكن لمعنى غير القرابة وكذلك أعطى أبو طلحة لحسان وأبىّ وإنما يلتقى مع أبىّ لأبيه السابع، فلم ينكر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على أبى طلحة ما فعل، وقد أمر الله نبيه أن ينذر عشيرته الأقربين، فدعا عشائر قريش كلها، وفيهم من يلقاه عند أبيه الثانى، وعند أبيه الثالث وعند أبيه الرابع وعند الخامس وعند السابع، وفيهم من يلقاه عند آبائه الذين فوق ذلك إلا أنه ممن جمعته وإياهم قريش، فبطل قول من جعله إلى الأب الرابع، وثبت قول من جعله إلى أب واحد فى الجاهلية أو الإسلام. واحتج أصحاب مالك لقوله: إن القرابة قرابة الأب خاصة؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما أعطى ذوى القربى لم يعط قرابته من قبل أمه شيئًا، وسيأتى فى الباب بعد هذا وقد تقدم كثير من معنى حديث أبى طلحة فى كتاب الزكاة فى باب فضل الزكاة على الأقارب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 165 - باب هَلْ يَدْخُلُ الْوَلَدُ وَالنِّسَاءُ فِى الأقَارِبِ / 16 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ لما نزلت: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ (، قَامَ النبى (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لا أُغْنِى عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِى عَبْدِمَنَافٍ، لا أُغْنِى عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِالْمُطَّلِبِ، لا أُغْنِى عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، لا أُغْنِى عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِى مَا شَئْتِ مِنْ مَالِى، لا أُغْنِى عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) . أجمع العلماء على أن اسم الولد يقع على البنين والبنات وأن النساء التى من صلبه وعصبته كالعمة والابنة والأخت يدخلون فى الأقارب إذا أوقف على أقاربه، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) خص عمته بالنذارة كما خص ابنته، وكذلك من كان فى معناهما ممن يجمعه معه أب واحد. وروى أشهب عن مالك أن الأم لا تدخل فى مرجع الحبس. وقال ابن القاسم: تدخل الأم فى ذلك ولا تدخل الأخوات للأم. واختلفوا فى ولد البنات أو ولد العمات ممن لا يجتمع فى أب واحد مع الوصى والمحبس هل يدخلون فى القرابة أم لا؟ فقال أبو حنيفة والشافعى: إذا أوقف وقفًا على ولده أنه يدخل فيه ولد ولده، وولد بناته ما تناسلوا، وكذلك إذا أوصى لقرابته يدخل فيه ولد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 166 البنات. والقرابة عند أبى حنيفة كل ذى رحم محرم، فيسقط عنده ابن العم وابن العمة، وابن الخال والخالة؛ لأنهم ليسوا بمحرمين. والقرابة عند الشافعى: كل ذى رحم محرم وغيره، فلم يسقط عنده ابن العم ولا غيره. وقال مالك: لا يدخل فى ذلك ولد البنات. وقوله: لقرابتى وعقبى، كقوله: لولدى وولد ولدى. يدخل فيه ولد البنين، ومن يرجع إلى عصبة الأب وصلبه ولا يدخل ولد البنات. قال ابن القصار: وحجة من أدخل ولد البنات فى الأقارب قوله فى الحسن بن على: (إن ابنى هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين) قالوا: ولا تظن أحدًا يمتنع أن يقول فى ولد البنات أنهم ولد لأبى أمهم فالمعنى يقتضى ذلك؛ لأن الولد فى اللغة مشتق من التولد وهم متولدون عن أبى أمهم لا محالة؛ لأنه أحد أصليهم الذى يرجعون إليه، قال تعالى: (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) [الحجرات: 13] فللذكر حظه وللأنثى حظها، والتولد عن جهة الأب كالتولد عن جهة الأم، وقد دل القرآن على ذلك قال تعالى: (ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزى المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين) [الأنعام: 84، 85] فجعل عيسى من ذريته وهو ابن بنته، ولم يفرق فى الاسم بين بنى بنيه وبنى ابنته. واحتج عليهم أهل المقالة الثانية فقالوا: إنما سمى النبى (صلى الله عليه وسلم) الحسن ابنًا على وجه التحنن والفضيلة دون الحقيقة، وإنما أبوه فى الحقيقة علىّ وإليه نسبه، ولا يمتنع أن تقع التسمية تارة على الحقيقة وتارة على المجاز، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال فى العباس: (اتركوا لى أبى) فلا يمتنع أن يسمى ولد البنات ابنًا كما يسمى الجد والدًا، والعم والدًا، والخال والدًا، إلا أن اسم الأب فى هذا متميز يرجع فى حقيقته إلى ولد الصلب خاصة، كما يرجع فى اسم الأب حقيقة إلى الأب دينًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 167 ولما ذكر عيسى (صلى الله عليه وسلم) مع ولد البنين الذين هم ذرية على الحقيقة جرى عليه الاسم على طريق الاتساع والتغليب للأكثر المذكورين، وهذا شائع فى كلام العرب، ودليل آخر وهو قوله: (يوصيكم الله فى أولادكم) [النساء: 11] فلم يعقل المسلمون من ظاهر الآية إلا ولد الصلب وولد الابن خاصة، ألا ترى قوله تعالى: (وللرسول ولذى القربى) [الحشر: 7] اختص ذلك ببنى أعمامه ومن يرجع بنسبه إليه؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) أعطى سهم القرابة بنى أعمامه دون بنى أخواله فكذلك ولد البنات؛ لأنهم لا ينتمون إليه بالنسب، ولا يلتقون معه فى أب، قال الشاعر: بنونا بنو آبائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد وفى إعطائه (صلى الله عليه وسلم) بنى المطلب، وهم بنو أعمامه، حجة على أبى حنيفة، أن ابن العم داخل فى القرابة، ولما أعطى النبى (صلى الله عليه وسلم) لبنى المطلب وبنى هاشم، جاء عثمان، وجبير بن مطعم إليه (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: (قد عرفنا بنى هاشم لمكانك الذى وضعك الله فيهم، فما بالنا وبنى المطلب أعطيتهم ومنعتنا وقرابتنا واحدة؟ فقال (صلى الله عليه وسلم) : إنهم لم يفارقونا فى جاهلية ولا إسلام) وعثمان من بنى عبد شمس، وجبير ابن مطعم من بنى نوفل، وهم إخوة عبد شمس بن عبد مناف، والمطلب بن عبد مناف، وهاشم بن عبد مناف. فأعطى بنى المطلب وهم بنو أعمامه وأعطى بنى هشام وهم بنو جده، وليس فيهم من يرجع إلى أجداد الأمهات مثل ولد البنات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 168 والأخوال وغيرهم من ذوى الأرحام، فدل ذلك على فساد قول أبى حنيفة والشافعى فى أن القرابة تقع على قرابة الأب والأم؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يعط إلا من رجع إلى عصبته. ويرد قول الشافعى فى التسوية بين الأقرب والأبعد، لأنه (صلى الله عليه وسلم) لما أعطى بنى هشام وبنى المطلب ومنع الآخرين علم أنه لا يستحق بالقرابة إلا على وجه الاجتهاد وقد يدخل فى القرابة جميع قريش؛ لقوله: (يا معشر قريش) وخص بعضهم بالعطاء فصح قول مالك أن يبدأ بالفقراء قبل الأغنياء. قال المهلب: وقوله (صلى الله عليه وسلم) لابنته: (سلينى من مالى ما شئت) فيه من الفقه أن الاستئلاف للمسلمين وغيرهم بالمال جائز؛ لأنه إذا جاز أن يستألف المسلم بالمال حتى يزداد بصيرة فى الإسلام جاز أن يستألف الكافر حتى يدخل فى الإيمان؛ بل هو أوكد. - باب هَلْ يَنْتَفِعُ الْوَاقِفُ بِوَقْفِهِ وَقَدِ اشْتَرَطَ عُمَرُ: لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، وَقَدْ يَلِى الْوَاقِفُ وَغَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ جَعَلَ بَدَنَةً أَوْ شَيْئًا لِلَّهِ، فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا كَمَا يَنْتَفِعُ غَيْرُهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ. / 17 - فيه: أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) رَأَى رَجُلا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ لَهُ: ارْكَبْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ فِى الثَّالِثَةِ أَوْ فِى الرَّابِعَةِ: ارْكَبْهَا، وَيْلَكَ، أَوْ وَيْحَكَ) . قال المؤلف: لا يجوز للواقف أن ينتفع بوقفه؛ لأنه أخرجه لله وقطعه عن ملكه، فانتفاعه بشىء منه رجوع فى صدقته، وقد نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك، وإنما يجوز له الانتفاع به إن شرط ذلك فى الوقف أو أن يفتقر المحبس أو ورثته فيجوز لهم الأكل منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 169 وقال ابن القصار: من حبس دارًا أو سلاحًا أو عبدًا فى سبيل الله فأنفذ ذلك فى وجوهه زمانًا، ثم أراد أن ينتفع به مع الناس، فإن كان من حاجة فلا بأس به. وذكر ابن حبيب عن مالك قال: من حبس أصلا تجرى غلته على المساكين، فإن ولده يعطون منه إذا افتقروا، كانوا يوم مات أو حبس فقراء أو أغنياء، غير أنهم لا يعطون جميع الغلة مخافة أن يندرس الحبس، ولكن يبقى منه سهمًا للمساكين؛ ليبقى اسم الحبس، ويكتب على الولد كتاب أنهم إنما يعطون منه ما أعطوا على المسكنة وليس على حق لهم فيه دون المساكين. واختلفوا إذا أوصى بشىء للمساكين فغفل عن قسمته حتى افتقر بعض ورثته، وكانوا يوم أوصى أغنياء أو مساكين، فقال مطرف: أرى أن يعطوا من ذلك على المسكنة وهم أولى من الأباعد. وقال ابن الماجشون: إن كانوا يوم أوصى أغنياء ثم افتقروا أعطوا منه، وإن كانوا مساكين لم يعطوا منه؛ لأنه أوصى وهو يعرف حاجتهم فكأنه أزاحهم عنه. وقال ابن القاسم: لا يعطوا منه شيئًا مساكين كانوا أو أغنياء يوم أوصى. وقول مطرف أشبه بدلائل السنة. قوله: وكذلك كل من جعل بدنة أو شيئًا لله فله أن ينتفع بها كما ينتفع غيره وإن لم يشترط، فإنما ينتفع من ذلك إذا لم يشترط بما لا مضرة على من سبل له الشىء، وإنما جاز ركوب البدنة التى أخرجها لله؛ لأنه ركبها إلى موضع النحر ولم يكن له غنى عن سوقها إليه، ولم يركبها فى منفعة له، ألا ترى أنه لو كان ركوبها مهلكًا لها لم يجز له ذلك، كما لا يجوز له أكل شىء من لحمها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 170 وقوله: يلى الواقف وغيره. فاختلف العلماء فى ذلك فذكر ابن المواز عن مالك أنه إن شرط فى حبسه أن يليه لم يجز. وقاله ابن القاسم وأشهب. وقال ابن عبد الحكم عن مالك: إن جعل الوقف بيد غيره يحوزه ويجمع غلته، ويدفعها إلى الذى حبسه يلى تفرقته وعلى ذلك حبس؛ أن ذلك جائز. وقال ابن كنانة: من حبس ناقته فى سبيل الله فلا ينتفع بشىء منها، وله أن ينتفع بلبنها لقيامه عليها. فمن أجاز للواقف أن يليه فإنما يجيز له الأكل منه بسبب ولايته وعمله، كما يأكل الوصى من مال يتيمه بالمعروف من أجل ولايته وعمله، وإلى هذا المعنى أشار البخارى فى هذا الباب. ومن لم يجز للواقف أن يلى وقفه فإنما منع ذلك قطعًا للذريعة إلى الانفراد بغلته، فيكون ذلك رجوعًا فيه، وسأذكرها فى الباب بعد هذا. - باب إِذَا وَقَفَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ لأنَّ عُمَرَ أَوْقَفَ، وَقَالَ: لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ، وَلَمْ يَخُصَّ إِنْ وَلِيَهُ عُمَرُ أَوْ غَيْرُهُ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لأبِى طَلْحَةَ: (أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِى الأقْرَبِينَ) ، فَقَالَ: أَفْعَلُ، فَقَسَمَهَا فِى أَقَارِبِهِ وَبَنِى عَمِّهِ. إِذَا قَالَ: دَارِى صَدَقَةٌ لِلَّهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لِلْفُقَرَاء، أَوْ غَيْرِهِمْ، فَهُوَ جَائِزٌ وَيَضَعُهَا فِى الأَقْرَبِينَ، أَوْ حَيْثُ أَرَادَ قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : لأَبِى طَلْحَةَ حِينَ قَالَ: أَحَبُّ أَمْوَالِى إِلَىَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ فَأَجَازَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يَجُوزُ حَتَّى يُبَيِّنَ لِمَنْ وَالأَوَّلُ أَصَحُّ. وَإِذَا قَالَ أَرْضِى أَوْ بُسْتَانِى صَدَقَةٌ عَنْ أُمِّى فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 171 / 18 - فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ، وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّى تُوُفِّيَتْ، وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّى أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِىَ الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا) . اختلف العلماء فى الوقف إذا لم يخرجه الواقف من يده إلى أن مات. فقالت طائفة: يصح الوقف ولا يفتقر إلى قبض. وهو قول أبى يوسف والشافعى. وقالت طائفة: لا يصح الوقف حتى يخرجه عن يده ويقبضه غيره. هذا قول ابن أبى ليلى ومالك ومحمد ابن الحسن. وحجة القول الأول أن عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وفاطمة، رضى الله عنهم، أوقفوا أوقافًا وأمسكوها بأيديهم وكانوا يصرفون الانتفاع بها فى وجوه الصدقة فلم يبطل. واحتج الطحاوى لأبى يوسف فقال: رأينا أفعال العبادات على ضروب فمنها العتاق وينفذ بالقول؛ لأن العبد إنما يزول ملك مولاه عنه بقوله: أنت لله ومنها الهبات والصدقات لا تنفذ بالقول حتى يكون معه القبض من الذى ملكها، فأردنا أن ننظر حكم الأوقاف بأيها هى أشبه فنعطفه عليه، فرأينا الرجل إذا أوقف أرضه أو داره فإنما ملك الذى أوقفها عليه منافعها ولم يملكه من رقبتها شيئًا، إنما أخرجها من ملك نفسه إلى الله، فثبت أن نظير ذلك ما أخرجه من ملكه إلى الله، فكما كان ذلك لا يحتاج فيه إلى قبض مع القول؛ كذلك الوقف لا يحتاج فيه إلى قبض مع القول. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 172 وأيضًا فإن القبض لو أوجبناه لكان القابض يقبض ما لم يملك بالوقف، فقبضه إياه وغير قبضه سواء. فثبت قول أبى يوسف وإليه ذهب البخارى، واستدل من قوله: فقسمها أبو طلحة فى أقاربه وبنى عمه؛ أن الوقف لم يخرج من يدى أبى طلحة. وحجة الذين جعلوا القبض شرطًا فى صحة الوقف إجماع أئمة الفتوى على أنه لا تنفذ الهبات والصدقات بالقول حتى يقبضها الذى ملكها، ألا ترى أن أبا بكر قال فى مرضه لابنته، وقد كان نحلها أحدًا وعشرين وسقًا: لو كنت حزتيه لكان لك، فإنما هو اليوم مال وارث. فكان حكم الوقف حكم الهبات. وقول النبى (صلى الله عليه وسلم) لأبى طلحة: (أرى أن تجعلها فى الأقربين) لا حجة فيه لمن أجاز الوقف، وإن لم يخرج عن يد الذى أوقفه؛ لأنه ليس فى الحديث أن أبا طلحة لم يخرج الوقف عن يده، ولو استدل مستدل بقوله: (فقسمها أبو طلحة فى أقاربه وبنى عمه) أنه أخرجها عن يده لساغ ذلك، ولم يكن من استدل أنه لم يخرجها عن يده أولى منه بالتأويل. واختلفوا إذا قال: هذه الدار وهذه الضيعة وقف ولم يذكر وجوهًا تصرف فيها. فعند مالك أنه يصح الوقف، وكذلك لو قال: على أولادى وأولادهم. ولم يذكر بعدهم الفقراء أو بنى تميم ممن لم ينقطع نسلهم فإنه يصح الوقف، ويرجع ذلك إلى فقراء عصبته، وإن لم يكونوا فقراء فإلى فقراء المسلمين. وبه قال أبو يوسف ومحمد، وهو أحد قولى الشافعى، والقول الثانى: أنه لا يصح الوقف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 173 قال ابن القصار: وحجة القول الأول أنه إذا قال: وقفت. فإنما أراد البر والقربة، وأن لا ينتفع هو بشىء من ذلك، فالانتفاع يكون محبوسًا على ولده وولد ولده، فإذا انقرضوا صرف ذلك إلى أقرب الناس به من فقراء عصبته، وهذا المعنى يحصل به البر والقربة، وكذلك إذا قال: هذا وقف محرم؛ لأنه معلوم أنه قصد به البر والقربة فحمل على ما علم من قصده، كرجل أوصى بثلث ماله فإن ذلك يفرق فى الفقراء والمساكين وإن لم يسمهم؛ لأنه قد علم ذلك من قصده، ألا ترى قول سعد بن عبادة للنبى: (فإنى أشهدك أن حائطى المخراف صدقة عنها) ولم يسم على من يتصدق بالحائط، ولم ينكر ذلك النبى (صلى الله عليه وسلم) ولو لم تجز الصدقة والوقف على غير مسمين لم يترك النبى (صلى الله عليه وسلم) بيان ذلك لأن عليه فرض التبليغ والبيان. قال المهلب: ولا حاجة بنا إلى أن نذكر على من يكون الوقف؛ لأن الله قد بين أصناف الذين تجب لهم الصدقات فى كتابه، وقد مضى من سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى قصة أبى طلحة ما فيه شفاء، فرأى (صلى الله عليه وسلم) فى قصة أبى طلحة أن تصرف الصدقة إلى صنف واحد وهم أقارب أبى طلحة. قال ابن القصار: فإن قيل: قد قلتم إنه إذا أوقف على من لا يولد له ولم يكن له ولد فى الحال لم يجز الوقف، وقلتم هاهنا إذا قال: وقف. صح الوقف فما الفرق؟ قيل: الفرق بينهما أنه إذا أوقفه على من لم يولد له فقد وقفه على غير موجودين؛ لأنه قد يجوز أن لا يولد له، وإذا وقفه ولم يذكر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 174 وجهًا يصرف فيه، ففقراء المسلمين الذين تجوز لهم الصدقة، وقد ذكرهم الله فى كتابه، موجودون غير معدومين ففى أيها يجعله الإمام صح الوقف. - باب إِذَا تَصَدَّقَ أَوْ أَوْقَفَ بَعْضَ مَالِهِ أَوْ بَعْضَ رَقِيقِهِ أَوْ دَوَابِّهِ فَهُوَ جَائِزٌ / 19 - فيه: كَعْبٍ: قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِى أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِى صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قُلْتُ: فَإِنِّى أُمْسِكُ سَهْمِى الَّذِى بِخَيْبَرَ) . اتفق مالك والكوفيون والشافعى وأكثر العلماء أنه يجوز للصحيح أن يتصدق بماله كله فى صحته، إلا أنهم استحبوا أن يبقى لنفسه منه ما يعيش به خوف الحاجة وما يتقى من آفات الفقر؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) فحضه على الأفضل، وفى هذا حجة لمن قال: إن الغنى أفضل من الفقر؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فهو خير لك) وقد ذكرت من خالف ذلك فى كتاب الزكاة فى باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى من كلام الطبرى. واستدل البخارى بأنه لما جازت الصدقة بالعقار ووقف غلاتها على المساكين جاز ذلك فى الرقيق والدواب؛ إذ المعنى واحد فى انتفاع المساكين بغلاتها وبقاء أصولها وقد تقدم بيان هذا فى باب الشروط فى الوقف فأغنى عن إعادته، وسأذكر اختلاف العلماء فى وقف الرقيق والحيوان بعد هذا إن شاء الله تعالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 175 قال المهلب: وفيه أن من تاب الله عليه وخلصه من ملمة نزلت به؛ أنه ينبغى له أن يشكر الله على ذلك بالصدقة وما شاكلها من أفعال البر. - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) [النساء: 8] / 20 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نُسِخَتْ، وَلا وَاللَّهِ مَا نُسِخَتْ، وَلَكِنَّهَا مِمَّا تَهَاوَنَ النَّاسُ بِهَا، هُمَا وَالِيَانِ، وَالٍ يَرِثُ، وَذَاكَ الَّذِى يَرْزُقُ، وَوَالٍ لا يَرِثُ، فَذَاكَ الَّذِى يَقُولُ بِالْمَعْرُوفِ، يَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ أَنْ أُعْطِيَكَ. اختلف العلماء فى هذه الآية فقال قوم: إنها منسوخة بالمواريث. هذا قول سعيد بن المسيب وطائفة من التابعين. وقالت عائشة وابن عباس والنخعى وعطاء والحسن: إنها محكمة غير منسوخة. وقال ابن عباس والنخعى وعطاء والحسن: إنها محكمة غير منسوخة. وقال ابن عباس: هى واجبة يعمل بها. وذكر إسماعيل القاضى، أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن، وعائشة حية، فلم يدع فى الدار مسكينًا ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه، وتلا: (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين. . .) [النساء: 8] الآية. قال القاسم بن محمد: فذكرت ذلك لابن عباس فقال: ما أصاب، إنما ذلك فى الوصية، يريد الميت أن يوصى. وقال ابن المسيب: إنما ذلك فى الثلث عند الوصية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 176 وروى قتادة عن يحيى بن يعمر، قال: ثلاث آيات فى كتاب الله محكمات مدنيات قد ضيعهن الناس. فذكر هذه الآية، وآية الاستئذان للذين لم يبلغوا الحلم فى العورات الثلاث، وهذه الآية) يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) [الحجرات: 3] الآية. وقال إسماعيل: وأما الذين قالوا: إنها محكمة. فيمكن أن يكونوا تأولوا أنها على الترغيب دون الإيجاب، ويمكن أن يكونوا تأولوها على الإيجاب، وأما الذين قالوا: إنها منسوخة. فأحسب أنهم تأولوها على الإيجاب، ثم نسخت بآية الوصية، وأما الذين تأولوها أن ذلك إنما عنى به من الوصية فإن الله تعالى قال فى آية المواريث: (من بعد وصية يوصى بها أو دين) [النساء: 11] ، فليس يجوز أن ينقص أهل المواريث مما جعل الله لهم إلا بدين على الميت أو وصية يوصى بها فتنفذ، إلا أن تكون الوصية للفقراء أو فى أبواب البر فيخص منها أولو القربى واليتامى بالاجتهاد، وقد تأول زيد بن أسلم أن هذا شىء أمر به الذى يوصى فى وقت وصيته كما تأوله ابن عباس. وروى ابن وهب عن يعقوب بن عبد الرحمن قال: سألت زيد بن أسلم عن قوله: (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين) [النساء: 8] ، قال: هذا الرجل حين يوصى ويحضره ناس ويحضره أولو القربى واليتامى والمساكين فيذكرونه قرابته والمساكين، فيقولون: فلان مسكين. وفلان ذو حاجة. فأمره أن يحسن ولا يجحف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 177 بولده، فنهى الذين حضروا أن يتكلموا بغير ذلك وتلا: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم (مثل ما ترك) ذرية ضعافًا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديدًا) [النساء: 9] . وقال قتادة فى قوله تعالى: (وليخش الذين لو تركوا) [النساء: 9] ، قال: إذا حضرت وصية ميت فاؤمره بما كنت تأمر به نفسك مما يتقرب به إلى الله، وخف فى ذلك ما كنت تخافه على ضعفهم لو تركتهم بعدك، فاتق الله وقل قولاً سديدًا إن هو زاغ. - باب مَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ تُوُفِّىَ فُجَأةً أَنْ يَتَصَدَّقُوا عَنْهُ وَقَضَاءِ النُّذُورِ عَنِ الْمَيِّتِ / 21 - فيه: عَائِشَةَ (أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ أُمِّى افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأُرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، تَصَدَّقْ عَنْهَا) . / 22 - وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ (أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، استفتى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: إِنَّ أُمِّى تُوُفِّيَتْ، وعليها نذر، فقال: اقضه عنها. قال ابن المنذر: حديث عائشة يدل على إجازة الصدقة التطوع عن الميت، ومثله حديث العلاء، عن أبيه، عن أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) وروى أبو نعيم، عن هشام، عن قتادة، عن سعيد (أن سعد بن عبادة قال للنبى حين أمره أن يتصدق عن أمه: أى الصدقة أفضل يا رسول الله؟ قال: سقى الماء) . فدلت هذه الآثار عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أن تأويل قوله: (وأن ليس للإنسان إلا ما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 178 سعى} [النجم: 39] على الخصوص، فأما العتق عن الميت فلا أعلم فيه خبرًا يثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . وقد ثبت عن عائشة أم المؤمنين أنها أعتقت عبدًا عن أخيها عبد الرحمن وكان مات ولم يوصى. وأجاز ذلك الشافعى، وقال بعض أصحابه: لما جاز أن يتطوع بالصدقة وهى مال جاز أن يتطوع بالعتق؛ لأنه مال. وفرق غيره بين الصدقة والعتق فقال: إنما أجزنا الصدقة بالأخبار الثابتة، والعتق لا خبر فيه، بل فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الولاء لمن أعتق) دليل على منعه؛ لأن الحى هو المعتق بغير أمر الميت فله الولاء، فإذا ثبت له الولاء فليس للميت منه شىء. وهذا القول ليس بصحيح؛ لأنه قد روى فى حديث سعد بن عبادة أنه قال للنبى: (إن أمى هلكت فهل ينفعها أن أعتق عنها؟ قال: نعم) فدل أن العتق ينفع الميت، ويشهد لذلك فعل عائشة فى عتقها عن أخيها. وقد اختلف الآثار فى النذر الذى كان على أم سعد، فقيل: إنه كان غير عتق. وذلك مذكور فى كتاب النذور فى باب من مات وعليه نذر. وقال ابن المنذر: ممن كان يجيز الحج التطوع عن الميت: الأوزاعى والشافعى وأحمد، ومنعه غيرهم. وقد تقدم فى كتاب الحج، وقد ثبت عن عائشة أم المؤمنين أنها أعتقت عن أخيها عبد الرحمن بعد ما مات. قال ابن المنذر: وفى ترك النبى (صلى الله عليه وسلم) إنكار فعل المرأة التى افتلتت نفسها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 179 حين ماتت ولم توصى؛ دليل على أن تارك الوصية غير عاص لله؛ إذ لو كان فرضًا لأخبر النبى أنها قد تركت فرضًا، وأما قضاء الدين عن الميت فما لزم الذمة فلا خلاف فى قضائه عن الميت، وما لزم البدن ففيه الخلاف عن العلماء، وقد تقدم فى كتاب النذور وفى كتاب الحج. وقوله: (افتلتت نفسها) أى: أخذت نفسها فجأة، يقال: افتلت الشىء إذا أخذته فجأة. - باب الإشْهَادِ فِى الْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ / 23 - فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ (أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ، وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، فَأَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّى تُوُفِّيَتْ، وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، فَهَلْ يَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّى أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِىَ الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا) . الإشهاد واجب فى الوقف ولا يتم إلا به. قال المهلب: وإذا كان الله قد أمر بالإشهاد فى البيع، والبيع خروج ملك بعوض ظاهر، فالوقف أولى بذلك؛ لأن الخروج عنه بغير عوض، مع أن الأكثر فى الأوقاف والصدقات أن تكون على غير عوض فى الأعيان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 180 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا (إِلَى) مَا طَابَ لَكُمْ) [النساء: 2] / 24 - فيه: عَائِشَةَ) وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ) [النساء: 3] قَالَتْ عَائِشَةَ: هِىَ الْيَتِيمَةُ فِى حَجْرِ وَلِيِّهَا، فَيَرْغَبُ فِى جَمَالِهَا وَمَالِهَا، وَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ نِسَائِهَا، فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِى إِكْمَالِ الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ اسْتَفْتَى النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . . الحديث. هذا مذكور فى كتاب النكاح وهو أولى به. - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ (إلى قوله: (مَفْرُوضًا) [النساء: 6، 7] حسيبًا: كافيًا، وللوصى أن يعمل فى مال اليتيم ويأكل منه بقدر عمالته. / 25 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: (أَنَّ عُمَرَ تَصَدَّقَ بِمَالٍ لَهُ عَلَى عَهْدِ النَّبىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ (ثَمْغٌ) ، وَكَانَ نَخْلا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى اسْتَفَدْتُ مَالا، وَهُوَ عِنْدِى نَفِيسٌ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لا يُبَاعُ وَلا يُوهَبُ وَلا يُورَثُ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ، فَتَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ، فَصَدَقَتُهُ تِلْكَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَفِى الرِّقَابِ وَالْمَسَاكِينِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَلِذِى الْقُرْبَى، وَلا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُوكِلَ صَدِيقَهُ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ بِهِ) . وفيه: عَائِشَةَ رَضِى اللَّهُ عَنْهَا) وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 181 بِالْمَعْرُوفِ) [النساء: 6] قَالَتْ: أُنْزِلَتْ فِى وَالِى الْيَتِيمِ، أَنْ يُصِيبَ مِنْ مَالِهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا بِقَدْرِ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ. قال المهلب: إنما أدخل هذا الحديث فى هذا الباب؛ لأن عمر حبس ماله على أصناف وجعله إلى من يليه وينظر فيه كما جعل مال اليتيم إلى من يليه وينظر فيه، فالنظر لهؤلاء الأصناف كالنظر لليتامى؛ لأنهم من جملة هذه الأصناف. وفيه من الفقه: أن عمر فهم عن الله أن لولى هذا المال أن يأكل منه بالمعروف، كما قال الله تعالى. وقوله: غير متمول لقول الله: (ولا تأكلوها إسرافًا وبدارًا أن يكبوا) [النساء: 6] ، فدل أن ما ليس بسرف أنه جائز لولى اليتيم أن يأكله. وقوله: (لا جناح على من وليه) ولم يخص غنيًا من الفقير، فيه إجازة أكل الغنى ممايلى، وتفسير قوله تعالى: (ومن كان غنيا فليستعفف) [النساء: 6] أنه على الندب وإن أكل بالمعروف لم يكن عليه حرج والله أعلم. قال المؤلف: إلا أن جمهور علماء التأويل إنما أباحوا للولى الأكل من مال اليتيم إذا كان فقيرًا ولم يذكروا فى ذلك الغنى، واختلفوا فى الوصى الفقير إذا أكل بالمعروف هل يكون عليه غرم ذلك إذا أيسر؟ فقالت طائفة: إذا أيسر أداه. روى ذلك عن سعيد بن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 182 جبير وعبيدة وأبى العالية ومجاهد وعطاء، واحتجوا بما رواه قبيصة، عن سفيان، عن أبى إسحاق، عن حارثة بن مصرف، قال: قال عمر: إنى أنزلت مال الله بمنزلة مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن احتجت استقرضت، ثم قضيت. وقالت طائفة: لا غرم عليه إذا أيسر. روى ذلك عن عطاء أيضًا والحسن البصرى والنخعى وقتادة، وعليه الفقهاء، وقد روى حديث عمر ولم يذكر فيه: قضيت. رواه سعيد، عن قتادة، عن أبى مجلز، عن عمر. ومن رأى القضاء، فذلك خلاف لكتاب الله؛ لأن الله أباح للولى الفقير أن يأكل بالمعروف ولم يوجب عليه شيئًا. وقد روى عن ابن عباس ما يبين هذه القصة، روى حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد أن رجلا سأل ابن عباس، فقال: إن لى إبلاً وليتيم فى حجرى إبل، وانا أمنح من إبلى وأفقر فما يحل لى من إبله؟ فقال: إن كنت تلتمس ضالتها وتهنأ جرباها وتليط حوضها وتسقيها، فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك فى ظهر. قال ابن القاسم: ما سمعنا بفتيا من غير رواية أحسن منها. فهذا ابن عباس قد أباح للغنى أن يشرب من لبنها بالمعروف من أجل قيامه عليها وخدمته لها، فكيف يجب أن يكون على الفقير أن يقضى ما أكل منها بالمعروف إذا أيسر، والنظر فى ذلك أيضًا يبطل وجوب القضاء؛ لأن عمر شبه مال الله بمال اليتيم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 183 وقد أجمعت الأمة أن الإمام الناظر للمسلمين لا يجب عليه غرم ما أكل منه بالمعروف؛ لأن الله قد فرض سهمه فى مال الله، فلا حاجة لهم فى قول عمر: (ثم قضيت أن) لو صح عنه، والله الموفق. وأما تأويل قوله تعالى: (فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم) [النساء: 6] ، قال ابن عباس: ابتلوا اليتامى أى: اختبروا عقولهم. وهو قول الحسن وقتادة، وقال الثورى: جربوهم. وقوله: (حتى إذا بلغ النكاح) [النساء: 6] ، يعنى الحلم. عن ابن عباس ومجاهد) فإن آنستم منهم) [النساء: 6] عرفتم منهم رشدًا. وبهذا قال مالك وأكثر العلماء، وقال الشعبى، والقاسم بن محمد: إن الرجل يمشط وما أونس منه الرشد. وفيه قول آخر: وهو أن يكون بعد بلوغه صالحًا فى دينه. عن الحسن، وبه قال الشافعى. وقال أبو حنيفة: إذا بلغ اليتيم، وكان صحيح العقل، دفع إليه ماله وإن لم يؤنس منه الرشد؛ لأنه لا يرى الحجر على حر مسلم. قال ابن المنذر: الصبى من دفع المال إليه قبل بلوغه وإن كان مصلحًا، فإذا بلغ وكان غير رشيد وجب منع ماله منه، وكل ما أباحه الله بشرطين لم يجز إطلاقه بأحدهما، ألا ترى أن من طلق زوجته ثلاثًا لا تحل له حتى تنكح غيره ويطأها، فإن نكحت ولم تُطأ لم تحل للأول، فكذلك لا يجوز دفع المال إلى اليتيم، وإن بلغ النكاح، حتى يؤنس منه الرشد، والله الموفق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 184 - باب قَوْلِ اللَّهِ: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا) [النساء: 10] الآية / 26 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّى يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاتِ) . قال المؤلف: أكل مال اليتيم من الكبائر، وقد أخبر الله أن من أكله ظلمًا أنه يأكل النار ويصلى السعير، وهذا عند أهل السنة إن أنفذ الله عليه الوعيد؛ لأنه عندهم فى مشيئة الله، قال سعيد بن جبير: لما نزلت: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا) [النساء: 10] أمسك الناس فلم يخالطوا اليتامى فى طعامهم حتى نزلت: (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم) [البقرة: 220] ، قال: وليس فى القرآن: (ويسألونك (إلا ثلاث عشرة مسألة من قلة ما كانوا يسألونه، وسيأتى ما قال العلماء فى الكبائر فى كتاب الأدب. - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) [البقرة: 220] ) لأعْنَتَكُمْ (لأحْرَجَكُمْ وَضَيَّقَ،) وَعَنَتِ) [طه: 111] خَضَعَتْ. وَقَالَ نَافِعٍ: مَا رَدَّ ابْنُ عُمَرَ عَلَى أَحَدٍ وَصِيَّةً، وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ أَحَبَّ الأشْيَاءِ إِلَيْهِ فِى مَالِ الْيَتِيمِ، أَنْ يَجْتَمِعَ إِلَيْهِ نُصَحَاؤُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ، فَيَنْظُرُون الَّذِى هُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَكَانَ طَاوُسٌ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْيَتَامَى قَرَأَ: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 185 الْمُصْلِحِ) [البقرة: 220] . قَالَ عَطَاءٌ: فِى يَتَامَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، يُنْفِقُ الْوَلِىُّ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ بِقَدْرِهِ مِنْ حِصَّتِهِ. ذكر أبو عبيد، عن ابن عباس فى قوله: (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير) [البقرة: 220] ، قال: لما أنزل الله: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا) [النساء: 10] الآية كره المسلمون أن يضموا اليتامى إليهم، وتحرجوا أن يخالطوهم فى شىء، وسألوا النبى (صلى الله عليه وسلم) عنه فأنزل الله: (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم. . ولو شاء الله لأعنتكم) [البقرة: 220] ، يعنى لأحرجكم وضيق عليكم، ولكنه يسر ووسع فقال: (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف) [النساء: 6] ، وروى النخعى، عن عائشة قالت: إنى لأكره أن يكون مال اليتيم عندى، لا أخلط طعامه بطعامى، ولا شرابه بشرابى. قال أبو عبيد: والذى دار عليه المعنى من هذا أن الله تعالى لما أوجب النار لآكل مال اليتيم أحجم المسلمون عن كل شىء من أمرهم حتى عن مخالطتهم، فنسخ الله ذلك بالإذن فى المخالطة، والإذن فى الإصابة من مالهم بالمعروف إذا كان الولى محتاجًا. قال أبو عبيد: ومخالطة اليتامى أن يكون لأحدهم المال ويشق على كافله أن يفرز طعامه عنه ولا يجد بدا من خلطه بعياله، فيأخذ من مال اليتيم ما يرى أنه كافيه بالتحرى، فيجعله مع نفقة أهله، وهذا قد يقع فيه الزيادة والنقصان، فجاءت هذه الآية الناسخة بالرخصة فيه. قال أبو عبيد: وهذا عندى أصل لما يفعله الرفقاء فى الأسفار أنهم يتخارجون النفقات بينهم بالسوية وقد لا يتساوون فى كثرة المطعم وقلته، وليس كل من قل طعمه تطيب نفسه بالتفضل على رفيقه، فلما كان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 186 هذا فى أموال اليتامى واسعًا كان فى غيرهم أوسع، ولولا ذلك لخفت أن يضيق فيه الأمر على الناس. - باب اسْتِخْدَامِ الْيَتِيمِ فِى السَّفَرِ وَالْحَضَرِ إِذَا كَانَ صَلاحًا لَهُ وَنَظَرِ الأمِّ وَزَوْجِهَا لِلْيَتِيمِ / 27 - فيه: أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمَدِينَةَ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَأَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِى، فَانْطَلَقَ بِى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَنَسًا غُلامٌ كَيِّسٌ، فَلْيَخْدُمْكَ، قَالَ: فَخَدَمْتُهُ فِى السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، مَا قَالَ لِى لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا؟ وَلا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا؟ . قال المهلب: فيه من الفقه: جواز استخدام اليتيم الحر الصغير الذى لا يحوز أمره. وفيه: أن خدمة العالم والإمام واجبة على المسلمين وأن ذلك شرف لمن خدمهم لما يرجى من بركة ذلك. - باب إِذَا وَقَفَ أَرْضًا وَلَمْ يُبَيِّنِ الْحُدُودَ فَهُوَ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ / 28 - فيه: أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: (كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِىٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ مَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَدْخُلُهَا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 187 وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمرن: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِى إِلَىَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، فَقَالَ: بَخْ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، أَوْ رَايِحٌ، شَكَّ ابْنُ مَسْلَمَةَ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّى أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِى الأقْرَبِينَ، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِى أَقَارِبِهِ وَفِى بَنِى عَمِّهِ) . / 29 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ رَجُلا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ أُمَّهُ تُوُفِّيَتْ، أَيَنْفَعُهَا إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ لِى مِخْرَافًا وَأُشْهِدُكَ أَنِّى قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا) . قال المهلب: إذا لم يبين الحدود فى الوقف فإنما يجوز إذا كان للأرض اسم معلوم يقع عليها وتتعين به، كما كان بيرحاء معينًا، وكما كان المخراف معينًا عند من أشهده، وعلى هذا الوجه تصح الترجمة، وأما إذا لم يكن الوقف معينًا وكانت له مخاريف وأموال كثيرة، فلا يجوز الوقف إلا بالتحديد والتعيين، ولا خلاف فى هذا. وفيه: أن لفظ الصدقة يخرج الشىء المتصدق به عن ملك الذى يملكه قبل أن يتصدق به، ولا رجوع له فيه، وهو حجة لمالك فى إجازته للموهوب له، وللمتصدق عليه المطالبة بالصدقة وإن لم يحزها حتى يحوزها، وتصح له ما دام المتصدق والواهب حيا، بخلاف ما ذهب إليه الكوفيون والشافعى أن اللفظ بالصدقة والهبة لا يوجب شيئًا لمعين وغيره حتى تقبض، وليس للموهوب له ولا للمتصدق عليه المطالبة بها على ما تقدم فى كتاب الهبات. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 188 وفى هذا الحديث دليل أن الكلام بها قد أوجب حكمًا، فله المطالبة للمعين على ما قاله مالك؛ لقوله: (وإنها صدقة يا رسول الله فضعها حيث أراك الله) فلم يجز لأبى طلحة الرجوع فيها بعد قوله: (إنها صدقة يا رسول الله) لأنه قد صح إخراجه لها عن ملكه بهذا اللفظ إلى ما يجوز له أخذها. وفيه: أن من أخرج شيئًا من ماله ولم يملكه أحدًا فجائز أن يضعه حيث أراه الله من سبل الخير على ما تقدم فى باب: إذا أوقف شيئًا فلم يدفعه إلى غيره فهو جائز، وأنه يجوز أن يشاور فيه من يثق برأيه، وليس لذلك وجه معلوم لا يتعدى كما قال بعض الناس: معنى قول الرجل: لله، وفى سبيل الله كذا دون كذا، ألا ترى أن الصدقة الموقوفة رجعت إلى قرابة أبى طلحة ولو سبلها فى وجه من الوجوه لم تصرف إلى غيره. وذهب مالك والشافعى إلى أن من حبس دارًا على قوم معينين أو تصدق عليهم بصدقة ولم يذكر أعقابهم، أو ذكر ولم يجعل لها بعدهم مرجعًا إلى المساكين أو إلى من لا يعدم وجوده من وجوه البر، فمات المحبس عليهم وانقرضوا؛ أنها لا ترجع إلى الذى حبسها أبدًا، وترجع حبسًا على أقرب الناس بالمحبس يوم ترجع لا يوم حبس، ألا ترى أن أبا طلحة جعل حائطه ذلك صدقة لله ولم يذكر وجهًا من الوجوه التى توضع فيه الصدقة، أمره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يجعلها فى أقاربه، وكذلك كل صدقة لا يذكر لها مرجع تصرف على أقارب المتصدق بدليل هذا الحديث، وهذا عند مالك فيما لم يرد به صاحبه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 189 حياة المتصدق عليه، فإذا أراد ذلك فهى عنده عمرى ترجع إلى صاحبها بعد انقراض المتصدق عليه، ولمالك فيها قول ثان: أنه إذا حبس على قوم معينين ولم يجعل لها مرجعًا إلى المساكين أنها ترجع ملكًا إلى ربها كالعمرى. قيل لمالك: لو قال فى صدقته: هى حبس على فلان هل تكون بذلك محبسة؟ قال: لا؛ لأنها لمن ليس بمجهول، وقد حبسها على فلان فهى عمرى؛ لأنه أخبر أن تحبيسها غير دائم ولا ثابت، وأنه إلى غاية. ولم يختلف قوله إذا قال: هى حبس صدقة أنها لا ترجع إليه أبدًا. فالألفاظ التى ينقطع بها ملك الشىء عن ربه ولا يعود إليه أبدًا عند مالك وأصحابه أن يقول: حبس صدقة، أو حبس لا يباع، أو حبس على أعقاب مجهولين مثل الفقراء والمساكين وفى سبيل الله. فهذا كله عندهم مؤبد لا يرجع إلى صاحبها ملك أبدًا. وأما إذا قال: حياة المحبس عليه أو إلى أجل من الآجال فإنها ترجع إلى صاحبها ملكًا أو إلى ورثته، وهى كالعمرى والسكنى. قال ابن المنذر: واختلفوا فى الرجل يأمر وصيه يضع ثلثه حيث أراه الله. فقالت طائفة: يجعله فى سبيل الخير ولا يأكله. هذا قول مالك وبه قال الشافعى وزاد: لا يعطيه وارثًا للميت؛ لأنه إنما كان يجوز له منه ما كان يجوز للميت. وقال أبو ثور: يجوز أن يعطيه لنفسه أو لولده أو لمن شاء، ويجعله لبعض ورثة الميت، وليست هذه وصية للميت إنما هذا أمر للموصى أن يضعه حيث يشاء. وهو قول الكوفيين غير أنهم قالوا: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 190 ليس له أن يجعلها لأحد من ورثة الميت؛ فإن جعله لبعضهم فهو باطل مردود على جميع الورثة. وفيه من الفقه: أن من تصدق بشىء من ماله بعينه أن ذلك يلزمه، وإن كان أكثر من ثلث ماله؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يقل لأبى طلحة هل هو ثلث مالك؟ كما قال لأبى لبابة، وقال لسعد: الثلث كثير. وقد تقدم فى الزكاة. - باب إِذَا أَوْقَفَ جَمَاعَةٌ أَرْضًا مُشَاعًا فَهُوَ جَائِزٌ / 30 - فيه: أَنَسٍ: (أَمَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا بَنِى النَّجَّارِ، ثَامِنُونِى بِحَائِطِكُمْ هَذَا، قَالُوا لا، وَاللَّهِ لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إِلَى اللَّهِ) . وقف المشاع جائز عند مالك كهبته وإجارته وبه قال أبو يوسف والشافعى، وقال محمد ابن الحسن: لا يجوز. بناء على أصلهم فى الامتناع من إجارة المشاع، وحجة من أجاز ذلك أن بنى النجار جعلوا حائطكم لمكان المسجد وقالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تعالى. وأجاز النبى (صلى الله عليه وسلم) ذلك من فعلهم وكان ذلك وقفًا للمشاع، والحجة فى السنة لا فى خلافها. - باب الْوَقْفِ للغَنىِّ وَاْلفَقِيرِ وَالضَّيْفِ / 31 - فيه: ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ وَجَدَ مَالا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: إِنْ شَئْتَ تَصَدَّقْتَ بِهَا، فَتَصَدَّقَ بِهَا فِى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَذِى الْقُرْبَى وَالضَّيْفِ) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 191 ليس من شرط الوقف أن يكون للفقراء والمسّاكين خاصة، ألا ترى أن عمر شرط فى وقفه مع الفقراء والمساكين ذا القربى والضيف، وقد يكون فيهم أغنياء، وكذلك قال النبى (صلى الله عليه وسلم) لأبى طلحة: (إنى أرى أن تجعلها فى الأقربين) ، فجعلها لحسان بن ثابت، وأبىّ بن كعب، ولم يكونوا فقراء، ولم يحرم الله على الأغنياء من الصدقات إلا الزكاة وصدقة الفطر خاصة، وأحل لهم الفئ والجزية وصدقات التطوع كلها، فجائز للموقف أن يجعل وقفه فيمن شاء من أصناف الناس، أغنياء كانوا أو فقراء، أو قرباء كانوا أو بعداء له، شرطه فى ذلك. وهذا لا خلاف فيه. - باب وَقْفِ الأرْضِ لِلْمَسْجِدِ / 32 - فيه: أَنَسُ لَمَّا قَدِمَ النبى (صلى الله عليه وسلم) الْمَدِينَةَ، أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: يَا بَنِى النَّجَّارِ، ثَامِنُونِى بِحَائِطِكُمْ هَذَا، قَالُوا: لا، وَاللَّهِ لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إِلَى اللَّهِ) . وترجم له باب إذا قال الواقف لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. فى هذا الحديث حجة على أبى حنيفة فى إبطاله الأوقاف والأحباس؛ لأن الأمة مجمعة أن من جعل أرضًا له مسجدًا للمسلمين فى صحته أنه ليس لورثته ردها ميراثًا بينهم. وقال أبو حنيفة فى الرجل يحبس داره على المساكين يسكنونها: أنها ترجع ميراثًا بين ورثته، ويجيز ذلك إن فعله فى مرضه أو فى وصيته، ويكون فى ثلثه فإن قال: إن المسجد لا يجوز له ولا لورثته الرجوع فيه بعد أن أخرجه فى صحته وجعله مسجدًا لجماعة المسلمين؛ قيل له: فما الفرق بين ما جعل من ذلك مسجدًا وبين ما جعله سقاية أو مقبرة أو موقفًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 192 لجماعة المسلمين، وهل بينك وبين من عكس هذا عليك، فأجاز ما أبطلت، وأبطل ما أجزت فرق من أصل أو قياس؛ فلن يقول فى شىء من ذلك قولاً إلا ألزم فى الآخر مثله. قال الطبرى: وقد أجاز العلماء أوقاف أهل الذمة ولم يروا نقضها فكيف تنقض أوقاف المسلمين؟ ووجدت بخط أبى عبيد الحيرى: وسئل أبو الحسن على بن ميسرة القاضى البغدادى عن رجل كان له على نصرانى دين، فأفلس النصرانى ولا مال له سوى وقف أوقفه على مساكين أهل ملته قبل استحداثه الدين؛ هل يجوز نقض الوقف وأخذ المسلم له قضاء من دينه أم لا؟ فأجاب بأن قال بأن أهل الذمة ليست أملاكهم مستقرة، وإنما لهم شبهة ملك على ما فى أيديهم، فإذا اختاروا رفع أيديهم عن الشبهة ارتفعت، ولم يعترض عليهم فى نقض ما عقدوه مما لو كان فى شريعتنا لم يجز نقضه؛ لأنهم على ذلك صولحوا، ولما جاز إقرارهم على غير دين الحق إذا أعطوا الجزية وجب أن لا يعترض عليهم فى نقض وقف ولا غيره مما يتعلق بحق الله. - باب الْوَقْفِ وَكَيْفَ يُكْتَبُ / 33 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: (أَصَابَ عُمَرُ بِخَيْبَرَ أَرْضًا، فَأَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِى بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شَئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا، فَتَصَدَّقَ عُمَرُ، أَنَّهُ لا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلا يُوهَبُ وَلا يُورَثُ، فِى الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَالرِّقَابِ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ، السَّبِيلِ لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 193 هذا الحديث أصل فى إجازة الحبس والوقف، وهو قول أهل المدينة والبصرة، ومكة والشام، والشعبى من أهل العراق، وبه قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن والشافعى، وقال أبو حنيفة وزفر: الحبس باطل، ولا يخرج عن مالك الذى أوقفه ويرثه ورثته، ولا يلزم الوقف عنده إلا أن يحكم به الحاكم وينفذه أو يوصى به بعد موته، وإذا أوصى به اعتبر من الثلث، فإن جمله الثلث جاز وإلا رد. وحجة الجماعة قوله (صلى الله عليه وسلم) لعمر: (إن شئت حبست أصلها) وهذا يقتضى أن الشىء إذا حبس صار محبوسًا ممنوعًا منه، لا يجوز الرجوع فيه؛ لأن هذا حقيقة الحبس، ألا ترى أن عمر لما أراد التقرب بفعل ذلك رجع فى صفته إلى بيان النبى (صلى الله عليه وسلم) وذلك قوله: فتصدق بها عمر. أنه لا يباع أصلها ولا توهب ولا تورث. وعند المخالف هذا باطل، وليس فى الشريعة صدقة بهذه الصفة. وأيضًا فإن المسألة إجماع من الصحابة، وذلك أن أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعائشة، وعمرو بن العاص، وابن الزبير، وجابرًا، كلهم أوقفوا الوقوف، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة. واحتج أبو حنيفة بما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 194 رواه عطاء، عن ابن المسيب قال: سألت شريحًا عن رجل جعل داره حبسًا على الآخر فالآخر من ولده؟ فقال: لا حبس على فرائض الله. قالوا: فهذا شريح قاضى عمر وعثمان وعلى والخلفاء الراشدين حكم بذلك واحتج أيضًا بما رواه ابن لهيعة، عن أخيه عيسى، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: (سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول بعد ما نزلت سورة النساء، وأنزل الله فيها الفرائض: نهى عن الحبس) . قال الطبرى: ولا حجة له فى قول شريح؛ لأن من تصدق بماله فى صحة بدنه فقد زال ملكه عنه، ومحال أن يقال لما زال ملكه عنه قبل موته بزمان حبسه عن فرائض الله، ولو كان حابسًا عن فرائض الله من أزال ملكه عما ملكه لم يجز لأحد التصرف فى ماله، وفى إجماع الأمة أن ذلك ليس كذلك ما ينبئ عن فساد تأويل من تأول قول شريح؛ أنه بمعنى إبطال الصدقات المحرمات، فثبت أن الحبس عن فرائض الله إنما هو لما يملكه فى حال موته، فيبطل حبسه كما قال شريح، ويعود ميراثًا بين ورثته. ومثال ذلك أن يحبس مالا فى حياته على إنسان بعينه فيجعل له غلته دون رقبته، أو على قوم بأعيانهم، ولا يجعل لحبسه مرجعًا فى السبل التى لا يفقد أهلها بحال، فإن ذلك يكون حبسًا على فرائض الله، وليس فى حديث عطاء أن الرجل جعل لحبسه مرجعًا بعد انقراض ورثته، ولا أخرجها من يده إلى من حبسها عليه ولا إلى فائض حتى تحدث به الوفاة، فكانت لا شك أن صاحبها هلك وهى فى ملكه ولورثته بعد وفاته، فيكون هذا من الحبس عن فرائض الله، إذ كانت الصدقة لا تتم لمتصدق بها عليه إلا بقبضه لها. وأما الصدقة التى أمضى المصدق بها فى حياته على ما أذن الله به على لسان رسوله وعمل به الأئمة الراشدون، فليس من الحبس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 195 عن فرائض الله، ولا حجة فى قول شريح ولا أحد مع مخالفة السنة وعمل أئمة الصحابة الذين هم الحجة على جميع الخلق. ويقال للمحتج بقول شريح فى إبطال الصدقات المحرمات فى الصحة: إن شريحًا لم يقل: لا حبس عن فرائض الله فى الصحة. فكيف وجب أن تكون صدقة المتصدق فى حال الصحة من الحبس عن فرائض الله ولا يجب أن تكون صدقة فى مرضه الذى يموت فيه، أو فى وصيته من الحبس عن فرائض الله؟ ومعنى الصدقتين واحد، وما البرهان على أن التى أجزت هى الجائزة والتى أبطلت هى الباطلة؟ فإن قال: إن للرجل فى مرضه إخراج ثلث ماله فيما شاء ولا اعتراض للورثة عليه فيه. قيل: وكذلك له فى حال صحته إخراج جميع ماله فيما شاء وليس للورثة عليه سبيل، ولما كان ما يفعله الرجل فى ثلثه لا يدخل فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا حبس عن فرائض الله) عند الجميع كان ما يفعله الرجل فى صحته أولى بذلك لمن أنصف. قال ابن القصار: وأما حديث ابن عباس فرواه ابن لهيعة، وهو رجل اختلط عقله فى آخر عمره وأخوه غير معروف فلا حجة فيه، وقد تأول الناس فى حديث ابن عباس تأويلا هو أولى من تأويل شريح، وذلك أن معنى قوله: (لا حبس عن فرائض الله) منع ما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 196 كان أهل الجاهلية يفعلونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، كأن يحبسون ما يجعلونه كذلك ولا يورثونه أحدًا، فلما نزلت آية المواريث قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا حبس) . فإن قيل: هذا تأويل فاسد؛ لأن قوله: (لا حبس) يقتضى نفى حبس فعل فى الإسلام، وفعل أهل الجاهلية لم يفعل فى الإسلام. قيل: هو نفى لما كانوا يفعلونه وهم كفار بعد الإسلام. فإن قيل: كيف يجوز أن تخرج الأرض بالوقف من ملك أربابها، لا إلى ملك مالك؟ قال الصحاوى: يقال لهم: وما ينكر هذا وقد اتفقت أنت وخصمك على الأرض يجعلها صاحبها مسجدًا للمسلمين ويخلى بينهم وبينها، وقد خرجت بذلك من ملك إلى غير ملك ولكن إلى الله تعالى وكذلك الساقيات والجسور والقناطر فما ألزمت مخالفك فى حجتك عليه يلزمك فى هذا كله. - باب وَقْفِ الدَّوَابِّ وَالْكُرَاعِ وَالْعُرُوضِ وَالصَّامِتِ وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: فِيمَنْ جَعَلَ أَلْفَ دِينَارٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَدَفَعَهَا إِلَى غُلامٍ لَهُ تَاجِرٍ، يَتْجِرُ بِهَا، وَجَعَلَ رِبْحَهُ صَدَقَةً لِلْمَسَاكِينِ وَالأقْرَبِينَ، هَلْ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ رِبْحِ تِلْكَ الألْفِ شَيْئًا؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَعَلَ رِبْحَهَا صَدَقَةً فِى الْمَسَاكِينِ، قَالَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا. / 34 - فيه: ابْنِ عُمَرَ رَضِى اللَّهُ عَنْهُمَا (أَنَّ عُمَرَ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَعْطَاهَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 197 لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا فَحَمَلَ عَلَيْهَا رَجُلا، فَأُخْبِرَ عُمَرُ أَنَّهُ قَدْ وَقَفَهَا يَبِيعُهَا، فَسَأَلَ النَّبىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَبْتَاعَهَا، فَقَالَ: لا تَبْتَعْهَا، وَلا تَرْجِعَنَّ فِى صَدَقَتِكَ) . اختلف العلماء فى وقف الحيوان والعروض والدنانير والدراهم فأجاز ذلك مالك إلا أنه كره وقف الحيوان أن يكون على العقب، فإن وقع أمضاه. وأجاز ابن القاسم وأشهب وقف الثياب، وقال محمد بن الحسن، والشافعى: يجوز وقف الحيوان. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يجوز وقف الحيوان والعروض والدنانير والدراهم. وقالوا: إن هذه أعيان لا تبقى على حال أبد الدهر، فلا يجوز وقفها، وأيضًا فإن الوقف يصح على وجه التأبيد، فمن أوجبه فيما لا يتأبد صار كمن أوقف وقفًا مؤقتًا يومًا أو شهرًا أو سنة، وهذا لا يجوز. ولو صح الوقف فيما لا يتأبد لصح فى جميع الأثمان وسائر ما يملك كالهبة والوصية. وقال ابن القصار: الوقف المؤقت يجوز عند مالك، ويجوز فى جميع الأنواع مما يبقى غالبًا، والدليل على جواز وقف الحيوان والسلاح حديث عمر فى الفرس الذى حمل عليه فى سبيل الله، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنكم تظلمون خالدًا، إنه قد حبس أدراعه وأعتده فى سبيل الله) وأعتده هى خيله، فأخبر أنه حبس خيله وسلاحه فى سبيل الله، ولفظ حبس يقتضى أن يكون محبوسًا عن جميع المنافع إلا على الوجه الذى حبس فيه، ولو لم يصح تحبيس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 198 ذلك لم يكونوا ظالمين فيما طلبوا من ذلك، ولكان (صلى الله عليه وسلم) يبطله. فإن قيل: لا حجة فى حديث عمر على جواز وقف الحيوان؛ لأن هذا الفرس الذى حمل عليه عمر فى سبيل الله إنما كان هبة منه له فلذلك جاز له بيعه، ولو كان حبسًا لم يجز بيعه، ولذلك قال الشافعى وابن الماجشون: لا يجوز بيع الفرس الحبس ويترك أبدًا. فالجواب: أن ربيعة ومالكًا أجازا بيع الفرس الحبس إذا لم يبق فيه قوة للغزو ويجعل ثمنه فى آخره. قال ابن لقاسم: فإن لم يبلغ شورك به فيه، وكذلك الثياب إذا لم يبق فيه منفعة بيعت واشترى بثمنها ما ينتفع به، فإن لم يكن تصدق به فى سبيل الله. وأما صحة الحجة لحديث عمر فى هذا الباب فإنه لا يخلو أن يكون هذا الفرس الذى حمل عليه عمر حبسًا أو هبة وتمليكًا. وعلى كلا الوجهين فقد جاز للرجل بيعه، ولم يأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بفسخ البيع حين بلغه ذلك، وفهم من قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم واحد) أن نهيه عن شرائه إنما كان على وجه التنزه لا على التحريم، ولو كان على التحريم لبين له (صلى الله عليه وسلم) أنه لا يحل شراؤه بدرهم ولا بأقل، وقد تقدم شىء فى هذا المعنى فى باب إذا حمل على فرس فى سبيل الله فهو كالعمرى والصدقة فى آخر أبواب المنحة والهبات. واختلفوا فى حبس الدنانير والدراهم على من تكون زكاتها، فقال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 199 مالك فى المدونة: لو أن رجلا حبس مائة دينار موقوفة يسلفها الناس ويردونها هل ترى فيها زكاة؟ قال: نعم، الزكاة فيها قائمة كل عام. وخالف ذلك ابن القاسم فقال فى رجل قال لرجل: خذ هذه المائة دينار تتجر فيها ولك ربحها وليس عليك فيها ضمان، فليس على الذى هى فى يده أن يزكيها ولا على الذى هى له زكاتها حتى يقبضها فيزكيها زكاة واحدة. قال سحنون: أراها كالسلف، وعليه ضمانها إن تلفت، كالرجل يحبس المال على الرجل فينتقص أنه ضامن له. وأما قول الزهرى فى الرجل يجعل ألف دينار فى سبيل الله أنه لا يأكل من ربحها، فإنما ذلك إذا كان فى غنى عنها، وأما إن احتاج وافتقر فمباح له الأكل منها ويكون كأحد المساكين. قال ابن حبيب: وهذا قول مالك وجميع أصحابنا أنه ينفق على ولد الرجل وولد ولده من حبسه إذا احتاجوا، وإن لم يكن جعل لهم فى ذلك اسمًا، فإن استغنوا فلا حق لهم. واستحسن مالك أن لا يستوعبوها إذا احتاجوا وأن يكون منها سهم جار على الفقراء لئلا يدرس. وقاله ربيعة ويحيى بن سعيد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 200 - باب نَفَقَةِ الْقَيِّمِ لِلْوَقْفِ / 35 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: لا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِى دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِى وَمَؤُنَةِ عَامِلِى، فَهُوَ صَدَقَةٌ) . / 36 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ اشْتَرَطَ فِى وَقْفِهِ أَنْ يَأْكُلَ مَنْ وَلِيَهُ، وَيُؤْكِلَ صَدِيقَهُ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مَالا. إنما أراد البخارى بقوله نفقة القيم للوقف والله أعلم أن يبين أن المراد بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (مئونة عاملى) أنه عامل أرضه التى أفاءها الله عليه من بنى النضير وفدك وسهمه من خيبر، وليس عامله حافر قبره كما تأول بعض الفقهاء، واستشهد على ذلك البخارى بحديث عمر الذى أردفه بعده؛ أنه شرط فى وقفه أن يأكل من وليه بالمعروف. فبان بهذا أن العامل فى الحبس له منه أجرة عمله وقيامه عليه، وليس ذلك بتغيير للحبس ولا نقض لشرط المحبس إذا حبس على قوم بأعيانهم، لا غنى عن عامل يعمل للمال، وفى هذا من الفقه جواز أخذ أجرة القسام من المال المقسوم، وإنما كره العلماء أجر القسام؛ لأن على الإمام أن يرزقهم من بيت المال؛ فإن لم يفعل فلا غنى بالناس عن قاسم يقسم بينهم، كما لا غنى عن عامل يعمل فى المال، ومما يشبه هذا المعنى ما روى ابن القاسم عن مالك، فى الإمام يذكر له أن ناحية من عمله كثيرة العشور قليلة المساكين، وناحية أخرى قليلة العشور كثيرة المساكين فهل له أن يتكارى ببعض العشور حتى يحملها إلى الناحية الكثيرة المساكين فكره ذلك وقال: أرى أن يكارى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 201 عليه من الفئ أو يبيعه ويشترى هناك طعامًا. وقال ابن القاسم: لا يتكارى عليه من الفئ، أو يبيعه ويشترى هناك طعامًا. وقال ابن القاسم: لا يتكارى عليه من الفئ، ولكن يبيعه ويشترى بثمنه طعامًا. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما تركته بعد نفقة نسائى ومئونة عاملى فهو صدقة) يبين فساد قول من أبطل الأحباس والأوقاف من أجل أنها كانت مملوكة قبل الوقف، وأنه لا يجوز أن تكون ملكًا لمالك ينتقل إلى غير مالك فيقال له: أما أموال بنى النضير وفدك وخيبر لم تنتقل بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى أحد ملكها، بل هى صدقة منه ثابتة على الأيام والليالى، تجرى عنه فى السبل التى أجراها فيها منذ قبض صلى الله عليه، فكذلك حكم الصدقات المحرمة قائمة على أصولها جارية عليها فيما سبلها فيه صاحبها لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يملك. 30 - باب إِذَا وَقَفَ أَرْضًا أَوْ بِئْرًا وَاشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ مِثْلَ دِلاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَوْقَفَ أَنَسٌ دَارًا، فَكَانَ إِذَا قَدِمَهَا نَزَلَهَا. وَتَصَدَّقَ الزُّبَيْرُ بِدُورِهِ، وَقَالَ لِلْمَرْدُودَةِ مِنْ بَنَاتِهِ أَنْ تَسْكُنَ غَيْرَ مُضِرَّةٍ وَلا مُضَرٍّ بِهَا، فَإِنِ اسْتَغْنَتْ بِزَوْجٍ، فَلَيْسَ لَهَا حَقٌّ، وَجَعَلَ ابْنُ عُمَرَ نَصِيبَهُ مِنْ دَارِ عُمَرَ سُكْنَى لِذَوِى الْحَاجَةِ مِنْ آلِ عَبْدِاللَّهِ. / 37 - فيه: أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ أَنَّ عُثْمَانَ حين حُوصِرَ، أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ، وَلا أَنْشُدُ إِلا أَصْحَابَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 202 مَنْ حَفَرَ رُومَةَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، فَحَفَرْتُهَا؟ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ، فَجَهَّزْتُهُمْ؟ قَالَ: فَصَدَّقُوهُ بِمَا قَالَ. وَقَالَ عُمَرُ فِى وَقْفِهِ: لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ، وَقَدْ يَلِيهِ الْوَاقِفُ وَغَيْرُهُ فَهُوَ وَاسِعٌ لِكُلٍّ. قال المؤلف: لا خلاف بين العلماء أن من شرط لنفسه ولورثته نصيبًا فى وقفه أن ذلك جائز، وقد تقدم هذا المعنى فى باب هل ينتفع الواقف بوقفه. وأما حديث بئر رومة فإنه وقع فى هذا الباب أن عثمان قال: (ألستم تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: من حفر بئر رومة فله الجنة فحفرتها) من رواية شعبة، عن أبى إسحاق السبيعى، عن أبى عبد الرحمن السلمى. وهو وهم ممن دون شعبة والله أعلم، والمعروف فى الأخبار أن عثمان اشتراها لا أنه حفرها، روى ذلك أبو عيسى الترمذى قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقى، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن زيد بن أبى أنيسة، عن أبى إسحاق، عن أبى عبد الرحمن قال: (هل تعلمون أن بئر رومة لم يكن يشرب منها أحد إلا بثمن فابتعتها فجعلتها للغنى والفقير وابن السبيل؟ قالوا: اللهم نعم) ورواه معمر بن سليمان، عن أبى نضرة، عن أبى سعيد مولى بنى أسد، عن عثمان قال: (ألستم تعلمون أنى اشتريت. . .) ورواه عباس الدورى، عن يحيى بن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 203 أبى الحجاج المنقرى، عن أبى مسعود الجريرى، عن ثمامة بن حزن القشيرى قال: (شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان فقال: ألستم تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة فقال: من يشترى بئر رومة ويجعل دلوه فيها كدلاء المسلمين وله بها مشرب فى الجنة. فأتى عثمان اليهودى فساومه بها فأبى أن يبيعها كلها، فاشترى نصفها باثنى عشر ألف درهم فجعله للمسلمين. فقال له عثمان: إن شئت جعلت على نصيبى قرنين، وإن شئت فلى يوم ولك يوم. فقال: بل لى يوم ولك يوم. فكان إذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما يكفيهم يومين، فلما رأى ذلك اليهودى قال: أفسدت على ركيتى فاشتر منى نصيبى. هذا الذى نقله أهل الخبر والسير، ولا يوجد أن عثمان حفرها إلا فى حديث شعبة، والله أعلم ممن جاء الوهم، وذكر ابن الكلبى أنه كان يشترى منها قربة بدرهم قبل أن يشتريها عثمان. 31 - باب إِذَا قَالَ الْوَاقِفُ: لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إِلَى اللَّهِ، فَهُوَ جَائِزٌ / 38 - فيه: أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا بَنِى النَّجَّارِ، ثَامِنُونِى بِحَائِطِكُمْ، قَالُوا: لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إِلَى اللَّهِ) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 204 قال المؤلف: إنما قال لهم: (ثامنونى) أى: اطلبوا ثمن حائطكم منى، ليبتاعه لمكان المسجد. فقالوا له: لا نبتغى الثمن فيه إلا من الله، فكان ذلك تسليما منهم للحائط وإخراجًا له من ملكهم لله، لا يجوز رجوعهم فيه، وأجاز ذلك النبى (صلى الله عليه وسلم) وكان من فعلهم بمنزلة ما لو اشتراه النبى (صلى الله عليه وسلم) ووقفه لمكان المسجد. فإن قيل: قولهم: (لا نطلب ثمنه إلا إلى الله) ليس من الألفاظ الموجبة للتحبيس والوقف عند الفقهاء، وإنما يوجب التحبيس عندهم قوله: هو حبس صدقة، أو حبس مؤبد، أو حبس فقط عند مالك على ما تقدم. فالجواب: أنه لما اقترن بقولهم: (لا نطلب ثمنه إلا إلى الله) ما علموه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما أراد ابتياع الحائط منهم لمكان المسجد، قام ذلك مقام قولهم: هو حبس لله. ولا خلاف أنه لو قال رجل: جعلت دارى هذه مسجدًا. أنها وقف غير مملك. وقولهم: (لا نطلب ثمنه إلا إلى الله) كقولك: طلبت إلى الله، وطلبت من الله بمعنى واحد. 32 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ (إلى) الْفَاسِقِينَ) [المائدة: 106] / 39 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِىِّ وَعَدِىِّ بْنِ بَدَّاءٍ، فَمَاتَ السَّهْمِىُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدُوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 205 جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا مِنْ ذَهَبٍ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ وُجِدَ الْجَامُ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: ابْتَعْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِىٍّ بْنِ بَدَّاءٍ، فَقَامَ رَجُلانِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، فَحَلَفَا: (لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا (وَإِنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ، قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ (. قال المؤلف: اختلف أهل التأويل فى معنى هذه الآية فروى عن ابن عباس أنه أجاز شهادة أهل الكفر على المسلمين فى الوصية فى السفر. وأخذ بذلك الحديث الشعبى وابن المسيب وجماعة من التابعين، ورأوا الآية محكمة غير منسوخة. وقالت طائفة: الآية منسوخة. وهو قول مالك والكوفيين والشافعى، واحتجوا بقوله تعالى: (ممن ترضون من الشهداء) [البقرة: 282] ، وقالوا: لا يكون أهل الكتاب عدولا ممن ترضى شهادته. وقد تقدمت هذه المسألة فى آخر كتاب الشهادات. وروى ابن جريح عن عكرمة فى هذه الآية قال: (كان تميم الدارى وأخوه نصرانيين وهما من لخم، وكان متجرهما إلى مكة، فلما هاجر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة حولا متجرهما إلى المدينة فقدم ابن أبى مارية مولى عمرو بن العاص المدينة وهو يريد الشام تاجرًا، فخرجوا جميعًا حتى إذا كانوا ببعض الطريق مرض ابن أبى مارية فكتب وصيته بيده، ثم دسها فى متاعه، وأوصى إليهما، فلما مات فتحا متاعه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 206 فوجدوا فيها أشياء فأخذاها، فلما قدما على أهله فتحوا متاعه فوجدوا وصيته قد كتب فيها عهده وما خرجوا به، ففقدوا منه أشياء فسألوهما، فقالا: هذا الذى قبضنا له. فرفعوهما إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فنزلت هذه الآية إلى: (الآثمين) [المائدة: 106] فأمرهما النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يستحلفوهما بالله الذى لا إله إلا هو ما قبضنا غير هذا ولا كتمنا، فمكثا ما شاء الله، ثم ظهر على إناء من فضة منقوش بذهب معهما فقالوا: هذا من متاعه. فقالا: اشتريناه منه. فارتفعوا إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فنزلت: (فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما) [المائدة: 107] من أولياء الميت، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رجلين من أهل الميت فكان يقول: صدق الله ورسوله وبلغ، إنى لأنا أخذت الإناء. والجام إنما يشرب به. وقولهم: مخوص من ذهب يعنى: أنه نقش فيه صفة الخوص وطلى بالذهب، والخوص: ورق النخل والمقل. 33 - باب قَضَاءِ الْوَصِىِّ دُيُونَ الْمَيِّتِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنَ الْوَرَثَةِ / 40 - فيه: جَابِرُ (أَنَّ أَبَاهُ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ سِتَّ بَنَاتٍ، وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا، فَلَمَّا حَضَرَ جِدَادُ النَّخْلِ، أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ وَالِدِى اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا كَثِيرًا، وَإِنِّى أُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ الْغُرَمَاءُ، قَالَ: اذْهَبْ فَبَيْدِرْ كُلَّ تَمْرٍ عَلَى نَاحِيَتِهِ، فَفَعَلْتُ، ثُمَّ دَعَوْتُهُ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 207 فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ أُغْرُوا بِى تِلْكَ السَّاعَةَ، فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ أَطَافَ حَوْلَ أَعْظَمِهَا بَيْدَرًا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ أَصْحَابَكَ، فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِى، وَأَنَا وَاللَّهِ رَاضٍ أَنْ يُؤَدِّىَ، اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِى وَلا أَرْجِعَ إِلَى أَخَوَاتِى بِتَمْرَةٍ، فَسَلِمَ وَاللَّهِ الْبَيَادِرُ كُلُّهَا، حَتَّى أَنِّى أَنْظُرُ إِلَى الْبَيْدَرِ الَّذِى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَأَنَّه لَمْ يَنْقُصْ تَمْرَةً وَاحِدَةً) . قال المؤلف: لا خلاف بين العلماء أن الوصى يجوز له أن يقضى ديون الميت بغير محضر الورثة على حديث جابر؛ لأنه لم يحضر جميع ورثة أبيه عند اقتضاء الغرماء ديونهم، وإنما اختلفوا فى مقاسمة الوصى للموصى له على الورثة، فروى ابن القاسم عن مالك أنه قال: تجوز مقامسة الوصى على الصغار ولا تجوز على الكبير الغائب. وهو قول أبى حنيفة، قال مالك: لا يقاسم على الكبير الغائب إلا السلطان. قال أبو حنيفة: ومقاسمة الورثة الوصى على الموصى له باطل، فإن ضاع نصيب الموصى له عند الوصى رجع به على الورثة. وأجازها أبو يوسف وقال: القسمة جائزة على الغيب ولا رجوع لهم على الحضور، وإن ضاع ما أخذ الوصى. وقال الطحاوى: القياس أن لا يقسم على الكبار ولا على الموصى له؛ لأنه لا ولاية له عليهم وليس يوصى للموصى له. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 208 56 - كِتَاب الأحْكَامِ - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الأمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59] / 1 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ أَطَاعَنِى فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِى فَقَدْ أَطَاعَنِى، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِى فَقَدْ عَصَانِي) . / 2 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : أَلا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإمَامُ الَّذِى عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. . . الحديث. قال المهلب: هذا يدل على وجوب طاعة السلطان وجوبًا مجملا؛ لأن فى ذلك طاعة الله وطاعة رسوله، فمن ائتمر لطاعة أولى الأمر لأمر الله ورسوله بذلك فطاعتهم واجبة فيما رأوه من وجوه الصلاح حتى إذا خرجوا إلى ما يشك أنه معصية لله لم تلزمهم طاعتهم فيه وطلب الخروج عن طاعتهم بغير مواجهة فى الخلاف. وروى عن أبى هريرة فى قوله تعالى: (وأولى الأمر منكم) [النساء: 59] ، قال: هم الأمراء. وقال الحسن: هم الأمراء والعلماء. وكان مجاهد يقول: هم أصحاب محمد. وربما قال: أولو العقل والفقه فى دين الله. وقال عطاء: هم أهل العلم والفقه، وطاعة الرسول اتباع الكتاب والسنة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 209 قال ابن عيينة: سألت زيد بن أسلم، ولم يكن أحد بالمدينة يفسر القرآن بعد محمد بن كعب تفسيره، قلت له: ما تقول فى قول الله: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم) [النساء: 59] ؟ فقال: اقرأ ما قبلها حتى تعرف. فقرأت: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن) [النساء: 58] الآية. قال: هذه فى الولاة. وفى حديث ابن عمر أن فرضًا على الأمراء نصح من ولاهم الله أمرهم، وكذلك كل من ذكر فى الحديث ممن استرعى أمرًا أو اؤتمن عليه فالواجب عليه بذل النصيحة فيه، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (من استرعى رعية فلم يحطها بنصيحة لم يرح رائحة الجنة) وسيأتى هذا الحديث بعد هذا فى باب من استرعى رعية ولم ينصح. - باب الأمَرَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ / 3 - فيه: مُعَاوِيَةَ أَنَّه بلغه أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مَلِكٌ مِنْ قَحْطَانَ، فَغَضِبَ، فَقَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِى أَنَّ رِجَالا مِنْكُمْ يُحَدِّثُونَ أَحَادِيثَ لَيْسَتْ فِى كِتَابِ اللَّهِ، وَلا تُوثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَأُولَئِكَ جُهَّالُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَالأمَانِىَّ الَّتِى تُضِلُّ أَهْلَهَا، فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، يَقُولُ: (إِنَّ هَذَا الأمْرَ فِى قُرَيْشٍ لا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلا كَبَّهُ اللَّهُ فِى النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ، مَا أَقَامُوا الدِّينَ) . / 4 - وفيه: ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَزَالُ هَذَا الأمْرُ فِى قُرَيْشٍ مَا بَقِىَ مِنْهُمُ اثْنَانِ) . قال المؤلف: هذا يرد قول النظام وضرار ومن وافقهما من الخوارج أن الإمام ليس من شرطه أن يكون قرشيا. قالوا: وإنما استحق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 210 الإمامة من كان قائمًا بالكتاب والسنة من أفناء الناس من العجم وغيرهم. قال ضرار: وإن اجتمع رجلان قرشى ونبطى ولَّينا النبطى؛ لأنه أقل عشيرة، فإذا عصى الله وأردنا خلعه كانت شوكته علينا أهون. قال أبو بكر بن الطيب: وهذا قول ساقط لم يعرج المسلمون عليه، وقد ثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أن الخلافة فى قريش، وعمل بذلك المسلمون قرنًا بعد قرن فلا معنى لقولهم، وقد صح عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه أوصى بالأنصار، وقال: (من ولى منكم من هذا الأمر شيئًا فليتجاوز عن مسيئهم) ولو كان الأمر إليهم كما أوصى بهم. ومما يشهد لصحة هذه الأحاديث احتجاج أبى بكر وعمر بها على رءوس الأنصار فى السقيفة، وما كان من إذعان الأنصار، وخنوعهم لها عند سماعها وإذكارهم بها حتى قال سعد بن عبادة: منا الوزراء، ومنكم الأمراء. ورجعت الأنصار عما كانوا عليه حين تبين لهم الحق بعد أن نصبوا الحرب، وقال الحباب بن المنذر: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب. وانقادوا لأبى بكر مذعنين. ولولا علمهم بصحة هذه الأخبار لم يلبثوا أن يقدحوا فيها، ويتعاطوا ردها، ولا كانت قريش بأسرها تقر كذبًا يدعى عليها؛ لأن العادة جرت فيما لم يثبت من الأخبار أن يقع الخلاف والقدح فيها عند التنازع، ولا سيما إذا احتج به فى هذا الأمر العظيم مع إشهار السيوف، واختلاط القول. ومما يدل على كون الإمام قريشا اتفاق الأمة فى الصدر الأول وبعده من الأعصار على اعتبار ذلك فى صفة الإمام قبل حدوث الخلاف فى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 211 ذلك، فثبت أن الحق فى اجتماعها وإبطال قول من خالفها، وسيأتى فى كتاب الرجم فى باب الرجم للحبلى من الزنا إذا أحصنت شىء من هذا المعنى. قال المهلب: وأما حديث عبد الله بن عمرو أنه سيكون ملك من قحطان، فيحتمل أن يكون ملكًا غير خليفة على الناس من غير رضا به، وإنما أنكر ذلك معاوية لئلا يظن أحد أن الخلافة تجوز فى غير قريش، ولو كان عند أحد فى ذلك علم من النبى (صلى الله عليه وسلم) لأخبر به معاوية حين خطب بإنكار ذلك عليهم، وقد روى فى الحديث أن ذلك إنما يكون عند ظهور أشراط الساعة وتغيير الدين، روى أبو هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه) فقوله: (لا تقوم الساعة) يدل أن ذلك من أشراط القيامة ومما لا يجوز، ولذلك ترجم البخارى بهذا الحديث فى كتاب الفتن فى باب تغير الزمان حتى تعبد الأوثان، وفهم منه هذا المعنى. 3 - باب أَجْرِ مَنْ قَضَى بِالْحِكْمَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [المائدة: 44] . / 5 - فيه: عَبْدِاللَّهِ: قَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا حَسَدَ إِلا فِى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِى الْحَقِّ، وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا) . قال المؤلف: روى عن الشعبى أنه سئل عن قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) [المائدة: 44] و) الظلمون) [المائدة: 45] و) الفاسقون) [المائدة: 47] فقال: الكافرون فى أهل الإسلام، والظالمون فى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 212 اليهود، والفاسقون فى النصارى. وقال الحسن: نزلت فى أهل الكتاب، تركوا أحكام الله كلها، يعنى فى الرجم والديات. قال الحسن: وهى علينا واجبة. قال عطاء وطاوس: كفر ليس ككفر الشرك وظلم ليس كظلم الشرك، وفسق ليس كفسق الشرك. قال إسماعيل بن إسحاق: وظاهر الآيات تدل أن من فعل مثل ما فعلوا، واخترع حكمًا خالف به حكم الله وجعله دينًا يعمل به لزمه مثل ما لزمهم من لزوم الوعيد حاكمًا كان أو غيره، ألا ترى أن ذلك نسب إلى جملة اليهود حين عملوا به؟ قال المؤلف: ودلت الآيات على أن من قضى بما أنزل الله فقد استحق جزيل الأجر، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أباح حسده ومنافسته، فدل أن ذلك من أشرف الأعمال وأجل ما تقرب به إلى الله، وقد روى ابن المنذر، عن محمد بن إسماعيل، حدثنا الحسن بن على، حدثنا عمران القطان أبو العوام، عن أبى إسحاق الشيبانى، عن ابن أبى أوفى قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (الله مع القاضى ما لم يجر؛ فإذا جار تخلى عنه، ولزمه الشيطان) . 4 - باب السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلإمَامِ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً / 6 - فيه: أَنَسِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ) . / 7 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَكَرِهَهُ، فَلْيَصْبِرْ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا، فَيَمُوتُ إِلا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 213 / 8 - وفيه: ابْنُ عُمَرَ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ) . / 9 - وفيه: عَلِىٍّ: أَنَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَ سَرِيَّةً، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلا مِنَ الأنْصَارِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ تُطِيعُونِى؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: قَدْ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَا جَمَعْتُمْ حَطَبًا، وَأَوْقَدْتُمْ نَارًا، ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا، فَجَمَعُوا حَطَبًا، فَأَوْقَدُوا نَارًا، فَلَمَّا هَمُّوا بِالدُّخُولِ، فَقَامَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا تَبِعْنَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فِرَارًا مِنَ النَّارِ، أَفَنَدْخُلُهَا؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ؛ إِذْ خَمَدَتِ النَّارُ وَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَذُكِرَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِى الْمَعْرُوفِ) . قال محمد بن جرير: فى حديث على وحديث ابن عمر البيان الواضح عن نهى الله على لسان رسوله عباده عن طاعة مخلوق فى معصية خالقه، سلطانًا كان الآمر بذلك، أو سوقة، أو والدًا، أو كائنًا من كان. فغير جائز لأحد أن يطيع أحدًا من الناس فى أمر قد صح عنده نهى الله عنه. فإن ظن ظان أن فى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أنس: (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشى) وفى قوله فى حديث ابن عباس: (من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر) حجة لمن أقدم على معصية الله بأمر سلطان أو غيره، وقال: قد وردت الأخبار بالسمع والطاعة لولاة الأمر فقد ظن خطئًا، وذلك أن أخبار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يجوز أن تتضاد، ونهيه وأمره لا يجوز أن يتناقض أو يتعارض، وإنما الأخبار الواردة بالسمع والطاعة لهم ما لم يكن خلافًا لأمر الله وأمر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 214 رسوله، فإذا كان خلافًا لذلك فغير جائز لأحد أن يطيع أحدًا فى معصية الله ومعصية رسوله، وبنحو ذلك قال عامة السلف. حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا إسماعيل بن أبى خالد، عن مصعب بن سعد قال: قال على، رضى الله عنه: حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدى الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا ويطيعوا. وروى مثله عن معاذ بن جبل. قال المهلب: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشى) لا يوجب أن يكون المستعمل للعبد إلا إمام قرشى، لما تقدم أنه لا تجوز الإمامة إلا فى قريش، وإنما أجمعت الأمة على أنه لا يجوز أن تكون الإمامة فى العبيد. وقوله: (من رأى شيئًا يكرهه فليصبر) يعنى: من الظلم والجور. فأما من رأى شيئًا من معارضة الله ببدعة أو قلب شريعة، فليخرج من تلك الأرض ويهاجر منها، وإن أمكنه إمام عدل واتفق عليه جمهور الناس فلا بأس بخلع الأول، فإن لم يكن معه إلا قطعة من الناس أو ما يوجب الفرقة فلا يحل له الخروج. قال أبو بكر بن الطيب: أجمعت الأمة أنه يوجب خلع الإمام وسقوط فرض طاعته كفره بعد الإيمان، وتركه إقامة الصلاة والدعاء إليها، واختلفوا إذا كان فاسقًا ظالمًا غاصبًا للأموال؛ يضرب الأبشار ويتناول النفوس المحرمة ويضيع الحدود ويعطل الحقوق فقال كثير من الناس: يجب خلعه لذلك. وقال الجمهور من الأمة وأهل الحديث: لا يخلع بهذه الأمور، ولا يجب الخروج عليه؛ بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته فيما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 215 يدعو إليه من معاصى الله، واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (اسمعوا، وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشى) وأمره بالصلاة وراء كل بر وفاجر، وروى أنه قال: أطعهم وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك ما أقاموا الصلاة) . قال القاضى أبو بكر: ومما يوجب خلع الإمام تطابق الجنون عليه وذهاب تمييزه حتى ييئس من صحته، وكذلك إن صم أو خرس وكبر وهرم، أو عرض له أمر يقطعه من مصالح الأمة؛ لأنه إنما نصب لذلك؛ فإذا عطل ذلك وجب خلعه، وكذلك إن جعل مأسورًا فى أيدى العدو إلى مدة يخاف معها الضرر الداخل على الأمة وييئس من خلاصه وجب الاستبدال به. فإن فك أسره وثاب عقله أو برئ من زمانته ومرضه لم يعد إلى أمره وكان رعية للأول؛ لأنه عقد له عند خلعه وخروجه من الحق فلا حق له فيه، ولا يوجب خلعه حدوث فضل فى غيره كما يقول أصحابنا: إن حدوث الفسق فى الإمام بعد العقد لا يوجب خلعه، ولو حدث عند ابتداء العقد لبطل العقد له ووجب العدول عنه. وأمثال هذا فى الشريعة كثير، منها أن المتيمم لو وجد الماء قبل دخوله فى الصلاة لوجب عليه الوضوء به، ولو طرأ عليه وهو فيها لم يلزمه، وكذلك لو وجبت عليه الرقبة فى الكفارة وهو موسر لم يجزئه غيرها، ولو حدث له اليسار بعد مضيه فى شىء من الصيام لم يبطل حكم صيامه ولا لزمه غيره. قال المهلب: وقوله فى حديث على: (لو دخلوها ما خرجوا منها أبدًا) فالأبد هاهنا يراد به أبد الدنيا؛ لقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 48] ، ومعلوم أن الذين هموا بدخول النار لم يكفروا بذلك فيجب عليهم التخليد أبد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 216 الآخرة، ألا ترى قولهم: (إنما اتبعنا النبى (صلى الله عليه وسلم) فرارًا من النار) فدل هذا أنه أراد (صلى الله عليه وسلم) : لو دخلوها لماتوا فيها ولم يخرجوا منها مدة الدنيا، والله أعلم. 5 - باب مَنْ لَمْ يَسْأَلِ الإمَارَةَ أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا / 10 - فيه: عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، لا تَسْأَلِ الإمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ) . وترجم له باب من سأل الإمارة وكل إليها. قال المهلب: فيه دليل على أنه من تعاطى أمرًا وسولت له نفسه أنه قائم بذلك الأمر أنه يخذل فيه فى أغلب الأحوال؛ لأنه من سأل الإمارة لم يسألها إلا وهو يرى نفسه أهلا لها، فقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (وكل إليها) بمعنى لم يعن على ما أعطاه، والتعاطى أبدًا مقرون بالخذلان، وإن من دعى إلى عمل أو إمامة فى الدين فقصر نفسه عن تلك المنزلة وهاب أمر الله؛ رزقه الله المعونة، وهذا إنما هو مبنى على أنه من تواضع لله رفعه، وذكر ابن المنذر من حديث أبى عوانة، عن عبد الأعلى التغلبى، عن بلال بن مرداس الفزارى، عن حميد، عن أنس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من ابتغى القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله إليه ملكًا يسدده) وهذا تفسير قوله: (أعنت عليها) فى حديث ابن سمرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 217 6 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى الإمَارَةِ / 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ لَهُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ، وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ) . / 12 - وفيه: أَبُو مُوسَى: (دَخَلْتُ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَا وَرَجُلانِ مِنْ قَوْمِى، فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: أَمِّرْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَهُ، فَقَالَ: إِنَّا لا نُوَلِّى هَذَا مَنْ سَأَلَهُ، وَلا مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ) . قال المهلب: حرص الناس على الإمارة ظاهر العيان، وهو الذى جعل الناس يسفكون عليها دماءهم، ويستبيحون حريمهم، ويفسدون فى الأرض حين يصلون بالإمارة إلى لذاتهم، ثم لابد أن يكون فطامهم إلى السوء وبئس الحال؛ لأنه لا يخلو أن يقتل عليها أو يعزل عنها وتلحقه الذلة أو يموت عليها فيطالب فى الآخرة فيندم. والحرص الذى اتهم النبى (صلى الله عليه وسلم) صاحبه ولم يوله هو أن يطلب من الإمارة ما هو قائم لغيره متواطئًا عليه، فهذا لا يجب أن يعان عليه ويتهم طالبه، وأما إن حرص على القيام بأمر ضائع من أمور المسلمين أو حرص على سد خلة فيهم، وإن كان له أمثال فى الوقت والعصر لم يتحركوا لهذا، فلا بأس أن يحرص على القيام بالأمر الضائع ولا يتهم هذا إن شاء الله. وبين هذا المعنى حديث خالد بن الوليد حين أخذ الراية من غير إمرة ففتح له. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 218 7 - باب مَنِ اسْتُرْعِىَ رَعِيَّةً فَلَمْ يَنْصَحْ / 13 - فيه: الْحَسَنِ، أَنَّ عُبَيْدَاللَّهِ بْنَ زِيَادٍ عَادَ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ فِى مَرَضِهِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ: إِنِّى مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ) . وقال مرة: (ما من وال يلى رعية من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة) . قال المؤلف: النصيحة فرض على الوالى لرعيته وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (الأمير الذى على الناس راع ومسئول عن رعيته) فمن ضيع من استرعاه الله أمرهم أو خانهم أو ظلمهم؛ فقد توجه إليه الطلب بمظالم العباد يوم القيامة فكيف يقدر على التحلل من ظلم أمة عظيمة؟ وهذا الحديث بيان وعيد شديد على أئمة الجور. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لم يجد رائحة الجنة) و (حرم الله عليه الجنة) فمعناه عند أهل السنة إن لم يرض الله الطالبين عنه فأراد تعالى أن ينفذ عليه الوعيد؛ لأن المذنبين من المؤمنين فى مشيئة الله تعالى. ويجب على الوالى أن لا يحتجب عن المظلومين، فقد جاء فى ذلك وعيد شديد. روى الوليد بن مسلم، عن يزيد بن أبى مريم، عن القاسم بن مخيمرة، عن أبى مريم الفلسطينى، وكان من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: (من ولى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 219 من أمور الناس شيئًا فاحتجب عن خلتهم وحاجتهم وفاقتهم احتجب الله عن خلته وحاجته وفاقته) . ويجب على الوالى أن لا يولى أحدًا من عصابته، وفى الناس من هو أرضى منه، فقد روى عن ابن عباس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنهم إن فعلوا ذلك فقد خانوا الله ورسوله، وخانوا جميع المؤمنين. 8 - باب مَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ / 14 - فيه: طَرِيفٍ أَبُو تَمِيمَةَ، قَالَ: شَهِدْتُ صَفْوَانَ، وَجُنْدَبًا، وَأَصْحَابَهُ وَهُوَ يُوصِيهِمْ، فَقَالُوا: هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) شَيْئًا؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يُشَاقِقْ يَشْقُقِ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالُوا: أَوْصِنَا، فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنَ الإنْسَانِ بَطْنُهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَأْكُلَ إِلا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ، وَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ بِمِلْءِ كَفِّهِ مِنْ دَمٍ أَهْرَاقَهُ فَلْيَفْعَلْ) . قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من سمع سمع الله به) قال صاحب العين: سمعت بالرجل: إذا أذعت عنه عيبًا والسمعة: ما سمع به من طعام أو غيره ليرى ويسمع (ومصداق هذا الحديث فى كتاب الله قوله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة) [النور: 13] . وقوله: (ومن يشاقق يشقق الله عليه) فالمشاقاة فى اللغة مشتقة من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 220 الشقاق وهو الخلاف، ومنه قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى) [النساء: 115] الآية. والمراد بالحديث النهى عن القول القبيح فى المؤمنين وكشف مساوئهم وعيوبهم وترك مخالفة سبيل المؤمنين، ولزوم جماعتهم، والنهى عن إدخال المشقة عليهم والإضرار بهم. وفى الحديث من المعانى أن المجازاة قد تكون من جنس الذنب، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من سمع سمع الله به، ومن يشاقق يشقق الله عليه) قال صاحب العين: شق الأمر عليك مشقة: أضر بك. وفى وصية أبى تميمة الحض على أكل الحلال والكف عن الدماء. 9 - باب الْقَضَاءِ وَالْفُتْيَا فِى الطَّرِيقِ وَقَضَى يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ فِى الطَّرِيقِ، وَقَضَى الشَّعْبِىُّ عَلَى بَابِ دَارِهِ. / 15 - فيه: أَنَسُ: بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) خَارِجَانِ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صِيَامٍ، وَلا صَلاةٍ، وَلا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّى أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) . قال المهلب: الفتوى فى الطريق على الدابة وما يشاكلها من التواضع لله عز وجل فإن كان الفتوى لضعيف أو جاهل فهو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 221 محمود عند الله وعند الناس وإن تكلف ذلك لرجل من أهل الدنيا أو لمن يخشى لسانه فهو مكروه للحاكم أن يترك مكانه وخطته. واختلف أصحاب مالك فى القضاء سائرًا أو ماشيئًا، فقال أشهب: لا بأس بذلك إذا لم يشغله السير أو المشى عن الفهم. وقال سحنون: لا ينبغى أن يقضى وهو يسير أو يمشى، وقال ابن حبيب: ما كان من ذلك يسيرًا كالذى يأمر بسجن من وجب عليه أو يأمر بشىء أو يكف عن شىء فلا بأس بذلك، وأما أن يبتدئ نظرًا ويرجع الخصوم وما أشبه ذلك فلا ينبغى. وهذا قول حسن. وقول أشهب أشبه بدليل الحديث. وفيه دليل على جواز تنكيب العالم بالفتيا عن نفس ما سئل عنه إذا كانت المسألة لا تعرف أو كان مما لا حاجة بالناس إلى معرفتها، وكانت مما يخشى منها الفتنة وسوء التأويل. - باب مَا ذُكِرَ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) لَمْ يَكُنْ لَهُ بَوَّابٌ / 16 - فيه: أَنَسَ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) مَرَّ بِامْرَأَةٍ وَهِىَ تَبْكِى عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ لَهَا: اتَّقِى اللَّهَ وَاصْبِرِى، فَقَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّى فَإِنَّكَ خِلْوٌ مِنْ مُصِيبَتِى، فَجَاوَزَهَا، وَمَضَى فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ، فَقَالَ: مَا قَالَ لَكِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَتْ: مَا عَرَفْتُهُ، قَالَ: إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: فَجَاءَتْ إِلَى بَابِهِ، فَلَمْ تَجِدْ عَلَيْهِ بَوَّابًا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا عَرَفْتُكَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ أَوَّلِ صَدْمَةٍ) . قال المهلب: لم يكن للنبى بواب راتب، وقد جاء فى حديث القف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 222 والمشربة أنه كان له بواب، فدل حديث أنس أنه (صلى الله عليه وسلم) إذا لم يكن على شغل من أهله ولا انفراد لشىء من أمره أنه كان يرفع حجابه بينه وبين الناس ويبرز لطالبيه وذوى الحاجة إليه؛ لأن الله قد كان أمنه أن يغتال أو يهاج أو تطلب غرته فيقتل، قال تعالى: (والله يعصمك من الناس) [المائدة: 67] وقد أراد عمر بن عبد العزيز أن يسلك هذه الطريقة تواضعًا لله فمنع الشرط والبوابين فتكاثر الناس تكاثرًا اضطره إلى الشرط فقال: لابد للسلطان من وزعة. قال الطبرى: دل حديث عمر حين استأذن له الأسود على النبى (صلى الله عليه وسلم) فى المشربة أنه فى وقت خلوته وشغله بنفسه فيما لابد له منه كان يتخذ بوابًا؛ ليعلم من قصده أنه خال فيما لابد له منه، ولولا ذلك لم يكن لعمر حاجة إلى مسألة الأسود للاستئذان له على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؛ بل كان يكون هو المستأذن لنفسه فبان بحديث عمر أن معنى رواية من روى عنه أنه لم يكن له بواب يريد فى الأوقات التى كان يظهر فيها للناس ويبرز إليهم، وأما فى وقت حاجته وخلوته فلا. وعلى هذا النحو من فعله (صلى الله عليه وسلم) فى اتخاذه البواب، ورفعه الحجاب والبواب عن بابه وبروزه لطالبه كان احتجاب من احتجب من اللأئمة واتخاذ من اتخذ البواب وظهور من ظهر للناس منهم. وروى شعبة، عن أبى عمران الجونى، عن عبد الله بن الصامت أن أبا ذر لما قدم على عثمان قال: (يا أمير المؤمنين، افتح الباب يدخل الناس) فدل هذا الحديث عن عثمان أنه كان يبرز أحيانًا، ويظهر لأهل الحاجة، ويحتجب أحيانًا فى أوقات حاجاته، ونظير ذلك كان يفعل عمر بن عبد العزيز. روى عن جرير، عن مغيرة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 223 عن زيد الطيب قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز فقال لى: ما يقول الناس؟ قلت: يقولون: إنك شديد الحجاب. فقال: لابد لى أن أخلو فيما يرفع إلىّ الناس من المظالم، فأنظر فيها. - باب الْحَاكِمِ يَحْكُمُ بِالْقَتْلِ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دُونَ الإمَامِ الَّذِى فَوْقَهُ / 17 - فيه: أَنَسِ: إِنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ كَانَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَىِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرَطِ مِنَ الأمِيرِ) . / 18 - وفيه: أَبُو مُوسَى أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَهُ، وَأَتْبَعَهُ بِمُعَاذٍ بن جبل. / 19 - وفيه: أَبُو مُوسَى: أَنَّ رَجُلا أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ، فَأَتَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِى مُوسَى، فَقَالَ: مَا لِهَذَا؟ قَالَ: أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ، قَالَ: لا أَجْلِسُ حَتَّى أَقْتُلَهُ. اختلف العلماء فى هذا الباب فقال ابن القاسم فى المجموعة: لا يقيم الحدود فى القتل ولاة المياه، وليجلب إلى الأمصار ولا يقام القتل بمصر كلها إلا بالفسطاط أو يكتب إلى والى الفسطاط بذلك. وقال أشهب: من ولاه الأمير وجعله واليًا على بعض المياه، وجعل ذلك إليه فليقم الحد فى القتل والقطع وغيره، وإن لم يجعله إليه فلا يقيمه. وذكر الطحاوى عن أصحابه الكوفيين قال: لا يقيم الحدود إلا أمراء الأمصار وحكامها، ولا يقيمها عامل السواد ونحوه. وذكر عن مالك قال: لا يقيم الحدود كل الولاة فى الأمصار والسواد. وقال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 224 الشافعى: إذا كان الوالى عدلا يضع الصدقة مواضعها فله عقوبة غل صدقته، وإن لم يكن عدلا لم يكن له أن يعزره. والحجة لمن رأى للحاكم والوالى إقامة الحدود دون الإمام الذى فوقه حديث معاذ أنه قتل المرتد دون أن يرفع أمره إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) . وذهب الكوفيون إلى أن القاضى حكمه حكم الوكيل لا تنطلق يده إلا على ما أذن له فيه وأطلق عليه، وحكمه عند من خالفهم حكم الوصى له التصرف فى كل شىء، وتنطلق يده على النظر فى جميع الأشياء ما لم يستثن عليه وجه، فلا يجوز أن ينظر فيه. - باب هَلْ يَقْضِى الْقَاضِى أَوْ يُفْتِى وَهُوَ غَضْبَانُ؟ / 20 - فيه: أَبُو بَكْرَةَ، أَنَّه كَتَبَ إِلَى ابْنِهِ، وَكَانَ بِسِجِسْتَانَ، بِأَنْ لا تَقْضِىَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ، فَإِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ) . / 21 - وفيه: أَبُو مَسْعُودٍ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى وَاللَّهِ لأتَأَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فِيهَا، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِى مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُوجِزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ) . / 22 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِىَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ قَالَ: (لِيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 225 قال المهلب: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يقضى بين اثنين وهو غضبان) ندب منه خوف التجاوز، ولذلك كره العلماء أن يقضى القاضى وهو غضبان، روى ذلك عن عمر بن الخطاب وشريح وعمر بن عبد العزيز، وهو قول مالك والكوفيين والشافعى. فإن قيل: فقد قضى النبى (صلى الله عليه وسلم) وهو غضبان. قيل: إنما فعل ذلك لأنه لم يخش التجاوز والميل فى حكمه؛ لأنه معصوم بخلاف غيره من البشر، وإنما يستعمل الغضب فى القضاء والفتيا كما استعمله النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه رأى شيئًا من الشريعة والسنة قد غير عن حاله، ومن الأحوال التى تكره للقاضى أن يقضى فيها أن يكون جائعًا، روى عن شريح أنه كان إذا غضب أو جاع قام. وكان الشعبى يأكل عند طلوع الشمس فقيل له. فقال: آخذ حلمى قبل أن أخرج إلى القضاء. ولا يقضى ناعسًا ولا مغمومًا. قال الشعبى: وأى حال جاءت عليه مما يعلم أنها تغير عقله أو فهمه امتنع من القضاء فيها. - باب مَنْ رَأَى لِلْقَاضِى أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِى أَمْرِ النَّاسِ إِذَا لَمْ يَخَفِ الظُّنُونَ وَالتُّهَمَةَ كَمَا قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِهِنْدٍ: (خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ) ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَمْرًا مَشْهُورًا. / 23 - فيه: عَائِشَةَ: جَاءَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 226 وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، وَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، ثُمَّ قَالَتْ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَىَّ مِنْ حَرَجٍ أَنْ أُطْعِمَ مِنِ الَّذِى لَهُ عِيَالَنَا؟ قَالَ لَهَا: لا حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ مِنْ مَعْرُوفٍ) . اختلف العلماء فى القاضى هل يقضى بعلمه؟ فقال الشافعى وأبو ثور: جائز له أن يقضى بعلمه فى حقوق الله وحقوق الناس، سواء علم ذلك قبل القضاء أو بعده. وقال الكوفيون: ما شاهده الحاكم من الأفعال الموجبة للحدود قبل القضاء أو بعده، فإنه لا يحكم فيها بعلمه إلا القذف، وما علمه قبل القضاء من حقوق الناس لم يحكم فيه بعلمه فى قول أبى حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: يحكم فيما علمه قبل القضاء بعلمه. وقالت طائفة: لا يقضى بعلمه أصلا فى حقوق الله وحقوق الآدميين، وسواء علم ذلك قبل القضاء أو بعده أو فى مجلسه. هذا قول شريح والشعبى، وهو قول مالك وأحمد وإسحاق وأبى عبيد، وقال الأوزاعى: ما أقر به الخصمان عنده أخذهما به وأنفذه عليهما إلا الحدود. واحتج الشافعى بحديث هند وأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قضى لها ولولدها على أبى سفيان بنفقتهم ولم يسألها على ذلك بينة؛ لعلمه بأنها زوجته وأن نفقتها ونفقة ولدها واجبة فى ماله، فحكم بذلك على أبى سفيان لعلمه بوجوب ذلك، وأيضًا فإنه متيقن لصحة ما يقضى به إذا علمه علم يقين وليس كذلك الشهادة؛ لأنها قد تكون كاذبة أو واهمة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 227 وقد أجمعوا على أنه له أن يعدل ويسقط العدول بعلمه إذا علم أن ماشهدوا به على غير ما شهدوا به، وينفذ علمه فى ذلك ولا يقضى بشهادتهم، مثال ذلك أن يعلم بنتًا لرجل ولدت على فراشه، فإن أقام شاهدين أنها مملوكته فلا يجوز أن يقبل شهادتهما ويبيح له فرجًا حرامًا، وكذلك لو رأى رجلا قتل رجلا، ثم جئ بغير القاتل وشهد شاهدان أنه القاتل فلا يجوز أن يقبل الشهادة، وكذلك لو سمع رجلا طلق امرأته طلاقًا بائنًا، ثم ادعت عليه المرأة الطلاق وأنكر ذلك الزوج، فإن جعل القول قوله فقد أقامه على فرج حرام فيفسق به، ولم يكن له بد من أن لا يقبل قوله فيحكم بعلمه. واحتج أصحاب أبى حنيفة بأن ما علمه الحاكم قبل القضاء فإنما حصل فى حال الابتداء على طريق الشهادة فلم يجز أن نجعله حاكمًا؛ لأنه لو حكم له لكان قد حكم بشهادة نفسه فكان متهمًا، وصار بمنزلة من قضى بدعواه على غيره، وأيضًا فإن علمه لما تعلق به الحكم على وجه الشهادة فإذا قضى به صار كالقاضى بشاهد واحد. قالوا: والدليل على جواز حكمه بما علمه فى حال القضاء وفى مجلسه قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنما أقضى على نحو ما أسمع) ولم يفرق بين سماعه من الشهود أو المدعى عليه فيجب أن يحكم بما سمعه من المدعى عليه كما يحكم بما سمعه من الشهود. واحتج أصحاب مالك فقالوا: الحاكم غير معصوم، ويجوز أن تلحقه الظنة فى أن يحكم لوليه على عدوه، فحسمت المادة فى ذلك بأن لا يحكم بعلمه؛ لأنه ينفرد به ولا يشركه غيره فيه. وأيضًا فإن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال فى حديث اللعان: (إن جاءت به على نعت كذا فهو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 228 للذى رميت به فجاءت به على العنت المكروه) ، فقال (صلى الله عليه وسلم) : (لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمت هذه) وقد علم أنها زنت فلم يرجمها لعدم البينة، والنبى (صلى الله عليه وسلم) وإن كان لم يقطع أنها تأتى به على أحد النعتين فقد قطع على أنها إن جاءت به على أحدهما، فهو لمن وصف لا محالة، وهذا لا يكون منه إلا بعلم. وروى عن أبى بكر الصديق أنه قال: لو رأيت رجلا على حد لم أحده حتى يشهد بذلك عندى شاهدان. ولا مخالف له فى الصحابة. - باب الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ، وَمَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ؟ وَمَا يَضِيقُ فِيهِ وَكِتَابِ الْحَاكِمِ إِلَى عَامِلِهِ، وَالْقَاضِى وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: كِتَابُ الْحَاكِمِ جَائِزٌ إِلا فِى الْحُدُودِ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لأنَّ هَذَا مَالٌ بِزَعْمِهِ، وَإِنَّمَا صَارَ مَالا بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ، فَالْخَطَأُ وَالْعَمْدُ وَاحِدٌ. وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَامِلِهِ فِى الْجَارُودِ، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ فِى سِنٍّ كُسِرَتْ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: كِتَابُ الْقَاضِى إِلَى الْقَاضِى جَائِزٌ إِذَا عَرَفَ الْكِتَابَ وَالْخَاتَمَ. وَكَانَ الشَّعْبِىُّ يُجِيزُ الْكِتَابَ الْمَخْتُومَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْقَاضِى، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ، وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِالْكَرِيمِ الثَّقَفِىُّ: شَهِدْتُ عَبْدَالْمَلِكِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 229 بْنَ يَعْلَى قَاضِىَ الْبَصْرَةِ وَإِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ وَالْحَسَنَ وَثُمَامَةَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَنَسٍ وَبِلالَ بْنَ أَبِى بُرْدَةَ وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ بُرَيْدَةَ الأسْلَمِىَّ وَعَامِرَ بْنَ عَبِيدَةَ وَعَبَّادَ بْنَ مَنْصُورٍ يُجِيزُونَ كُتُبَ الْقُضَاةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنَ الشُّهُودِ، فَإِنْ قَالَ الَّذِى جِىءَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ: إِنَّهُ زُورٌ، قِيلَ لَهُ: اذْهَبْ، فَالْتَمِسِ الْمَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَوَّلُ مَنْ سَأَلَ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِى الْبَيِّنَةَ: ابْنُ أَبِى لَيْلَى وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ. وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللَّهِ بْنُ مُحْرِزٍ، جِئْتُ بِكِتَابٍ مِنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ قَاضِى الْبَصْرَةِ، وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لِى عِنْدَ فُلانٍ كَذَا وَكَذَا، وَهُوَ بِالْكُوفَةِ، وَجِئْتُ بِهِ الْقَاسِمَ بْنَ عَبْدِالرَّحْمَنِ، فَأَجَازَهُ. وَكَرِهَ الْحَسَنُ وَأَبُو قِلابَةَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّةٍ حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيهَا؛ لأنَّهُ لا يَدْرِى لَعَلَّ فِيهَا جَوْرًا. وَقَدْ كَتَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى أَهْلِ خَيْبَرَ: إِمَّا أَنْ تَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ تُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ. وَقَالَ الزُّهْرِىُّ فِى الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ: إِنْ عَرَفْتَهَا فَاشْهَدْ، وَإِلا فَلا تَشْهَدْ. / 24 - فيه: أَنَسِ: أَنَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لما أراد أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ، قَالُوا: إِنَّهُمْ لا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلا مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِهِ وَنَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. واتفق جمهور العلماء على أن الشهادة على الخط لا تجوز إذا لم يذكر الشهادة ولم يحفظها. قال الشعبى: فلا يشهد أبدًا إلا على شىء يذكر، فإنه من شاء انتقش خاتمًا، ومن شاء كتب كتابًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 230 وممن رأى أن لا يشهد على الخط وإن عرفه حتى يذكر الشهادة: الكوفيون والشافعى وأحمد وأكثر أهل العلم، وقد فعل مثل هذا فى أيام عثمان صنعوا مثل خاتمه وكتبوا مثل كتابه فى قصة مذكورة فى مقتل عثمان. وأحسن ما يحتج به فى هذا الباب بقوله تعالى: (وما شهدنا إلا بما علمنا) [يوسف: 81] ، وقوله: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) [الزخرف: 86] ، وأجاز مالك الشهادة على الخط، فروى عنه ابن وهب فى الرجل يقوم يذكر حقا قد مات شهوده ويأتى بشاهدين عدلين يشهدان على كتاب ذكر الحق، قال: تجوز شهادتهما على كتاب الكاتب. يعنى: إذا كان قد كتب شهادته على المطلوب بما كتب عليه فى ذكر الحق؛ لأنه قد يكتب ذكر الحق من لا يشهد على المكتوب عليه. قاله ابن القاسم. وإن كان على خط اثنين جاز وكان بمنزلة الشاهدين إذا كان عدلا مع يمين الطالب وهو قول ابن القاسم. وذكر ابن شعبان، عن ابن وهب قال: لا آخذ بقول مالك فى الشهادة على معرفة الخط ولا تقبل الشهادة فيه. وقال الطحاوى: خالف مالكًا جميع الفقهاء فى الشهادة على الخط وعدوا قوله شذوذا؛ إذ الخط قد يشبه الخط، وليست الشهادة على قول منه ولا معاينة فعل. وقال محمد بن حارث: الشهادة على الخط خطأ؛ لأن الرجل قد يكتب شهادته على من لا يعرفه بعينه طمعًا أن لا يحتاج فى ذلك إليه وأن غيره يغنى عنه، أو لعله يشهد فى قريب من وقت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 231 الشهادة فيذكر العين، ولقد قال فى رجل قال: سمعت فلانًا يقول: رأيت فلانًا قتل فلانًا، أو سمعت فلانًا طلق امرأته أو قذفها أنه لا يشهد على شهادته إلا أن يشهده فالخط أبعد من هذا وأضعف. قال محمد بن حارث: وقد قلت لبعض الفضلة: أتجوز شهادة الموتى؟ فقال: ما هذا الذى تقول؟ فقلت: إنكم تجيزون شهادة الرجل بعد موته إذا وجدتم خطه فى وثيقة. فسكت. وقال محمد بن عبد الحكم: لا نقضى فى دهرنا بالشهادة على الخط؛ لأن الناس قد أحدثوا ضروبًا من الفجور، وقد قال مالك: إن الناس تحدث لهم أقضية على نحو ما أحدثوا من الفجور. وقد كان الناس فيما مضى يجيزون الشهادة على خاتم القاضى، ثم رأى مالك أن ذلك لا يجوز. وأما اختلاف الناس فى كتب القضاة، فذهب جمهور العلماء إلى أن كتب القضاة إلى القضاة جائزة فى الحدود، وسائر الحقوق، وذهب الكوفيون إلى أنها تجوز فى كل شىء إلا فى الحدود، وهو أحد قولى الشافعى، وله مثل قول الجمهور، وحجة البخارى على الكوفى من تناقضه فى جواز ذلك فى قتل الخطأ وأنه إنما صار مالا بعد ثبوت القتل فهى حجة حسنة. وذكر أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عماله فى الحدود وأحكامه حجة ولا سلف لأبى حنيفة فى قوله. وذكر البخارى عن جماعة من قضاة التابعين وعلمائهم أنهم كانوا يجيزون كتب القضاة إلى القضاة بغير شهود عليها إذا عرف الكتاب والخاتم، وحجتهم أن النبى (صلى الله عليه وسلم) بعث الجزء: 8 ¦ الصفحة: 232 بكتبه إلى خيبر وإلى الروم، ولم يذكر أن النبى، عليه السلام، أشهد عليها. وأجمع فقهاء المصار وحكامها على فعل سوار وابن أبى ليلى، اتفقوا أنه لا يجوز كتاب قاض إلى قاض حتى يشهد عليه شاهدان لما دخل الناس من الفساد، واستعمال الخطوط ونقش الخواتيم، فاحتيط لتحصين الدماء والأموال بشاهدين. وروى ابن نافع، عن مالك قال: كان من أمر الناس القديم إجازة الخواتم حتى إن القاضى ليكتب للرجل الكتاب فما يزيد على ختمه فيجاز له حتى اتهم الناس، فصار لا يقبل إلا بشاهدين، واختلفوا إذا أشهد القاضى شاهدين على كتابه ولم يقرأ عليهما ولا عرفهما بما فيه فقال مالك: يجوز ذلك ويلزم القاضى المكتوب إليه قبوله بقول الشاهدين: هذا كتابه ودفعه إلينا مختومًا. وقال أبو حنيفة والشافعى وأبو ثور: إذا لم يقرأه عليهما القاضى لم يجز ولا يعمل القاضى للمكتوب إليه بما فيه. وروى عن مالك مثله. وحجتهم أنه لا يجوز أن يشهد الشاهد إلا بما يعلم؛ لقوله تعالى: (وما شهدنا إلا بما علمنا) [يوسف: 81] . وحجة من أجاز ذلك أن الحاكم إن أقر أنه كتابه فقد أقر بما فيه، وليس للشاهدين أن يشهدا على ما ثبت عند الحاكم فيه، وإنما الغرض منهما أن يعلم القاضى المكتوب إليه أن هذا كتاب القاضى إليه، وقد يثبت عند القاضى من أمور الناس ما لا يجب أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 233 يعلمه كل أحد مثل الوصية التى يتخوف الناس فيها ويذكرون ما فرطوا فيه. ولهذا يجوز عند مالك أن يشهدوا على الوصية المختومة وعلى الكتاب المدرج ويقولوا للحاكم: نشهد على إقراره بما فى هذا الكتاب. وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يكتب إلى عماله ولا يقرؤها على رسله وفيها الأحكام والسنن. واختلفوا إن انكسر ختم الكتاب فقال أبو حنيفة وزفر: لا يقبله الحاكم. وقال أبو يوسف: يقبله ويحكم به إذا شهدت به البينة وهو قول الشافعى، واحتج الطحاوى لأبى يوسف فقال: كتب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى الروم كتابًا وأراد أن يبعثه غير مختوم حتى قيل له: إنهم لا يقرءونه إلا مختومًا، فاتخذ الخاتم من أجل ذلك، فدل أن كتاب القاضى حجة، وإن لم يكن مختومًا، وخاتمه أيضًا حجة. - باب مَتَى يَسْتَوْجِبُ الرَّجُلُ الْقَضَاءَ وَقَالَ الْحَسَنُ: أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْحُكَّامِ أَنْ لا يَتَّبِعُوا الْهَوَى وَلا يَخْشَوُا النَّاسَ، وَلا يَشْتَرُوا بآيَاتِ الله ثَمَنًا قَلِيلا، ثُمَّ قَرَأَ: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأرْضِ) [ص: 26] الآية، وَقَرَأَ: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا (إلى) بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ) [المائدة: 44] .) بِمَا اسْتُحْفِظُوا (اسْتُوْدِعُوا،) مِنْ كِتَابِ اللَّهِ (، وَقَرَأَ: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ) [الأنبياء: 78] فَحَمِدَ سُلَيْمَانَ، وَلَمْ يَلُمْ دَاوُدَ، وَلَوْلا مَا ذَكَرَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 234 اللَّهُ مِنْ أَمْرِ هَذَيْنِ لَرَأَيْتُ أَنَّ الْقُضَاةَ هَلَكُوا، فَإِنَّهُ أَثْنَى عَلَى هَذَا بِعِلْمِهِ، وَعَذَرَ هَذَا بِاجْتِهَادِهِ وَقَالَ مُزَاحِمُ بْنُ زُفَرَ: قَالَ لَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ: خَمْسٌ إِذَا أَخْطَأَ الْقَاضِى مِنْهُنَّ خَصْلَةً كَانَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ: أَنْ يَكُونَ فَهِمًا، حَلِيمًا، عَفِيفًا، صَلِيبًا، عَالِمًا، سَئُولا عَنِ الْعِلْمِ. قال المهلب: أما استحباب الرجل القضاء فإن أهل العلم قالوا فى ذلك: إذا رآه الناس أهلا لذلك ورأى هو نفسه أهلا لها، وليس أن يرى نفسه أهلا لذلك فقط؛ أنه إذا علم الناس منه هذا الرأى لم يفقد من يزين له ذلك ويستحمد إليه. قال مالك: ولا يستقضى من ليس بفقيه. وذكر ابن حبيب، عن مالك أنه قال: إذا اجتمع فى الرجل خصلتان رأيت أن يولى: الورع والعلم. قال ابن حبيب: فإن لم يكن علم فعقل وورع؛ لأنه بالورع يقف، وبالعقل يسأل، وإذا طلب العلم وجده، وإن طلب العقل لم يجده. فإن قيل: فإذا استوجب القضاة هل للسلطان أن يجبره على ولايته؟ قيل: قد روى ابن القاسم، عن مالك أنه لا يجبر على ولاية القضاء إلا أن يوجد منه عوض. قيل له: أيجبر بالحبس والضرب؟ قال: نعم. قال المهلب: والحكم الذى ينبغى أن يلزمه القاضى هو توسعة خلقه للسماع من الخصمين، وأن لا يحرج بطول ما يورده أحدهما، وإن رآه غير نافع له فى خصامه فليصبر له حتى يبلغ المتكلم مراده؛ لأنه قد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 235 يمكن أن يكون ذلك الكلام الذى لا ينتفع به سببًا إلى ما ينتفع به، وأيضًا فإنه إذا لم يترك أن يتكلم بما يريد نسب إليه الخصم أنه جار عليه ومنعه الإدلاء بحجته وأثار على نفسه عداوة، وربما كان ذلك شيئًا لفتنة الخصم، ووجد إليه الشيطان السبيل، وأوهمه أن الجور من الدين. وقوله: صليبًا، يريد الصلابة فى إنفاذ الحق حتى لا يخاف فى الله لومة لائم ولا يهاب ذا سلطان أو ذا مال وعشيرة وليكن عنده الضعيف والقوى، والكبير والصغير فى الحق سواء. وقول الحسن: أخذ الله على الحكام أن لا يتبعوا الهوى ولا يخشوا الناس. وما استشهد عليه من كتاب الله فكل ذلك يدل أن الله تعالى فرض على الحكام أن يحكموا بالعدل، وقد قال عز وجل: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) [النساء: 85] ، وكذلك فرض عليهم أن لا يخشوا الناس. ولهذا قال عمر بن عبد العزيز فى صفة القاضى أن يكون صليبًا. وقوله: أن يكون عفيفًا. أخذه من قوله تعالى: (ولا تشتروا بآياتى ثمنًا قليلا) [البقرة: 41] . واختلف العلماء فى تأويل قوله تعالى: (فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى) [ص: 26] ، فقالت طائفة: الآية عامة فى كل الناس، وكل خصمين تقدما إلى حاكم فعليه أن يحكم بينهما، وسواء كان للحاكم ولد أو والد أو زوجة، وهم وسائر الناس فى ذلك سواء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 236 وذهب الكوفيون والشافعى إلى أنه لا تجوز شهادته له ويحكم لسائر الناس. وزاد أبو حنيفة: لا يحكم لولد والده وإن كانوا من قبل النساء، ولا لعبده وكاتبه وأم ولده؛ لأن هؤلاء: لا تجوز شهادته لهم. واحتلف أصحاب مالك فى ذلك فقال مطرف وسحنون: كل من لا يجوز للحاكم أن يشهد له لا يجوز حكمه له، وهم الآباء فمن فوقهم والأبناء فمن دونهم وزوجته ويتيمه الذى يلى ماله. وقال ابن الماجشون: يجوز حكمه للآباء والأبناء فمن فوقهم ومن دونهم إلا الولد الصغير الذى يلى ماله أو يتيمه أو زوجته، ولا يتهم فى الحكم كما يتهم فى الشهادة؛ لأنه إنما يحكم بشهادة غيره من العدول. وقال أصبغ مثل قول مطرف إذا قال: ثبت له عندى. ولا يدرى أثبت له أم لا ولم يحضر الشهود، فإذا حضروا وكانت الشهادة ظاهرة بحق بيّن؛ فحكمه له جائز ما عدا زوجته وولده الصغير ويتيمه الذى يلى ماله. كقول ابن الماجشون؛ لأن هؤلاء كنفسه، فلا يجوز له أن يحكم لهم، والقول الأول أولى بشهادة عموم القرآن له قال تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض) [ص: 26] الآية. وخاطب تعالى الحكام فقال: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) [النساء: 58] فعم جميع الناس، وقد حكم النبى (صلى الله عليه وسلم) لزوجته عائشة على الذين رموها بالإفك وأقام عليهم الحد. وليس رد شهادة الولد لوالده، والوالد لولده بإجماع من الأمة فيكون أصلا لذلك، وقد أجاز شهادة الولد لوالده، والوالد لولده عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وإياس بن معاوية، وهو قول أبى ثور والمزنى وإسحاق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 237 - باب رِزْقِ الْحُكَّامِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَكَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِى يَأْخُذُ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَأْكُلُ الْوَصِىُّ بِقَدْرِ عُمَالَتِهِ، وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. / 25 - فيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ السَّعْدِىِّ، (أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ فِى خِلافَتِهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَلَمْ أُحَدَّثْ أَنَّكَ تَلِىَ مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ أَعْمَالا، فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعُمَالَةَ كَرِهْتَهَا؟ فَقُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ عُمَرُ: فَمَا تُرِيدُ إِلَى ذَلِكَ، قُلْتُ: إِنَّ لِى أَفْرَاسًا وَأَعْبُدًا، وَأَنَا بِخَيْرٍ وَأُرِيدُ أَنْ تَكُونَ عُمَالَتِى صَدَقَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، قَالَ عُمَرُ: لا تَفْعَلْ، فَإِنِّى كُنْتُ أَرَدْتُ الَّذِى أَرَدْتَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُعْطِينِى الْعَطَاءَ، فَأَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّى حَتَّى أَعْطَانِى مَرَّةً مَالا، فَقُلْتُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّى، فَقَالَ لِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : خُذْهُ، فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ، فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ، وَلا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَإِلا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ) . أجمع العلماء أن أرزاق الحكام من الفئ، وما جرى مجراه مما يصرف فى مصالح المسلمين؛ لأن الحكم بينهم من أعظم مصالحهم. وقال الطبرى: فى هذا الحديث الدليل الواضح على أن من شُغل بشىء من أعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله ذلك، كالولاة والقضاة وجباة الفئ وعمال الصدقة وشبههم؛ لإعطاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عمر العمالة على عمله الذى استعمله عليه، فكذلك سبيل كل مشغول بشىء من أعمالهم له من الرزق على قدر استحقاقه عليه وسبيله سبيل عمر فى ذلك. قال غيره: إلا أن طائفة من السلف كرهت أخذ الرزق على القضاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 238 روى ذلك عن ابن مسعود والحسن البصرى والقاسم، وذكره ابن المنذر عن عمر بن الخطاب. ورخص فى ذلك طائفة: وذكر ابن المنذر أن زيد بن ثابت كان يأخذ على القضاء أجرًا، وروى ذلك عن ابن سيرين وشريح، وهو قول الليث وإسحاق وأبى عبيد، والذين كرهوه ليس بحرام عندهم. وقال الشافعى: إذا أخذ القاضى جعلا لم يحرم عليه عندى. واحتج أبو عبيد فى جواز ذلك بما فرض الله للعاملين على الصدقة، وجعل لهم منها حقا لقيامهم وسعيهم فيها. قال ابن المنذر: وحديث ابن السعدى حجة فى جواز أرزاق القضاة من وجوهها. قال المهلب: وإنما كره من كرهه؛ لأن أمر القضاء إنما هو محمول فى الأصل على الاحتساب، ولذلك عظمت منازلهم وأجورهم فى الآخرة، ألا ترى أن الله أمر نبيه وسائر الأنبياء أن يقولوا: لا أسألكم عليه أجرًا؛ ليكون ذلك دليلا على البراءة من الاتهام. ولذلك قال مالك: أكره أجر قسام القاضى؛ لأن من مضى كانوا يقسمون ويحتسبون ولا يأخذون أجرًا. فأراد أن يجرى هذا الأمر على طريق الاحتساب على الأصل الذى وضعه الله للأنبياء، عليهم السلام؛ لئلا يدخل فى هذه الصناعة من لا يستحقها أو يتحيل على أموال المسلمين، وأما من حكم بالحق إذا تصرف فى مصالح المسلمين فلا يحرم عليه أخذ الأجر على ذلك. وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه استعمل ابن مسعود على بيت المال، وعمار بن ياسر على الصلاة، وابن حنيف على الجند، ورزقهم كل يوم شاة شطرها لعمار؛ وربعها لابن مسعود، وربعها لابن حنيف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 239 وأما العاملون عليها فهم السعاة المتولون لقبض الصدقات، ولهم من الأجر بقدر أعمالهم على حسب ما يراه الإمام فى ذلك، وقد تقدم فى كتاب الزكاة وفى كتاب الوصايا اختلاف العلماء فيما يجوز للوصى أن يأكل من مال يتيمه. وأما قول النبى (صلى الله عليه وسلم) لعمر فى العطاء: (خذه فتموله وتصدق به) فإنما أراد (صلى الله عليه وسلم) الأفضل والأعلى من الأجر؛ لأن عمر وإن كان مأجورًا بإيثاره بعطائه على نفسه من هو أفقر إليه منه، فإن أخذه للعطاء ومباشرته الصدقة بنفسه أعظم لأجره، وهذا يدل أن الصدقة بعد التمول أعظم أجرًا؛ لأن خلق الشح حينئذ مستول على النفوس. وفيه: أن أخذ ما جاء من المال من غير مسألة أفضل من تركه؛ لأنه يقع فى إضاعة المال، وقد نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك. - باب مَنْ قَضَى وَلاعَنَ فِى الْمَسْجِدِ وَلاعَنَ عُمَرُ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَضَى مَرَّوانٌ عَلَى زَيْد بْنِ ثَابِتٍ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَقَضَى شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِىُّ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ فِى الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَكَانَ الْحَسَنُ وَزُرَارَةُ ابْنُ أَوْفَى يَقْضِيَانِ فِى الرَّحَبَةِ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ. / 26 - فيه: سَهْلِ: شَهِدْتُ الْمُتَلاعِنَيْنِ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ مرة فَتَلاعَنَا فِى الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ. استحب القضاء فى المسجد طائفة منهم: شريح والحسن البصرى والشعبى وابن أبى ليلى. وقال مالك: القضاء فى المسجد من أمر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 240 الناس القديم؛ لأنه يرضى فيه بالدون من المجلس ويصل إليه المرأة والضعيف، وإذا احتجب لم يصل إليه الناس، وبه قال أحمد وإسحاق. وكرهت ذلك طائفة وقالت: القاضى يحضره الحائض والذمى وتكثر الخصومات بين يديه، والمساجد تجنب ذلك. وروى عن عمر ابن عبد العزيز أنه كتب إلى القاسم بن عبد الرحمن ألا تقضى فى المسجد؛ فإنه يأتيك الحائض والمشرك. وقال الشافعى: أحب إلىّ أن يقضى فى غير المسجد لكثرة من يغشاه لغير ما بنيت له المساجد. وحديث سهل بن سعد حجة لمن استحب ذلك. وليس فى اعتلال من اعتل بحضور الكافر والحائض مجلس الحكم حجة؛ لأنه لا تعلم حجة يجب بها منع الكافر من الدخول فى المساجد إلا المسجد الحرام، وقد قدم وفد ثقيف على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأنزلهم فى المسجد، وأخذ ثمامة ابن أثال من بنى حنيفة أسيرًا وربط إلى سارية من سوارى المسجد، فليس فى منع الحائض من دخول المسجد خبر يثبت، وقد نظر داود نبى الله بين الخصمين اللذين وعظ بهما فى المحراب وهو فى المسجد. - باب مَنْ حَكَمَ فِى الْمَسْجِدِ حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حَدٍّ أَمَرَ أَنْ يُخْرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ فَيُقَامَ وَقَالَ عُمَرُ: أَخْرِجَاهُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِىٍّ نَحْوُهُ. / 27 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ فِى الْمَسْجِدِ، فَنَادَاهُ، فَقَالَ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 241 يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعًا، قَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لا، قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ) . فَقَالَ جَابِرَ: كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ بِالْمُصَلَّى اختلف العلماء فى إقامة الحدود فى المسجد فروى عن عمر بن الخطاب أنه أمر بالذى وجب عليه الحد أن يقام عليه خارج المسجد، وكذلك فعل علىّ بن أبى طالب بالسارق الذى قدم إليه فقال: يا قنبر، أخرجه من المسجد فاقطع يده. وكره إقامة الحد فى المسجد مسروق وقال: إن للمسجد حرمة. وهو قول الشعبى وعكرمة، وإليه ذهب الكوفيون والشافعى وأحمد وإسحاق. وفيها قول ثان روى عن الشعبى أنه أقام على رجل من أهل الذمة حدا فى المسجد. وهو قول ابن أبى ليلى. وفيها قول ثالث: وهو الرخصة فى الضرب بالأسواط اليسيرة فى المسجد، فإذا كثرت الحدود فلا يقام فيه وهو قول مالك وأبى ثور. وقول من نزه المسجد عن إقامة الحدود فيه أولى لما شهد له حديث أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر برجم الزانى فى المصلى خارج المسجد. قال ابن المنذر: ولا ألزم من أقام الحد فى المسجد مأثمًا؛ لأنى أجد دليلا عليه. وفى الباب حديثان منقطعان لا يقوم بهما حجة فى النهى عن إقامة الحدود فى المساجد. - بَاب مَوْعِظَةِ الإمَامِ لِلْخُصُومِ / 28 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ النَّبىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 242 فَأَقْضِى عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) . قوله: (ألحن) . يعنى: أفطن لها وأجدل. وقال أبو عبيد: اللحن. بفتح الحاء: الفطنة، واللحن بإسكان الحاء: الخطأ. وقد جاء هذا الحديث فى كتاب المظالم بلفظ آخر يشهد لقول أهل اللغة قال: (فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض) . قال المهلب: وفيه أنه ينبغى للحاكم أن يعظ الخصمين ويحذر من مطالبة الباطل؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) وعظ أمته بقوله هذا. - باب الشَّهَادَةِ تَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِى وِلايَتِهِ الْقَضَاءَ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ لِلْخَصْمِ وَقَالَ شُرَيْحٌ الْقَاضِى، وَسَأَلَهُ إِنْسَانٌ الشَّهَادَةَ، فَقَالَ: ائْتِ الأمِيرَ حَتَّى أَشْهَدَ لَكَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ عُمَرُ لِعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلا عَلَى حَدٍّ زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ وَأَنْتَ أَمِيرٌ، فَقَالَ: شَهَادَتُكَ شَهَادَةُ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ عُمَرُ: لَوْلا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: زَادَ عُمَرُ فِى كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُ آيَةَ الرَّجْمِ بِيَدِى. وَأَقَرَّ مَاعِزٌ عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِالزِّنَا أَرْبَعًا، فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَشْهَدَ مَنْ حَضَرَهُ. وَقَالَ حَمَّادٌ: إِذَا أَقَرَّ مَرَّةً عِنْدَ الْحَاكِمِ رُجِمَ، وَقَالَ: الْحَكَمُ أَرْبَعًا. / 29 - فيه: أَبُو قَتَادَةَ: (قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ حُنَيْنٍ: مَنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى قَتِيلٍ قَتَلَهُ، فَلَهُ سَلَبُهُ، فَقُمْتُ لألْتَمِسَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلِى، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَشْهَدُ لِى فَجَلَسْتُ، ثُمَّ بَدَا لِى، فَذَكَرْتُ أَمْرَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: سِلاحُ هَذَا الْقَتِيلِ الَّذِى يَذْكُرُ عِنْدِى، قَالَ: فَأَرْضِهِ مِنْهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 243 كَلا، لا يُعْطِهِ أُصَيْبِغَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَيَدَعَ أَسَدًا مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ: فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَدَّاهُ إِلَىَّ، فَاشْتَرَيْتُ مِنْهُ خِرَافًا، فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ) . قَالَ عَبْدُاللَّهِ، عَنِ اللَّيْثِ: فَقَامَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَأَدَّاهُ إِلَى مَنْ لَهُ بَيِّنَةٍ، وَقَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ: الْحَاكِمُ لا يَقْضِى بِعِلْمِهِ شَهِدَ بِذَلِكَ فِى وِلايَتِهِ أَوْ قَبْلَهَا، وَلَوْ أَقَرَّ خَصْمٌ عِنْدَهُ لآخَرَ بِحَقٍّ فِى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فَإِنَّهُ لا يَقْضِى عَلَيْهِ فِى قَوْلِ بَعْضِهِمْ حَتَّى يَدْعُوَ بِشَاهِدَيْنِ فَيُحْضِرَهُمَا إِقْرَارَهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ: مَا سَمِعَ أَوْ رَآهُ فِى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ قَضَى بِهِ، وَمَا كَانَ فِى غَيْرِهِ لَمْ يَقْضِ إِلا بِشَاهِدَيْنِ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ بَلْ يَقْضِى بِهِ؛ لأنَّهُ مُؤْتَمَنٌ وَإِنَّمَا يُرَادُ مِنَ الشَّهَادَةِ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ، فَعِلْمُهُ أَكْثَرُ مِنَ الشَّهَادَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَقْضِى بِعِلْمِهِ فِى الأمْوَالِ، وَلا يَقْضِى فِى غَيْرِهَا. وَقَالَ الْقَاسِمُ: لا يَنْبَغِى لِلْحَاكِمِ أَنْ يُمْضِىَ قَضَاءً بِعِلْمِهِ دُونَ عِلْمِ غَيْرِهِ مَعَ أَنَّ عِلْمَهُ أَكْثَرُ مِنْ شَهَادَةِ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّ فِيهِ تَعَرُّضًا لِتُهَمَةِ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِيقَاعًا لَهُمْ فِى الظُّنُونِ، وَقَدْ كَرِهَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الظَّنَّ فَقَالَ: إِنَّمَا هَذِهِ صَفِيَّةُ. / 30 - فيه: عَلِىِّ بْنِ حُسَيْنٍ (أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَتَتْهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ، فَلَمَّا رَجَعَتِ انْطَلَقَ مَعَهَا، فَمَرَّ بِهِ رَجُلانِ مِنَ الأنْصَارِ، فَدَعَاهُمَا، فَقَالَ: إِنَّمَا هِىَ صَفِيَّةُ، قَالا: سُبْحَانَ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ) . قال المهلب: معنى الترجمة أن الشهادة التى تكون عند القاضى فى ولايته القضاء أو قبل ذلك لا يجوز له أن يقضى بها وحده، وله أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 244 يشهد بها عند غيره من الحكام كما قال مالك، ولذلك ذكر قول شريح وهو قول عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف أن شهادته كشهادة رجل من المسلمين، واستشهد على ذلك بقول عمر أنه كانت عنده شهادة فى آية الرجم أنها من القرآن فلم يجز له أن يلحقها بنص المصحف المقطوع على صحته بشهادته وحده، وقد أفصح عمر بالعلة فى ذلك فقال: لولا أن يقال زاد عمر فى كتاب الله لكتبتها وعرفك أن ذلك من باب قطع الذرائع؛ لئلا يجد حكام السوء السبيل إلى أن يدعوا العلم لمن أحبوا له الحكم أنه على حق. وأما ما ذكر من إقرار ماعز عند النبى (صلى الله عليه وسلم) وحكم النبى (صلى الله عليه وسلم) بالرجم دون أن يشهد من حضره، وكذلك إعطاؤه السلب لأبى قتادة بإقرار الرجل الذى كان عنده السلب وحده مع ما انضاف إلى ذلك من علم النبى (صلى الله عليه وسلم) ألا ترى قوله فى الحديث: (فعلم النبى (صلى الله عليه وسلم)) يعنى: علم أن أبا قتادة هو قاتل القتيل فهو حجة فى قضاء القاضى بعلمه، وهو خلاف ما ذكره البخارى فى أول الباب عن شريح وعمر وعبد الرحمن ابن عوف، فأورد البخارى فى هذا الباب اختلاف أهل العلم، وحجة الفريقين من الحديث بإقرار ماعز، وحديث أبى قتادة حجة لأهل العراق فى أن يقضى القاضى بعلمه وشهادته. وحديث صفية، وحديث عمر فى آية الرجم حجة لأهل الحجاز أن القاضى لا يقضى بعلمه خوف التهمة؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان أبعد الخلق من التهمة ولم يقنع بذلك حتى قال: (إنها صفية) فغيره ممن ليس بمعصوم أولى بخوف التهمة، وإنما فعل ذلك ليسن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 245 لأمته البعد من مواضع التهم، وقد تقدم فى باب رأى القاضى أن يقضى بعلمه قبل هذا. وقد رد بعض الناس حجة أهل العراق بحديث ماعز وأبى قتادة فقال: ليس فيهما أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قضى بعلمه؛ لأن ماعزًا إنما كان إقراره عند النبى (صلى الله عليه وسلم) بحضرة الصحابة؛ إذ معلوم أنه كان لا يقعد (صلى الله عليه وسلم) وحده، وقصة ماعز مشهورة رواها عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أبو هريرة وابن عباس وجابر وجماعة، فلم يحتج النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يشهدهم على إقراره بالزنا لسماعهم ذلك منه، وكذلك حديث أبى قتادة، والصحيح فيه رواية عبد الله بن صالح عن الليث: (فقام النبى (صلى الله عليه وسلم) فأداه إلى من له بينة) ورواية قتيبة عن الليث: (فعلم النبى (صلى الله عليه وسلم)) وهم منه، فيشبه أن تتصحف: (فعلم النبى (صلى الله عليه وسلم)) مع قوله: (فقام) فلم يقض فيه بعلمه، ويدل على ذلك أن منادى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إنما نادى يوم حنين: (من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه) فشرط أخذ السلب لمن أقام البينة، وأول القصة لا يخالف آخرها، وشهادة الرجل الذى كان عنده سلب قتيل أبى قتادة شهادة قاطعة لأبى قتادة، لو لم تكن فى مغنم، وكان من الحقوق التى ليس للنبى أن يعطى منها أحدًا إلا باستحقاق البينة، والمغانم مخالفة لذلك؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) له أن يعطى منها من شاء ويمنع منها من شاء؛ لقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه) [الحشر: 7] فلا حجة فيه لأهل العراق. - باب أَمْرِ الْوَالِى إِذَا وَجَّهَ أَمِيرَيْنِ إِلَى مَوْضِعٍ أَنْ يَتَطَاوَعَا وَلا يَتَعَاصَيَا / 31 - فيه: أَبُو مُوسَى: أَنَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَه وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا. . . الحديث. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 246 فيه الحض على الاتفاق وترك الاختلاف لما فى ذلك من ثبات المحبة والألفة، والتعاون على الحق، والتناصر على إنفاذه وإمضائه، وسيأتى فى كتاب الأدب فى باب قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (يسرا ولا تعسرا) فهو أولى به. - باب إِجَابَةِ الْحَاكِمِ الدَّعْوَةَ وَقَدْ أَجَابَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَبْدًا لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ . / 32 - فيه: أَبِى مُوسَى، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (فُكُّوا الْعَانِىَ، وَأَجِيبُوا الدَّاعِى. وقد تقدم فى كتاب النكاح الاتفاق على وجوب إجابة دعوة الوليمة واختلافهم فى غيرها من الدعوات. وذكر ابن حبيب، عن مطرف وابن الماجشون قال: لا ينبغى للقاضى أن يجيب الدعوة إلا فى الوليمة وحدها لما فى ذلك من الحديث، ثم إن شاء أكل وإن شاء ترك، والترك أحب إلينا من غير تحريم، ولا عيب إن أكل إلا أن ذلك أنزه، وإنا نحب لذى المروءة والهدى أن لا يأتى الوليمة إلا أن يكون لأخ فى الله، أو الخالص من ذوى قرابته فلا بأس بذلك. قال أشهب: وكره مالك لأهل الفضل أن يجيبوا كل من دعاهم. - باب هَدَايَا الْعُمَّالِ / 33 - فيه: أَبُو حُمَيْدٍ: اسْتَعْمَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلا مِنْ بَنِى أَسْدٍ، يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللَّتْبِيَّةِ، عَلَى صَدَقَةٍ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِىَ لِى، فَقَامَ النَّبِىُّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 247 (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ: مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ، فَيَأْتِى يَقُولُ: هَذَا لَكَ، وَهَذَا لِى، فَهَلا جَلَسَ فِى بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لا. . . وذكر الحديث. قال المؤلف: فيه أن ما أهدى إلى العامل وخدمة السلطان بسبب سلطانهم أنه لبيت مال المسلمين، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (هدايا الأمراء غلول) إلا أن يكون الإمام يبيح له قبول الهدية لنفسه فلذلك تطيب له، كما قال (صلى الله عليه وسلم) لمعاذ، حين بعثه إلى اليمن: قد علمت الذى دار عليك فى مالك، وإنى قد طيبت لك الهدية. فقبلها معاذ وأتى بما أهدى له النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فوجده توفى، فاخبر بذلك أبا بكر فأجاز له أبو بكر ما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أجاز له، وسيأتى فى كتاب ترك الحيل فى باب احتيال العامل ليهدى له. - باب اسْتِقْضَاءِ الْمَوَالِى وَاسْتِعْمَالِهِمْ / 34 - فيه: ابْنَ عُمَرَ: كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِى حُذَيْفَةَ يَؤُمُّ الْمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ، وَأَصْحَابَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى مَسْجِدِ قُبَاءٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَبُو سَلَمَةَ وَزَيْدٌ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ. قال المهلب: أصل هذا الباب فى كتاب الله: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) [الحجرات: 13] والتقى وإن كان بحضرته أتقى منه لا يرفع عنه اسم التقى والكرامة، وقد قدم النبى (صلى الله عليه وسلم) فى العمل والصلاة والسعاية المفضول مع وجود الفاضل توسعة منه على الناس ورفقًا بهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 248 - باب الْعُرَفَاءِ لِلنَّاسِ / 35 - فيه: مَرْوَانَ، وَالْمِسْوَرَ (أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ حِينَ أَذِنَ لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِى عِتْقِ سَبْىِ هَوَازِنَ: إِنِّى لا أَدْرِى مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ، فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، فَرَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَخْبَرُوهُ، أَنَّ النَّاسَ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا) . اتخاذ الإمام للعرفاء والنظار سنة؛ لأن الإمام لا يمكنه أن يباشر بنفسه جميع الأمور، فلابد من قوم يختارهم لعونه وكفايته بعض ذلك، ولهذا المعنى جعل الله عباده شعوبًا وقبائل ليتعارفوا فأراد تعالى ألا يكون الناس خلطًا واحدًا فيصعب نفاذ أمر السلطان ونهيه؛ لأن الأمر والنهى إذا توجه إلى الجماعة وقع الاتكال من بعضهم على بعض فوقع التضييع، وإذا توجه إلى عريف لم يسعه إلا القيام بمن معه. - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ الثَنَاءِ عَلَى السُّلْطَانِ وَإِذَا خَرَجَ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ / 36 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّا نَدْخُلُ عَلَى سَلاَطِينَنَا، فَنَقُولُ لَهُمْ خِلافَ مَا نَتَكَلَّمُ إِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمْ، قَالَ: كُنَّا نَعُدُّهَا ذَلِكَ نِفَاقًا. / 37 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ، الَّذِى يَأْتِى هَؤُلاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ) . قال المؤلف: لا ينبغى لمؤمن أن يثنى على سلطان أو غيره فى وجهه وهو عنده مستحق للذم، ولا يقول بحضرته بخلاف ما يقوله إذا خرج الجزء: 8 ¦ الصفحة: 249 من عنده؛ لأن ذلك نفاق كما قال ابن عمر، وقال فيه (صلى الله عليه وسلم) : (شر الناس ذو الوجهين) وقال: إنه لا يكون عند الله وجيهًا؛ لأنه يظهر لأهل الباطل الرضا عنهم، ويظهر لأهل الحق مثل ذلك ليرضى كل فريق منهم ويريه أنه منهم وهذه المداهنة المحرمة على المؤمنين. قال المهلب: فإن قال قائل: إن حديث ابن عمر وحديث أبى هريرة يعارضان قوله (صلى الله عليه وسلم) للذى استأذن عليه: (بئس ابن العشيرة) ثم تلقاه بوجه طلق وترحيب. قيل: ليس بينهما تعارض بحمد الله؛ لأنه لم يقل (صلى الله عليه وسلم) خلاف ما قاله عنه؛ بل أبقاه على التجريح عند السامع، ثم تفضل عليه بحسن اللقاء والترحيب لما كان يلزمه (صلى الله عليه وسلم) من الاستئلاف، وكان يلزمه التعريف لخاصته بأهل التخليط والتهمة بالنفاق، وقد قيل: إن تلقيه له بالبشر إنما كان لاتقاء شره، وليكف بذلك أذاه عن المسلمين، فإنما قصد بالوجهين جميعًا إلى نفع المسلمين بأن عرفهم سوء حاله وبأن كفاهم ببشره له أذاه وشره. وذو الوجهين بخلاف هذا؛ لأنه يقول الشىء بالحضرة، ويقول ضده فى غير الحضرة، وهذا تناقض، والذى فعله (صلى الله عليه وسلم) محكم مبين لا تناقض فيه؛ لأنه لم يقل لابن العشيرة عند لقائه إنه فاضل ولا صالح بخلاف ما قال فيه فى غير وجهه. ومن هذا الحديث استجاز الفقهاء التجريح والإعلام بما يظن من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 250 سوء حال الرجل إذا خشى منه على المسلمين، وسأتقصى ذلك فى كتاب الأدب من باب المداراة مع الناس. - باب الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ / 38 - فيه: عَائِشَةَ: أَنَّ هِنْدًا قَالَتْ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، فَأَحْتَاجُ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ، قَالَ خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ) . اختلف العلماء فى القضاء على الغائب فأجاز ذلك سوار القاضى ومالك والليث والشافعى وأبو ثور وأبو عبيد. قال الشافعى: يقضى بذلك فى كل شىء. وروى ابن القاسم عن مالك: أنه يقضى بذلك فى الدين ولا يقضى به فى أرض ولا عقار، وفى كل شىء كانت له فيه حجج إلا أن تكون غيبة المدعى عليه طويلة. قال أصبغ: مثل الغدوة من الأندلس ومكة ومن إفريقية وشبه ذلك، وأرى أن يحكم عليه إذا كانت غيبة انقطاع. قال مالك: وكذلك إن غاب بعد ما توجه عليه القضاء قضى عليه. قال ابن حبيب: عرضت قول ابن القاسم، عن مالك على ابن الماجشون، فأنكر أن يكون مالك قاله، وقال: أما علماؤنا وحكامنا بالمدينة؛ فالعمل عندهم على الحكم على الغائب فى جميع الأشياء. وقالت طائفة: لا يقضى على الغائب. روى ذلك عن شريح، والنخعى، والقاسم، وعمر ابن عبد العزيز، وابن أبى ليلى. وقال أبو حنيفة: لا يقضى على الغائب ولا من هرب عن الحكم بعد إقامة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 251 البينة، ولا على من استتر فى البلد، ولكنه يأتى من عند القاضى من ينادى على بابه ثلاثة أيام فإن لم يحضر أنفذ عليه القضاء. واحتج الكوفيون بالإجماع أنه لو كان حاضرًا لم يسمع بينة المدعى حتى يسأل المدعى إليه، فإذا غاب فأحرى أن لا يسمع. قالوا: ولو جاز الحكم مع غيبته لم يكن الحضور عند الحاكم مستحقا عليه، وقد ثبت أن الحضور مستحق عليه؛ لقوله تعالى: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون) [النور: 48] فذمهم على الإعراض عن الحكم وترك الحضور، فلولا أن ذلك واجب عليهم لم يلحقهم الذم. قالوا: وروى عن على حين بعثه النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى اليمن قال له: (لا تقض لأحد الخصمين حتى تسمع من الآخر) وقد أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بالمساواة بين الخصمين فى المجلس، واللحظ واللفظ. والحكم على الغائب يمنع من هذا كله. قال ابن القصار: واحتج الذين أجازوا القضاء على الغائب بحديث هند وأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قضى لها على زوجها بالأخذ من ماله وهو غائب. فإن قيل: حكم من غير أن قامت البينة بالزوجية وثبوت الحق عليه. قيل: ليس يكون الحكم بعد إقامة البينة، وهذا معلوم لم يحتج إلى نقله. وقال الطبرى: لم يسألها النبى (صلى الله عليه وسلم) البينة لعلمه بصحة دعواها. قال ابن المنذر: وإنما حكم عليه وهو غائب لما علم ما يجب لها عليه، فحكم بذلك عليه ولم ينتظر حضوره، ولعله لو حضر أدلى بحجة فلم يؤخر (صلى الله عليه وسلم) الحكم بذلك وأمضاه عليه وهو غائب. وقد تناقض الكوفيون فى ذلك فقالوا: لو ادعى رجل عند حاكم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 252 أن له على غائب حقًا وجاء برجل فقال: إنه كفيله واعترف له الرجل أنه كفيله إلا أنه قال: لا شىء له عليه. فقال أبو حنيفة: يحكم على الغائب ويأخذ الحق من الكفيل، وكذلك إذا قامت امرأة الغائب وطلبت النفقة من مال زوجها، فإنه يحكم لها عليه بالنفقة عندهم. قال ابن المنذر: ومن تناقضهم أنهم يقضون للمرأة والوالدين والولد على الذى عنده المال الغائب إذا أقر به، ولا يقضون للأخ والأخت ولا لذى رحم محرم، ووجوب نفقات هؤلاء عندهم كوجوب نفقات الآباء والأبناء والزوجة، ولو ادعى على جماعة غُيّب دعوى مثل أن يقول: قتلوا عبدى. وحضر منهم واحد حكم عليه وعلى الغُيّب، فقد أجازوا الحكم على الغائب. - باب مَنْ قُضِىَ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ فَلا يَأْخُذْهُ فَإِنَّ قَضَاءَ الْحَاكِمِ لا يُحِلُّ حَرَامًا وَلا يُحَرِّمُ حَلالا / 39 - فيه: أُمَّ سَلَمَةَ أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِى الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ، فَأَقْضِى لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ، فَإِنَّمَا هِىَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا؟ . / 40 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ ابْنِ أَبِى وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّى فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ، فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: ابْنُ أَخِى، قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِى وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِى، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 253 فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ أَخِى، كَانَ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِى وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِى وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: احْتَجِبِى مِنْهُ، لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِىَ اللَّهَ) . أجمع الفقهاء على أن حكم الحاكم لا يخرج الأمر عما هو عليه فى الباطن، وإنما ينفذ حكمه فى الظاهر الذى تعبد به، ولا يحل للمقضى له مال المقضى عليه إذا ادعى عليه ما ليس عنده ووقع الحكم بشاهدى زور، فالعلماء مجمعون أن ذلك فى الفروج والأموال سواء؛ لأنها كلها حقوق لقوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقًا من أموال الناس) [البقرة: 188] وهو قول أبى يوسف. وشذ أبو حنيفة ومحمد فقالا: ما كان من تمليك مال فهو على حكم الباطن كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (فمن قضيت له بشىء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار) وما كان من حل عصمة النكاح أو عقدها غير داخل فى النهى، فلو تعمد شاهدا زور الشهادة على امرأة أنها قد رضيت بنكاح رجل، وقضى الحاكم عليها بذلك لزمها النكاح ولم يكن لها الامتناع. ولو تعمد رجلان الشهادة بالزور على رجل أنه طلق امرأته، فقبل الحاكم شهادتهما لعدالتهما عنده، وفرق بين الرجل والمرأة واعتدت المرأة جاز لأحد الشاهدين أن يتزوجها وهو عالم أنه كان كاذبًا فى شهادته، لأنه لما حلت للأزواج فى الظاهر كان الشاهد وغيره سواء؛ لأن قضاء القاضى قطع عصمتها وأحدث فى ذلك التحليل والتحريم فى الظاهر والباطن جميعًا، ولولا ذلك ما حلت للأزواج. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 254 واحتجا بحكم اللعان وقالا: معلوم أن الزوجة إنما وصلت إلى فراق زوجها باللعان الكاذب الذى لو علم الحاكم كذبها فيه لحدها وما فرق بينهما، فلم يدخل هذا فى عموم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وقضيت له بشىء من حق أخيه فلا يأخذه) . واحتج أصحاب مالك والشافعى وغيرهم بحديث أم سلمة وعائشة فقالوا: قوله: (فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هى قطعة من النار) بيان واضح أن حكمه بما ليس للمحكوم له لا يجوز له أخذه، وأنه حرام عليه فى الباطن. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فمن قضيت له بحق مسلم) يشتمل على كل حق، فمن فرق بين بعض الحقوق فعليه الدليل، ومثل هذا حكمه (صلى الله عليه وسلم) فى ابن وليدة زمعة أنه لزمعة من أجل الفراش الظاهر ولم يلحقه بعتبة، ثم لما رأى شبهًا بعتبة قال لسودة زوجته: (احتجبى منه) ؛ لجواز أن يكون من زنا. فلو كان حكمه يقع ظاهرًا وباطنًا لم يأمر (صلى الله عليه وسلم) زوجته سودة بالاحتجاب منه مع حكمه بأنه أخوها. ومن طريق الاعتبار أنا قد اتفقا على أنه لو ادعى إنسان على حرة أنها أمته وأقام شاهدى زور لم تكن أمته فى الباطن من أجل حكم الحاكم، فكذلك فى الفروج كلها، وكذلك لو ادعى على ابنته أو أخته أنها زوجته وأقام شاهدى زور، وحكم الحاكم بالزوجية، فإن أبا حنيفة يقول: لا تكون زوجته. وفرق بين الحرمة بالنسب وبين زوجة غيره ولا فرق بينهما؛ لأنه لما كان حكم الحاكم لا يبيح المحرمة بالنسب، فكذلك لا يبيح المحرمة بنكاح غيره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 255 - باب الْحُكْمِ فِى الْبِئْرِ وَنَحْوِهَا / 41 - فيه: عَبْدُاللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَحْلِفُ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ مَالا، وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، إِلا لَقِىَ اللَّهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا) [آل عمران: 77] الآيَةَ، فَجَاءَ الأشْعَثُ وَعَبْدُاللَّهِ يُحَدِّثُهُمْ، فَقَالَ: فِىَّ نَزَلَتْ، وَفِى رَجُلٍ خَاصَمْتُهُ فِى بِئْر. . . الحديث. وذكر فى كتاب الأيمان والنذور أن البئر كانت للأشعث فى أرض ابن عمه فادعى له فى البئر. وهذا الحديث حجة فى أن حكم الحاكم فى الظاهر لا يحل الحرام ولا يبيح المحظور، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) حذر أمته عقوبة من اقتطع حق أخيه بيمين فاجرة، أن جزاءه غضب الله عليه، وقد توعد الله على ذلك بضروب من العقوبة فقال: (إن الذين يشترون بعهد الله) [آل عمران: 77] وهذا من أشد وعيد جاء فى القرآن، فدل ذلك على أن من تحيل على أخيه وتوصل إلى شىء من حقه بباطل، فإنه لا يحل له لشدة الإثم فيه. 30 - باب الْقَضَاءُ فِى قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ سَوَاءٌ وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ: الْقَضَاءُ فِى قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ سَوَاءٌ. / 42 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ) ، إلى قوله: (فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ. . .) الحديث. القضاء فى قليل المال وكثيره واجب؛ لعموم قوله: (فمن قضيت له بحق مسلم) والحق يقع على كل شىء من القليل والكثير. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 256 واختلف العلماء فى كم تجب اليمين فى مقاطع الحقوق؟ وقد تقدم ذلك فى كتاب الشهادات والأيمان فى باب يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه اليمين. 31 - باب بَيْعِ الإمَامِ عَلَى النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَضِيَاعَهُمْ وَقَدْ بَاعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مُدَبَّرًا مِنْ نُعَيْمِ بْنِ النَّحَّامِ. / 43 - فيه: جَابِرِ: بَلَغَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِهِ أَعْتَقَ غُلامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُ، فَبَاعَهُ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ بِثَمَنِهِ إِلَيْهِ. قال المهلب: إنما يبيع الإمام على الناس أموالهم إذا رأى منهم سفهًا فى أحوالهم؛ فأما من ليس بسفيه، فلا يباع عليه شىء من ماله إلا فى حق يكون عليه، وهذا البيع الذى وقع فى المدبر إنما نقضه (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه لم يكن له مال غيره، فخشى عليه الموت فى الحجاز دون قوت لقوله تعالى: (وأنفقوا فى سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) [البقرة: 195] ، فلما رآه النبى (صلى الله عليه وسلم) قد أنفق جميع ذات يده فى المدبر وأنه تعرض للهلكة نقض عليه فعله، كما قال تعالى ونهى عنه، ولم ينقض على الذى قال له: (قل: لا خلابة) لأنه لم يفوت على نفسه جميع ماله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 257 32 - باب مَنْ لَمْ يَكْتَرِثْ بِطَعْنِ مَنْ لا يَعْلَمُ فِى الإِمَامِ / 44 - فيه: ابْنَ عُمَرَ قَالَ: (بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَعْثًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطُعِنَ فِى إِمَارَتِهِ، وَقَالَ: إِنْ تَطْعَنُوا فِى إِمَارَتِهِ، فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِى إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَايْمُ اللَّهِ، إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلإمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ بَعْدَهُ) . قال المهلب: معنى الترجمة أن الطاعن إذا لم يعلم حال المطعون عليه، وكذب فى طعنه لا ينبغى أن يكترث له كبير اكتراث، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد خلى هذا الطعن حين أقسم أنه كان خليقًا للإمارة. وفيه: أنه يتأسى بما قيل فى المرء من الكذب إذا قيل مثل ذلك فيمن كان قبله من الفضلاء. وفيه: التبكيت للطاعنين؛ لأنهم لما طعنوا فى إمارة أبيه، ثم ظهر من غنائه وفضله ما ظهر؛ كان ذلك ردًا لقولهم. فإن قيل: قد طعن على أسامة وأبيه بما ليس فيهما، ولم يعزل النبى (صلى الله عليه وسلم) واحدًا منهما، بل بين فضلهما ولم يتهمهما، ولم يعتبر عمر بهذا القول فى سعد، وعزله حين قرفه أهل الكوفة بما هو منه برئ. فالجواب: أن عمر لم يعلم من مغيب أمر سعد ما علمه النبى (صلى الله عليه وسلم) من مغيب أمر زيد وأسامة، وإنما قال عمر لسعد حين ذكر أن صلاته تشبه صلاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ذلك الظن بك. ولم يقطع على ذلك كما قطع النبى (صلى الله عليه وسلم) فى أمر زيد أنه خليق للإمارة، وقال فى أسامة: إنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 258 من أحب الناس إليه. ولا يجوز أن يحب النبى (صلى الله عليه وسلم) إلا من أحبه الله، ومن لا يسوغ فيه العيب والنقص. ويحتمل أن يكون الطاعنون فى أسامة وأبيه من استصغر سنه على من قدم عليه من مشيخة الصحابة، وذلك جهل ممن ظنه، ويحتمل أن يكون الظن من المنافقين الذين كانوا يطعنون على النبى (صلى الله عليه وسلم) ويقبحون آثاره وآراءه، وقد وصف الله من اتهم الرسول فى قضاياه أنه غير مؤمن بقوله: (فلا وربك لا يؤمنون) [النساء: 65] الآية. 33 - باب الألَدِّ الْخَصِمِ وَهُوَ الدَّائِمُ فِى الْخُصُومَةِ. لُدًّا: عُوجًا / 45 - فيه: عَائِشَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الألَدُّ الْخَصِمُ) . قد تقدم فى كتاب المظالم والغصب هذا. قال المهلب: لما كان اللدد حاملاً على المطل بالحقوق والتعريج بها عن وجوهها، واللىّ بها عن مستحقيها وظلم أهلها؛ استحق فاعل ذلك بغضة الله وأليم عقابه. 34 - باب إِذَا قَضَى الْحَاكِمُ بِجَوْرٍ أَوْ خِلافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَهُوَ رَدٌّ / 46 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: بَعَثَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِى جَذِيمَةَ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، فَقَالُوا: صَبَأْنَا، صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 259 وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، فَأَمَرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرَهُ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا أَقْتُلُ أَسِيرِى، وَلا يَقْتُلُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِى أَسِيرَهُ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّى أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ مَرَّتَيْنِ) . لم يختلف العلماء أن القاضى إذا قضى بجور أو بخلاف أهل العلم فهو مردود، فإن كان على وجه الاجتهاد والتأويل كما صنع خالد فإن الإثم ساقط عنه، والضمان لازم فى ذلك عند عامة أهل العلم، إلا أنهم اختلفوا فى ضمان ذلك على ما يأتى بيانه. ووجه موافقة الحديث للترجمة هو قوله: (اللهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد) يدل تبرؤه (صلى الله عليه وسلم) من قتل خالد للذين قالوا: صبأنا. أن قتله لهم حكم منه بغير الحق؛ لأن الله يعلم الألسنة كلها ويقبل الإيمان من جميع أهل الملل بألسنتهم، لكن عذره النبى (صلى الله عليه وسلم) بالتأويل؛ إذ كل متأول فلا عقوبة عليه ولا إثم. واختلفوا فى ضمان خطأ الحاكم، فقالت طائفة: إذا أخطأ الحاكم فى حكمه فى قتل أو جراح فدية ذلك فى بيت المال. هذا قول الثورى وأبى حنيفة وأحمد وإسحاق. وقالت طائفة: هو على عاقلة الإمام والحاكم. وهذا قول الأوزاعى وأبى يوسف ومحمد والشافعى، وليس فيها جواب لمالك. واختلف أصحابه فيها فقال ابن القاسم كقول الأوزاعى: الدية على عاقلة الحاكم. وقال فى الشاهدين إذا شهد فى دين أو عتق أو طلاق أو حد من الحدود: أرى أن يضمنا الدين، ويكون عليهما قيمة العبد فى العتق وقصاص العقل فى أموالهم. وهو قول أشهب فى الشاهدين. وقال: الأموال مضمونة بالخطأ كما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 260 هى بالعمد، وليست كالدماء. وهو قول أصبغ. وقال ابن الماجشون: ليس على الحاكم شىء من الدية فى ماله ولا على عاقلته ولا فى بيت مال المسلمين، وكذلك قال فى الشاهدين إذا رجعا عن شهادتهما وادعيا الغلط أنه لا غرم عليهما. وهو قول محمد بن مسلمة. وذكر ابن حبيب أن قول ابن الماجشون هو قول المغيرة وابن دينار وابن أبى حازم وغيرهم. وحجة من لم يوجب الدية أنه لم يرو فى الحديث أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أغرمه الدية ولا غرمها عنه، وقوله: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر) . ولا يجوز أن يؤجر إلا على ما هو بفعله مطيع، فإذا كان مطيعًا فما صدر عنه من تلف نفس أو مال فلا ضمان عليه، وهذا اختيار إسماعيل بن إسحاق. وحجة الذين أوجبوا الضمان والدية الإجماع على أن الأموال مضمونة بالخطأ كما هو بالعمد، ولا تسقط الدية فى ذلك من أجل أنها لم يذكر فى الحديث وجوبها، كما لم تسقط فى دية الناقتين عن حمزة حين جب أسنمتهما وبقر خواصرهما، وإن كان لم يذكر ذلك فى الحديث. وروى عن عثمان أنه جعل عقل المرأة التى أمر برجمها على عاقلته، وروى أن امرأة ذكرت عند عمر بالزنا فبعث إليها ففزعت فألقت ما فى بطنها فاستشار الصحابة فى ذلك، فقال له عبد الرحمن بن عوف وغيره: إنما أنت مؤدب ولا شىء عليك. فقال لعلى: ما تقول؟ فقال: إن كان اجتهدوا فقد أخطئوا، عليك الدية. قال عمر: عزمت عليك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 261 لتقسمنها على قومك. فأوجب على بحضرة الصحابة الدية وألزمها عمر، وضربها على عاقلته، والمرأة وإن كانت أسقطت من الفزع فهو من جهته. وليس فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا اجتهد الإمام فأخطأ) دليل على إسقاط الضمان فى ذلك، وإنما فيه سقوط الإثم عن المجتهد وأنه مأجور إن لم يتعمد الخطأ، ولا يفهم من الحديث زوال الضمان. 35 - باب الإمَامِ يَأْتِى قَوْمًا فَيُصْلِحُ بَيْنَهُمْ / 47 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: (كَانَ قِتَالٌ بَيْنَ بَنِى عَمْرٍو، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَتَاهُمْ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا حَضَرَتْ صَلاةُ الْعَصْرِ، فَأَذَّنَ بِلالٌ وَأَقَامَ وَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ، فَتَقَدَّمَ وَجَاءَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَبُو بَكْرٍ فِى الصَّلاةِ، فَشَقَّ النَّاسَ حَتَّى قَامَ خَلْفَ أَبِى بَكْرٍ، فَتَقَدَّمَ فِى الصَّفِّ الَّذِى يَلِيهِ، قَالَ: وَصَفَّحَ الْقَوْمُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا دَخَلَ فِى الصَّلاةِ. وذكر الحديث، إلى قوله: إِذَا رَابَكُمْ أَمْرٌ فَلْيُسَبِّحِ الرِّجَالُ وَلْيُصَفِّق النِّسَاءُ) . وقد تقدم فى الصلح. فإن قال قائل: قد جاء فى هذا الحديث أن النبى (صلى الله عليه وسلم) شق الناس وهم فى الصلاة، وجاء عنه أنه نهى عن التخطى، وأن يفرق بين اثنين يوم الجمعة، فكيف وجه الجمع بين هذه الأحاديث؟ قال المهلب: لا اختلاف بين معانيها، ولكل واحد منها وجه، وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ليس كغيره فى أمر الصلاة ولا غيرها؛ لأنه ليس لأحد أن يتقدم علة فيها، وله أن يتقدم لما ينزل عليه من أحكام الصلاة، أو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 262 ينزل عليه قرآن بإثبات حكم أو نسخه، وليس لغيره شىء من ذلك وليس حركة من حركاته (صلى الله عليه وسلم) إلا ولنا فيها منفعة وسنة نقتدى بها، والمكروه من التخطى هو ما يختص بالأذى والجفاء على الجلوس، فى التخطى على رقابهم وقلة توقيرهم، وليس كذلك الوقوف فى الصلاة؛ لأنهم ليسوا فى حديث يفاوضون فيه فيقطعه عليهم المار بينهم كما يقطعه من جلس بين اثنين متحادثين فى علم أو مشاورة، ويستدل على ذلك بقول مالك: من رعف فى الصلاة أن له أن يشق الصفوف عرضًا إلى الباب، فإن لم يمكنه خرج كيف تيسر له، وليس لأحد أن يشق الصفوف فى الدخول والناس جلوس قبل الصلاة لما فى ذلك من الجفاء على الناس والأذى لهم، ولهم ذلك بعد تمام الصلاة، لأنهم ممن أباح الله لهم الانتشار بعد الصلاة؛ فلذلك سقط أذى التخطى عن الخارج؛ لأنهم مختارون للجلوس بعد الصلاة ومأمورون بالجلوس قبلها، وقد خرج (صلى الله عليه وسلم) بعد تقضى الصلاة يتخطى رقاب الناس فقال: (تذكرت ذهيبة كانت عندى فخشيت أن تحبسنى) . وفى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فليسبح الرجال وليصفق النساء) حجة للشافعى فى قوله: إن المرأة لا تسبح فى الصلاة؛ لأن صوتها فتنة يخشى منه على الناس، فالتصفيق سنتها بخلاف الرجال على ما جاء فى هذا الحديث، وهو نص لا مدفع فيه. 37 - باب يُسْتَحَبُّ لِلْكَاتِبِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَاقِلا (1) / 48 - فيه: زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: بَعَثَ إِلَىَّ أَبُو بَكْرٍ لِمَقْتَلِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِى، فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَإِنِّى أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ فِى الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 263 فَيَذْهَبَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ، وَإِنِّى أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ: كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِى فِى ذَلِكَ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِى لِلَّذِى شَرَحَ لَهُ صَدْرَ عُمَرَ وَرَأَيْتُ فِى ذَلِكَ الَّذِى رَأَى عُمَرُ، قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَإِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ، قَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْىَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، قَالَ زَيْدٌ: فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِى نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ بِأَثْقَلَ عَلَىَّ مِمَّا كَلَّفَنِى مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلانِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ يَحُثُّ مُرَاجَعَتِى حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِى لِلَّذِى شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَرَأَيْتُ فِى ذَلِكَ الَّذِى رَأَيَا، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ، أَجْمَعُهُ مِنَ الْعُسُبِ وَالرِّقَاعِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، فَوَجَدْتُ فِى آخِرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة: 128] إِلَى آخِرِهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، أَوْ أَبِى خُزَيْمَةَ، فَأَلْحَقْتُهَا فِى سُورَتِهَا، وَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِى بَكْرٍ حَيَاتَهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ. قَالَ عُبَيْدِاللَّهِ البخارى: اللِّخَافُ يَعْنِى الْخَزَفَ. قال المهلب: هذا يدل أن العقل أصل الخلال المحمودة كالأمانة والكفاية فى عظيم الأمور؛ لأنه لم يصف زيدًا بأكثر من العقل، وجعله سببًا لائتمانه ورفع التهمة عنه؛ لقوله: إنك شاب عاقل ولا نتهمك. وفيه: دليل على اتخاذ الكاتب للسلاطين والحكام، وأنه ينبغى أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 264 يكون الكاتب عاقلاً فطنًا مقبول الشهادة، وهذا قول كافة الفقهاء. وقال الشافعى: ينبغى لكاتب القاضى أن يكون عاقلا لئلا يخدع ويحرص على أن يكون فقيهًا لئلا يؤتى من جهالة، ويكون بعيدًا من الطمع نزهًا. وفيه: أن من سبقت له معرفة بالأمر فإنه أولى بالولاية، أحق بها ممن لا سابقة له فى ذلك ولا معرفة. وفيه: جواز مراجعة الكتاب للسلطان فى الرأى ومشاركته له فيه. قال أبو بكر بن الطيب: إن قال قائل من الرافضة: كيف جاز لأبى بكر جمع القرآن ولم يجمعه النبى (صلى الله عليه وسلم) . قيل: يجوز أن يفعل الفاعل ما لم يفعله النبى (صلى الله عليه وسلم) إذا كان فى ذلك مصلحة فى وقته واحتياط للدين، وليس فى أدلة الكتاب والسنة ما يدل على فساد جمع القرآن بين لوحين وتحصينه، وجمع هممهم على تأمله، وتسهيل الانتساخ منه والرجوع إليه، والغنى به عن تطلب القرآن من الرقاع والعسب وغير ذلك مما لا يؤمن عليه الضياع، فوجب أن يكون أبو بكر مصيبًا، وأن ذلك من أعظم فضائله وأشرف مناقبه حين سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد من الأمة، وبأن اجتهاده فى النصح لله ولرسوله ولكتابه ودينه وجميع المؤمنين، وأنه فى ذلك متبع لله ولرسوله لإخباره تعالى فى كتابه أن القرآن كان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 265 مكتوبًا فى الصحف الأولى، وأخبر عن تلاوة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الصحف بقوله تعالى: (رسول من الله يتلو صحفًا مطهرة فيها كتب قيمة) [البينة: 2، 3] فلم يكن جمع أبى بكر الصديق بين اللوحين مخالفًا لله ولرسوله؛ لأنه لم يجمع ما لم يكن مجموعًا ولا كتب ما لم يكن مكتوبًا، وقد أمرهم النبى (صلى الله عليه وسلم) بكتابته فقال: (لا تكتبوا عنى شيئًا غير القرآن) . فألف المكتوب وصانه، وأحرزه وجمعه بين لوحين، ولم يغير منه شيئًا، ولا قدم منه مؤخرًا ولا أخر مقدمًا، ولا وضع حرفًا ولا آية فى غير موضعها. ودليل آخر، وذلك أن الله ضمن لرسوله ولسائر الخلق جمع القرآن وحفظه فقال: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر: 9] ، وقال: (إن علينا جمعه وقرآنه) [القيامة: 16] ، وقال: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) [فصلت: 42] . فنفى عنه إبطال الزائغين وإلباس الملحدين، ثم أمر الرسول والأمة بحفظه والعمل به، فوجب أن يكون كل أمر عاد لتحصينه وأدى إلى حفظه واجبًا على كافة الأمة فعله، فإذا قام به البعض فقد أحسن وناب عن باقى الأمة. وقد روى عبد خير، عن على أنه قال: يرحم الله أبا بكر هو أول من جمع القرآن بين لوحين. وهذا تعظيم منه لشأنه ومدح له، وعلى أعلم من الرافضة بصواب هذا الفعل، فيجب ترك قولهم لقوله. ومما يدل على صحة هذه الرواية عن علىّ ابتغاؤه لأجره وإطلاقه للناس كتب المصاحف وحضهم عليها وإظهار تحكيم ما ضم الصديق بين لوحين، ولو كان ذلك عنده منكرًا لما أخرج إلى الدعاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 266 إلى من يخالفه مصحفًا تنشره الريح، وإنما كان يخرجه من المصحف والعسب واللخاف على وجه ما كان مكتوبًا فى زمن النبى (صلى الله عليه وسلم) فدل أنه مصوب لفعل الصديق والجماعة، وأن ذلك رأيه ودينه، وسياتى فى كتاب فضائل القرآن فى باب جمع القرآن بقيته. 78 - باب كِتَابِ الْحَاكِمِ إِلَى عُمَّالِهِ وَالْقَاضِى إِلَى أُمَنَائِهِ / 49 - فيه: حديث حويصة ومحيصة: (وأن النبى (صلى الله عليه وسلم) كتب إلى أهل خيبر: إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب، فكتبوا، ما قتلنا. .) وذكر الحديث. قد تقدم هذا الحديث فى باب الشهادة على الخط. 38 - باب هَلْ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبْعَثَ رَجُلا وَحْدَهُ لِلنَّظَرِ فِى الأمُورِ / 50 - فيه أَبِى هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ: حديث العَسِيف، إلى قوله: وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ، لِرَجُلٍ، فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَارْجُمْهَا فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا) . قال المهلب: هذا الحديث نص فى بعثة الحاكم رجلا واحدًا ينفذ حكمه. وفيه حجة لمالك فى قوله: إنه يجوز أن ينفذ الرجل الواحد إلى إعذار من شهد عليه بحق، وأنه يجوز أن يتخذ رجلا ثقة يكشف له عن حال الشهود فى السر، وكذلك يجوز عندهم قبول الواحد فيما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 267 طريقه الأخبار ولم يكن طريقه الشهادة، وقد استدل قوم بهذا الحديث فى أن الإمام إذا بعث رجلا ينفذ أحكامه أنه ينفذه من غير إعذار إلى المحكوم عليه؛ لأنه لم ينقل فى الأخبار أن أنيسًا أعذر إلى المرأة المدعى عليها الزنا، وهذا ليس بشىء؛ لأن الإعذار إنما يصح فيما كان فى الحكم بالبينات، ولابد فى ذلك من الإعذار إلى المحكوم عليه، وما كان الحكم فيه من جهة الإقرار فللرسول أن ينفذه بإقرار المقر، ولا إعذار فيه، وإنما اختلف العلماء هل يحتاج وكيل الحاكم إلى أن يحضر من يسمع ذلك من المقر أم لا؟ على حسب اختلافهم فى الحاكم هل يحتاج إلى مثل ذلك أم لا؟ وأصل الإعذار فى كتاب الله قوله تعالى: (تمتعوا فى دراكم ثلاثة أيام) [هود: 65] وفى قوله: (إن موعدهم الصبح) [هود: 81] . وفى هذا الحديث حجة لمن قال: إن القاضى يجوز أن يحكم على الرجل بإقراره دون بينة تشهد عنده بذلك الإقرار، وهو قول ابن أبى ليلى وأبى حنيفة وأبى يوسف، وقال مالك: لا يقضى على الرجل بإقراره حتى تشهد عنده بينة بذلك. وهو قول محمد بن الحسن، واحتج الطحاوى بقوله: (واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) ولم يقل له: فإن اعترفت فأشهد عليها حتى يكون حجة لك بعد موتها. قال: وقد قتل معاذ وأبو موسى مرتدا وهما واليان لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) على اليمن ولم يشهدا عليه. واختلفوا إذا قال القاضى: قد حكمت على هذا الرجل بالرجم فارجم. فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إذا قال ذلك، وسعك أن ترجمه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 268 وكذلك سائر الحدود والحقوق. وقال ابن القاسم على مذهب مالك: إن كان القاضى عدلا وسع المأمور أن يفعل ما قال القاضى، وهو قول الشافعى. قال ابن القاسم: إن لم يكن عدلا لم يقبل قوله. وقال محمد بن الحسن: لا يجوز للقاضى أن يقول: أقر عندى فلان بكذا، لشىء يقضى به عليه من قتل أو مال، أو عتاق أو طلاق حتى يشهد معه على ذلك رجلان أو رجل عدل ليس يكون هذا لأحد بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وينبغى أن يكون فى مجلس القاضى أبدًا رجلان عدلان يسمعان من يقر ويشهدان على ذلك، فينفذ الحكم بشهادتهما أو شهادة من حضر. 39 - باب تَرْجَمَةِ الْحُكَّامِ وَهَلْ يَجُوزُ تَرْجُمَانٌ وَاحِدٌ؟ وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ الْيَهُودِ حَتَّى كَتَبْتُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) كُتُبَهُ وَأَقْرَأْتُهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ. وَقَالَ عُمَرُ، وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ وَعَبْدُالرَّحْمَنِ وَعُثْمَانُ: مَاذَا تَقُولُ هَذِهِ؟ قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ ابْنُ حَاطِبٍ: فَقُلْتُ: تُخْبِرُكَ بِصَاحِبِهَا الَّذِى صَنَعَ بِهَا، وَقَالَ أَبُو جَمْرَةَ: كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لا بُدَّ لِلْحَاكِمِ مِنْ مُتَرْجِمَيْنِ. / 51 - فيه: ابْنَ عَبَّاسٍ، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 269 فِى رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّى سَائِلٌ هَذَا، فَإِنْ كَذَبَنِى فَكَذِّبُوهُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ لِلتُّرْجُمَانِ، قُلْ لَهُ إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا، فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَىَّ هَاتَيْنِ. اختلف العلماء فيمن تجوز ترجمته على لسان الأعجمين إذا تحاكموا إلى حكام المسلمين، فروى أشهب عن مالك أنه يجوز ترجمة رجل واحد ثقة قال: واثنان أحب إلىّ فى ذلك من الواحد وتقبل ترجمة امرأة واحدة واثنان أحب إليه ولا تقبل ترجمة عبد ولا مسخوط. وأجاز أبو حنيفة وأبو يوسف ترجمة رجل واحد وامرأة واحدة، ولا تقبل من عبد كقول مالك. وقال محمد بن الحسن: لا تقبل إلا من رجلين أو رجل وامرأتين. وقال الشافعى: لابد من اثنين. وحجة من أجاز ترجمة الواحد فى ذلك ترجمة زيد بن ثابت وحده للنبى (صلى الله عليه وسلم) وترجمة أبى جمرة بين يدى ابن عباس، وأن عبد الله بن سلام ترجم عن التوراة فى آية الرجم للنبى (صلى الله عليه وسلم) فجاز ذلك، وأيضًا فإن ترجمان هرقل ترجم عن قريش فجازت ترجمته، ولم يدخل حديث هرقل حجة على جواز الترجمان المشرك؛ لأن ترجمان هرقل كان على دين قومه، وإنما أدخله ليدل على أن الترجمان كان يجرى عند الأمم مجرى المخبر لا مجرى الشهادة، واحتج الكوفيون بأن الترجمة ليس طريقها الشهادة؛ بدليل أنه لا يحتاج أن تقول أشهد أنه يقول كذا، بل يكفيه أن يقول: هو يقول كذا وكذا وهو تفسير لما يقوله، والتفسير لا يحتاج فيه إلى العدد كالمستفتى إذا لم يفهم الفتيا بلسانه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 270 ومن شرط رجلين فى ذلك جعله كالشهادة لا ينقلها إلا شاهدان وكالإقرار عند الحاكم لا يجوز له أن يحكم به وإن فهمه حتى يشهد به عنده شاهدان، ففيما لا يفهمه ولا يعلمه أولى. وقال ابن المنذر: لو كان الأمر إلى النظر كان الواجب أن لا يقبل فى الترجمة أقل من شاهدين قياسًا على أن ما غاب عن القاضى لا نقبل فيه إلا شاهدين، غير أن الخبر إذا جاء سقط النظر. وفى ترجمة زيد بن ثابت وحده للنبى (صلى الله عليه وسلم) حجة لا يجوز خلافها. 40 - باب مُحَاسَبَةِ الإمَامِ عُمَّالَهُ / 52 - فيه: أَبُو حُمَيْدٍ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) اسْتَعْمَلَ ابْنَ اللَّتْبِيَّةِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِى سُلَيْمٍ، فَلَمَّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَحَاسَبَهُ، قَالَ: هَذَا الَّذِى لَكُمْ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِى. . . الحديث قد تقدم الكلام فى هذا الباب فى كتاب الزكاة، وسيأتى فى كتاب ترك الحيل فى باب: احتيال العامل ليهدى إليه زيادة فى هذا المعنى إن شاء الله تعالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 271 41 - باب بِطَانَةِ الإمَامِ وَأَهْلِ مَشُورَتِهِ الْبِطَانَةُ الدُّخَلاءُ / 53 - فيه: أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِىٍّ وَلا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ، إِلا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ) . قال المؤلف: ينبغى لمن سمع هذا الحديث أن يتأدب به، ويسأل الله العصمة من بطانة الشر وأهله، ويحرض على بطانة الخير وأهله. قال سفيان الثورى: ليكن أهل مشورتك أهل التقوى وأهل الأمانة ومن يخشى الله. قال سفيان: وبلغنى أن المشورة نصف العقل. وقال الحسن فى قوله تعالى: (وشاورهم فى الأمر) [آل عمران: 159] قال: وقد علم أنه ليس به إليهم حاجة ولكن أراد أن يستن به بعده، وسيأتى فى كتاب الاعتصام عند قوله تعالى: (وشاورهم فى الأمر) [آل عمران: 159] . 42 - باب كَيْفَ يُبَايِعُ الإمَامُ النَّاسَ / 54 - فيه: عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِى الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ، أَوْ نَقُولَ، بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لا نَخَافُ فِى اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ. / 55 - فيه: أَنَسٍ: (خَرَجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، وَالْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 272 إِنَّ الْخَيْرَ خَيْرُ الآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلأنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ فَأَجَابُوا: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا) / 56 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ: (كُنَّا إِذَا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ يَقُولُ لَنَا: فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ) . / 57 - وفيه: ابْنُ دِينَارٍ شَهِدْتُ ابْنَ عُمَرَ حَيْثُ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِالْمَلِكِ، قَالَ: كَتَبَ إِنِّى أُقِرُّ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِعَبْدِاللَّهِ عَبْدِالْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مَا اسْتَطَعْتُ، وَإِنَّ بَنِىَّ قَدْ أَقَرُّوا بِمِثْلِ ذَلِكَ. / 58 - وفيه: جَرِيرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَلَقَّنَنِى فِيمَا اسْتَطَعْتُ، وَالنُّصْحِ لِكُّلِ مُسْلِّم. / 59 - وفيه: سَلَمَةَ بن الأكوع: قُلْتُ عَلَى أَىِّ شَيْءٍ بَايَعْتُمُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ. / 60 - وفيه: الْمِسْوَرَ أَنَّ الرَّهْطَ الَّذِينَ وَلاهُمْ عُمَرُ اجْتَمَعُوا فَتَشَاوَرُوا، فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُالرَّحْمَنِ: لَسْتُ بِالَّذِى أُنَافِسُكُمْ عَلَى هَذَا الأمْرِ، وَلَكِنَّكُمْ إِنْ شِئْتُمُ اخْتَرْتُ لَكُمْ مِنْكُمْ، فَجَعَلُوا ذَلِكَ إِلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ، فَلَمَّا وَلَّوْا عَبْدَالرَّحْمَنِ أَمْرَهُمْ، فَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ حَتَّى مَا أَرَى أَحَدًا مِنَ النَّاسِ يَتْبَعُ أُولَئِكَ الرَّهْطَ وَلا يَطَأُ عَقِبَهُ، وَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ يُشَاوِرُونَهُ تِلْكَ اللَّيَالِى حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِى أَصْبَحْنَا مِنْهَا، فَبَايَعْنَا عُثْمَانَ. قَالَ الْمِسْوَرُ: طَرَقَنِى عَبْدُالرَّحْمَنِ بَعْدَ هَجْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، فَضَرَبَ الْبَابَ حَتَّى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 273 اسْتَيْقَظْتُ، فَقَالَ: أَرَاكَ نَائِمًا، فَوَاللَّهِ مَا اكْتَحَلْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِكَبِيرِ نَوْمٍ، انْطَلِقْ، فَادْعُ الزُّبَيْرَ وَسَعْدًا، فَدَعَوْتُهُمَا لَهُ فَشَاوَرَهُمَا، ثُمَّ دَعَانِى، فَقَالَ: ادْعُ لِى عَلِيًّا، فَدَعَوْتُهُ، فَنَاجَاهُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ، ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ عَلَى طَمَعٍ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُالرَّحْمَنِ يَخْشَى مِنْ عَلِىٍّ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِى عُثْمَانَ، فَدَعَوْتُهُ فَنَاجَاهُ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْمُؤَذِّنُ بِالصُّبْحِ، فَلَمَّا صَلَّى لِلنَّاسِ الصُّبْحَ، وَاجْتَمَعَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ، وَأَرْسَلَ إِلَى أُمَرَاءِ الأجْنَادِ، وَكَانُوا وَافَوْا تِلْكَ الْحَجَّةَ مَعَ عُمَرَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَشَهَّدَ عَبْدُالرَّحْمَنِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، يَا عَلِىُّ إِنِّى قَدْ نَظَرْتُ فِى أَمْرِ النَّاسِ، فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ، فَلا تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلا، فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ، فَبَايَعَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ وَبَايَعَهُ النَّاسُ الْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ وَأُمَرَاءُ الأجْنَادِ وَالْمُسْلِمُونَ. قال المهلب: اختلفت ألفاظ بيعة النبى (صلى الله عليه وسلم) فروى: (بايعنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على السمع والطاعة) وروى (على الجهاد) وروى (على الموت) وقد بين ابن عمر وعبد الرحمن بن عوف فى بيعتهما ما يجمع معانى البيعة كلها، وهو قولهم: (على السمع والطاعة وعلى سنة الله وسنة رسوله) . وقوله: (فيما استطعتم) لقوله تعالى: (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) [البقرة: 286] . وأما قوله: (فى المنشط والمكره) فهذه بيعة العقبة الثانية، بايعوه على أن يقاتلوا دونه، ويهلكوا أنفسهم وأموالهم. قال ابن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 274 إسحاق: وكانت بيعة الحرب حين أذن الله لرسوله فى القتال شروطًا سوى شرطه، حدثنى عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جده عبادة بن الصامت قال: (بايعنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بيعة الحرب على السمع والطاعة فى يسرنا وعسرنا، ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف فى الله لومة لائم) وكان عبادة من الاثنى عشر الذين بايعوه فى العقبة الأولى بيعة النساء. قال ابن إسحاق: وكانوا فى العقبة الثانية ثلاثة وسبعين رجلا من الأوس والخزرج وامرأتين. قال المهلب: قوله: (ولا ننازع الأمر أهله) فيه دليل قاطع على أن الأنصار ليس لهم فى الخلافة شىء كما ادعاه الحباب وسعد بن عبادة، ولذلك ما اشترط عليهم النبى (صلى الله عليه وسلم) هذا أيضًا. وأما الرهط الذين ولاهم عمر فمنهم: عثمان وعلى والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبى وقاص. وقال عمر: إن عجل بى أمر فالشورى فى هؤلاء الستة الذين توفى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو عنهم راض. قال الطبرى: فلم يكن من أهل الإسلام أحد يومئذ له منزلتهم فى الدين والهجرة والسابقة والفضل والعلم وسياسة الأمة. فإن قيل: فقد كان من هؤلاء الستة من هو أفضل من صاحبه، والمعروف من مذهب عمر أن أحق الناس بالإمارة أفضلهم دينًا، وأنه لا حق للمفضول فيها مع الفاضل، فكيف جعلها فى قوم بعضهم أفضل من بعض؟ قيل: إنما أدخل الذين ذكرت فى الشورى للمشاورة والاجتهاد للنظر للأمة؛ إذا كان واثقًا منهم بأنهم لا يألون للمسلمين نصحًا فيما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 275 اجتمعوا عليه، وأن المفضول منهم لا ينزل، والتقدم على الفاضل، ولا يتكلم فى منزلة غيره أحق بها منه، وكان مع ذلك عالمًا برضا الأمة بمن رضى به النفر الستة؛ إذ كان الناس لهم تبعًا وكانوا للناس أئمة وقادة، لا أنه كان يرى للمفضول منهم حقا مع الفاضل فى الإمامة. وفيه أيضًا: الدلالة على بطلان ما قاله أهل الإمامة من أنها فى الخيار وأشخاص قد وقف عليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمته فلا حاجة بهم إلى التشاور فيمن يقلدوه أمرها، وذلك أن عمر جعلها شورى فى النفر الستة ليجتهدوا فى أولاهم بها، فلم ينكر ذلك أحد من النفر الستة، ولا من غيرهم من المهاجرين والأنصار، ولو كان فيهم ما قد كان وقف عليه رسول الله بعينه ونصب لأمته كان حريًا أن يقول منهم قائل: ما وجه التشاور فى أمر قد كفيناه ببيان الله لنا على لسان رسوله؟ وفى تسليم جميعهم له ما فعله ورضاهم به أبين البيان، وأوضح البرهان على أن القوم لم يكن عندهم من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى شخص بعينه عهد، وأن الذى كان عندهم فى ذلك من عهده إليهم كان وقفًا على موصوف بصفات، يحتاج إلى إدراكها بالاجتهاد والاستنباط، فرضوا وسلموا له ما فعل من رده الأمر فى ذلك إلى النفر، وكانوا يومئذ أهل الأمانة على الدين وأهله. وفيه الدلالة الواضحة على أن الجماعة الموثوق بأديانهم ونصحتهم للإسلام وأهله، إذا عقدوا عقد الخلافة لبعض من هو من أهلها على تشاور منهم واجتهاد؛ فليس لغيرهم من المسلمين حل ذلك العقد ممن لم يحضر عقدهم وتشاورهم إذ كانوا العاقدين قد أصابوا الحق فيه، وذلك أن عمر أفرد فى النظر للأمر النفر الستة ولم يجعل لغيرهم فيما فعلوا اعتراضًا، وسلم ذلك من فعله جميعهم، ولم ينكره منهم منكر، ولو كان العقد فى ذلك لا يصح إلا باجتماع الأمة، لكان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 276 خليقًا أن يقول له منهم قائل: إن الحق الواجب بالعقد الذى خصصت بالقيام به هؤلاء الستة لم يخصهم به دون سائر الأمة، بل الجميع منهم فى ذلك شركاء، ولكن القوم لما كان الأمر عندهم على ما وصفت سلموا وانقادوا، ولم يعترض منهم فيه معترض، ولا أنكره منهم منكر. وقوله: بعد هجع من الليل. قال صاحب العين: الهجوع: النوم بالليل خاصة. يقال: هجع يهجع. وقوم هجع وهجوع. وقد تقدم تفسير: ابهار فى كتاب الصلاة. 43 - باب مَنْ بَايَعَ مَرَّتَيْنِ / 61 - فيه: سَلَمَةَ بن الأكوع: (بَايَعْنَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَقَالَ لِى: يَا سَلَمَةُ، أَلا تُبَايِعُ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ بَايَعْتُ فِى الأوَّلِ، قَالَ: وَفِى الثَّانِي) . قال المهلب: أراد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يؤكد بيعته لشجاعته وغنائه فى الإسلام وشهرته بالثبات، فأراد أن يجعل له مزية فى تكرير المبايعة من أجل شجاعته وقد تقدم هذا فى كتاب الجهاد. 44 - باب بَيْعَةِ الأعْرَابِ / 62 - فيه: جَابِرِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الإسْلامِ، فَأَصَابَهُ. . الحديث. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 277 قال المؤلف: البيعة على الإسلام كانت فرضًا على جميع الناس أعرابًا كانوا أو غيرهم. 45 - باب بَيْعَةِ الصَّغِيرِ / 63 - فيه: أَبُو عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ هِشَامٍ، وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَذَهَبَتْ بِهِ أُمُّهُ زَيْنَبُ بِنْتُ حُمَيْدٍ إِلَى النَّبى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : هُوَ صَغِيرٌ، فَمَسَحَ رَأْسَهُ، وَدَعَا لَهُ) . قال المهلب: البيعة لا تلزم إلا من تلزمه عقود الإسلام كلها من البالغين. وقال بعض العلماء: إنها تلزم الأصاغر بمبايعة آبائهم عليهم. 46 - باب مَنْ بَايَعَ واسْتَقَالَ الْبَيْعَةَ / 64 - فيه: جَابِرِ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ النَّبىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الإسْلامِ، فَأَصَابَ الأعْرَابِىَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَى النَّبى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِلْنِى بَيْعَتِى فَأَبَى، رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَهَا ثَلاَثًا، فَخَرَجَ الأعْرَابِىُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ، تَنْفِى خَبَثَهَا، وَتَنْصَعُ طِيبُهَا) . وترجم له باب من نكث بيعته وقوله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم) [الفتح: 10] الآية. قال المؤلف: إنما لم يقله النبى (صلى الله عليه وسلم) لأن الهجرة كانت فرضًا، وكان ارتدادهم عنها من أكبر الكبائر، ولذلك دعا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 278 لهم النبى (صلى الله عليه وسلم) فقال: (اللهم أمض لأصحابى هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم) . وفى هذا من الفقه أنه من عقد على نفسه أو على غيره عقدًا لله فلا يجوز له حله؛ لأن فى حله خروجًا إلى معصية الله، وقد أمر الله بوفاء العقود، وقد تقدم فى آخر كتاب الحج. 47 - باب مَنْ بَايَعَ رَجُلا لا يُبَايِعُهُ إِلا لِلدُّنْيَا / 65 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لا يُبَايِعُهُ إِلا لِدُنْيَاهُ، فَإِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ، وَإِلا لَمْ يَفِ لَهُ وَرَجُلٌ يُبَايِعُ رَجُلا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أُعْطِىَ بِهَا كَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ فَأَخَذَهَا وَلَمْ يُعْطَ بِهَا) . فى هذا الحديث وعيد شديد فى الخروج على الأئمة ونكث بيعتهم لأمر الله بالوفاء بالعقود؛ إذ فى ترك الخروج عليهم تحصين الفروج والأموال وحقن الدماء، وفى القيام عليهم تفرق الكلمة وتشتيت الألفة. وفيه: فساد الأعمال إذا لم يرد بها وجه الله وأريد بها عرض الدنيا، وهذا فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الأعمال بالنيات) . وفيه: عقوبة من منع ابن السبيل فضل ماء عنده، ويدخل فى معنى الحديث منع غير الماء وكل ما بالناس الحاجة إليه. وفيه: تحريم مال المسلمين إلا بالحق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 279 وفيه: عقوبة الحلف بالله كذبًا، وإنما خص به العصر؛ لأنه الوقت الذى ترتفع فيه ملائكة النهار بأعمال العباد. 48 - باب بَيْعَةِ النِّسَاءِ / 66 - وفيه: عُبَادَةَ، قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَنَحْنُ فِى مَجْلِسٍ: تُبَايِعُونِى عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ، وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلا تَعْصُوا فِى مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ، فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَعُوقِبَ فِى الدُّنْيَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَسَتَرَهُ اللَّهُ، فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ) . / 67 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُبَايِعُ النِّسَاءَ بِالْكَلامِ بِهَذِهِ الآيَة: (أن لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا) [الممتحنة: 12] قَالَتْ: وَمَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَدَ امْرَأَةٍ، إِلا امْرَأَةً يَمْلِكُهَا. / 68 - وفيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، بَايَعْنَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَرَأَ عَلَيْنَا: (أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقنَ) [الممتحنة: 12] ، وَنَهَانَا عَنِ النِّيَاحَةِ، فَقَبَضَتِ امْرَأَةٌ مِنَّا يَدَهَا، فَقَالَتْ: فُلانَةُ أَسْعَدَتْنِى، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا، فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَذَهَبَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ فَمَا وَفَتِ امْرَأَةٌ إِلا أُمُّ سُلَيْمٍ. . . الحديث. قال المؤلف: كل ما خاطب الله بن الرجال من شرائع الإسلام فقد دخل فيه النساء، ولزمهن من ذلك ما لزم الرجال إلا ما خص به الرجال مما لا قدرة للنساء عليه؛ من القيام بفرض الحرب وشبهه مما قد بين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 280 سقوطه عن النساء. وهذه البيعة فى هذه الأحاديث كانت بيعة العقبة الأولى بمكة قبل أن يفرض عليهم الحرب، ذكر ذلك ابن إسحاق وأهل السير قالوا: كانوا اثنى عشر رجلا. 49 - باب الاسْتِخْلافِ / 69 - فيه: عَائِشَةُ قَالَتَ وَارَأْسَاهْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَىٌّ، فَأَسْتَغْفِرُ لَكِ، وَأَدْعُو لَكِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَا ثُكْلاَهْ، وَاللَّهِ إِنِّى لأظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِى، وَلَوْ كَانَ ذَاكَ لَظَلَلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّسًا بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : بَلْ أَنَا، وَارَأْسَاهْ، لَقَدْ هَمَمْتُ، أَوْ أَرَدْتُ، أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِى بَكْرٍ وَابْنِهِ فَأَعْهَدَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ، أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ، ثُمَّ قُلْتُ: يَأْبَى اللَّهُ، وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُون) . / 70 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ قلت لِعُمَرَ: أَلا تَسْتَخْلِفُ؟ قَالَ: (إِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدِ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّى أَبُو بَكْرٍ، وَإِنْ أَتْرُكْ فَقَدْ تَرَكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ، فَقَالَ: رَاغِبٌ رَاهِبٌ، وَدِدْتُ أَنِّى نَجَوْتُ مِنْهَا كَفَافًا لا لِى وَلا عَلَىَّ لا أَتَحَمَّلُهَا حَيًّا وَلا مَيِّتًا) . / 71 - وفيه: أَنَسُ، أَنَّهُ سَمِعَ خُطْبَةَ عُمَرَ الآخِرَةَ حِينَ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَذَلِكَ الْغَدَ مِنْ يَوْمٍ تُوُفِّىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَشَهَّدَ، وَأَبُو بَكْرٍ صَامِتٌ لا يَتَكَلَّمُ، قَالَ: كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَعِيشَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، حَتَّى يَدْبُرَنَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ آخِرَهُمْ، فَإِنْ يَكُ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ مَاتَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نُورًا تَهْتَدُونَ بِهِ هَدَى اللَّهُ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ صَاحِبُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 281 رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ثَانِىَ اثْنَيْنِ، فَإِنَّهُ أَوْلَى الْمُسْلِمِينَ بِأُمُورِكُمْ، فَقُومُوا، فَبَايِعُوهُ، وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ قَدْ بَايَعُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِى سَقِيفَةِ بَنِى سَاعِدَةَ، وَكَانَتْ بَيْعَةُ الْعَامَّةِ عَلَى الْمِنْبَرِ. قَالَ الزُّهْرِىُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ لأبِى بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ: اصْعَدِ الْمِنْبَرَ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَبَايَعَهُ النَّاسُ عَامَّةً. / 72 - فيه: جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، أَتَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) امْرَأَةٌ فَكَلَّمَتْهُ فِى شَيْءٍ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَلَمْ أَجِدْكَ كَأَنَّهَا تُرِيدُ الْمَوْتَ، قَالَ: إِنْ لَمْ تَجِدِينِى، فَأْتِى أَبَا بَكْرٍ) . / 73 - وفيه: طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أَبِا بَكْرٍ، قَالَ: لِوَفْدِ بُزَاخَةَ: تَتْبَعُونَ أَذْنَابَ الإبِلِ حَتَّى يُرِىَ اللَّهُ خَلِيفَةَ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالْمُهَاجِرِينَ أَمْرًا يَعْذِرُونَكُمْ بِهِ. قال المهلب: فيه دليل قاطع فى خلافة أبى بكر وهو قوله: (لقد هممت أن أرسل إلى أبا بكر وابنه) يعنى: فأعهد إلى أبى بكر (ثم قلت: يأبى الله) أى: يأبى الله غير أبى بكر، ويدفع المؤمنون غير أبى بكر بحضرته. وشك المحدث بأى اللفظين بدأ النبى (صلى الله عليه وسلم) ولم يشك فى صحة المعنى، وهذا مما وعد النبى (صلى الله عليه وسلم) به، فكان كما وعد، وذلك من أعلام نبوته وقد روى مسلم هذا الحديث فى كتابه فقال فيه: (يأبى الله ويدفع المؤمنون إلا أبا بكر) . فإن قال قائل: فإذا ثبت أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يستخلف أحدًا، فما معنى ما رواه إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس بن أبى حازم قال: رأيت عمر وبيده عسيب وهو يجلس الناس ويقول: اسمعوا لخليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وهذا خلاف لحديث ابن عمر. فالجواب: أنه ليس فى أحد الحديثين خلاف للآخر، ومعنى قول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 282 عمر: (إن أترك فقد ترك رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) يعنى ترك التصريح والإعلان بتعيين شخص ما وعقد الأمر له، وأما قول عمر: (اسمعوا لخليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) فمعناه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) استخلف عليهم أبا بكر بالأدلة التى نصبها لأمته أنه الخليفة من بعده، فكان أبو بكر خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؛ لقيام الدليل على استخلافه، ولما كان قد أعلمه الله أنه لا يكون غيره ولذلك قال: (يأبى الله ويدفع المؤمنون) ومن أبين الدليل فى استخلاف أبى بكر قول المرأة للنبى: إن لم أجدك حيا إلى من الملجأ بالحكم؟ فقال (صلى الله عليه وسلم) : (ائت أبا بكر) ولم يكن لبشر من علم الغيب ما كان للنبى (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك، فرأى أن الاستخلاف أضبط لأمر المسلمين، وإن لم يوقف الأمر على رجل بعينه؛ لكن جعله لمعينين لا يخرج عنهم إلى سواهم فكان نوعًا من أنواع الاستخلاف والعقد، وإنما فعل هذا عمر وتوسط حالة بين حالتين خشية الفتنة بعده، كما خشيت بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) وقت قول الأنصار ما قالوا، فلذلك جعل عمر الأمر معقودًا موقوفًا على الستة؛ لئلا يترك الاقتداء بالنبى (صلى الله عليه وسلم) فى ترك الأمر إلى الشورى مع ما قام من الدليل على فضل أبى بكر وأخذ من فعل أبى بكر طرفًا آخر وهو العقد لأحد الستة ليجمع لنفسه فضل السنتين. وأما قول عمر حين أثنوا عليه: (راغب وراهب، وودت أنى نجوت منها كفافًا) فيحتمل معنيين: أحدهما: راغب فى ثنائه فى حسن رأيى وتقريبى له، وراهب من إظهار ما بنفسه من كراهية. والثانى قوله: راغب يعنى: أن الناس فى هذا الأمر راغب فيه، يعنى فى الخلافة، وراهب منها، فإن وليت الراغب فيها خشيت ألا يعان عليها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 283 للحديث، وإن وليت الراهب منها خشيت أن لا يقوم بها. وفى هذا كله دليل على جواز عقد الخلافة من الإمام لغيره بعده، وأن أمره فى ذلك على عامة المسلمين جائز. قال بعض الشافعية: فإن قال قائل: لم جاز للإمام تولية العهد، وإنما يملك النظر فى المسلمين حياته وتزول عنه بوفاته، وتولية العهد استخلاف بعد وفاته فى وقت زوال أمره وارتفاع نظره، وهو لا يملك فى ذلك الوقت ما يجوز عليه توليه أو تنفذ فيه وصيته. قيل: إنما جاز ذلك لأمور منها إجماع الأمة من الصحابة ومن بعدهم على استخلاف أبى بكر عمر على الأمة بعده، وأمضت الصحابة ذلك منه على أنفسها، وجعل عمر الأمر بعده فى ستة، فألزم ذلك من حكمه، وعمل فيه على رأيه وعقده، ألا ترى رضا علىّ بالدخول فى الشورى مع الخمسة وجوابه للعباس بن عبد المطلب حين عاتبه على ذلك بأن قال: الشورى كان أمرًا عظيمًا من أمور المسلمين، فلم أر أن أخرج نفسى منه. ولو كان باطلاً عنده لوجب عليه أن يخرج نفسه منه ولما جاز له الدخول معهم فيه. ومنها أن المسلمين إنما يقيمون الإمام إذا لم يكن بهم لحاجتهم إليه وضرورتهم إلى إقامته ليكفيهم مئونة النظر فى مصالحهم، فلما لم يكن بد لهم من رأيه وأمره فيما يتعلق بمصالحهم رأى ولا نظر، فكذلك فى إقامة الإمام بعده؛ لأنه من الأمور المتعلقة بكافتهم وصلاح عامتهم، وقطع التنازع والاختلاف بينهم، ولمثل هذا المعنى أرادوا، فكان رأيه فى ذلك ماضيًا عليهم، وجرى مجرى الأب فى توليته على ابنه الصغير بعد وفاته عند عدم الأب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 284 وأما قول عمر فى خطبته: (كنت أرجو أن يعيش النبى (صلى الله عليه وسلم) حتى يدبرنا) يعنى: حتى يكون آخرنا. فإنما قال ذلك اعتذارًا مما كان خطبه قبل ذلك يوم وفاته (صلى الله عليه وسلم) حين قال: إن محمدًا لم يمت وإنه سيرجع ويقطع أيدى رجال وأرجلهم حتى قام أبو بكر فقال: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لم يمت، وتلا: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) [آل عمران: 144] الآية. وقد ذكر ابن إسحاق، عن ابن عباس، عن عمر أنه قال: إنما حملنى على مقالتى حين مات النبى (صلى الله عليه وسلم) قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا) [البقرة: 143] فوالله إن كنت لأظن أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سيبقى فى أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها. وبان بهذه الرزية الشنيعة والمصيبة الجليلة النازلة بالأمة من موت نبيها من ثبات نفس الصديق، ووفور عقله ومكانته من الإسلام ما لا مطمع فيه لأحد غيره. وقال سعيد بن زيد: بايعوا الصديق يوم مات النبى (صلى الله عليه وسلم) كرهوا بقاء بعض يوم وليسوا فى جماعة. ذكر ابن إسحاق، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير أن الناس بكوا على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين توفاه وقالوا: لوددنا أنا متنا قبله، إنا نخشى أن نفتن بعده. فقال معن بن عدى العجلانى: والله ما أحب أنى مت قبله حتى أصدقه ميتًا كما صدقته حيا. فقتل يوم اليمامة فى خلافة أبى بكر. وقوله: يدبرنا. قال الخليل: دبرت الشىء دبرًا: أتبعته، وعلى هذا قرأ من قرأ: (والليل إذا دبر) يعنى إذا تبع النهار. ودبرنى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 285 فلان: خلفنى. وأما وفد بزاخة فإنهم ارتدوا ثم تابوا. فأوفدوا رسلهم إلى أبى بكر يعتذرون إليه فأحب أبو بكر أن لا يقضى فيهم إلا بعد المشاورة فى أمرهم فقال لهم: ارجعوا واتبعوا أذناب الإبل فى الصحارى حتى يرى المهاجرون وخليفة النبى (صلى الله عليه وسلم) ما يريهم الله فى مشاورتهم أمرًا يعذرونكم فيه، وذكر يعقوب بن محمد الزهرى قال: حدثنى إبراهيم بن سعد، عن سفيان الثورى، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: قدم وفد أهل بزاخة وهم من طئ على أبى بكر يسألونه الصلح فقال لهم أبو بكر: اختاروا إما الحرب المجلية وإما السلم المخزية. فقالوا: قد عرفنا الحرب المجلية فما السلم المخزية؟ قال: تنزع منكم الكراع والحلقة وتودون قتلانا، وقتلاكم فى النار ونغنم ما أصبنا منكم، وتؤدون إلينا ما أصبتم منا، وتتركون أقوامًا تتبعون أذناب الإبل حتى يرى الله خليفة نبيه والمهاجرين أمرًا يعذرونكم به، فخطب أبو بكر الناس فذكر أنه قال وقالوا. فقال عمر: قد رأيت رأيًا وسنشير عليك، أما ما ذكرت من أن تنزع منهم الكراع والحلقة فنعم ما رأيت، وأما ما رأيت من أن يودوا قتلانا وقتلاهم فى النار؛ فإن قتلانا قتلت على أمر الله فليس لها ديات. فتتابع الناس على قول عمر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 286 50 - باب / 74 - فيه: جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (يَكُونُ اثْنَا عَشَرَ أَمِيرًا، فَقَالَ كَلِمَةً لَمْ أَسْمَعْهَا، فَقَالَ أَبِى: إِنَّهُ قَالَ: كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ) . قال المهلب: لم ألق أحدًا يقطع فى هذا الحديث بمعنى فقوم يقولون: يكونون اثنى عشر أميرًا بعد الخلافة العلوية مرضيين. وقوم يقولون: يكونون متوالين إمارتهم. وقوم يقولون: يكونون فى زمن واحد كلهم من قريش يدعى الإمارة، فالذى يغلب عليه الظن أنه إنما أراد (صلى الله عليه وسلم) يخبر بأعاجيب تكون بعده من الفتن حتى يفترق الناس فى وقت واحد على اثنى عشر أميرًا، وما زاد على الاثنى عشر فهو زيادة فى العجب، كأنه أنذر بشرط من الشروط وبعضه يقع، ولو أراد غير هذا لقال: يكون اثنا عشر أميرًا يفعلون كذا ويصنعون كذا، فلما أعراهم من الخبر علمنا أنه أراد يكونون فى زمن واحد، والله أعلم. 51 - باب إِخْرَاجِ الْخُصُومِ وَأَهْلِ الرِّيَبِ مِنَ الْبُيُوتِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ وَقَدْ أَخْرَجَ عُمَرُ أُخْتَ أَبِى بَكْرٍ حِينَ نَاحَتْ. / 75 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ يُحْتَطَبُ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاةِ، فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلا، فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالَّذِى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 287 نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ) . قال أبو عبد الله: مرماة: ما بين ظلف الشاة من اللحم مثل مِنساة ومِيضاة الميم مخفوضة. قال المهلب: إخراج أهل الريب والمعاصى من دورهم بعد المعرفة بهم واجب على الإمام من أجل تأذى من جاورهم، ومن أجل مجاهرتهم بالعصيان، وإذا لم يعرفوا بأعيانهم فلا يلزم البحث عن أمرهم؛ لأنه من التجسس الذى نهى الله عنه، وليس للسلطان أن يرفع ستر اختفائهم حتى يعلنوا إعلانًا يعرفون به لقوله (صلى الله عليه وسلم) عن الله تعالى: (كل عبادى معافون إلا المجاهرين) فحينئذ يجب على السلطان تعييره والنكال به، كما صنع عمر بأخت أبى بكر حين ناحت. وقال غيره: وليس إخراج أهل المعاصى بواجب، فمن ثبت عليه ما يوجب الحد أقيم عليه، وإنما أخرج عمر أخت أبى بكر من أجل أنه نهاها عن النياحة ولم تنته، فأبعدها عن نفسه لا أنه أبعدها عن البيت أبدًا؛ لأنها رجعت بعد ذلك إلى بيتها. وقد روى أبو زيد، عن ابن القاسم فى رجل فاسد يأوى إليه أهل الفسوق والشر ما يصنع به؟ قال: يخرج من منزله، وتحارج عليه الدار. قلت: ألا تباع عليه؟ قال: لا، لعله يتوب، فيرجع إلى منزله. قال ابن القاسم: ويتقدم إليه مرة أو مرتين أو ثلاثًا فإن لم ينته أخرج وأكريت عليه. وقد مر هذا فى آخر كتاب الجهاد فى باب أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بإخراج اليهود من جزيرة العرب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 288 52 - باب هَلْ لِلإمَامِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُجْرِمِينَ وَأَهْلَ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْكَلامِ مَعَهُ وَالزِّيَارَةِ وَنَحْوِهِ / 76 - فيه: كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، لَمَّا تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَذَكَرَ حَدِيثَهُ وَنَهَى النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلامِنَا، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا. قال المهلب: أصل الهجران فى كتاب الله وهو أمر الله عباده بهجران نسائهم فى المضاجع، فإذا كان الهجران من المعاقبة بنص كتاب الله، فلذلك استعمله النبى (صلى الله عليه وسلم) فى عقوبة كعب بن مالك حين تخلف عن الغزو مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وترك ما افترض الله عليه من الجهاد مع نبيه ونصرته وبذل نفسه دونهم. وقد قال سحنون: إذا سجن الرجل فى دين امرأته أو غيره فليس له أن يدخل امرأته فى السجن؛ لأنه إنما أدخل فيه تأديبًا له وتضييقًا عليه، فإذا لم يمنع من إربه فلم يضيق عليه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 289 57 - كِتَاب الإكْرَاهِ وَقَوْلِ اللَّهِ: (إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ) [النحل: 106] الآية وَقَالَ: (إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) [آل عمران: 28] وَهِىَ تَقِيَّةٌ، وَقَالَ: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِى أَنْفُسِهِمْ) [النساء: 97] إِلَى قَوْلِهِ: (عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء: 99] ، وَقَالَ: (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ (إِلَى) الظَّالِمِ أَهْلُهَا) [النساء: 75] . فَعَذَرَ اللَّهُ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ لا يَمْتَنِعُونَ مِنْ تَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَالْمُكْرَهُ لا يَكُونُ إِلا مُسْتَضْعَفًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ مِنْ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: التَّقِيَّةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَنْ يُكْرِهُهُ اللُّصُوصُ فَيُطَلِّقُ لَيْسَ بِشَىْءٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالشَّعْبِىُّ، وَالْحَسَنُ: وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (الأعْمَالُ بِالنِّيَّةِ) . / 1 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ (أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَدْعُو فِى صَلاَتِهِ: اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِى رَبِيعَةَ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَالْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِى يُوسُفَ) . قال المهلب: ذكر أهل التفسير بأن هذه الآية نزلت فى ناس من أهل مكة آمنوا فكتب إليهم بعض أصحابهم بالمدينة: لستم منا حتى تهاجروا إلينا. وكان فيهم عمار بن ياسر، فخرجوا يريدون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 290 المدينة، فأدركتهم قريش فى الطريق ففتنوهم على الكفر فكفروا مكرهين فنزلت: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) [النحل: 106] . أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر حتى خشى على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر، هذا قول مالك والكوفيين والشافعى، غير محمد بن الحسن فإنه قال: إذا أظهر الشرك كان مرتدا فى الظاهر، وهو فيما بينه وبين الله على الإسلام وتبين منه امرأته، ولا يصلى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن مات مسلمًا. وهذا قول تغنى حكايته عن الرد عليه لمخالفته للآيات المذكورة فى أول هذا الباب. وقالت طائفة: إنما جازت الرخصة فى القول، وأما فى الفعل فلا رخصة فيه مثل أن يكرهوه على السجود لغير الله، أو الصلاة لغير القبلة، أو قتل مسلم أو ضربه، أو أكل ماله، أو الزنا، أو شرب الخمر، وأكل الخنزير: روى هذا عن الحسن البصرى، وهو قول الأوزاعى وسحنون، قال الأوزاعى: إذا كره الأسير على شرب الخمر لا يفعل وإن قتله. وقال إسماعيل بن إسحاق: حدثنا نصر بن على: حدثنا عبد الأعلى، عن عوف، عن الحسن أنه كان لا يجعل فى النفس التى حرم الله التقية. وقال محمد بن الحسن: إذا قيل للأسير اسجد لذلك الصنم وإلا قتلناك فقال: إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد وتكون نيته لله تعالى وإن كان لغير القبلة فلا يسجد وإن قتلوه. وقالت طائفة: الإكراه فى الفعل والقول سواء إذا أسر الإيمان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 291 روى ذلك عن عمر بن عبد العزيز ومكحول، وهو قول مالك وطائفة من أهل العراق، وروى ابن القاسم عن مالك أنه إن أكره على شرب الخمر أو ترك الصلاة والإفطار فى رمضان فلا إثم عليه إلا أنه لا يجوز عند مالك وعامة العلماء أن يقتل غيره ولا ينتهك حرمته ولا يظلمه ولا يفعل الزنا وإن كره على ذلك. قال إسماعيل بن إسحاق: وقول من جعل التقية فى القول ما يشبه ما نزل فى القرآن من ذلك؛ لأن الذين أكرهوا عليه إنما هو كلام تكلموا به ولم يظلموا فيه أحدًا من الناس، وإنما هو أمر فيما بينهم وبين ربهم، فلما أكرهوا عليه ولم يكونوا له معتقدين جعل كأنه لم يكن؛ لأن الكلام ليس يؤثر بأحد أثرًا فى نفس ولا مال، وأفعال الأبدان ليست كذلك؛ لأنها تؤثر فى الأبدان والأموال ولا يجوز لأحد أن ينجى نفسه من القتل بأن يقتل غيره ظالمًا وإن أكره على ذلك. وقال الأبهرى: لا يجوز لأحد أن يكره على هتك حرمة آدمى؛ لأن حرمته ليست بأوكد من حرمة الآخر. واختلفوا فى طلاق المكره، فذكر ابن وهب عن عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وابن عباس أنهم كانوا لا يرون طلاقه شيئًا، وذكره ابن المنذر عن ابن الزبير وابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس والحسن وشريح والقاسم وسالم ومالك والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور. وأجازت طائفة طلاق المكره، روى ذلك عن الشافعى والنخعى وأبى قلابة والزهرى وقتادة، وهو قول الكوفيين. وفيها قول ثالث قاله الشعبى: إن أكرهه اللصوص فليس بطلاق، وإن أكرهه السلطان فهو طلاق. وفسره ابن عيينة فقال: إن اللص يقدم على قتله، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 292 والسلطان لا يقتله. واحتج الكوفيون بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: الطلاق، والعتاق، والنكاح) والهازل لم يقصد إيقاع الطلاق ولزمه، فالمكره كذلك. واحتج عليهم أهل المقالة الأولى فقالوا: إن الفرق بين طلاق الهازل وطلاق المكره أن الهازل قاصد للفظ، مؤثر له فلزمه حكمه، والمكره وإن قصد اللفظ فإنه لم يؤثره ولا اختاره فلم يتعلق به حكمه. ووجدنا الطلاق لا يلزم إلا بلفظ ونية، والمكره لا نية له إنما طلق بلسانه لا بقلبه، فلما رفع الله عنه الكفر الذى تكلم به مكرهًا ولم يعتقده وجب رفع الطلاق لرفع النية فيه. وقول مالك هو إجماع الصحابة ولا مخالف منهم. وأجمع المسلمون على أن المشركين لو أكرهوا رجلا على الكفر بالله بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان وله زوجة حرة مسلمة أنها لا تحرم عليه، ولا يكون مرتدا بذلك، والردة فرقة بائنة فهذا يقضى على اختلافهم فى طلاق المكره. واختلفوا فى حد الإكراه، فروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: ليس الرجل أمينًا على نفسه إذا أخفته أو أوثقته أو ضربته. وقال ابن مسعود: ما كلام يدرأ عنى سوطين إلا كنت متكلمًا به. وقال شريح والنخعى: القيد كره، والوعيد كره، والسجن كره. قال ابن سحنون: وهذا كله عند مالك وأصحابه كره والضرب عندهم كره، وليس عندهم فى الضرب والسجن توقيت، إنما هو ما كان يؤلم من الضرب، وما كان من سجن يدخل منه الضيق على المكره قل أو كثر، فالضيق يدخل فى قليل السجن، وإكراه السلطان وغيره إكراه عند مالك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 293 وتناقض أهل العراق فلم يجدوا القيد والسجن إكراهًا على شرب الخمر وأكل الميتة؛ لأنه لا يخاف منه التلف، وجعلوه إكراهًا فى إقراره لفلان عندى ألف درهم. قال ابن سحنون: وفى إجماعهم على أن الألم والوجع الشديد إكراه ما يدل على أن الإكراه يكون من غير تلف نفس. - باب مَنِ اخْتَارَ الضَّرْبَ وَالْقَتْلَ وَالْهَوَانَ عَلَى الْكُفْرِ / 2 - فيه: أَنَسٍ: قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : (ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِى الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِى النَّارِ) . / 3 - وفيه: سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ، لَقَدْ رَأَيْتُنِى، وَإِنَّ عُمَرَ مُوثِقِى عَلَى الإسْلامِ، وَلَوِ انْقَضَّ أُحُدٌ مِمَّا فَعَلْتُمْ بِعُثْمَانَ كَانَ مَحْقُوقًا أَنْ يَنْقَضَّ. / 4 - وفيه: خَبَّابِ شَكَوْنَا إِلَى النبى (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ، فَيُحْفَرُ لَهُ فِى الأرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 294 أجمع العلماء أن من أكره على الكفر فاختار القتل أنه أعظم أجرًا عند الله ممن اختار الرخصة. واختلفوا فيمن أكره على غير الكفر من فعل ما لا يحل له فقال أصحاب مالك: الأخذ بالشدة فى ذلك، واختيار القتل والضرب أفضل عند الله من الأخذ بالرخصة. ذكره ابن حبيب وسحنون. وذكر ابن سحنون عن أهل العراق، أنه إذا تهدد بقتل أو بقطع أو ضرب يخاف منه التلف حتى يشرب الخمر أو يأكل الخنزير فذلك له، فإن لم يفعل حتى قتل أن يكون آثمًا، وهو كالمضطر إلى أكل الميتة وشرب الخمر غير باغ ولا عاد، فإن خاف على نفسه الموت فلم يأكل ولم يشرب أثم. وقال مسروق: من اضطر إلى شىء مما حرم الله عليه فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار. قالوا: ولا يشبه هذا الكفر وقتل المسلم؛ لأن فى هذا رخصة وتركه أفضل، ولم يجعل فى الضرورة حلالا. قال سحنون: إذا لم يشرب الخمر ولا يأكل الخنزير حتى قتل كان أعظم لأجره كالكفر؛ لأن الله تعالى أباح له الكفر ضرورة الإكراه، وأباح له الميتة والدم بضرورة الحاجة إليهما، وأجمعا أن له ترك الرخصة فى قول الكفر، فكذلك يلزم مخالفنا أن يقول فى ترك الرخصة فى الميتة ولحم الخنزير، ولا يكون معينًا على نفسه. وقد تناقض الكوفيون فى هذا فقالوا كقولنا فى المكره توعد بقطع عضو أو قتل على أن يأخذ مالا لفلان فيدفعه إلى فلان أنه فى سعة من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 295 ذلك؛ لأنه كالمضطر ويضمن الآمر، ولا ضمان على المأمور، فإن أبى أن يأخذ حتى قتله كان عندنا فى سعة. فيقال لهم: هذا مال مسلم قد أحللتموه بالإكراه؛ فلم لا يسعه ترك أكل الميتة حتى يقتل كما وسعه أخذ مال المسلم فى الإكراه حتى يقتل. قال المؤلف: وحديث خباب حجة لأصحاب مالك؛ لوصفه (صلى الله عليه وسلم) عن الأمم السالفة من كان يمشط لحمه بأمشاط الحديد، ويشق بالمناشر بالشدة فى دينه والصبر على المكروه فى ذات الله، ولم يكفروا فى الظاهر ويبطنوا الإيمان، ليدفعوا العذاب عن أنفسهم؛ فمدحهم، وكذلك حديث أنس سوى فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) بين كراهية المؤمن الكفر وكراهيته لدخول النار، وإذا كان هذا حقيقة الإيمان، فلا مخالفة أن الضرب والهوان والقتل عند المؤمن أسهل من دخول النار، فينبغى أن يكون ذلك أسهل من الكفر إن اختار الأخذ بالشدة على نفسه. قال المهلب: وقد اعترض هذا قوم بقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا) [النساء: 29] ولا حجة لهم فى الآية؛ لقوله تعالى: (ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا) [النساء: 3] والعدوان والظلم محرمان، وليس من أهلك نفسه فى طاعة الله بعاد ولا ظالم، ولو كان كما قالوا لما جاز لأحد أن يقتحم المهالك فى الجهاد، وقد افترض على كل مسلم مقارعة رجلين من الكفار ومبارزتهما، وهذا من أبين المهلكات والغرر. ومن فر من اثنين فقد أكبر المعصية وتعرض لغضب الله. وقول خباب للنبى (صلى الله عليه وسلم) : (ألا تدعو الله أن يكفينا) يعنى عدوان الكفار عليهم بمكة قبل هجرتهم وضربهم لهم وإيثاقهم بالحديد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 296 وفيه من الفقه: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يترك الدعاء فى ذلك على أن الله أمرهم بالدعاء أمرًا عامًا بقوله: (ادعونى أستجب لكم) [غافر: 60] وبقوله: (فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا) [الأنعام: 43] إلا لأنه (صلى الله عليه وسلم) علم من الله أنه قد سبق من قدره وعلمه أنه يجرى عليهم ما جرى من البلوى والمحن ليؤجروا عليها على ما جرت عادته فى سائر أتباع الأنبياء من الصبر على الشدة فى ذات الله، ثم يعقبهم بالنصر والتأييد، والظفر وجزيل الأجر، وأما غير الأنبياء فواجب عليهم الدعاء عند كل نازلة تنزل بهم؛ لأنهم لا يعلمون الغيب فيها، والدعاء من أفضل العبادة ولا يخلو الداعى من إحدى الثلاث التى وعد النبى (صلى الله عليه وسلم) بها. وفيه: علامات النبوة وذلك خروج ما قال (صلى الله عليه وسلم) من تمام الدين وانتشار الأمر وإنجاز الله ما وعد نبيه (صلى الله عليه وسلم) من ذلك. 3 - باب فِى بَيْعِ الْمُكْرَهِ وَنَحْوِهِ فِى الْحَقِّ وَغَيْرِهِ / 5 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (بَيْنَمَا نَحْنُ فِى الْمَسْجِدِ؛ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ، فَنَادَاهُمْ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا، فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَ: ذَلِكَ أُرِيدُ، قَالَهَا ثَلاَثًا، ثُمَّ قَالَ: اعْلَمُوا أَنَّ الأرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلا فَاعْلَمُوا أَنَّمَا الأرْضُ لِلَّهِ وَلرَسُولِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 297 قال المهلب: أما ما باعه المضغوط فى حق وجب عليه؛ فذلك ماض سائغ لا رجوع فيه عند الفقهاء؛ لأنه يلزمه أداء الحق إلى صاحبه من غير المبيع، فلما لم يفعل كان بيعه اختيارًا منه فلزمه. ووجه الاستدلال على هذه المسألة من هذا الحديث هو أن إخراج النبى (صلى الله عليه وسلم) اليهود حق؛ لأنه إنما فعل ذلك بوحى من الله، فأباح لهم بيع أموالهم فكان بيعهم جائزًا؛ لأنه لم يقع الإكراه على البيع من أجل أعيان الشىء المبيع، وإنما وقع من أجل الذى لزمهم فى الخروج، فكذلك كان بيع من وجب عليه حق جائزًا، وأما بيع المكره ظلمًا وقهرًا فقال محمد بن سحنون: أجمع أصحابنا وأهل العراق على أن بيع المكره عل الظلم والجور لا يلزمه. وقال الأبهرى: إنه إجماع. وقال مطرف وابن عبد الحكم وأصبغ: وسواء وصل الثمن إلى المضغوط، ثم دفعه إلى الذى ألجأه إلى بيع ما باعه، أو كان الظالم هو تولى قبض الثمن من المبتاع؛ لأنه إنما يقبضه لغيره لا لنفسه، فإذا ظفر بمتاعه بيد من ابتاعه أو بيد من اشتراه من الذى ابتاعه فهو أحق به، ولا شىء عليه من الثمن، وليتراجع به الباعة بعضهم على بعض حتى يرجع المبتاع الأول على الظالم الذى وصل إليه الثمن، فإن فات المبتاع رجع بقيمته على الذى فات عنده، أو بالثمن الذى بيع به، أى ذلك كان أكثر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 298 4 - باب لا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُكْرَهِ وَقَوله: (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ (إِلَى) رَحِيمٌ) [النور: 33] / 6 - فيه: خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ الأنْصَارِيَّةِ، أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِىَ ثَيِّبٌ، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَتَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَرَدَّ نِكَاحَهَا. / 7 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ فِى أَبْضَاعِهِنَّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَإِنَّ الْبِكْرَ تُسْتَأْمَرُ فَتَسْتَحْيِى، فَتَسْكُتُ، قَالَ: سُكَاتُهَا إِذْنُهَا) . قال محمد بن سحنون: أجمع أصحابنا على إبطال نكاح المكره والمكرهة، وقالوا: لا يجوز المقام عليه؛ لأنه لم ينعقد. وقال ابن القاسم: لا يلزم المكره ما أكره عليه من نكاح أو طلاق أو عتق أو غيره. قال محمد بن سحنون: أجاز أهل العراق نكاح المكره، وقالوا: لو أكره على أن ينكح امرأة بعشرة ألاف درهم وصداق مثلها ألف درهم أن النكاح جائز وتلزمه الألف ويبطل الفضل. قال محمد: فكلما أبطلوا الزائد على الألف بالإكراه كذلك يلزمهم إبطالهم النكاح بالإكراه، وقولهم خلاف السنة الثابتة فى قصة خنساء، وفى أمره (صلى الله عليه وسلم) باستئمار النساء فى أبضاعهن، فلا معنى لقولهم، وأما من جهة النظر فإنه نكاح على خيار، ولا يجوز النكاح بالخيار، قاله سحنون. وإنما شبهه بنكاح الخيار؛ لأنه إذا أجاز ورضى به فإنما أجاز ما كان له رده، فأشبه ما عقد على الخيار، لو مات أحدهما قبل مضى مدة الخيار لم يتوارثا عند جميع أصحاب مالك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 299 قال سحنون: فإن وطئها المكره على النكاح غير مكره على الوطء والرضا بالنكاح لزمه النكاح على المسمى من الصداق، ودرئ عنه الحد، وإن قال: وطئتها على غير رضا منى بالنكاح فعليه الحد والصداق المسمى؛ لأنه مدع لإبطال الصداق المسمى بهذا، وتحد المرأة إن تقدمت وهى عالمة أنه مكره على النكاح، وأما المكرهة على النكاح وعلى الوطء فلا حد عليها ولها الصداق ويحد الواطئ، فاعلمه. 5 - باب إِذَا أُكْرِهَ حَتَّى وَهَبَ عَبْدًا أَوْ بَاعَهُ لَمْ يَجُزْ وَبِهِ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: فَإِنْ نَذَرَ الْمُشْتَرِى فِيهِ نَذْرًا فَهُوَ جَائِزٌ بِزَعْمِهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ دَبَّرَهُ. / 8 - فيه: جَابِرٍ أَنَّ رَجُلا مِنَ الأنْصَارِ دَبَّرَ مَمْلُوكًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّى؟) فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، قَالَ: فَسَمِعْتُ جَابِرًا، يَقُولُ: عَبْدًا قِبْطِيًّا مَاتَ عَامَ أَوَّلَ. قال المهلب: أجمع العلماء أن الإكراه على البيع والهبة لا يجوز وما ذكر فيه عن أبى حنيفة أنه إن أعتقه أو دبره الموهوب أو المشترى فهو جائز فإنما قاس ذلك على البيع الفاسد، فإنه إذا فات بتدبير أو عتق مضى، وكان على المفوت له القيمة يوم فوته، والفرق بين بيع المكره والبيع الفاسد بين، وذلك أن بائع البيع الفاسد راض بالبيع وطيبة نفسه، لكنه لما أوقعه على خلاف السنة فسد وكانت فيه القيمة، والمشترى إنما اشتراه بوجه من وجوه الحل والتراضى الذى شرطه الله فى البيع، والمكره على الهبة والبيع لم تطب نفسه على ذلك، فلا يجوز إمضاء ما لم تطب نفسه بتفويته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 300 وقال محمد بن سحنون: أجمع أهل العراق معنا أن بيع المكره باطل، وهذا يدل أن البيع عندهم غير ناقل للملك، ثم نقضوا هذا بقولهم: إذا أعتق المشترى أو دبر فليس للبائع رد ذلك. فيقال لهم: هل بيع الإكراه ناقل للملك؟ فإن قالوا: لا بطل عتق المشترى وتدبيره كما بطلت هبته، وإن كان ناقلا للملك فأجيزوا كل شىء صنع المشترى من هبة وغيرها، وإذا قصد المشترى للشراء بعد علمه بالإكراه صار كالغاصب. وقد أجمع العلماء فى عتق الغاصب أن للسيد أن يزيله ويأخذ عبده، وقال أهل العراق: إن له أن يضمن إن شاء الذى ولى الإكراه، وإن شاء المشترى المعتق. فجعلوه فى معنى الغاصب، وقال: إن بيع المشترى شراءً فاسدًا ماض ويوجب القيمة، ففرقوا بينه وبين البيع الفاسد وجعلوه كالغاصب. ووجه استدلال البخارى بحديث جابر فى هذه المسألة أن الذى دبره لما لم يكن له مال غيره كان تدبيره سفهًا من فعله، فرد النبى (صلى الله عليه وسلم) ذلك من فعله، وإن كان ملكه للعبد صحيحًا كان من اشتراه شراءً فاسدًا، ولم يصح له ملكه إذا دبره أو أعتقه أولى أن يرد فعله، من أجل أنه لم يصح له ملكه. 6 - باب مِنَ الإكْرَاهِ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا (الآيَةَ [النساء: 19] . قَالَ كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ، إِنْ شَاءَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 301 بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجْهَا، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا، فَأَنْزَلَ الله هَذِهِ الآيَةُ فِى ذَلِكَ. وقال الزهرى ومالك: فيمسكها حتى تموت فيرثها. قال المهلب: فائدة هذا الباب والله أعلم؛ ليعرفك أن كل من أمسك امرأته لا أرب له فيها طمعًا أن تموت فلا يحل له ذلك بنص القرآن. 7 - باب إِذَا اسْتُكْرِهَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الزِّنَا فَلا حَدَّ عَلَيْهَا لقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 33] قَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِى نَافِعٌ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِى عُبَيْدٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الإمَارَةِ وَقَعَ عَلَى وَلِيدَةٍ مِنَ الْخُمُسِ، فَاسْتَكْرَهَهَا حَتَّى اقْتَضَّهَا، فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ، وَنَفَاهُ وَلَمْ يَجْلِدِ الْوَلِيدَةَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا. وَقَالَ الزُّهْرِىُّ فِى الأمَةِ الْبِكْرِ يَفْتَرِعُهَا الْحُرُّ: يُقِيمُ ذَلِكَ الْحَكَمُ مِنَ الأمَةِ الْعَذْرَاءِ بِقَدْرِ ثَمَنَها وَقِيمَتِهَا، وَيُجْلَدُ وَلَيْسَ فِى الأمَةِ الثَّيِّبِ فِى قَضَاءِ الأئِمَّةِ غُرْمٌ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ. / 9 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ، فَدَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ، أَوْ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ أَرْسِلْ إِلَىَّ بِهَا، فَقَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّى، فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ، فَلا تُسَلِّطْ عَلَىَّ الْكَافِرَ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ) . قال المهلب: قوله تعالى: (فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم) [النور: 33] يعنى الفتيات المكرهات، بهذا المعنى حكم عمر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 302 فى الوليدة استكرهها العبد فلم يحدها. والعلماء متفقون على أنه لاحد على امرأة مستكرهة. واختلفوا هل لها صداق؟ فقال عطاء والزهرى: لها الصداق. وهو قول مالك والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وقال الشعبى: إذا أقيم الحد على الذى زنا بها بطل الصداق وهو قول الكوفيين. واختلف العلماء فيمن أكره من الرجال على النساء فقال مالك: عليه الحد؛ لأنه لم ينتشر إلا بلذة. وهو قول أبى ثور، قال مالك: وسواء أكرهه سلطان أوغيره. وقال أبو حنيفة: إن أكرهه غير سلطان حد، وإن أكرهه سلطان فالقياس أن يحد، ولكنى أستحسن أن لا يحد. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعى: لا يحد فى الوجهين جميعًا. ولم يراعوا الانتشار. وقال ابن القصار: احتج أصحاب مالك فى وجوب الحد فقالوا: انتشار قضيبه فى الوطء ينافى الخوف، ألا ترى أن ذلك لا يحصل إلا بوجود الشهوة والطمأنينة وسكون النفس؛ لأن من قدم ليضرب عنقه لا تحصل منه شهوة ولا انتشار حتى ربما ذهب حسه وذهل عقله. واحتج الذين لم يوجبوا الحد فقالوا: متى علم أنه يتخلص من القتل بفعل الزنا جاز أن ينتشر وإن كان مكرهًا، وقالوا لأصحاب مالك: هذا يلزمكم فى طلاق المكره، وأنتم لا توقعونه وفيمن أكره على الفطر. فقال المالكيون: طلاق المكره لا علامة لنا فى اختياره، والإكراه ظاهر، والمكره على الفطر عليه القضاء وليس كالمتعمد، إذ لا أمارة تدل على اختياره للفطر والصورة واحدة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 303 قال المهلب: وقول الزهرى فى البكر يفترعها الحر أن عليه قيمة العذرة ويجلد، وهو قول مالك. واختلف قول مالك فى وطء الأمة الثيب فى الإكراه، فقال فى المدونة: إنه لا شىء عليه فى وطء الثيب غير الحد خاصة. وروى أشهب وابن نافع، عن مالك فى الجارية الزائغة تتعلق برجل تدعى أنه غصبها نفسها، أتصدق عليه بما بلغت من فضيحة نفسها بغير يمين عليها؟ قال: ما سمعت أن عليها فى ذلك يمينًا وتصدق عليه ويكون عليه غرم ما نقصها الوطء. وهذه خلاف رواية ابن القاسم. وأما حديث إبراهيم وسارة فإنما شابه الترجمة من وجه خلو الكافر بسارة وإن كان لم يصل إلى شىء منها، ولما لم يكن عليها ملامة فى الخلوة، فكذلك لا يكون على المستكرهة ملامة، ولا حد فيما هو أكثر من الخلوة، والله الموفق. 8 - باب يَمِينِ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ إِنَّهُ أَخُوهُ إِذَا خَافَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ أَوْ نَحْوَهُ وَكَذَلِكَ كُلُّ مُكْرَهٍ يَخَافُ فَإِنَّهُ يَذُبُّ عَنْهُ الْمَظَالِمَ وَيُقَاتِلُ دُونَهُ وَلا يَخْذُلُهُ، فَإِنْ قَاتَلَ دُونَ الْمَظْلُومِ فَلا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلا قِصَاصَ، وَإِنْ قِيلَ لَهُ لَتَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ، أَوْ لَتَأْكُلَنَّ الْمَيْتَةَ، أَوْ لَتَبِيعَنَّ عَبْدَكَ، أَوْ تُقِرُّ بِدَيْنٍ، أَوْ تَهَبُ هِبَةً، أَوَ تَحُلُّ عُقْدَةً، أَوْ لَنَقْتُلَنَّ أَبَاكَ أَوْ أَخَاكَ فِى الإسْلامِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَسِعَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَوْ قِيلَ لَهُ: لَتَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ، أَوْ لَتَأْكُلَنَّ الْمَيْتَةَ، أَوْ لَنَقْتُلَنَّ ابْنَكَ، أَوْ أَبَاكَ، أَوْ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ لَمْ يَسَعْهُ، لأنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُضْطَرٍّ، ثُمَّ نَاقَضَ، فَقَالَ: إِنْ قِيلَ لَهُ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 304 لَنَقْتُلَنَّ أَبَاكَ، أَوِ ابْنَكَ، أَوْ لَتَبِيعَنَّ هَذَا الْعَبْدَ، أَوْ تُقِرُّ بِدَيْنٍ، أَوْ تَهَبُ هِبَةً، يَلْزَمُهُ فِى الْقِيَاسِ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ، وَنَقُولُ: الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَكُلُّ عُقْدَةٍ فِى ذَلِكَ بَاطِلٌ، فَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِى رَحِمٍ مُحَرَّمٍ وَغَيْرِهِ بِغَيْرِ كِتَابٍ وَلا سُنَّةٍ. وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ إِبْرَاهِيمُ لامْرَأَتِهِ: هَذِهِ أُخْتِى وَذَلِكَ فِى اللَّهِ، وَقَالَ النَّخَعِىُّ: إِذَا كَانَ الْمُسْتَحْلِفُ ظَالِمًا فَنِيَّةُ الْحَالِفِ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَنِيَّةُ الْمُسْتَحْلِفِ. / 10 - فيه: ابْنَ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِى حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِى حَاجَتِهِ) . / 11 - وفيه: أَنَسٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا، كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ) . اختلف العلماء فيمن خشى على رجل القتل فقاتل دونه، فقالت طائفة: إن قتل دونه فلا قود عليه ولا قصاص، والحجة لهم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) قالوا: فدل عموم هذا الحديث أنه لا قود عليه إذا قاتل عن أخيه كما لا قود عليه إذا قاتل عن نفسه، وروى نحوه عن عمر بن الخطاب. وذكر ابن الماجشون: أن رجلا هربت منه امرأته إلى أبيها فى زمن عمر بن الخطاب، فذهب فى طلبها مع رجلين فقام أبوها إليهم بيده عمود فأخذه منه أحدهما فضربه فكسر يده، وأخذ الزوج منه امرأته فلم يقده منه عمر، وقضى له بدية اليد. قال ابن حبيب: لم ير فيه قصاصًا؛ لأنه كفه عن عدائه بضربه له، وليس على جهة العمد الذى فيه القصاص، وقياس قول أشهب يدل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 305 أنه لا قصاص فى ذلك؛ لأنه قال فى الرجل يختفى عنده مظلوم فيحلفه السلطان الجائر الذى يريد دمه وماله أو عقوبته إن كان عنده قال: يحلف ولا حنث عليه، كما لا حنث عليه إذا حلف عن نفسه. ذكره ابن المواز، عن أشهب. وروى مثله عن أنس بن مالك قال: لأن أحلف تسعين يمينًا أحب إلى من أن أدل على مسلم. قاله ميمون بن مهران. وقالت طائفة: من قاتل دون غيره فقتل فعليه القود. هذا قول الكوفيين، ويشبه مذهب ابن القاسم؛ لأنه قال فى الرجل يختفى عنده الرجل من السلطان الجائر يخافه على نفسه، أنه متى حلف أنه ليس عنده فهو حانث، وإن كان مأجورًا فى إحياء نفسه، فلما كان حانثًا فى حلفه عليه، والحنث أيسر شأنًا من القتل دل أنه ليس له أن يقاتل دونه، وهذا قول أصبغ قال: لا يعذر أحد إلا فى الدراءة عن نفسه، ولا يدرأ عن ولده باليمين وهو حانث. وقاله أكثر أصحاب مالك. قالوا: وليس قوله (صلى الله عليه وسلم) : (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) بمبيح له قتل المتعدى على أخيه الظالم له؛ لأن كلا الرجلين المتقاتلين أخ للذى أمره النبى (صلى الله عليه وسلم) بالنصرة، ونصره كل واحد منهما لازم له، وقد فسر النبى (صلى الله عليه وسلم) نصرة الظالم كيف، فقال: تكفه عن الظلم، ولم يأمره بقتل الظالم ولا استباحة دمه، وإنما أراد نصره دون إراقة دمه، هذا المفهوم من الحديث، والله أعلم. وقال لى بعض الناس: معنى قول البخارى: إن قاتل دون المظلوم فلا قود عليه ولا قصاص، هو أن يرى رجل رجلا يريد قتل آخر بغير حق، فإن أمكنه الدفع عنه فقد توجه عليه الفرض فى نصرته ودفع الظلم عنه بكل ما يمكنه، ولا ينوى بقتاله له إلا الدفع عن أخيه خاصة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 306 دون أن يقصد إلى قتل الظالم للمنتصر فى تلك المدافعة فهو شهيد، كما لو دافعه عن نفسه سواء، فإن قدر المدافع على دفع الظالم بغير قتال أو بمقاتلة لا يكون فيها تلف نفس وقتله قاصدًا لقتله فعليه القود. وموضع التناقض الذى ألزمه البخارى لأبى حنيفة فى هذا الباب هو أن ظالمًا لو أراد قتل رجل وقال لابن الذى أريد قتله: لتشربن الخمر أو لتأكلن الميتة أو لأقتلن أباك أو ابنك أو ذا رحم لم يسعه شرب الخمر ولا أكل الميتة؛ لأنه ليس بمضطر عند أبى حنيفة، وإنما لم يكن مضطرًا عنده؛ لأن الإكراه إنما يكون فيما يتوجه إلى الإنسان فى خاصة نفسه لا فى غيره؛ لأنها معاصى لله؛ لأنه ليس له أن يدفع بها معاصى غيره، وليصبر على قتل أبيه والله سائل قاتله، ولا إثم على الابن؛ لأنه لم يقدر على دفع القتل عن أبيه أو ابنه إلا بمعصية يركبها، ولا يحل له ذلك. ألا ترى قوله: إن قيل له: لأقتلن أباك أو ابنك أو ذا رحم، أو لتبيعن هذا العبد أو تقرن بدين أو تهب هبة أن البيع والإقرار والهبة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 307 تلزمه فى القياس؛ لأنه قد تقدم أنه يصبر على قتل ابنه أو أبيه أو ذى رحمه ولا يشرب الخمر ولا يأكل الميتة، فعلى هذا ينبغى أن يلزمه كل ما عقد على نفسه من عقد، ولا يجوز له القيام فى شىء منها كما لم يجز له شرب الخمر وأكل الميتة فى دفع القتل عن أبيه أو ابنه وذى رحمه. ثم ناقض هذا المعنى بقوله: ولكنا نستحسن ونقول: البيع وكل عقد فى ذلك باطل. فاستحسن بطلان البيع وكل ما عقده على نفسه، وجعل له القيام فيه بعد أن تقدم من قوله: أن البيع والإقرار والهبة تلزمه فى القياس ولا يجوز له القيام فيها، واستحسانه كقول أشهب، وقياسه كقول ابن القاسم المتقدمين. وقول البخارى: فرقوا بين كل ذى رحم محرم وغيره بغير كتاب ولا سنة، يريد أن مذهب أبى حنيفة فى ذوى الأرحام بخلاف مذهبه فى الأجنبيين، فلو قيل لرجل: لنقتلن هذا الرجل الأجنبى أو لتبيعن عبدك أو تقر بدين أو هبة ففعل ذلك لينجيه من القتل لزمه جميع ما عقد على نفسه من ذلك ولم يكن له فيها قيام. ولو قيل له ذلك فى ذوى محارمه لم يلزمه ما عقد على نفسه من ذلك فى استحسانه. وعند البخارى ذوو الأرحام والأجنبيون سواء فى أنه لا يلزمه ما عقد على نفسه فى تخليص الأجنبى؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (المسلم أخو المسلم) والمراد بذلك أخوة الإسلام لا أخوة النسب، ولقول إبراهيم فى سارة: (هذه أختى) وإنما كانت أخته فى الإسلام، فأخوة الإسلام توجب على المسلم حماية أخيه المسلم والدفع عنه، ولا يلزمه ما عقد على نفسه فى ذلك من بيع ولا هبة، وله القيام فيها متى أحب، ووسعه شرب الخمر وأكل الميتة، ولا إثم عليه فى ذلك ولا حد، كما لو قيل له: لتفعلن هذه الأشياء أو لنقتلنك، وسعه فى نفسه إتيانها ولا يلزمه حكمها حرى أن يسعه ذلك فى حماية أبيه وأخيه فى النسب وذوى محارمه ولا يلزمه ما عقد على نفسه من بيع ولا هبة ولا فرق بينهما. اختلف العلماء فى يمين المكره، فذهب الكوفيون إلى أنه يحنث، وذهب مالك إلى أن كل من أكره على يمين بوعيد أو سجن أو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 308 ضرب أنه يحلف ولا حنث عليه، وهو قول الشافعى وأبى ثور وأكثر العلماء، وحجة الكوفيين أن المكره كان له أن يورى فى يمينه، ولما لم يور ولا ذهب بنيته إلى خلاف ما أكره عليه؛ فقد قصد إلى اليمين، ولو لم يد أن يحلف لورّى؛ لأن الأعمال بالنيات، فلذلك لزمته اليمين. وحجة من لم يلزمه اليمين أنه إذا أكره على اليمين فنيته مخالفة لقوله؛ لأنه كاره لما حلف عليه ولأن اليمين عندهم على نية الحالف، وأنه حلف على ما لم يرده ولا قصده بنيته، وكل عمل لا نية فيه غير لازم، ولا يصح الإكراه إلا أن يكون الفعل فيه مخالفًا للنية والقصد. وقد روى سليمان بن ميسرة، عن النزال بن سبرة قال: التقى عثمان وحذيفة عند باب الكعبة فقال له عثمان: أنت القائل الكلمة التى بلغتنى؟ فقال: لا والله ما قلتها. فلما خلونا به قلنا له: يا أبا عبد الله، حلفت له وقد قلت ما قلت. قال: إنى أشترى دينى بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله. وقال الحسن البصرى: أعطهم ما شاءوا بلسانك إذا خفتهم. وأما قول النخعى: إذا كان المستحلف ظالمًا فنية الحالف، وإن كان مظلومًا فنية المستحلف. فهو قول مالك؛ لأن النية عنده نية المظلوم أبدًا. وهو خلاف قول الكوفيين الذين يجيزون التورية فى الأعمال ويجعلون النية نية الحالف أبدًا. وسيأتى الكلام فى ذلك فى الباب بعد هذا إن شاء الله. فإن قال قائل: كيف يكون المستحلف مظلومًا؟ قال: إذا جحده رجل حقا له ولم تكن له نية فإن الجاحد يحلف له فتكون النية نية المستحلف؛ لأن الجاحد ظلمه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 309 58 - كِتَاب الْحِيَلِ - باب فِى تَرْكِ الْحِيَلِ وَأَنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فِى الأيْمَانِ وَغَيْرِهَا / 1 - فيه: عُمَرَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) . هذا الحديث حجة لصحة مذهب مالك فى الأيمان أنها على نية المحلوف له ولا تنفعه التورية عنده، ورد على الكوفيين والشافعية أنها على نية الحالف أبدًا، وتنفعه التورية فى سقوط الحنث خاصة عنه كالرجل يحلف لغريمه وهو معسر: والله ما لك عندى شىء. ينوى فى هذا الوقت من أجل عسرى، وأن الله قد أنظرنى إلى الوجود، وكالحالف بالطلاق يقول: هند طالق وله زوجة تسمى بهند، وقد نوى امرأة أجنبية تسمى بهند، ويريد طلاقها من موضع سكانها أو طلاقها من قيد، وكالحالف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 310 على أكل طعام وخص طعامًا بعينه، وكالحالف لغريمه وهو يريد شيئًا ما غير ما له عليه، فإن كان الحالف يخاصمه غرماؤه وزوجته أخذه الغرماء بظاهر لفظه، ولم يلتفتوا فيه إلى نيته فى الحكم وحملوا الكلام على بساطه ومخرجه، هذا قول مالك وأهل المدينة. والذين أجازوا التورية إنما فروا من الحنث بمعاريض الكلام، وجعلوه على نيته فى يمين لا يقتطع بها مال أخيه ولا يبطل حقه، فإن اقتطع بيمينه مال آخر، فلا مخرج له عند أحد من أهل العلم ممن يقول بالتورية وغيرها، ولا يكون ذلك المال حلالا عندهم ولابد من رده إلى صاحبه. قال المهلب: ولو جازت التورية لنوى الإنسان عند خلفه فى الحقوق غير ما طولب به، والحل له ما اقتطعه بهذه اليمين المعرج بها عن طريق الدعوى؛ ولذلك أنزل الله: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم) [آل عمران: 77] الآية. ولما اتفقوا معنا أنه لا يحل شىء من ذلك المال لآخذه علم أن التورية لا تزيل الحنث، وسقط قولهم. - باب فِى الصَّلاةِ / 2 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ) . معنى هذا الباب الرد على أبى حنيفة فى قوله: أن المحدث فى صلاته يتوضأ ويبنى على ما تقدم من صلاته. وهو قول ابن أبى ليلى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 311 وقال مالك والشافعى: يستأنف الوضوء والصلاة ولا يبنى، وحجتهما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) وقوله: (لا صلاة إلا بطهور) . قال ابن القصار: ولا يخلو فى حال انصرافه من الصلاة وقد أحدث أن يكون مصليًا أو غير مصل، فبطل أن يكون مصليًا؛ لقوله: (لا صلاة إلا بطهور) وهذا غير متوضئ فلا يجوز له البناء، وكل حدث منع من ابتداء الصلاة منع من البناء عليها، يدل على ذلك أنه لو سبقه المنى فى الصلاة لا يستأنف، كذلك غيره من الأحداث. وقد اتفقنا على أنه ممنوع من المضى فيها من أجل الحدث فوجب أن يمنع من البناء عليها؛ فإن احتجوا بالراعف أنه يبنى. قيل: الرعاف عندنا لا ينافى حكم الطهارة، والحدث ينافيها، ألا ترى أنه فى غير الصلاة لو تعمد الرعاف لم تنتقض طهارته كما لو بدره. والحدث على الوجهين ينفى حكم الطهارة، ألا ترى أنكم لم تفرقوا بين عمد الحدث وسبقه فى نقض الطهارة، وفرقتم بين تعمد المنى والرعاف وغلبته فى الصلاة، وفرقتم بين الأحداث فى الصلاة فقلتم: إذا غلبه المنى اغتسل واستأنف وإذا غلبه الحدث الأصغر بنى على صلاته. وفرقنا نحن بين الحدث وما ليس بحدث، وهذا الحديث أيضًا يرد قول أبى حنيفة أن من قعد فى الجلسة الآخرة مقدار التشهد ثم أحدث فصلاته تامة، وذهب إلى أن التحلل من الصلاة يقع بما يضادها من قول أو فعل ولا يتعين بالسلام، وخالفه سائر العلماء وقالوا: لا تتم الصلاة إلا بالسلام منها، ولا يجوز التحلل منها بما يفسدها إذا اعترض فى خلالها على طريق النسيان، كالحج لا يجوز أن يقع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 312 التحلل منه بالجماع؛ لأنه لو طرأ فى خلاله لأفسده، فكذلك الصلاة لو أحدث فى خلالها ناسيًا لأفسدها فلا يتحلل منها بتعمد الحدث. 3 - باب فِى الزَّكَاةِ / 3 - فيه: أَنَسٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الزَّكَاةِ الَّتِى فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَلا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ. / 4 - وفيه: طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِاللَّهِ (أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ثَائِرَ الرَّأْسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِى مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ، عَلَىَّ مِنَ الصَّلاةِ؟ فَقَالَ: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ إِلا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا، فَقَالَ: أَخْبِرْنِى بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنَ الصِّيَامِ؟ قَالَ: شَهْرَ رَمَضَانَ إِلا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا، قَالَ: أَخْبِرْنِى بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنَ الزَّكَاةِ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِشَرَائِعَ الإسْلامِ، قَالَ: وَالَّذِى أَكْرَمَكَ لا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا، وَلا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ) . وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: فِى عِشْرِينَ وَمِائَةِ بَعِيرٍ حِقَّتَانِ، فَإِنْ أَهْلَكَهَا مُتَعَمِّدًا، أَوْ وَهَبَهَا، أَوِ احْتَالَ فِيهَا فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ، فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ. / 5 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَكُونُ كَنْزُ أَحَدِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ، يَفِرُّ مِنْهُ صَاحِبُهُ، فَيَطْلُبُهُ وَيَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ، قَالَ وَاللَّهِ لَنْ يَزَالَ يَطْلُبُهُ حَتَّى يَبْسُطَ يَدَهُ، فَيُلْقِمَهَا فَاهُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : إِذَا مَا رَبُّ النَّعَمِ لَمْ يُعْطِ حَقَّهَا، تُسَلَّطُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَتَخْبِطُ وَجْهَهُ بِأَخْفَافِهَا) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 313 وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: فِى رَجُلٍ لَهُ إِبِلٌ، فَخَافَ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، فَبَاعَهَا بِإِبِلٍ مِثْلِهَا، أَوْ بِغَنَمٍ، أَوْ بِبَقَرٍ، أَوْ بِدَرَاهِمَ فِرَارًا مِنَ الصَّدَقَةِ بِيَوْمٍ احْتِيَالا، فَلا شَىْءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: إِنْ زَكَّى إِبِلَهُ، قَبْلَ أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ بِيَوْمٍ أَوْ بِسِنَّةٍ جَازَتْ عَنْهُ. / 6 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى النَّبىَّ (صلى الله عليه وسلم) فِى نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : اقْضِهِ عَنْهَا) . وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِذَا بَلَغَتِ الإبِلُ عِشْرِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، فَإِنْ وَهَبَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ، أَوْ بَاعَهَا فِرَارًا وَاحْتِيَالا لإسْقَاطِ الزَّكَاةِ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَتْلَفَهَا، فَمَاتَ فَلا شَيْءَ فِى مَالِهِ. أجمع العلماء أن للرجل قبل حلول الحول التصرف فى ماله بالبيع والهبة والذبح إذا لم ينو الفرار من الصدقة، واجمعوا أنه إذا حال الحول وأطل الساعى أنه لا يحلل التحيل والنقصان فى أن يفرق بين مجتمع أو يجمع بين مفترق. وقال مالك: إذا فوت من ماله شيئًا ينوى به الفرار من الزكاة قبل الحول بشهر أو نحوه لزمته الزكاة عند الحول أخذًا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (خشية الصدقة) وقال أبو حنيفة: إن نوى بتفويته الفرار من الزكاة قبل الحول بيوم لا تضره النية؛ لأن الزكاة لا تلزمه إلا بتمام الحول، ولا يتوجه إليه معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (خشية الصدقة) إلا حينئذ. قال المهلب: وإنما قصد البخارى فى هذا الباب أن يعرفك أن كل حيلة يتحيل بها أحد فى إسقاط الزكاة، فإن إثم ذلك عليه؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما منع من جمع الغنم أو تفريقها خشية الصدقة؛ فهم منه هذا المعنى، وفهم من قوله: (أفلح إن صدق) أنه من رام أن ينقص الجزء: 8 ¦ الصفحة: 314 شيئًا من فرائض الله بحيلة يحتالها أنه لا يفلح ولا يقوم بذلك عذره عند الله عز وجل فلما أجاز الفقهاء من تصرف صاحب المال فى ماله قرب حلول الحول، فلم يريدوا بذلك الهروب من الزكاة، ومن نوى ذلك فالإثم عنه غير ساقط والله حسيبه، وهو كمن فر عن صيام رمضان قبل رؤية الهلال بيوم واستعمل سفرًا لا يحتاج إليه رغبة عن فرض الله عز وجل الذى كتبه على عباده المؤمنين، فالوعيد إليه متوجه، ألا ترى عقوبة من منع الزكاة يوم القيامة بأى وجه منعها كيف تطؤه الإبل ويمثل له ماله شجاعًا أقرع؟ وهذا يدل أن الفرار من الزكاة لا يحل وهو مطالب بذلك فى الآخرة. وحديث ابن عباس فى النذر حجة أيضًا فى ذلك؛ لأنه إذ أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) سعدًا أن يقضى النذر عن أمه حين فاتها القضاء، دل ذلك أن الفرائض المهروب عنها أوكد من النذر وألزم، والله الموفق. قال غيره: وأما إذا بيعت الغنم بغنم، فإن مالكًا وأكثر العلماء يقولون: إن الثانية على حول الأولى؛ لأن الجنس واحد والنصاب واحد والمأخوذ واحد. وقال الشافعى فى أحد قوليه: يستأنف بالثانية حولا. وليس بشىء. وأما إن باع غنمًا ببقر أو بإبل، فأكثر العلماء يقولون: يستأنف بما يأخذ حولا كأنه قد باع دنانير بدراهم؛ لأن النصاب فى البقر والإبل مخالف للغنم، وكذلك المأخوذ. ومن الناس من يقول: إذا ملك الماشية ستة أشهر، ثم باعها بدراهم زكى الدراهم لتمام ستة أشهر من يوم باعها. هذا قول أحمد بن حنبل وأهل الظاهر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 315 وما ألزمه من التناقض فى قوله بإجازة تقديم الزكاة قبل الحول بسنة فليس بتناقض؛ لأنه لا يوجب الزكاة إلا بتمام الحول، ويجعل من قدمها كمن قدم دينًا مؤجلا قبل أن يجب عليه. وإن تم الحول وليس بيده نصاب من تلك الماشية وجب على الإمام أن يؤديها إليه من الصدقة، كما أدى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الجمل الرباعى الخيار إلى من هذه حاله. 4 - باب الْحِيلَةِ فِى النِّكَاحِ / 7 - فيه: ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنِ الشِّغَارِ، قُلْتُ لِنَافِعٍ: مَا الشِّغَارُ؟ قَالَ: يَنْكِحُ ابْنَةَ الرَّجُلِ وَيُنْكِحُهُ ابْنَتَهُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ، وَيَنْكِحُ أُخْتَ الرَّجُلِ وَيُنْكِحُهُ أُخْتَهُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ) . وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنِ احْتَالَ حَتَّى تَزَوَّجَ عَلَى الشِّغَارِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَقَالَ فِى الْمُتْعَةِ: النِّكَاحُ فَاسِدٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُتْعَةُ وَالشِّغَارُ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. / 8 - فيه: عَلِىًّ أنه قِيلَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لا يَرَى بِمُتْعَةِ النِّسَاءِ بَأْسًا، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنْهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الإنْسِيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنِ احْتَالَ حَتَّى تَمَتَّعَ، فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: النِّكَاحُ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. قال بعض من لقيت: أما نكاح الشغار ففساده فى الصداق عند أبى حنيفة، ولا يكون البضع صداقًا عند أحد من العلماء إلا أن أبا حنيفة يقول: هذا النكاح منعقد، ويصلح بصداق المثل؛ لأنه يجوز عنده انعقاد النكاح دون ذكر الصداق بخلاف البيع، ثم يذكر الصداق فيما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 316 بعد، فلما جاز هذا عندهم كان ذكرهم للبضع بالبضع كلا ذكر وكأنه نكاح انعقد بغير صداق، وما كان عند أبى حنيفة من النكاح فاسد من أجل صداقه فلا يفسخ عنده قبل ولا بعد، ويصلح بصداق المثل وبما يفرض، وعند مالك والشافعى يفسخ نكاح الشغار قبل الدخول وبعده، حملا نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) على التحريم؛ لعموم النهى، إلا أن مالكًا والشافعى اختلفا إن ذكر فى الشغار دراهم. فقال مالك: إن ذكر مع إحداهما دراهم صح نكاح التى سمى لها دون الثانية. وقال الشافعى: إن سمى لإحداهما صح النكاحان معًا، وكان للتى سمى لها ما سمى، وللأخرى صداق المثل، وقد تقدم هذا فى كتاب النكاح. وأما قوله فى المتعة فإن فقهاء الأمصار لا يجيزون نكاح المتعة على حال، وقول بعض أصحاب أبى حنيفة: المتعة والشغار جائز والشرط باطل غير صحيح؛ لأن المتعة منسوخة بنهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عنها، ولا يجوز مخالفة النهى وفساد نكاح المتعة من قبل البضع. 5 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الاحْتِيَالِ فِى الْبُيُوعِ، وَلا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ فَضْلُ الْكَلإ / 9 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبىُّ: (لا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ؛ لِيُمْنَعَ بِهِ فَضْلُ الْكَلإ) . / 10 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنِ النَّجْشِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 317 قال المهلب: قوله: (لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ) إنما هو لما أراد أن يصون ما حول بئره من الكلأ من النعم الواردة للشرب وهو لا حاجة به إلى الماء الممنوع، إنما حاجته إلى منع الكلأ، فمنع من الاحتيال فى ذلك؛ لأن الكلأ والنبات الذى فى المسارح غير المتملكة مباح لا يجوز منعه، وفيه معنى آخر وهو أنه قد يخص أحد معانى الحديث ويسكت عن معان أخر؛ لأن ظاهر الحديث يوجب أنه لا ينهى عن فضل الماء إلا إذا أريد به منع الكلأ، وإن لم يرد به منع الكلأ، فلا ينهى عن منع الماء، والحديث معناه: لا يمنع فضل الماء بوجه من الوجوه؛ لأنه إذا لم يمنع بسبب غيره فأحرى ألا يمنع بسبب نفسه، وقد سماه النبى (صلى الله عليه وسلم) فضلا، فإن لم يكن فيه فضل عن حاجة صاحب البئر جاز منعه لمالك البئر، وكذلك النجش، ومعناه أن يعطى الرجل الثمن فى السلعة وليس فى نفسه شراؤها، ليقتدى به غيره ممن يحب شراءها فيزيد فيها أكثر من ثمنها، فنهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك؛ لأنه ضرب من التحيل فى تكثير الثمن. 6 - باب مَا يُنْهَى مِنَ الْخِدَاعِ وَقَالَ أَيُّوبُ: يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَأَنَّمَا يُخَادِعُونَ آدَمِيًّا لَوْ أَتَوُا الأمْرَ عِيَانًا كَانَ أَهْوَنَ عَلَىَّ. / 11 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلا ذَكَرَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ يُخْدَعُ فِى الْبُيُوعِ فَقَالَ: (إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لا خِلابَةَ) . قد تقدم فى كتاب البيوع. وقوله: (لا خلابة) أى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 318 لا تخلبونى ولا تخدعونى؛ فإن ذلك لا يحل. قال المهلب: مثل أن يدلس بالعيب أو يسمى بغير اسمه، فهذا الذى لا يحل منه قليل ولا كثير، وأما الخديعة التى هى تزيين للسلعة والثناء عليها، والإطناب فى مدحها فهذا متجاوز عنه، ولا تنقض له البيوع. 7 - باب مَا يُنْهَى مِنَ الاحْتِيَالِ لِلْوَلِىِّ فِى الْيَتِيمَةِ الْمَرْغُوبَةِ وَأَنْ لا يُكَمِّلَ لَهَا صَدَاقَهَا / 12 - فيه: عَائِشَةَ: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) [النساء: 3] الآية، قَالَتْ: هِىَ الْيَتِيمَةُ فِى حَجْرِ وَلِيِّهَا، فَيَرْغَبُ فِى مَالِهَا وَجَمَالِهَا، فَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ نِسَائِهَا، فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِى إِكْمَالِ الصَّدَاقِ، ثُمَّ اسْتَفْتَى النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَعْدُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النِّسَاءِ (فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فيه: أنه لا يجوز للولى أن يتزوج يتيمة بأقل من صداقها، ولا أن يعطيها من العروض فى صداقها ما لا يفى بقيمة صداق مثلها، وقال ابن عباس: قصر الرجل على أربع من النساء من أجل اليتامى. ومعناه أن سبب نزول القران بإباحة أربع كان من أجل سؤالهم عن اليتامى، وكانوا يستفتونه لما كانو يخافونه من الحيف عليهن، فقيل لهم: إن خفتم الحيف عليهن فاتركوهن، فقد أحللت لكم أن تنكحوا أربعًا. فإن قال قائل ممن لا فهم له بكتاب الله من أهل البدع: كيف يخافون ألا يقسطوا فى اليتامى ويؤمرون بنكاح أربع وهم عن القسط بينهن أعجز؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 319 قال أبو بكر بن الطيب: ومعنى الآية: إن خفتم ألا تعدلوا فى اليتامى الأطفال اللاتى لا أولياء لهن يطالبونكم بحقوق الزوجية وتخافون من أكل أموالهن بالباطل؛ لعجز الأطفال عن منعكم منها فانكحوا سواهن أربعًا من النساء البزل القادرات على تدبير أموالهن، ذوات الأولياء الذين يمنعونكم من تحيف أموالهن ويأخذونكم بالعدل بينهن، فأنتم عند ذلك أبعد من أكل أموالهن بالباطل والاعتداء عليهن. 8 - باب إِذَا غَصَبَ جَارِيَةً فَزَعَمَ أَنَّهَا مَاتَتْ، فَقُضِىَ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ الْمَيِّتَةِ، ثُمَّ وَجَدَهَا صَاحِبُهَا، فَهِىَ لَهُ وَيَرُدُّ الْقِيمَةَ، وَلا تَكُونُ الْقِيمَةُ ثَمَنًا . وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْجَارِيَةُ لِلْغَاصِبِ لأخْذِهِ الْقِيمَةَ، وَفِى هَذَا احْتِيَالٌ لِمَنِ اشْتَهَى جَارِيَةَ رَجُلٍ لا يَبِيعُهَا، فَغَصَبَهَا وَاعْتَلَّ بِأَنَّهَا مَاتَتْ حَتَّى يَأْخُذَ رَبُّهَا قِيمَتَهَا، فَتَطِيبُ لِلْغَاصِبِ جَارِيَةَ غَيْرِهِ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَمْوَالُكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، وَلِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . / 13 - فيه: زَيْنَبَ قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَأَقْضِىَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلا يَأْخُذْ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 320 احتج البخارى فى هذا الباب على أبى حنيفة ورَدَّ قوله أن الجارية للغاصب إذا وجدها ربها، واعتل أبو حنيفة بأنه إذا أخذ قيمتها من الغاصب فلا حق له فيها؛ لأنه لا يجتمع الشىء وبدله فى ملك واحد أبدًا. وهذا خطأ من أبى حنيفة، والصحيح ما ذهب إليه البخارى وهو قول مالك والشافعى وأبى ثور قالوا: إذا وجد الجارية صاحبها فهو مخير إن شاء أخذها ورَدَّ القيمة، وإن شاء تمسك بالقيمة وتركها، إلا أن مالكًا فرق بين أن يجدها ربها عند الغاصب أو عند من اشتراها من الغاصب فقال: إن وجدها ربها عند مشتريها من الغاصب لم تتغير أنه مخير بين أخذها أو قيمتها يوم الغصب أو الثمن الذى باعها به الغاصب. قال: وإن وجدها عند الغاصب لم تتغير وهى أحسن مما كانت يوم الغصب ولم يكن جحدها الغاصب ولا حكم عليه بقيمتها فليس له إلا أخذها، ولا يأخذ قيمتها. هذا قوله فى المدونة. وقال ابن الماجشون ومطرف: وهو مخير بين أخذها أو أخذ قيمتها إذا كان الغاصب قد غاب عنها. والحجة لمن خالف أبا حنيفة بيان النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه لا يحل مال مسلم إلا عن طيب نفس منه، وأن حكم الحاكم لا يحل ما حرم الله ورسوله؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فلا يأخذها، فإنما أقطع له قطعة من النار) . وأما قول أبى حنيفة: إن القيمة ثمن فهو غلط؛ لأن القيمة إنما وجبت؛ لأن الجارية متلفة لا يقدر عليها، فلما ظهرت وجب له أخذها؛ لأن أخذ القيمة ليس ببيع بايعه به، وإنما أخذ القيمة لهلاكها، فإذا زال ذلك وجب الرجوع إلى الأصل الذى كان عليه، وهو تسليم الجارية إلى صاحبها، وقد فرق أهل العلم بين القيمة والثمن، فجعلوا القيمة فى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 321 الشىء المستهلك وفى البيع الفاسد، وجعلوا الثمن فى الشىء القائم، والفرق بين البيع الفاسد والغصب أن البائع قد رضى بأخذ الثمن عوضًا من سلعته وأذن للمشترى فى التصرف فيها، وإنما جهل السنة فى البيع، فإصلاح هذا البيع أن يأخذ قيمة السلعة إن فاتت، والغاصب غصب ما لم يأذن له فيه ربه، وما له فيه رغبة؛ فلا يحل تملكه للغاصب بوجه من الوجوه إلا أن يرضى المغصوب منه بأخذ قيمته. وقد تناقض أبو حنيفة فى هذه المسألة فقال: إن كان الغاصب حين ادعى رب الجارية قيمتها كذا وكذا جحد ما قال، وقال قيمتها كذا وكذا وحلف عليه، ثم قدر عليه الجارية كان ربها بالخيار إن شاء سلم الجارية بالقيمة وإن شاء أخذ الجارية ورد القيمة؛ لأنه لم يعط القيمة التى ادعاها ربها، وهذا ترك منه لقوله. ولو كانت القيمة ثمنًا ما كان لرب الجارية الخيار فيما معناه البيع؛ لأن الرجل لو باع ما يساوى خمسين دينارًا بعشرة دنانير كان بيعه لازمًا ولم يجعل له رجوع ولا خيار. 9 - باب فِى النِّكَاحِ / 14 - فيه: أَبِى هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، وَلا الثَّيِّبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: إِذَا سَكَتَتْ) . وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِذَا لَمْ تُسْتَأْذَنِ الْبِكْرُ وَلَمْ تَتَزَوَّجْ، فَاحْتَالَ رَجُلٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 322 فَأَقَامَ شَاهِدَىْ زُورٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِرِضَاهَا فَأَثْبَتَ الْقَاضِى نِكَاحَهَا، وَالزَّوْجُ يَعْلَمُ أَنَّ الشَّهَادَةَ بَاطِلَةٌ، فَلا بَأْسَ أَنْ يَطَأَهَا وَهُوَ تَزْوِيجٌ صَحِيحٌ. / 15 - وفيه: الْقَاسِمِ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ وَلَدِ جَعْفَرٍ تَخَوَّفَتْ أَنْ يُزَوِّجَهَا وَلِيُّهَا، وَهِىَ كَارِهَةٌ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى شَيْخَيْنِ مِنَ الأنْصَارِ عَبْدِالرَّحْمَنِ وَمُجَمِّعٍ ابْنَىْ جَارِيَةَ، قَالا: فَلا تَخْشَيْنَ، فَإِنَّ خَنْسَاءَ بِنْتَ خِذَامٍ أَنْكَحَهَا أَبُوهَا، وَهِىَ كَارِهَةٌ، فَرَدَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ذَلِكَ. / 16 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : لا تُنْكَحُ الأيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، قَالُوا: كَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ. قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنْ هَوِىَ رَجُلٌ جَارِيَةً ثَيِّبًا، أَوْ بِكْرًا، فَأَبَتْ، فَاحْتَالَ فَجَاءَ بِشَاهِدَىْ زُورٍ عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، فَأَدْرَكَتْ، فَرَضِيَتِ، فَقَبِلَ الْقَاضِى شَهَادَةَ الزُّورِ، وَالزَّوْجُ يَعْلَمُ بِبُطْلانِ ذَلِكَ حَلَّ لَهُ الْوَطْءُ. قال المؤلف: لا يحل هذا النكاح للزوج الذى أقام شاهدى زور على رضا المرأة أنه تزوجها عند أحد من العلماء، وليس حكم القاضى بما ظهر له من عدالة الشاهدين فى الظاهر مُحلا ما حرم الله؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإنما أقطع له قطعة من النار) ولتحريم أكل أموال الناس بالباطل، ولا فرق بين أكل المال الحرام ووطء الفرج الحرام فى الإثم. قال المهلب: احتيال أبى حنيفة ساقط؛ لأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) باستئذان المرأة واستئمارها عند النكاح، ورد (صلى الله عليه وسلم) نكاح من تزوجت كارهة فى حديث خنساء، وقد قال تعال: (ولا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف) [البقرة: 232] فاشتراط الله رضا المرأة فى النكاح يوجب أنه متى عدم هذا الشرط فى النكاح لم يحل، وإنما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 323 قاس أبو حنيفة مسائل هذا الباب على القاضى إذا حكم بطلاقها بشاهدى زور وهو لا يعلم؛ أنه يجوز أن يتزوجها من لا يعلم بباطل هذا الطلاق، ولا تحرم عليه بإجماع العلماء، وكذلك يجوز أن يتزوجها من يعلم ولا تحرم عليه، وهذا خطأ فى القياس، وإنما حل تزويجها لمن لا يعلم باطن أمرها؛ لأنه جهل ما دخل فيه. وأما الزوج الذى أقام شاهدى زور فهو عالم بالتحريم متعمد لركوب الإثم فكيف يقاس من جهل شيئًا فأتاه فعزر بجهله على من تعمده فأقدم عليه وهو عالم بباطنه؟ ولا خلاف بين العلماء أنه من أقدم على ما لا يحل له فقد أقدم على الحرام البين الذى قال فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) : (الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات) وليس للشبهة فيه موضع، ولا خلاف بين الأمة أن رجلا لو أقام شاهدى زور على ابنته أنها أمته وحكم الحاكم بذلك أنه لا يجوز له وطؤها، فكذلك الذى شهد على نكاحها هما فى التحريم سواء. والمسألة التى فى آخر الباب لا يقول بها أحد وهى خطأ كالمسألتين المتقدمتين. - باب مَا يُكْرَهُ مِنِ احْتِيَالِ الْمَرْأَةِ مَعَ الزَّوْجِ وَالضَّرَائِرِ وَمَا نَزَلَ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى ذَلِكَ / 17 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ، فَاحْتَبَسَ عِنْدَ حَفْصَةَ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِى: أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةَ عَسَلٍ، فَسَقَتْ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْهُ شَرْبَةً، فَقُلْتُ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 324 أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَوْدَةَ، قُلْتُ: إِذَا دَخَلَ عَلَيْكِ فَإِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ، فَقُولِى لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ، فَإِنَّهُ سَيَقُولُ: لا فَقُولِى لَهُ: مَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ، فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ: سَقَتْنِى حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، فَقُولِى لَهُ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، وَسَأَقُولُ ذَلِكِ، وَقُولِيهِ أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى سَوْدَةَ، قُلْتُ: تَقُولُ سَوْدَةُ: وَالَّذِى لا إِلَهَ إِلا هُوَ، لَقَدْ كِدْتُ أَنْ أُبَادِرَهُ بِالَّذِى قُلْتِ لِى، وَإِنَّهُ لَعَلَى الْبَابِ فَرَقًا مِنْكِ، فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ، قَالَ: لا، قُلْتُ: فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ قَالَ: سَقَتْنِى حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، قُلْتُ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَىَّ، قُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَدَخَلَ عَلَى صَفِيَّةَ، فَقَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، قَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا أَسْقِيكَ مِنْهُ؟ قَالَ: لا حَاجَةَ لِى بِهِ، قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ: سُبْحَانَ اللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ، قَالَتْ: قُلْتُ: لَهَا اسْكُتِي) . القسمة التى يقضى بها للنساء على الرجال هى الليل دون النهار، والجماع كله ليلا ونهارًا، ولا يجوز أن يجامع امرأة فى يوم أخرى. وأما دخول الزوج بيت من ليس يومها فمباح للرجل ذلك وجائز له أن يأكل ويشرب فى بيتها فى غير يومها ما لم يكن الغداء المعروف والعشاء المعروف، وليس لسائر النساء أن تمنع الزوج من غير ما ذكرناه. ومعنى الترجمة ظاهر فى الحديث. وقد تقدم تفسير المغافير فى كتاب الأيمان والنذور فى باب إذا حرم طعامًا. وقد تقدم ما فى الحديث من الغريب فى كتاب الطلاق فى باب لم تحرم ما أحل الله لك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 325 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الاحْتِيَالِ فِى الْفِرَارِ مِنَ الطَّاعُونِ / 18 - فيه: عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ، فَلَمَّا جَاءَ بِسَرْغَ بَلَغَهُ أَنَّ الْوَبَاءَ وَقَعَ بِالشَّأْمِ، فَأَخْبَرَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، فَرَجَعَ عُمَرُ مِنْ سَرْغَ) . / 19 - وفيه: أُسَامَةَ أَنَّ النَّبىَّ (صلى الله عليه وسلم) ذَكَرَ الْوَجَعَ، فَقَالَ: رِجْزٌ أَوْ عَذَابٌ عُذِّبَ بِهِ بَعْضُ الأمَمِ، ثُمَّ بَقِىَ مِنْهُ بَقِيَّةٌ، فَيَذْهَبُ الْمَرَّةَ، وَيَأْتِى الأخْرَى، فَمَنْ سَمِعَ بِهِ بِأَرْضٍ فَلا يُقْدِمَنَّ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ بِأَرْضٍ وَقَعَ بِهَا فَلا يَخْرُجْ فِرَارًا مِنْهُ) . قال المهلب وغيره: لا يجوز الفرار من الطاعون، ولا يجوز أن يتحيل بالخروج فى تجارة أو شبهها وهو ينوى بذلك الفرار من الطاعون. ويبين هذا المعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الأعمال بالنيات) فى النهى عن الفرار من الطاعون كأنه يفر من قدر الله وقضائه وهذا لا سبيل لأحد إليه؛ لأن قدر الله لا يغلب. وسيأتى الكلام فى معنى هذا الحديث فى كتاب المرضى والطب فى باب من خرج من أرض لا تُلائمه فهو موضعه إن شاء الله تعالى. - باب فِى الْهِبَةِ وَالشُّفْعَةِ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنْ وَهَبَ هِبَةً أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ حَتَّى مَكَثَ عِنْدَهُ سِنِينَ، وَاحْتَالَ فِى ذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِيهَا فَلا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَخَالَفَ الرَّسُولَ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْهِبَةِ وَأَسْقَطَ الزَّكَاةَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 326 / 20 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْعَائِدُ فِى هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِى قَيْئِهِ، لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ) . / 21 - وفيه: جَابِر، قَالَ: إِنَّمَا جَعَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الشُّفْعَةَ فِى كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلا شُفْعَةَ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الشُّفْعَةُ لِلْجِوَارِ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى مَا شَدَّدَهُ فَأَبْطَلَهُ، وَقَالَ: إِنِ اشْتَرَى دَارًا، فَخَافَ أَنْ يَأْخُذَ الْجَارُ بِالشُّفْعَةِ، فَاشْتَرَى سَهْمًا مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ، ثُمَّ اشْتَرَى الْبَاقِىَ، وَكَانَ لِلْجَارِ الشُّفْعَةُ فِى السَّهْمِ الأوَّلِ وَلا شُفْعَةَ لَهُ فِى بَاقِى الدَّارِ، وَلَهُ أَنْ يَحْتَالَ فِى ذَلِكَ. / 22 - فيه: عَمْرَو بْنَ الشَّرِيدِ، جَاءَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِى، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ إِلَى سَعْدٍ، فَقَالَ أَبُو رَافِعٍ لِلْمِسْوَرِ: أَلا تَأْمُرُ هَذَا أَنْ يَشْتَرِىَ مِنِّى بَيْتِى الَّذِى فِى دَارِى؟ فَقَالَ: لا أَزِيدُهُ عَلَى أَرْبَعِ مِائَةٍ، إِمَّا مُقَطَّعَةٍ وَإِمَّا مُنَجَّمَةٍ، قَالَ: أُعْطِيتُ خَمْسَ مِائَةٍ نَقْدًا، فَمَنَعْتُهُ وَلَوْلا أَنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ) . مَا بِعْتُكَهُ، أَوْ قَالَ: مَا أَعْطَيْتُكَهُ. قُلْتُ لِسُفْيَانَ: إِنَّ مَعْمَرًا لَمْ يَقُلْ هَكَذَا، قَالَ: لَكِنَّهُ قَالَ لِى هَكَذَا. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الشُّفْعَةَ، فَلَهُ أَنْ يَحْتَالَ حَتَّى يُبْطِلَ الشُّفْعَةَ، فَيَهَبَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِى الدَّارَ وَيَحُدُّهَا، وَيَدْفَعُهَا إِلَيْهِ، وَيُعَوِّضُهُ الْمُشْتَرِى أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَلا يَكُونُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا شُفْعَةٌ. / 23 - وفيه: عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِى رَافِعٍ، أَنَّ سَعْدًا سَاوَمَهُ بَيْتًا بِأَرْبَعِ مِائَةِ مِثْقَالٍ، فَقَالَ: لَوْلا أَنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ) . لَمَا أَعْطَيْتُكَ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنِ اشْتَرَى نَصِيبًا مِنْ دَارٍ، فَأَرَادَ أَنْ يُبْطِلَ الشُّفْعَةَ وَهَبَ لابْنِهِ الصَّغِيرِ، وَلا يَكُونُ عَلَيْهِ يَمِينٌ. قال المؤلف: إذا وهب الواهب هبة وقبضها الموهوب وحازها فهو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 327 مالك لها عند الجميع والزكاة له لازمة ولا سبيل له إلى الرجوع فيها إلا أن يكون على ابن. وهذه حيلة لا يمكن أن يخالف بها نص الحديث لأن الزكاة تلزم الابن فى كل هذا ما لم يعتصر منه وإن كان صغيرًا عند الحجازيين لأنه ملك، فإن اعتصرها بعد حلول الحلول عليها عند الموهوب له وجبت الزكاة على الموهوب له ثم يستأنف الراجع فيها حولا من يوم رجوعه، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء فلا معنى للاشتغال بما خالفه. قال المهلب: والاحتيال فى هذا خارج عن معنى الشريعة، ومن أراد أن يحتال على الشريعة حتى يسقطها فلا يسمّى محتالا، وإنما هو معاند لحدود الله ومنتهك لها، فإذا كانت الهبة لغير الابن دخل الراجع فيها تحت قوله (صلى الله عليه وسلم) : (العائد فى هبته كالكلب يعود فى قيئه) ولا أعلم لحيلته وجهًا إلا إن كان يريد أن يهبها ويحتال فى حبسها عنده دون تحويز فلا تتم حيلته فى هذا إن وهبها لأجنبى؛ لأن الحيازة عنده شرط فى الهبة، فإن بقيت عنده كانت على ملكه ووجبت عليه فيها الزكاة، فأما مسألة الشفعة فالذى احتال به أبو حنيفة فيها له وجه فى الفقه، وذلك أن الذى أراد شراء الدار خاف شفعة الجار. فسأل أبا حنيفة: هل من حيل فى إسقاط شفعة الجار؟ فقال: لو باع منك صاحب الدار جزءًا من عشرة أجزاء منها على الإشاعة ثم اشتريت منه بعد حين باقى الدار سقطت شفعة الجار. يريد أن الشريك فى المشاع أحق بالشفعة من الجار. وهذا إجماع من العلماء فلما اشترى أولا الجزء اليسير صار به شريكًا لصاحب الدار؛ إذ لم يرض الجار أن يشفع فى ذلك الجزء اللطيف لعلة انتفاعه به، فلما عقد الصفقة فى باقى الدار كان الجار الجزء: 8 ¦ الصفحة: 328 لا شفعة له عليه؛ لأنه لو ملك ذلك الجزء اللطيف غيره لمنع الجار به من الشفعة. فكذلك يمنعه هو إذا اشترى باقى الدار من الشفعة، وهذا ليس فيه شىء من خلاف السنة. وإنما أراد البخارى أن يلزم أبا حنيفة التناقض لأنه يوجب الشفعة للجار ويأخذ فى ذلك لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الجار أحق بصقبه) . فمن اعتقد مثل هذا وثب ذلك عنده من قضاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتحيل بمثل هذه الحيلة فى إبطال شفعة الجار فقد أبطل السنة التى يعتقدها. قال المهلب: وفى حديث ابن عباس: (إذا وقعت الحدود فلا شفعة) ما يرد قول من أجاز الشفعة للجار؛ لأن الجار قد حدد ماله من مال جاره ولا اشتراك له معه، وهذا ضد قول من قال بالشفعة للجار، وقوله: (الشفعة فيما لم يقسم) ينفى الشفعة فى كل مقسوم. وحديث عمرو بن الشريد حجة فى أن الجار المذكور فى الحديث هو الشريك وعلى ذلك حمله أبو رافع وهو أعلم بمخرج الحديث، وقد تقدم ذلك فى كتاب الشفعة، وقول أبى حنيفة: إذا أراد أن يقطع الشفعة فيهب البائع للمشترى الدار إلى آخر المسألة فهذه حيلة فى إبطال السنة لا يجيزها أحد من أهل العلم، وهى منتقضة على أصل أبى حنيفة؛ لأن الهبة إن انعقدت للثواب فهى بيع من البيوع عند الكوفيين ومالك وغيره ففيها الشفعة، وإن كانت هبة مقبولة بغير شرط ثواب فلا شفعة فيها بإجماع، وما انعقد عقدًا ظاهرًا سالمًا فى باطنه والقصد منه فساد فهذا لايحل عند أحد من العلماء. قال المهلب: وإنما ذكر البخارى فى هذه المسألة حديث أبى رافع ليعرفك أن ما جعله النبى (صلى الله عليه وسلم) حقا للشفيع بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الجار لأحق بصقبه) فلا يحل إبطاله ولا إدخال حيلة عليه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 329 وأما المسألة التى فى آخر الباب إن اشترى نصيب دار فإذا كان يبطل الشفعة وهب لابنه الصغير ولا يكون عليه يمين، فبيان هذه المسألة أن يكون البائع شريكًا مع غيره فى دار فيقوم رجل آخر فيشترى منها نصيبًا ويهبه لابنه ولا يمين عليه، وإنما قال ذلك لأنه من وهب لابنه هبة فقد فعل ما يباح له فعله. قال: والأحكام على الظاهر لا على التوهم وادعًا الغيب على البيان. وذكر ابن المولد عن مالك إن كانت الهبة للثواب ففيها الشفعة يعنى لأنها بيع من البيوع ويحلف المتصدق عليه إن كان ممن يتهم، وروى ابن نافع عن مالك فى المجموعة قال: ينظر فإن رأى أنه محتاج وهب الأغنياء فاليمين على الموهوب له، وإن كان صغيرًا فعلى نية الذى قبل ذلك له، وإن كان مستغنيًا عن ثوابهم وإنما وهب للقرابة أو صداقة فلا يمين فى ذلك. وذكر ابن عبد الحكم عن مالك أنه اختلف قوله فى الشفعة فى الهبة فأجازها مرة ثم قال: لا شفعة فيها. - باب / 24 - فيه: أَبُو رَافِع، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ) . وقال بعض الناس: إن اشترى دارًا بعشرين ألف درهم فلا بأس أن يحتال حين يشترى الدار بعشرين ألف درهم فلا بأس أن يحتال حين يشترى الدار بعشرين ألف درهم وينقده تسعة آلاف درهم وتسعمائة درهم وتسع وتسعين، وينقده دينارًا بما بقى من العشرين ألف درهم، فإن طلب الشفيع أخذها بالعشرين ألف درهم وإلا فلا سبيل له على الدار، فإناستحقت الدار رجع المشترى على البائع بمادفع إليه، وهو تسعة آلاف درهم وتسعمائة وتسعة وتسعون درهمًا ودينار؛ لأن البيع حين استحق انتقض الصرف فى الدينار، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 330 فإن وجد بهذه الدار عيبًا ولم يستحق فإنه يردها عليه بعشرين ألفًا، قال: فأجاز هذا الخداع بين المسلمين فقد قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (بيع المسلم لا داء ولا خبثة ولا غائلة) . / 25 - وفيه: أَبُو رَافِع أنه سَاوَمَ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ بَيْتًا بِأَرْبَعِ مِائَةِ مِثْقَالٍ، وَقَالَ: لَوْلا أَنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ) مَا أَعْطَيْتُكَ. يمكن أن يبيع الشقص من صديق له يحب نفعه بعشرة آلاف درهم ودينار ويكتباه فى وثيقة الشراء عشرين ألف درهم، وهو يعلم أن الشريك لابد له أن يقوم على المشترى بالشفعة، فإذا وجد فى وثيقته عشرين ألف درهم أخذ الشقص بذلك فهو قصد إلى الخداع. وقوله: لينقده دينارًا بالعشرة آلاف درهم إنما قال ذلك لأنه يجوز عند الأمة بيع الذهب بالفضة متفاضلا كيف شاء المتبايعان. فلما جاز هذا بإجماع بنى عليه أصله فى الصرف، فأجاز عشرة دراهم ودينارًا بأحد عشر درهمًا جعل العشرة دراهم بعشرة دراهم وجعل الدينار بدل الدرهم. وكذلك جعل فى هذه المسألة الدينار بعشرة آلاف درهم وأوجب على الشفيع أن يؤدى ما انعقدت له به الصفقة دون ما نقد فيها المشترى، كأنه قال من حق المشترى أن يقول لك إنما أخذ منك أيها الشفيع ما أبيعت به الشقص لا ما نقدت فيه؛ لأنه تجاوز لى البائع بعد عقد الصفقة عما شاء ما وجب له على. وأما مالك، رحمة الله عليه، فإنما يراعى فى ذلك النقد وما حصل فى يد البائع منه يأخذ الشفيع. ومن حجته فى ذلك أنه لا خلاف بين العلماء أن الاستحقاق والرد بالعيب لا يرفع فيهما إلا بما نقد المشترى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 331 وهذا يدل على أن المراعاة فى انتقال الصفقات فى الشفعة وانتقاضها بالاستحقاق والعيوب وما نقد البائع فى الوجهين جميعًا، وأن الشفعة فى ذلك كالاستحقاق وهذا هو الصواب. وأما قول البخارى عن أبى حنيفة فإن استحقت الدار رجع المشترى على البائع بما دفع إليه، فهذا من أبى حنيفة يدل على أنه قصد الحيلة فى الشفعة؛ لأن الأمة مجمعة وأبو حنيفة معهم على أن البائع لا يرد فى الاستحقاق والرد بالعيب إلا ما قبض. فكذلك الشفيع لا يشفع إلا ما نقد المشترى وما قبضه منه البائع لا بما عقد. وأما قول أبى حنيفة: لأن البيع حين استحقه انتقض صرف الدينار فلا يفهم؛ لأن الاستحقاق والرد بالعيب يوجب نقض الصفقة كلها فلا معنى لذكره الدينار دون غيره. وقال المهلب: وجه إدخال البخارى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الجار أحق بصقبه) فى هذه المسألة، وهو لما كان الجار أحق بالبيع وجب أن يكون أحق أن يرفق به فى الثمن حتى لا يغبن فى شىء، ولا يدخله عروض بأكثر من قيمتها ألا ترى أن أبا رافع لم يأخذ من سعد ما أعطاه غيره من الثمن ووهبه؛ لحق الجار الذى أمر الله بمراعاته وحفظه وحض النبى (صلى الله عليه وسلم) على ذلك. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا داء ولا خبثة ولا غائلة) دليل على أنه لا احتيال فى شىء من بيوع المسلمين من صرف دينار بأكثر من قيمته ولا غيره. - باب احْتِيَالِ الْعَامِلِ لِيُهْدَى لَهُ / 26 - فيه: أَبُو حُمَيْدٍ، اسْتَعْمَلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلا عَلَى صَدَقَاتِ بَنِى سُلَيْمٍ، يُدْعَى ابْنَ الْلَّتَبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ، قَالَ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (فَهَلا جَلَسْتَ فِى بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 332 إِنْ كُنْتَ صَادِقًا. ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّى أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلانِى اللَّهُ، فَيَأْتِى فَيَقُولُ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِى، أَفَلا جَلَسَ فِى بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، وَاللَّهِ لا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلا لَقِىَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. . .) الحديث. قال المهلب: حيلة العامل ليهدى إليه إنما تكون بأن يضع من حقوق المسلمين فى سعايته ما يعوضه من أجله الموضوع له، فكأن الحيلة إنما هى أن وضع من حقوق المسلمين ليستجزل لنفسه، فاستدل النبى (صلى الله عليه وسلم) على أن الهدية لم تكن للمعوض فقال: فهلا جلس فى بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا. فغلب الظن وأوجب أخذ الهدية وضمها إلى أموال المسلمين. قال غيره: وهذا الحديث يدل أن ما أهدى إلى العامل فى عمالته والأمير فى إمارته شكرًا لمعروف صنعه أو تحببًا إليه أنه فى ذلك كله كأحد المسلمين لا فضل له عليهم فيه؛ لأنه بولايته عليهم نال ذلك، فإن استأثر به فهو سحت، والسحت كل ما يأخذه العامل والحاكم على إبطال حق أو تحقيق باطل وكذلك ما يأخذه على القضاء بالحق. وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (هدايا الأمراء غلول) والغلول معلوم أنه للموجفين ولم يكن معهم، وعلى هذا التأويل كانت مقاسمة عمر بن الخطاب لعماله على طريق الاجتهاد لأنهم خلطوا ما يجب لهم فى عمالتهم بأرباح تجاراتهم وسهمانهم فى الفئ، فلما لم يقف عمر على مبلغ ذلك حقيقة أداه اجتهاده إلى أن يأخذ منهم نصف ذلك. وقد روى عن بعض السلف أنه قال: ما عدا من تجر فى رعيته. وقد فعله عمر، رضى الله عنه، أيضًا فى المال الذى دفعه أبو موسى الأشعرى بالعراق من مال الله إلى ابنيه عبد الله وعبيد الله، أراد عمر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 333 أن يأخذ منهم المال وربحه. فقال عثمان: لو جعلته قراضًا. أى خذ منهم نصف الربح ففعل ورأى أن ذلك صواب. وقد جاء معاذ بن جبل من اليمن إلى أبى بكر الصديق بأعبد له أصابهم فى إمارته على اليمن، فقال له عمر: ادفع الأعبد إلى أبى بكر. فأبى معاذ من ذلك، ثم إن معاذًا رأى فى المنام كأنه واقف على نار يكاد أن يقع فيها وأن عمر أخذ بحجزته فصرفه عنها، فلما أصبح قال لعمر: ما ظنى إلا أنى أعطى الأعبد أبا بكر. فقال له: وكيف ذلك؟ قال: رأيت البارحة فى النوم رؤيا وما أظن ما أشرت به علىّ فى الأعبد إلا تأويل الرؤيا. فدفعها إلى أبو بكر، فرأى أبو بكر أن يردهم عليه فردهم عليه فكانوا عند معاذ، فاطلع معاذ يومًا فرآهم يصلون صلاة حسنة فأعتقهم. واختلف السلف فى تأويل قوله تعالى: (أكالون للسحت) [المائدة: 42] فروى عن مسروق أنه سأل ابن مسعود عن السحت أهو الرشوة فى الحكم؟ فقال عبد الله: ذلك الكفر، وقرأ عبد الله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) [المائدة: 42] ولكن السحت أن يستعينك رجل على مظلمة إلى إمام فتعينه فيهدى لك. وقال إبراهيم النخعى: كان يقال: السحت الرشوة فى الحكم. وعن عكرمة مثله، وذكر إسماعيل بن إسحاق من حديث عبد الله بن عمر وثوبان (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعن الراشى والمرتشى) وفسره الحسن البصرى فقال: ليحق باطلا أو يبطل حقا، فأما أن يدفع عن ماله فلا بأس. وهذا خلاف تأويل ابن مسعود. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 334 59 - كِتَاب الْفَرَائِضِ وقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ) [النساء: 11] / 1 - فيه: جَابِرَ، مَرِضْتُ، فَعَادَنِى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَبُو بَكْرٍ، وَهُمَا مَاشِيَانِ، فَأَتَانِى وَقَدْ أُغْمِىَ عَلَىَّ، فَتَوَضَّأَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَصَبَّ عَلَىَّ وَضُوءَهُ، فَأَفَقْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أَصْنَعُ فِى مَالِى؟ كَيْفَ أَقْضِى فِى مَالِى؟ فَلَمْ يُجِبْنِى بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ) [النساء: 11] . وهذا إذا لم يكن معهم أحد من أهل الفرائض، فإذا كان معهم من له فرض معلوم بدئ بفريضته فأُعطيها، وجُعل الفاضل من المال للذكر مثل حظ الأنثيين وهذا إجماع، ودخل فى قوله تعالى: (يوصيكم الله فى أولادكم) [النساء: 11] ولد الرجل لصلبه من الذكور والإناث وولد بنيه وبنى الذين ينتسبون بآبائهم إليه من الذكور والإناث غير أنهم ينزلون على قدر القرب منه. فإن كان فى ولد الصلب ذكر لم يكن لأحد من ولد الولد شىء. وإن لم يكن فى ولد الصلب ذكر وكان فى ولد الولد بُدئ بالبنات الذين للصلب فأعطين إلى مبلغ الثلثين، ثم أعطى الثلث الباقى لولد الولد إذا استووا فى القعدد أو كان الذكر أسفل ممن فوقه من بنات البنين: (للذكر مثل حظ الأنثيين) [النساء: 11] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 335 وفرض الله للبنت الواحدة النصف، وفرض لما فوق الاثنين من البنات الثلثين. قال إسماعيل بن إسحاق: ولم يذكر الاثنتين فى كتابه، فكان فى قوله تعالى: (للذكر مثل حظ الأنثيين) [النساء: 11] دليل على أنه إذا كان ذكرًا وأنثى أن للذكر الثلثين وللأنثى الثلث، فإذا وجب لها مع الذكر الثلث كان الثلث لها مع الأنثى أوكد، فاحتيج والله أعلم إلى ذكر ما فوق الاثنتين ولم يحتج إلى ذكر الاثنتين. وقوله تعالى: (ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث) [النساء: 11] فإنما يعنى بقوله: (ولأبويه (أبوى الميت لكل واحد منهما السدس سواء فيه الوالد والوالدة لا يزاد واحد منهما على السدس إن كان له ولد، ذكرًا كان الولد أو أنثى، واحدًا كان أو جماعة. فإن قيل: فيجب أن لا يزاد الوالد مع الابنة الواحدة على السدس شيئًا، وإن قلت هذا فهو خلاف الأمة لتصييرهم بقية مال الميت وهو النصف بعد أخذ الابنة نصيبها للأب. قيل: ليس الأمر كما ظننت وما زيد الأب على السدس من بقية النصف مع البنت الواحدة فإنما زيد بالتعصيب؛ لأنه أقرب عصبة الميت إليه، وكان حكم ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة الميت وأقربهم إليه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 336 لسنة النبى (صلى الله عليه وسلم) وكان الأب أقرب عصبته إليه وأولاها به إذا لم يترك ابنًا ذكرًا. وقال إسماعيل بن إسحاق: ذكرت فريضة الأبوين فى القرآن إذا كان للميت ولد أو إخوة وإذا لم يكن له ولد، ولم تذكر فريضتهما إذا كان للميت زوج أو زوجة فاحتيج فى هذا الموضع إلى النظر والاعتبار، فكان وجه النظر يدل أنه يبدأ بالزوج والزوجة فيعطى كل واحد منهما فرضه المنصوص له فى القرآن وهو النصف إذا لم يكن للميتة ولد أو ولد ولد والربع للزوجة إذا لم يكن للميت ولد أو ولد ولد فيبدأ بفرض كل واحدٍ منهما على الأبوين؛ لأن الأبوين لم يُسم لهما فى هذا الموضع فرض منصوص، وإنما المنصوص لهما إذا كان مع الميت ولد أو إخوة وإذا ورثاه هما، فلما حدث معهما الزوج أو الزوجة زال الفرض المنصوص لهما، ووجب أن يبدأ بالفرض المنصوص للزوج أو الزوجة ثم ينظر إلى ما بقى؛ لأن النقيصة لما دخلت عليهما من قبل الزوج أو الزوجة وجب أن تكون داخلة عليهما على قدر حصصهما. وقوله تعالى: (فإن كان له إخوة فلأمه السدس) [النساء: 11] ، قال مالك: مضت السنة أن الإخوة اثنان فصاعدًا وعلى هذا جماعة أهل العلم. وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (الاثنان فما فوقهما جماعة) وقد جاء فى لفظ القرآن لفظ الجمع للاثنين قال تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) [التحريم: 4] . وأجمع العلماء أن الرجل إذا توفى وترك ابنتيه أو أختيه لأبيه فلهما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 337 الثلثان، فإن ترك من البنات والأخوات أكثر من اثنتين لم يزدن على الثلثين فى ذلك حال الاثنتين فأكثر منهما، فدل أن الاثنين فى معنى الجماعة؛ لأن الجمع إنما سمى جمعًا؛ لأنه جمع شىء إلى شىء فإذا جمع إنسان إلى إنسان فقد جمع. دليل آخر، قوله عز وجل: (وإن كانوا إخوة رجالا ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين) [النساء: 176] وقد أجمعت الأمة أن الأخ الواحد مع الأخت الواحدة للذكر مثل حظ الأنثيين فقد دخلا فى لفظ الجماعة بنص القرآن. وشذ ابن عباس فقال: الإخوة الذين عنى الله بقوله: (فإن كان له إخوة) [النساء: 176] ثلاثة فصاعدًا وكان ينكر أن يحجب الله تعالى الأم عن الثلث مع الأب بأقل من ثلاثة إخوة، فكان يقول فى أبوين وأخوين للأم الثلث وللأب ما بقى كما قال أهل العلم فى أبوين وأخ واحد. وقول جملة أهل العلم فى أبوين وأخوين للأم السدس وباقى المال للأب، ولا يوجد فى جميع الفرائض على مذهب زيد بن ثابت مسألة يحجب فيها من لا يرث غير هذه. واختلف العلماء لم نقصت الأم عن الثلث بمصير إخوة الميت معها اثنين فصاعدًا؟ فقالت طائفة: نقصت الأم وزيد الأب؛ لأن على الأب مؤنتهم وإنكاحهم دون أمهم، روى ذلك عن قتادة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 338 وقالت طائفة: إنما حجب الإخوة الأم عن الثلث إلى السدس ليكون لهم دون أبيهم؛ رواه طاوس عن ابن عباس. قال الطبرى: وأولى الأقوال بالصواب أن يقال: إن الله تعالى إنما فرض للأم مع الإخوة السدس لما هو أعلم به من مصلحة خلقه، وقد يجوز أن يكون لما ألزم الآباء لأولادهم وقد يجوز لغير ذلك، وليس ذلك مما كُلفنا عمله، وإنما أُلزمنا العمل بما علمنا، وما رواه طاوس عن ابن عباس مخالف للأمة؛ لأنه لا خلاف بين الجميع أنه لا ميراث لأخ الميت مع والده فبان فساده. وقوله تعالى: (من بعد وصية يوصى بها أو دين) [النساء: 11] تأويل الكلام لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد من بعد وصية يوصى بها أو دين يقضى عنه. وأجمع العلماء على أنه لا ميراث لأحد إلا بعد قضاء الدين ولو أحاط الدين بماله كله، وإن أهل الوصايا بعد قضاء الدين شركاء الورثة فيما بقى ما لم يجاوز ذلك الثلث. وقد روى سفيان عن أبى إسحاق، عن الحارث الأعور، عن على بن أبى طالب، رضى الله عنه، قال: (إنكم تقرءون هذه الآية: (من بعد وصية يوصى بها أو دين) [النساء: 11] وإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قضى بالدين قبل الوصية) . قال إسماعيل: وفهم بالسُنة التى مضت والمعنى أن الدين قبل الوصية؛ لأن الوصية تطوع وأما الدين فرض عليه فعلم أن الفرض أولى من التطوع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 339 وقوله تعالى: (آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا) [النساء: 11] يعنى آباؤكم وأبناؤكم الذين أوصاكم الله تعالى بقسمة الميراث بينهم فأعطوهم حقوقهم لأنكم لا تدرون أيهم أقرب لكم فى الدين والدنيا الولد أو الوالد. وقوله تعالى: (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس وإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء فى الثلث) [النساء: 12] . قال إسماعيل بن إسحاق: لم يختلف العلماء فى قوله تعالى: (وله أخ أو أخت (أنهم الإخوة للأم. وقال تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم فى الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك (إلى) الأنثيين) [النساء: 176] . فلم يختلف العلماء فى أن هؤلاء الإخوة للأب كانت أمهم واحدة أو كانت أمهاتهم شتى، والدليل من القرآن على إبانة هؤلاء من أولئك قوله تعالى فى هؤلاء: (للذكر مثل حظ الأنثيين) [النساء: 11] إذا كانوا يأخذون بالأب وجعل لهم المال كله فى بعض الحالات، وقال فى الآخرين: فهم شركاء فى الثلث؛ فجعل الذكر والأنثى سواء إذا كانوا يأخذون بالأم خاصة فقصرهم على الثلث. قال مالك: والأمر المجمع عليه عندنا أن الإخوة للأم لا يرثون مع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 340 الولد ولا مع ولد الابن ذكرًا كان أو أنثى شيئًا، ولا مع الأب ولا مع الجد أب الأب شيئًا، ويرثون فيما سوى ذلك للواحد منهم السدس على ما تقدم ذكره. قال إسماعيل: وليس فى قوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد) [النساء: 12] ، وقوله: (ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد) [النساء: 12] شىء يحتاج إلى كلامه فيه إلا ما روى عن ابن عباس فى عول الفرائض أنه كان لا يقبل فريضة، ولا نعلم أحدًا من الصحابة وافق عليه وكان ينكر أن يكون جُعل فى مال نصف ونصف وثلث، وكان يرى فى مثل هذا إذا وقع أن يُعطى أولا أصحاب الفرائض ومن يزول فى حال من الحالات ويعطى الآخر ما بقى. مثال ذلك: لو توفيت امرأة وتركت زوجها وأمها وأختها لأبيها. كان يبدأ بالزوج والأم فيعطى كل واحد منهما فريضته لأنهما لا يزولان من فرض إلا إلى فرض؛ لأن الزوج إذا زال عن النصف رجع إلى الربع، وإذا زالت الأم عن الثلث رجعت إلى السدس، والأخت تزول من فرض إلى غير فرض فلا تعطى فى بعض الأحوال شيئًا فكان هذا كما وصفنا. وأما الآخرون فأشركوا بين أصحاب الفرائض كلهم وخاضوا بينهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 341 وهو الذى أجمع عليه أهل العلم؛ لأن كل واحد منهم قد فرض له فريضة، فليس يجب أن يزيله عن فريضته إلا من يحجبه عنها، وليس يجب أن يزال عن فريضته بأنها تسقط فى موضع آخر وليس يجب أن تبدى أم ولا زوج عن أخت بأنها تسقط فريضتها فى موضع آخر؛ لأن لكل واحد حكمه على جهته فلما اجتمعت الأخت والزوج والأم فى هذا الموضع وقد سمى لكل واحد منهم فريضة ولم يشترط تبدية بعضهم على بعض ولا أن بعضهم يحجب بعضًا. كان أولى الأمور أن يتحاصصوا ولو أن رجلا أوصى بنصف ماله لرجل وبنصف ماله لآخر وبثلث ماله لآخر فأجاز الورثة ذلك وجب أن يتحاصروا فى مال الميت فيضرب صاحب النصف بثلاثة أسهم، وصاحب النصف الآخر بثلاثة أسهم، وصاحب الثلث بسهمين، فإن لم يجز الورثة ذلك تحاصوا فى الثلث على هذه السهام. قال المهلب: وفى حديث جابر دليل أنه لا يجوز لأحد أن يقضى بالاجتهاد فى مسألة ما دام يجد سبيلا إلى النصوص، وكيف وجه استعمالها، ولو جاز أن يجتهد فى محضر النبى (صلى الله عليه وسلم) دون أن يشاوره لما قال له: كيف أصنع فى مالى، وكذلك لو جاز للنبى أن يجتهد رأيه فيما لم ينزل عليه فيه قرآن لأمره بما ظهر له، ولكن سكت عنه حتى يلقى الأمر من عند شارعه تعالى فهذا من أقوى شىء فى سؤال العلماء وترك الاجتهاد فى موضع يجب فيه الاقتداء بمن تقدم وبالأعلم فالأعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 342 - باب تَعْلِيمِ الْفَرَائِضِ وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: تَعَلَّمُوا قَبْلَ الظَّانِّينَ، يَعْنِى الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِالظَّنِّ. / 2 - فيه: أَبو هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ) . قال المهلب: فهذا الظن الذى أراد عقبة ليس هو الاجتهاد على الأصول وإنما هو الظن المنهى عنه فى الكتاب والسنة مثل ما سبق إلى المسئول من غير أن يعلم أصل ما سئل عنه فى كتاب الله أو سنة نبيه (صلى الله عليه وسلم) أو أقوال أئمة الدين. وأما إذا قال وهو قد علم الأصل من هذه الثلاثة فليس بظان وإنما هو مجتهد، والاجتهاد سائغ على الأصول. 3 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : لا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ / 3 - فيه: عَائِشَةَ (أَنَّ فَاطِمَةَ وَالْعَبَّاسَ أَتَيَا إِلى أَبَا بَكْرٍ يَلْتَمِسَانِ مِيرَاثَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُمَا حِينَئِذٍ يَطْلُبَانِ أَرْضَيْهِمَا مِنْ فَدَكَ، وَسَهْمَهُمَا مِنْ خَيْبَرَ، فَقَالَ لَهُمَا أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ) ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لا أَدَعُ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَصْنَعُهُ، فِيهِ إِلا صَنَعْتُهُ، قَالَ: فَهَجَرَتْهُ فَاطِمَةُ، فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى مَاتَتْ) . وذكر الحديث بطوله. / 4 - وفيه: أَبو هُرَيْرَة قال النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَقْسِم وَرَثَتِى دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِى وَمَئُونَةِ عَامِلِى، فَهُوَ صَدَقَةٌ) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 343 قال المؤلف: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا نورث ما تركنا صدقة) هو فى معنى قوله: (إن آل محمد لا تحل لهم الصدقة) ووجه ذلك والله أعلم أن لما بعثه الله إلى عباده، ووعده على التبليغ لدينه والصدع بأمره الجنة، وأمره ألا يأخذ منهم على ذلك أجرًا ولا شيئًا من متاع الدنيا بقوله تعالى: (قل ما أسألكم عليه من أجر) [الفرقان: 57] وكذلك سائر الرسل فى كتاب الله كلهم تقول: لا أسألكم عليه مالا ولا أجرًا إن أجرى إلا على الله. وهو الجنة. أراد (صلى الله عليه وسلم) ألا يُنسب إليه من متاع الدنيا شىء يكون عند الناس فى معنى الأجر والثمن. فلم يحل له شىء منها؛ لأن ما وصل إلى المرء وأهله فهو واصل إليه، فلذلك والله أعلم حرم الميراث على أهله لئلا يظن به أنه جمع المال لورثته، كما حرمهم الصدقات الجارية على يديه فى الدنيا لئلا يُنسب إلى ما تبرأ منه فى الدنيا، وفى هذا وجوب قطع الذريعة. وقد روى ابن عيينة، عن أبى الزناد، عن الأعرج، عن أبى هريرة أن الرسول قال: (إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة) . فهذا عام فى جميع الأنبياء وظاهر هذا يعارض قوله تعالى: (وورث سليمان داود) [النمل: 16] قيل: لا معارضة بينهما بحمد الله؛ لأن أهل التأويل قالوا: ورث منه النبوة والعلم والحكمة. وكذلك قالوا فى تأويل قوله تعالى: (وإنى خفت الموالى من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 344 ورائى) [مريم: 5] الآية فدعا زكريا الله أن يهب له ولدًا يرث النبوة والعلم؛ لأن ذلك إذا صار إلى ولده لحقه من الفضل أكثر مما يلحقه إذا صار ذلك لغير ولده لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده) فرغب زكريا أن يرث علمه ولده الذى يخرج من صلبه، فيكون تقدير الآية على هذا: وإنى خفت الموالى من ورائى هم بنو العم والعصبة، أن يصير إليهم العلم والحكمة من بعدى، ومصير ذلك إلى ولدى أحب إلىّ، فأضمر ذلك. وقال أبو على الفسوى فى قوله تعالى: (وإنى خفت الموالى من ورائى) [مريم: 5] فإن الخوف لا يكون من الأعيان وإنما يكون مما يئول منها، فإذا قال القائل: خفت الله وخفت الناس فالمعنى فى ذلك خفت عقاب الله ومؤاخذته، وخفت ملامة الناس، فكذلك قوله تعالى: (خفت الموالى (أى خفت بنى عمى فحذف المضاف والمعنى: خفت تضييعهم الدين وكيدهم إياه، فسأل ربه وليا يرث نبوته وعلمه لئلا يضيع الدين. ويقوى ذلك ما روى عن الحسن البصرى أنه قال: (يرثنى (يعنى: يرث نبوتى. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة) ، يدل على أن الذى سأل ربه أن يرث ولده النبوة لا المال، ولا يجوز على النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يقول أخاف يرثنى بنو عمى وعصبتى ما فرض الله لهم من مالى، وكان الذى حملهم على ذلك ما شاهدوه من تبديلهم الدين وقتلهم الأنبياء، وقد تقدم سائر معانى هذه الأخبار فى كتاب الخمس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 345 4 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) مَنْ تَرَكَ مَالا فَلأهْلِهِ / 5 - فيه: أَبو هُرَيْرَة، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً، فَعَلَيْنَا قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالا فَلِوَرَثَتِهِ) . أجمعت الأمة أن من ترك مالا فهو لورثته، واختلفوا فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من مات وعليه دين فعلىّ قضاؤه) . قال المهلب: هذا إنما هو على الوعد من النبى (صلى الله عليه وسلم) لما كان وعده الله به من الفتوحات من ملك كسرى وقيصر، وليس على الضمان والحمالة بدليل تأخره عن الصلاة على من مات وعليه دين حتى ضمنه من حضره. وقال غيره: هذا الحديث ناسخ لتركه الصلاة على من مات وعليه دين، وقوله: (فعلىَّ قضاؤه) على الضمان اللازم، وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب الكفالة. 5 - باب مِيرَاثِ الْوَلَدِ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: إِذَا تَرَكَ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ بِنْتًا فَلَهَا النِّصْفُ، وَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ بُدِئَ بِمَنْ شَرِكَهُمْ، فَيُعْطَى فَرِيضَتَهُ، فَمَا بَقِىَ فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ. / 6 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِىَ فَهُوَ لأوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ) . أما قول زيد: إذا ترك بنتًا فلها النصف فإجماع من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 346 العلماء، إلا من يقول بالرد. وقوله: وإن كانتا اثنتين أو أكثر. فإجماع أيضًا إلا من يقول بالرد. وقوله: إن كان معهن ذكر. يريد إن كان مع البنات ابن المتوفى ذكر أخ لهن، وكان معهم غيرهم ممن له فرض مسمى ولذلك قال شركهم ولم يقل شركهن؛ لأنه أراد الابن والبنات، مثال ذلك: رجل توفى عن بنات وابن وزوج وأب أو جد إن لم يكن أبًا أو جده فإن هؤلاء يعطون فرائضهم؛ لأنه لا يحجب واحد منهم بالبنين، ويكون ما بقى بين البنات والابن للذكر مثل حظ الأنثيين، فهذا تفسير هذا الباب، وهو تأويل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ألحقوا الفرائض بأهلها) أى أعطوا كل ذى فرض فرضه وما بقى فلمن لا فرض له؛ لأنهم عصبة والبنات مع أخيهن لا فرض لهن معه، وهن معه عصبة من أجله. وأما قوله: (فلأولى رجل ذكر) يريد إذا كان فى الذكور من هو أولى من صاحبه بقرب أو ببطن، وأما إن استووا فى القعدد وأدلوا بالآباء والأمهات معًا كالإخوة وشبههم فلم يقصدوا بهذا الحديث؛ لأنه ليس فى البنين من هو أولى من غيره؛ لأنهم قد استووا فى المنزلة ولا يجوز أن يقال أولى وهم سواء فلم يرد البنين بهذا الحديث وإنما أريد غيرهم على ما يأتى إن شاء الله. وقوله: يبدأ بمن شركهم. إنما يصح هذا إذا لم تضق الفريضة، وأما إذا ضاقت فلا يبدأ بأحدٍ قبل صاحبه؛ لأن العول يعمهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 347 6 - باب مِيرَاثِ الْبَنَاتِ / 7 - فيه: سَعْد، قَالَ: مَرِضْتُ بِمَكَّةَ مَرَضًا، أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ، فَأَتَانِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَعُودُنِى، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِى مَالا كَثِيرًا، وَلَيْسَ يَرِثُنِى إِلا ابْنَتِى، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَىْ مَالِى؟ قَالَ: لا. . . الحديث. / 8 - وفيه: الأسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، أَتَانَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بِالْيَمَنِ مُعَلِّمًا، وَأَمِيرًا، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّىَ وَتَرَكَ ابْنَتَهُ وَأُخْتَهُ، فَأَعْطَى الابْنَةَ النِّصْفَ، وَالأخْتَ النِّصْفَ. أجمع العلماء أن ميراث الابنة النصف لقوله تعالى: (وإن كانت واحدة فلها النصف) [النساء: 11] . وأجمعوا أن للأخت النصف لقوله تعالى: (إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) [النساء: 176] فجعلها كالابنة. فإن قيل: إن الله تعالى نص على الأختين أن لهما الثلثين بقوله تعالى: (فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك) [النساء: 11] ولم ينص على الابنتين، إنما ذكر أكثر من اثنتين. قيل: لما أعطى الله للابنة النصف وللأخت النصف، ونص على الأختين أن لهما الثلثين فاستغنى بذكر الأختين عن ذكر البنتين؛ لأنه لما كانت الواحدة كالبنت كانت البنتان كالأختين بل البنتان أحرى بذلك لقربهما، وأن البنات يقدمن على الأخوات فى مواضع شتى فاستحال أن تكون الأختان أكثر ميراثًا من البنتين. وأما قول سعد: إنه لا يرثنى إلا ابنة لى. كأنه أراد أن يعطى من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 348 ماله ما فضل عن ميراث ابنته فأعلمه (صلى الله عليه وسلم) أنه لا يجوز لمعطٍ أن يعطى من ماله بعد موته أكثر من ثلثه كان له من يحيط بماله أم لا. وهذه حجة لزيد بن ثابت فى قوله: إن بيت المال عصبة من لا عصبة له. وهو قول مالك والشافعى، وهو خلاف مذهب أهل الرد. وأمَّا قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنك إن تذر ورثتك أغنياء) بعد قول سعد: إنه لا يرثنى إلا ابنة لى، فدل فحوى قوله أن سعدًا لا يموت حتى يكون له ورثة جماعة، وأنه لا يموت من علته تلك، فكان كما دل عليه فحوى خطابه (صلى الله عليه وسلم) ولم يمت سعد إلا عن بنين عدة، كلهم وُلِدَ بعد ذلك المرض، وهذا من أعلام نبوته (صلى الله عليه وسلم) . 7 - باب مِيرَاثِ ابْنِ الابْنِ، إِذَا لَمْ يَكُنِ لَهُ ابْنٌ وَقَالَ زَيْدٌ: وَلَدُ الأبْنَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهُمْ وَلَدٌ، ذَكَرُهُمْ كَذَكَرِهِمْ، وَأُنْثَاهُمْ كَأُنْثَاهُمْ، يَرِثُونَ كَمَا يَرِثُونَ، وَيَحْجُبُونَ كَمَا يَحْجُبُونَ، وَلا يَرِثُ وَلَدُ الابْنِ مَعَ الابْنِ. / 9 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، قَالَ: (صلى الله عليه وسلم) : (أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِىَ فَهُوَ لأوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ) . قول زيد هذا إجماع، وأما قوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها) فإنه يريد إذا توفيت امرأة عن زوج وأب وبنت وابن ابن وبنت ابن فإن الفرائض هاهنا أن يبدأ الزوج بالربع، وللأب السدس، وللبنت النصف وما بقى فلابن الابن مع بنات الابن إن كن معه فى درجة واحدة أو كان أسفل منهن، فإن كن أسفل منه فالباقى له دونهن، وهذا قول مالك والشافعى وأكثر الفقهاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 349 ومنهم من يقول: الباقى لابن الابن دون بنات الابن وسواء كن معه فى قُعدد واحد أو أرفع منه لا شىء لهن لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فما بقى فلأولى رجل ذكر) على ظاهر هذا الحديث. وقيل: يرد على من معه ولا يرد على من فوقه. وأماحجة زيد ومن ذهب مذهبه ممن يقول لأولى رجل ذكر مع إخوته فظاهر قول الله تعالى: (يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) [النساء: 11] وأجمعوا أن بنى البنين عند عدم البنين إذا استووا فى القعدد ذكرهم كذكرهم وأنثاهم كأنثاهم. وكذلك إذا اختلفوا فى القعدد لا يضرهم؛ لأنهم كلهم بنو بنين يقع عليهم اسم أولاد، فالمال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين إلا ما أجمعوا عليه من الأعلى من بنى البنين الذكور يحجب من تحته من ذكر وأنثى. 8 - باب مِيرَاثِ ابْنَةِ الابْنِ مَعَ الابنة / 10 - فيه: أَبُو مُوسَى أنه سُئِلَ عَنْ ابنة، وَابْنَةِ ابْنٍ، وَأُخْتٍ، فَقَالَ: لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلأخْتِ النِّصْفُ، وَأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ فَسَيُتَابِعُنِى، فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأُخْبِرَ بِقَوْلِ أَبِى مُوسَى، فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، أَقْضِى فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : لِلابْنَةِ النِّصْفُ، وَلابْنَةِ الاْبَنٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِىَ فَلِلأخْتِ، فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى، فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: لا تَسْأَلُونِى مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ فِيكُمْ. لا خلاف بين الفقهاء وأهل الفرائض فى ميراث ابنة الابن مع الابنة، فأبو موسى قد رجع إذ خُصم بالسنة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 350 وفيه: أن العالم قد يقول فيما يسأل عنه وإن لم يحط بالسنن ولو لم يقل العالم حتى يحيط بالسنن ما تكلم أحد فى الفقه. وفيه: أن الحجة عند التنازع إلى سنة النبى (صلى الله عليه وسلم) وأنه ينبغى للعالم الانقياد إليها، وأن صاحبها حبر ألا ترى شهادة أبى موسى لابن مسعود لما خصمه بالسنة أنه حبر. وفيه: ما كانوا عليه من الإنصاف والاعتراف بالحق لأهله وشهادة بعضهم لبعض بالعلم والفضل. 9 - باب مِيرَاثِ الْجَدِّ مَعَ الأبِ وَالإخْوَةِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: الْجَدُّ أَبٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (يَا بَنِى آدَمَ) [الأعراف: 26] ،) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) [يوسف: 38] . وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ أَحَدًا خَالَفَ أَبَا بَكْرٍ فِى زَمَانِهِ، وَأَصْحَابُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) مُتَوَافِرُونَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَرِثُنِى ابْنُ ابْنِى دُونَ إِخْوَتِى، وَلا أَرِثُ أَنَا ابْنَ ابْنِى دُونَ إِخْوَتِهِ. وَيُذْكَرُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِىٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدٍ أَقَاوِيلُ مُخْتَلِفَةٌ. / 11 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِىَ فَلأوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ) . / 12 - وفيه: ابْنِ عَبَّاس، قَالَ: (أَمَّا الَّذِى قَالَ النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ خَلِيلا لاتَّخَذْتُهُ، وَلَكِنْ خُلَّةُ الإسْلامِ أَفْضَلُ) ، أَوْ قَالَ: (خَيْرٌ) ، فَإِنَّهُ أَنْزَلَهُ أَبًا، أَوْ قَضَاهُ أَبًا) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 351 أجمع العلماء على أن الجد لا يرث مع الأب، وأن الأب يحجبُ أباه، واختلفوا فى ميراث الجد مع الإخوة للأب والأم أو للأب، فكان أبو بكر الصديق وابن عباس وابن الزبير وعائشة ومُعاذ ابن جبل وأبى بن كعب وأبو الدرداء وأبو هريرة يقولون: الجد أب عند عدم الأب كالأب سواء يحجبون به الإخوة كلهم، ولا يورثون مع الجد أحدًا من الإخوة شيئًا، وقاله عطاء وطاوس والحسن وإليه ذهب أبو حنيفة وأبو ثور وإسحاق. وذهب على بن أبى طالب وزيد بن ثابت وابن مسعود إلى توريث الإخوة مع الجد إلا أنهم اختلفوا فى كيفية ميراثهم معه كان معهم ذو فرض مسمى أم لا. فذهب زيد إلى أنه لا ينقص الجد مع الثلث مع الإخوة للأب والأم أو للأب إلا مع ذوى الفروض، فإنه لا ينقصه معهم من السدس شيئًا، وهذا قول مالك والثورى والأوزاعى وأبى يوسف ومحمد والشافعى. وقد روى عن ابن مسعود مثل قول على، وكان على يشرك بين الجد والإخوة ولا ينقصه من السدس شيئًا مع ذوى الفروض وغيرهم وهو قول ابن أبى ليلى وطائفة. واختلف عن ابن مسعود فروى عنه مثل قول زيد. والحجة لقول الصديق قوله تعالى: (ملة أبيكم إبراهيم) [الحج: 78] فسماه أبًا وهو الجد، وقال تعالى: (واتبعت ملة آبائى إبراهيم وإسحاق) [يوسف: 38] فسماهما آباء وهم جدود له. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 352 وقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أنا ابن عبد المطلب) وإنما هو ابن ابنه، وأجمع العلماء أن حكم الجد حكم الأب فى غير موضع، من ذلك إجماعهم أن الجد يحجب الإخوة من الأم كما حجبهم الأب. فالقياس أن يحجب الإخوة للأب والأم إذا كان أبًا كما حجب الإخوة للأم. وأجمعوا أن الجد يضرب مع أصحاب الفرائض بالسدس كما يضرب الأب، وإن عالت الفريضة، وللأب مع ابن الابن السدس، وكذلك للجد معه مثل ما للأب. وقال تعالى: (ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد) [النساء: 11] ومن المحال أن يكون له ولد ولا يكون له والدًا. واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (وما بقى فهو لأولى رجل ذكر) لأن رجلا لو توفى وترك بنتًا أو ابنتين وجَدا وإخوة فألحقنا البنت أو البنتين بفرائضهن وكان ما بقى للجد وهو أولى رجل ذكر بقى. واحتج من ورَّث الأخ مع الجد بهذا الحديث، وأيضًا فقالوا: الأخ أولى؛ لأنه أقرب إلى الميت بدليل أنه ينفرد بالولاء لقربه، وأيضًا فإن الأخ يقول أنا أقوى من الجد؛ لأنى أقوم مقام الولد فى حجب الأم من الثلث إلى السدس، وليس كذلك الجد فوجب ألا يحجبنى كما لا يحجب الولد، والجد إنما يُدلى بالميت وهو أبو أبيه، والأخ يدلى بالميت وهو ابن أبيه، والابن من جهة المواريث أقوى من الأب؛ لأن الابن ينفرد بالمال ويرده إلى السدس، والأب لا يفعل ذلك بالابن، فكان من أدلى بالأقوى أولى ممن أدلى بالأضعف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 353 - باب مِيرَاثِ الزَّوْجِ مَعَ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ / 13 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، قَالَ: كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلأبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ، وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ. قال المؤلف: هذا إجماع لا خلاف فيه أن للزوج إذا لم يكن للزوجة ولد منه ولا من غيره النصف، فإن كان لها ولد منه أو من غيره فالربع فرضه لا ينقص منه، وكذلك ميراث الزوجة من زوجها إذا لم يكن له ولد منها أو من غيرها الربع، فإن كان له ولد فلها الثمن. - باب مِيرَاثِ الْمَرْأَةِ وَالزَّوْجِ مَعَ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ / 14 - فيه: أَبُو هُرَيْرَة، قَالَ: قَضَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فِى جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِى لَحْيَانَ سَقَطَ مَيِّتًا بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِى قَضَى لَهَا بِالْغُرَّةِ، تُوُفِّيَتْ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا. قال المؤلف: ليس فيه أكثر من أن الزوج يرث مع البنين وأن البنين يرثون مع الزوج وهذا لا خلاف فيه، وليس فيه مقدار ميراث الزوج والمرأة مع الولد وذلك معلوم بنص القرآن فى قوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم) [النساء: 12] الآية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 354 - باب مِيرَاثُ الأخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ / 15 - فيه: الأسْوَدِ، قَالَ: قَضَى فِينَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بالنِّصْفِ لِلابْنَةِ وَالنِّصْفُ لِلأخْتِ. ثُمَّ قَالَ سُلَيْمَانُ: قَضَى فِينَا، وَلَمْ يَذْكُرْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . / 16 - وفيه: عَبْدُاللَّهِ، قَالَ: لأقْضِيَنَّ فِيهَا بِقَضَاءِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، أَوْ قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (للابْنَةِ النِّصْفُ، وَلابْنَةِ الابْنِ السُّدُسُ، وَمَا بَقِىَ فَلِلأخْتِ) . وفى حديث ابن مسعود بيان ما عليه جماعة العلماء إلا ما شذ فى أن الأخوات عصبة للبنات يرثون ما فضل عن البنات. مثال ذلك: رجل توفى عن ابنة وأخت فللابنة النصف، وللأخت ما بقى، وكذلك إن توفى عن بنتين كان لهما الثلثان وللأخت الثلث الباقى، وكذلك إن توفى عن بنت وبنت ابن وأخت، كان للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين؛ إذ لا يرث البنات وإن كثرن أكثر من الثلثين، وللأخت أو الأخوات وإن كثرن مابقى بعد البنات. هذا قول جماعة الصحابة غير ابن عباس فإنه كان يقول: إن للابنة النصف وليس للأخت شىء وما بقى فهو للعصبة، وكذلك ليس للأخت شىء مع البنت وبنت الابن، وما فضل عن البنت وبنت الابن لم يكن للأخت وكان للعصبة عند ابن عباس وإن لم يكن عصبة رد الفضل على البنت أو البنات، ولم يوافق ابن عباس أحد على مذهبه فى هذا الباب إلا أهل الظاهر فإنهم احتجوا بقوله تعالى: (إن امرؤ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 355 هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) [النساء: 176] فلم يورث الأخت إلا إذا لم يكن للميت ولد. قالوا: ومعلوم أن الابنة مع الولد فوجب ألا ترث الأخت مع وجودها كما لا ترث مع وجود الابن. وحجة الجماعة السنة الثابتة من حديث ابن مسعود، ولا مدخل للنظر مع وجود الخبر، فكيف وجماعة الصحابة يقولون بحديث ابن مسعود ولا حجة لأحد خالف السنة. وحجة الجماعة من جهة النظر أن شرط عدم الولد فى قوله تعالى: (إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت) [النساء: 176] إنما يجعل شرطًا فى فرضها الذى تقاسم به الورثة ولم يجعل فرضا فى توريثها، فإذا عدم الشرط سقط الفرض ولم يمنع ذلك أن ترث بمعنى آخر كما شرط فى ميراث الأخ لأخته عندعدم الولد لقوله: (وهو يرثها إن لم يكن لها ولد) [النساء: 176] جعل ذلك شرطًا فى ميراث الأخ لما جعله شرطًا فى ميراث الأخت. وقد أجمعت الجماعة أن الأخ يرثها مع البنت وإن كان الشرط معدومًا كما شرط فى ميراث الزوج النصف إذا لم يكن لها ولد ولم يمنع ذلك أن يأخذ النصف مع البنت بالفرض والنصف بالتعصيب إن كان عصبة لامرأته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 356 - باب مِيرَاثِ الإخْوَةِ والأخَوَاتِ / 17 - فيه: جَابِر، دَخَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَىَّ وَأَنَا مَرِيضٌ، فَدَعَا بِوَضُوءٍ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ نَضَحَ عَلَىَّ مِنْ وَضُوئِهِ، فَأَفَقْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا لِى أَخَوَاتٌ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ. ليس فى هذا الحديث أكثر من أن الأخوات يرثن. وأجمع العلماء أن الإخوة والأخوات من الأب والأم أو من الأب ذكورًا كانوا أو إناثًا لا يرثون مع ابن ولا مع ابن ابن وإن سفل ولا مع الأب. واختلفوا فى ميراث الأخوات مع الجد على ما ذكرناه فى باب ميراث الجد من اختلافهم فى ميراث الإخوة مع الجد. فمن ورثهن مع الجد جعل الجد أخًا وأعطاه مثل ما أعطى الأختين ومن لم يورثهن معه وجعله أبًا حجبهن به. وهو مذهب الصديق وابن عباس وجماعة، ويرثن فيما عدا الجد والأب والابن للواحدة النصف وللاثنتين فصاعدًا الثلثان إلا فى المشتركة وهى امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وأخوتها لأمها وإخوتها لأبيها وأمها فلزوجها النصف ولأمها السدس ولإخواتها لأمها الثلث فلم يفضل شىء، فشرك بنو الأب والأم مع بنى الأم فى الثلث) للذكر مثل حظ الأنثيين (من أجل أنهم كلهم إخوة المتوفى لأمه، وإنما ورثوا بالأم لقوله تعالى: (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء فى الثلث) [النساء: 12] فلذلك شركوا فى هذه الفريضة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 357 وقد اختلفت الصحابة فى هذه المسألة فروى عن عمر وعثمان وزيد أنهم قالوا بالتشريك وهو قول مالك والثورى والشافعى وإسحاق. وروى عن على وأبى بن كعب وابن مسعود وأبى موسى الأشعرى أنهم لا يشركون الأخ للأب والأم مع الإخوة للأم؛ لأنه عصبة وقد اغترقت الفرائض المال ولم يبق منه شىء وإلى هذا ذهب ابن أبى ليلى وطائفة من الكوفيين. - باب قوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلالَةِ) [النساء: 176] إلى آخر السورة (1) / 18 - فيه: الْبَرَاءِ، آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ خَاتِمَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلالَةِ (. اختلف العلماء فى معنى الكلالة، فقالت طائفة: هى من لا ولد له ولا والد، وهذا قول أبى بكر الصديق، وعمر، وعلى، وزيد، وابن مسعود، وابن عباس، وعليه أكثر التابعين وهو قول الفقهاء بالحجاز والعراق. وقالت طائفة: الكلالة من لا ولد له خاصة، روى هذا عن ابن عباس. وقال آخرون: الكلالة ما خلا الوالد رواه شعبة عن الحكم بن عتبة. وقال آخرون: الكلالة الميت بعينه سمى بذلك إذا ورثه غير والده وولده. وقال آخرون: الكلالة الذين يرثون الميت إذا لم يكن فيهم والد ولا ولد. وقال آخرون: الكلالة الحى والميت جميعًا. عن ابن زيد. واختار الجزء: 8 ¦ الصفحة: 358 الطبرى أنها ورثة الميت دون الميت، واحتج بحديث جابر أنه قال: (يا رسول الله، إنما يرثنى كلالة فكيف بالميراث؟) وبحديث سعد أنه قال: (يا رسول الله: ليس لى وارث إلا كلالة أفأوصى بمالى كله؟ فقال: لا) . وأجمع العلماء أن الإخوة المذكورين فى هذه الآية فى الكلالة هم الإخوة للأب والأم أو للأب عند عدم الذين للأب والأم لإعطائهم فيها الأخت النصف وللأختين فصاعدًا الثلثين وللإخوة الرجال والنساء للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأنه لا خلاف أن ميراث الإخوة للأم ليس هكذا وأنهم شركاء فى الثلث الذكر والأنثى فيه سواء. وإجماعهم فى الكلالة التى فى أول السورة أن الإخوة فيها للأم خاصة؛ لأن فريضة كل واحد منهما السدس، ولا خلاف أن ميراث الإخوة للأب والأم ليس كذلك. - باب ابْنَىْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِلأمِّ وَالآخَرُ زَوْجٌ قَالَ عَلِىٌّ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلأخِ مِنَ الأمِّ السُّدُسُ، وَمَا بَقِىَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. / 19 - فيه: أَبُو هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالا، فَمَالُهُ لِمَوَالِى الْعَصَبَةِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلا أَوْ ضَيَاعًا، فَأَنَا وَلِيُّهُ، فَلأدْعَى لَهُ) الْكَلُّ: الْعِيَالُ. / 20 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا تَرَكَتِ الْفَرَائِضُ، فَلأوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ) . مثال هذه المسألة امرأة لها ابنا عم أحدهما أخوها لأمها والثانى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 359 زوجها. اختلف العلماء فيها كقول على بن أبى طالب زيد بن ثابت وهو قول المدنيين والثورى وأحمد وإسحاق. وقال عمر وابن مسعود: جميع المال للذى جمع القرابتين لأنهما قالا فى ابنى عم أحدهما أخ أم أن الأخ للأم أحق بالمال له السدس بالفرض وباقى المال بالتعصيب، وهو قول الحسن البصرى وإليه ذهب أبو ثور وأهل الظاهر، واحتجوا بالإجماع فى أخوين أحدهما لأب وأم والآخر لأب أن المال للأخ للأب والأم؛ لأنه أقرب بأم فكذلك ابنا عم إذا كان أحدهما أخا لأم فالمال له قياسًا على ما أجمعوا عليه من الأخوين. عن ابن المنذر. وحجة أهل المقالة الأولى أن أحدهما ينفرد بكونه أخًا لأم فوجب أن يأخذ نصيبه ثم يساوى بينه وبين من يشاركه فى قرابته ويساويه فى درجته. وإلى هذا ذهب البخارى واستدل عليه بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فماله لموالى العصبة) وهم بنو العم. وكذلك قال أهل التأويل فى قوله تعالى: (وإنى خفت الموالى من ورائى) [مريم: 5] أنهم بنو العم فسوى بينهم (صلى الله عليه وسلم) فى الميراث ولم يجعل بعضهم أولى من بعض، وكذلك قوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها) أى أعطوا الزوج فريضته (وما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 360 ولما لم يكن الزوج أولى من ابن عمه الذى هو أخ الأم أو هو فى قعدده اقتسما ما بقى؛ لأنه ليس بأولى منه فينفرد بالمال. فإن احتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فما أبقت الفرائض فهو لأولى رجل ذكر) فهو دليلنا والباقى بعد السدس قد استوى بعصبتهما فيه إذ وجد فى كل واحد منهما الذكورية والتعصيب، وقد أجمعوا فى ثلاثة إخوة للأم أحدهم ابن عم أن للثلاثة الإخوة الثلث، والباقى لابن العم ومعلوم أن ابن العم قد اجتمعت فيه القرابتان. وقوله: (فللأدعى له) إعرابها: فللأدع له؛ لأنها لام الأمر والأغلب من أمرها إذا اتصل بها واو أو فاء الإسكان، ويجوز كسرها وهو الأصل فى لام الأمر أن تكون مكسورة كقوله تعالى: (وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق) [الحج: 29] بكسر اللام وإسكانها وثبات الألف بعد العين فى موضع الجزم والوقف يجوز تشبيهًا لها بالياء والواو أحدهما كما قال: ألم يأتيك والأنباء تنمى وكما قال: لم يهجو ولم يدع وقال فى الألف: إذا العجوز عضبت فطلق ولا ترضاها ولا تملق وكما قال: وتضحك منى شيخة عبشمية كأن لم تر قبلى أسيرًا يمانيًا وكان القياس ترضها، ولم يرو معنى قوله (فلأدع) له أى فادعونى له حتى أقوم بكلِّه وضياعه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 361 - باب ذَوِى الأرْحَامِ / 21 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مما ترك الوالدن والأقربون وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النساء: 33] قَالَ: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الأنْصَارِىُّ الْمُهَاجِرِىَّ دُونَ ذَوِى رَحِمِهِ؛ لِلأخُوَّةِ الَّتِى آخَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ (، قَالَ نَسَخَتْهَا: (وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ (. قال المؤلف: هكذا وقع فى جميع النسخ فلما نزلت: (ولكل جعلنا موالى (نسختها) والذين عاقدت أيمانكم (والصواب أن المنسوخة) والذين عاقدت أيمانكم (وقد بين ذلك الطبرى فى روايته. قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا إدريس بن زيد، قال: حدثنا طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس فى قوله تعالى: (والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم (قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصارى المهاجرى دون ذوى رحمه للأخوة التى آخاها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بينهم فلما نزلت هذه الآية) ولكل جعلنا موالى (نسخت. فدلت هذه الرواية أن الآية الناسخة) ولكل جعلنا موالى (والمنسوخة) والذين عاقدت أيمانكم (. وروى عن جمهور السلف أن الآية الناسخة لقوله: (والذين عاقدت أيمانكم (قوله تعالى فى الأنفال: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله) [الأنفال: 75] روى هذا عن ابن عباس وقتادة والحسن البصرى وهو الذى أثبت أبو عبيد فى كتاب الناسخ والمنسوخ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 362 وفيها قول آخر روى الزهرى، عن سعيد بن المسيب قال: أمر الله الذين تبنوا غير أبنائهم فى الجاهلية وورثهم فى الإسلام أن يجعلوا لهم نصيبًا فى الوصية ورد الميراث إلى ذووى الرحم والعصبة. وقالت طائفة: قوله: (والذين عاقدت أيمانكم (محكمة وليست منسوخة، وإنما أمر الله المؤمنين أن يعطى الحلفاء أنصباءهم من النصرة والنصيحة وما أشبه ذلك دون الميراث، ذكره الطبرى عن ابن عباس) والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم (من النصر والنصيحة والرفادة ويوصى لهم وقد ذهب الميراث وهو قول مجاهد والسدى. وقد اختلف السلف ومن بعدهم فى توريث ذوى الأرحام وهم من لا سهم له فى الكتاب والسنة من قرابة الميت، وليس بعصبة كأولاد البنات وأولاد الأخوات، وأولاد الإخوة للأم، وبنات الأخ، والعمة، والخالة، وعمة الأب، والعم أخى الأب لأمه، والجد أبى الأم، والجدة أم أبى الأم، ومن أدلى بهم. فقالت طائفة: إذا لم يكن للميت وارث له فرض مسمى فماله لموالى العتاقة الذين أعتقوه، فإن لم يكن موالى عتاقه فماله لبيت مال المسلمين ولا يرث من لا فرض له من ذوى الأرحام، روى هذا عن أبى بكر الصديق وزيد بن ثابت وابن عمر، ورواية عن على وهو قول أهل المدينة والزهرى وأبى الزناد وربيعة ومالك، وروى عن مكحول والأوزاعى وبه قال الشافعى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 363 وكان عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس ومعاذ وأبو الدرداء يورثون ذوى الأرحام ولا يعطون الولاء مع الرحم شيئًا. واختلف فى ذلك عن على، وبتوريث ذوى الأرحام قال ابن أبى ليلى والنخعى وعطاء وجماعة من التابعين، وهو قول الكوفيين وأحمد وإسحاق. واحتجوا بقوله تعالى: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) [الأنفال: 75] وقالوا: قد اجتمع فى ذوى الأرحام سببان: القرابة والإسلام فهو أولى ممن له سبب واحد وهو الإسلام، وقاسوا ابنة الابن على الجدة التى وردت فيها السنة؛ لأن كل واحد يدلى بأبى وارثة. وحجة من لم يورث ذوى الأرحام أن الله قد نسخ الموارثة بالحلف والمؤاخاة والهجرة بقوله: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) [الأنفال: 75] . وإنما عنى بهذه الآية من ذوى الأرحام من ذكرهم فى كتابه من أهل الفرائض المسماة لا جميع ذوى الأرحام؛ لأن هذه الآية مجملة جامعة، والظاهر لكل ذى رحم قرب أم بعد، وآيات المواريث مفسرة والمفسر قاض على المجمل ومبين له فلا يرث من ذوى الأرحام إلا من ذكر الله فى آيات المواريث. قالوا: وقد جعل النبى (صلى الله عليه وسلم) الولاء نسبًا ثابتًا أقام الولاء مقام العصبة فقال: (الولاء لمن أعتق) ونهى عن بيع الولاء وهبته. وأجمعت الأمة أن الولى المعتق يعقل عن مولاهُ الجنايات التى تحملها العاقلة فأقاموه مقام العصبة، فثبت بذلك أن لحكم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 364 المولى حكم ابن العم والرجل من العشيرة فكان أحق بالميراث من ذوى الأرحام الذين ليسوا بعصبة ولا أصحاب فرائض؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من ترك مالا فلعصبته) . وأجمعوا أن ما فضل من المال عن أصحاب الفرائض فهو للعصبة وأن من لا سهم له فى كتاب الله من ذوى الأرحام لا ميراث له مع العصبة، ثم حكموا للمولى بحكم العصبة فثبت بذلك أن ما فضل أصحابه عن الفرائض يكون له؛ لأنه عصبة. وأجمعت الأمة أن الميت إذا ترك مولاه الذى أعتقه ولم يخلف ذا رحم أن الميراث له فأقاموه مقام العصبة فصار هذا أصلا متفقًا عليه. واختلفوا فى توريث من لا سهم له فى كتاب الله وليس بعصبة من ذوى الأرحام فيكتفى بما أجمع عليه أولى مما اختلف فيه. عن ابن المنذر. - باب مِيرَاثِ الْمُلاعَنَةِ / 22 - فيه: ابْنِ عُمَر: أَنَّ رَجُلا لاعَنَ امْرَأَتَهُ فِى زَمَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ. قال ابن المنذر: لما ألحق النبى (صلى الله عليه وسلم) ابن الملاعنة بأمه ونفاه عن أبيه ثبت ألا عصبة له ولا وارث من قبل أبيه. قال غيره: فإذا توفى ابن الملاعنة فلا يرثه إلا أمه وإخوته لأمه خاصة، فإن فضل من المال شىء كان لموالى أمه إن كانت معتقة لقوم، وكذلك لو كانت وحدها أخذت الثلث وما بقى لمواليها ولا يكون لبيت المال شىء، وإن كانت عربية فالفاضل لبيت مال المسلمين، هذا قول زيد بن ثابت، وبه قال سعيد بن المسيب والزهرى ومالك والأوزاعى والشافعى وأبو ثور. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 365 وروى عن على وابن مسعود أن ما بقى يكون لعصبة أمه إذا لم يخلف ذا رحم له سهم، فإن خلف ذا رحم له سهم جعل فاضل المال ردا عليه. وحكى أيضًا عن على أنه ورث ذوى الأرحام برحمهم ولا شىء لبيت المال، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، ومن قال سهمهم بالرد يرد الباقى على أمه. وجعل ابن مسعود عصبته أمه فإن لم تكن الأم فعصبتها هم عصبة ولدها، وإليه ذهب الثورى. وهذا الاختلاف إنما قام من قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وألحق الولد بالمرأة) لأنه لما ألحقه بها قطع نسبه من أبيه فصار كمن لا أب له من أولاد العى الذين لم يختلف أن المسلمين عصبتهم إذ لا تكون العصبة من قبل الأم، وإنما تكون من قبل الأب. ومن قال معنى قوله: (ألحق الولد بالمرأة) أى أقامها مقام أبيه فهؤلاء جعلوا عصبة أمه عصبة له وهو قول الثورى وأحمد بن حنبل. واحتجوا بالحديث الذى جاء أن الملاعنة بمنزلة أبيه وأمه، وليس فيه حجة؛ لأنها إنما هى بمنزلة أبيه وأمه فى تأديبه وما أشبه ذلك مما يتولاه أبوه فأما الميراث فلا؛ لأنهم أجمعوا أن ابن الملاعنة لو ترك أمه وأباه كان لأمه السدس ولأبيه ما بقى. فلو كانت بمنزلة أبيه وأمه فى الميراث لورثت سدسين سدسًا بالأبوة وسدسًا بالأمومة. وأبو حنيفة جعل الأم كالأب فرد عليها ما بقى؛ لأنها أقرب الأرحام إليه، وقول أهل المدينة أولى بالصواب؛ لأنه معلوم أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 366 العصبات من قبل الآباء ومن أدلى بمن لا تعصيب له لم يكن له تعصيب. - باب الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً / 23 - فيه: عَائِشَة، (كَانَ عُتْبَةُ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدٍ بْنِ أَبى وَقَاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّى، فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ، فَلَمَّا كَانَ عَامَ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: ابْنُ أَخِى، عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ، فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِى وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِى، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ أَخِى، قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ، فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِى وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِى، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: احْتَجِبِى مِنْهُ، لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِىَ اللَّهَ) . / 24 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الْوَلَدُ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ) . عند جمهور العلماء أن الحرة تكون فراشًا بإمكان الوطء ويلحق الولد فى مدة تلد فى مثلها وأقل ذلك ستة أشهر. وشذ أبو حنيفة فقال: إذا طلقها عقيب النكاح من غير إمكان وطء فأتت بولد لستة أشهر من وقت العقد لحق به، واحتج أصحابه بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الولد للفراش) وقالوا: هذا الاسم كناية عن الزوج. وقال جرير: باتت تعانقه وبات فراشها حلق العباءة فى الدماء قتيلا يعنى زوجها هكذا أنشده أبو على الفارسى، فإذا كان الفراش الزوج، فإنه يقتضى إذا تزوج امرأة وجاءت بولد لستة أشهر أن نسب الولد يثبت ولا معتبر بإمكان الوطء وإنما المعتبر وجود الفراش. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 367 والحجة للجمهور أن الفراش وإن كان يقع على الزوج فإنه يقع على الزوجة أيضًا؛ لأن كل واحد منهما فراش صاحبه حكى ابن الأعرابى أن الفراش عند العرب يعبر به عن الزوج وعن المرأة، وهى الفراش المعروف، فمن ادعى أن المراد به الرجل دون المرأة فعليه الدليل. والفراش فى هذا الحديث إنما هو كناية عن حالة الافتراش والمرأة مشبهة بالفراش؛ لأنها تفترش، فكأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أعلمنا أن الولد لهذه الحال التى فيها الافتراش فمتى لم يمكن حصول هذه الحال لم يلحق الولد، فمعنى قوله: (الولد للفراش) أى لصاحب الفراش. وما ذهب إليه أبو حنيفة خلاف ما أجرى الله به العادة من أن الولد إنما يكون من ماء الرجل وماء المرأة، كما أجرى الله تعالى العادة أن المرأة لا تحمل وتضع فى أقل من ستة أشهر فمتى وضعته لأقل من ستة أشهر لم يلحق به؛ لأنها وضعته لمدة لا يمكن أن يكون فى مثلها، وأما الأمة عند مالك والشافعى فإنها تصير فراشًا لسيدها بوطئه لها أو بإقراره بوطئها وبهذا حكم عمر بن الخطاب وهو قول ابن عمر، فمتى أتت بولد لستة أشهر من يوم وطئها ثبت نسبه منه، وصارت به أم ولد له وله أن ينفيه إذا ادعى الاستبراء ولا تكون فراشًا بنفس الملك دون الوطء عند مالك والشافعى. وقال أبو حنيفة: لا تكون فراشًا بالوطء ولا بالإقرار بالوطء أصلا فلو وطئها مائة سنة وأقر بوطئها فأتت بولد لم يلحقه وكان مملوكًا له وأمة مملوكة، وإنما يلحقه ولدها إذا أقر به وله أن ينفيه بمجرد قوله ولا يحتاج أن تدعى الاستبراء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 368 وذكر الطحاوى عن ابن عباس أنه كان يطأ جارية له فحملت فقال: ليس الولد منى إنى أتيتها إتيانًا لا أريد به الولد، وعن زيد بن ثابت مثله. وقولهم خلاف لحديث ابن وليدة زمعة؛ لأن ابن زمعة قال: هذا أخى ولد على فراش أبى فأقره النبى (صلى الله عليه وسلم) ولم يقل الأمة لا تكون فراشًا ثم قال (صلى الله عليه وسلم) : (الولد للفراش) ، وهذا خطاب خرج على هذا السبب، وقد تقدم أن الفراش كالوطء، قد حصل فى الأمة فوجب أن يلحق به الولد، وأيضًا فإن العاهر لما حصل له الحجر دل على أن غير العاهر بخلافه، وأن النسب له، ألا تراه فى الموضع الذى يكون عاهرًا تستوى فيه الحرة والأمة فوجب أن يستوى حالهما فى الموضع الذى يكون ليس بعاهر. ومن أطرف شىء أنهم يجعلون نفس العقد فى الحرة فراشًا ولم يرد به خبر، ولا يجعلون الوطء فى الإماء فراشًا وفيه ورد الخبر، فيشكون فى الأصل ويقطعون على الفرع. - باب الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَمِيرَاثُ اللَّقِيطِ وَقَالَ عُمَرُ: اللَّقِيطُ حُرٌّ. / 25 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتِ: (اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : اشْتَرِيهَا، فَإِنَّ الْوَلاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ. قَالَ الْحَكَمُ: وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا، وَقَوْلُ الْحَكَمِ مُرْسَلٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَأَيْتُهُ عَبْدًا. / 26 - وفيه: ابْن عُمَر، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) . ذهب مالك والثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد وأبو ثور إلى أن اللقيط حر وولاؤه لجماعة المسلمين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 369 وفيها قول آخر روى عن عمر بن الخطاب أن ولاءه للذى التقطه، وعن شريح مثله، وبه قال إسحاق بن راهويه. وفيها قول آخر روى عن على بن أبى طالب أن المنبوذ حر فإن أحب أن يوالى الذى التقطه والاه وإن أحب أن يوالى غيره والاه. وبهذا قال عطاء وابن شهاب، وقال أبو حنيفة: له أن ينتقل بولائه حيث شاء لمن يعقل عنه الذى والاه جناية فإن عقل عنه لم يكن له أن ينتقل بولائه عنه ويرثه. واحتج إسحاق بحديث سفيان أبى جميلة عن عمر أنه قال له فى المنبوذ: اذهب فهو حر ولك ولاؤه. قال ابن المنذر: أبو جميلة مجهول لا يعرف له خبر غير هذا الحديث. وحمل أهل المقالة الأولى قول عمر (لك ولاؤه) أى أنت الذى تتولى تربيته والقيام بأمره وهذه ولاية الإسلام لا ولاية العتق. واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الولاء لمن أعتق) وهذا ينفى أن يكون الولاء للملتقط؛ لأن أصل الناس الحرية، وليس يخلو اللقيط من أحد أمرين إما أن يكون حرا فلا رق عليه أو يكون ابن أمة قوم فليس لمن التقطه أن يسترقه وبهذا كتب عمر بن عبد العزيز. وقد نزل الله آية المواريث وسمَّى الوارثين، فدل أنه لا وارث غير من ذكر الله فى كتابه، ولو كانت الموالاة مما يتوارث بها وجب إذا ثبتت ألا يجوز نقلها إلى غير من ثبتت له؛ فلما قالوا إنه إذا والى غيره قبل أن يعقل عنه ثم والى غيره وعقل عنه كان للذى عقل عنه؛ علم أن الموالاة لا يجوز أن يتوارث بها. وقال (صلى الله عليه وسلم) : (كل شرط ليس فى كتاب الله فهو باطل) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 370 - باب مِيرَاثِ السَّائِبَةِ / 27 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الإسْلامِ لا يُسَيِّبُونَ، وَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُسَيِّبُونَ. / 28 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَت: قَالَ لِى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) فى قصة بريرة. قَالت: وَخُيِّرَتْ، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، وَقَالَتْ: لَوْ أُعْطِيتُ كَذَا وَكَذَا مَا كُنْتُ مَعَهُ. وَقَالَ الأسْوَدُ: وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا، قَوْلُ الأسْوَدِ مُنْقَطِعٌ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَأَيْتُهُ عَبْدًا أَصَحُّ. اختلف العلماء فى ميراث السائبة، فقال الكوفيون والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور: ولاء السائبة لمعتقه واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الولاء لمن أعتق) فالمعتق داخل فى عموم الحديث وغير خارج منه. وقالت طائفة: ميراث السائبة للمسلمين روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وروى عن عمر بن عبد العزيز وربيعة وأبى الزناد وهو قول مالك قال: ميراثه للمسلمين وعقله عليهم. والحجة لهذه المقالة أنه إذ قال: أنت حر سائبة فكأنه قد أعتقه عن المسلمين فكان ولاؤه لهم، وهو بمنزلة الوكيل إذا أعتق عن موكله فالولاء له دون الوكيل، وقد ثبت أن الولاء يثبت للإنسان من غير اختياره. واحتج الكوفيون فقالوا: إذا قال لعبده: أنت سائبة لا ملك لى عليك أو أنت حر سائبة أن هذا كله لا يزيل عنه الولاء؛ لأن الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب، وقد نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن بيع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 371 الولاء وهبته، فالهبة لذلك باطلة وبهذا قال ابن نافع وخالف مالكًا فيه. - باب إِثْمِ مَنْ تَبَرَّأَ مِنْ مَوَالِيهِ / 29 - فيه: عَلِىّ، قَالَ: مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ إِلا كِتَابُ اللَّهِ غَيْرَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ: فَأَخْرَجَهَا، فَإِذَا فِيهَا أَشْيَاءُ مِنَ الْجِرَاحَاتِ وَأَسْنَانِ الإبِلِ، الحديث، وَمَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ، لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ. / 30 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ بَيْعِ الْوَلاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ. فى نهيه عن بيع الولاء وعن هبته دليل أنه لا يجوز للمولى التبرؤ من ولاء مواليه، وأن تبرأ منه وأنكره كمن باعه أو وهبه فى الإثم. فإن قال قائل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من والى قومًا بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله) يدل أنه لا يجوز أن يولى قومًا بإذن مواليه. وبه قال عطاء بن أبى رباح، قال: إن أذن الرجل لمولاه أن يوالى من شاء جاز ذلك استدلالا بهذا الحديث. ذكره عبد الرزاق، وهذا يوافق ما روى عن ميمونة بنت الحارث أنها وهبت ولاء مواليها للعباس وولاؤهم اليوم له. وقد ذكرنا ذلك فى باب بيع الولاء وهبته وفى باب بيع المدبر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 372 قيل: جماعة الفقهاء لا يجيزون قول عطاء ولا ما روى عن ميمونة وقد احتج مالك فى منع ذلك. قيل له: الرجل يبتاع نفسه من سيده على أنه يوالى من شاء. قال: لا يجوز ذلك؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (الولاء لمن أعتق) ونهى عن بيع الولاء وهبته، فإذا جاز لسيده أن يشترط ذلك له فإن يأذن له أن يوالى من شاء، فتلك الهبة التى نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عنها. رواه ابن وهب. فإن قال قائل: فما تأويل حديث علىّ على هذا القول؟ نقول: قيل: يحتمل أن يكون منسوخًا بنهيه (صلى الله عليه وسلم) عن بيع الولاء وعن هبته، ويحتمل ألا يكون منسوخًا ويكون تأويله كتأويل قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) [الإسراء: 31] دل ظاهر هذا الخطاب أن النهى عن قتل الأولاد لما اقترن بخشية الإملاق كان قتلهم مباحًا إذا لم يخشى الإملاق، وأجمعت الأمة على أن النهى عن قتلهم عام فى كل حال وإن لم يخش إملاق. وقوله: (وربائبكم اللاتى فى حجوركم من نسائكم) [النساء: 23] ودل ظاهر هذا الخطاب أن شرط التحريم فى الربائب لما اقترن بكونهن فى الحجر دل على زوال تحريمهن إذا لم يكن فى الحجر، وأجمع أئمة الأمصار على أن الربيبة حرام على زوج أمها وإن لم تكن فى حجره فلما لم يكن الحجر شرطًا فى التحريم، ولا ارتفاع خشية الإملاق مبيحة لقتل الأولاد؛ فكذلك لا يكون ترك إذن الموالى فى موالاة غيرهم شرطًا فى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 373 وجوب لعنة متولى غير مواليه، بل اللعنة متوجهة إليهم فى تولى غيرهم بإذنهم وبغير إذنهم لعموم نهيه عن بيع الولاء وهبته، والله الموفق. وفيه من الفقه: أنه لا يجوز أن يكتب المولى فلان ابن فلان وهو مولاه حتى يقول فلان مولى فلان، وجائز أن ينتسب إلى نسبه؛ لأته انتمى إليه؛ لأن الولاء لحمة كلحمة النسب ومن تبرأ من ولاء مواليه لم تجز شهادته وعليه التوبه والاستغفار؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد لعنه، وكل من لعنه فهو فاسق. وفيه: جواز لعنة أهل الفسق من المسلمين، ومعنى اللعنة فى اللغة الإبعاد عن الخير، وسيأتى فى كتاب الحدود معنى نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن لعن الذى كان يؤتى به كثيرًا ليجلد فى الخمر، وأن ذلك ليس بمعارض اللعنة لشارب الخمر وكثير من أهل المعاصى إن شاء الله تعالى. وقد تقدم تفسير الصرف والعدل فى آخر كتاب الحج فى باب حرم المدينة. - باب إِذَا أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ الرجل وَكَانَ الْحَسَنُ لا يَرَى لَهُ وِلايَةً. وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. وَيُذْكَرُ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِىِّ رَفَعَهُ، قَالَ: هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِى صِحَّةِ هَذَا الْخَبَرِ. / 31 - فيه: عَائِشَةَ قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْوَلاءَ لِمَنْ أَعْتَق. . .) الحديث. اختلف العلماء فيمن أسلم على يدى رجل من المسلمين، فقال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 374 الشعبى كقول الحسن: لا ميراث للذى أسلم على يديه ولا ولاء له، وميراث المسلم إذا لم يدع وارثًا لجماعة المسلمين. وهو قول ابن أبى ليلى ومالك والثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد وحجتهم قوله: (الولاء لمن أعتق) فنفى الميراث عن غير المعتق كما نفى عنه الولاء، وذكر ابن وهب عن عمر بن الخطاب قال: ولاؤه للذى أسلم على يديه. وهو قول ربيعة وإسحاق، وفيها قول آخر روى عن النخعى أنه إذا أسلم على يديه الرجل ووالاه فإنه يرثه ويعقل عنه وله أن يتحول عنه إلى غيره ما لم يعقل عنه، فإذا عقل عنه لم يكن له أن يتحول إلى غيره. وهذا قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد واحتجوا بحديث تميم الدارى، رواه مسدد عن عبد الله بن داود، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن عبد الله بن وهب، عن تميم الدارى (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال فى رجل أسلم على يدى رجل: هو أحق الناس بمحياه ومماته) . قال ابن المنذر: رفع الحديث أحمد بن حنبل وتكلم فيه غيره ولم يروه غير عبد العزيز بن عمر وهو شيخ ليس من أهل الحفظ، وقد اضطربت روايته له فروى عنه وكيع وأبو نعيم، عن عبد الله بن وهب قال: سمعت تميمًا الدارى يقول ورواه شريك عن حفص بن غياث عنه، عن عبد الله بن وهب، عن قبيصة بن ذؤيب، عن تميم، ولا يدرى أسمع قبيصة من تميم أم لا، فلما اضربت الأخبار خشينا ألا يكون محفوظًا. وكان ظاهر قوله: (الولاء لمن أعتق) أولى بنا ودل على أن الولاء لا يكون لغير المعتق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 375 قال ابن القصار: ولو صح الحديث لكان تأويله أحق به يواليه وينصره ويغسله ويصلى عليه ويدفنه إذا مات، ولم يقل هو أحق بميراثه فلا حجة فيه. - باب مَا يَرِثُ النِّسَاء مِنَ الْوَلاءِ / 32 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْطَى الْوَرِقَ وَوَلِىَ النِّعْمَةَ) . وهذا الحديث يوجب أن يكون الولاء لكل معتق ذكرًا كان أو أنثى؛ لأن (من) تصلح للذكر والأنثى وللواحد والجميع إلا أنه ليس للنساء عند جماعة الفقهاء من الولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن أو ولد من أعتقن. قال الأبهرى: وهذا قول الفقهاء السبعة وغيرهم من أهل المدينة والكوفة، ليس فيه اختلاف إلا ما يروى عن مسروق أنه قال: يرث النساء من الولاء كما يرثن من المال. وذكر ابن المنذر عن طاوس مثله، واحتج بقوله تعالى: (وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) [النساء: 7] الآية. وهذا شذوذ ولم يعرج عليه، وإنما يرث النساء ولاء من أعتقن أو أعتق من أعتقن أو ولد من أعتقن؛ لأنه عن مباشرة وليس هو جر الميراث. وإنما لم يرث النساء الولاء لأن الولاء إنما يورث بالتعصيب والمرأة لا تكون عصبة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 376 ولما كانت المرأة لا تستوعب المال بالفرض الذى هو أوكد من التعصيب لم ترث الولاء. وقوله: (الولاء لمن أعطى الورق وولى النعمة) معناه لمن أعطى الثمن وأعتق بعد إعطاء الثمن؛ لأن ولاية النعمة التى يستحق بها الميراث لا تكون إلا بالعتق. - باب مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَابْنُ أخْتِ القوم مِنْهُمْ / 33 - فيه: أَنَس، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) . / 34 - وقال أنس مرةً: عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ، أَوْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) . مولى القوم من أنفسهم صحيح فى النسبة إليهم والميراث والعقل. وأما ابن أخت القوم محمول عند أهل المدينة أن يكون ابن أختهم من عصبتهم، وعند أهل العراق الذين يورثون ذوى الأرحام ابن أخت القوم منهم يرثهم ويرثونه وقد تقدم الكلام فى ذلك. - باب مِيرَاثِ الأسِيرِ وَكَانَ شُرَيْحٌ يُوَرِّثُ الأسِيرَ فِى أَيْدِى الْعَدُوِّ، وَيَقُولُ: هُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ: أَجِزْ وَصِيَّةَ الأسِيرِ وَعَتَاقَهُ، وَمَا صَنَعَ فِى مَالِهِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ دِينِهِ، فَإِنَّمَا هُوَ مَالُهُ يَصْنَعُ فِيهِ مَا شَاءَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 377 / 35 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ تَرَكَ مَالا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلا فَإِلَيْنَا) . ذهب أكثر العلماء إلى أن الأسير إذا وجب له ميراث، أنه يوقف له ويستحقه، هذا قول مالك، والكوفيين، والشافعى، والجمهور. وروى عن سعيد بن المسيب، أنه لم يورث الأسير فى أيدى العدو، وقول الجماعة أولى؛ لأن الأسير إذا كان مسلمًا، فهو داخل تحت عموم قوله: (من ترك مالاً فلورثته) ، وهو من جماعة المسلمين الذين تجرى عليهم أحكام الإسلام، وغير جائز إخراجه من جملة أحكامهم إلا بحجة لا توجب له الميراث. - باب لا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، وَإِذَا أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ الْمِيرَاثُ فَلا مِيرَاثَ لَهُ / 36 - فيه: أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (لا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ) . ذهب جماعة أئمة الفتوى بالأمصار إلى حديث أسامة وقالوا: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم. روى هذا عن عمر وعلى وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وجمهور التابعين. وفى ذلك خلاف عن بعض السلف، روى عن معاذ بن جبل ومعاوية أن المسلم يرثُ الكافر ولا يرث الكافر المسلم، وذهب إليه سعيد بن المسّيب وإبراهيم النخعى ومسروق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 378 واحتجو لذلك فقالوا: نرث الكفار ولا يرثونا كما ننكح نساءهم ولا ينكحوا نساءنا، ويرد هذا القول قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ولا يرث المسلم الكافر) والسنة حجة على من خالفها. قال ابن القصار: والتوارث متعلق بالولاية ولا ولاية بين المسلم والكافر لقوله تعالى: (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) [المائدة: 51] يدل أنهم لا يكونون أولياء للكافر فوجب ألا يرثوهم كما لا يرثهم الكافر، وأيضًا فما بين المسلم والكافر أبعدُ مما بين الذمى والحربى فإذا ثبت أن الذمى لا يرث الحربى مع اتفاقهم فى الملة فلأن لا يرث المسلم الكافر أولى لاختلافهما فى الملة. وما ذكره من تزويج المسلم الكافرة فإن باب الميراث غير مبنى على التزويج ألا ترى أن الذمى يتزوج الحربية وهو لا يرثها، والحر المسلم يتزوج الأمة المسلمة وهو لا يرثها مع اتفاق دينهما. وقولهم ينقلب عليهم؛ لأن الكافر يقول: أنا أرث المسلم؛ لأنه يتزوج إلينا وإن لم نتزوج إليه فكما يرثنا نرثه. وقوله: إذا أسلم قبل أن يقسم الميراث فلا ميراث له وهو قول جمهور الفقهاء. وقالت طائفة: إذا أسلم قبل قسمته فله نصيبه، روى هذا عن عمر وعثمان من طريق لا يصح، وبه قال الحسن وعكرمة، وقول الجماعة أصح؛ أنه إنما يستحق الميراث فى حين الموت لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يرث الكافر المسلم) فإذا انتقل ملك المسلم عن ماله إلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 379 من هو على دينه ثبت ملكه لمن ورثه من المسلمين ولا يجوز إزالة ملكه إلا بحجة. عن ابن المنذر. واختلفوا من معنى هذا الحديث فى ميراث المرتد فقالت طائفة: إذا قتل على ردته فماله لبيت مال المسلمين وهو قول زيد بن ثابت وبه قال ابن أبى ليلى وربيعة ومالك والشافعى وأبو ثور وأحمد، وحجتهم ظاهر القرآن فى قطع ولاية المؤمنين من الكفار وعموم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لايرث المسلم الكافر) ولم يخص مرتدا من غيره. وقال الكوفيون والأوزاعى وإسحاق: يرثه ورثته المسلمون. وهو قول على وابن مسعود وسعيد بن المسيب والحسن والشعبى والحكم. وقالوا: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يرث المسلم الكافر) أى الكافر الذى يقر على دينه، فأما المرتد فلا دين له يقر عليه وقالوا قرابة المرتد مسلمون وقد جمعوا القرابة والإسلام فهم أولى. وضعف أحمد بن حنبل حديث على. وقال أصحاب مالك والشافعى: لو صح عن على فإنما جعل ميراث المرتد لقرابته المسلمين لما رأى فيهم من الحاجة، وكانوا ممن يستحق ذلك فى جماعة المسلمين من بيت مالهم، ولم يمكن عموم جماعة المسلمين بميراثه فجعله لورثته على هذا الوجه لا على أنه ورثهم منه على طريق الميراث. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 380 - باب مِيرَاثِ الْعَبْدِ النَّصْرَانِىِّ وَالْمُكَاتَبِ النَّصْرَانِىِّ لم يدخل البخارى تحت هذا الرسم حديثًا، ومذهب العلماء أن العبد النصرانى إذا مات فماله للسيد؛ لأن ملك العبد غير صحيح ولا مستقر فماله لسيده؛ لأنه ماله وملكه لا أنه يستحقه من طريق الميراث، وإنما يستحقه بطريق الميراث ما كان ملكًا لمن يورث عنه. وأما المكاتب النصرانى فإن مات قبل أداء كتابته نظر، فإن كان فى ماله وفاء لباقى كتابته أخذ ذلك مولاه الذى كاتبه، وإن فضلت من ماله فضلة كانت لمن كوتب معه إن كانوا على دينه. فإن لم يكن معه أحد فى الكتابة لم يرث ذلك السيد، وكان لبيت مال المسلمين. قال الطبرى: واتفق فقهاء العراق والحجاز والشام وغيرهم أن من أعتق عبدًا له نصرانيًا فمات العبد وله مال أن ميراثه لبيت المال، وقال ابن سيرين: لو كان عبدًا ما ورثه فكيف هذا. - باب مَنِ ادَّعَى أَخًا أَوِ ابْنَ أَخٍ / 37 - فيه: عَائِشَةَ، اخْتَصَمَ سَعْدُ، وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِى غُلامٍ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا ابْنُ أَخِى عُتْبَةَ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ، عَهِدَ إِلَىَّ أَنَّهُ ابْنُهُ، انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ، وَقَالَ عَبْدُ ابْنُ زَمْعَةَ: هَذَا أَخِى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِى مِنْ وَلِيدَتِهِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى شَبَهِهِ، فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: (هُوَ لَكَ يَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 381 عَبْدُ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِى مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ) ، قَالَتْ: فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ. قد تقدم أنه لا يجوز استلحاق غير الأب واختلف العلماء إذا مات رجل وخلف ابنًا واحدًا لا وارث له غيره فأقر بأخ فقال ابن القصار: فعند مالك والكوفيين لا يثبت نسبه. وقال الشافعى: يثبت نسبه. واحتج بأن الوارث قام مقام الميت فصار إقراره كإقرار الميت نفسه فى حال حياته، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ألحق الولد بزمعة بدعوى عبد وإقراره وحده. واحتج أهل المقالة بأن الميت يعترف على نفسه والوارث يعترف على غيره، وحكم إقرار الإنسان على نفسه آكد من إقراره على غيره، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر وإقراره بنسب فى حق غيره ليس هو بأكثر من شهادته له، فلو شهد واحد بنسب يثبت على غيره لم تقبل شهادته، فكذلك إقراره على غيره بالنسب أولى ألا يثبت ولا يلزم على هذا إذا كان الورثة جماعة فأقروا به أو أقر اثنان منهم كانوا عدلين؛ لأن النسب يثبت بشهادة اثنين وبالجماعة فى حق الغير الذى هو أبوهم. ويقال للشافعى حكم النبى (صلى الله عليه وسلم) فى قصة ابن زمعة لم يكن من أجل الدعوى وإنما كان من أجل علمه بالفراش كما حد النبى (صلى الله عليه وسلم) العسيف بقول أبيه؛ لأن ذلك دليل على أن ابنه كان مقرًا قبل ادعاء أبيه عليه ولولا ذلك ما حدَّ بمجرد دعوى أبيه عليه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 382 - باب مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرَ أَبِيهِ / 38 - فيه: سَعْد، قَالَ: النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ، فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ) . / 39 - وفيه: أَبو هُرَيْرَة، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ كُفْرٌ) . قال الطبرى: فإن قال قائل: ما وجه هذا الحديث وقد كان من خيار الناس من ينسب إلى غير أبيه كالمقداد بن الأسود الذى نسب إليه، وإنما هو المقداد بن عمرو، ومنهم من يدعى إلى غير مولاه الذى أعتقه كسالم مولى أبى حذيفة، وإنما هو مولى امرأة من الأنصار وهؤلاء خيار الأمة؟ قيل: لا يدخل أحد منهم فى معنى هذه الأحاديث، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا لا يستنكرون ذلك أن يتبنى الرجل منهم غير ابنه الذى خرج من صلبه فنسب إليه، ولا أن يتولى من أعتقه غيره فينسب ولاؤه إليه، ولم يزل ذلك أيضًا فى أول الإسلام حتى أنزل الله: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) [الأحزاب: 4] ونزلت) ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) [الأحزاب: 5] الآية فنسب كل واحد منهم إلى أبيه ومن لم يعرف له أب ولا نسب عرف مولاه الذى أعتقه وألحق بولائه عنه غير أنه غلب على بعضهم النسب الذى كان يدعى به قبل الإسلام، فكان المعروف لأحدهم إذا أراد تعريفه بأشهر نسبه عرفه به من غير انتحال المعروف به، ولا تحول به عن نسبه وأبيه الذى هو أبوه على الحقيقة رغبة عنه فلم تلحقهم بذلك نقيصة، وإنما لعن النبى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 383 (صلى الله عليه وسلم) المتبرئ من أبيه والمدعى غير نسبه، فمن فعل ذلك فقد ركب من الإثم عظيمًا وتحمل من الوزر جسيمًا، وكذلك المنتمى إلى غير مواليه. فإن قيل: فتقول للراغب فى الانتماء إلى غير أبيه ومواليه كافر بالله كما روى عن أبى بكر الصديق أنه قال: كفر بالله ادعاء نسب لا يعرف. وروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: كان مما يقرأ فى القرآن: (لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم) . قيل: ليس معناه الكفر الذى يستحق عليه التخليد فى النار وإنما هو كفر لحق أبيه ولحق مواليه، كقوله فى النساء: (يكفرن العشير) والكفر فى لغة العرب: التغطية للشىء والستر له، فكأنه تغطية منه على حق الله عز وجل فيمن جعله له والدًا، لا أن من فعل ذلك كافرًا بالله حلال الدم. والله الموفق. 30 - باب إِذَا ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ ابْنًا / 40 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (كَانَتِ امْرَأَتَانِ وَمَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ، فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، وَقَالَتِ الأخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِى بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلا يَوْمَئِذٍ، وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلا: الْمُدْيَةَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 384 أجمع العلماء أن الأم لا تستحلق أحدًا؛ لأنها لو استلحقت ألحقت بالزوج ما ينكره والله تعالى يقول: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) [الأنعام: 164] وإنما يمكن أن تلحق الولد بالزوج إذا أقامت البينة أنها ولدته وهى زوجته فى عصمته، فإن الولد للفراش. وفائدة هذا الحديث أن المرأة إذا قالت هذا ابنى ولم ينازعها فيه أحد ولم يعرف له أب فإنه يكون ولدها، ترثه ويرثها ويرثه إخوته لأمه؛ لأن هذه المرأة التى قضى لها بالولد فى هذا الحديث إنما حصل لها ابنًا مع تسليم المنازعة لها فيه. وفيه من الفقه: أن من أتى من المتنازعين بما يشبه فالقول قوله؛ لأن سليمان جعل شفقتها عليه شبهة مع دعواها. وفيه: أنه جائز للعالم مخالفة غيره من العلماء وإن كانوا أسن منه وأفضل إذا رأى الحق فى خلاف قولهم. ويشهد لهذا قوله تعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان الحرث) [الأنبياء: 78] الآية فإنه أثنى على سليمان بعلمه، وعذر داود باجتهاده ولم يخله من العلم. وسيأتى الاختلاف فى هل كل مجتهد مصيب أو الحق فى واحد من أقاويل العلماء فى كتاب الاعتصام والله الموفق. 31 - باب الْقَائِفِ / 41 - فيه: عَائِشَةَ إِنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) دَخَلَ عَلَىَّ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 385 فَقَالَ: (أَلَمْ تَرَىْ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الأقْدَامَ بَعْضُهَا لَمِنْ بَعْضٍ) . / 42 - وقال مرةً: (عَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا، وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الأقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) . فى هذا الحديث إثبات الحكم بالقافة، وممن قال بذلك أنس بن مالك، وهذا أصح الروايتين عن عمر، وبه قال عطاء، وإليه ذهب مالك والأوزاعى والليث والشافعى وأحمد وأبو ثور. وقال الثورى وأبو حنيفة وأصحابه: الحكم بالقافة باطل وذلك تخرص وحدس لا يجوز ذلك فى الشريعة قالوا وليس فى حديث أسامة حجة فى إثبات الحكم بالقافة؛ لأن أسامة قد كان ثبت نسبه قبل فلم يحتج النبى (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك إلى قول أحد ولولا ذلك لما كان دعا أسامة فيما تقدم إلى زيد. وإنما تعجب من إصابة مجزز كما يتعجب من ظن الرجل الذى يصيب بظنه حقيقة الشىء ولا يجب الحكم بذلك، وترك الإنكار عليه لأنه لم يتعاط بقوله إثبات ما لم يكن ثابتًا فيما تقدم. هذا وجه الحديث، قاله الطحاوى. وقال أهل المقالة الأولى: لو كان قول مجزز على جهة الحدس والظن وعلى غير سبيل الحق والقطع بالصحة لأنكر ذلك النبى (صلى الله عليه وسلم) على مجزز، ولقال له وما يدريك، ولم يسر النبى (صلى الله عليه وسلم) بذلك؛ لأنه ليس من صفته أن يسر بأمر باطل عنده لا يسوغ فى شريعته، وكان أسامة أسود وكان زيد أبيض فكان المشركون يطعنون فى نسبه، وكان يشق ذلك على النبى (صلى الله عليه وسلم) فسر بذلك لمكانهما منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 386 وقد كانت العرب تعرف من صحة القافة فى بنى مدلج وبنى أسد ما قد شهر عنهما ثم وردت السنة بتصحيح ذلك، فصار أصلا، والشىء إنما يصير شرعًا للنبى إما بقوله أو بقطعه أو بأن يقر عليه، فلو كان إثبات النسب من جهته باطلا لم يجز أن يقر عليه مجززًا بل كان ينكره عليه ويقول له: هذا باطل فى شريعتى، فلما لم ينكره وسر به كان سنة. وذهب مالك فى المشهور عنه إلى أن الحكم بالقافة فى أولاد الإماء دون الحرائر، وروى ابن وهب عنه أن الحكم بالقافة فى ولد الزوجة وولد الأمة، وبهذا قال الشافعى. قال ابن القصار: وصورة الولد الذى يدعيه الرجلان من الأمة هو أن يطأ إنسان أمته ثم يبيعها من آخر فيطؤها الثانى قبل الاستبراء من الأول فتأتى بولد لأكثر من ستة أشهر من وطء الثانى؛ فإن الحكم بالقافة هنا واجب، ولو أتت به لأقل من ستة أشهر من وطء الثانى فالولد للأول. ووجه قول مالك أن القافة فى ولد الإماء؛ لأنه يصح ملك جماعة رجال الأمة فى وقت واحد ووطؤهم لها إن كان وطء جميعهم غير مباح، وإذا كان ذلك فقد تساووا فليس أحد أولى بالولد من صاحبه إذا تنازعوه لاستوائهم فى شبهة الفراش بالملك، وأما الحرة فإن الوطء الثانى لا يساوى الأول فى الحرمة والقوة فلم يطأ وطأ صحيحًا من قبل أنه إما أن يطأ زوجة زيد مثل أن يتزوجها وهو لا يعلم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 387 أن لها زوجًا فقد فرط؛ لأنه قد كان يمكن أن يتعرف ذلك ولا يقدم على وطء زوجة وهى فراش لغيره أو يتزوجها فى عدتها فهو فى التقصير كذلك، أو يجد امرأة على فراشه فيطأها وهولا يعلم فالولد لاحق بصاحب الفراش الصحيح بقوته. وأما وجه رواية ابن وهب أن القافة تكون فى ولد الزوجات لاجتماع الواطئين فى شبهة النكاح والملك؛ لأن الولد يلحق بالنكاح الصحيح وشبهته وبالملك الصحيح وشبهته؛ لأن كل واحد منهما لو انفرد بالوطء للحقه النسب، فكذلك إذا اشتركا فيه وجب أن يستويا فى الدعوى فوجب أن يحكم بالولد لأقربهما شبهًا به لقوة سببه، لأن شبه الولد ممن هو من أدل أدلة الله فوجبت القافة. وروى أشهب وابن نافع عن مالك أنه لا يؤخذ إلا بقول قائفين وهو قول الشافعى، وقال ابن القاسم: إن القائف الواحد يجزئ. وقال الزبير بن بكار: إنما قيل له مجززًا؛ لأنه كان إذا أخذ أسيرًا حلق لحيته. وأسارير وجهه: هى خطوط بين الحاجبين وقصاص الشعر. وروى عن عائشة أنها قالت: (دخل علىَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تبرق أكاليل وجهه) جمع إكليل وهى ناحية الجبهة وما يتصل بها من الجبين. وذلك أن الإكليل إنما يوضع هناك، وكل ما أحاط بالشىء وتكلله من جوانبه فهو إكليل. عن الخطابى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 388 60 - كِتَاب الْحُدُودِ - باب ما يُحذر من الحُدُودِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُنْزَعُ مِنْهُ نُورُ الإيمَانِ فِى الزِّنَا. / 1 - فيه: أَبو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَزْنِى الزَّانِى حِينَ يَزْنِى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُها وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) . وترجم له باب السارق حين يسرق. قال الطبرى: اختلف من قبلنا فى هذا الحديث فأنكر بعضهم أن يكون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال هذا القول. قال عطاء: اختلف الرواة فى أداء لفظ النبى (صلى الله عليه وسلم) بذلك، قال محمد بن زيد ابن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وسئل عن تفسير هذا الحديث فقال: إنما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يزنين مؤمن ولا يسرقن مؤمن) . وقال آخرون: عنى بذلك: لا يزنى الزانى وهو مستحل للزنا غير مؤمن بتحريم الله ذلك عليه، فأما إن زنا وهو معتقد تحريمه فهو مؤمن، روى ذلك عن عكرمة عن ابن عباس. وحجة هذه المقالة حديث أبى ذر أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنا وإن سرق وإن رغم أنف أبى ذر) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 389 وقال آخرون: ينزع منه الإيمان فيزول عنه اسم المدح الذى يُسمى به أولياء الله المؤمنون، ويستحق اسم الذم الذى يسمى به المنافق فيوسم به ويقال له منافق وفاسق. روى هذا عن الحسن قال: النفاق نفاقان: تكذيب محمد فهذا لا يغفر، ونفاق خطايا وذنوب يرجى لصاحبه. وعن الأوزاعى قال: كانوا لا يكفرون أحدًا بذنب ولا يشهدون على أحد بكفر ويتخوفون نفاق الأعمال على أنفسهم. قال الوليد بن مسلم: ويصدق قول الأوزاعى أنه كان من قول السلف ما حدثنا الأوزاعى، عن هارون بن رئاب: (أن عبد الله بن عمر قال فى مرضه: زوجوا فلانًا ابنتى فلانة، وإنى كنت وعدته بذلك وأنا أكره أن ألقى الله بثلث النفاق) وما حدثناه عن الزهرى، عن عروة: (أنه قال لابن عمر: الرجل يدخل منا على الإمام فيراه يقضى بالجور فيسكت وينظر إلى أحدنا فيثنى عليه بذلك، فقال عبد الله: أما نحن معاشر أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فكنا نعدها نفاقًا فلا أدرى كيف تعدونه) وعن حذيفة: (أنه سئل عن المنافق فقال: الذى يتكلم بالإسلام ولا يعمل به) . وحجة هذا القول أن النفاق إنما هو إظهار المرء بلسانه قولاً يبطن خلافه كنافقاء اليربوع الذى يتخذه كى إن طلبه الصائد من قبل مدخل قصَّع من خلافه، فمن لم يجتنب الكبائر من أهل التوحيد علمنا أن ما أظهره من الإقرار بلسانه خداع للمؤمنين فاستحق اسم النفاق. ويشهد لذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ثلاث من علامات المنافق، إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 390 والزنا والسرقة وشرب الخمر أدل على النفاق من هذه الثلاث. وقال آخرون: إذا أتى المؤمن كبيرة نزع منه الإيمان وإذا فارقها عاد إليه الإيمان. وروى عن أبى الدرداء قال عبد الله بن رواحة: (إنما مثل الإيمان مثل قميص بينما أنت قد نزعته إذا لبسته وبينما أنت قد لبسته إذ نزعته) . وعن يزيد بن أبى حبيب عن أسلم بن عمر أنه سمع أبا أيوب يقول: (إنه ليمر على المرء ساعة وما فى جلده موضع إبرة من النفاق) . وعلة هذه المقالة أن الأيمان هو التصديق، غير أن التصديق معنيان أحدهما قول والآخر عمل فإذا ركب المصدق كبيرة فارقه اسم الإيمان كما يقال للاثنين إذا اجتمعا اثنين فإذا انفرد كل واحد منهما لم يقل له إلا واحد وزال عنهما الاسم الذى كان لهما فى حال الاجتماع، فكذلك الإيمان إنما هو اسم التصديق الذى هو الإقرار والعمل الذى هو اجتناب لكبائر. فإذا واقع المقر كبيرة زال عنه اسم الإيمان فى حال مواقعته، فإذا كف عنها عاد له الاسم؛ لأنه فى حال كفه عن الكبيرة مجتنب لها وباللسان مصدق، وذلك معنى الإيمان عندهم. وقال بعض الخوارج والرافضة والإباضية: من فعل شيئًا من ذلك فهو كافر خارج عن الإيمان؛ لأنهم يكفرون المؤمنين بالذنوب ويوجبون عليهم التخليد فى النار بالمعاصى، ومن حجتهم ظاهر حديث أبى هريرة (لا يزنى وهو مؤمن) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 391 قال أبو هريرة: الإيمان فوقه هكذا فإن هو تاب راجعه الإيمان وإن أصر ومضى فارقه. وقال أبو صالح عن أبى هريرة: ينزع منه الإيمان فإن تاب رُد عليه. قالوا: ومن نزع منه الإيمان فهو كافر؛ لأنه منزلة بين الإيمان والكفر، ومن لم يكن مؤمنًا فهو كافر. وجماعة أهل السنة وجمهور الأمة على خلافهم. قال الطبرى: وحجة أهل السنة أن ابن عباس قد بين حديث أبى هريرة وقال: إن العبد إذا زنا نزع منه نور الإيمان لا الإيمان. حدثنا عبد الرحمن بن الأسود، حدثنا محمد بن كثير، عن شريك بن عبد الله، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: (من زنا نزع الله نور الإيمان من قلبه فإن شاء أن يرده عليه رده) . والصواب عندنا قول من قال: يزول عنه الاسم الذى هو بمعنى المدح إلى الاسم الذى هو بمعنى الذم، فيقال له فاجر فاسق زان سارق. ولا خلاف بين جميع الأمة أن ذلك من أسمائه ما لم تظهر منه التوبة من الكبيرة، ويزول عنه اسم الإيمان بالإطلاق والكمال بركوبه ذلك ونثبته له بالتقييد فنقول هو مؤمن بالله وبرسوله مصدق قولاً، ولا نقول مطلقًا هو مؤمن إذا كان الإيمان عندنا معرفة وعملا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 392 وقولاً، فلما لم يأت بها كلها استحق اسم التسمية بالإيمان على غير الإطلاق والاستكمال له. قال المهلب: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ينزع منه نور الإيمان) يعنى ينزع منه بصيرته فى طاعة الله لغلبة الشهوة عليه، فكأن تلك البصيرة نور طفته الشهوة من قلبه ويشهد لهذا قوله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) [المطففين: 14] . وقد تقدم فى كتاب الإيمان فى باب علامات المنافق، والعلم فى باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهة ألا يفهموا. - باب الضَّرْبِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ / 2 - فيه: عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ: أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أُتِىَ بِنُعَيْمَانَ، أَوْ بِابْنِ نُعَيْمَانَ، وَهُوَ سَكْرَانُ، فَشَقَّ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ مَنْ فِى الْبَيْتِ، أَنْ يَضْرِبُوهُ، فَضَرَبُوهُ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَكُنْتُ فِيمَنْ ضَرَبَهُ. وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ. / 3 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَة، أُتِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فَقَالَ: اضْرِبُوهُ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَخْزَاكَ اللَّهُ، قَالَ: لا، تَقُولُوا هَكَذَا لا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ. / 4 - وفيه: عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ، قَالَ: مَا كُنْتُ لأقِيمَ حَدًّا عَلَى أَحَدٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 393 فَيَمُوتَ، فَأَجِدَ فِى نَفْسِى إِلا صَاحِبَ الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَدَيْتُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَمْ يَسُنَّهُ. / 5 - وفيه: السَّائِب، كُنَّا نُؤْتَى بِالشَّارِبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَإِمْرَةِ أَبِى بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ، فَنَقُومُ إِلَيْهِ بِأَيْدِينَا وَنِعَالِنَا وَأَرْدِيَتِنَا حَتَّى كَانَ آخِرُ إِمْرَةِ عُمَرَ، فَجَلَدَ أَرْبَعِينَ حَتَّى إِذَا عَتَوْا، وَفَسَقُوا جَلَدَ ثَمَانِينَ. وترجم لحديث عقبة بن الحارث: باب من أمر بضرب الحد فى البيت. اختلف العلماء فى حد الخمر كم هو؟ فذهب مالك، والثورى، والكوفيون، وجمهور العلماء، إلى أن حد الخمر ثمانون جلدة. وقال الشافعى وأبو ثور وأهل الظاهر حد الخمر أربعون. واحتجوا فى ذلك بما رواه مسدد قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا سعيد ابن أبى عروبة، عن الداناج، عن حصين بن المنذر الرقاشى أبى ساسان، عن على بن أبى طالب قال: (جلد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى الخمر أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وكملها عمر ثمانين وكل سنة) . وبما رواه عبد العزيز بن المختار، عن الداناج، عن حصين بن المنذر قال: (شهدت عثمان وقد أتى بالوليد بن عقبة وقد صلى بأهل الكوفة فشهد عليه حُمران ورجل آخر أحدهما أنه رآه يشربها والآخر أنه رآه يقيئها، فقال عثمان: لم يقئها حتى شربها، فقال عثمان لعلى: أقم عليه الحد. فأمر عبد الله بن جعفر فجلده وعلى يعد حتى بلغ أربعين، ثم قال أمسك، ثم قال: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) جلد أربعين وعمر ثمانين وكل سُنة وهذا أحبُّ إلى) فاحتجوا بهذه الآثار وقالوا: إنَّ الجلد الذى يجب على شارب الخمر أربعون. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 394 واحتج عليهم أهل المقالة الأولى فقالوا: حديث الداناج غير صحيح وأنكروا أن يكون على قال من ذلك شيئًا؛ لأنه قد روى عنه ما يخالف ذلك ويدفعه. وبما رواه البخارى أن عليا قال: (ما كنت لأقيم الحدَّ على أحدٍ فيموت فى نفسى إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يسنه) . قال الطحاوى: فهذا على يخبرُ أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يكن سن فى شرب الخمر حدا، ثم الرواية عن على فى حد الخمر على خلاف حديث الداناج من اختيار الأربعين على الثمانين روى سفيان، عن عطاء بن أبى مروان، عن أبيه قال: أتى على بالنجاشى قد شرب الخمر فى رمضان فضربه ثمانين، ثم أمر به إلى السجن، ثم أمر به من الغد فضربه عشرين، ثم قال: هذه لانتهاكك حرمة رمضان وجرأتك على الله. وروى عن ابن شهاب، عن حميد ابن عبد الرحمن: أن رجلا من كلب يقال له ابن وبرة بعثه خالد بن الوليد إلى عمر بن الخطاب فوجد عنده عليا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف، فقالوا له: إن الناس قد انهمكوا فى الخمر. فقال عمر لمن حوله: ما ترون؟ قال على: يا أمير المؤمنين إنه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى، وعلى المفترى ثمانون فتابعه أصحابه. أفلا ترى عليا لما سئل عن ذلك ضرب أمثال الحدود كيف هى، ثم استخرج منها حدًا برأيه فجعله كحد المفترى، ولو كان عنده فى ذلك شىء موقت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) لأغناه عن ذلك، ولو كان عند أصحابه فى ذلك أيضًا عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 395 النبى (صلى الله عليه وسلم) شىء لأنكروا عليه أخذ ذلك من جهة الاستنباط وضرب المثال فكيف يجوز أن نقبل على علىّ ما يخالف هذا وقد قال: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يسن فى الخمر شيئًا. ودل حديث عقبة بن الحارث وحديث أنس وحديث أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يقصد فى حدّ الشارب إلى عدد من الضرب يكون حدا، وإنما أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) أصحابه أن يضربوه بالجريد والنعال والثياب والأيدى، وإنما ضرب أبو بكر بعده أربعين على التحرى منه لضربه (صلى الله عليه وسلم) إذ لم يوقفهم على حد فى ذلك، فثبت بهذا كله أن التوقيف فى حد الخمر على ثمانين إنما كان فى زمن عمر وانعقاد إجماع الصحابة على ذلك، فلا تجوز مخالفتهم؛ لأن إجماعهم معصوم كما أجمعوا على مصحف عثمان ومنعوا مما عداه، فانعقد الإجماع على ذلك ولزمت الحجة به، وقد قال تعالى: (ويتبع غير سبيل المؤمنين) [النساء: 115] الآية. وقال ابن مسعود: ما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن؛ لأن إجماعهم معصوم. وفيه حجة لمالك ومن وافقه فى جواز أخذ الحدود قياسًا، خلافًا لأهل العراق وبعض أصحاب الشافعى فى منعهم ذلك، واستدلوا بأن الحدود والكفارات وضعت بحسب المصالح وقد تشترك أشياء مختلفة فى الحدود والكفارات وتختلف أشياء متقاربة، ولا سبيل إلى علم ذلك إلا بالنص. فيقال لهم: أجمع الصحابة على حد شارب الخمر ثم نصوا على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 396 المعنى الذى من أجله أجمعوا، وهو قول على وعبد الرحمن: إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فأرى أن يحد حد المفترى. ففى هذا دليل على أخذ الحدود قياسًا، وعلى أصل القياس جواز انعقاد الإجماع عنه. وفى قياسهم حد الخمر على حد الفرية حجة لمالك ومن قال بقطع الذرائع وجعلها أصلا وتحصينًا لحدود الله أن تنتهك؛ لأن عليا لما قال: إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى وعلى المفترى ثمانون. وتابعه الصحابة على ذلك، ولم يخالفه أحد منهم كان ذلك حجة واضحة فى القول بقطع الذرائع؛ لأنه قد يجوز أن يشرب الخمر من لا يبلغ بها إلى الهذى والفرية، ولما كان ذلك غير معلوم لاختلاف الناس فى التقليل من شربها وفى التكثير، وفى غلبة سورتها لبعضهم وتقصيرها عن بعض، وكان الحد لازمًا ولكل شارب؛ ثبت القول بقطع الذرائع فيما يخاف الإقدام فيه على المحرمات وهو أصل من أصول الدين مما أجمع عليه الصحابة. قال المهلب: وفى قول على: ما كنت لأقيم الحد على أحد فيموت فأجد منه فى نفسى. حجة لابن الماجشون ومن وافقه أن الحاكم لا قود عليه إذا أخطأ فى اجتهاده. ويؤيد هذا أن أسامة قتل رجلا قال: لا إله إلا الله ثم أتى النبى (صلى الله عليه وسلم) فأخبره بذلك فلم يزد أن وبخه، ولم يأمره بالدية ولم يأخذها منه لاجتهاده وتأويله فى قتله. وقد تقدم اختلاف العلماء فى هذه المسألة فى كتاب الأحكام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 397 فى باب إذا قضى القاضى بجور خالف فيه أهل العلم فهو مردود والحمد لله. وقوله: (أتى النبى (صلى الله عليه وسلم) بالنعيمان وهو سكران فشق عليه وأمر من فى البيت بضربه) فيه حجة أن السكران يقام عليه الحد ولا يؤخر حتى يصحو؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر من فى البيت أن يضربوه، ولم يؤخره إلى أن يصحو. وجمهور العلماء على خلاف هذا لا يرون الحد عليه وهو سكران حتى يصحو وهو قول مالك والثورى والكوفيين، قالوا: لأن الحد إنما وضعه الله للتنكيل وليألم المحدود ويرتدع، فالسكران لا يعقل ذلك؛ فغير جائز أن يقام الحدّ على من لا يحس به ولا يعقل. 3 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ لَعْنِ شَارِبِ الْخَمْرِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِخَارِجٍ عَنْ الْمِلَّةِ / 6 - فيه: عُمَر، أَنَّ رَجُلا عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ اسْمُهُ عَبْدَاللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ جَلَدَهُ فِى الشَّرَابِ، فَأُتِىَ بِهِ يَوْمًا، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إلا إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) . / 7 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَة، أُتِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِسَكْرَانَ، فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ، فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ رَجُلٌ: مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 398 وروى ابن المنذر هذا الحديث وقال فيه بعد قوله: لا تعينوا عليه الشيطان (ولكن قولوا: اللهم اغفر له) . قال المهلب: فى هذا الحديث بيان قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) يريد وهو مستكمل الإيمان، وليس بخارج من الملة بشربها ولا بمعصية من المعاصى؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد شهد للشارب بحب الله ورسوله وبالإسلام، وقال فيه: (لا تعينوا الشيطان على أخيكم) . فسماه أخًا فى الإسلام، وأمرهم أن يدعوا له بالمغفرة والرحمة. قال المؤلف: بيان قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يشرب الخمرحين يشربها وهو مؤمن) قال: فإن قيل: هذا الحديث معارض لما روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أنه لعن شارب الخمر وعاصرها ومعتصرها) ولعن كثيرًا من أهل المعاصى منهم من ادعى إلى غير أبيه وانتمى إلى غير مواليه، ولعن المصور وجماعة يكثر عددهم. قيل: لا تعارض بين شىء من ذلك بحمد الله، ووجه لعنته لأهل المعاصى يريد الملازمين لها غير التائبين منها ليرتدع بذلك من فعلها وسلك سبيلها، والذى نهى (صلى الله عليه وسلم) عن لعنه فى هذا الباب قد كان أخذ منه حد الله الذى جعله تطهيرًا من الذنوب فحصل فى حالة مهيئة للتوبة ورجا له التمادى على ما حصل له من التطهير وبركة أمره (صلى الله عليه وسلم) أصحابه بالدعاء له. فنهى عن لعنه خشية أن يوقع الشيطان فى قلبه أن من لعن بحضرة النبى (صلى الله عليه وسلم) ولم يغير ذلك ولا نهى عنه فإنه مستحق العقوبة فى الآخرة فينفره بذلك ويغويه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 399 قال المهلب: وقوله: (وكان يضحك النبى (صلى الله عليه وسلم)) فيه من الفقه جواز إضحاك العالم والإمام ببادرة يبدرها (وأمر) يعنى به من الحق لا من شىء من الباطل. وقال المؤلف: وحديث عمر ناسخ لما روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فى الرابعة فاقتلوه) لأنه (صلى الله عليه وسلم) حد الرجل مرارًا فى الخمر ولم يقتله؛ وبهذا قال أئمة الفتوى، لأن قول الذى لعنه (ما أكثر ما يؤتى به) يقتضى حدا من العدد، وما يدخل فى حيز الكثرة إن لم يكن أكثر من أربع فليس بدونها، وقد رفع الإشكال فى ذلك ما ذكره النسائى من حديث ابن المنذر عن جابر أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إن شرب الرابعة فاقتلوه) . قال جابر: فضرب النبى (صلى الله عليه وسلم) نعيمان أربع مرات ولم يقتله، فرأى المسلمون أن الحد قد وقع وأن القتل قد رفع. 4 - باب لَعْنِ السَّارِقِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ / 8 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ) . قَالَ الأعْمَشُ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ بَيْضُ الْحَدِيدِ، وَالْحَبْلُ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْهَا مَا يُسَاوِى دَرَاهِمَ. وقال ابن قتيبة: احتج الخوارج بهذا الحديث وقالوا: القطع يجب فى قليل الأشياء وكثيرها. قال: ولا حجة لهم فيه، وذلك أن الله لما أنزل على رسوله: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) [المائدة: 38] الآية. قال (صلى الله عليه وسلم) : الجزء: 8 ¦ الصفحة: 400 (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده) على ظاهر ما نزل الله عليه فى ذلك الوقت، ثم أعلمه الله أن القطع لا يكون إلا فى ربع دينار فما فوقه على ما رواه الزهرى، عن عمرة، عن عائشة قالت: سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: (لا قطع إلا فى ربع دينار فصاعدًا) ولم يكن يعلم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من حكم الله إلا ما أعلمه الله وما كان الله عرفه ذلك جملة؛ بل كان ينزل عليه شيئًا بعد شىء ويأتيه جبريل بالسنن كما يأتيه بالقرآن، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (أوتيت الكتاب ومثله معه) يعنى من السنن. وأما قول الأعمش: إن البيضة فى هذا الحديث بيضة الحديد التى تغفر الرأس فى الحرب، وأن الحبل من حبال السفن فهذا تأويل لا يجوز عند من يعرف صحيح كلام العرب؛ لأن كل واحد من هذين يبلغ دنانير كثيرة. وهذا ليس موضع تكثير لما يسرقه السارق ولا من عادة العرب والعجم أن يقولوا: قبح الله فلانًا عرض نفسه للضرب فى عقد جوهر وتعرض للعقوبة بالغلول فى جراب مسك، وإنما العادة فى مثل هذا أن يقال: لعنه الله تعرض لقطع اليد فى حبل رث أو كُبة شعر أو رداء خلق، وكل ما كان من هذا الفن كان أبلغ. قال المؤلف: وقوله فى الترجمة باب لعن السارق إذا لم يُسم كذا فى جميع النسخ، والذى يستوحى من معناه إن صح فى الترجمة أنه لا ينبغى تعيير أهل المعاصى ومواجهتهم باللعنة، وإنما ينبغى أن يلعن فى الجملة من فعل أفعالهم ليكون ذلك ردعًا وزجرًا عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 401 انتهاك شىء منها؛ فإذا وقعت من معين لم يلعن بعينه لئلا يقنط وييأس ولنهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك فى حديث النعيمان. فإن كان ذهب البخارى إلى غير هذا فهو غير صحيح؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما نهى عن لعنه وقال: (لا تعينوا عليه الشيطان) بعد إقامة الحد عليه، فدل هذا الحديث على الفرق بين من تجب لعنته وبين من لا تجب، وبان به أن من أقيم عليه حدود الله فلا ينبغى لعنه ومن لم يقم عليه حد الله فاللعنة متوجهة إليه سواء سمى وعُين أم لا؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لا يلعن إلا من تجب له اللعنة ما دام على تلك الحالة الموجبة للعنه، فإذا تاب منها وأقلع وطهره الحد فلا لعنة تتوجه إليه. ويبين هذا قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا زنت الأمة فليجلدها ولا يثرب) فدل هذا الحديث أن التثريب واللعن إنما يكون قبل أخذ الحد وقبل التوبة. والله الموفق. 5 - باب الْحُدُودُ كَفَّارَةٌ / 9 - فيه: عُبَادَةَ، قَالَ: (كُنَّا عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى مَجْلِسٍ، فَقَالَ: بَايِعُونِى عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ كُلَّهَا، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ) . فإن أكثر العلماء ذهب إلى أن الحدود كفارة على حديث عبادة ومنهم من جبن عن هذا لما روى أبو هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لاأدرى الحدود كفارة أم لا) لأن حديث عبادة أصح من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 402 جهة الإسناد، ولو صح حديث أبى هريرة لأمكن أن يقوله (صلى الله عليه وسلم) قبل حديث عبادة ثم يعلمه الله أن الحدود طهرة أو صادة على حديث عبادة ولا تتضاد الأحاديث. قال المهلب: فإن قيل: إن آية المحاربة تعارض حديث عبادة وذلك قوله تعالى: (ذلك لهم خزى فى الدنيا) [المائدة: 33] يعنى الحدود) ولهم فى الآخرة عذاب عظيم) [المائدة: 33] فدلت هذه الآية أن الحدود ليست كفارة. والجواب: أن الوعيد فى المحاربة عند جميع المؤمنين مرتب على قول الله: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 48] فتأويل آية المحاربين) ذلك لهم خزى فى الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب عظيم) [المائدة: 33] إن شاء الله تعالى بقوله: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (وهذه الآية تبطل نفاذ الوعيد على غير أهل الشرك، إلا أن ذكر الشرك فى حديث عبادة مع سائر المعاصى لا يوجب أن من عوقب فى الدنيا وهو مشرك أن ذلك كفارة له؛ لأن الأمة مجمعة على تخليد الكفار فى النار وبذلك نطق الكتاب والسنة. وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب الإيمان فى باب علامة الإيمان حبُ الأنصار، فحديث عبادة معناه الخصوص فيمن أقيم عليه الحد من المسلمين خاصة أن ذلك كفارة له. 6 - باب ظَهْرُ الْمُؤْمِنِ حِمًى إِلا فِى حَدٍّ أَوْ حَقٍّ / 10 - فيه: ابن عُمَر، قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ: (أَلا أَىُّ شَهْرٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟ قَالُوا: أَلا شَهْرُنَا هَذَا، قَالَ: أَلا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 403 أَىُّ بَلَدٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟ قَالُوا: أَلا بَلَدُنَا هَذَا، قَالَ: أَلا أَىُّ يَوْمٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟ قَالُوا: أَلا يَوْمُنَا هَذَا، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ إِلا بِحَقِّهَا كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلا هَلْ بَلَّغْتُ؟ ثَلاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يُجِيبُونَهُ: أَلا نَعَمْ. . . الحديث. قال المهلب قوله: ظهر المؤمن حمىً إلا فى حق يعنى أنه لا يحل للمسلم أن يستبيح ظهر أخيه ولا بشرته لثائرة تكون بينه وبينه أو عداوة إذا لم تكن على حكم ديانة الإسلام مما كانت الجاهلية تستبيحه من الأعراض والدماء، وإنما يجوز استباحة ذلك فى حقوق الله أو حقوق الآدميين أو فى أدب لمن قصر فى الدين، كما كان عمر يؤدب بالدرة وبغيرها كل مظنون به ومقصر. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ألا أى شهر تعلمونه) وقول أصحابه: (ألا شهرنا هذا) فإن العرب تزيد (ألا) فى افتتاح الكلام للتنبيه، كقوله تعالى: (ألا إنهم هم المفسدون) [البقرة: 12] ) وألا حين يستغشون ثيابهم) [هود: 5] ، و) ألا يوم يأتيهم ليس مصروفًا عنهم) [هود: 4] . قال الشاعر: ألا يا زيد والضحاك سيرا فقد جاوزتما خمر الطريق 7 - باب إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالانْتِقَامِ لِحُرُمَاتِ اللَّهِ / 11 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا خُيِّرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَأْثَمْ، فَإِذَا كَانَ الإثْمُ، كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ، وَاللَّهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 404 مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِى شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ. وقولها: (ما خُير رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا) يحتمل أن يكون هذا التخيير ليس من الله؛ لأن الله لا يخير رسوله بين أمرين عليه فى أحدهما إثم فمعنى هذا الحديث ما خير رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أصحابه بين أن يختار لهم أمرين من أمور الدنيا على سبيل المشورة والإرشاد إلا اختار لهم أيسر الأمرين ما لم يكن عليهم فى الأيسر إثم؛ لأن العباد غير معصومين من إرتكاب الإثم، ويحتمل أن يكون ما لم يكن إثمًا فى أمور الدين، وذلك أن الغلو فى الدين مذموم والتشديد فيه غير محمود لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إياكم والغلو فى الدين فإنما هلك من قبلكم بالغلو فى الدين) . فإذا أوجب الإنسان على نفسه شيئًا شاقًا عليه من العبادة فادحًا له ثم لم يقدر على التمادى فيه كان ذلك إثمًا، ولذلك نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) أصحابه عن الترهب. قال أبو قلابة: (بلغ النبى (صلى الله عليه وسلم) أن قومًا حرموا الطيب واللحم، منهم عثمان بن مظعون وابن مسعود وأرادوا أن يختصوا، فقام النبى (صلى الله عليه وسلم) على المنبر فأوعد فى ذلك وعيدًا شديدًا، ثم قال: إنى لم أبعث بالرهبانية، وإن خير الدين عند الله الحنيفية السمحة، وإن أهل الكتاب إنَّما هلكوا بالتشديد، وشدَّدوا فشدد عليهم، ثم قال: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا البيت واستقيموا يستقم لكم) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 405 وقد جعل مطرف بن الشخير ويزيد بن مرة الجعفى مجاوزة القصد فى العبادة وغيرها والتقصير عنه سيئةً. فقالا: الحسنة بين السيئتين، والسيئتان إحداهما مجاوزة القصد والثانية التقصير عنه، والحسنة التى بينهما هى القصد والعدل. قال الداودى: وقولها وما انتقم رسول الله لنفسه، يعنى إذا أوذى بغير السب الذى يخرج إلى الكفر، مثل الأذى فى المال والجفاء فى رفع الصوت فوق صوته، ونحو التظاهر الذى تظاهرت عليه عائشة وحفصة، ومثل جبذ الأعرابى له حتى أثرت حاشية البرد فى عنقه أخذا منه بقوله تعالى: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) [الشورى: 43] وأما إذا أوذى فذلك كفر، وهو انتهاك حرمة الله فيجب عليه الانتقام لنفسه، وكذلك فعل فى ابن خطل يوم فتح مكة حين تعوَّذ بالكعبة من القتل، فأمر بقتله دون سائر الكفار؛ لأنه كان يكثر من سبه، وقد أمر بقتل قينتين كانتا تغنيان بسبه، وانتقم لنفسه؛ لأنه من سب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقد كفر، ومن كفر فقد آذى الله ورسوله، وكذلك قال: (من لكعب بن الأشراف فقد آذى الله ورسوله) ، فانتقم منه لذلك. قال المهلب: ولا يحل لأحد من الأئمة ترك حرمات الله أن تنتهك وعليهم تغيير ذلك. وقد روى عن مالك فى الرجل يؤذى وتنتهك حرمته ثم يأتيه الظالم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 406 المنتهك لحرمته فيسأله الغفران. فقال: لا أرى أن يغفر له. ووجه قول مالك إذا كان معروفًا بانتهاك حرم المسلمين فلا يجب أن يجرى على هذا، ويرد بالإغلاظ عليه والقمع له وعن ظلم أحد. 8 - باب إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ / 12 - فيه: عَائِشَةَ: أَنَّ أُسَامَةَ كَلَّمَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فِى امْرَأَةٍ، فَقَالَ: (إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ الْحَدَّ عَلَى الْوَضِيعِ، وَيَتْرُكُونَ الشَّرِيفَ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ فَعَلَتْ ذَلِكَ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) . قال المهلب: هذا يدل أن حدود الله لا يحل للأئمة ترك إقامتها على القريب والشريف، وأن من ترك ذلك من الأئمة فقد خالف سنُة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ورغب عن اتباع سبيله. وفيه: أن إنفاذ الحكم على الضعيف ومحاشاة الشريف مما أهلك الله به الأمم، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) وصف أن بنى إسرائيل هلكوا بإقامة الحد على الوضيع وتركهم الشريف. وقد وصفهم الله بالكفر لمخالفتهم أمر الله تعالى، فقال تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) [المائدة: 44] ) الظالمون) [المائدة: 54] ) الفاسقون) [المائدة: 47] وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها) هو فى معنى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) [النساء: 135] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 407 فامتثل (صلى الله عليه وسلم) أمر ربه فى ذلك، وامتثله بعده الأئمة الراشدون فى تقويم أهليهم فيما دون الحد. وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، عن سالم، عن أبيه قال: كان عمر بن الخطاب إذا نهى الناس عن شىء جمع أهله، فقال: إنى نهيت الناس عن كذا وكذا، والناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتم وقعوا، وإن هبتم هابوا، وإنى والله لا أوتى برجل منكم وقع فى شىء مما نهيته عنه إلا أضعف عليه العقوبة لمكانه منى، فمن شاء فليتقدم ومن شاء فليتأخر. 9 - باب كَرَاهِة الشَّفَاعَةِ فِى الْحَدِّ إِذَا رُفِعَ إِلَى السُّلْطَانِ / 13 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّتْهُمُ الْمَرْأَةُ الْمَخْزُومِيَّةُ الَّتِى سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: أَتَشْفَعُ فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ ثُمَّ قَامَ، فَخَطَبَ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) سَرَقَتْ، لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا) . ذهب جماعة العلماء إلى أن الحدّ إذا بلغ الإمام أنه يجب عليه إقامته، لأنه قد تعلق بذلك حق لله ولا تجوز الشفاعة فيه لإنكاره ذلك على أسامة وذلك من أبلغ النهى، ثم قام (صلى الله عليه وسلم) خطيبًا فحذر أمته من الشفاعة فى الحدود إذا بلغت إلى الإمام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 408 فإن قيل: فقد قال مالك وأبو يوسف والشافعى: إن القذف إذا بلغ إلى الإمام يجوز للمقذوف العفو عنه إن أراد سترًا. قيل له: إن هذه شبهة يجوز بها درء الحد؛ لأنه إن ذهب الإمام إلى حد القاذف خشى أن يأتى بالبينة على صدق ما قال من القذف، فيسقط الحد عنه، وربما وجب على المقذوف فقويت الشبهة فى ذلك. وقد قال مالك أيضًا: إنه لا يجوز عفوه إذا بلغ الإمام. وهو قول أبى حنيفة والثورى والأوزاعى، وهذا القول أشبه بظاهر الحديث. وأجاز أكثر أهل العلم الشفاعة فى الحدود قبل وصولها إلى الإمام. روى ذلك عن الزبير ابن العوام، وابن عباس، وعمار بن ياسر، ومن التابعين سعيد بن جبير والزهرى، وهو قول الأوزاعى. قالوا: وليس على الإمام التجسس عما لم يبلغه. وكره ذلك طائفة: فقال ابن عمر: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله فى حكمه. وفرق مالك بين من لم يعرف منه أذى للناس. فقال: لا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام، وأما من عرف بشر وفساد فى الأرض فلا أحب أن يشفع له أحد، ولكن يترك حتى يقام عليه الحد. قال ابن المنذر: واحتج من رأى الشفاعة مباحة قبل الوصول إلى الإمام بحديث المخزومية؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) إنما أنكر شفاعة أسامة فى حد قد وصل إليه وعلمه. وفى هذا الحديث بيان رواية معمر عن ابن شهاب: (أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بقطع يدها) وقد تعلق بهذا قوم فقالوا: من استعار ما يجب القطع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 409 فيه ثم جحده فعليه القطع. هذا قول أحمد وإسحاق وقالوا: إن الذى أوجب عليها القطع أنها كانت تستعير المتاع وتجحده. وخالفهم أهل المدينة والكوفة والشافعى وجمهور العلماء وقالوا: لا قطع عليهم. وحجتهم ما رواه الليث عن ابن شهاب فى هذا الحديث: أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التى سرقت، فدل هذا الحديث أنها لم تقطع على استعارتها للمتاع، وإنما قطعت على السرقة، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى آخر الحديث (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها) فارتفع الإشكال بهذا لو لم يذكر الليث فى أول الحديث أنها سرقت. قال ابن المنذر: وقد يجوز أن كانت تستعير المتاع وتجحده ثم سرقت فوجب قطع يدها للسرقة. وقد تابع الليث على روايته يونس بن يزيد وأيوب بن موسى روياه عن الزهرى كرواية الليث، وإذا اختلفت الآثار وجب الرجوع إلى النظر ووجب رد ما اختلف فيه إلى كتاب الله، وإنما أوجب الله القطع على السارق لا على المستعير. - باب قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) [المائدة: 38] وَفِى كَمْ يُقْطَعُ؟ وَقَطَعَ عَلِىٌّ مِنَ الْكَفِّ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِى امْرَأَةٍ سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ شِمَالُهَا: لَيْسَ إِلا ذَلِكَ. / 14 - فيه: عَائِشَةَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (تُقْطَعُ الْيَدُ فِى رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 410 / 15 - وقالت مرة: إِنَّ يَدَ السَّارِقِ لَمْ تُقْطَعْ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) إِلا فِى ثَمَنِ مِجَنٍّ حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ. / 16 - وقالت مرة: لَمْ تُقْطَعُ فِى أَدْنَى مِنْ ثَمَنِ المِجَن حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَا ثَمَنٍ. / 17 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَطَعَ فِى مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلاثَةُ دَرَاهِمَ. / 18 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النّبىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ) . هذه الآية محكمة فى وجوب قطع السارق ومجملة فى مقدار ما يجب فيه القطع، فلو تركنا مع ظاهره لوجب القطع فى قليل الأشياء وكثيرها، لكن بين لنا النبى (صلى الله عليه وسلم) مقدار ما يجب فيه القطع بقوله: (يقطع الكف فى ربع دينار فصاعدًا) ففهمنا بهذا الحديث أن الله إنما أراد بقوله: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) [المائدة: 38] بعض السراق دون بعض فلا يجوز قطع يد السارق إلا فى ربع دينار فصاعدًا أو فيما قيمته ربع دينار مما يجوز ملكه إذا سرق من حرز. روى هذا القول عن عمر وعثمان وعلى وعائشة، وهو قول مالك والليث والأوزاعى والشافعى وأبى ثور. وذهب الثورى والكوفيون إلى أنه لا تقطع اليد إلا فى عشرة دراهم، وقالوا: من سرق مثقالا لا يساوى عشرة دراهم لا قطع عليه. وكذلك من سرق عشرة دراهم فضة لا تساوى عشرة دراهم مضروبة لم يقطع، واحتجوا بما رواه أبو إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 411 عطاء، عن ابن عباس قال: كانت قيمة المجن الذى قطع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيه عشرة دراهم. والحجة على الكوفيين أنه يحتمل أن يكون القطع فى عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى مجنين مختلفين أحدهما ثمنه ثلاثة دراهم والثانى ثمنه عشرة دراهم؛ لأنه إذا صح القطع بنقل الثقات فى ثلاثة دراهم دخلت فيه العشرة دراهم، وهذا أولى من حمل الأخبار على التضاد. ومع الأئمة الأربعة الراشدين عائشة، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدرى، وابن الزبير، رضوان الله عليهم. واختلف مالك والشافعى فى تقويم الأشياء المسروقة، فقال مالك: تقوم بالدراهم على حديث ابن عمر أن المجن كان ثمنه ثلاثة دراهم، ولا ترد الفضة إلى الذهب فى القيمة ولا الذهب إلى الفضة، فمن سرق عنده ربع دينار فعليه القطع، ومن سرق ثلاثة دراهم فعليه القطع، ولو سرق عنده درهمين صرفهما ربع دينار لم يجب عليه قطع، ولو سرق ربع دينار لا تبلغ قيمته ثلاثة دراهم لوجب عليه القطع. وذهب الشافعى إلى أن تقويم الأشياء بالذهب على حديث عائشة فى ربع دينار، ولا يقوم شيئًا بالدراهم فيقطع فى ربع دينار ولا يقطع فى ثلاثة دراهم إلا أن تكون قيمتها ربع دينار قال: لأن الثلاثة دراهم إنما ذكرت فى الحديث؛ لأنها كانت يومئذ ربع دينار ذهبًا. فيقال للشافعى: الذهب والورق أصلان كالدية التى جعلت ألف دينار أو اثنى عشر ألف درهم، وكالزكاة التى جعلت فى مائتى درهم أو عشرين دينارًا لا يرد أحدهما إلى الآخر. فكذلك لا ينبغى أن يقوم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 412 الذهب بالدراهم ولا تقوم الدراهم بالذهب؛ لأنها قيم المتلفات وأثمان الأشياء، بل الغالب القيمة بالدراهم، ومحال أن يحكى ابن عمر أن المجن قيمته ثلاثة دراهم إلا وقد قوم بها دون الذهب، وإذا ثبت أن المجن قُوم بالدراهم ولم ينقل بعد ذلك أن الدراهم قومت بالذهب لم يجز تقويمها بالذهب كما لا يقوم الذهب بها، ووجب استعمال الأحاديث فوجب القطع فى ربع دينار وثلاثة دراهم. واختلفوا فى اليد والرجل من أين يُقطعان؟ فروى عن عمر وعثمان وعلى أنهم قالوا: من المفصل. وعليه أكثر الفقهاء، وقد روى عن على رواية أخرى أنها تقطع اليد من الأصابع والرجل من نصف القدم ويترك له عقبًا. وقال أبو ثور: فعل على أرفق وأحب إلىّ. والقول الأول: أولى بقوله تعالى: (فاقطعوا أيديهما) [المائدة: 38] . واختلفوا إذا سرق ثالثة بعد أن قطع فى الأولى والثانية. فقالت طائفة: تقطع يده اليسرى، ثم إن سرق رابعة قطعت رجله اليمنى فيصير مقطوع اليدين والرجلين. روى هذا عن أبى بكر الصديق وعمر وعثمان، ومن التابعين عروة والقاسم وسعيد بن المسيب وربيعة، وهو قول مالك والشافعى. وقال أبو حنيفة والثورى والأوزاعى: إن سرق الثالثة لا يقطع منه شىء ويغرم السرقة، روى مثل هذا عن على بن أبى طالب وهو قول النخعى والشعبى والزهرى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 413 قال عطاء، وقال بعض أصحاب الظاهر: لا يجب أن يقطع من السارق إلا الأيدى دون الأرجل، واحتج عطاء بقول الله تعالى: (السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) [المائدة: 38] ولو شاء أمر بالرجل وما كان ربك نسيا. وحجة الكوفيين ما رواه إسماعيل بن جعفر، عن أبيه أن على بن أبى طالب كان لا يزيد أن يقطع للسارق يدًا أو رجلا فإذا أتى به بعد ذلك قال: إنى لأستحى أن لا يتطهر للصلاة ولكن امسكوا كلبه عن المسلمين بالسجن وأنفقوا عليه من بيت المال. والحجة لمالك أن أهل العراق والحجاز يقولون بجواز قطع الرجل بعد اليد وهم يقرءون) فاقطعوا أيديهما) [المائدة: 38] وهذه المسألة تشبه المسح على الخفين وهم يقرءونه غسل الرجلين أو مسحهما، وتشبه الجزاء فى قتل صيد الخطأ وهم يقرءونه) ومن قتله منكم متعمدًا) [المائدة: 95] ولا يجوز على الجمهور تحريف الكتاب ولا الخطأ فى تأويله، وإنما قالوا ذلك بالسنة الثابتة والأمر المتبع. وقال إسماعيل بن إسحاق: لما قال الله: (فاقطعوا أيديهما) [المائدة: 38] فأجمعوا أن يده تقطع، ثم إن سرق بعد ذلك قطع منه شىء آخر، فدل على أن المذكور فى القرآن إنما هو على أول حكم يقع عليه فى السرقة، وأنه إن سرق بعد ذلك أعيد عليه الحكم كما يحد إذا زنا وهو بكر، فإذا أعاد الزنا أعيد عليه الحد فإذا صح هذا وجب أن يقطع أبدًا حتى لا يبقى له يد ولا رجل كما يجلد أبدًا حتى لا يبقى فيه موضع جلد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 414 وقال غيره: إنما فهم السلف قطع يد السراق وأرجلهم من خلاف من آية المحاربين، والله أعلم وقد تقدم الكلام على حديث أبى هريرة فى باب لعن السارق إذا لم يسم. - باب تَوْبَةِ السَّارِقِ / 19 - فيه: عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَطَعَ يَدَ امْرَأَةٍ، وَكَانَتْ تَأْتِى بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَتَابَتْ، وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا. / 20 - وفيه: عبادة فى حديث المبايعة إلى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَأُخِذَ بِهِ فِى الدُّنْيَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَطَهُورٌ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ) . وقد تقدم فى كتاب الشهادة اختلاف العلماء فى قبول شهادة التائب فى كل شىء مما حدَّ فيه وفى غيره لقول عائشة: فتابت وحسنت توبتها وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) وهو معنى قوله فى هذا الحديث أن الحدود فى الدنيا كفارة وطهور، وصحة القول أرجح فى النظر من قول من خالفه لما شهد له من ثابت الآثار ومعانى القرآن، والحمد لله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 415 61 - كتاب المحاربين - باب الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [المائدة: 33] . / 1 - فيه: أَنَس، قَدِمَ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، نَفَرٌ مِنْ عُكْلٍ فَأَسْلَمُوا، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ، فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَفَعَلُوا، فَصَحُّوا، فَارْتَدُّوا، وَقَتَلُوا رُعَاتَهَا، وَاسْتَاقُوا الإبِلَ، فَبَعَثَ فِى آثَارِهِمْ، فَأُتِىَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، ثُمَّ لَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَّى مَاتُوا. قال المؤلف: ذهب البخارى فى هذا الحديث والله أعلم، إلى أن آية المحاربة نزلت فى أهل الكفر والردة، ولم يبين ذلك فى الحديث، وقد بين عبد الرزاق فى روايته قال: حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس فذكر الحديث. قال قتادة: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم) إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) [المائدة: 33] الآية كلها. وذكر مثله عن أبى هريرة وممن قال إن هذه الآية نزلت فى أهل الشرك: الحسن، والضحاك، وعطاء الزهرى. وذهب جمهور العلماء إلى أنها نزلت فيمن خرج من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 416 المسلمين يسعى فى الأرض بالفساد ويقطع الطريق، هذا قول مالك والكوفيين والشافعى وأبى ثور إلا أن بعض هؤلاء يقول إن حد المحارب على قدر ذنبه على ما يأتى تفسيره فى هذا الباب. وليس قول من قال: إن الآية وإن كانت نزلت فى المسلمين مناف فى المعنى لقول من قال إنها نزلت فى أهل الردة والمشركين؛ لأن الآية وإن كانت نزلت فى المرتدين بأعيانهم فلفظها عام يدخل فى معناه كل من فعل مثل فعلهم من المحاربة والفساد فى الأرض، ألا ترى أن الله جعل قصر الصلاة فى السفر بشرط الخوف ثم ثبت القصر للمسافرين وإن لم يكن خوف لما يجمعهما فى المعنى. قال إسماعيل بن إسحاق: وظاهر كتاب الله وما مضى عليه عمل المسلمين يدل أن هذه الحدود نزلت فى المسلمين؛ لأن الله تعالى يقول: (إذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) [محمد: 4] وقال: (وقاتلوا المشركين كافة) [التوبة: 36] . فلم يذكر فيهم إلا القتل والقتال؛ لأنهم إنما يقاتلون على الديانة لا على الأعمال التى يعملونها من سرق أو قطع طريق أو غيره، وإذا ذكرت الحدود التى تجب على الناس من الحرابة والفساد فى الأرض أو السرقة وغيرها لم تسقط عن المسلمين؛ لأنها إنما وجبت من طريق أفعال الأبدان لا من طريق اعتقاد الديانات. ولو كان حد المحارب فى الكافر خاصة لكانت الحرابة قد نفعته فى أمر دنياه لأنا نقتله بالكفر. فإن كان إذا أحدث الحرابة مع الكفر جاز لنا أن نقطع يده ورجله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 417 من خلاف أو نفيه من الأرض ولا نقتله فقد خففت عنه العقوبة. واحتج أبو ثور على من زعم أنها نزلت فى أهل الشرك بقوله تعالى: (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) [المائدة: 34] . قال: ولا أعلم خلافًا بين العلماء فى مشركين لو ظهر عليهم وقد قتلوا وأخذوا الأموال فلما صاروا فى أيدى المسلمين وهم على حالهم تلك أسلموا قبل أن يحكم عليهم بشىء أنهم لا يحل قتلهم، فلو كان الأمر على ما قال من خالف قولنا كان قتلهم والحكم عليهم بالآية لازمًا وإن أسلموا، فلما نفى أهل العلم ذلك دل على أن الحكم ليس فيهم. قال إسماعيل: وإنما سقط عنهم القتل وكل ما فعلوه بقوله تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) [الأنفال: 38] . فإن مضى عليه قول شيوخ أهل العلم أن المعنى بهذا المسلمون وأنهم إذا حاربوا ثم تابوا من قبل أن يقدر عليهم فإن هذه الحدود تسقط عنهم لأنها لله، وأما حقوق العباد فإنها لا تسقط عنهم ويقتص منهم من النفس والجراح وأخذ ما كان معهم من المال أو قيمة ما استهلكوا. هذا قول مالك والكوفيين والشافعى وأبى ثور. ذكره ابن المنذر. وأما ترتيب أقوال العلماء الذين جعلوا الآية نزلت فى المسلمين فى حد المحارب المسلم، فقال مالك: إذا أشهر المحارب السلاح وأخاف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 418 السبيل ولم يقتل ولا أخذ مالا كان الإمام مخيرًا فيه، فإن رأى أن يقتله أو يصلبه أو يقطع يده ورجله من خلاف أو ينفيه فعل. وقال الكوفيون والشافعى: إذا لم يقتل ولا أخذ مالا لم يكن عليه إلا التعزير، وإنما يقتله الإمام إن قتل، ويقطعه إذا سرق، ويصلبه إذا قتل وأخذ المال، وينفيه إذا لم يفعل شيئًا من ذلك، ولا يكون الإمام مخيرًا فيه. قال إسماعيل: فأجروا حكم المحارب كحكم القاتل غير المحارب، ولم توجب المحاربة عندهم شيئًا وقد ركب ما ركب من الفساد فى الأرض وقد قال تعالى: (من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا) [المائدة: 32] فجعل الفساد بمنزلة القتل. والمعنى والله أعلم من قتل نفسًا بغير نفس، أو بغير فساد فى الأرض فلم يحتج إلى أن تعاد (غير) وعطف الكلام على ما قبله، فجعل الفساد عدلا للقتل. وإذا كان الشىء بمنزلة الشىء فهو مثله، فكان الفساد فى الأرض بمنزل القتل. هذا قول إسماعيل وعبد العزيز بن أبى سلمة. قال إسماعيل: والذى يعرف من الناس من الكلام فى كل ما أمر به فقيل افعلوا كذا أو كذا، فإن صاحبه مخير. وقال عطاء ومجاهد والضحاك: كل شىء فى القرآن أو. . . أو فهو خيار. واحتج من أسقط التخيير بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، رجل كفر بعد إسلامه أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسًا بغير نفس) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 419 فجاوبهم أهل المقالة الأولى بأن ظاهر هذا الحديث يدل أن المحارب غير داخل فيه؛ لأن قاتل النفس فى غير المحاربة إنما أمره فى القتل أو الترك إلى ولى المقتول، وأمر المحارب إلى السلطان؛ لأن فساده فى الأرض لا يلتفت فيه إلى عفو المقتول فعلمنا بهذا أن المحارب لا يدخل فى هذا الحديث وإنما يدخل فيه القاتل الذى الأمر فيه إلى ولى المقتول إذا قتل فيه أو قتل نفسًا فكأنه على مجرى القصاص، ولو كان على العموم لوجب أن يقتل كل قاتل قتل مسلمًا عمدًا. وقد رأينا مسلمًا قتل مسلمًا عمدًا لم يجب عليه القتل فى قول جماعة المسلمين، وذلك أنهم أجمعوا فى قتلى الجمل وصِفين أنه لا قصاص بينهم إذ كان القاتل المسلم إنما قتل المسلم المقتول عمدًا على التأويل فى الدين لم يقتله لثائرة بينه وبينه ولا قصد له فى نفسه وإنما قصد فى قتله الديانة عنده فسقط عنه القود لذلك فكذلك أمر المحارب إنما كان على قصد قتل المسلم لقطع الطريق وأخذ الأموال والفساد فى الأرض، فكان الأمر فيه إلى السلطان لا إلى ولى المقتول، فكما خرج قتلى صِفين والجمل من معنى هذا الحديث كذلك خرج المحارب من معناه. ويشهد لما قلناه ما رواه الأعمش عن عبد الله بن مرة قال: قال مسروق: قال عبد الله: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يحل دم رجل مسلم إلا بإحدى ثلاث. فعدَّ النفس بالنفس، والثيب الزانى، والتارك لدينه المفارق الجماعة) . قال إسماعيل: وقوله: (المفارق الجماعة) يدل على الفساد فى الأرض نحو الخوارج والمحاربين، فإذا كان الخوارج يحل قتلهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 420 وليسوا بمرتدين لفسادهم فى الأرض، كذلك يحل قتل المحاربين وإن لم يكونوا قتلوا ولا ارتدوا لفسادهم فى الأرض. واختلف فى صفة نفى المحارب، فعند مالك أنه ينفيه إلى غير بلده ويحبسه فيه حتى يظهر توبته، وقال أبو حنيفة: نفيهم من الأرض هو أن يحبسوا فى بلدهم. وقال الشافعى: نفيهم هو إذا هربوا بعث الإمام خلفهم وطلبهم ليأخذهم ويقيم عليهم الحد. قال ابن القصار: والنفى بعينه أشبه بظاهر القرآن لقوله تعالى: (أو ينفوا من الأرض) [المائدة: 33] وهذا يقتضى أن ينفيهم الإمام كما يقتلهم أو يصلبهم، وما قاله أبو حنيفة من الحبس فى بلدهم فالنفى ضد الحبس وليس يعقل من النفى حبس الإنسان فى بلده، وإنما يعقل منه إخراجه من وطنه وهو أبلغ فى ردعه ثم يحبس فى المكان الذى يخرج إليه حتى يظهر توبته، هذا حقيقة النفى، وهو أشد فى الردع والزجر وقد قرن الله مفارقة الوطن بالقتل فقال: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم) [النساء: 66] الآية. - باب لَمْ يَحْسِمِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ حَتَّى هَلَكُوا / 2 - فيه: أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَطَعَ الْعُرَنِيِّينَ، وَلَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَّى مَاتُوا. إنما لم يحسم النبى (صلى الله عليه وسلم) العرنيين والله أعلم لأن قتلهم كان واجبًا بالردة، فمحال أن يحسم يد من يطلب نفسه وأما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 421 من وجب قطع يده فى حد من الحدود فالعلماء مجمعون أنه لابد من حسمها؛ لأنه أقرب إلى البر وأبعد من التلف. قال ابن المنذر: وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه أمر بقطع يد رجل سرق ثم قال: (احسموها) وفى اسناده مقال. واختلف العلماء فى فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) بالعرنيين فقالت طائفة من السلف: كان هذا قبل نزول الآية فى المحاربين، ثم نزلت الحدود بعد ذلك على النبى (صلى الله عليه وسلم) ونهى عن المثلة فنسخ ذلك حديث العرنيين، روى هذا عن ابن سيرين وسعيد بن جبير وأبى الزناد. وقالت طائفة: حديث العرنيين غير منسوخ، وفيهم نزلت آية المحاربين، وإنما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) بهم ما فعل قصاصًا؛ لأنهم فعلوا بالرعاء مثل ذلك، ذكره أهل السير. وروى محمَّد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: أن العرنيين قتلوا يسارًا راعى النبى (صلى الله عليه وسلم) ثم مثلوا به واستاقوا اللقاح. وذكر ابن إسحاق قال: حدثنى بعض أهل العلم عمن حدثه، عن محمد بن طلحة، عن عثمان بن عبد الرحمن قال: (أصاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى غزوة محارب بنى ثعلبة عبدًا يقال له يسار، فجعله فى لقاح له يرعى فى ناحية الحمى فخرجوا إليها، فقدم إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) نفر من قيس بعطية من نخيلة فاستوبئوا وطحلوا، فأمرهم أن يخرجوا إلى اللقاح يشربوا من أبوالها وألبانها، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 422 فخرجوا إليها، فلما صحّوا وانطوت بطونهم عدوا على راعى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يسار فذبحوه وغرزوا الشوك فى عينيه. .) وذكر الحديث. وروى أبو عيسى الترمذى: حدثنا الفضل بن سهل الأعرج، حدثنا يحيى بن غيلان، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سليمان التيمى، عن أنس بن مالك قال: (إنما سمل النبى (صلى الله عليه وسلم) أعين العُرنيين؛ لأنهم سملوا أعين الرعاء) . قال أبو عيسى: وهذا حديث غريب. قال المؤلف: فلما اختلفوا فى تأويل هذا الحديث أردنا أن نعلم أى التأويلين أولى فوجدناه قد صحب حديث العرنيين عمل من الصحابة فدل أنه غير منسوخ. روى عن أبى بكر الصديق أنه حرق عبد الله بن إياس بالنار حيا لارتداده ومقاتلته الإسلام، وحرق على ابن أبى طالب الزنادقة. وقد رأى جماعة من العلماء تحريق مراكب العّدو وفيها أسرى المسلمين، ورجموا الحصون بالمجانيق والنيران وتحريق من فيها من الذرارى. قل المهلب: وهذا كله يدل أن نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن المثلة ليس بذى تحريم وإنما هو على الندب والحض، فوجب أن يكون فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) بالعرنيين غير مخالف الآية. وذكر ابن المنذر عن بعض أهل العلم قالوا: فحكم النبى (صلى الله عليه وسلم) فى العرنيين ثابت لم ينسخه شىء، وقد حكم الله فى كتابه بأحكام فحكم النبى (صلى الله عليه وسلم) بها وزاد فى الحكم مالم يذكر فى كتاب الله أوجب الله على الزانى جلد مائة، وأوجب النبى (صلى الله عليه وسلم) عليه ذلك وزاد فى سنته نفى سنة، وأوجب الله اللعان بين المتلاعنين وفرق النبى (صلى الله عليه وسلم) بينهما، وليس ذلك فى كتاب الله، وألحق الولد بالأم ونفاه عن الزوج وأجمع العلماء على قبوله والأخذ به. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 423 وحسمت الشىء: قطعته. عن صاحب العين. وفى كتاب الأفعال: حَسم حسمًا: كواه بالنار لينقطع دمه. 3 - باب لَمْ يُسْقَ الْمُرْتَدُّونَ وَالْمُحَارِبُونَ حَتَّى مَاتُوا / 3 - فيه: أَنَس، قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) كَانُوا فِى الصُّفَّةِ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبْغِنَا رِسْلا، فَقَالَ: مَا أَجِدُ لَكُمْ، إِلا أَنْ تَلْحَقُوا بِإِبِلِ رَسُولِ اللَّهِ، فَأَتَوْهَا، فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا، وَقَتَلُوا الرَّاعِىَ، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، فَأَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) الصَّرِيخُ، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِى آثَارِهِمْ، فَمَا تَرَجَّلَ النَّهَارُ حَتَّى أُتِىَ بِهِمْ فَأَمَرَ بِمَسَامِيرَ، فَأُحْمِيَتْ، فَكَحَلَهُمْ، وَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَمَا حَسَمَهُمْ، ثُمَّ أُلْقُوا فِى الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ، فَمَا سُقُوا حَتَّى مَاتُوا. قَالَ أَبُو قِلابَةَ: سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وروى: وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ. وترجم له باب: سمر النبى (صلى الله عليه وسلم) أعين المحاربين. أجمع العلماء فيمن وجب عليه حد، سواء كان ذلك الحد يبلغ النفس أم لا أنه لا يمنع شرب الماء لئلا يجتمع عليه عذابان. وقد أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) القاتل بإحسان القتلة، وأمر ذابح الحيوان بحد الشفرة والإجهاز عليه. ومعنى ترك سقى العرنيين حتى ماتوا كمعنى ترك حسمهم. قال المهلب: ويحتمل أن يكون ترك سقيهم والله أعلم عقوبة لما جازوا سقى النبى (صلى الله عليه وسلم) لهم اللبن حتى انتعشوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 424 بالارتداد والحرابة والقتل، فأراد أن يعاقبهم على كفر السقى بالإعطاش فكانت العقوبة مطابقة للذنب. وفيه وجه آخر قريب من هذا، روى ابن وهب عن معاوية بن صالح ويحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد، وعن سعيد بن المسيب وذكر هذا الحديث (فعمدوا إلى الراعى غلام لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقتلوه واستاقوا اللقاح فزعم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: عطش الله من عطش آل محمد الليلة. فكان ترك سقيهم إجابة لدعوته (صلى الله عليه وسلم)) . وسمل وسمر لغتان بمعنى واحد. فإن قيل: قال أنس فى هذا الحديث (بإبل النبى (صلى الله عليه وسلم)) وقال فى أول كتاب المحاربين (بإبل الصدقة) فما وجه ذلك؟ قيل: وجهه والله أعلم أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كانت له إبل من نصيبه من المغنم، وكان يشرب لبنها، وكانت ترعى مع إبل الصدقة فأخبر مرة فى هذا الحديث عن إبله، وأخبر مرة عن إبل الصدقة فإنها كانت لا تخفى لكثرتها من أجل رعيها معها ومشاركتها فى المسرح والمرتع. 4 - باب فَضْلِ مَنْ تَرَكَ الْفَوَاحِشَ / 4 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِى ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ فِى خَلاءٍ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِى اللَّهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إِلَى نَفْسِهَا، فَقَالَ: إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 425 / 5 - وفيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ تَوَكَّلَ لِى مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَمَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، تَوَكَّلْتُ لَهُ بِالْجَنَّةِ) . قوله (صلى الله عليه وسلم) : (سبعة يظللهم الله فى ظله) معناه: يسترهم فى ستره ورحمته. تقول العرب: أنا فى ظل فلان: أى فى ستره وكنفه، وتسمى العرب الليل ظلا لبرده وروحه. ويدخل فى معنى قوله (إمام عادل) : من حكم بين اثنين فما فوقهما لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) . وروى عبد الله بن عمر عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (المقسطون يوم القيامة على منابر النور عن يمين الرحمن عز وجل الذين يعدلون فى حكمهم وأهاليهم وما ولُوا) . وقوله: (شاب نشأ فى عبادة الله) فروى عقبة بن عامر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (عجب ربك تعالى لشاب ليس له صبوة) وفى قوله: (شاب نشأ فى عبادة الله) فضل من يسلم من الذنوب وشغل بطاعة ربه طول عمره. وهذا حجة لمن قال: إن الملائكة أفضل من بنى آدم؛ لأن الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون. وفيه: فضل البكاء من خشية الله، وفى اشتراطه الخلوة بذلك حصر وندب على أن يجعل المرء وقتًا من خلوته للندم على ذنوبه ويفزع إلى الله بإخلاص من قلبه، وتضرع إليه فى غفرانها فإنه يجيب المضطر إذا دعاه، وألا يجعل خلوته كلها فى لذاته كفعل البهائم التى قد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 426 أمنت الحساب والمساءلة عن الفتيل والقطمير على رءوس الخلائق فينبغى لمن لم يأمن ذلك وأيقن به أن يطول فى الخلوة بكاؤه ويتبرم لحياته وتصير الدنيا سجنه لما سلف من ذنوبه. روى أبو هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لا يلج النار أحد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن فى الضرع) . روى أبو عمران عن أبى الجلد قال: قرأت فى مسألة داود (صلى الله عليه وسلم) ربه: (إلهى ما جزاء من بكى من خشيتك حتى تسيل دموعه على وجهه؟ قال: أسلم وجهه من لفح النار وأؤمنه يوم الفزع) . وفيه: فضل الحب فى الله قال مالك: الحب فى الله والبغض فى الله من الفرائض. روى أبو مسعود والبراء بن عازب عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : أن ذلك من أوثق عُرى الإيمان. وروى ثابت عن أنس قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (ما تحاب رجلان فى الله إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه) وروى أبو رزين قال: (قال لى النبى (صلى الله عليه وسلم) : يا أبا رزين إذا خلوت فحرك لسانك بذكر الله، وحب فى الله وأبغض فى الله، فإن المسلم إذا زار أخاه فى الله تعالى يشيعه سبعون ألف ملك يقولون: اللهم وَصَلَه فيك فصِلْه) . ومن فضل المتحابين فى الله أن كل واحد منهما إذا دعا لأخيه بظهر الغيب أمَّنَ الملك على دعائه، رواه أبو الدرداء عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . وأما الذى إذا دعته امرأة ذات منصب إلى نفسها فقال: إنى أخاف الله. فهو رجل عصمه الله ومنّ عليه بفضله حتى خافه بالغيب فترك ما يهوى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 427 لقوله تعالى: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى) [النازعات: 40] وقال: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) [الرحمن: 46] . فتفضل الله على عباده بالتوفيق والعصمة وأثابهم على ذلك روى أبو معمر عن سلمة بن نبيط عن عبيد بن أبى الجعد، عن كعب الأحبار قال: إن فى الجنة لدار، درة فوق درة، ولؤلؤة فوق لؤلؤة، فيها سبعون ألف قصر، فى كل قصر سبعون ألف دار، فى كل دار سبعون ألف بيت، لا ينزلها إلا نبى أو صديق أو شهيد أو محكم فى نفسه أو إمام عادل، قال سلمة: فسألت عبيدًا عن المحكم فى نفسه قال: هو الرجل يطلب الحرام من النساء أو من المال فيعرض له فإذا ظفر به تركه مخافة الله فذلك المحكم فى نفسه. وقوله: (رجل تصدق بصدقة فأخفاها) يعنى صدقة التطوع؛ لأن صدقة الفرض إعلانها أفضل من إخفائها ليقتدى به فى ذلك ويظهر دعائم الإسلام. وقوله: (حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه) إخفاء بذلك، ومصداق هذا الحديث فى قوله تعالى: (إن تبدوا الصدقات فنعما هى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) [البقرة: 171] . وقوله: (من ضمن لى ما بين لحييه) يريد لسانه (وما بين رجليه) يريد فرجه. وأكثر بلاء الناس من قبل فروجهم وألسنتهم، فمن سلم من ضرر هذين فقد سلم وكان النبى (صلى الله عليه وسلم) له كفيلا بالجنة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 428 5 - باب إِثْمِ الزُّنَاةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلا يَزْنُونَ) [الفرقان: 68] ،) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا) [الإسراء: 32] . / 6 - فيه: أَنَسٌ، قَالَ: لأحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لا يُحَدِّثُكُمُوهُ أَحَدٌ بَعْدِى سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ، وَإِمَّا قَالَ: مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ، حَتَّى يَكُونَ لِلْخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ) . / 7 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَزْنِى الْعَبْدُ حِينَ يَزْنِى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَقْتُلُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) . قَالَ عِكْرِمَةُ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ يُنْزَعُ الإيمَانُ مِنْهُ؟ قَالَ: هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا، فَإِنْ تَابَ عَادَ إِلَيْهِ هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. / 8 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ مثله، غير قول عِكْرِمَةُ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ) . / 9 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَىٌّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَىٌّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِىَ حَلِيلَةَ جَارِكَ) . قال يحيى مثله. أجمعت الأمة أن الزنا من الكبائر وأخبر (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أنس أن ظهوره من أشراط الساعة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 429 قال المهلب: فى حديث عبد الله ترتيب الذنوب فى العظم، وقد يجوز أن يكون بين الذنبين المرتبين ذنب غير مذكور، وهو أعظم من المذكور، وذلك أنه لا خلاف بين الأمة أن عمل قوم لوط أعظم من الزنا. وكان (صلى الله عليه وسلم) إنما قصد بالتعظيم من الذنوب إلى ما يخشى مواقعته وبه الحاجة إلى بيانه وقت السؤال كما فعل فى الإيمان بوفد عبد القيس وغيرهم. وإنما عظم الزنا بحليلة الجار، وإن كان الزنا عظيمًا؛ لأن الجار له من الحرمة والحق ما ليس لغيره، فمن لم يراع حق الجوار فذنبه مضاعف؛ لجمعه بين الزنا وبين خيانة الجار الذى وصى الله تعالى بحفظه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 430 62 - كتاب الرجم - باب رَجْمِ الْمُحْصَنِ وَقَالَ الْحَسَنُ: مَنْ زَنَى بِأُخْتِهِ حُدَّ حَدَّ الزنَّا. / 1 - فيه: عَلِىٍّ حِينَ رَجَمَ الْمَرْأَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ: قَدْ رَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . / 2 - وفيه: الشَّيْبَانِىِّ: سَأَلْتُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ أَبِى أَوْفَى: هَلْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: قَبْلَ سُورَةِ النُّورِ أَمْ بَعْدُ؟ قَالَ: لا أَدْرِى. / 3 - وفيه: جَابِرِ أَنَّ رَجُلا مِنْ أَسْلَمْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَحَدَّثَهُ أَنَّهُ قَدْ زَنَى، فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَرُجِمَ، وَكَانَ قَدْ أُحْصِنَ. قال ابن المنذر: وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم) [النساء: 95] وقال: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) [النساء: 80] فألزم خلفه طاعة رسوله، وثبتت الأخبار عن الرسول أنه أمر بالرجم ورجم، ألا ترى قول على: رجمنا بسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ورجم عمر بن الخطاب، فالرجم ثابت بسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبفعل الخلفاء الراشدين وباتفاق أئمة أهل العلم، منهم مالك بن أنس فى أهل المدينة، والأوزاعى فى أهل الشام، والثورى وجماعة أهل العراق، والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور. ودفع الخوارج الرجم والمعتزلة واعتلوا بأن الرجم ليس فى كتاب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 431 الله تعالى وما يلزمهم من اتباع كتاب الله مثله يلزمهم من اتباع سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) [الحشر: 7] فلا معنى لقول من خالف السنة وإجماع الصحابة واتفاق أئمة الفتوى ولا يعدون خلافًا. وقد روى حماد بن زيد وحماد بن سلمة وهشيم، عن على بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: سمعت عمر ابن الخطاب يقول: أيها الناس إن الرجم حق فلا يُحَد عنه فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد رجم. ورجم أبو بكر، ورجمنا بعدهما، وسيكون قوم من هذه الأمة يكذبون بالرجم والدجال، وبطلوع الشمس من مغربها، وبعذاب القبر، والشفاعة، وبقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا. اختلف العلماء فيمن زنا بأخته أو ذات رحم منه، فقال بقول الحسن: حده حد الزانى. مالك ويعقوب ومحمد والشافعى وأبو ثور. وقالت طائفة: إذا زنا بالمحرمة قتِل، روى عن جابر بن زيد، وهو قول أحمد وإسحاق، واحتجوا بحديث البراء أن النبى (صلى الله عليه وسلم) بعث إلى رجل نكح امرأة أبيه أن يضرب عنقه. - باب لا يُرْجَمُ الْمَجْنُونَةُ وَالْمَجْنُونُ وَقَالَ عَلِيٌّ لِعُمَرَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يُدْرِكَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ. / 4 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: (أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ فِى الْمَسْجِدِ، فَنَادَاهُ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 432 فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى رَدَّدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَاتٍ، دَعَاهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَهَلْ أَحْصَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : اذْهَبُوا بِهِ، فَارْجُمُوهُ) . قَالَ جَابِرَ: فَكُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ، فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ، فَرَجَمْنَاهُ. قال المهلب: أجمع العلماء أن المجنون إذا أصاب الحد فى حال جنونه أنه لا يجب عليه حد، وإن أفاق من جنونه بعد مواقعة الحد؛ لأن القلم مرفوع عنه وقت فعله والخطاب غير متوجه إليه حينئذ، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) للذى شهد على نفسه أربع شهادات (أبك جنون؟) فدل قوله هذا أنه لو اعترف بالجنون لدرأ الحد عنه، وإلا فلا فائدة لسؤاله هل بك جنون أم لا؟ وأجمعوا أنه إن أصاب رجل حدا وهو صحيح ثم جن بعد ذلك، أنه لا يؤخذ منه الحد حتى يفيق. وأجمعو أن من وجب عليه حد غير الرجم وهو مريض لا يرجى برؤه فإنه ينتظر به حتى يبرأ فيقام عليه الحد، فأما الرجم فلا ينتظر به لأنه إنما يراد به التلف فلا وجه للاستئناء به، والله أعلم. وأما قوله: (فلما أذلقته الحجارة هرب) قال ابن المنذر: ذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال: إذا هرب يترك. وقال الكوفيون: إذا هرب وطلبه الشرط واتبعوه فى فوره ذلك أقيم عليه بقية الحد، وإن أخذوه بعد أيام لم يقم عليه بقية الحد، وإن أخذوه بعد أيام لم يقم عليه بقية الحد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 433 فاحتج أحمد بن حنبل بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (هلا تركتموه) من غير رواية البخارى. قال ابن المنذر: يقام عليه الحد بعد يوم، وبعد أيام وسنين؛ لأن ما وجب عليه لا يجوز إسقاطه بمرور الأيام والليالى، ولا حجة مع من أسقط ما أوجبه الله من الحدود، وقد بين جابر بن عبد الله معنى قوله: (فهلا تركتموه) أنه لم يرد بذلك إسقاط الحد عنه. وروى محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر، عن قتادة قال: حدثنى حسين بن محمد، عن على قال: (سألت جابرًا عن قصة ماعز فقال: أنا أعرف الناس بهذا الحديث كنت فيمن رجمه، إنا لما رجمناه فوجد مس الحجارة صرخ بنا: يا قوم ردونى إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إن قومى هم قاتلونى وغرونى من نفسى، أخبرونى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غير قاتلى. فلم ننزع عنه حتى قتلناه فلما رجعنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أخبرناه، قال: فهلا تركتم الرجل وجئتمونى) . ليتثبت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيه فأما لترك حد فلا. فاختلفوا إذا أقر بالزنا، ثم رجع عن إقراره. فقالت طائفة: يترك ولا يحد. هذا قول عطاء والزهرى والثورى والكوفيين والشافعى وأحمد وإسحاق. واختلف عن مالك فى هذه المسألة فحكى عنه القعنبى أنه إذا اعترف ثم رجع وقال: إنما كان هذا منى على وجه كذا وكذا لشىء يذكره، أن ذلك يقبل منه فلا يقام عليه الحد. وقال أشهب: يقبل رجوعه إن جاء بعذر وإلا لم يقبل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 434 وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه إذا اعترف بغير محنة ثم نزع لم يقبل منه رجوعه. وقال أشهب وأهل الظاهر: وممن روى عنه أنه إذا أقر ثم رجع لا يقبل منه رجوعه، وأقيم عليه الحد؛ وهم: ابن أبى ليلى والحسن البصرى. قال ابن المنذر: واحتج الشافعى بقوله (صلى الله عليه وسلم) فى ماعز: (هلا تركتموه) قال: فكل حد لله فهو هكذا، ولقوله لماعز: (لعلك قبلت أوغمزت) فالنبى (صلى الله عليه وسلم) كان يلقنه ويعرض عليه بعد اعتراف قد سبق منه فلو أنه قال: نعم، قبلت أوغمزت لسقط عنه الرجم، وإلا لم يكن لتعريض النبى (صلى الله عليه وسلم) لذلك معنى فعلم أنه إنما لقنه لفائدة وهى الرجوع، فهذا دليل قاطع. وحجة الآخرين أن الحدود تلزم بالبينة أو بالإقرار، وقد تقرر أنه لو لزم الحد بالبينة لم يقبل قوله فكذلك إذا إقر ثم رجع، وقالوا: ليس قوله (صلى الله عليه وسلم) : (هلا تركتموه) يوجب إسقاط الحد عنه. ويحتمل أن يكون لما ذكره جابر بن عبد الله من النظر فى أمره والتثبت فى المعنى الذى هرب من أجله ولو وجب أن يكون الحد ساقطًا عنه بهربه لوجب أن يكون مقتولا خطأ. وفى ترك النبى (صلى الله عليه وسلم) إيجاب الدية على عواقل القاتلين له بعد هربه دليل على أنهم قاتلون من عليه القتل، إذ لو كان دمه محقونًا بهربه لأوجب على عواقل قاتليه ديته، وليس فى شىء من أخبار ماعز دليل على الرجوع عما أقر به. وأكثر ما فيه أنه سأل عندما نزل به من الألم أن يرد إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولم يقل ما زنيت، وهذا القول أشبه بالصواب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 435 3 - باب لِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ / 5 - فيه: عَائِشَةَ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ) . قال أبو عبيد وجماعة من أهل اللغة: معناه أن الزانى لا حظ له فى الولد ولا يلحق به نسبه. والعرب تقول لمن طلب شيئا ليس له: بفيك الحجر، تريد الخيبة. وقال بعضهم: للعاهر الحجر أى: للزانى الرجم بالحجر إذا كان محصنًا، والعاهر: الزانى. وذكر ابن الأعرابى أن الفراش عند العرب يقال للرجل والمرأة؛ لأن كل واحد منهما فراش لصاحبه، وقد تقدم ما فيه للعلماء فى كتاب الفرائض. 4 - باب الرَّجْمِ بِالْبَلاطِ / 6 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: (أُتِىَ النبى (صلى الله عليه وسلم) بِيَهُودِىٍّ وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ أَحْدَثَا جَمِيعًا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا تَجِدُونَ فِى كِتَابِكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّ أَحْبَارَنَا أَحْدَثُوا تَحْمِيمَ الْوَجْهِ وَالتَّجْبِيهَ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ ابْنُ سَلامٍ: ادْعُهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِالتَّوْرَاةِ، فَأُتِىَ بِهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، وَجَعَلَ يَقْرَأُ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ تَحْتَ يَدِهِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَرُجِمَا) . قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَرُجِمَا عِنْدَ الْبَلاطِ، فَرَأَيْتُ الْيَهُودِىَّ أَحْنَأَ عَلَيْهَا. قال أبو عبيد: يرويه أهل الحديث (يحنى) وإنما هو يحنأ مهموز الجزء: 8 ¦ الصفحة: 436 ثابت، يقال حنا الرجل على الشىء يحنو حنوا: إذا انكب. فإن كان ذلك من خلقه قيل حناء ومنه قيل للتراس إذا صنع مقببًا محنأ. وأما قوله باب الرجم بالبلاط فلا يقتضى معنى والبلاط وغيره من الأمكنة سواء، وإنما يرجم به؛ لأنه مذكور فى الحديث. وقال الأصمعى: البلاط: الأرض الملساء. وذكر محمد بن إسحاق عن الزهرى، عن أبى هريرة: أن هذا الحديث كان حين قدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة. قال مالك: ولم يكونا أهل ذمة وإنما كانوا أهل حرب حكموا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فحكم بينهم. وقال بعض العلماء: معنى قول مالك: ولم يكونا أهل ذمة. لأنهما لو كانا أهل ذمة لم يسألهما النبى (صلى الله عليه وسلم) كيف الحكم عندهم ولا حكم عليهم بقول أساقفتهم؛ لأن الحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه كحكمه بين المسلمين سواء. ويحتمل مسيره (صلى الله عليه وسلم) إلى بيت المدراس وسؤاله اليهود عن حكم الزانيين أحد معنيين: إما أن يكون لما أراد الله تكذيبهم وإظهار ما بدلوا من حكم الله، ولذلك ألقى تعالى فى قلوبهم المحاكمة إليه، وأعلمهم أن فى التوراة حكم الله فى ذلك لقوله تعالى: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) [المائدة: 43] . والمعنى الثانى: أن يكون حكم الرجم لم ينزل على النبى (صلى الله عليه وسلم) وقد روى معمر عن ابن شهاب قال: فبلغنا أن هذه الآية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 437 نزلت فيهم: (إنا أنزلنا فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا) [المائدة: 44] فكان النبى (صلى الله عليه وسلم) منهم. وفى هذا الحديث من الفقه حجة لمالك فى قوله: إن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلينا أنه جائز أن يترجم عنهم مترجم واحد كما ترجم عبد الله بن سلام عن التوراة وحده. وقد تقدم ما للعلماء فى هذه المسألة فى كتاب الأحكام. وفى قوله: (فرأيت اليهودى أحنا عليها) دليل أنه لا يحفر للمرجوم ولا للمرجومة؛ لأنه لو كان حفيرًا ما استطاع أن يحنو عليها، وبهذا استدل مالك. وقال أحمد بن حنبل: أكثر الأحاديث على ألا يحفر، والرجم إنما يجب أن يعم جميع بدنه، فإذا كان فى حفرة غاب بعض بدنه. وقال الكوفيون: لا يحفر لهما، وإن حفر فحسن. وخير الشافعى فى أى ذلك شاء. وقال أصبغ: يستحب أن يحفر لهما وترسل يداه يدرأ بهما عن وجهه. قال الطحاوى: روى عن على أنه حفر لشراحة، وفى قصة الجهينية أنه شد عليها ثيابها ثم أمر برجمها من غير أن يحفر لها. وفى هذا الحديث حجة للثورى أن المحدود لا يقعد، ويضرب قائمًا، والمرأة قاعدة. قال المحتج به: وقوله (فرأيت الرجل يحنأ على المرأة) يدل أن الرجل كان قائمًا والمرأة قاعدة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 438 وقال مالك: الرجل والمرأة فى الحدود كلها سواء، لا يقام واحد منهما ويضربان قاعدين ويجرد الرجل ويترك على المرأة ما يسترها ولا يقيها الضرب. وقال الشافعى والليث وأبو حنيفة: الضرب فى الحدود كلها قائمًا مجردًا غير ممدود إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه من ثيابه ما لا يقيه الضرب. 5 - باب الرَّجْمِ بِالْمُصَلَّى / 7 - فيه: جَابِرٍ: (أَنَّ رَجُلا مِنْ أَسْلَمَ جَاءَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَاعْتَرَفَ بِالزِّنَا، فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، قَالَ لَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لا، قَالَ: آحْصَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ، فَرَّ فَأُدْرِكَ فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : خَيْرًا، وَصَلَّى عَلَيْهِ) . لا معنى لهذا التبويب أيضًا والرجم بالمصلى كالرجم بسائر المواضع وإنما ترجم بذلك لأنه مذكور فى الحديث. وهذا الرجل المعترف هو ماعز بن مالك الأسلمى. روى يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: (أن ماعز بن مالك أتى إلى أبى بكر الصديق فأخبره أنه زنى، فقال أبو بكر: هل ذكرت ذلك لأحد غيرى؟ قال: لا. قال أبو بكر: استتر بستر الله وتب إلى الله، فإن الناس يعيرون ولا يغيرون، وإن الله يقبل التوبة عن عباده، فلم تقرره نفسه، حتى أتى إلى عمر بن الخطاب فقال له مثلما قال لأبى بكر، فقال له الجزء: 8 ¦ الصفحة: 439 عمر مثلما قال له أبو بكر، فلم تقرره نفسه حتى أتى النبى (صلى الله عليه وسلم) . . .) وذكر الحديث. وقال عيسى بن دينار: كان ماعز يتيمًا عند هذال قال: فأمره هذال أن يأتى النبى (صلى الله عليه وسلم) فيعترف، فلما أمر برجمه وأحرقته الحجارة هرب فلقيه عبد الله بن أنيس فحذفه برضيف جمل فقتله. وفى هذا الحديث من الفقه رجم الثيب بلا جلد، وعلى هذا فقهاء الأمصار؛ لأن النبى، عليه السلام، أمر برجم ماعز ولم يحده وأمر أنيسًا الأسلمى أن يرجم المرأة إن اعترفت ولم يأمره بجلدها. وخالف ذلك إسحاق بن راهويه وأهل الظاهر فقالوا: عليه الجلد والرجم. وروى مثله عن على بن أبى طالب وأبى بن كعب والحسن البصرى، واحتجوا بحديث ابن جريج، عن أبى الزبير، عن جابر أن رجلا زنا فأمر به النبى (صلى الله عليه وسلم) فجلد ثم أخبر أنه كان أحصن فأمر به فرجم. وقالوا: هكذا حد المحصن الجلد والرجم جميعًا. واحتجوا بحديث عبادة بن الصامت أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) . واحتج عليهم الجماعة فقالوا: يجوز أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما جلده حين لم يعلم أنه محصن فلما أخبر أنه محصن أمر برجمه، والجلد الذى جلده ليس من حده فى شىء. وأمَّا حديث عبادة بن الصامت فمنسوخ بحديث ماعز وبحديث العسيف؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) رجمهما ولم يحدهما. فثبت أن هذا حكم أحدثه الله نسخ به ما قبله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 440 وقال النسائى: ليس فى شىء من الأحاديث قدر الحجر الذى يرمى به. وقال مالك: لا يرمى بالصخور العظام ويأمر الإمام بذلك ولا يتولاه بنفسه، ولا يرفع عنه حتى يموت، ويخلى بينه وبين أهله يغسلونه ويصلون عليه، ولا يصلى عليه الإمام. وفى حديث جابر أن النبى (صلى الله عليه وسلم) صلى عليه من رواية معمر عن الزهرى، وفيه حجة لمن قال من العلماء أن للإمام أن يصلى عليه إن شاء. وقد روى عمران بن حصين (أن امرأة أتت النبى (صلى الله عليه وسلم) فذكرت أنها زنت، فلما وضعت أمر بها فرجمت وصلى عليها، فقال له عمر: أتصلى عليها وقد زنت؟ فقال: والذى نفسى بيده لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين لوسعتهم) . وقد وجه بعض العلماء قول مالك: لا يصلى عليه الإمام. فقال: إنما قال ذلك ليكون ردعًا لأهل المعاصى، ولئلا يجترئ الناس على مثل فعله إذا رأوا أنه ممن لا يصلى عليه الإمام لعظيم ذنبه. 6 - باب مَنْ أَصَابَ ذَنْبًا دُونَ الْحَدِّ فَأَخْبَرَ الإمَامَ، فَلا عُقُوبَةَ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ إِذَا جَاءَ مُسْتَفْتِيًا قَالَ عَطَاءٌ: لَمْ يُعَاقِبْهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لَمْ يُعَاقِبِ النَّبىّ، عَلَيْهِ السَّلاَم، الَّذِى جَامَعَ فِى رَمَضَانَ، وَلَمْ يُعَاقِبْ عُمَرُ صَاحِبَ الظَّبْىِ. / 8 - وَفِيهِ عَنْ أَبِى عُثْمَانَ، عَنْ أَبِى مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . / 9 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلا وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ فِى رَمَضَانَ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 441 فَاسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً؟ قَالَ: لا، قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ صِيَامَ شَهْرَيْنِ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا) . / 10 - وفيه: عَائِشَةَ: (أَتَى رَجُلٌ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْمَسْجِدِ، قَالَ: احْتَرَقْتُ، قَالَ: مِمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ بِامْرَأَتِى فِى رَمَضَانَ، قَالَ لَهُ: تَصَدَّقْ، قَالَ: مَا عِنْدِى شَيْءٌ، فَجَلَسَ، وَأَتَاهُ إِنْسَانٌ يَسُوقُ حِمَارًا، وَمَعَهُ طَعَامٌ، قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ: مَا أَدْرِى مَا هُوَ؟ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: أَيْنَ الْمُحْتَرِقُ؟ فَقَالَ: هَا أَنَا ذَا، قَالَ: خُذْ هَذَا، فَتَصَدَّقْ بِهِ. . . الحديث. أجمع العلماء أنه من أصاب ذنبًا فيه حد أنه لا ترفعه التوبة ولا يجوز للإمام العفو عنه إذا بلغه. ومن التوبة عندهم أن يطهر ويكفر بالحد إلا الشافعى، ذكر عنه ابن المنذر أنه قال: إذا تاب قبل أن يقام عليه الحد سقط عنه، فأما من أصاب ذنبًا دون الحد ثم جاء تائبًا فتوبته تسقط عنه العقوبة، وليس للسلطان الاعتراض عليه بل يؤكد بصيرته فى التوبة، ويأمره بها لينتشر ذلك، فيتوب المذنب ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما فهم من المواقع أهله فى رمضان الندم على فعله من صورة فزعه وقوله: احترقت. لم يعاقبه النبى (صلى الله عليه وسلم) ولا أنبهُ بل أعطاه ما يكفر به. وأما حديث أبى عثمان عن ابن مسعود الذى أشار إليه البخارى ولم يذكره فهو أبين شىء فى هذا الباب، وقد ذكره فى باب مواقيت الصلاة فى باب الصلاة كفارة. قال ابن مسعود: إن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبى (صلى الله عليه وسلم) فأخبره فنزل: (أقم الصلاة طرفى النهار وزلفًا) [هود: 114] الآية فقال الرجل: إلى هذا يا رسول الله؟ قال: (لجميع أمتى كلهم) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 442 وروى يحيى عن التيمى بإسناده أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال له: (قم فصل ركعتين) . وروى علقمة والأسود هذا الحديث عن ابن مسعود وبينا فيه ما دل أنه جاء الرجل تائبًا نادمًا. وقال ابن مسعود: جاء رجل إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فقال: (إنى عالجت امرأة فأصبت منها ما دون أن أمسها وأنا ها ذا فأقم على ما شئت. فقال له عمر: قد ستر الله عليك فلو سترت على نفسك. . .) . وحجة جماعة الفقهاء فى أن التوبة لا تسقط الحد قول النبى (صلى الله عليه وسلم) فى المرأة الجهينية: (لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أن جادت بنفسها) . وقال فى الغامدية: (لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له) . فإقامة الرسول (صلى الله عليه وسلم) الحد على هاتين مع توبتهما دليل قاطع على أن سقوط الحد بالتوبة إنما خص به المحاربون دون غيرهم. 7 - باب إِذَا أَقَرَّ بِالْحَدِّ وَلَمْ يُبَيِّنْ، هَلْ لِلإمَامِ أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِ؟ / 11 - فيه: أَنَسِ، قَالَ: (كُنْتُ عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَىَّ، قَالَ: وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ، قَالَ وَحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَصَلَّى مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الصَّلاةَ، قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْ فِىَّ كِتَابَ اللَّهِ، قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 443 قال المهلب وغيره: لما أقر الرجل عند النبى (صلى الله عليه وسلم) بأنه أصاب حدا، ولم يبين الحدَّ، ولم يكشفه النبى (صلى الله عليه وسلم) عنه ولا استفسره (صلى الله عليه وسلم) ؛ فدل على أن الكشف عن الحدود لا يحل فإن الستر أولى. وكأنه (صلى الله عليه وسلم) رأى أن الكشف عن ذلك ضرب من التجسس المنهى عنه فلذلك أضرب عنه وجعلها شبهة درأ بها الحد؛ لأنه كان بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا. وجائز أن يكون الرجل ظن أن الذى أصاب حدا وليس بحد فيكون ذلك مما يكفر بالوضوء والصلاة، ولما لم تجز إقامة الحدود بالكناية دون الإفصاح وجب ألا يكشف السلطان عليه؛ لأن الحدود لا تقام بالشبهات بل تدرأ بها، وهذا يوجب على المرء أن يستر على نفسه إذا واقع ذنبًا ولا يخبر به أحدًا لعلَّ الله تعالى أن يستره عليه وقد جاء فى هذا الحديث عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (من ستر مسلمًا ستره الله) فستر المرء على نفسه أولى به من ستره على غيره. 8 - باب هَلْ يَقُولُ الإمَامُ لِلْمُقِرِّ لَعَلَّكَ لَمَسْتَ أَوْ غَمَزْتَ؟ / 12 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِى اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: (لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ لَهُ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ؟ قَالَ: لا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَنِكْتَهَا؟ لا يَكْنِى، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ) . قال المهلب وغيره: فى هذا الحديث دليل على جواز تلقين المقر فى الحدود ما يدرأ بها عنه ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لماعز: (لعلك غمزت أو قبلت) ليدرأ عنه الحد إذ لفظ الزنا يقع على نظر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 444 العين وجميع الجوارح، فلما أتى ماعز بلفظ مشترك لم يحده النبى (صلى الله عليه وسلم) حتى وقف على صحيح ما أتاه بغير إشكال؛ لأن من سننه (صلى الله عليه وسلم) درء الحدود بالشبهات، فلما أفصح وبين أمر برجمه. قال غيره: وهذا يدل أن الحدود لا تقام إلا بالإفصاح دون الكنايات، ألا ترى لو أن الشهود شهدوا على رجل بالزنا، ولم يقولوا رأيناه أولج فيها كان حكمهم حكم من قذف لا حكم من شهد، رفقًا من الله بعباده وسترًا عليهم ليتوبوا. قال المهلب: وقد استعمل التلقين بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) أصحابه الراشدون روى مالك عن يحيى ابن سعيد أن عمر أتاه رجل وهو بالشام فذكر أنه وجد مع امرأته رجلا، فبعث عمر أبا واقد إلى امرأته يسألها عما قال زوجها لعمر، وأخبرها أنها لا تؤخذ بقوله، وجعل يلقنها أشباه ذلك لتنزع، فأبت أن تنزع فرجمها عمر. وروى معمر بإسناده أن عمر أتى برجل فقيل: إنه سارق، فقال عمر: إنى لأرى يد رجل ما هى بيد سارق، فقال الرجل: والله ما أنا بسارق فخلى سبيله. وعن الشعبى قال: أُتى على بامرأة يقال لها شراحة وهى حبلى من الزنا، فقال: ويحك لعل رجلا استكرهك، قالت: لا. قال: لعل وقع عليك وأنت نائمة. قالت: لا. قال: فلعل زوجك من عدونا، يعنى أهل الشام، فأنت تكرهين أن تدلى عليه. قالت: لا. فجعل يلقنها هذا وأشباهه وتقول: لا. فرجمها. وعن أبى مسعود أتى بسارق سرق بعيرًا. فقال: هل وجدته؟ قال: نعم. فخلى سبيله. قال المهلب: فهذا وجه التلقين بالتعريض لمن يعرف الحد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 445 وما يلزمه فيه، وأما تلقين الجاهل ومن لا يعرف الكلام فهو تصريح. وروى ابن جريج عن عطاء قال: كان بعضهم يؤتى بالسارق فيقول: أسرقت؟ قل: لا، أسرقت؟ قل: لا. وعلمى أنه سمى أبا بكر وعمر. وروى شعبة عن أبى الدرداء أنه أتى بجارية سوداء سرقت، فقال لها: أسرقت يا سلامة؟ قولى: لا قالت: لا فخلى سبيلها، فقلت: أنت تلقنها؟ قال أبو الدرداء: إنها اعترفت وهى لا تدرى ما يُراد بها. وقال الأعمش: كان إبراهيم يأمر بطرح المعترفين، وكان أحمد وإسحاق يريان تلقين السارق إذا أتى به. وكذلك قال أبو ثور: إذا كان السارق امرأة أو لا يدرى ما يصنع به أو ما يقول. قال المهلب: هذا التلقين على اختلاف منازله بسنة لازمة إلا عند اختيار الإمام ذلك، وله ألا يلقن ولا يعرض لقوله: (بينة وإلا حد فى ظهرك) . وأما التلقين الذى لا يحل فتلقين الخصمين فى الحقوق وتداعى الناس، وكذلك لا يجب تلقين المنتهك المعروف بذلك إذا تبين ما أقر به أو شهد عليه ويلزم الإمام إقامة الحد فيه. 9 - باب سُؤَالِ الإمَامِ الْمُقِرَّ بالزنا: هَلْ أَحْصَنْتَ؟ / 13 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (أَتَى إِلَى النَّبىّ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ فِى الْمَسْجِدِ، فَنَادَاهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى زَنَيْتُ، يُرِيدُ نَفْسَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَنَحَّى لِشِقِّ وَجْهِهِ الَّذِى أَعْرَضَ عَنْهُ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 446 فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: أَحْصَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. . الحديث. هذا لازم لكل إمام أن يسأل المقر إن كان محصنًا أو غير محصن، لأن الله قد فرق بين حد المحصن والبكر، فواجب على الإمام أن يقف على ذلك كما يجب عليه إذا أشكل إعلام المقر أن يسأله عن ذلك، ثم بعد ذلك يلزمه تصديق كل واحد منهما؛ لأن الحد لا يقام إلا باليقين ولا يحل فيه التجسس. قال المهلب: ولما كان قوله مقبولا فى اللمس والغمز كان قوله مقبولا فى الإحصان، فالباب واحد فى ذلك. اختلف العلماء فى الاعتراف بالزنا الذى يجب فيه الحد هل يفتقر إلى عدد أم لا. فقالت طائفة: لابد من اعتراف أربع مرات على ما جاء فى الحديث هذا قول ابن أبى ليلى والثورى والكوفيين وأحمد غير أن ابن أبى ليلى وأحمد قالا: يجزئ إلا فى أربع مرات فى مجلس واحد. وقال الكوفيون: لا يجزىء إلا فى أربع مواضع. وقال آخرون: إذا اعترف بالزنا مرة واحدة وثبت على ذلك لزمه الحد، روى هذا عن أبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وهو قول مالك والشافعى وأبى ثور. وقال أهل المقالة الأولى: لما كان الزنا مخصوصًا من بين سائر الحقوق بأربعة شهداء جاز أن يكون مخصوصًا بإقرار أربع مرات. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 447 واحتج عليهم الآخرون فقالوا: قد قال (صلى الله عليه وسلم) : (اغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ولم يقل له إن اعترفت أربعًا، فلا معنى لاعتبار العدد فى الإقرار، وأيضًا فإنه لا يدل على مخالفة الزنا لسائر الحقوق فى أنه مخصوص بأربعة شهداء على مخالفته فى الإقرار؛ لأن القتل مخالف للأموال فى الشهادات فلا يقبل فى القتل إلا شاهدان، ويقبل فى الأموال شاهد وامرأتان، ثم اتفقا فى باب الإقرار أنه يقبل فيه إقرار مرة. ولو وجب اعتبار الإقرار بالشهادة لوجب ألا يقبل فى الموضع الذى يقبل فيه شاهدان إلا إقرار مرتين. وقد أجمع العلماء أن سائر الإقرارات فى الشرع يكتفى فيها مرة واحدة، وإن أقر بالردة مرة واحدة يلزمه اسم الكفر، والقتل واجب عليه فلزم فى الزنا مثله. فإن قالوا: فلم لم يُقم النبى (صلى الله عليه وسلم) الحد بإقراره أول مرة؟ قيل: فائدة الخبر أنه (صلى الله عليه وسلم) لما رآه مختل الصورة فزعًا أراد التثبيت فى أمره هل به جنة أم لا، مع أنه كره ما سمع منه فأعرض عنه رجاء أن يستر على نفسه، ويتوب إلى الله، ألا ترى أنه لقنه فقال: (لعلك لمست أو غمزت) فلا معنى لاعتباره العدد فى الإقرار. وقوله: جمز أى: أسرع يهرول، وقال بعض السلف لرجل: اتق الله قبل أن يجمز بك. يريد المشى السريع فى جنازته. وقال الكسائى: الناقة تعدو الجمز وهو العدو الذى نثر وقال رؤبة: فإن تريننى اليوم جمزى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 448 - باب الاعْتِرَافِ بِالزِّنَا / 14 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ وَزَيْدَ بْنَ خَالِدٍ قَالا: (كُنَّا عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ، إِلا قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَامَ خَصْمُهُ، وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ، فَقَالَ: اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأْذَنْ لِى، قَالَ: قُلْ، قَالَ: إِنَّ ابْنِى كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ رِجَالا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَأَخْبَرُونِى أَنَّ عَلَى ابْنِى جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، وَعَلَى امْرَأَتِهِ الرَّجْمَ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، الْمِائَةُ شَاةٍ وَالْخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَرَجَمَهَا) . / 15 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ عُمَرُ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ: قَائِلٌ: لا نَجِدُ الرَّجْمَ فِى كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ، أَنْزَلَهَا اللَّهُ، أَلا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ، أَوِ الاعْتِرَافُ. قال المهلب وغيره: فى هذا الحديث ضروب من الفقه: منها الترافع إلى السلطان الأعلى فيما قد غيره ممن هو دونه إذا لم يوافق الحق. ومنها فسخ كل صلح ورد كل حكم وقع على خلاف السنة. قال غيره: وفيه أن ما قبضه الذى قضى له بالباطل لا يصلح له ملكه. وفيه: أن العالم قد يُفتى فى مصر فيه من هو أعلم منه، ألا ترى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 449 أنه سأل أهل العلم ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين أظهرهم، وكذلك كان الصحابة يفتون فى زمن النبى (صلى الله عليه وسلم) . وفى سؤاله أهل العلم ورجوعه إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) دليل على أنه يجوز للرجل ألا يقتصر على قول واحد من العلماء. وفيه: أنه جائز للخصم أن يقول للإمام العدل: احكم بيننا بالحق، لأنه قال للنبى (صلى الله عليه وسلم) : اقض بيننا بكتاب الله، وقد علم أنه لا يقضى إلا بما أمره الله، ولم ينكر ذلك عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) . وقال الملكان لداود (صلى الله عليه وسلم) فاحكم بيننا بالحق، وذلك إذا لم يرد السائل التعريض. وقوله: وكان أفقههما يعنى والله أعلم لاستئذانه النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الكلام وترك صاحبه لذلك تأكيدًا. واختلف العلماء فى تأويل ذلك فقال بعضهم: الرجم فى كتاب الله فى قوله تعالى: (ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله) [النور: 8] . والعذاب الذى تدرؤه الزوجة عن نفسها باللعان هو الذى يجب عليها بالبينة أو بالإقرار أو بالنكول عن اللعان. وقد بين (صلى الله عليه وسلم) آية الرجم فى الثيب برجم ماعزٍ وغيره. وقال آخرون: الرجم مما نسخ من القرآن خطه وثبت حكمه. وقال غيره: معنى قوله (لأقضين بينكما بكتاب الله) أى بحكم الله وبفرضه، هذا جائز فى اللغة قال تعالى: (كتاب الله عليكم) [النساء: 24] أى حكمه فيكم وقضاؤه عليكم ومنه قوله تعالى: (أم عندهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 450 الغيب فهم يكتبون) [الطور: 41] أى يقضون. وكذلك قوله: (كتب ربكم على نفسه الرحمة) [الأنعام: 54] وكل ما قضى به النبى (صلى الله عليه وسلم) فهو حكم الله. وفيه: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يجعلهما قاذفين حين أخبراه. وليس فى الحديث أنه سأل ابن الرجل هل زنا؟ وهل صدقا عليه أم لا؟ ولكن من مفهوم الحديث أنه أقر لأنه لا يجوز أن يقام الحد إلا بالإقرار أو بالبينة، ولم يكن عليهما بينة لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإن اعترفت فارجمها) . وفيه: النفى والتغريب للبكر الزانى خلاف قول أبى حنيفة فى إسقاطه النفى عن الزانى وستأتى أقوال العلماء فى ذلك فى موضعها إن شاء الله تعالى. وفى الحديث من الفقه: رجم الثيب بلا جلد على ما ذهب إليه أئمة الفتوى بالأمصار. وفيه من الفقه: استماع الحكم من أحد الخصمين وصاحبه غائب وفتياه له دون خصمه ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد أفتاهما والمرأة غائبة وكانت إحدى الخصمين. وفيه: تأخير الحدود عند ضيق الوقت؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) أمره بالغدو إلى المرأة فإن اعترفت رجمها. وفيه: إرسال الواحد فى تنفيذ الحكم. وفيه: إقامة الحد على من أقر على نفسه مرة واحدة؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يقل لأنيس فإن اعترفت أربع مرات وقد تقدم القول فى هذه المسألة فى الباب الذى قبل هذا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 451 وفيه: دليل على صحة قول مالك وجمهور الفقهاء أن الإمام لا يقوم بحد من قذف بين يديه حتى يطلبه المقذوف؛ لأن له أن يعفو عن قاذفه أو يريد سترًا، ألا ترى أنه قال بين يدى النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن ابنى كان عسيفًا على هذا فزنا بامرأته فقذفها) فلم يقم عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) الحد؛ لأنها لما اعترفت بالزنا سقط حكم قذفها، ومثله حديث العجلانى حين رمى امرأته برجل فلاعن بينه وبين امرأته؛ لأنه لم يطلبه بحده ولو طلبه به لحُد إلا أن يقيم البينة على ما قال. والمخالف فى هذه المسألة ابن أبى ليلى فإنه يقول: إن الإمام يحد القاذف وإن لم يطلبه المقذوف. وقوله خلاف السنن فسيأتى ما بقى من معانى هذا الحديث بعد هذا فى مواضعه إن شاء الله تعالى، وكذلك حديث ابن عباس سيأتى الكلام عليه فى الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى. - باب رَجْمِ الْحُبْلَى مِنَ الزِّنَا إِذَا أَحْصَنَتْ / 16 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَبَيْنَمَا أَنَا فِى مَنْزِلِهِ بِمِنًى، وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِى آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا؛ إِذْ رَجَعَ إِلَىَّ عَبْدُالرَّحْمَنِ، فَقَالَ: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلا أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ لَكَ فِى فُلانٍ، يَقُولُ: لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ، لَقَدْ بَايَعْتُ فُلانًا، فَوَاللَّهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِى بَكْرٍ إِلا فَلْتَةً، فَتَمَّتْ، فَغَضِبَ عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّى إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِى النَّاسِ، فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 452 أُمُورَهُمْ، قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ: فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لا تَفْعَلْ، فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ، فَإِنَّهُمْ هُمِ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى قُرْبِكَ حِينَ تَقُومُ فِى النَّاسِ، وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَقُومَ فَتَقُولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ، وَأَنْ لا يَعُوهَا، وَأَنْ لا يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا، فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ، فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ، فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ، فَتَقُولَ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا، فَيَعِى أَهْلُ الْعِلْمِ مَقَالَتَكَ، وَيَضَعُونَهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لأقُومَنَّ بِذَلِكَ أَوَّلَ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فِى عُقْبِ ذِى الْحَجَّةِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، عَجَّلْتُ الرَّوَاحَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ حَتَّى أَجِدَ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ جَالِسًا إِلَى رُكْنِ الْمِنْبَرِ، فَجَلَسْتُ حَوْلَهُ تَمَسُّ رُكْبَتِى رُكْبَتَهُ، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ خَرَجَ عُمَرُ ابْنُ الْخَطَّابِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ مُقْبِلا، قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: لَيَقُولَنَّ الْعَشِيَّةَ مَقَالَةً لَمْ يَقُلْهَا مُنْذُ اسْتُخْلِفَ، فَأَنْكَرَ عَلَىَّ، وَقَالَ: مَا عَسَيْتَ أَنْ يَقُولَ مَا لَمْ يَقُلْ قَبْلَهُ؟ فَجَلَسَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمَّا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُونَ، قَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّى قَائِلٌ لَكُمْ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لِى أَنْ أَقُولَهَا، لا أَدْرِى لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَىْ أَجَلِى، فَمَنْ عَقَلَهَا وَوَعَاهَا، فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ انْتَهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَمَنْ خَشِىَ أَنْ لا يَعْقِلَهَا فَلا أُحِلُّ لأحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَىَّ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا، وَعَقَلْنَاهَا، وَوَعَيْنَاهَا، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: وَاللَّهِ، مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِى كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 453 أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَالرَّجْمُ فِى كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ، أَوِ الاعْتِرَافُ، ثُمَّ إِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ فِيمَا نَقْرَأُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَنْ لا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ أَوْ إِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، أَلا ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ لا تُطْرُونِى كَمَا أُطْرِىَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ إِنَّهُ بَلَغَنِى أَنَّ قَائِلا مِنْكُمْ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ، بَايَعْتُ فُلانًا، فَلا يَغْتَرَّنَّ امْرُؤٌ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِى بَكْرٍ فَلْتَةً وَتَمَّتْ، أَلا وَإِنَّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ وَقَى شَرَّهَا، وَلَيْسَ مِنْكُمْ مَنْ تُقْطَعُ الأعْنَاقُ إِلَيْهِ مِثْلُ أَبِى بَكْرٍ، مَنْ بَايَعَ رَجُلا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلا يُبَايَعُ هُوَ وَلا الَّذِى بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلا، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ خَبَرِنَا حِينَ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّ الأنْصَارَ خَالَفُونَا، وَاجْتَمَعُوا بِأَسْرِهِمْ فِى سَقِيفَةِ بَنِى سَاعِدَةَ، وَخَالَفَ عَنَّا عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَمَنْ مَعَهُمَا، وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى أَبِى بَكْرٍ، فَقُلْتُ لأبِى بَكْرٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى إِخْوَانِنَا هَؤُلاءِ مِنَ الأنْصَارِ، فَانْطَلَقْنَا نُرِيدُهُمْ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْهُمْ لَقِيَنَا مِنْهُمْ رَجُلانِ صَالِحَانِ، فَذَكَرَا مَا تَمَالأ عَلَيْهِ الْقَوْمُ، فَقَالا: أَيْنَ تُرِيدُونَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقُلْنَا: نُرِيدُ إِخْوَانَنَا هَؤُلاءِ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَالا: لا عَلَيْكُمْ أَنْ لا تَقْرَبُوهُمُ، اقْضُوا أَمْرَكُمْ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّهُمْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَاهُمْ فِى سَقِيفَةِ بَنِى سَاعِدَةَ، فَإِذَا رَجُلٌ مُزَمَّلٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقُلْتُ: مَا لَهُ؟ قَالُوا: يُوعَكُ، فَلَمَّا جَلَسْنَا قَلِيلا، تَشَهَّدَ خَطِيبُهُمْ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ وَكَتِيبَةُ الإسْلامِ، وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ رَهْطٌ، وَقَدْ دَفَّتْ دَافَّةٌ مِنْ قَوْمِكُمْ، فَإِذَا هُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْتَزِلُونَا مِنْ أَصْلِنَا، وَأَنْ يَحْضُنُونَا مِنَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 454 الأمْرِ، فَلَمَّا سَكَتَ أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، وَكُنْتُ قَدْ زَوَّرْتُ مَقَالَةً أَعْجَبَتْنِى أُرِيدُ أَنْ أُقَدِّمَهَا بَيْنَ يَدَىْ أَبِى بَكْرٍ، وَكُنْتُ أُدَارِى مِنْهُ بَعْضَ الْحَدِّ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلَى رِسْلِكَ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُغْضِبَهُ، فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَكَانَ هُوَ أَحْلَمَ مِنِّى، وَأَوْقَرَ، وَاللَّهِ مَا تَرَكَ مِنْ كَلِمَةٍ أَعْجَبَتْنِى فِى تَزْوِيرِى إِلا قَالَ فِى بَدِيهَتِهِ مِثْلَهَا، أَوْ أَفْضَلَ مِنْهَا، حَتَّى سَكَتَ، فَقَالَ: مَا ذَكَرْتُمْ فِيكُمْ مِنْ خَيْرٍ، فَأَنْتُمْ لَهُ أَهْلٌ، وَلَنْ يُعْرَفَ هَذَا الأمْرُ إِلا لِهَذَا الْحَىِّ مِنْ قُرَيْشٍ، هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا، وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، فَبَايِعُوا أَيَّهُمَا شىءتُمْ، فَأَخَذَ بِيَدِى وَبِيَدِ أَبِى عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَهُوَ جَالِسٌ بَيْنَنَا، فَلَمْ أَكْرَهْ مِمَّا قَالَ غَيْرَهَا، كَانَ وَاللَّهِ أَنْ أُقَدَّمَ فَتُضْرَبَ عُنُقِى لا يُقَرِّبُنِى ذَلِكَ مِنْ إِثْمٍ، أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ أَتَأَمَّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، اللَّهُمَّ إِلا أَنْ تُسَوِّلَ إِلَىَّ نَفْسِى عِنْدَ الْمَوْتِ شَيْئًا لا أَجِدُهُ الآنَ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنَ الأنْصَارِ: أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ، وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ، مِنَّا أَمِيرٌ، وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، فَكَثُرَ اللَّغَطُ، وَارْتَفَعَتِ الأصْوَاتُ حَتَّى فَرِقْتُ مِنَ الاخْتِلافِ، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، فَبَسَطَ يَدَهُ، فَبَايَعْتُهُ وَبَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ، ثُمَّ بَايَعَتْهُ الأنْصَارُ، وَنَزَوْنَا عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ، قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، فَقُلْتُ: قَتَلَ اللَّهُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، قَالَ عُمَرُ: وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا وَجَدْنَا فِيمَا حَضَرْنَا مِنْ أَمْرٍ أَقْوَى مِنْ مُبَايَعَةِ أَبِى بَكْرٍ، خَشِينَا إِنْ فَارَقْنَا الْقَوْمَ، وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةٌ أَنْ يُبَايِعُوا رَجُلا مِنْهُمْ بَعْدَنَا، فَإِمَّا بَايَعْنَاهُمْ عَلَى مَا لا نَرْضَى، وَإِمَّا نُخَالِفُهُمْ، فَيَكُونُ فَسَادٌ، فَمَنْ بَايَعَ رَجُلا عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 455 غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلا يُتَابَعُ هُوَ وَلا الَّذِى بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلا. أما قوله: باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت فمعناه: باب هل يجب على الحبلى رجم أم لا؟ وأجمع العلماء أن الحبلى من الزنا لا رجم عليها حتى تضع. واختلفوا إذا وضعت متى يجب عليها الرجم. فقال مالك: إذا وضعت حُدَّت إذا وجد للمولود من يرضعه وإن لم يوجد أخّرت حتى ترضعه وتفطمه خوف هلاكه. وقال الشافعى: لا ترجم حتى تفطمه كما فعل (صلى الله عليه وسلم) فى المرجومة على ما رواه مالك فى الموطأ. وقال الكوفيون: ترجم بعد الوضع على ما رواه عمران بن حصين أن امرأة أتت النبى (صلى الله عليه وسلم) فذكرت أنها زنت فأمر بها أن تقعد حتى تضعه، فلما وضعته أتته فأمر بها فرجمت وصلى عليها. واختلفوا فى المرأة توجد حاملا ولا زوج لها، فقال مالك: إن قالت استكرهت أو تزوجت. أن ذلك لا يقبل منها ويقام عليها الحد؛ إلا أن تقيم بينة على ما ادَّعت من ذلك، أو تجئ بدماء أو استغاثت حتى أتت وهى على ذلك. وقال ابن القاسم: إن كانت غريبة طارئة فلا حد عليها. وقال الكوفيون والشافعى: إذا وجدت حاملا ولا زوج لها فلا حد عليها إلا أن تقر بالزنا أو تقوم عليها بينة، ولم يفرقوا بين طارئة وغيرها واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ادرءوا الحدود بالشبهات) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 456 وحجة مالك: قول عمر بن الخطاب فى هذا الحديث: (الرجم فى كتاب الله حق على من زنا إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف) فسوى بين البينة والإقرار وبين وجود الحبل فى أن ذلك كله موجب للرجم. وقد روى مثل هذا القول عن عثمان وعلى وابن عباس، ولا مخالف لهم من الصحابة. وفى هذا الحديث ضروب من العلم منها: قول ابن عباس: (كنت أقرئُ رجالا من المهاجرين) يعنى أقرئهم القرآن، ففيه أن العلم يأخذه الكبير عن الصغير؛ لأن ابن عباس لم يكن من المهاجرين لصغر سنة. قال المهلب: وقول القائل: (لو مات عمر بايعت فلانًا) يعنى رجلا من الأنصار ففيه أن رفع مثل هذا لخبر إلى السلطان واجب لما يخاف من الفتنة على المسلمين، ألا ترى إنكار عمر تلك المقالة، وقال: (لن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش) والمعروف هو الشىء الذى لا يجوز خلافه. وهذا يدل أنه لم يختلف فى ذلك على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) ولو اختلف فيه لعُلم الخلاف فيه، والمعروف ما عرفه أهل العلم وإن جهله كثير من غيرهم كما أن المنكر ما أنكره أهل العلم. والدلائل على أن الخلافة فى قريش كثيرة منها أنه (صلى الله عليه وسلم) أوصى بالأنصار من ولى أمر المسلمين أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، فأخبر أنهم مستوصى بهم محتاجون أن يتقبل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 457 إحسانهم ويتجاوز عن إساءتهم، وفى هذا دليل واضح أنه ليس لهم فى الخلافة حق، وكذلك قال عمر: إنى لقائم العشية فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم. فالغصب لا يكون إلا أخذ ما لا يجب وإخراج الأمر عن قريش هو الغصب. قال المهلب: وفى قول عبد الرحمن لعمر حين أراد أن يقوم فى الموسم دليل على جواز الاعتراض على السلطان فى الرأى إذا خشى من ذلك الفتنة واختلاف الكلمة. وقوله: (إنى أخاف ألا يعوها ولا يضعوها مواضعها) ففيه دليل أنه لا يجب أن يوضع دقيق العلم إلا عند أهل الفهم له والمعرفة بمواضعه. وقوله: (يطيرها عنك كل مطير) دليل أنه لا يجب أن يحدث بكل حديث يسبق منه إلى الجهال الإنكار لمعناه؛ لما يخشى من افتراق الكلمة فى تأويله. وقوله: (أمهل حتى تقدم المدينة) الفضل كله فيه، وفيه دليل على أن أهل المدينة مخصوصون بالعلم والفهم، ألا ترى اتفاق عمر مع عبد الرحمن على ذلك ورجوعه إلى رأيه. وفيه: الحرص على المسارعة إلى استماع العلم، وأن الفضل فى القرب من العالم. وأما قوله لسعيد بن زيد: (ليقولن اليوم مقالة) أراد أن ينبهه ليحضر فهمه لذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 458 وأما إنكار سعيد عليه فلعلمه باستقرار الأمور من الفرائض والسنن عندهم وقوله: (فمن عقلها ووعاها فليحدث بها) يعنى على حسب ما وعى وعقل. وفيه: الحض لأهل الضبط والفهم للعلم على تبليغه ونشره. وفى قوله: (ومن خشى ألا يعقلها فلا أحل له أن يكذب علىَّ) . النهى لأهل التقصير والجهل عن الحديث بما لم يعلموه ولا ضبطوه، وإدخاله فى هذا الحديث آية الرجم وأنها نزلت على النبى (صلى الله عليه وسلم) وقرئت وعمل بها. ثم قوله: (لا ترغبوا عن آبائكم) أنه كان أيضًا من القرآن ورفع خطه، فمعنى ذلك أنه لا يجب لأحد أن يتنطع فيما لا نص فيه من القرآن، وفيما لا يعلم من سنته (صلى الله عليه وسلم) . ويتسور برأيه فيقول ما لا يحل له مما سولت له نفسه الأمارة بالسوء، وبما نزغ به الشيطان فى قلبه حتى يسأل أهل العلم بالكتاب والسنة عنه كما تنطع الذى قال: (لو مات عمر لبايعت فلانًا) لما لم يجد الخلافة فى قريش مرسومة فى كتاب الله فعرفه عمر أن الفرائض والسنن والقرآن منه ما ثبت حكمه عند أهل العلم به ورفع خطه فلذلك قدم عمر هاتين القصتين اللتين لا نص لهما فى كتاب الله، وقد كانتا فى كتاب الله ولا يعلم ثبات حكمها إلا أهل العلم كما لايعرف أهل بيت الخلافة ولمن تجب إلا من عرف مثل هذا الذى يجهله كثير من الناس. وقوله: (أخشى إن طال بالناس زمان) فيه دليل على دروس العلم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 459 مع مرور الزمن، ووجود الجاهلين السبيل إلى التأويل بغير علم فيضلوا ويضلوا كما قال (صلى الله عليه وسلم) . وقوله: (كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم) أى كفر حق ونعمة. وقوله: (لا تطرونى) عرفهم ما خشى عليهم جهله، والغلو فيه كما صنعت النصارى فى قولهم لعيسى أنه ابن الله عز وجل. وقولهم: (إن بيعة أبى بكر كانت فلتة) وقول عمر: إنها كانت كذلك فلتة. فقال أبو عبيد: معنى الفلتة الفجأة، وإنما كانت كذلك، لأنها لم ينتظر بها العوام، وإنما ابتدرها أكابر أصحاب محمد من المهاجرين وعامة الأنصار إلا تلك الطيرة التى كانت من بعضهم ثم أضعفوا له كافتهم أنه ليس لأبى بكر منازع، ولا شريك فى الفضل، ولم يكن يحتاج فى أمره إلى نظر ولا مشاورة فلهذا كانت فلتة وقى الله بها الإسلام وأهله شرها. وقال الكرابيسى: فى قولهم (كانت فلتة) لأنهم تفلتوا فى ذهابهم إلى الأنصار وبايعوا أبا بكر فى حضرتهم وفيهم من لا يعرف ما يجب عليه، فقال قائل منهم: (منا أمير ومنكم أمير) وقد ثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أن الخلافة فى قريش فإما بايعناهم على ما يجوز لنا، وإما قاتلناهم على ذلك فهى الفلتة. ألا ترى قول عمر: (والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من بيعة أبى بكر، ولأن أقدم فيضرب عنقى أحب إلىَّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر) فهذا يدل أن قول عمر: (كانت فلتة) لم يرد مبايعة أبى بكر، وإنما أراد ما وصفه الأنصار عليهم، وما كان من أمر سعد بن عبادة وقومه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 460 وقول عمر: (قتل الله سعدًا) قال أبو عبيد: ولو علموا أن فى أمر أبى بكر شبهة وأن بين الخاصة والعامة فيه اختلافًا ما استجازوا الحكم عليهم بعقد البيعة، ولو استجازوه ما أجازه الآخرون إلا بمعرفة منهم به متقدمة. ويدل على ذلك ما رواه النسائى عن قتيبة، عن حميد بن عبد الرحمن، عن سلمة بن نبيط، عن نعيم، عن أبى هند، عن نبيط بن شريط، عن سالم بن عبيد وذكر موت النبى (صلى الله عليه وسلم) ثم قال: خرج أبو بكر فاجتمع المهاجرون يتشاورون بينهم، ثم قال: انطلقوا إلى إخواننا الأنصار. فقالت: منا أمير ومنكم أمير. فقال عمر: سيفان فى غمدٍ إذًا لا يصطلحان، ثم أخذ بيد أبى بكر فقال: من له هذه الثلاث: إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، من صاحبه إذ هما فى الغار، مع من هما؟ ثم بايعه الناس أحسن بيعة وأجملها. فدل هذا الحديث أن القوم لم يبايعوه إلا بعد التشاور والتناظر واتفاق الملأ منهم الذين هم أهل الحل والعقد على الرضا بإمامته، والتقديم لحقه. ولقولهم (كانت فلتة) تفسير آخر. قال ثعلب وابن الأعرابى: الفلتة عند العرب: آخر ليلة من الأشهر الحرم يشك فيها فيقول قوم: هى من شعبان، ويقول قوم: هى من رجب؛ وبيان هذا أن العرب كانوا يعظمون الأشهر الحرم ولا يقاتلون فيها، ويرى الرجل قاتل أبيه فلا يمسه، فإذا كان آخر ليلة منها ربما شك قوم فقال قوم: هى من الحل، وقال بعضهم: من الحرم. فيبادر الموتور فى تلك الليلة فينتهز الفرصة فى إدراك ثأره غير معلوم أن ينصرم الشهر الحرام عن يقين، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 461 فيكثر تلك اليلة سفك الدماء وشن الغارات، فشبه عمر أيام حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وما كان الناس عليه فى عهده من اجتماع الكلمة وشمول الألفة ووقع الأمنة بالشهر الحرام الذى لا قتال فيه، ولا نزاع وكان موته (صلى الله عليه وسلم) شبيهة القصة بالفلتة التى هى خروج من الحرم لما نجم عند ذلك من الخلاف وظهر من الفساد وما كان من أهل الردة، ومنع العرب الزكاة، وتخلف من تخلف من الأنصار جريًا منهم على عادة العرب ألا يسود العرب القبيلة إلا رجل منها؛ فوقى الله شرها بتلك البيعة المباركة التى كانت جماعًا للخير ونظامًا للكلمة) وقد روينا نص هذا المعنى عن سالم بن عبد الله؛ روى سيف، عن مبشر، عن سالم بن عبد الله قال: قال عمر: كانت إمارة أبى بكر فلتة وقى الله شرها، قلت: ما الفلتة؟ قال: كان أهل الجاهلية يتحاجزون فى الحرم فإذا كانت الليلة التى يشك فيها أدغلوا فأغاروا، وكذلك كانوا يوم مات رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أدخل الناس من بين مدع إمارة أو جاحد زكاة، فلولا اعتراض أبى بكر دونها لكانت الفضيحة ذكره الخطابى. فإن قيل: فما معنى قول أبى بكر: (وليتكم ولست بخيركم) ؟ قيل: هذا من فضله ألا يرى لنفسه فضلا على غيره، وهذه صفة الخائفين لله الذين لا يعجبون بعمل ولا يستكثرون له مهج أنفسهم وأموالهم. قال الحسن: والله ما خلق الله بعد النبيين أفضل من أبى بكر. قالوا: ولا مؤمن من آل فرعون؟ قال: ولا مؤمن من آل فرعون. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 462 وروى الزهرى عن أنس قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول حين بويع أبو بكر: إن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وثانى اثنين إذ هما فى الغار أبو بكر فبايعوه بيعة عامة. قال المهلب: وقوله: (قد خالف عنا على والزبير) فليس هذا خلاف فى الرأى والمذهب وإنما هو فى الاجتماع والحضور. وفى إشارة عمر على أبى بكر أن يأتى الأنصار دليل على أنه إذا خشى من قوم فتنة وألا يجيبوا إلى الإقبال إلى أمر من فوقهم أن ينهض إليهم من فوقهم، ويبين لجماعتهم الحق قبل أن يحكم بذلك الرأى ويقضى به؛ ألا ترى إلى إجابة أبى بكر إلى ذلك وهو الإمام. وأما قول الرجلين من الأنصار (فلا تقربوهم واقضوا أمركم) فإنه يدل أن الأنصار لم تطبق على دعواها فى الخلافة، وإنما ادعى ذلك الأقل. وقول الأنصار: (نحن كتيبة الله) فإن ذلك لا ينكر من فضلهم كما قال أبو بكر، قال: ولكن لا يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش أى لا يخرج هذا الأمر عنهم. وقوله: (أوسط العرب نسبًا) أى أعدل وأفضل، ومنه قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا) [البقرة: 143] أى عدلا. وقول أبى بكر: (قد رضيت لكم أحد الرجلين) هو أدب منه، خشى أن يزكى نفسه، فيعد ذلك عليه. وقوله: (أحد هذين الرجلين) يدل أنه لا يكون للمسلمين أكثر من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 463 إمام واحد، وقد جاء عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (اقتلوا الآخر منهما) وقد تؤول قوله: (اقتلوا الآخر منهما) بمعنى اخلعوه واجعلوه كمن قتل ومات بألا تقبلوا له قولاً، ولا تقيموا له دعوة حتى يكون فى أعداد من قتل وبطل. وفيه جواز إمامة المفضول إذا كان من أهل الغناء والكفاية، وقد قدَّم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أسامة على جيش فيه أبو بكر وعمر. وقول عمر: (لم أكره من مقالته غيرها) يعنى إشارته بالخلافة إلى عمر لما ذكر أن يقدم لضرب عنقه أحب إليه من التأمر والتقدم للخلافة بحضرته. وقوله: (إلا أن تسول لى نفسى) محافظة لما حلف عليه، ولمعرفته بالله من تقليب القلوب، فأخذ فى هذا بأبلغ العذر. وقول الحباب بن المنذر: (أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب) قال أبو عبيد عن الأصمعى: الجذيل: تصغير جذل، وجذل: وهو عود ينصب للإبل الجربى، تحتك به من الجرب، فأراد أن يستشفى برأيه كما كان تستشفى الإبل بالاحتكاك بذلك العود، والعذيق: تصغير عذق. والعذق، بفتح العين، النخلة نفسها، فأينما مالت النخلة الكريمة بنوا من ناحيتها المائل بناءً مرتفعًا يدعمها لكيلا تسقط، فذلك الترجيب، ولا يرجبُ إلا كرام النخل، والترجيب: التعظيم، يقال: رجبت الرجل رجبًا: أى عظمته، وإنما صغرهما جذيل وعذيق على وجه المدح، وإنما وصفهما بالكرم. قال المهلب: وقول عمر: (ابسط يدك يا أبا بكر) وإجابة أبى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 464 بكر له بعد أن قال: (قد رضيت لكم أحد الرجلين) دليل على أنه لم يحل له أن يتخلف عما قدمه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالدليل من الصلاة، وهى عمدة الإسلام، وبقوله للمرأة: (إن لم تجدينى فائتى أبا بكر) . فإن قيل: كيف جاز له أن يجعل الأمر لأحد هذين الرجلين، وقد علم بالدليل الواضح استخلاف النبى (صلى الله عليه وسلم) له؟ قيل: ليس فى قوله ذلك تخلية له من الأمر إذ كان الرضى موقوفًا إليه والاختيار، وليس ذلك بمخرجه أن يرضى نفسه أهلا له، وإنما تأدب إذ لم يقل رضيت لكم نفسى، فلم يجز أحدهما أن يرى نفسه أهلا لها فى زمن فيه أبو بكر. وقد روى أن عمر قال لهم: (أيكم تطيب نفسه أن يؤخر أبا بكر عن مقام أقامه فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ فقال الأنصار بجمعهم: لا، وكذلك قال عمر: (إنّا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمرنا أقوى من مبايعة أبى بكر) يعنى فى قطع الخلاف، وبرضى الجماعة به، وإقرارهم بفضله. وقوله: (ونزونا على سعد بن عبادة) أى درسناه ووثبنا عليه فى متابعتهم إلى البيعة، والنزوان: الوثوب. وفيه الدعاء على من تخشى منه الفتنة. وقال الخطابى: معنى قوله: (قتل الله سعدًا) : أى اجعلوه كمن قتل، واحسبوه فى عدد من مات، ولا تعتدوا بمشهده، وذلك أن سعدًا أراد فى ذلك المقام أن ينصب أميرًا على قومه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 465 على مذهب العرب فى الجاهلية ألا يسود القبيلة إلا رجلا منها، وكان حكم الإسلام خلاف ذلك، فرأى عمر إبطاله بأغلظ ما يكون من القول وأشنعه، وكل شىء أبطلت فعله وسلبت قوته فقد قتلته وأمته، وكذلك قتلت الشراب إذا مزجته لتكسر شدته. وقوله: (وليس فيهم من تقطع الأعناق له مثل أبى بكر) يريد أن السابق منكم لا يلحق شأوه فى الفضل، ولا يكون أحد مثله، لأنه أسبق السابقين. وقوله: (تغرة أن يقتلا) : قال أبو عبيد: التغرة: التغرير، يقال: غررت بالقوم تغريرًا وتغرة، وكذلك يقال فى المضاعف خاصة، كقولك: حللت اليمين تحليلا وتحلة، وإنما أراد عمر أن فى بيعتهما تغريرًا بأنفسهما للقتل وتعرضًا له فنهاهما عنه، وأمر ألا يؤمَّر واحد منهم لئلا يطمع فى ذلك، فيفعل هذا الفعل. قال أبو عمرو: الدافة: القوم يسيرون جماعة سيرًا ليس بالشديد، يقال: هم يدفون دفيفًا. وقوله: (تحصنونا من الأمر) يقال: حصنت الرجل من الشىء وأحصنته: أخرجته منه، وقال الأصمعى: التزوير: إصلاح الكلام وتهيئته. وقال أبو زيد: المزور من الكلام والمزوق واحد، وهو المصلح المحسن، وكذلك الخط إذا قوم أيضًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 466 - باب الْبِكْرينِ يُجْلَدَانِ وَيُنْفَيَانِ: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (الآية [النور: 2] قال ابن علية: رأفة إقامة الحدود. / 17 - فيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ: (سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَأْمُرُ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ) . قَالَ عُرْوَةُ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ غَرَّبَ، ثُمَّ لَمْ تَزَلْ تِلْكَ السُّنَّةَ. أجمع العلماء أن قوله تعالى: (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) [النور: 2] فى زنا الأبكار خاصة لما ثبت فى حد الثيب أنه الرجم، وقول عمر على رءوس الناس: (الرجم فى كتاب الله حق على من زنا إذا أحصن) ، ولم يكن فى الصحابة مخالف فكان إجماعًا، قال ابن المنذر: وهو قول الخلفاء الراشدين، يعنى تغريب البكر الزانى بعد جلده، روى ذلك عن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان، وعلى، وأُبى بن كعب، وابن عمر، وبه قال آئمة الأمصار وخالف ذلك أبو حنيفة ومحمد، فقالا: لا نفى على زان، وإنما عليه الجلد خاصة. قالوا: وهو ظاهر كتاب الله تعالى وليس فيه نفى، ولا معنى لهذا القول بخلافه للسنة الثابتة، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) أقسم فى حديث العسيف ليقضين بينهما بكتاب الله، فقضى بالجلد والتغريب على العسيف، فكان فعله بيانًا لكتاب الله وهو إجماع الصحابة، وعليه عامة العلماء، فسقط قول من خالفه. واختلفوا فى المسافة التى ينفى إليها الزانى، فروى عن عمر بن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 467 الخطاب أنه قال: فدك. ومثله عن ابن عمر. وعن على بن أبى طالب: من الكوفة إلى البصرة. وقال الشعبى: ينفيه من عمله إلى غير عمله. وقال مالك: يغرب عامًا فى بلد يحبس فيه لئلا يرجع إلى البلد الذى نفى منه. وقال عبد الملك: ينفى إلى فدك، وإلى مثل الحار من المدينة. وقال أحمد: ينفى إلى قدر ما تقصر فيه الصلاة. وقال أبو ثور: إلى ميل وأقل من ذلك. قال ابن المنذر: ويجزئ فى ذلك ما يقع عليه اسم النفى قل أو كثر، ولا حجة لمن جعل لذلك حدا. واختلفوا فى المواضع التى تضرب، فقال مالك: الحدود كلها أو التعزير لا تضرب إلا فى الظهر. وقال أبو حنيفة: تضرب الأعضاء كلها إلا الفرج والرأس والوجه. وروى عن عمر وابن عمر أنهما قالا: لا يضرب الرأس. وقال الشافعى: يتقى الفرج والوجه. وروى ذلك عن على، رضى الله عنه. - باب نَفْىِ أَهْلِ الْمَعَاصِى وَالْمُخَنَّثِينَ / 18 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: (لَعَنَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْمُتَرَجِّلاتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقَالَ: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ، وَأَخْرَجَ فُلانًا، وَأَخْرَجَ عُمَرُ فُلانًا) . وقد تقدم هذا الباب فى كتاب الأشخاص والملازمة، وفى كتاب الأحكام إلا أنه ذكر فيهما حديث أبى هريرة: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يحرق بيوت المتخلفين عن الصلاة معه) ولم يخرج هذا الحديث وسيأتى فى هذا الحديث فى مثل هذا الباب بعينه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 468 فى كتاب اللباس، وهناك أولى أن نتكلم فيه إن شاء الله تعالى ونذكر هنا منه طرفًا. قال المؤلف: إنما ذكر هذا الباب بعد نفى الزانى، وإن كان قد كرره فى غير موضع من كتابه ليعرفك أن التغريب على الزانى واجب؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما نفى من أتى من المعاصى ما لا حد فيه، فنفى من أتى ما فيه من الحدّ أوجب وأوكد فى النظر لو لم يكن فى نفى الزانى سنة ثابتة لتبين خطأ أبى حنيفة فى القياس. وقال المهلب: لعنة النبى (صلى الله عليه وسلم) المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، وأمره بإخراجهم يدل على نفى كل من خشيت منه فتنة على الناس فى دين أو دنيا، وهذا الحديث أصل لذلك، والله الموفق. - باب مَنْ أَمَرَ غَيْرَ الإمَامِ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ غَائِبًا عَنْهُ / 19 - فيه: حديث أَبِى هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ فى العَسِيف، (وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَارْجُمْهَا، فَغَدَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا) . وترجم له: باب هل يأمر الإمام رجلا فيضرب الحد غائبًا عنه؟ وقد فعله عمر، وهذان البابان معناهما واحد، وترجم له فى كتاب الأحكام باب: هل يجوز للإمام أن يبعث رجلا وحده للنظر فى الأمور. لا معنى للكلام فى هذه الأبواب فقد تكرر، وقد ذكر هذا المعنى فى كتاب الوكالات، وترجم لحديث العسيف باب الوكالات فى الحدود، ومعناها كلها أن الإمام يجوز له أن يبعث رجلا واحدًا يقوم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 469 مقامه فى إقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، وأن الواحد يجوز فى ذلك، وليس من باب الشهادات التى لا يجوز فيها إلا رجلان فصاعدًا. - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ (إلى قوله) فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) [النساء: 25] ) مُسَافِحَاتٍ (: زَوَانِى،) وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ (: أَخِلاءَ. / 20 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سُئِلَ عَنِ الأمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ، قَالَ: (إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا، وَلَوْ بِضَفِيرٍ) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لا أَدْرِى أبَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ. اختلف العلماء فى إحصان الأمة غير ذات الزوج ما هو؟ فقالت طائفة: إحصان الأمة تزويجها، فإذا زنت ولا زوج لها فعليها الأدب، ولا حد عليها. هذا قول ابن عباس وطاوس وقتادة، وبه قال أبو عبيد. وقالت طائفة: إحصان الأمة إسلامها، فإذا كانت الأمة مسلمة وزنت وجب عليها خمسون جلدة سواء كانت ذات زوج، أو لم تكن. روى هذا القول عن عمر بن الخطاب فى رواية، وهو قول على، وابن مسعود، وابن عمر، وأنس، والنخعى، وإليه ذهب مالك، والليث، والأوزاعى والكوفيون والشافعى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 470 وقال إسماعيل فى قول من قال: فإذا أحصنّ: أسلمن بعد؛ لأن ذكر الأيمان قد تقدم لهن فى قوله: (من فتياتكم المؤمنات) [النساء: 25] فيبعد أن يقال: من فتياتكم المؤمنات، فإذا آمنّ، ويجوز فى كلام الناس على بعده فى التكرير، وأمر القرآن ينزل على أحسن وجوهه وأبينها. وأما قول من قال: فإذا أحصن: تزوجن، فلا حد على الأمة حتى تزوج، فإنهم ذهبوا فى ذلك إلى ظاهر القرآن، وأحسبهم لم يعلموا هذا الحديث: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) سُئل عن الأمة إذا زنت، ولم تحصن. فقال: اجلدوها) فالأمر عندنا أن الأمة إذا زنت، وقد أحصنت مجلودة بكتاب الله، وهو قوله: (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) [النساء: 25] وإذا زنت قبل أن تحصن مجلودة بحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المذكور فى هذا الباب، وإنما استوى الإحصان فيها وغير الإحصان والله أعلم؛ لأنه جعل عليها إذا زنت نصف ما على الحرائر من العذاب، وكان عذاب الحرائر فى الزنا فى موضع، والجلد فى موضع فلما جعل ما على الأمة نصف ما على الحرة من العذاب؛ علمنا أن العذاب الذى ينتصف هو الجلد؛ لأن الجلد يكون له نصف، والرجم لا يكون له نصف. وزعم أهل المقالة الأولى أنه لم يقل فى هذا الحديث: (ولم تحصن) غير مالك، وليس كما زعموا، وقد رواه يحيى بن سعيد، عن ابن شهاب كما رواه مالك، ورواه كذلك أيضًا طائفة عن ابن عيينة، عن الزهرى، وإذا اتفق مالك ويحيى بن سعيد وابن عيينة فهو حجة على من خالفهم، وسيأتى ما بقى من معانى هذا الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 471 - باب لا يُثَرَّبُ عَلَى الأمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلا تُنْفَى / 21 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا زَنَتِ الأمَةُ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا، وَلا يُثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا، وَلا يُثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ، فَلْيَبِعْهَا، وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ) . استدل بهذا الحديث من لم يوجب النفى على النساء، أحرارًا كن أو إماء، ولا على العبيد، روى ذلك عن الحسن وحماد، وهو قول مالك، والأوزاعى، وعبيد الله بن الحسن، وأحمد، وإسحاق، وقال الشافعى وأبو ثور: على النساء النفى وعلى الإماء والعبيد. وهو قول ابن عمر، واحتج الشافعى بعموم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من زنا ولم يحصن فعليه جلد مائة وتغريب عام) فعم ولم يخص، واحتج أيضًا بقوله تعالى: (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) [النساء: 25] والتغريب له نصف. واحتج عليه مخالفه بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها. . ثم إن زنت الثالثة فليبيعها) فدل هذا على سقوط النفى عنها؛ لأنه محال أن يأمر ببيع من لا يقدر مبتاعه على قبضه من بائعه إلا بعد مضى ستة أشهر، وأيضًا فإن العبيد والإماء لا وطن لهم فيعاقبوا بإخراجهم عنه، وفى نفيهم قطع للسيد عن الخدمة وضرر، ومما يدل أنه لا نفى على النساء قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تسافر امرأة يومًا وليلة إلا مع ذى محرم) فإن أخرجتم معها ذا محرم عاقبتم من زنا ومن لم يزن وهذا محال، وإن قلتم إنها تغرب وحدها فقد خالفتم الخبر؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) نهاها أن تسافر وحدها، وفى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فليجلدها) إباحة للسيد أن يقيم الحدود على عبيده. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 472 وقد اختلف العلماء فى ذلك، فقال الشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور: للسيد أن يقيم الحدود كلها على عبيده. وقال مالك والليث: يحده السيد فى الزنا وشرب الخمر والقذف إذا شهد عنده الشهود لا بإقرار العبد إلا القطع خاصة فإنه لا يقطعه إلا الإمام. وقال الكوفيون: لا يقيم الحدود كلها إلا الإمام خاصة، فإذا علم السيد أن عبده زنا يوجعه ضربًا ولا يبلغ به الحد. وحجتهم ما روى عن الحسن، وعبد الله بن محيريز، وعمر بن عبد العزيز أنهم قالوا: الجمعة والحدود والزكاة والنفى والحكم إلى السلطان خاصة. وحجة القول الأول قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها) وسائر الحدود قياسًا على الجلد الذى جعله النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى السيد، وروى عن ابن عمر، وابن مسعود، وأنس وغيرهم أنهم أقاموا الحدود على عبيدهم، ولا مخالف لهم من الصحابة. وحجة مالك ظاهر حديث أبى هريرة، وإنما استثنى القطع؛ لأن فيه مثلة بالعبد، فيدعى السيد أن عبده سرق ليزيل عنه العتق الذى يلزمه بالمثلة، فمنع منه قطعًا للذريعة، وحد الزنا وغيره لا مثلة فيه، فلا يتهم عليه. وقد قال بعض أصحاب مالك: إن للسيد قطعه إذا قامت على ذلك بينة. وقال ابن المنذر: يقال للكوفيين إذا جاز ضربه تعزيرًا، وذلك غير واجب على الزانى، ومنع مما أطلقته السنة، فذلك خلاف للسنة الثابتة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 473 وقوله: (فليجلدها ولا يثرب) يدل أن كل من وجب عليه حد وأقيم عليه أنه لا ينبغى أن يثرب عليه ولا يعدد، وإنما يصلح التثريب واللوم قبل مواقعة الذنب للردع والزجر عنه. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ثم ليبعها ولو بضفير) معناه عند الفقهاء الندب والحض على مباعدة الزانية لما فى السكوت على ذلك من خوف الرضى به، وذلك ذريعة إلى تكثير أولاد الزنا، وقد قالت أم سلمة: (يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث) . قال بعض أهل العلم: الخبث: أولاد الزنا. وقال أهل الظاهر بوجوب بيع الأمة إذا زنت الرابعة وجلدت، ولم يقل به أحد من السلف، وكفى بهذا جهلا، ولا يشتغل بهذا القول لشذوذه، وقد نهى (صلى الله عليه وسلم) عن إضاعة المال فكيف يأمر ببيع أمة لها قيمة بحبل من شعر لا قيمة له؟ وإنما أراد بذلك النهى عنها، والأمر بمجانبتها، فخرج لفظه (صلى الله عليه وسلم) على المبالغة فى ذلك، وهذا من فصيح كلام العرب. - باب أَحْكَامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِحْصَانِهِمْ إِذَا زَنَوْا وَرُفِعُوا إِلَى الإمَامِ / 22 - فيه: ابْنَ أَبِى أَوْفَى: رَجَمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَقُلْتُ: أَقَبْلَ النُّورِ أَمْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: لا أَدْرِى. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمَائِدَةِ، وَالأوَّلُ أَصَحُّ. / 23 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: (إِنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : مَا تَجِدُونَ فِى التَّوْرَاةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 474 فِى شَأْنِ الرَّجْمِ؟ فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلامٍ: كَذَبْتُمْ، إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ، فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، قَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَرُجِمَا، فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَحْنِى عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ) . اختلف العلماء فى إحصان أهل الذمة، فقالت طائفة فى الزوجين الكتابيين يزنيان ويرفعان إلينا: عليهما الرجم، وهما محصنان، هذا قول الزهرى والشافعى وقال الطحاوى: وروى عن أبى يوسف أن أهل الكتاب يحصن بعضهم بعضًا، ويحصن المسلم النصرانية، ولا تحصنه النصرانية، واحتج الشافعى بحديث ابن عمر أن النبى (صلى الله عليه وسلم) رجم اليهوديين اللذين زنيا، وقال: إنما رجمتهما لأنهما كانا محصنين. وقال النخعى: لا يكونان محصنين حتى يجامعا بعد الإسلام. وهو قول مالك والكوفيين، قالوا: الإسلام من شرط الإحصان، وقالوا فى حديث ابن عمر: إن رجم النبى (صلى الله عليه وسلم) اليهوديين اللذين زنيا بحكم التوراة حين سأل الأحبار عن ذلك، إنما كان من باب تنفيذ الحكم عليهم بكتابهم التوراة، وكان ذلك أول دخوله (صلى الله عليه وسلم) المدينة، ثم نزل عليه القرآن بعد ذلك الذى نسخ خطه وبقى حكمه، فالرجم لمن زنا، فليس رجمه اليهوديين من باب إحصان الإسلام فى شىء، وإنما هو من باب تنفيذ الحكم عليهم بالتوراة، وكان حكم التوراة بالرجم على المحصن وغير المحصن، وكان على النبى (صلى الله عليه وسلم) اتباعه والعمل به؛ لأن على كل نبى اتباع شريعة النبى الذى قبله حتى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 475 يحدث الله له شريعة تنسخها، فرجم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اليهوديين على ذلك الحكم، ثم نسخ الله تعالى ذلك بقوله: (واللاتى يأتين الفاحشة (إلى) البيوت. . . . أو يجعل الله لهن سبيلا) [النساء: 15] فجعل هذا ناسخًا لما قبله، ولم يفرق فى ذلك بين المحصن ولا غيره، ثم نسخ ذلك بالآية التى بعدها، ثم جعل الله لهن سبيلا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) ففرق حينئذ بين حد المحصن وغير المحصن. هذا قول الطحاوى، ونزل بعد هذا على النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) [العنكبوت: 51] ، فلم يحكم بعد هذه الآية بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه إلا بالقرآن، إلا أن العلماء اختلفوا فى أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا، فقالت طائفة: الإمام مخير فى ذلك إن شاء حكم بينهم، روى هذا عن ابن عباس، وعطاء، والشعبى، والنخعى، وهو قول مالك، وأحد قولى الشافعى، وجعلوا قوله تعالى: (فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) [المائدة: 42] محكمة غير منسوخة. وقال آخرون: واجب على الحاكم أن يحكم بينهم، وزعموا أن قوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) [المائدة: 49] ناسخ للتخيير فى الحكم بينهم. روى هذا عن مجاهد وعكرمة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقول الشافعى الثانى. وتأول الأولون قوله: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) [المائدة: 49] إن حكمت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 476 - باب إِذَا رَمَى امْرَأَتَهُ أَوِ امْرَأَةَ غَيْرِهِ بِالزِّنَا عِنْدَ الْحَاكِمِ وَالنَّاسِ، هَلْ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهَا فَيَسْأَلَهَا عَمَّا رُمِيَتْ بِهِ؟ / 24 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِد: أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَقَالَ الآخَرُ: وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا، أَجَلْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأْذَنْ لِى أَنْ أَتَكَلَّمَ، قَالَ: تَكَلَّمْ، قَالَ: إِنَّ ابْنِى كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، قَالَ مَالِكٌ: وَالْعَسِيفُ الأجِيرُ، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَأَخْبَرُونِى أَنَّ عَلَى ابْنِى الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَبِجَارِيَةٍ لِى، ثُمَّ إِنِّى سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَأَخْبَرُونِى أَنَّ مَا عَلَى ابْنِى جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَإِنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَمَا وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا، وَأَمَرَ أُنَيْسًا الأسْلَمِىَّ أَنْ يَأْتِىَ امْرَأَةَ الآخَرِ، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ، فَارْجُمْهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا) . أجمع العلماء أن من قذف امرأته أو امرأة غيره أو رجلا بالزنا فلم يأت على ذلك بالبينة أن الحد يلزمه إلا أن يقر له المقذوف بالحدّ ويعترف به، فلهذا وجب على الحاكم أن يبعث إلى المرأة يسألها عما رميت به لأنه لا يلزمها الحد عند عدم البينة إلا بإقرارها، ولو لم تعترف المرأة فى هذا الحديث لوجب على والد العسيف الحد لقذفه لها، ولم يلزمه الحد لو لم يعترف ابنه بالزنا؛ لأنه يسقط عنه حد القذف لابنه. واختلف العلماء فيمن أقر بالزنا بامرأة معينة وجحدت المرأة قال مالك: يقام عليه حد الزنا، وإن طلبت حد القذف أقيم عليه أيضًا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 477 وكذلك لو أقرت هى، وأنكر هو، وقال أبو حنيفة والأوزاعى: عليه حد القذف، ولا حد عليه للزنا. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعى: من أقر منهما فإنما عليه حد الزنا فقط. والحجة لقول مالك أن حد الزنا واجب عليه بإقراره، وليس إقراره دليلا على صدقه على المقذوف؛ لأنا لو علمنا صدقه بالبينة أو بإقرار المرأة لم يجب عليه الحد، فلما لم يكن إلى البينة ولا إلى إقرار المرأة سبيل وجب لها أن تطلب حقها من القاذف، كما لو أقر رجل أن زوجته أخته لحرمت عليه ولم يثبت نسبها بقوله وحده. والحجة لأبى حنيفة والأوزاعى، أنه لما قذفها ولم يأت بأربعة شهداء لزمه حد القذف لقوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات) [النور: 4] الآية، فلما حد لها استحال أن يحد فى الزنا لحكمنا لها بالإحصان، وأيضًا فإنه لا يجوز أن يجتمع حدان أبدًا، فإذا اجتمعا ثبت ألزامهما، وإنما كان عنده حد القذف ألزم من حد الزنا؛ لأن من أقر على نفسه بالزنا ثم رجع فإنه يقبل رجوعه، ومن قذف أحدًا لم ينفعه الرجوع، وكذلك من وجب عليه حد الزنا والقذف وكان عليه القتل؛ فإنه يحد للقذف ويقتل ولا يحد للزنا. والحجة لأبى يوسف ومحمد والشافعى أنا قد أحطنا علمًا أنه لا يجب عليه الحدان جميعًا؛ لأنه إن كان زانيًا فلا حد عليه للقذف، وإن كان قاذفًا لمحصنة فليس بزانٍ، وهو قاذف فحُد للقذف، وإنما وجب عليه حد الزنا؛ لأن من أقر على نفسه وعلى غيره لزمه ما أقر به على نفسه، وهو مدعٍ فيما أقر به على غيره، فلذلك لم يقبل قوله عليها، ويؤخذ بإقراره على نفسه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 478 - باب مَنْ أَدَّبَ أَهْلَهُ أَوْ غَيْرَهُ دُونَ السُّلْطَانِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا صَلَّى فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى، فَلْيُقَاتِلْهُ) ، وَفَعَلَهُ أَبُو سَعِيدٍ. / 25 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِى، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، فَعَاتَبَنِى، وَجَعَلَ يَطْعُنُ بِيَدِهِ فِى خَاصِرَتِى، وَلا يَمْنَعُنِى مِنَ التَّحَرُّكِ إِلا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . . الحديث. وَقَالَتْ مرة: لَكَزَنِى لَكْزَةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: حَبَسْتِ النَّاسَ لقِلادَةٍ، فَبِى الْمَوْتُ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَقَدْ أَوْجَعَنِى. فى حديث أبى سعيد: أنه يجوز للرجل أن يؤدب غير أهله بحضرة السلطان إذا كان ذلك فى واجب وعلم أن السلطان يرضى بذلك، ولا ينكره لجوازه فى الشريعة. قال المهلب: وفى حديث عائشة أنه يجوز أن يؤدب ابنته بحضرة زوجها لا سيما فى أمر الدين، وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب التيمم وتقدم حديث أبى سعيد فى كتاب الصلاة فى باب يرد المصلى من مَرَّ بين يديه. - باب مَنْ رَأَى مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلا فَقَتَلَهُ / 26 - فيه: سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ قَالَ: (لَوْ رَأَيْتُ رَجُلا مَعَ امْرَأَتِى لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، لأنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 479 قال المهلب: معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أتعجبون من غيرة سعد؟ والله أغير منى) يدل على وجود القود فيمن قتل رجلا وجده مع امرأته لأن الله تعالى وإن كان أغير من عباده فإنه قد أوجب الشهود فى الحدود فلا يجوز لأحد أن يتعدى حدود الله، ولا يسفك دمًا بدعوى. وقد روى مالك هذا المعنى فى حديث سعد بينًا، روى مالك، عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة: (أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، أرأيت إن وجدت مع امرأتى رجلا أمهله حتى آتى بأربعة شهداء؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : نعم) ففى هذا من الفقه قطع الذرائع والتسيب إلى قتل الناس والادعاء عليهم بمثل هذا وشبهه، وفى حديث سعد من رواية مالك: النهى عن إقامة الحدود بغير سلطان وبغير شهود؛ لأن الله تعالى عظم دم المسلم وعظم الإثم فيه، فلا يحل سفكه إلا بما أباحه الله به، وبذلك أفتى على بن أبى طالب فيمن قتل رجلا وجده مع امرأته فقال: إن لم يأت بأربعة شهداء؛ فليعط برمته. أى يسلِّم برمته للقتل، وعلى هذا جمهور العلماء. وقال الشافعى وأبو ثور: يسعه فيما بينه وبين الله قتل الرجل وامرأته إن كانا ثيبين وعلم أنه قد نال منها ما يوجب الغسل ولا يسقط عنه القود فى الحكم. وقال أحمد بن حنبل: إن جاء ببينة أنه وجده مع امرأته وقتله يهدر دمه إن جاء بشاهدين. وهو قول إسحاق وهذا خلاف قوله فى حديث مالك: (أمهله حتى آتى بأربعة شهداء؟ قال: نعم) وقال ابن حبيب: إذا كان المقتول محصنًا، فالذى ينجى قاتله من القتل أن يقيم أربعة شهداء أنه فعل بامرأته، وأما إن كان المقتول غير محصن فعلى قاتله القود، وإن أتى بأربعة شهداء، هذا وجه الحديث عندى، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 480 وذكر ابن مزين عن ابن القاسم أن ذلك فى البكر والثيب سواء يترك قاتله إذا قامت له البينة بالرؤية. وقال أصبغ عن ابن القاسم وأشهب: أستحب الدية فى البكر فى مال القاتل. وهو قول أصبغ. وقال المغيرة: لا قود فيه ولا دية، وقد أهدر عمر بن الخطاب دمًا من هذا الوجه، روى الليث، عن يحيى بن سعيد أن رجلا فقد أخاه فجعل ينشده فى الموسم، فقام رجل فقال: أنا قتلته، فمر به إلى عمر بن الخطاب فقال: مررت بأخى هذا فى بيت امرأة مغيبة يقول: وأشعث غره الإسلام منى أبيت على ترائبها وكسرى خلوت بعرسه ليل التمام على صهباء لاحقة الحزام فأهدر عمر دمه. وروى الليث، عن يحيى بن سعيد: (أن زيد بن أسلم أدرك المرأة الهذلية التى رمت ضيفها الذى أرادها على نفسها فقتلته عجوز كبيرة، فأخبرته أن عمر أهدر دمه) وقال ابن مزين: ما روى عن عمر فى هذا أنه ثبت عنده ذلك من عداوتهم وظلمهم، ولو أخذ بقول الرجل فى ذلك بغير بينة لعمد الرجل إلى الرجل يريد قتله، فيدعوه إلى بيته لطعام أو لحاجة فيقتله ويدعى أنه وجده مع امرأته، فيؤدى ذلك إذا قبل قوله إلى إباحة الدماء وإسقاط القود بغير حق ولا إثبات. وقال ابن المنذر: والأخبار عن عمر مختلفة وعامتها منقطعة، فإن ثبت عن عمر أنه أهدر الدم فيها، فإنما ذلك لبينة ثبتت عنده تسقط القود. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 481 وروى عبد الرزاق، عن الثورى، عن المغيرة بن النعمان، عن هانئ بن حزام: (أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فقتلهما، فكتب عمر كتابًا فى العلانية: أن يقيدوه، وكتابًا فى السرّ: أن أعطوه الدية) . وروى الأعمش، عن زيد بن وهب، أن عمر أمر بالدية فى ذلك. قال الشافعى: وبحديث على نأخذ، ولا أحفظ عن أحد من أهل العلم قبلنا مخالفًا له. قال ابن المنذر: وقد حرم الله دماء المؤمنين فى كتابه إلا بالحق، فغير جائز إباحة ما ثبت تحريمه إلا ببينة، ونهى النبى (صلى الله عليه وسلم) سعدًا أن يقتل حتى يأتى بأربعة شهداء، وفى نهى النبى له عن ذلك مع مكانه من الثقة والصلاح دليل على منع جميع الناس من قتل من يَدّعون إباحة قتله بغير بينة. - باب مَا جَاءَ فِى التَّعْرِيضِ / 27 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) جَاءَهُ أَعْرَابِىٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ امْرَأَتِى وَلَدَتْ غُلامًا أَسْوَدَ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنَّى كَانَ ذَلِكَ، قَالَ: أُرَاهُ عِرْقٌ نَزَعَهُ، قَالَ: فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ) . اختلف العلماء فى هذا الباب. فقالت طائفة: لا حدّ فى التعريض، وإنما يجب الحدّ بالتصريح البين. روى هذا عن ابن مسعود وقاله القاسم بن محمد والشعبى، وإليه ذهب الثورى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 482 والكوفيون والشافعى، إلا أن أبا حنيفة والشافعى يوجبان عليه الأدب والزجر ويُنهى عن ذلك. واحتج الشافعى بحديث هذا الباب، قال: وقد عرض بزوجته تعريضًا لا خفاء به، ولم يوجب النبى (صلى الله عليه وسلم) حدا، وإن كان غلب على السامع أنه أراد القذف إذ قد يحتمل قوله وجهًا غير القذف، من التعجب والمسألة عن أمره. وقالت طائفة: التعريض كالتصريح. روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان وعروة والزهرى وربيعة، وبه قال مالك والأوزاعى. قال مالك: وذلك إذا علم أن قائله أراد به قذفًا فعليه الحد، واحتج فى ذلك بما روى عن أبى الرجال، عن أمه عمرة أن رجلين استبا فى زمن عمر بن الخطاب، فقال أحدهما للآخر: والله ما أبى بزانٍ ولا أمى بزانية. فاستشار فى ذلك عمر بن الخطاب، فقال قائل: مدح أباه وأمَّهُ. وقال آخر: بل كان لأبيه وأمه مدح غير هذا نرى أن يجلد الحد، فجلده عمر ثمانين. وقال أهل هذه المقالة: لا حجة فى حديث أبى هريرة؛ لأن الرجل لم يرد قذف امرأته والنقيصة لها، وإنما جاء مستفتيًا فلذلك لم يحده النبى (صلى الله عليه وسلم) ولذلك لم يحد عويمر، وأرجئ أمره حتى نزل فيه القرآن. واحتج الشافعى فقال: لما لم يجعل التعريض بالخطبة فى العدة بمنزلة التصريح، كذلك لا يجعل التعريض فى القذف بمنزلة التصريح. قال إسماعيل بن إسحاق: وليس كما ظن وإنما أجيز له التعريض الجزء: 8 ¦ الصفحة: 483 بالنكاح دون التصريح؛ لأن النكاح لا يكون إلا من اثنين، فإذا صرَّح بالخطبة وقع عليه الجواب من الآخر بالإيجاب أو الموعد فمنعوا من ذلك، فإذا عرَّض به فهم أن المرأة من حاجته فلم يحتج إلى جواب، والتعريض بالقذف لا يكون إلا من واحد، ولا يكون فيه جواب، فهو قاذف من غير أن يجيبه أحد فقام مقام التصريح. - باب كَمِ التَّعْزِيرُ وَالأدَبُ؟ / 28 - فيه: عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ، عَنْ أَبِى بُرْدةَ، قَالَ: (كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: لا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ إِلا فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ) . / 29 - وَعَنْ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ جَابِرٍ عَمَّنْ سَمِعَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا عُقُوبَةَ فَوْقَ عَشْرِ ضَرَبَاتٍ إِلا فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ) . / 30 - وَعَنْ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ جَابِرٍ: أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بُرْدَةَ الأنْصَارِىَّ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لا تَجْلِدُوا فَوْقَ عَشْرَةِ أَسْوَاطٍ إِلا فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ) . / 31 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْوِصَالِ، فَقَالَ لَهُ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: فَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوَاصِلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَيُّكُمْ مِثْلِى، إِنِّى أَبِيتُ يُطْعِمُنِى رَبِّى وَيَسْقِينِ، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ، وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلالَ، فَقَالَ: لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ كَالْمُنَكِّلِ بِهِمْ حِينَ أَبَوْا) . / 32 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا اشْتَرَوْا طَعَامًا جِزَافًا أَنْ يَبِيعُوهُ فِى مَكَانِهِمْ حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 484 / 33 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِنَفْسِهِ فِى شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ حَتَّى يُنْتَهَكَ حُرْمَة مِنْ حُرُمَاتِ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ. اختلف العلماء فى مبلغ التعزير، فقال أحمد وإسحاق بحديث جابر لا يزاد على عشر جلدات إلا فى حد. وروى عن الليث أنه قال: يحتمل ألا يتجاوز بالتعزير عشرة أسواط، ويحتمل ما سوى ذلك. وروى ابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه أمر زيد بن ثابت أن يضرب رجلا عشرة أسواط. وعنه رواية ثانية أنه كتب إلى أبى موسى الأشعرى: (ألا يبلغ بنكال فوق عشرين سوطًا) . وعنه فى رواية أخرى: (ألا يبلغ فى تعزير أكثر من ثلاثين جلدة) . وقال الشافعى فى قوله الآخر: لا يبلغ به عشرين سوطًا؛ لأنها أبلغ الحدود فى العبد فى شرب الخمر؛ لأن حد الخمر فى الحر عنده فى الشرب أربعون. وقال أبو حنيفة ومحمد: لا يبلغ به أربعين سوطًا بل ينقص منها سوطًا؛ لأن الأربعين أقل الحدود فى العبد فى الشرب والقذف، وهو أحد قولى الشافعى. وقال ابن أبى ليلى وأبو يوسف: أكثره خمسة وسبعون سوطًا. وقال مالك: التعزير ربما كان أكثر من الحدود إذا أدى الإمام اجتهاده إلى ذلك. وروى مثله عن أبى يوسف وأبى ثور، واحتج أحمد وإسحاق بحديث جابر، وقال ابن المنذر: فى إسناده مقال. وقال الأصيلى: اضطرب إسناد حديث عبد الله بن جابر، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 485 فوجب تركه لاضرابه، ولوجود العمل فى الصحابة والتابعين بخلافه. وقال الطحاوى: لا يجوز: اعتبار التعزير بالحدود لأنهم لا يختلفون أن التعزير موكول إلى اجتهاد الإمام، فيخفف تارة ويشدد تارة، فلا معنى لاعتبار الحد فيه وتجاوز مجاوزته له، والدليل على ذلك ما رواه ابن نمير، عن الزهرى، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه أن حاطبًا توفى، وأعتق من صلى وصام من رقيقه، وكانت له وليدة نوبية من رقيقه قد صلت وصامت، وهى عجمية لا تفقه فلم يرعه إلا حملها، فذهب إلى عمر فأخبره فأرسل إليها أحبلت؟ قالت: نعم من مرغوس بدرهمين. فإذا هى تستهل به، وصادفت عنده على ابن أبى طالب وعثمان وعبد الرحمن فقال: أشيروا علىَّ. فقال على وعبد الرحمن: قد وقع عليها الحد. فقال: أشر علىَّ يا عثمان فقال: قد أشار عليك أخواك. فقال: أشر علىَّ أنت. قال عثمان: إنها تستهل به كأنها لا تعلمه، وليس الحد إلا على من علمه. فقال عمر: صدقت. فأمر فجلدت مائة وغربت. قال ابن شهاب: وقد كانت نكحت غلامًا لمولاها ثم مات عنها إلا أنه كانت تصلى مع المسلمين، فجعل عمر فى هذا الحديث التعزير بمائة؛ لأنه كان عليها علم الأشياء المحرمة، وغربها زيادة فى العقوبة، كما غرب فى الخمر. قال ابن القصار: وقد روى أن معن بن زائدة زور كتابًا على عمر ونقش مثل خاتمه، فجلده مائة، ثم شفع له قوم، فقال: أذكرتنى الطعن وكنت ناسيًا، فجلده مائة أخرى، ثم جلده بعد ذلك مائة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 486 أخرى ثلاث مرار بحضرة الصحابة، ولم ينكر ذلك أحد، فثبت أنه إجماع. قال: ولما كان طريق التعزير إلى اجتهاد الإمام على حسب ما يغلب على ظنه أنه يردع، وكان فى الناس من يردعه الكلام، وكان فيهم من لا يردعه مائة سوط، وهى عنده كضرب المروحة؛ لم يكن للتحديد فيه معنى، وكان مفوضًا إلى ما يؤديه اجتهاده أن مثله يردع. قال المهلب: ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) زاد المواصلين فى النكال كذلك يجوز للإمام أن يزيد فيه على حسب اجتهاده، وكذلك ضرب المتابعين للطعام، وانتقامه (صلى الله عليه وسلم) لحرمات الله لم يكن محدودًا فيجب أن يضرب كل واحد منهم على قدر عصيانه للسنة، ومعاندته أكثر مما يضرب الجاهل، ولو كان فى شىء من ذلك حد لنقل ولم يجز خلافه. - باب مَنْ أَظْهَرَ الْفَاحِشَةَ وَاللَّطْخَ وَالتُّهَمَةَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ / 34 - فيه: سَهْلِ، قَالَ: شَهِدْتُ الْمُتَلاعِنَيْنِ، فَقَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) ، إِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ فَهُوَ قَالَ الزُّهْرِىَّ: فَجَاءَتْ بِهِ لِلَّذِى يُكْرَهُ. / 35 - وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ ذَكَرَ الْمُتَلاعِنَيْنِ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: هِىَ الَّتِى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا امْرَأَةً عَنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ؟ قَالَ: لا تِلْكَ امْرَأَةٌ أَعْلَنَتْ. . . الحديث. إلى قوله (صلى الله عليه وسلم) : اللَّهُمَّ بَيِّنْ، فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِى ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَهَا، فَلاعَنَ النَّبِىُّ - الجزء: 8 ¦ الصفحة: 487 (صلى الله عليه وسلم) - بَيْنَهُمَا، فَقَالَ الرَجُلٌ لابْنِ عَبَّاسٍ: هِىَ الَّتِى قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ رَجَمْتُ هَذِهِ؟ فَقَالَ: لا، تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ فِى الإسْلامِ السُّوءَ) . قال المهلب: هذا الحديث أصل فى أنه لا يجوز أن يحد أحد بغير بينة. وإن اتهم بالفاحشة، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) قد وسم ما فى بطن المرأة الملاعنة بالمكروه وبغيره، فجاءت به على النعت المكروه بالشبه للمتهم بها، فلم يقم عليها الحد بالدليل الواضح إذكان ذلك خلاف ما شرع الله، فلا يجوز أن تتعدى حدود الله، ولا يستباح دم ولامال إلا بيقين لا شك فيه، وهذه رحمة من الله تعالى بعباده، وإرادة الستر عليهم والرفق بهم ليتوبوا. - باب رَمْىِ الْمُحْصَنَاتِ: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً (إلى قوله) غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 4] ،) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ (الآية [النور: 23] . / 36 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّى يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاتِ) . قال الله تعالى: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات) [النور: 23] وهن العفائف الحرائر المسلمات،) ثم لم يأتوا بأربعة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 488 شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور: 4] فناب ذكر رمى النساء عن ذكر رمى الرجال، وأجمع المسلمون أن حكم المحصنين فى القذف كحكم المحصنات قياسًا، واستدلالا، وأن من قذف حرا عفيفًا مؤمنًا عليه الحد ثمانون كمن قذف حرة مؤمنة، وجاءت الأخبار عن النبى (صلى الله عليه وسلم) بالتغليظ فى رمى المحصنات، وأن ذلك من الكبائر. قال المهلب: إنما سماها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) موبقات؛ لأن الله تعالى إذا أراد أن يأخذ عبده بها أوبقه فى نار جهنم. - باب: قذف العبد / 37 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ وَهُوَ بَرِىءٌ مِمَّا قَالَ: جُلِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ) . فى هذا الحديث النهى عن قذف العبيد والاستطالة عليهم بغير حق؛ لإخبار النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه من فعل ذلك جلد يوم القيامة. وقوله: (إلا أن يكون كما قال) دليل على أنه لا إثم عليه فى رميه عبده بما فيه، وأن ذلك ليس من باب الغيبة المنهى عنها فى الأحرار. قال المهلب: والعلماء مجمعون أن الحر إذا قذف عبدًا فلا حد عليه، وحجتهم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من قذف مملوكه جلد يوم القيامة) فلو وجب عليه الحد فى الدنيا لذكره، كما ذكره فى الآخرة، فجعل (صلى الله عليه وسلم) العبيد غير مقارنين للأحرار فى الحرمة فى الدنيا، فإذا ارتفع ملك العبد فى الآخرة واستوى الشريف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 489 والوضيع، والعبد والحر، ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقى، فتكافأ الناس فى الحدود والحرمة، وإنما لم يكافئوا فى الدنيا؛ لئلا تدخل الداخلة على المالكين من مكافأتهم لهم، فلا تصح لهم حرمة ولا فضل فى منزلة، وتبطل محنة التسخير؛ حكمة من الحكيم الخبير لا إله إلا هو. وقال مالك والشافعى: من قذف من يحسبه عبدًا فإذا هو حر فعليه الحد. قال ابن المنذر: واختلفوا فيما يجب على قاذف أم الولد، فروى عن ابن عمر أنه عليه الحد، وبه قال مالك، وهو قياس قول الشافعى، وذلك إذا قذف بعد موت السيد، وهو قياس قول كل من لا يرى بيع أمهات الأولاد، وروى عن الحسن البصرى أنه كان لايرى جلد قاذف أم الولد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 490 63 - كِتَاب الدِّيَاتِ - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) [النساء: 93] / 1 - فيه: ابْنِ مَسْعُودٍ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قَالَ: ثُمَّ أَىٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ؟ قَالَ: ثُمَّ أَىٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تُزَانِىَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَصْدِيقَهَا: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ (الآيَةَ [الفرقان: 68] . / 2 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِى فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا) . وَقَالَ ابْنِ عُمَرَ: إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأمُورِ الَّتِى لا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ. / 3 - وفيه: ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِى الدِّمَاءِ) . / 4 - وفيه: الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو قَالَ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى لَقِيتُ كَافِرًا، فَاقْتَتَلْنَا فَضَرَبَ يَدِى بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لاذَ مِنِّى بِشَجَرَةٍ، وَقَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ، آقْتُلُهُ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : لا تَقْتُلْهُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ طَرَحَ إِحْدَى يَدَىَّ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا قَطَعَهَا، آقْتُلُهُ؟ قَالَ: لا تَقْتُلْهُ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 491 فَإِنْ قَتَلْتَهُ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِى قَالَها) . / 5 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، لِلْمِقْدَادِ: (إِذَا كَانَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ يُخْفِى إِيمَانَهُ مَعَ قَوْمٍ كُفَّارٍ، فَأَظْهَرَ إِيمَانَهُ، فَقَتَلْتَهُ، فَكَذَلِكَ كُنْتَ أَنْتَ تُخْفِى إِيمَانَكَ بِمَكَّةَ مِنْ قَبْلُ) . اختلف العلماء فى القاتل هل له توبة لاختلافهم فى تأويل هذه الآية، فروى عن زيد بن ثابت، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر أنه لا توبة له، وأن قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنًا) [النساء: 93] غير منسوخة، وإنما نزلت بعد الآية البينة التى فى سورة الفرقان التى فيها توبة القاتل بستة أشهر، ونزلت آية الفرقان فى أهل الشرك، ونزلت آية النساء فى المؤمنين. وروى سعيد بن مينا، عن ابن عمر أنه سأله رجل فقال: إنى قتلت رجلا فهل لى من توبة؟ قال: تزود من الماء البارد فإنك لا تدخلها أبدًا. ذكره ابن المنذر، وروى عن على ابن أبى طالب وابن عباس، وابن عمر أن القاتل له توبة من طرق لا يحتج بها، وقاله جماعة من التابعين. روى ذلك عن النخعى، ومجاهد، وابن سيرين، وأبى مجلز، وأبى صالح، وجماعة أهل السنة وفقهاء الأمصار على هذا القول راجين له التوبة؛ لأنه تعالى يقبل التوبة عن عباده، وإنما أراد أن يكون المسلم فى كل الأمور خائفًا راجيًا. قال إسماعيل بن إسحاق: حدثنى المقدمى، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، عن سليمان ابن عبيد البارقى، قال: حدثنى إسماعيل بن ثوبان قال: جالست الناس فى المسجد الأكبر قبل الدار الجزء: 8 ¦ الصفحة: 492 فسمعتهم يقولون: لما نزلت: (ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم) [النساء: 93] الآية، قال المهاجرون والأنصار: وجبت لمن فعل هذا النار. حتى نزلت: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 48، 116] . واحتج أهل السنة أن القاتل فى مشيئة الله بحديث عبادة بن الصامت: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أخذ عليهم فى بيعة العقبة: أن من أصاب ذنبًا فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) . وأما قوله: (أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك) فهو كقوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) [الإسراء: 31] وقوله تعالى: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم) [الأنعام: 140] قال عكرمة: نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومضر. وقال قتادة: كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته مخافة السبى والفاقة فحرم الله قتل الأطفال، وأخبر (صلى الله عليه وسلم) أن ذلك ذنب عظيم بعد الكفر وجعل بعده فى العظم الزنا بحليلة الجار لعظم حق الجار ووكيد حرمته، وقد تقدم فى باب إثم الزنا قبل هذا. قال المهلب: أما قوله: (أول ما ينظر فيه من أعمال الناس فى الدماء) يعنى أول ما ينظر فيه من مظالم الناس لعظم القتل عند الله وشدته، وقد جاء فى حديث آخر أن أول ما ينظر فيه الصلاة. وليس بمتعارض، ومعناه: أول ما ينظر فيه فى خاصة نفس كل مؤمن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 493 من بعد ما ينتصف الناس بعضهم من بعض، ولا تبقى تباعة إلا لله تعالى بالصلاة. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) للمقداد: (فإنك بمنزلته قبل أن يقولها) فقد فسره حديث ابن عباس الذى فى آخر الباب، ومعناه أنه يجوز أن يكون اللائذ بالشجرة القاطع لليد مؤمنًا يكتم إيمانه مع قوم كفار غلبوه على نفسه، فإن قتلته فأنت شاك فى قتلك إياه أن ينزله الله من العمد والخطأ، كما هو مشكوكًا فى إيمانه لجواز أن يكون يكتم إيمانه، وكذلك فسره المقداد كما ففهمه من النبى (صلى الله عليه وسلم) فقال: كذلك كنت أنت بمكة تكتم إيمانك، وأنت مع قوم كفار فى جملتهم وعددهم مكثرًا ومحزبًا، فكذلك الذى لاذ بالشجرة وأظهر إيمانه لعله كان ممن يكتم إيمانه وهذا كله معناه النهى عن قتل من شهر بالإيمان. فإن قيل: كيف قطع اليد وهو ممن يكتم إيمانه؟ قيل: إنما دفع عن نفسه من يريد قتله، فجاز له ذلك، كما جاز للمؤمن إذا أراد أن يقتله مؤمن أن يدفع عن نفسه من يريد قتله، فإن اضطره الدفع عن نفسه إلى قتل الظالم دون قصد إلى إرادة قتله فهو هدر؛ فلذلك لم يقد (صلى الله عليه وسلم) من يد المقداد كما لم يقد قتيل أسامة؛ لأنه قتله متأولا، ويحتمل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإنه بمنزلتك قبل أن تقتلله) وجهًا آخر: أنه مغفور له بشهادة التوحيد كما أنت مغفور لك بشهود بدر. وقوله: (فأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته) يعنى أنك قاصد لقتله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 494 عمدًا إثم، كما كان هو قاصدًا لقتلك إثم، فأنت فى مثل حاله فى العصيان، لا أن أحدهما يكفر بقتله المسلم؛ لأن إتيان الكبائر لمن صح له عقد التوحيد لا يخرجه إلى الكفر، وإنما هى ذنوب موبقات، لله أن يغفرها لكل من لا يشرك به شيئًا. قال ابن القصار: معنى قوله: (وأنت بمنزلته قبل أن يقولها) فى إباحة الدم لا أنه كافر بذلك، فإنما قصد ردعه وزجره عن قتله؛ لأن الكافر إذا أسلم فقتله حرام. - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَمَنْ أَحْيَاهَا) [المائدة: 32] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ حَرَّمَ قَتْلَهَا إِلا بِحَقٍّ) فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا (. / 6 - وفيه: ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُقْتَلُ نَفْسٌ إِلا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا) . / 7 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) . / 8 - ابْنَ عُمَرَ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْكَبَائِرُ: الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، أَوْ قَالَ: وَقَتْلُ النَّفْسِ) . وَقَالَ أَنَسَ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ. / 9 - وفيه: أُسَامَةَ (بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، قَالَ: وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ رَجُلا مِنْهُمْ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 495 فَلَمَّا غَشِينَاهُ، قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، قَالَ: فَكَفَّ عَنْهُ الأنْصَارِىُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِى حَتَّى قَتَلْتُهُ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: فَقَالَ لِى: يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؟ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَىَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ) . / 10 - وفيه: عُبَادَةَ: بَايَعْنَا النبى (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى أَنْ لاَ نَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بالحق. . . الحديث. / 11 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا) . / 12 - وفيه: الأحْنَفِ عَنِ أَبَى بَكْرَةَ، قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِى النَّارِ) . اختلف العلماء فى قوله تعالى: (فكأنما قتل الناس جميعًا) [المائدة: 32] و) فكأنما أحيا الناس جميعًا) [المائدة: 32] . فقالت طائفة: معناه: التغليظ لتعظيم الوزر فى قتل المؤمن، عن الحسن وقتادة ومجاهد، قال مجاهد: إن قاتل النفس المحرمة يصير إلى النار كما يصير إلى النار لو قتل الناس جميعًا. وقال آخرون: معناه أنه يجب عليه من القود بقتله المؤمن مثلما يجب عليه لو قتل الناس جميعًا؛ لأنه لا يكون عليه غير قتلة واحدة لجميعهم. عن زيد بن أسلم. وقال آخرون: أى أن المؤمنين كلهم خصماء القاتل، وقد وترهم وتر من قصد لقتلهم جميعًا. عن الزجاج، وله: (ومن أحياها) [المائدة: 32] ، أى ومن لم يقتل أحدًا فقد سلم منه الناس جميعًا عن مجاهد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 496 وقالت طائفة: من وجب له القصاص، فعفا عن القاتل؛ أعطاه الله من الأجر مثل ما لو أحيا الناس جميعًا. عن زيد بن أسلم والحسن. واختار الطبرى فى قوله: (فكأنما قتل الناس جميعًا) [المائدة: 32] أنه فى تعظيم العقوبة وشدة الوعيد، واختار فى قوله: (فكأنما أحيا الناس جميعًا) [المائدة: 32] القول الأول أنه من لم يقتل أحدًا فقد أحيا الناس بسلامتهم منه. قال: وهذا نظير قول الكافر: أنا أحيى وأميت: أى: أترك من قدرت على قتله، وأميت أى: أقتل من وجب عليه القتل، وإنما اختار ذلك؛ لأنه لا نفس يقوم قتلها فى عاجل الضرر مقام قتل جميع النفوس، ولا إحياؤها مقام إحياء جميع النفوس فى عاجل النفع، فدل ذلك أن معنى الإحياء سلامة جميع النفوس، وفى هذه الأحاديث كلها تغليظ للقتل والنهى عنه. وقوله فى حديث ابن مسعود: (إلا كان على ابن آدم كفل من دمه) يعنى: إثمًا؛ لأنه أول من سنَّ القتل، فاستن به القاتلون بعده، وهذا نظير قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) . وقوله فى حديث ابن عمر: (لا ترجعوا بعدى كفارًا) لتحريم الدماء، وحقوق الإسلام، وحرمة المؤمنين، وليس يريد الكفر الذى هو ضد الإيمان لما تقدم من إجماع أهل السنة أن المعاصى غير مخرجة من الإيمان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 497 وأما قتل أسامة الرجل؛ فإنه ظنه كافرًا، وجعل ما سمع منه من الشهادة تعوذًا من القتل، وأقل أحوال أسامة فى ذلك أن يكون قد أخطأ فى فعله؛ لأنه إنما قصد إلى قتل كافر عنده، ولم يكن عرف حكم النبى (صلى الله عليه وسلم) فيمن أظهر الشهادة بلسانه أنها تحقن دمه فسقط عنه القود، لأنه معذور بتأويله، وكذلك حكم كل من تأوله فأخطأ فى تأويله معذور فى ذلك. وهو فى حكم من رمى من يجب له دمه، فأصاب من لا يجب له قتله، أنه لا قود عليه، وما لقى أسامة من النبى (صلى الله عليه وسلم) فى قتله هذا الرجل الذى ظنه كافرًا من اللوم والتوبيخ، حتى تمنى أنه لم يسلم قبل ذلك اليوم آلى على نفسه ألا يقاتل مسلمًا أبدًا؛ ولذلك قعد عن على ابن أبى طالب يوم الجمل وصفين، وقد تقدم فى كتاب الإيمان معنى قوله: (القاتل والمقتول فى النار) وإنما خرج على الترهيب والتغليظ فى قتل المؤمن فجعلهما فى النار؛ لأنهما فعلا فى تقاتلهما ما يئول بهما إلى النار إن أنفذ الله سبحانه عليهما الوعيد والله تعالى فى وعيده بالخيار عند أهل السنة وسيأتى أيضًا فى كتاب الفتن بقية الكلام فيه إن شاء الله تعالى. 3 - باب قَوْلِه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِى الْقَتْلَى (الآية [البقرة: 178] وباب سُؤَالِ الْقَاتِلِ حَتَّى يُقِرَّ، وَالإقْرَارِ فِى الْحُدُودِ / 13 - فيه: أَنَسِ: أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ لَهَا: مَنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 498 فَعَلَ بِكِ هَذَا؟ أَفُلانٌ، أَوْ فُلانٌ، حَتَّى سُمِّىَ الْيَهُودِىُّ، فَأُتِىَ بِهِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَقَرَّ بِهِ، فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ. قال المؤلف: قال قتادة فى هذه الآية: إن أهل الجاهلية كان فيهم بغى وطاعة للشيطان، فكان الحى إذا كان فيهم عز ومنعة، فقتل لهم عبد، قتله عبد قوم آخرين؛ قالوا: لا نقتل به إلاحرا وإذا كان فيهم امرأة قتلتها امرأة؛ قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا، فنهاهم الله عن البغى، وأخبر أن الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى. قال إسماعيل بن إسحاق: وقد قال قوم: يقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمى. هذا قول الثورى، والكوفيين، واحتجوا بقوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) [المائدة: 45] . وقال مالك والليث والشافعى وأبو ثور: لا يقتل حر بعبد. وهذا مذهب أبى بكر وعمر وعلى وزيد بن ثابت، قال إسماعيل بن إسحاق: وغلط الكوفيون فى التأويل؛ لأن معنى قوله: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) [المائدة: 45] إنما هى النفس المكافئة للنفس قى حرمتها وحدودها؛ لأن القتل حد من الحدود، ولو قذف حر عبدًا لما كان عليه حد القذف وكذلك الذمى. والحدود فى الأحرار من الرجال والنساء واحدة، وحرمتهم واحدة، ويبين ذلك قوله تعالى فى نسق هذه الآية: (والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له) [المائدة: 45] فعلمنا أن العبد والكافر خارجان من ذلك؛ لأن الكافر لا يسمى بأنه متصدق ولا مكفَّر عنه، وكذلك العبد لا يجوز أن يتصدق بدمه ولا بجرحه؛ لأن ذلك إلى سيده، قال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 499 تعالى: (فمن عفى له من أخيه شىء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) [البقرة: 178] . وقال أبو ثور: لما اتفق جميعهم أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفس؛ كانت النفس أحرى بذلك، ومن فرق منهم بين ذلك فقد ناقض. قال المهلب: فى قوله باب سؤال القاتل حتى يقر. ينبغى للإمام وللحاكم أن يشدد على أهل الجنايات ويتلطف بهم حتى يقروا ليؤخذوا بإقرارهم، بخلاف إذا جاءوا تائبين مستفتين فإنه حينئذٍ يعرض عنهم ما لم يصرحوا، فكان لهم فى التأويل شبهة، فإذا بينوا ورفعوا الإشكال أقيمت عليهم الحدود، وإقرار اليهودى فى هذا الحديث يدل أنه لم تقم عليه البينة بالقتل، ولو قامت عليه ما احتاج (صلى الله عليه وسلم) أن يقرره حتى يقر، ولو لم يقر ما أقاد منه (صلى الله عليه وسلم) . وفيه: دليل أنه بالشكوى والإشارة تجب المطالبة بالدم وغيره؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) طلب اليهودى بإشارة الجارية. وفيه: دليل على إجازة وصية غير البالغ، وجواز دعواه بالدين وغيره على الناس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 500 4 - باب إِذَا قَتَلَ بِحَجَرٍ أَوْ بِعَصًا / 14 - فيه: أَنَسِ، قَالَ: (خَرَجَتْ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا أَوْضَاحٌ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: فَرَمَاهَا يَهُودِيٌّ بِحَجَرٍ، قَالَ: فَجِىءَ بِهَا إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَبِهَا رَمَقٌ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : فُلانٌ قَتَلَكِ، فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا، فَأَعَادَ عَلَيْهَا، قَالَ: فُلانٌ قَتَلَكِ، فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا، فَقَالَ لَهَا فِى الثَّالِثَةِ: فُلانٌ قَتَلَكِ، فَخَفَضَتْ رَأْسَهَا، فَدَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَتَلَهُ بَيْنَ الْحَجَرَيْنِ) . وترجم له: باب من أقاد بالحجر. اختلف العلماء فى صفة القود؛ فقال مالك: إنه يقتل بمثل ما قتل به، فإن قتله بعصًا أو بحجر أو بالخنق أو بالتغريق؛ قتل بمثله. وبه قال الشافعى: إن طرحه فى النار عمدًا حتى مات؛ طرح فى النار حتى يموت. وذكره الوقار فى (مختصره) عن مالك، وهو قول محمد بن عبد الحكم، وقال ابن الماجشون: يقتل بالعصا وبالخنق وبالحجر ولا يقتل بالنار. وقال أبو حنيفة وأصحابه: بأى وجه قتل؛ فلا يقتل إلا بالسيف. وهو قول النخعى والشعبى. واحتجوا بحديث جابر: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (لا قود إلا بحديدة) . وبقول ابن عباس حين بلغه أن عليا حرق قومًا بالنار، فقال: (لو كنت أنا لقتلتهم. فإنى سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: لا يعذب بالنار إلا رب النار) . وحجة القول الأول: القرآن والسنة، فأما القرآن: فقوله: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) [النحل: 126] وقوله: (فمن اعتدى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 501 عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194] فجعل تعالى لولى المقتول أن يقتل بمثل ما قُتل به وليه. وأما السنة: فحديث أنس: (أن يهوديًا رض رأس جارية بين حجرين، فرضَّ الرسول رأسه بين حجرين) . وأما قوله: (لا قود إلا بحديدة) معناه إذا قتل بحديدة بدليل حديث أنس. فإن قيل: إن خبر اليهودى مع الجارية لا حجة لكم فيه؛ لأن المرأة كانت حية، والقود لا يجب فى حى. قيل: إنما قتله النبى (صلى الله عليه وسلم) بعد موتها؛ لأن فى الحديث (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لها: فلان قتلك؟) فدل أنها ماتت بعد ساعة؛ لأنها سيقت إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) وهى تجود بنفسها، فلم تقدر إلا على الإشارة على النطق، فلما ماتت استقاد لها النبى (صلى الله عليه وسلم) من اليهوى بالحجر فكان ذلك سنة لا يجوز خلافها. واختلف قول مالك إن لم يمت من ضربة واحدة بعصًا أو حجر، فروى عنه ابن وهب أنه يضرب بالعصا حتى يموت، ولا يطول عليه، وروى عنه أشهب وابن نافع أنه يقتل بمثل ما قتل به، إذا كانت الضربة مجهزة، فأما أن يضربه ضربات فلا. قال ابن المنذر: وقول كثير من أهل العلم فى الرجل يخنق الرجل: عليه القود، وخالف ذلك محمد بن الحسن فقال: لو خنق رجل رجلا حتى مات، أو طرحه فى بئر فمات، أو ألقاه من جبل أو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 502 سطح فمات لم يكن عليه قصاص، وكان على عاقلته الدية، فإن كان معروفًا بذلك قد خنق غير واحد فعليه القتل. قال ابن المنذر: ولما أقاد (صلى الله عليه وسلم) من اليهودى الذى رض رأس الجارية بالحجر، كان هذا فى معناه، فلا معنى لقوله. قال الطحاوى: واحتج بهذا الحديث من قال فيمن يقول عند موته: إن مت ففلان قتلنى؛ أنه يقبل منه، ويقتل الذى ذكر أنه قتل؛ هذا قول مالك والليث. وخالفهم آخرون فقالوا: لا يجوز أن يقتل أحد بمثل هذا، وإنما قتل النبى (صلى الله عليه وسلم) اليهودى الذى رض رأس الجارية، لأنه اعترف؛ فقتله بإقراره بما ادُّعِىَ عليه لا بالدعوى، وقد بين ذلك ما أجمعوا عليه، ألا ترى أن رجلا لو ادعى على رجل دعوى قتلا أو غيره، فسئل المدعى عليه عن ذلك فأومأ برأسه أى نعم؛ أنه لا يكون بذلك مقرا فإذا كان إيماء المدعى عليه برأسه لا يكون إقرارًا منه كان إيماء المدعى برأسه أحرى أن لا يوجب له حقا. وقد أجمعوا أن رجلا لو ادعى فى حال موته أن له عند رجل درهمًا ثم مات أن ذلك غير مقبول منه، وأنه فى ذلك كهو فى دعواه فى حال الصحة، فالنظر على ذلك أن يكون دعواه الدم فى تلك الحال كدعواه ذلك فى حال الصحة. وقال لهم أهل المقالة الأولى: قول المقتول: دمى عند فلان فى حال تخوفه الموت، وعند إخلاصه وتوبته إلى الله عند معاينة فراقه الدنيا؛ أقوى من قولكم فى إيجاب القسامة بوجود القتيل فقط فى محلة قوم وبه أثر؛ فيحلف أهل ذلك الموضع أنهم لم يقتلوه، ويكون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 503 عقله عليهم، وألزموا العاقلة مالا بغير بينة ثبتت عليهم ولا إقرار منهم، وألزموه جناية عمدٍ لم تثبت أيضًا ببينة ولا إقرار. وقول المقتول: هذا قتلنى، أقوى من قول الشافعى أيضًا أن الولى يقسم إذا كان قرب وليه وهو مقتول رجل معه سكين لجواز أن يكون غيره قتله. والأوضاح جمع وضح، والوضح: حلى من فضة. عن صاحب العين. 5 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ (الآية [المائدة: 45] / 15 - فيه: عَبْدِاللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ، إِلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِى، وَالْمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ) . قال أبو عبيد: ذهب أهل العراق إلى أن قوله تعالى: (النفس بالنفس) [المائدة: 45] ناسخة لآية) الحر بالحر والعبد بالعبد) [البقرة: 178] التى فى سورة البقرة، وجعلوا بين الأحرار والعبيد القصاص فى النفس خاصة، ولا يرون فيما دون ذلك بينهم قصاصًا. وذهب ابن عباس إلى أن) النفس بالنفس) [المائدة: 45] غير ناسخة لآية البقرة، ولا مخالفة لها، ولكنها جميعًا محكمتان إلا أن ابن عباس رأى قوله تعالى: (أن النفس بالنفس) [المائدة: 45] كالمفسرة للتى فى البقرة، فتأول أن قوله: (النفس بالنفس) [المائدة: 45] إنما هى على أن نفس الأحرار متساوية فيما بينهم دون العبيد، وأنهم يتكافئون فى دمائهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 504 ذكورًا أو إناثًا، وأن أنفس المماليك متساوية فيما بينهم دون الأحرار، يتكافئون فيما بينهم ذكورًا كانوا أو إناثًا، وأنه لا قصاص على الأحرار فى شىء من ذلك من نفس ولا من دونها؛ لقوله تعالى: (الحر بالحر والعبد بالعبد) [المائدة: 45] وهذا قول مالك وأهل الحجاز، وهو أولى من قول أهل العراق لوجهين: أحدهما أن هذا تفسير ابن عباس. الثانى: أنه قول يوافق بعضه بعضًا ولا يختلف، والتنزيل إنما هو على نسق واحد: أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن. وقول أهل العراق لس بمتفق؛ لأنهم أخذوا بأول الآية وهو قوله تعالى: (النفس بالنفس) [المائدة: 45] وتركوا ما وراء ذلك، وليس لأحد أن يفرق بين ما جمع الله، فيأخذ بعضه دون بعض إلا أن يفرق بين ذلك كتاب أو سنة. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الثيب الزانى) لا يدخل فيه العبيد، وقد اتفق الكوفيون مع مالك مع أن من شروط الإحصان الموجب للرجم عندهم: الحرية والبلوغ والإسلام؛ فإذا زنا العبد، وإن كان ذا زوجة فحده الجلد عندهم، فكما لم يدخل العبيد فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الثيب الزانى) فكذلك لم يدخل فى عموم قوله تعالى: (النفس بالنفس) [المائدة: 45] . وأما قوله: (المفارق لدينه التارك للجماعة) فهو عام فى جميع الناس لإجماع الأمة أن بالردة يجب القتل على كل مسلم فارق دينه عبدًا كان أو حرا، فخص هذا بالإجماع. وقال أبو الحسن بن القابسى قوله: (المفارق لدينه) يريد الخارج الجزء: 8 ¦ الصفحة: 505 منه، فيحتمل أن يكون خروجه بترك الجماعة أو ببغى عليها؛ فيقاتل على ذلك، حتى يفئ إلى دينه وإلى الجماعة، وليس بكافر بخروجه، ويمكن أن يكون خروجه كفرًا وارتدادًا، والمروق: الخروج، وسيأتى بيانه عند قوله (صلى الله عليه وسلم) : (يمرقون من الدين) فى آخر هذا الجزء إن شاء الله تعالى. 6 - باب مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ / 16 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ (أَنَّهُ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ قَتَلَتْ خُزَاعَةُ رَجُلا مِنْ بَنِى لَيْثٍ بِقَتِيلٍ لَهُمْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا يُودَى، وَإِمَّا أَنَّ يُقَادُ، أَهْلِ القَتِيل. . . الحديث. / 17 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتْ فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ قِصَاصٌ، وَلَمْ تَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ، فَقَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِى الْقَتْلَى (إِلَى) شَىْءٌ) [البقرة: 178] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَالْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِى الْعَمْدِ، قَالَ: (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: 178] : أَنْ يَطْلُبَ بِمَعْرُوفٍ وَيُؤَدِّىَ بِإِحْسَانٍ. اختلف العلماء فى أخذ الدية من قاتل العمد، فقالت طائفة: ولى المقتول بالخيار؛ إن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية، وإن لم يرض القاتل. روى هذا عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن، ورواه أشهب عن مالك، وبه قال الليث والأوزاعى، والشافعى وأحمد، وإسحاق وأبو ثور. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 506 وقال آخرون: ليس لولى المقتول عمدًا إلا القصاص، ولا يأخذ الدية إلا أن يرضى القاتل، رواه ابن القاسم عن مالك، وهو المشهور عنه، وبه قال الثورى والكوفيون. وحجة القول الأول: قوله تعالى: (فمن عفى له من أخيه شىء) [البقرة: 178] أى ترك له دمه، ورضى منه بالدية) فاتباع بالمعروف) [البقرة: 178] ، أى فعلى صاحب الدم اتباع بالمعروف فى المطالبة بالدية، وعلى القاتل أداء بإحسان) ذلك تخفيف من ربكم) [البقرة: 178] ومعناه: أن من كان قبلنا لم يفرض عليهم غير النفس بالنفس كما قال تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) [المائدة: 45] فتفضل الله على هذه الأمة بالتخفيف والدية إذا رضى بها ولى الدم. واحتجوا أيضًا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يودى وإما أن يقاد) وهذا نص قاطع فى أنه جعل أخذ الدية أو القود إلى أولياء الدم. وأيضًا من طريق النظر فإنما لزمته الدية بغير رضاه، لأن عليه فرضًا إحياء نفسه، وقد قال تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا) [النساء: 29] . قال الطحاوى: وحجة أهل المقالة الثانية: حديث أنس بن مالك فى قصة الرُّبيِّع حين كسرت ثنية المرأة؛ فأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بكسر ثنيتها، فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (يا أنس، كتاب الله القصاص) فلما حكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالقصاص ولم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 507 يخيرها بين القصاص وأخذ الدية؛ ثبت بذلك أن الذى يجب بكتاب الله وسنة رسوله فى العمد هو القصاص؛ إذ لو كان يجب للمجنى عليه الخيار بين القصاص والعفو لأعلمها النبى (صلى الله عليه وسلم) بما لها أن تختار من ذلك ألا ترى أن حاكمًا لو تقدم رجل إليه فى شىء يجب له فيه أحد شيئين، فثبت عنده حقه أنه لا يحكم بأحد الشيئين دون الآخر، وإنما يحكم له بأن يختار ما أحب منهما فإن تعدى ذلك فقد قصر عن فهم الحكم، ورسوله (صلى الله عليه وسلم) أحكم الحكماء، فلما حكم بالقصاص وأخبر أنه كتاب الله ثبت ما قلناه، ووجب أن يعطف عليه حديث أبى هريرة، ويجعل قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيهما فهو بالخيار بين أن يعفو، أو يقتص، أو يأخذ الدية على الرضا من الجانى بغرم الدية حتى تتفق معانى الآثار. وأما قولهم: إن عليه فرضًا إحياء نفسه، فإنا رأيناهم قد أجمعوا أن الولى لو قال للقاتل: قد رضيت أن آخذ دارك هذه على ألا أقتلك؛ أن الواجب على القاتل فيما بينه وبين الله تسليم ذلك وحقن دم نفسه، فإن أبى لم يجبره عليها، ولم يؤخذ منه كرهًا، ويدفع إلى الولى، فكذلك الدية لا يجبر عليها، ولا تؤخذ منه كرهًا. قال المهلب: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فهو بخير النظرين) حضُّ وندبٌ لأولياء القتيل أن ينظروا خير نظر، فإن كان القصاص خيرًا من أخذ الدية اقتصوا ولم يقبلوا الدية، وإن كان أخذ الدية أقرب إلى الألفة وقطع الضغائن بين المسلمين؛ فعلت من غير جبر القاتل على أخذها منه، ولا يقتضى قوله (بخير النظرين) إكراه أحد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 508 الفريقين كما لا يقتضى قوله: (فاتباع بمعروف) [البقرة: 178] أخذ الدية من القاتل كرهًا. وفى حديث أبى هريرة حجة للثورى والكوفيين، والشافعى وأحمد وإسحاق فى قولهم أنه يجوز العفو فى قتل الغيلة، وهو أن يغتال الإنسان، فيخدع بالشىء حتى يصير إلى موضع فيخفى فيه، فإذا صار إليه قتله. وقال مالك: الغيلة بمنزلة المحاربة، وليس لولاة الدم العفو فيها، وذلك إلى السلطان يقتل به القاتل. قال ابن المنذر: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ومن قتل له قتيل فأهله بين خيرتين: إن أحبوا العقل، وإن أحبوا القود) وظاهر الكتاب يدل على أن ذلك للأولياء دون السلطان. قال المهلب: وقوله: (إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليهم رسوله والمؤمنين) ليدخلوا فى دين الله أفواجًا، فكان ذلك ساعة من نهار، فلما دخلوا عادت حرمتها المعظمة على سائر الأرض من تضعيف إثم منتهك الذنوب فيها، وزالت حرمتها الغير مشروعة من الله ولا من رسوله، من ترك من لجأ إليها ودخلها مستأمنًا، فارًا بدم أو بحربه لقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين) قاله فى قتيل خزاعة المقتول فى الحرم، فلما جعل الله القصاص فى قتيل الحرم، وعلمنا أنه يجوز الاقتصاص فى الحرم، ولو لم يجز ذلك لبينه النبى (صلى الله عليه وسلم) وبين أن الحرمة الباقية لمكة على ما كانت فى الجاهلية وهو تعظيم الذنب فيها عند الله على سائر الأرض. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 509 قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أبغض الناس عند الله ملحد فى الحرم) فهذا نص من النبى (صلى الله عليه وسلم) على المعنى الباقى للحرم، ويؤيد هذا قوله تعالى لما ذكر تحريم الأربعة الأشهر: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) [التوبة: 36] تعظيمًا للظلم فيهن؛ إذ الظلم فى غيرهن محرم أيضًا فدل تخصيصهن بالنهى عن الظلم؛ على أنها مزية على غيرها فى إثم الظلم والقتل وغيره. والساعة التى أحلت له لم يكن القتل فيها محرمًا لإدخاله إياهم فى شرائع الله، فكذلك كل قتيل يكون على شرائع الله لا يعظم فيه، ويقتص فيها من صاحبه، وقد تقدم اختلاف العلماء فى هذه المسألة فى كتاب الحج. 7 - باب مَنْ طَلَبَ دَمَ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ / 18 - ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلاثَةٌ: مُلْحِدٌ فِى الْحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِى الإسْلامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ) . قال المهلب: قوله: (أبغض الناس إلى الله: ملحد. . .) لا يجوز أن يكون هؤلاء أبغض إلى الله من أهل الكفر، وإنما معناه أبغض أهل الذنوب ممن هو من جملة المسلمين، وقد عظم الله الإلحاد فى الحرم فى كتابه فقال تعالى: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) [الحج: 25] فاشترط أليم العذاب لمن ألحد فى الحرم زائدًا على عذابه لو ألحد فى غير الحرم، وقيل: كل ظالم فيه ملحد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 510 وقال عمر بن الخطاب: احتكار الطعام بمكة إلحاد، وقال أهل اللغة: والمعنى: ومن يرد فيه إلحادًا بظلمٍ، والباء زائدة. وقال الزجاج: مذهبنا أن الباء ليست بزائدة، والمعنى: ومن أراد فيه بأن يلحد بظلم، ومعنى الإلحاد فى اللغة: العدول عن القصد. وأما المبتغى فى الإسلام سنة الجاهلية، فهو طلبهم بالذحول غير القاتل، وقتلهم كل من وجدوا من قومه ومنها: انتهاك المحارم، واتباع الشهوات؛ لأنها كانت مباحةً فى الجاهلية فنسخها الله فى الإسلام وحرمها على المؤمنين، وقال (صلى الله عليه وسلم) : (قُيِّد الفتك لا يفتك مؤمن) . ومنها: النياحة والطيرة والكهانة وغير ذلك، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (من رغب عن سنتى فليس منى) وأما إثم الدم الحرام: فقد عظمه الله فى غير موضع من كتابه، وعلى لسان رسوله حتى قال بعض الصحابة: إن القاتل لا توبة له. وقد ذكرنا مذاهب أهل العلم فى ذلك فى أول كتاب الحدود. 8 - باب الْعَفْوِ فِى الْخَطَإِ بَعْدَ الْمَوْتِ / 19 - فيه: عَائِشَةَ: صَرَخَ إِبْلِيسُ يَوْمَ أُحُدٍ فِى النَّاسِ: يَا عِبَادَ اللَّهِ، أُخْرَاكُمْ، فَرَجَعَتْ أُولاهُمْ عَلَى أُخْرَاهُمْ، حَتَّى قَتَلُوا الْيَمَانِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَبِى، أَبِى، فَقَتَلُوهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ، قَالَ: وَقَدْ كَانَ انْهَزَمَ مِنْهُمْ قَوْمٌ حَتَّى لَحِقُوا بِالطَّائِفِ. هذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 511 أصل مجمع عليه أن عفو الولى لا يكون إلا بعد الموت؛ إذ قد يمكن أن يبرأ فلا يموت، وأما عفو القتيل فإنه قبل الموت. وزعم أهل الظاهر أن العفو لا يكون للقتيل، ولا يكون إلا للولى خاصة، وهذا خطأ؛ لأن الولى إنما جعل إليه القيام بما هو للقتيل من القيام عن نفسه من أجل ولايته له ومحله منه، فالقتيل أولى بذلك. قال المهلب: وإنما فهم العفو فى هذا الحديث من قول حذيفة: غفر الله لكم. وقد كان يتوجه الحكم إلى اليمان إلى أخذ الدية من عاقلة القاتلين، وإن لم يعرف من هم، فقد اختلف العلماء فى قتيل الزحام على ما يأتى بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. 9 - باب قَوْلِه اللَّهِ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خطأ) [النساء: 92] - باب إِذَا أَقَرَّ بِالْقَتْلِ مَرَّةً قُتِلَ بِهِ / 20 - فيه: أَنَسُ: (أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِكِ هَذَا؟ أَفُلانٌ، أَفُلانٌ، حَتَّى سُمِّىَ الْيَهُودِىُّ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَجِىءَ بِالْيَهُودِىِّ، فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ) . وقَالَ هَمَّامٌ: بِحَجَرَيْنِ. وترجم له: (باب قتل الرجل بالمرأة) . قال ابن المنذر: حكم الله فى المؤمن يقتل الخطأ الدية وأجمع أهل العلم على القول به. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 512 وقال الزجاج فى هذه الآية: المعنى: ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ البتة، وإلا خطأ استثناء ليس من الأول، ويسميه أهل العربية: الاستثناء المنقطع والمعنى: إلا أن يخطئ المؤمن النية، فكفارة خطئه تحرير رقبة مؤمنة فى ماله ودية مسلمة تؤديه عاقلته إلى أهله إلى أن يصدقوا، يقول: إلا أن يصدق أهل القتيل خطأ على من لزمته دية قتيلهم، فيعفوا عنه، ويتجاوزوا عن ديته، فتسقط عنه. قال الطبرى: وذكر أن هذه الآية نزلت فى عياش بن أبى ربيعة المخزومى، وكان قتل رجلا مسلمًا، ولم يعلم بإسلامه، وكان ذلك الرجل يعذبه بمكة مع أبى جهل، فخرج ذلك الرجل مهاجرًا إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فلقيه عياش بالحرة، فقتله وهو يحسبه كافرًا، ثم جاء إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فأخبره بذلك فأمره بعتق رقبة، ونزلت الآية. عن مجاهد وعكرمة. وقوله تعالى: (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن) [النساء: 92] بمعنى: وإن كان هذا القتيل الذى قتله المؤمن خطأ من قوم ناصبوكم الحرب على الإسلام فقتله مؤمن؛ فتحرير رقبة مؤمنة ولا دية تؤدى إلى قومه؛ لئلا يتقووا بها عليكم) وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) [النساء: 92] ، أى عهد وذمة، وليسوا أهل حرب لكم؛) فدية مسلمة إلى أهله) [النساء: 92] ، يعنى على عاقلته،) وتحرير رقبة مؤمنة) [النساء: 92] كفارة لقتله ثم اختلف أهل التأويل فى صفة هذا القتيل الذى هو من قوم بيننا وبينهم ميثاق، هل هو مؤمن أو كافر؟ فقال قوم: هو كافر إلا أنه لزمت قاتله ديته؛ لأن له ولقومه عهدًا؛ فوجب أداء ديته إلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 513 قومه للعهد الذى بينهم وبين المؤمنين، وأنها مال من أموالهم، فلا تحل للمؤمنين أموالهم بغير طيب أنفسهم. عن ابن عباس والشعبى والنخعى والزهرى. قالوا: دية الذمى كدية المسلم. وقال آخرون: بل هو مؤمن. روى ذلك عن النخعى، وجابر بن زيد، والحسن البصرى. قالوا فى قوله تعالى: (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) [النساء: 92] قالوا: وهو مؤمن. قال الطبرى: وأولى القولين: قول من قال: عنى بذلك المقتول من أهل العهد؛ لأن الله تعالى أبهم ذلك فقال: (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) [النساء: 92] ولم يقل: وهو مؤمن، كما قال فى القتيل من المؤمنين وأهل الحرب) وهو مؤمن () فمن لم يجد فصيام شهرين) [النساء: 92] ، يعنى فمن لم يجد رقبة مؤمنة فصيام شهرين متتابعين، يعنى عن الرقبة خاصة. عن مجاهد. وقال مسروق: صوم الشهرين عن الرقبة والدية. قال الطبرى: وأولى القولين: الصوم عن الرقبة دون الدية؛ لأن دية الخطأ على عاقلة القاتل، والكفارة على القاتل بإجماع، فلا يقضى صوم صائم عما لزم آخر فى ماله.) توبة من الله) [النساء: 92] ، يعنى رحمة من الله لكم إلى التيسير عليكم بتخفيفه عنكم بتحرير الرقبة المؤمنة إذا أيسرتم بها) وكان الله عليما حكيمًا) [النساء: 92] يقول: ولم يزل الله عليمًا بما يصلح عباده فيما يكلفهم من فرائضه، حكيمًا بما يقضى فيهم ويأمر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 514 وقوله: إذا أقر بالقتل مرة قتل به، فهو حجة على الكوفيين فى قولهم أنه لابد من إقراره مرتين فى القتل، كما لابد فى الزنا من إقراره أربع مرات. وقولهم خلاف لهذا الحديث؛ لأنه لم يذكر فى الحديث أن اليهودى أقر أكثر من مرة واحدة، ولو كان فى إقراره حدا معلومًا لبين ذلك، وبهذا قال مالك والشافعى وقد تقدم فى باب سؤال الإمام المقر بالزنا، هل أحصنت، حكمُ بالزنا وبالقتل، ومذاهب العلماء فى ذلك فأغنى عن إعادته. وفيه من الفقه: أن الرجل يقتل بالمرأة وعلى هذا فقهاء الأمصار، وكذلك تقتل المرأة بالرجل وشذ الحسن البصرى، ورواية عن عطاء فقالا: إن قتل أولياء المرأة الرجل بها أدوا نصف الدية، وإن قتل أولياء الرجل المرأة أخذوا من أوليائها نصف دية الرجل. وروى مثله عن الشعبى عن على، وبه قال عثمان البتى. وحجة الجماعة: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قتل اليهودى بالمرأة، فدل على ثبات القصاص بين الرجال والنساء. - باب الْقِصَاصِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِى الْجِرَاحَاتِ وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ، وَيُذْكَرُ عَنْ عُمَرَ تُقَادُ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ فِى كُلِّ عَمْدٍ يَبْلُغُ نَفْسَهُ فَمَا دُونَهَا مِنَ الْجِرَاحِ. وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ وَإِبْرَاهِيمُ وَأَبُو الزِّنَادِ، عَنْ أَصْحَابِهِ، وَجَرَحَتْ أُخْتُ الرُّبَيِّعِ إِنْسَانًا، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : الْقِصَاصُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 515 / 21 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: (لَدَدْنَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فِى مَرَضِهِ، فَقَالَ: لا تُلِدُّونِى، فَقُلْنَا: كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ، فَلَمَّا أَفَاقَ، قَالَ: لا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلا لُدَّ غَيْرَ الْعَبَّاسِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ) . اتفق أئمة الأمصار على أن الرجل يقتل بالمرأة. والمرأة بالرجل إذا كان القتل عمدًا، حاشا الحسن البصرى وعطاء وما روى عن على. وذهب مالك والثورى والشافعى وأكثر الفقهاء إلى أن القصاص بين الرجال والنساء فى الجراحات كما هو فى النفس. وقال أبو حنيفة: لا قصاص بين الرجال والنساء فيما دون النفس من الجراحات. واحتج أصحابه بأن المساواة عندهم معتبرة فى النفس وغير معتبرة فى الأطراف، ألا ترى أن اليد الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء، والنفس الصحيحة تؤخذ بالمريضة وهذه نكتتهم وعليها يبنون الكلام، وكذلك لا يقطعون يد المرأة بيد الرجل ولا يد الحر بالعبد، وإن جرى القصاص بينهما فى النفس. وقال ابن المنذر: ولما أجمعوا أن نفسه بنفسها، وهى أكبر الأشياء، واختلفوا فيما دون ذلك كان ما اختلفوا فيه مردودًا إلى ما أجمعوا عليه؛ لأن الشىء إذا ما أبيح منه الكثير؛ كان القليل أولى. قال المهلب: حديث الربيع يبين أن القصاص بين الرجل والمرأة. قال ابن القصار: وإنما لم تؤخذ الصحيحة بالشلاء؛ لأن الشلاء ميتة والنفس الحية لا تؤخذ بالنفس الميتة، فسقط اعتراضهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 516 قال المهلب: وأما حديث اللدود فدليل على أنه يؤخذ الناس بالقصاص فى أقل من الجراحات، لأنه (صلى الله عليه وسلم) أمر بأن يقتص له ممن لده فى مرضه وآلمه، وهذا دون جراحه ولا قصد لأذى، وفيه قصاص الرجل من المرأة؛ لأن أكثر أهل البيت كانوا نساء، وفيه دليل على أخذ الجماعة بالواحد. - باب مَنْ أَخَذَ حَقَّهُ أَوِ اقْتَصَّ دُونَ السُّلْطَانِ / 22 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) ، لَوِ اطَّلَعَ فِى بَيْتِكَ أَحَدٌ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ) . / 23 - وفيه: أَنَسُ أَنَّ رَجُلا اطَّلَعَ فِى بَيْتِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَسَدَّدَ إِلَيْهِ مِشْقَصًا. اتفق أئمة الفتوى أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض، وإنما ذلك للسلطان، أو من نصبه السلطان لذلك، ولهذا جعل الله السلطان لقبض أيدى الناس، وقد تأول الناس هذا الحديث أنه خرج على التغليظ والوعيد والزجر عن الاطلاع على عورات الناس، وإنما اختلفوا فيمن أقام الحد على عبده أو أمته كما تقدم، ويجوز عند العلماء أن يأخذ حقه دون السلطان فى المال خاصة إذا جحده إياه، ولم يقم له بينة على حقه على ما جاء فى حديث هند مع أبى سفيان، وسيأتى بعد هذا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 517 - باب إِذَا مَاتَ فِى الزِّحَامِ أَوْ قُتِلَ / 24 - فيه: عَائِشَةَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ، فَصَاحَ إِبْلِيسُ: أَىْ عِبَادَ اللَّهِ، أُخْرَاكُمْ، فَرَجَعَتْ أُولاهُمْ، فَاجْتَلَدَتْ هِىَ وَأُخْرَاهُمْ، فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ، فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ الْيَمَانِ، فَقَالَ: أَىْ عِبَادَ اللَّهِ، أَبِى، أَبِى، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ، قَالَ حُذَيْفَةُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ. قَالَ عُرْوَةُ: فَمَا زَالَتْ فِى حُذَيْفَةَ مِنْهُ بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ. اختلف العلماء فيمن مات فى الزحام ولا يدرى من قتله، فقالت طائفة: ديته فى بيت المال. روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وبه قال إسحاق، وقالت طائفة: دينه على من حضر. هذا قول الحسن البصرى والزهرى، وفيها قول آخر وهو أن يقال لوليه: ادع على من شئت، فإذا حلف على أحد بعينه أو جماعة يمكن أن يكونوا قاتليه فى الجمع حلف، واستحق على عواقلهم الدية فى ثلاث سنين. هذا قول الشافعى. وقال مالك: دمه هدر، ووجه قول من قال أنه فى بيت المال، أنا قد أيقنا أن من مات من فعل قوم مسلمين ولم يتعين من قتله؛ فحسن أن يودى من بيت المال؛ لأن بيت مالهم كالعاقلة، ووجه قول من قال: إن ديته على من حضر، أنا قد أيقنا أن من فعلهم مات فوجب أن لا يتعدى ذلك إلى غيرهم، وحديث هذا الباب أشبه بهذا القول من غيره؛ لأن حذيفة قال: (غفر الله لكم) فدل أنه لم يغفر لهم إلا ما له مطالبتهم به ألا ترى قوله: (فلم يزل فى حذيفة منها بقية خير) يريد أنها ظهرت عليه بركة ذلك العفو عنهم. ووجه قول الشافعى أن الدماء والأموال لا تجب إلا بالطلب، فإذا ادعى أولياء المقتول على قوم وأتوا بما يوجب القسامة حلفوا واستحقوا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 518 ووجه قول مالك أنه لما لم يعلم قاتله بعينه علم يقين إستحال أن يؤخذ أحد فيه بالظن، فيوجب أن يهدر دمه. - بَاب إِذَا قَتَلَ نَفْسَهُ خطأ فَلا دِيَةَ لَهُ / 25 - فيه: سَلَمَةَ بن الأكواع، قَالَ: (خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَسْمِعْنَا يَا عَامِرُ مِنْ هُنَيْهَاتِكَ، فَحَدَا بِهِمْ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : مَنِ السَّائِقُ؟ قَالُوا: عَامِرٌ، فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلا أَمْتَعْتَنَا بِهِ، فَأُصِيبَ صَبِيحَةَ لَيْلَتِهِ، فَقَالَ الْقَوْمُ: حَبِطَ عَمَلُهُ قَتَلَ نَفْسَهُ، فَلَمَّا رَجَعْتُ، وَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ، فَجِئْتُ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ، فَدَاكَ أَبِى وَأُمِّى، زَعَمُوا أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ، فَقَالَ: كَذَبَ مَنْ قَالَهَا، إِنَّ لَهُ لأجْرَيْنِ اثْنَيْن، إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ، وَأَىُّ قَتْلٍ يَزِيدُهُ عَلَيْهِ) . لم يذكر فى هذا صفة قتل عامر لنفسه خطأ كما ترجم، وجاء ذلك بينًا فى كتاب الأدب فى باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء، قال: (فأتينا خيبر فحاصرناهم وكان سيف عامر قصيرًا فتناول به يهوديًا ليضربه، فرجع ذبابته فأصاب ركبته فمات منه. .) فذكر الحديث، وقال فى آخره: (قل عربى نشأ بها مثله) فى مكان قوله: (وأى قتل يزيده عليه) . وفى رواية النسفى فى حديث هذا الباب: (وأى قتيل يزيد عليه) وهو الصواب. واختلف العلماء فى من قتل نفسه، فقالت طائفة: لا تعقل العاقلة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 519 أحدًا أصاب نفسه بشىء عمدًا أو خطأ. هذا قول ربيعة ومالك والثورى وأبى حنيفة والشافعى. وقال الأوزاعى وأحمد وإسحاق: ديته على عاقلته، فإن عاش فهى له وإن مات فهى لورثته، واحتجوا بما روى (أن رجلاً كان يسوق حمارًا، فضربه بعصًا كانت معه، فأصاب عينه ففقأتها، فقضى عمر بديته على عاقلته، وقال: أصابته يد من أيدى المسلمين) . وحديث سلمة بن الكوع حجة للقول الأول؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يوجب له دية على عاقلته ولا غيرها، ولو وجبت على العاقلة لبين ذلك؛ لأن هذا موضع يحتاج إلى بيان بل يشهد له (صلى الله عليه وسلم) أن له أجرين، وأيضًا فإن الدية إنما وجبت على العاقلة تخفيفًا على الجانى فإذا لم يجب على الجانى لأحدٍ شىء لم يحتج إلى التخفيف عنه. وجعلت الدية أيضًا على العاقلة معونة للجانى فتؤدى إلى غيره، فمحال أن يؤدى عنه إليه، والنظر ممتنع أنه يجب للمرء على نفسه دين، ألا ترى أنه لو قطع يد نفسه عمدًا لم تجب فيها الدية فكذلك إذا قتل نفسه. واحتج مالك فى ذلك بقوله تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ) [النساء: 92] ولم يقل من قتل نفسه خطأ، وإنما جعل العقل فيما أصاب به إنسانًا إنسانًا، ولم يذكر ما أصاب به نفسه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 520 - بَاب إِذَا عَضَّ رَجُلا فَوَقَعَتْ ثَنَايَاهُ / 26 - فيه: عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ رَجُلا عَضَّ يَدَ رَجُلٍ، فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فَمِهِ، فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتَاهُ، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ، لا دِيَةَ لَكَ) . / 27 - وفيه: يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجْتُ فِى غَزْوَةٍ فَعَضَّ رَجُلٌ، فَانْتَزَعَ ثَنِيَّتَهُ، فَأَبْطَلَهَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فقالت طائفة: من عض يد رجل فانتزع المعضوض يده من فىِّ العاض فقلع سنًا من أسنان العاض فلا ضمان عليه فى السن، روى ذلك عن أبى بكر الصديق وشريح، وهو قول الكوفيين والشافعى، قالوا: ولو جرحه المعضوض فى موضع آخر فعليه ضمانه. وقال ابن أبى ليلى ومالك: هو ضامن لدية السن، وقال عثمان البتى: إن كان انتزعها من ألم ووجع أصابه فلا شىء عليه، وإن انتزعها من غير ألم فعليه الدية. واحتج الكوفيون والشافعى بهذا الحديث، وقالوا: ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أيدع يده فى فيه فيعضه كما يعض الفحل؟ لا دية له) وهذا لا يجوز خلافه لصحة مجيئه، وأنه لا شىء يخالفه مما روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . قالوا: ولا يختلفون أن من شهر سلاحًا، وأومأ إلى قتله وهو صحيح العقل، فقتله المشهور عليه دافعًا له عن نفسه؛ أنه لا ضمان عليه، فإذا لم يضمن نفسه بدفعه إياه عن نفسه كذلك لا يضمن سنه بدفعه إياه عن عضه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 521 واحتج أصحاب مالك فقالوا: يحتمل أن يكون سقوط الثنية من شدة العض لا من نزع صاحب اليد؛ لأنه قال: نزع يده فسقطت ثنية العاض، فلهذا لم يجب له شىء، وإن كان من فعل صاحب اليد فقد كان يمكنه أن يخلص يده من غير قلع ثنيته فلهذا وجب عليه ضمانها، ولم يرو مالك هذا الحديث، ولو رواه ما خالفه وهو من رواية أهل العراق. - بَاب) السِّنَّ بِالسِّنِّ) [المائدة: 45] / 28 - فيه أَنَس: أَنَّ ابْنَةَ النَّضْرِ لَطَمَتْ جَارِيَةً، فَكَسَرَتْ ثَنِيَّتَهَا، فَأَتَوُا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَمَرَ بِالْقِصَاصِ. قال المؤلف: قال الله تعالى: (والسن بالسن) [المائدة: 45] وأجمع العلماء أن هذه الآية فى العمد، فمن أصاب سن أحد عمدًا ففيه القصاص، على حديث أنس. واختلف العلماء فى سائر عظام الجسد إذا كسرت عمدًا، فقال مالك: عظام الجسد كلها فيها القود إذا كسرت عمدًا: الذراعان والعضدان، والساقان، والقدمان، والكعبان، والأصابع إلا ما كان مجوفًا مثل الفخذ وشبهه، كالمأمومة، والمنقلة، والهاشمة، والصلب، ففى ذلك الدية. وقال الكوفيون: لا قصاص فى عظم يكسر إلا السن لقوله تعالى: (السن بالسن) [المائدة: 45] وهو قول الليث والشافعى. واحتج الشافعى فقال: إن دون العظم حائل من الجلد ولحم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 522 وعصب، فلو استيقنا أنا نكسر عظمة كما كسر عظمة لا يزيد عليه ولا ينقص فعلناه ولكنا لا نصل إلى العظم حتى ننال منه ما دونه مما ذكرناه أنا لا نعرف قدره مما هو أقل أو أكثر مما نال غيره، وأيضًا فإنا لا نقدر أن يكون كسر ككسر أبدًا فهو ممنوع. وقال الطحاوى: اتفقوا أنه لا قصاص فى عظم الرأس فكذلك سائر العظام. والحجة لمالك حديث أنس: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال فى سن الربيع: (كتاب الله القصاص) فلما جاز القصاص فى السن إذا كسرت، وهى عظم فكذلك سائر العظام، إلا عظمًا أجمعوا أنه لا قصاص فيه؛ لخوف ذهاب النفس منه، وأنه لا يقدر على الوصول فيه إلى مثل الجناية بالسواء، فلا يجوز أن يفعل ما يؤدى فى الأغلب إلى التلف إذا كان الجارح الأول لم يؤد فعله إلى التلف. وقال ابن المنذر: ومن قال لا قصاص فى عظم فهو مخالف للحديث، والخروج إلى النظر غير جائز مع وجود الخبر. واتفق جمهور الفقهاء على أن دية الأسنان فى الخطأ فى كل سن خمس من الإبل. - باب دِيَةِ الأصَابِعِ / 29 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ، يَعْنِى الْخِنْصَرَ وَالإبْهَامَ) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 523 ثبت فى كتاب الديات الذى كتبه النبى (صلى الله عليه وسلم) لآل عمرو بن حزم أنه قال: (فى اليد: خمسون من الإبل، فى كل أصبع: عشر من الإبل) . وأجمع العلماء على أن فى اليد نصف الدية، وأصابع اليد والرجل سواء، وعلى هذا أئمة الفتوى، ولا فضل لبعض الأصابع عندهم على بعض. قال ابن المنذر: روينا ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وابن مسعود، وزيد بن ثابت. وجاءت رواية شاذة عن عمر بن الخطاب، وعروة بن الزبير بتفضيل بعض الأصابع على بعض. روى الثورى وحماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: (أن عمر جعل فى الإبهام خمسة عشر وفى البنصر تسعًا، وفى الخنصر ستًا، وفى السبابة والوسطى عشرًا عشرًا، حتى وجد فى كتاب الديات عند آل عمرو بن حزم: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: الأصابع كلها سواء، فأخذ به وترك قوله الأول) . ورواه جعفر بن عون، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب قال: (قضى عمر فى الإبهام بثلاث عشرة، وفى التى تليها بثنتى عشرة، وفى الوسطى بعشرة، وفى التى تليها بتسع، وفى الخنصر بست) . وروى معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: (إذا قطعت الإبهام والتى تليها، ففيها نصف دية اليد، وإذا قطعت إحداهما، ففيها عشر من الإبل) . ولم يلتفت أحد من الفقهاء إلى هذين القولين لما ثبت عن النبى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 524 (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (هذه وهذه سواء، يعنى الخنصر والإبهام) وحديث عمرو بن حزم: (إن فى كل أصبع عشرًا من الإبل) . وذكر ابن المنذر عن الشعبى قال: كنت جالسًا مع شريح؛ إذا أتاه رجل فقال: أخبرنى عن دية الأصابع، فقال: فى كل أصبع عشرًا من الإبل. قال: سبحان الله، أسواء هى؟ يعنى الإبهام والخنصر، قال: ويحك إن السنة منعت قياسكم، اتبع ولا تبتدع، فإنك لن تضل ما أخذت بالسنن، سواء يداك وأذناك تغطيهما العمامة والقلنسوة، وفيها نصف الدية، وفى اليد نصف الدية. - باب إِذَا أَصَابَ قَوْمٌ مِنْ رَجُلٍ، هَلْ يُعَاقِبُ أَوْ يَقْتَصُّ مِنْهُمْ كُلِّهِمْ؟ وَقَالَ مُطَرِّفٌ، عَنِ الشَّعْبِىِّ فِى رَجُلَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ فَقَطَعَهُ عَلِىٌّ، ثُمَّ جَاءَا بِآخَرَ، وَقَالا: أَخْطَأْنَا، فَأَبْطَلَ شَهَادَتَهُمَا، وَأَخذَهُمَا بِدِيَةِ الأوَّلِ، وَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا. / 30 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، رَضِى اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ غُلامًا قُتِلَ غِيلَةً، فَقَالَ عُمَرُ: لَوِ اشْتَرَكَ فِيهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ. / 31 - وفيه: مُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ: إِنَّ أَرْبَعَةً قَتَلُوا صَبِيًّا، فَقَالَ عُمَرُ مِثْلَهُ. وَأَقَادَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَلِيٌّ وَسُوَيْدُ بْنُ مُقَرِّنٍ مِنْ لَطْمَةٍ، وَأَقَادَ عُمَرُ مِنْ ضَرْبَةٍ بِالدِّرَّةِ، وَأَقَادَ عَلِيٌّ مِنْ ثَلاثَةِ أَسْوَاطٍ، وَاقْتَصَّ شُرَيْحٌ مِنْ سَوْطٍ وَخُمُوشٍ. / 32 - فيه: عَائِشَةُ: (لَدَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى مَرَضِهِ، وَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا لا تَلُدُّونِى، قَالَ: فَقُلْنَا: كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ بِالدَّوَاءِ، فَلَمَّا أَفَاقَ، قَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِى قَالَ: قُلْنَا: كَرَاهِيَةٌ لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : لا يَبْقَى مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا لُدَّ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلا الْعَبَّاسَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 525 ذهب جمهور العلماء إلى أن الجماعة إذا قتلوا واحدًا به كلهم على نحو ما فعل عمر بن الخطاب ورى مثله عن على بن أبى طالب والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين: سعيد بن المسيب وعطاء والحسن والنخعى والشعبى وجماعة أئمة الأمصار. وفيها قول آخر: روى عن عبد الله والزبير ومعاذ بن جبل: أن لولى المقتول أن يقتل واحدًا من الجماعة، ويأخذ بقية الدية من الباقين، مثل أن يقتله عشرة أنفس، فله أن يقتل واحدًا منهم ويأخذ من التسعة تسعة أعشار الدية. وبه قال ابن سيرين والزهرى. وقال أهل الظاهر: لا قود على واحد منهم أصلا وعليهم الدية. وهذا خلاف ما أجمعت عليه الصحابة، وحجة الجماعة قوله تعالى: (ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا فلا يسرف) [الإسراء: 33] فلا فرق بين أن يكون القاتل واحدًا أو جماعة، لوقوع اسم القتلة عليهم، ولأن الله تعالى جعل الحجة لولى المقتول عليهم، وعلى مثل هذا يدل حديث عائشة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر أن يلد كل من فى البيت لشهودهم للدده الذى نهاهم عنه وما ذاق من الألم واشتراكهم فى ذلك، وهو حجة فى قصاص الواحد من الجماعة، ولو لم تقتل الجماعة بالواحد لأدى ذلك إلى رفع الحياة فى القصاص الذى جعله الله حياة ولم يشأ أحد أن يقتل أحدًا ثم لا يقتل به إلا دعا من يقتله معه لسقط عنه القتل، وأيضًا فإن النفس لا تتبعض الجزء: 8 ¦ الصفحة: 526 فى الإتلاف، بدليل أنه لا يقال: قاتل بعض نفس؛ لأن كل واحد قد حصل من جهته فعل ما يتعلق به خروج الروح عنده، وهذا لا يتبعض لامتناع أن يكون بعض الروح خرج بفعل أحدهم، وبعضها بفعل الباقين، فكان كل واحد منهم قاتل نفس، ومثل هذا لو أن جماعة دفعوا حجرًا، لكان كل واحد منهم دافعًا له؛ لأن الحجر لا يتبعض كما أن النفس لا تتبعض. فإن قيل: إنما قال لكل واحد منهم قاتل نفس كما يقال فى الجماعة: أكلت الرغيف، وليس كل واحد منهم أكل الرغيف كله. قيل: إنما كان هذا؛ لأن الرغيف يتبعض، فصح أن يقال لكل واحد منهم: أكل بعض الرغيف، ولما لم يصح التبعيض فى النفس لم يصح أن يقال قاتل بعض نفس، وقوله تعالى: (النفس بالنفس) [المائدة: 45] الألف واللام للجنس فتقديره: الأنفس بالأنفس، وكذلك قوله: (الحر بالحر) [البقرة: 178] تقديره: الأحرار بالأحرار. فلا فرق بين جماعة قتلوا واحدًا أو جماعة، وأما القود من اللطمة وشبهها، فذكر البخارى عن أبى بكر الصديق وعمر وعلى وابن الزبير أنهم أقادوا من اللطمة وشبهها، وقد روى عن عثمان وخالد بن الوليد مثل ذلك، وهو قول الشعبى وجماعة من أهل الحديث، وقال الليث: إن كانت اللطمة فى العين فلا قصاص فيها للخوف على العين ويعاقبه السلطان، وإن كانت على الخد ففيها القود. وقالت طائفة: لا قصاص فى اللطمة. فروى هذا عن الحسن وقتادة، وهو قول مالك والكوفيين والشافعى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 527 واحتج مالك فى ذلك، وقال: ليس لطمة المريض والضعيف مثل لطمة القوى، وليس العبد الأسود يلطم مثل الرجل له الحال والهيئة، وإنما فى ذلك كله الاجتهاد لجهلنا بمقدار اللطمة. واختلفوا فى القود من ضرب السوط، فقال الليث: يقاد من الضرب بالسوط ويزاد عليه للتعدى. وقال ابن القاسم: يقاد من السوط، ولا يقاد منه عند الكوفيين، والشافعى إلا أن يجرح، قال الشافعى: إن جرح السوط ففيه حكومة. وحديث لد النبى (صلى الله عليه وسلم) لأهل البيت حجة لمن جعل القود فى كل ألم، وإن لم يكن جرح ولا قصد لأذى، بسوط كان الألم أو بيد أو غيره، وقد تقدم فى كتاب الأحكام مذاهب العلماء فى الشاهد إذا تعمد الشهادة بالزور، هل يلزمه الضمان، وقد تقدم تفسير قتل الغيلة، فى باب من قتل قتيلا فهو بخير النظرين. - باب الْقَسَامَةِ وَقَالَ الأشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ: لَمْ يُقِدْ بِهَا مُعَاوِيَةُ، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ إِلَى عَدِىِّ بْنِ أَرْطَاةَ، وَكَانَ أَمَّرَهُ عَلَى الْبَصْرَةِ، فِى قَتِيلٍ وُجِدَ عِنْدَ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ السَّمَّانِينَ، إِنْ وَجَدَ أَصْحَابُهُ بَيِّنَةً، وَإِلا فَلا تَظْلِمِ النَّاسَ، فَإِنَّ هَذَا لا يُقْضَى فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. / 33 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ (زَعَمَ أَنَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 528 رَجُلا مِنَ الأنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: سَهْلُ بْنُ أَبِى حَثْمَةَ، أَخْبَرَهُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ انْطَلَقُوا إِلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا، وَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلا، وَقَالُوا لِلَّذِى وُجِدَ فِيهِمْ: قَدْ قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا، قَالُوا: مَا قَتَلْنَا وَلا عَلِمْنَا قَاتِلا، فَانْطَلَقُوا إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْطَلَقْنَا إِلَى خَيْبَرَ، فَوَجَدْنَا أَحَدَنَا قَتِيلا، فَقَالَ: الْكُبْرَ، الْكُبْرَ، فَقَالَ لَهُمْ: تَأْتُونَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ، قَالُوا: مَا لَنَا بَيِّنَةٌ، قَالَ: فَيَحْلِفُونَ، قَالُوا: لا نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ) . / 34 - وَقَالَ أَبُو قِلابَةَ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِالْعَزِيزِ أَبْرَزَ سَرِيرَهُ يَوْمًا لِلنَّاسِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا، مَا تَقُولُونَ فِى الْقَسَامَةِ؟ قَالَ: نَقُولُ: الْقَسَامَةُ الْقَوَدُ بِهَا حَقٌّ، وَقَدْ أَقَادَتْ بِهَا الْخُلَفَاءُ، قَالَ لِى: مَا تَقُولُ يَا أَبَا قِلابَةَ؟ وَنَصَبَنِى لِلنَّاسِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عِنْدَكَ رُءُوسُ الأجْنَادِ وَأَشْرَافُ الْعَرَبِ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ مُحْصَنٍ بِدِمَشْقَ أَنَّهُ قَدْ زَنَى لَمْ يَرَوْهُ أَكُنْتَ تَرْجُمُهُ؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِحِمْصَ أَنَّهُ سَرَقَ، أَكُنْتَ تَقْطَعُهُ، وَلَمْ يَرَوْهُ؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: فَوَاللَّهِ مَا قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَحَدًا قَطُّ إِلا فِى إِحْدَى ثَلاثِ خِصَالٍ: رَجُلٌ قَتَلَ بِجَرِيرَةِ نَفْسِهِ فَقُتِلَ، أَوْ رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ رَجُلٌ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَارْتَدَّ عَنِ الإسْلامِ، فَقَالَ الْقَوْمُ: أَوَلَيْسَ قَدْ حَدَّثَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَطَعَ فِى السَّرَقِ، وَسَمَرَ الأعْيُنَ، ثُمَّ نَبَذَهُمْ فِى الشَّمْسِ، فَقُلْتُ: أَنَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثَ أَنَسٍ، حَدَّثَنِى أَنَسٌ أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَبَايَعُوهُ عَلَى الإسْلامِ، فَاسْتَوْخَمُوا الأرْضَ، فَسَقِمَتْ أَجْسَامُهُمْ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 529 فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: أَفَلا تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا فِى إِبِلِهِ، فَتُصِيبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا؟ قَالُوا: بَلَى، فَخَرَجُوا، فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَصَحُّوا، فَقَتَلُوا رَاعِىَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَأَطْرَدُوا النَّعَمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَرْسَلَ فِى آثَارِهِمْ، فَأُدْرِكُوا فَجِىءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ، فَقُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، ثُمَّ نَبَذَهُمْ فِى الشَّمْسِ حَتَّى مَاتُوا، قُلْتُ: وَأَىُّ شَىْءٍ أَشَدُّ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ ارْتَدُّوا عَنِ الإسْلامِ، وَقَتَلُوا، وَسَرَقُوا؟ فَقَالَ عَنْبَسَةُ ابْنُ سَعِيدٍ: وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ، فَقُلْتُ: أَتَرُدُّ عَلَىَّ حَدِيثِى يَا عَنْبَسَةُ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنْ جِئْتَ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ وَاللَّهِ لا يَزَالُ هَذَا الْجُنْدُ بِخَيْرٍ مَا عَاشَ هَذَا الشَّيْخُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ فِى هَذَا سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) دَخَلَ عَلَيْهِ نَفَرٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَتَحَدَّثُوا عِنْدَهُ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَقُتِلَ، فَخَرَجُوا بَعْدَهُ، فَإِذَا هُمْ بِصَاحِبِهِمْ يَتَشَحَّطُ فِى الدَّمِ، فَرَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَاحِبُنَا كَانَ تَحَدَّثَ مَعَنَا، فَخَرَجَ بَيْنَ أَيْدِينَا، فَإِذَا نَحْنُ بِهِ يَتَشَحَّطُ فِى الدَّمِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: بِمَنْ تَظُنُّونَ، أَوْ مَنْ تَرَوْنَ قَتَلَهُ؟ قَالُوا: نَرَى أَنَّ الْيَهُودَ قَتَلَتْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْيَهُودِ فَدَعَاهُمْ، فَقَالَ: آنْتُمْ قَتَلْتُمْ هَذَا؟ قَالُوا: لا، قَالَ: أَتَرْضَوْنَ نَفَلَ خَمْسِينَ مِنَ الْيَهُودِ مَا قَتَلُوهُ؟ فَقَالُوا: مَا يُبَالُونَ أَنْ يَقْتُلُونَا أَجْمَعِينَ، ثُمَّ يَنْتَفِلُونَ، قَالَ: أَفَتَسْتَحِقُّونَ الدِّيَةَ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ؟ قَالُوا: مَا كُنَّا لِنَحْلِفَ، فَوَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ، قُلْتُ: وَقَدْ كَانَتْ هُذَيْلٌ خَلَعُوا خَلِيعًا لَهُمْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَطَرَقَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ الْيَمَنِ بِالْبَطْحَاءِ، فَانْتَبَهَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَحَذَفَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ، فَجَاءَتْ هُذَيْلٌ، فَأَخَذُوا الْيَمَانِىَّ فَرَفَعُوهُ إِلَى عُمَرَ بِالْمَوْسِمِ، وَقَالُوا قَتَلَ: صَاحِبَنَا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 530 فَقَالَ: إِنَّهُمْ قَدْ خَلَعُوهُ، فَقَالَ: يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْ هُذَيْلٍ مَا خَلَعُوهُ، قَالَ: فَأَقْسَمَ مِنْهُمْ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلا، وَقَدِمَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنَ الشَّأْمِ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُقْسِمَ، فَافْتَدَى يَمِينَهُ مِنْهُمْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَدْخَلُوا مَكَانَهُ رَجُلا آخَرَ فَدَفَعَهُ إِلَى أَخِى الْمَقْتُولِ، فَقُرِنَتْ يَدُهُ بِيَدِهِ، قَالُوا: فَانْطَلَقَا وَالْخَمْسُونَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِنَخْلَةَ أَخَذَتْهُمُ السَّمَاءُ، فَدَخَلُوا فِى غَارٍ فِى الْجَبَلِ، فَانْهَجَمَ الْغَارُ عَلَى الْخَمْسِينَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا، فَمَاتُوا جَمِيعًا، وَأَفْلَتَ الْقَرِينَانِ، وَاتَّبَعَهُمَا حَجَرٌ، فَكَسَرَ رِجْلَ أَخِى الْمَقْتُولِ، فَعَاشَ حَوْلا، ثُمَّ مَاتَ، قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ عَبْدُالْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، أَقَادَ رَجُلا بِالْقَسَامَةِ، ثُمَّ نَدِمَ بَعْدَ مَا صَنَعَ، فَأَمَرَ بِالْخَمْسِينَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا، فَمُحُوا مِنَ الدِّيوَانِ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الشَّأْمِ) . اختلف العلماء فى الحكم بالقسامة، فقالت طائفة: القسامة ثابتة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يبدأ فيها المدعون بالأيمان، فإن حلفوا استحقوا، وإن نكلوا حلف المدعى عليهم خمسين يمينًا وبرءوا، هذا قول أهل المدينة: يحيى بن سعيد، وأبى الزناد، وربيعة، والليث، ومالك، والشافعى، وأحمد وأبى ثور. واحتجوا فى ذلك بما رواه البخارى فى كتاب الجزية والموادعة عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبى حثمة قال: (انطلق عبد الله بن سهل ومُحيِّصة بن مسعود بن زيد إلى خيبر، وهى يومئذ صلح، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط فى دمه قتيلا، فدفنه ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فذهب عبد الرحمن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 531 يتكلم، فقال: كبر، كبر، وهو أحدث القوم، فسكت، فتكلما فقال: تحلفون وتستحقون قاتلكم، أو صاحبكم؟ قالوا: كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال: فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا؟ قالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله النبى (صلى الله عليه وسلم) من عنده) وقال حماد بن زيد: عن يحيى بن سعيد مثله. فثبت فى هذا الحديث تبدئة المدعين للدم باليمين. وذهب طائفة إلى أنه يبدأ بالأيمان المدعى عليهم فيحلفون ويذرون، روى هذا عن عمر ابن الخطاب، وعن الشعبى، والنخعى، وبه قال الثورى والكوفيون، واحتجوا بحديث سعيد ابن عبيد، عن بشير بن يسار أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال للأنصار: (تاتون بالبينة على من قتله، قالوا: ما لنا بينة، قال: فيحلفون لكم، قالوا: ما نرضى بأيمان يهود) فبدأ بالأيمان المدعى عليهم وهم اليهود. واحتجوا أيضًا بما رواه ابن جريح عن ابن أبى مليكة، عن ابن عباس أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (لو يُعطى الناس بدعواهم لادّعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه) . وفيها قول ثالت: وهو التوقف عن الحكم بالقسامة، روى هذا عن سالم بن عبد الله، وأبى قلابة، وعمر بن عبد العزيز، والحكم بن عتيبة. واحتج أهل المقالة الأولى، فقالوا: حديث سعيد بن عبيد فى تبدئة اليهود وهم عند أهل الحديث؛ لأن جماعة من أئمة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 532 الحديث أسندوا حديث بشير بن يسار عن سهل: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) بدأ المدعين) . قال الأصيلى: أسنده عن يحيى بن سعيد شعبة، وسفيان بن عيينة، وعبد الوهاب الثقفى، وحماد بن زيد، وعيسى بن حماد، وبشر بن المفضل فهؤلاء ستة، وأرسله مالك، عن يحيى ابن سعيد، عن بشير بن يسار، ولم يذكر سهل بن أبى حثمة. وقال أحمد بن حنبل: الذى أذهب إليه فى القسامة، حديث يحيى بن سعيد، عن بشير ابن يسار، فقد وصله عنه حفاظ، وهو أصح من حديث سعيد بن عبيد. قال الأصيلى: فلا يجوز أن يعترض بخبر واحد على خبر جماعة مع أن سعيد بن عبيد قال فى حديثه: (فوداه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من إبل الصدقة) والصدقة لا تعطى فى الديات، ولا يصالح بها عن غير أهلها. قال ابن القصار والمهلب: وقد يجوز الجمع بين حديث سعيد بن عبيد، ويحيى بن سعيد، فيحتمل أن يقول النبى (صلى الله عليه وسلم) للأنصار أترضون نفل خمسين من اليهود ما قتلوه بعد علمه (صلى الله عليه وسلم) أن الأنصار قد نكلوا عن اليمين؛ لأنهم لم يعينوا أحدًا من اليهود فيقسمون عليه، والقسامة لا تكون إلا على معين، فلما علم نكولهم رد اليمين، وفى حديث يحيى بن سعيد حين نكل محيصة وحويصة وعبد الرحمن، فقالوا لهم: فيبرئكم يهود بعد أن قال لهم تحلفون خمسين يمينًا، وتستحقون دم صاحبكم. وقد روى ابن جريج، عن عطاء، عن أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (البينة على المدعى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 533 واليمين على من أنكر إلا فى القسامة) فتبين أن اليمين فى القسامة لا يكون فى جهة المدعى عليه، وقد احتج مالك فى الموطأ لهذه المقالة بما فيه الكفاية، فقال: إنما فرق بين القسامة فى الدم والأيمان فى الحقوق أن الرجل إذا داين الرجل استثبت عليه فى حقه، وأن الرجل إذا قتل الرجل لم يقتله فى جماعة من الناس وإنما يلتمس الخلوة، فلو لم تكن القسامة إلا فيما تثبت فيه البينة، وعمل فيها كما يعمل فى الحقوق هلكت الدماء، واجترأ الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها. ولكن إنما جعلت القسامة إلى ولاة المقتول يبدءون بها ليكف الناس عن الدم وليحذر القاتل أن يؤخذ فى مثل ذلك بقول المقتول، وهذا الأمر المجتمع عليه عندنا، والذى سمعت ممن أرضى، والذى اجتمعت عليه الأئمة فىالقديم والحديث أن يبدأ المدعون. فإن قالوا: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما قال: (أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم) على وجه الاستعظام لذلك والإنكسار عليهم والتقرير، لا على وجه الاستفهام لهم. فالجواب: أنه لا يجوز أن يزيد الإنكار عليهم أصلا وذلك أن القوم لم يطلبوا اليمين فينكر ذلك عليهم. وإنما ادعّوا الدم فبدأهم وقال لهم (صلى الله عليه وسلم) (أتحلفون) فعلم أنه شرع لهم اليمين؛ وعلق استحقاق الدم بها، فإنما كان يكون منكرًا عليهم لو بدءوا وقالوا: نحن نحلف. وأما الذين أبطلوا الحكم بالقسامة فإنهم ردوها بآرائهم لخلافها عندهم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (البينة على المدعى واليمين على المدعى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 534 عليه) وهو خص القسامة بتبدية المدعين الأيمان وسنه لأمته، وقد كانت القسامة فى الجاهلية خمسين يمينًا على الدماء، فأقرها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فصارت سنة بخلاف الأموال التى سن فيها يمينًا واحدة، والأصول لا يرد بعضها ببعض، ولا يقاس بعضها على بعض بل يوضع كل واحد منهما موضعه، كالعرايا والمزابنة والمساقاة والقراض مع الإجارات وعلى المسلمين التسليم فى كل ما سن لهم. قال ابن القصار: فإن قيل: كيف يحلف الأولياء وهم غيب عن موضع القتل؟ قيل: اليمين تكون مرة على وجه اليقين وتارة على وجه الاستدلال، كالشهادة تكون بيقين وتكون بالاستدلال على النسب والوفاة، وأن هذه زوجة فلان، وهذا باستدلال كما يدعى الوارث لابنه دينًا على رجل من حساب أبيه، فيحلف كما يحلف على يقين، وذلك عل ما ثبت عنده بأخبار من يصدقه، وليس أحد من العلماء يجيز لأحد أن يحلف على ما لا يعلم أو يشهد على ما لم يعلم، ولكنه يحلف على ما لم يحضر إذا صح عنده وعلمه بما يقع العلم بمثله. وقيل لابن المسيب: أعجب من القسامة؛ يأتى الرجل يسأل عن القاتل والمقتول لا يعرف القاتل من المقتول ويقسم. قال: قضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالقسامة فى قتيل خيبر، ولو علم أن الناس يجترئون عليها ما قضى بها. وروى عن معمر عن الزهرى قال: دعانى عمر بن عبد العزيز فقال: إنى أريد أن أدع القسامة، نأتى برجل من أرض الجزء: 8 ¦ الصفحة: 535 كذا، وآخر من أرض كذا فيحلفون، فقلت له: ليس لك ذلك، قضى بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء بعده، إن تركتها أوشك رجل أن يقتل عندنا فيبطل دمه، وإن للناس فى القسامة حياة. وأما قول ابن أبى مليكة: إن معاوية لم يقد بالقسامة فلا حجة فيه مع خلاف السنة له، والخلفاء الراشدين الذين أقادوا بها، وقد صح عن معاوية أنه أقاد بالقسامة، وذكر ذلك أبو الزناد فى احتجاجه على أهل العراق، قال: وقال لى خارجة بن زيد بن ثلبت: نحن والله قتلنا بالقسامة وأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) متوافرون إنى لأرى يومئذ ألف رجل أو نحو ذلك فما اختلف منهم اثنان فى ذلك. وقال أبو الحسن بن القابسى: والعجب من عمر بن عبد العزيز على مكانته فى العلم، كيف لم يعارض أبا قلابة فى قوله وليس أبو قلابة من فقهاء التابعين قال المؤلف: وقد روى حماد بن سلمة، عن عبد الله بن أبى مليكة أن عمر بن عبد العزيز أقاد بالقسامة فى إمارته على المدينة. قال المهلب: وما اعترض به أبو قلابة من حديث العرنيين، لا اعتراض فيه على القسامة بوجه من الوجوه؛ لجواز قيام البينة والدلائل التى لا دافع لها على تحقيق الجناية على العرنيين، وليس هذا من طريق القسامة فى شىء؛ لأن القسامة إنما تكون فى الدعاوى، والاختفاء بالقتل حيث لا بينة ولا دليل، وأمر العرنيين كان بين ظهرانى الناس وممكن فيه الشهادة؛ لأن العرنيين كشفوا وجوههم لقطع السبيل، والخروج على المسلمين بالقتل واستياق الإبل، فقامت عليهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 536 الشواهد البينة فأمرهم غير أمر من ادعى عليه بالقتل، ولا شاهد يقوم عليه، وما ذكر من الذين انهدم عليهم الغار لا يُعارض به ما تقدم من السنة فى القسامة، وليس رأى أبى قلابة حجة على جماعة التابعين ولا ترد بمثله السنن، وكذلك محو عبد الملك من الديوان لأسماء الذين أقسموا؛ لا حجة فيه على إبطال القسامة؛ وإنما ذكر البخارى هذا كله بلا إسناد، وصدر به كتاب القسامة؛ لأن مذهبه تضعيف القسامة، ويدل على ذلك أنه أتى بحديث القسامة فى غير موضعه، وذكره فى كتاب الجزية والموادعة، واختلفوا فى وجوب القود بالقسامة، فأوجبت طائفة القود بها، روى هذا عن عبد الله بن الزبير وعمر بن عبد العزيز والزهرى وربيعة وأبى الزناد، وبه قال مالك والليث وأحمد وأبو ثور. واحتجوا بحديث يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار أنه قال (صلى الله عليه وسلم) للأنصار: (تحلفون وتستحقون دم صاحبكم) وهذا يوجب القود. وقالت طائفة: لا قود بالقسامة وإنما توجب الدية، روى هذا عن عمر بن الخطاب وابن عباس، وهو قول النخعى والحسن، وإليه ذهب الثورى والكوفيون والشافعى وإسحاق، واحتجوا بما رواه مالك، عن أبى ليلى بن عبد الله عن سهل بن أبى حثمة وهو قوله (صلى الله عليه وسلم) للأنصار: (إما إن تدوا صاحبكم أوتأذنوا بحرب من الله ورسوله) وهذا يدل على الدية لا على القود. وقالوا: ومعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار: (تستحقون دم صاحبكم) يعنى به: دية دم قتيلكم؛ لأن اليهود ليس بصاحب لهم، فإذا جاز أن يضمروا فيه؛ جاز أن يضمر فيه دية دم صاحبكم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 537 فكان من حجة أهل المقالة الأولى عليهم، أن قالوا: إن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إما أن تدوا صاحبكم) معارض لقوله: (تستحقون دم صاحبكم) فلما تعارض اللفظان وجب طلب الدليل على أى المعنيين أولى بالصواب، فوجدنا قوله: (إما أن تدوا صاحبكم) انفرد به أبو ليلى فى حديثه. وقد قال أهل الحديث: إن أبا ليلى لم يسمع هذا الحديث من سهل بن أبى حثمة. وقيل: إنه مجهول لم يرو عنه غير مالك، ولم يرو عنه مالك غير هذا الحديث. وقد اتفق جماعة من الحفاظ على يحيى بن سعيد فى هذا الحديث وقالوا فيه: (تستحقون دم قاتلكم) ، يعنى يسلم إليكم القتيل؛ لأنه لم يقل: وتستحقون دية دم صاحبكم، والدليل على ذلك أنهم كانوا ادعوا قتل عمدٍ لا قتل خطأ، والذى يجب على قاتل العمد القود أو الدية إن اختار ذلك ولى القتل. وروى حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبى حثمة، ورافع بن خديج أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال للأنصار: (يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته) وهذه حجة قاطعة، وهذا الحديث بين أن قوله: (دم صاحبكم) معناه: القاتل؛ لأنه صاحبهم الذى قتل وليهم، وقد يصح أن يقولوا: هذا صاحبنا الذى ادعينا عليه أنه قتل ولينا، ويجوز أن يكون معناه وتستحقون دم قاتل صاحبكم؛ لأنه من ادعى إثبات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 538 شىء على صفة وحققه بيمينه فإن الذى يجب له هو الشىء الذى حققه بيمينه على صفته، فلو ادعى إتلاف عبد أو جارية أوثوب، وحلف عليه بعد نكول المدعى عليه حكم له بما ادعاه على صفته، ولم يجب له سواه، والدليل على ذلك قوله تعالى: (ولكم فى القصاص حياة) [البقرة: 179] فأخبر تعالى أن القصاص هو الذى يحيى النفوس؛ لأن القاتل إذا علم أنه يقتل انزجر عن القتل، وكفّ عنه أكثر من انزجاره إذا لزمته الدية، والناس فى وجوب القسامة على معنيين، فقوم اعتبروا اللوث فهم يطلبون ما يغلب على الظن، ويكون شبهة يتطرق بها إلى حراسة الدماء، ولم يطلب أحد فى القسامة الشهادة القاطعة ولا العلم البت، وإنما طلبوا شبهة وسموها لطخة؛ لأنه يلطخ المدعى عليه بها، وبهذا قال مالك والليث والشافعى إلا أنهم اختلفوا فى اللوث، فذهب مالك فى رواية ابن القاسم عنه أن اللوث الشاهد العدل، وروى عنه أشهب أنه غير العدل. وذهب الشافعى إلى أنه الشاهد العدل أو أن يأتى بينة مقترنة وإن لم يكونوا عدولا. قال: وكذلك لو دخل بيتًا مع قوم لم يكن معهم غيرهم، أو أن تكون جماعة فى صحراء فيفترقون عن قتيل، أو يوجد قتيل وإلى جنبه رجل معه سكين مخضوبة بالدّم، وليس ثم أثر تتبع ولا قدم إنسان آخر، ولا يقبل الشافعى قول المقتول: دمى عند فلان، قال: لأن السنة المجتمع عليها أنه لا يعطى أحد بدعواه شيئًا. وعند مالك والليث أن القسامة تجب باللوث أو بقول المقتول: دمى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 539 عند فلان. وقد تقدم فى باب من قتل بحجر أو بعصا، وقوم أوجبوا القسامة والدية بوجود القتيل فقط، واستغنوا عن مراعاة قول المقتول وعن الشاهد، وهذا قول الثورى والكوفيين، ولا قسامة عندهم إلا فى القتيل يوجد فى المحلة خاصة، قالوا: فإذا وجد قتيلاً فى محلة قوم وبه أثر؛ حلف أهل الموضع أنهم لم يقتلوه، ويكون عقله عليهم، وإذا لم يكن به أثر لم يكن على العاقلة شىء وهذا لا سلف لهم فيه. وحديث يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار خلاف قول الكوفيين؛ لأن النبى لم يحكم على اليهود بالدية بنفس وجود القتيل فى محلتهم، ولم يطالبهم بها بل أداها من عنده، ولو وجبت الدية على أهل المحلة لأوجبها (صلى الله عليه وسلم) على اليهود، وأما اشتراطهم أن يكون به أثر فليس بشىء؛ لأنه قد يقتل بما لا أثر به. قال ابن المنذر: والعجب من الكوفيين أنهم ألزموا العاقلة مالا بغير بينة ثبتت عليهم ولا إقرار منهم، ثم أعجب من ذلك إلزامهم العاقلة جناية عمد لا تثبت ببينة ولا إقرار؛ لأن الدعوى التى ادعاها المدعى لو ثبتت البينة لم يلزم ذلك العاقلة فكيف يجوز أن يلزموه بغير بينة والخطأ محيط بهذا القول من كل وجه. وذهب مالك والليث والشافعى إلى أن القتيل إذا وجد فى محلة قوم فهو هدر، لا يؤخذ به أقرب الناس دارًا ولا غيره؛ لأن القتيل قد يقتل ثم يلقى على باب قوم ليلطخوا به، فلا يؤخذ أحد بمثل ذلك، وقد قال عمر بن عبد العزيز: هذا مما يؤخر فيه القضاء حتى يقضى الله يوم القيامة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 540 وقال القاسم بن مسعدة: قلت للنسائى: مالك بالقسامة إلا بلوث، فلم أورد حديث القسامة ولا لوث فيه؟ قال النسائى: أنزل مالك العداوة التى كانت بينهم وبين اليهود بمنزلة اللوث، وأنزل اللوث أو قول الميت بمنزلة العداوة. وقال الشافعى: إذا كان من السبب الذى حكم فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وجبت القسامة، كانت خيبر دار يهود محضة، وكانت العداوة بينهم وبين الأنصار ظاهرة، وخرج عبد الله بن سهل بعد العصر فوجد قتيلا قبل الليل، فيكاد يغلب على من سمع هذا أنه لم يقتله إلا بعض اليهود. وكذلك قال أحمد: إذا كان بين القوم عداوة كما كان بين أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) وبين اليهود. ووجه قول مالك أن قول المقتول تجب به القسامة، أن الغالب من الإنسان أنه يتخوف عند الموت ويجهد فى التخلص من المظالم، ويرغب فيما عند الله ويحدث توبة ولا يقدم على دعوى القتل ظلمًا فصار أقوى من شهادة الشاهد، وأقوى من قول الشافعى أن الولى يقسم إذا كان بقرب وليه وهو مقتول ومع الرجل سكين؛ لأنه يجوز أن يكون غيره قتله، فضعف هذا اللوث، ووجب أن يستعمل ما هو أقوى منه، وهو قول المقتول: دمى عند فلان. قال ابن أبى زيد: وأصل هذا فى قصة بنى إسرائيل حين أحيا الله الذى ضرب بالبقرة، وقال: قتلنى فلان، فهذا يدل على قبول قول المقتول: دمى عند فلان؛ لأنه كان فى شرع بنى إسرائيل، وسواء كان قبل الموت أو بعده. واختلفوا فى العدد الذين يحلفون ويستحقون الدم، فقال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 541 مالك: لا يقسم فى دم العمد إلا اثنان فصاعدًا ترد الأيمان عليهما حتى يحلفا خمسين يمينًا وذلك الأمر عندنا، والحجة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) عرضها على ولاة الدم بلفظ جماعة، فقال: (أتحلفون وتستحقون) وأقل الجماعة اثنان فصاعدًا. وقال الليث: ما سمعت أحدًا ممن أدركت يقول أنه يقتصر على أقل من ثلاثة. وقال الشافعى: إذا ترك وارثًا استحق الدية بأن يقسم وارثه خمسين يمينًا. واحتج له أبو ثور: فقال: قد جعل الله للأولياء أن يقسموا، فإن لم يكن إلا واحدًا كان له ذلك، ولو لم تكن إلا ابنة وهى مولاته حلفت خمسين يمينًا، وأخذت الكل: النصف بالنسب والنصف بالولاء. قال ابن المنذر: وفى قوله: (تستحقون) دليل على ألا يمين لغير مستحق، وعلى ألا يحلف إلا وارث. وفى الحديث من الفقه: أن يسمع حجة الخصم على الغائب، وفيه أن أهل الذمة إذا منعوا حقا حقا رجعوا حربًا. وفيه مقاتلة من منع حقا حتى يؤديه، وفيه أن من صح عنده أمر ولم يحضره أن له أن يحلف عليه؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) عرض على أولياء المقتول اليمين ولم يحضروا بخيبر، وفيه وجوب رد اليمين على المدعى فى الحقوق. واختلف العلماء فى ذلك، فقالت طائفة أنه من ادعى حقا على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 542 آخر ولا بينة له؛ فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف برئ، وإن لم يحلف ردت اليمين على المدعى فإن حلف استحق، وإن لم يحلف فلا شىء له، روى هذا عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وهو قول شريح والشعبى والنخعى، وبه قال مالك والشافعى وأبو ثور. وذهب الكوفيون أن المدعى عليه إن لم يحلف لزمه الحق ولا ترد اليمين على المدعى، وكان أحمد لا يرى رد اليمين، وحجتهم فى ذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) حكم بالبينة على المدعى واليمين على المدعى عليه، فلما لم يجز نقل حجة المدعى وهى البينة عن الموضع الذى جعلها فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى جهة المدعى عليه كذلك لم يجز نقل حجة المدعى عليه وهى اليمين إلى المدعى؛ لأن قوله اليمين على المدعى عليه إيجاب عليه أن يحلف، فإذا امتنع مما يجب عليه أخذه الحاكم بالحق، هذا قول ابن أبى ليلى وغيره من أهل العلم، واحتج أهل المقالة الأولى بحديث القسامة، وقالوا: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) جعل اليمين فى جهة المدعى بقوله للأنصار: (تحلفون وتستحقون دم صاحبكم) فلما أبوا حولها إلى اليهود ليبرءوا بها، فلما وجدنا فى سنته (صلى الله عليه وسلم) أن المدعى قد تنقل إليه اليمين فى الدماء وحرمتها أعظم؛ جعلناها عليه فى الحقوق لنأخذ بالأوثق. قال ابن القصار: والمدعى عليه إذا نكل عن اليمين ضعفت جهته، وصار متهمًا، وقويت جهة المدعى؛ لأن الظاهر صار معه، فوجب أن تصير اليمين فى جهته لقوة أمره. وقد احتج الشافعى على الكوفيين فقال: رد اليمين فى كتاب الله تعالى فى آية اللعان أيضًا، وذلك أن الله جعل اليمين على الزوج الجزء: 8 ¦ الصفحة: 543 القاذف لزوجته إذا لم يأت بأربعة شهداء وجعل له بيمينه البراءة من حد القذف، وأوجب الحد على الزوجة إن لم تلتعن، فهذه يمين ردت على مدع كانت عليه البينة فى رميه زوجته فكيف ينكر من له فهم وإنصاف رد اليمين على المدعى. وقال ابن القصار: قد ذكر الله فى كتابه رد اليمين على المدعى الصادق؛ فقال لنبيه (صلى الله عليه وسلم) : (ويستنبئونك أحق هو قل إى وربى إنه لحق) [يونس: 53] ، وقال: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربى لتبعثن) [التغابن: 7] ،) وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربى لتأتينكم) [سبأ: 3] واحتج أيضًا بقوله تعالى: (أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم) [المائدة: 108] وقال أهل التفسير: يعنى تبطل أيمانهم وتؤخذ أيمان هؤلاء. والتشحط الاضطراب فى الدم. وقوله: (أترضون نفل خمسين) قال صاحب العين: يقال: انتفلت من الشىء انتفيت منه فنفل اليهود هو أيمانهم أنهم ما قتلوه وانتفاؤهم عن ذلك. فإن قال قائل: قد اختلفت ألفاظ حديث القسامة، فرواه سعيد بن عبيد، عن بشير بن يسار: (فوداه النبى (صلى الله عليه وسلم) مائة من إبل الصدقة) ورواه سائر الرواة عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن بشار: (فوداه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من عنده) فما وجه هذا الاختلاف، وإبل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 544 الصدقة للفقراء والمساكين، ولا تؤدى فى الديات، فما وجه تأديتها عن اليهود؟ فالجواب: أن رواية من روى: (فوداه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من عنده) تفسير رواية من روى: (دفع من إبل الصدقة) وذلك أن الرسول لما عرض الحكم فى القسامة على ولاة الدم بأن يحلفوا ويستحقوا الدم من اليمين ثم نفلهم إلى أن تحلف لهم يهود ويبرءوا من المطالبة بالدم. قالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار، وتعذر إنفاذ الحكم، خشى (صلى الله عليه وسلم) أن يبقى فى نفوس الأنصار ما تتقى عاقبته من مطالبتهم لليهود بعد حين، فرأى (صلى الله عليه وسلم) من المصلحة أن يقطع ذلك بينهم ووداه من عنده وتسلف ذلك من إبل الصدقة حتى يؤديها مما أفاء الله عليه من خمس المغنم؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يكن يجتمع عنده مما يصير له فى سهمانه من الإبل ما يبلغ مائة لإعطائه لها وتفريقها على أهل الحاجة لقوله: (ما لى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس وهو مردود إليكم) فمن روى (من إبل الصدقة) أخبر عن ظاهر الأمر ولم يعلم باطنه، والذى روى (من عنده) علم وجه القصة وباطنها، فلم يذكر إبل الصدقة، وكان فى غرم النبى لها صلحًا عن اليهود وجهان من المصلحة: أحدهما: أنه عوض أولياء المقتول دية قتيلهم، فسكن بذلك بعض ما فى نفوسهم وقطع العداوة بينهم وبين اليهود. والثانى: أنه استألف اليهود بذلك، وكان حريصًا على إيمانهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 545 - باب مَنِ اطَّلَعَ فِى بَيْتِ قَوْمٍ، فَفَقَئُوا عَيْنَهُ، فَلا دِيَةَ لَهُ / 35 - فيه: أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلا اطَّلَعَ مِنْ حُجْرٍ فِى بَعْضِ حُجَرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَامَ إِلَيْهِ بِمِشْقَصٍ، أَوْ بِمَشَاقِصَ، وَجَعَلَ يَخْتِلُهُ لِيَطْعُنَهُ. / 36 - وفيه: سَهْلَ أَنَّ رَجُلا اطَّلَعَ فِى جُحْرٍ فِى بَابِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْتَظِرُنِى؛ لَطَعَنْتُ بِهِ فِى عَيْنَيْكَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّمَا جُعِلَ الإذْنُ مِنْ قِبَلِ الْبَصَرِ) . / 37 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ) . اختلف العلماء فى هذه المسألة، فروى عن عمر بن الخطاب وأبى هريرة أنه لا دية فيه ولا قود، وبه قال الشافعى. وذكر ابن أبى زيد فى النوادر عن مالك مثله. قال الطحاوى: لم أجد لأبى حنيفة وأصحابه نصا فى هذه المسألة غير أن أصلهم أن من فعل شيئًا دفع به عن نفسه مما له فعله أنه لا يضمن ما تلف له، مثال ذلك المعضوض إذا انتزع يده من فى العاض فسقطت ثنيتاه أنه لا شىء عليه؛ لأنه دفع به عن نفسه عضه، فلما كان من حق صاحب البيت ألا يطلع أحد فى بيته قاصدًا لذلك؛ لأن له منعه ودفعه عنه كان ذهاب عينه هدرًا، على هذا يدل مذهبهم. وقال أبو بكر الرازى: ليس هذا بشىء ومذهبهم أنه يضمن؛ لأنه يمكنه أن يمنعه من الاطلاع فى بيته من غير فقء عينه بأن يزجره بالقول أو ينحيه عن الموضع، ولو أمكن المعضوض أن ينتزع يده من غير كسر سن العاض وكسرها ضمن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 546 وروى ابن عبد الحكم، عن مالك أن عليه القود، واحتج الشافعى بأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قام إلى الذى اطلع عليه بالمدرى وقال: (لو أعلم أنك تنتظرنى لفقأت عينك) ومثله (صلى الله عليه وسلم) لا يقول ما لا يجوز له أن يفعله، ومن فعل ما يجوز له لم يجب عليه قود. واحتج المالكيون بقوله تعالى: (والعين بالعين) [المائدة: 45] وقوله: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) [النحل: 126] قالوا: وهذه النصوص تدل على أن قوله: (لو أعلم أنك تنتظرنى لطعنت به فى عينك) إنما خرج منه على وجه التغليظ والزجر لا على أنه حكم وهذا كقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ومن قتل عبده قتلناه، ومن جدعه جدعناه، ومن غل فأحرقوا رحله واحرموه سهمه) ومثل ما هم بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة ولم يفعل. ومما يدل على أن الحديث خرج على التغليظ إجماعهم لو أن رجلا اطلع على عورة رجل أو سوءته أو على بيته، أو دخل داره بغير إذنه أنه لا يجب عليه فقء عينه، وهجوم الدار أشد عليه وأعظم أيضًا، فلو وجب فقء عينه لاطلاعه لوجب عليه ذلك بعد انصرافه؛ لأن الذنب والجرم الذى استحق ذلك من أجله قد حصل، وقد اتفقوا على أن من فعل فعلا استحق عليه العقوبة من قتل أو غيره أنه لا يسقط عنه، سواء كان فى موضعه أو قد فارقه. وقد روى عن أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) أنهم تواعدوا بما لم ينفذوه فروى الزهرى، عن عمر ابن الخطاب أنه قال لقيس بن مكسوح المرادى: (نبئت أنك تشرب الخمر. قال: والله يا أمير المؤمنين لقد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 547 أقللت وأسأت، وأما والله ما مشيت خلف ملك قط إلا حدثت نفسى بقتله. قال: فهل حدثت نفسك بقتلى؟ قال: لو هممت فعلت. قال: أما لو قلت نعم لضربت عنقك، اخرج لعنك الله، والله لا تبيت الليلة معى فيها، فقال له عبد الرحمن بن عوف: لو قال نعم ضربت عنقه؟ قال: لا، ولكن استرهبته بذلك) . وروى جرير بن عبد الحميد، عن عطاء بن السائب، عن أبى عبد الرحمن قال: قال على: لا أوتى برجل وقع بجارية امرأته إلا رجمته، فما كان إلا يسيرًا حتى أتى برجل وقع على جارية امرأته فقال: أخرجوه عنى أخزاه الله. - باب الْعَاقِلَةِ / 38 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيًّا رَضِى اللَّهُ عَنْهُ، هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِمَّا لَيْسَ فِى الْقُرْآنِ؟ وَقَالَ مَرَّةً: مَا لَيْسَ عِنْدَ النَّاسِ؟ فَقَالَ: وَالَّذِى فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا عِنْدَنَا إِلا مَا فِى الْقُرْآنِ، إِلا فَهْمًا يُعْطَى رَجُلٌ فِى كِتَابِهِ، وَمَا فِى الصَّحِيفَةِ، قُلْتُ: وَمَا فِى الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفِكَاكُ الأسِيرِ، وَأَنْ لا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. أجمع العلماء على القول بالعقل فى الخطأ لثبات ذلك عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وقد روى مالك، عن عبد الله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه أن فى الكتاب الذى كتبه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعمرو بن حزم فى العقول: (أن فى النفس مائة من الإبل، وفى الأنف إذا ادعى جدعًا مائة من الإبل، وفى المأمومة ثلث الدية، وفى الجائفة مثلها، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 548 وفى العين خمسون، وفى اليد خمسون، وفى كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل، وفى السن خمس، وفى الموضحة خمس) أرسل مالك حديث العقول، وزاد فيه معمر، عن عبد الله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، إن كان جده لم يدرك النبى (صلى الله عليه وسلم) وإنما الذى أدركه عمرو بن حزم، وفى إجماع العلماء على القول به ما يغنى عن الإسناد فيه. واختلف العلماء فى هذا الحديث فى الإبهام وفى الأسنان على ما تقدم قبل هذا، وأجمعوا على ما فى سائر الحديث من الديات، قال وجعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى النفس مائة من الإبل، وقومها عمر بن الخطاب بالذهب والورق، فجعل على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم. وقال مالك: أهل الذهب أهل الشام ومصر، وأهل الورق أهل العراق، كان صرفهم ذلك الوقت الدينار باثنى عشر درهمًا، وكانت قيمة الإبل ألف دينار، وإنما تقوم الأشياء بالذهب والورق خاصة على ما صنع عمر، هذا قول مالك والليث والكوفيين وأحد قولى الشافعى. وقال أبو يوسف ومحمد: يؤخذ فى الدية أيضًا البقر والخيل والشاة، وروى عن عمر أيضًا، وبه قال الفقهاء السبعة المدنيون. وقد قال مالك: لا يؤخذ فى الدية بقر ولا غنم ولا خيل إلا أن يتراضوا بذلك فيجوز، ولو جاز أن يقوم بالشاة والبقر والخيل لوجب تقويمها على أهل الخيل بالخيل، وعلى أهل الطعام بالطعام، وهذا لا يقوله أحد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 549 وأجمعوا أن الدية تقطع فى ثلاث سنين للتخفيف على العاقلة ليجمعوها فى هذه المدة، وقد تقدم فى كتاب العلم. - باب جَنِينِ الْمَرْأَةِ / 39 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى، فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِيهَا بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. / 40 - وفيه: عُرْوَةَ: أَنَّ عُمَرَ نَشَدَ النَّاسَ مَنْ سَمِعَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَضَى فِى السِّقْطِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: أَنَا، سَمِعْتُهُ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، قَالَ: ائْتِ مَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ عَلَى هَذَا، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا أَشْهَدُ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِمِثْلِ هَذَا. وَقَالَ الْمُغِيرَةَ مَرَةٍ: إِنِّ عُمَرَ اسْتَشَارَ فِى إِمْلاصِ الْمَرْأَةِ. قال مالك: دية جنين الحرة عشر ديتها، والعشر خمسون دينارًا أو ستمائة درهم؛ لأن دية الحرة المسلمة خمسمائة دينار أو ستة آلاف درهم وعلى هذا جمهور العلماء. وخالف ذلك الثورى وأبو حنيفة، فقال: قيمة الغرة خمسمائة درهم؛ لأن دية المرأة عندهم خمسة آلاف درهم على ما روى عن عمر بن الخطاب أنه جعل الدية على أهل الورق عشرة آلاف درهم، وهو مذهب ابن مسعود. وحجة مالك ومن وافقه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما حكم فى الجنين بغرة عبدٍ أو أمة، جعل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قيمة ذلك خمسًا من الإبل وهى عشر دية أمه، وذلك خمسون دينارًا أو ستمائة درهم، ورواية أهل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 550 الحجاز أنهم قوموا الدية اثنى عشر ألف درهم أصح عن عمر، وهو مذهب عثمان وعلى وابن عباس. قال مالك فى الموطأ: ولم أسمع أن أحدًا يخالف فى الجنين أنه لا تكون فيه الغرة حتى يزايل أمه ويسقط من بطنها ميتًا، وإن خرج من بطنها حيا ثم مات، ففيه الدية كاملة. قال غيره: والحجة لهذا القول أن الجنين إذا لم يزايل أمه فى حال حياتها فحكمه حكم أمّهِ ولا حكم له فى نفسه؛ لأنه كعضو منها فلا غرة فيه؛ لأنه تبع لأمه، وكذلك لو ماتت وهو فى جوفها لم يجب فيه شىء لا دية ولا قصاص، فإن زايلها قبل موتها ولم يستهل ففيه غرة عبد أو أمة؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما حكم فى جنين زايل أمه ميتًا وهذا مجمع عليه، وسواء كان الجنين ذكرًا أو أنثى إنما فيه غرة، فإذا زايل أمه واستهل ففيه الدية كاملة؛ لأن حكمه قد انفرد عن حكم أمه وثبتت حياته، فكان له حكم نفسه دون حكم أمه، ألا ترى أنها لو أعتقت أمه لم يكن عتقًا له، ولو أعتقت وهى حامل به كان حرا بعتقها ولا خلاف فى هذا أيضًا. قال أبو عبيد: إملاص المرأة: أن تلقى جنينها ميتًا يقال منه: أملصت المرأة إملاصًا، وإنما سمى بذلك؛ لأنها تزلقه، ولهذا قيل: أزلقت الناقة وغيرها، وكل شىء زلق من يدك فهو ملص يملص ملصًا، وأنشد الأحمر: فرَّ وأعطانى رِشاءً مَلِصا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 551 يعنى أنه تزلق من يدى فإذا فعلت أنت ذلك به قلت: أملصته إملاصًا. - باب جَنِينِ الْمَرْأَةِ، وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى الْوَالِدِ وَعَصَبَةِ الْوَالِدِ لا عَلَى الْوَلَدِ / 41 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَضَى فِى جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِى لَحْيَانَ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ، تُوُفِّيَتْ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا) . / 42 - وَقَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ مرة: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِى بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا. قال المؤلف: قوله فى آخر الحديث: (وأن العقل على عصبتها) يريد عقل دية المرأة المقتولة لا عقل دية الجنين، يبين ذلك قوله فى الحديث الآخر: (وقضى أن دية المرأة على عاقلتها) وقوله فى الترجمة: إن العقل على الوالد وعصبة الوالد لا على الولد: يعنى عقل المرأة المقتولة على والد القاتلة وعصبته. وقوله: (لا على الوالد) فإنما يريد بذلك أن ولد المرأة إذا كان من غير عصبتها لا يعقلون عنها، وكذلك الإخوة من الأم لا يعقلون عن أختهم لأمهم شيئًا؛ لأن العقل إنما جعل على العصبة دون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 552 ذووى الأرحام، ألا ترى قوله (أن ميراثها لزوجها وبنيها وعقلها على عصبتها) يريد أن من ورثها لم يعقل عنها حين لم يكن من عصبتها. قال ابن المنذر: وهذا قول مالك والكوفيين، والشافعى وأحمد بن حنبل، وأبى ثور وكل من أحفظ عنه. واختلفوا فى عقل الجنين، وهى الغرة على من تجب؟ فقالت طائفة: هى على العاقلة أيضًا، هذا قول النخعى والثورى والكوفيين والشافعى. وقال آخرون: هى فى مال الجانى، روى ذلك عن الحسن والشعبى وبه قال مالك والحسن بن صالح. والحجة لقول مالك قوله فى الحديث (وقضى دية المرأة على عاقلتها) ولم يذكر فى ذلك دية الغرة، هذا ظاهر الحديث، وأيضًا فإن عقل الجنين لا يبلغ ثلث الدية، ولا تحمل العاقلة عند مالك إلا لثلث فصاعدًا، هذا قول الفقهاء السبعة، وهو الأمر القديم عندهم. وحجة القول الأول: ما رواه أبو موسى الزمنى قال: حدثنا عثمان بن عمر، عن يونس، عن الزهرى فى حديث أبى هريرة: (أن الرسول قضى بديتها ودية جنينها على عاقلتها) وبما رواه مجالد بن سعيد، عن الشعبى، عن جابر (أن الرسول جعل غرة الجنين على عاقلة القاتلة) . وقال آخرون: إن المجالد بن سعيد ليس بحجة فيما انفرد به، وأبو موسى الزمنى، وإن كان ثقة، فلم يتابعه أحد على قوله: (ودية جنينها) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 553 واختلفوا لمن تكون الغرة التى تجب فى الجنين فذكر ابن حبيب أن مالكًا اختلف قوله فى ذلك فمرة قال: الغرة لأم الجنين، وهو قول الليث، وقال مرة: هى بين الأبوين، الثلثان للأب والثلث للأم. وهو قول أبى حنيفة والشافعى. وحجة القول الأول: إن الغرة إنما وجبت لأم الجنين؛ لأنه لم يعلم إن كان الجنين حيا فى وقت وقوع الضربة بأمه أم لا. وحجة القول الثانى: أن المرأة المضروبة لما ماتت من الضربة قضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيها بالدية مع قضائه بالغرة، فلو كانت الغرة للمرأة المقتولة إذًا لما قضى فيها بالغرة، ولكان حكم امرأة ضربتها امرأة فماتت من ضربتها فعليها ديتها، ولا تجب عليها للضربة أرش. وقد أجمعوا أنه لو قطع يدها خطأ فماتت من ذلك لم يكن لليد دية، ودخلت فىدية النفس، فلما حكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مع دية المرأة بالغرة ثبت بذلك أن الغرة دية الجنين لا لها، فهى موروثة عن الجنين كما يورث ماله لو كان حيا فمات. قال الطحاوى: وفى حكم النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الجنين بغرة ولم يحكم فيه بكفارة؛ حجة لمالك وأبى حنيفة على الشافعى فى إيجابه كفارة عتق رقبة على من تجب عليه الغرة ولا حجة له، ولو وجبت فيه كفارة لحكم بها (صلى الله عليه وسلم) ، والكفارة إنما تجب فى إتلاف روح، ولسنا على يقين فى أن الجنين كان حيا وقت ضربه أمه ولو أيقنا ذلك لوجبت فيه الدية كاملة، فلما أمكن أن يكون حيا تجب فيه الدية كاملة، وأمكن أن يكون ميتًا لا يجب فيه شىء؛ قطع النبى (صلى الله عليه وسلم) التنازع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 554 والخصام بأن جعل فيه غرة عبدًا أو أمة، ولم يجعل فيه كفارة. قاله ابن القصار. وفى هذا الحديث حجة لمن أوجب دية شبه العمد على العاقلة، وهو قول الثورى والكوفيين والشافعى. قالوا: من قتل إنسانًا بعصىً أو حجر أو شبهه، مما يمكن أن يموت به القتيل، ويمكن ألا يموت فمات من ذلك أن فيه الدية على عاقلة القاتل كما حكم النبى (صلى الله عليه وسلم) فى هذه القضية بدية المرأة على عاقلة القاتلة، قالوا: وهذا شبه العمد، والدية فيه مغلظة ولا قود فيه. وأنكر مالك والليث شبه العمد وقال مالك: هو باطل فكل ما عمد به القتل فهو عمد، وفيه القود. والحجة لهم ما روى أبو عاصم النبيل، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس، عن عمر (أنه نشد الناس: ما قضى به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى الجنين؟ فقام حمل ابن مالك، فقال: كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى جنينها بغرة وأن تقتل المرأة) . قالوا: وهذا مذهب عمر بن الخطاب، روى عنه أنه قال: يعمد أحدكم فيضرب أخاه بمثل أكلة اللحم، قال الحجاج: يعنى العصا، ثم يقول: لا قود علىَّ، لا أوتى بأحدٍ فعل ذلك إلا أقدته. قال المؤلف: فسألت بعض شيوخى عن حديث ابن جريج، عن عمرو بن دينار، فقال: الأحاديث التى جاء فيها الدية على العاقلة أصح منه؛ لأن ابن عيينة قد رواه عن عمرو بن دينار الجزء: 8 ¦ الصفحة: 555 ولم يذكر فيه قتل المرأة الضاربة بالمسطح، وكذلك رواه الحميدى، عن هشام بن سليمان المخزومى، عن ابن جريج مثل رواية ابن عيينة ولم يذكر فيه قتل المرأة، وروى شعبة، عن قتادة، عن أبى المليح، عن حمل بن مالك بن النابغة قال: (كانت لى امرأتان فضربت إحداهما الأخرى بحجر فأصابتها فقتلتها وهى حامل، فألقت جنينًا وماتت فقضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالدية على العاقلة، وقضى فى الجنين بغرة عبد أو أمة) . قال الطحاوى: فلما اضطرب حديث حمل بن مالك كان بمنزلة ما لم يرد فيه شىء، وثبت ما روى أبو هريرة والمغيرة فيها وهو نفى القصاص. ولما ثبت أن النبى (صلى الله عليه وسلم) جعل دية المرأة على العاقلة ثبت أن دية شبه العمد على العاقلة، وقد روى عن على بن أبى طالب أنه قال: شبه العمد بالعصا والحجر الثقيل، وليس فيهما قود. وقد تأول الأصيلى حديث أبى هريرة والمغيرة على مذهب مالك، فقال: يحتمل أن يكون لما وجب قتل المرأة تطوع قومها عاقلتها ببذل الدية لأولياء المقتولة، ثم ماتت القاتلة، فقبل أولياء المقتولة الدية، وقد يكون ذلك قبل موتها، فقضى عليهم النبى (صلى الله عليه وسلم) بأداء ما تطوعوا به إلى أولياء المقتولة. - باب مَنِ اسْتَعَانَ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا وَيُذْكَرُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ بَعَثَتْ إِلَى مُعَلِّمِ الْكُتَّابِ ابْعَثْ إِلَىَّ غِلْمَانًا يَنْفُشُونَ صُوفًا، وَلا تَبْعَثْ إِلَىَّ حُرًّا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 556 / 43 - فيه: أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمَدِينَةَ، أَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِى، فَانْطَلَقَ بِى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَنَسًا غُلامٌ كَيِّسٌ، فَلْيَخْدُمْكَ، قَالَ: فَخَدَمْتُهُ فِى الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَوَاللَّهِ مَا قَالَ لِى لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا، وَلا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا. قال المهلب: فى هذا دليل على جواز استخدام الأحرار وأولاد الجيران فيما لا كبير مشقة فيه وفيما لا يخاف عليهم منه التلف، كما استخدم النبى (صلى الله عليه وسلم) أنسًا وهو صغير فيما أطاقه وقوى عليه. قال غيره: اشتراط أم سلمة ألا يرسل إليها حرا؛ فلأن جمهور العلماء يقولون: من استعان صبيا حرا لم يبلغ أو عبدًا بغير إذن مولاه فهلكا فى ذلك العمل؛ فهو ضامن لقيمة العبد، وهو ضامن لديه الصبى الحر وهى على عاقلته. فإن حمل الصبى على دابة يسقيها أو يمسكها فوطئت الدابة رجلا فقتلته، فقال مالك فى المدونة: الدية على عاقلة الصبى، ولا ترجع على عاقلة الرجل. وهو قول الثورى. فإن استعان حرًا بالغًا متطوعًا أو بإجارة فأصابه شىء؛ فلا ضمان عليه عند جميعهم إن كان ذلك العمل لا غرر فيه، وإنما يضمن من جنى أو تعدى. واختلفوا إذا استعمل عبدًا بالغًا فى شىء فعطب. فقال ابن القاسم: إن استعمل عبدًا فى بئر يحفرها ولم يؤذن له فى الإجارة فهو ضامن إن عطب، وكذلك إن بعثه بكتاب إلى سفر. وروى ابن وهب، عن مالك قال: سواء أذن له سيده فى الإجارة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 557 أم لا، لا ضمان عليه فيما أصابه إلا أن يستعمله فى غرر كثير؛ لأنه لم يؤذن له فى الغرر. قال سحنون: وهذه الرواية أحسن من قول ابن القاسم وغيره. فإن قيل: فما وجه قوله: (ما قال لى لشىء لم أصنعه لِمَ لَمْ تصنع هذا هكذا) . وظاهره أنه تكرير يدخل فى القسم الأول. قيل: إنما أراد أنه لم يلمه فى القسم الأول على شىء فعله، وإن كان ناقصًا عن إرادته، ولا لامه فى القسم الآخر على شىء ترك فعله خشية الخطأ فيه، فتركه أنس من أجل ذلك، فلم يلمه النبى (صلى الله عليه وسلم) على تركه إذ كان يتجوزه منه لو فعله، وإن كان ناقصًا عن إرادته، وإلى هذا أشار بقوله هذا (هكذا) لأنه كما تجوز عنه ما فعله ناقصًا عن إرادته كذلك كان يتجوز عنه ما لم يفعله خشية مواقعة الخطأ فيه لو فعله ناقصًا لشرف خُلقه وحلمه (صلى الله عليه وسلم) . - باب الْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ / 44 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِى الرِّكَازِ الْخُمُسُ) . قال أبو عبيد: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (البئر جبار) هى البئر العادية القديمة التى لا يعلم لها حافر ولا مالك تكون فى البوادى يقع فيها إنسان أو دابة، فلذلك هدر، وإذا حفرها فى ملكه أو حيث يجوز حفرها فيه؛ لأنه صنع من ذلك ما يجوز له فعله، قال مالك: والذى يجوز له من ذلك البئر يحفرها للمطر، والدابة ينزل عنها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 558 الرجل لحاجة الرجل فيقفها فى الطريق؛ فليس على أحد فى هذا غرم، وإنما يضمن إذا فعل من ذلك ما لا يجوز له أن يصنعه على طريق المسلمين، فما أصابت من جرحٍ أو غيره، وكان عقله دون ثلث الدية فهو فى ماله، وما بلغ الثلث فصاعدًا فهو على العاقلة، وبهذا كله قال الشافعى وأبو ثور. وخالف ذلك أبو حنيفة وأصحابه فقالوا: من حفر بئرًا فى موضع يجوز له ذلك فيه أو أوقف دابة فليس ببئره من الضمان ما جاز إحداثه له كراكب الدابة يضمن ما عطب بها، وإن كان له أن يركبها أو يسير عليها، وهذا خلاف للحديث، ولا قياس مع النصوص. وقال أبو عبيد: أما قوله: (المعدن جبار) فإنها هذه المعادن التى يستخرج منها الذهب والفضة، فيجئ قوم يحفرونها بشىء مسمى لهم فربما انهارت عليهم المعدن فقتلتهم فنقول: دماؤهم هدر، ولا خلاف فى ذلك بين العلماء. واختلف مالك والليث فى رجل حفر بئرًا فى داره للسارق، أو وضع حبالات أو شيئًا يقتله به فعطب به السارق أو غيره فهو ضامن. وقال الليث: لا ضمان عليه. والحجة لمالك أنه لا يجوز له أن يقصد بفعل ذلك ليهلك به أحدًا لأنه متعد بهذا القصد، وقد يمكنه التحرز بغير ذلك، فإن حفر الحفير فى حائطه للسباع فعطب به إنسان فلا ضمان عليه؛ لأنه فعل ما له فعله، ولا غنى به عنه، ولم يقصد بالحفر تلف إنسان فيكون متعديًا، وقد روى معمر، عن همام بن منبه، عن أبى هريرة: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (البار جبار) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 559 وقال يحيى بن معين: أصله البئر جبار، ولكنه تصحف. قال ابن المنذر: وأهل اليمن يقولون: البار، فكتبها بعضهم بالياء، فرأى القارئ البير فظنها البار على لغته، فصحفها وإنما هو البئر جبار. - باب الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانُوا لا يُضَمِّنُونَ مِنَ النَّفْحَةِ، وَيُضَمِّنُونَ مِنْ رَدِّ الْعِنَانِ. وَقَالَ حَمَّادٌ: لا تُضْمَنُ النَّفْحَةُ إِلا أَنْ يَنْخُسَ إِنْسَانٌ الدَّابَّةَ، وَقَالَ شُرَيْحٌ لا تُضْمَنُ مَا عَاقَبَتْ أَنْ يَضْرِبَهَا فَتَضْرِبَ بِرِجْلِهَا. وَقَالَ الْحَكَمُ وَحَمَّادٌ: إِذَا سَاقَ الْمُكَارِى حِمَارًا عَلَيْهِ امْرَأَةٌ، فَتَخِرُّ لا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّعْبِىُّ: إِذَا سَاقَ دَابَّةً فَأَتْبَعَهَا، فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ، وَإِنْ كَانَ خَلْفَهَا مُتَرَسِّلا لَمْ يَضْمَنْ. / 45 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (الْعَجْمَاءُ عَقْلُهَا جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِى الرِّكَازِ الْخُمُسُ) . قال أبو عبيد: العجماء: الدابة، وإنما سميت عجماء لأنها لا تتكلم، وكذلك كل ما لا يقدر على الكلام فهو أعجم وأعجمى. والجُبارُ: الهدر الذى لا دية فيه، وإنما جعلت هدرًا إذا كانت منفلتة ليس لها قائد ولا راكب. قال ابن المنذر: وأجمع العلماء أنه ليس على صاحب الدابة المنفلتة ضمان فيما أصابت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 560 وما ذكره البخارى عن حماد وشريح والشعبى أنهم كانوا لا يضمنون النفحة إلا أن ينخس الدابة فعليه أكثر العلماء؛ لأن ما فعلته من أداء ذلك، فإنما هو جناية راكبها أو سائقها؛ لأنه الذى ولّدَ لها ذلك. قال مالك: فإن رمت من غير أن يفعل بها شيئًا ترمح له، فلا ضمان عليه، وهو قول الكوفى والشافعى. وأما قول ابن سيرين: كانوا لا يضمنون النفحة، ويضمنون من رد العنان، فالنفحة: ما أصابت برجلها. وفرق الكوفيون ما أصابت بيدها ورجلها، فقالوا: لا يضمن ما أصابت برجلها أو ذنبها وإن كانت بسببه، ويضمن ما أصابت بيدها ومقدمها. ولم يفرق مالك والشافعى بين ما أصابت بيدها أو برجلها أو بفمها فى وجوب الضمان على الراكب والقائد والسائق إذا كان ذلك من نخسه أو كبحه. واحتج الطحاوى للكوفيين فقال: لا يمكنه التحفظ من الرجل أو الذنب فهو جبار، ويمكنه التحفظ من اليد والفم فعليه ضمانه. قالوا: وقد روى سفيان بن حسين، عن الزهرى، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (الرجل جبار) . قال الشافعى: وهذا الحديث غلط؛ لأن الحفاظ لم يحفظوا هكذا. قال ابن القصار: فإن صح فمعناه: الرجل جبار بهذا الحديث، وتكون اليد جبارًا قياسًا على الرجل إذا كان بغير سببه ولا صنعه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 561 وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (العجماء جبار) ولم يخص يدًا من رجل، فهو على العموم. قال الشافعى: ومن اعتل أنه لا يرى رجلها فهو إذا كان سائقها لا يرى يدها فينتفى أن يلزمه فى القياس أن يضمن عن الرجل ولا يضمن عن اليد. وقول شريح: لا تضمن ما عاقبت به، فقد قيل له: وما عاقبت؟ قال: إن يضربها فتضربه. واختلفوا من هذا الباب فيما تفسده البهائم إذا انفلتت فى الليل والنهار، فقال مالك والشافعى: ما أفسدته المواشى إذا انفلتت بالنهار فليس على أهلها منه شىء إلا أن يكون صاحبها معها ويقدر على منعها، وما أفسدته بالليل فضمانه على أرباب المواشى. وقال الكوفيون: لا ضمان على أرباب البهائم فيما تفسده لا فى ليل ولا فى النهار إذا كانت منفلتة، إلا أن يكون راكبًا أو قائدًا أو سائقًا. وقال الليث: يضمن بالليل والنهار. واحتج الكوفيون بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (جرح العجماء جبار) ، وقالوا: لم يفرق بين جنايتها بالليل والنهار. وحجة القول الأول: حديث مالك، عن ابن شهاب، عن حرام بن سعيد: (أن ناقة للبراء دخلت حائط رجل فأفسدت زرعًا، فقضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن على أرباب الثمار حفظها بالنهار، وعلى أرباب المواشى حفظها بالليل وعليهم ضمان ما أفسدت بالليل) وهذا نص فى أن ما أفسدت بالنهار لا ضمان عليهم فيه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 562 قال ابن القصار: لما كان لأرباب الماشية تسريحها بالنهار وكان على أرباب الثمار حفظها بالنهار، فإذا فرطوا فى الحفظ لم يتعلق لهم على أرباب المواشى ضمان، ولما كان على أرباب المواشى حفظ مواشيهم بالليل فإن أصحاب الأموال ليس عليهم حفظ زروعهم بالليل، وفرط أهل المواشى فى ترك الحفظ لزمهم الضمان، وعلى هذا جرت العادة ورتبه النبى (صلى الله عليه وسلم) وهذا القول أولى بالصواب لوجوب الجمع بين حديث العجماء جبار وحديث ناقة البراء، وليس أحدهما أولى بالاستعمال من الآخر. ووجه استعمالهما أن يكون قوله: (العجماء جبار) فى النهار ولا يكون جبارًا فى الليل لحديث ناقة البراء. وأما قول الليث فمخالف لحديث ناقة البراء ولحديث العجماء جبار فلا وجه له. - باب إِثْمِ مَنْ قَتَلَ ذِمِّيًّا بِغَيْرِ جُرْمٍ / 46 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا) . قال المهلب: هذا دليل أن المسلم إذا قتل الذمىّ فلا يقتل به؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما ذكر الوعيد للمسلم وعظم الإثم فيه فى الآخرة، ولم يذكر بينهما قصاصًا فى الدنيا، وسيأتى بعد هذا. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لم يرح رائحة الجنة) معناه على الوعيد، وليس على الحتم والإلزام، وإنما هذا لمن أراد الله إنفاذ الوعيد عليه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 563 قال أبو عبيد: لم يرح رائحة الجنة، ويُرِحْ ويَرَحْ من أرحت، قال أبو حنيفة: أرحت الرائحة وأرحتها ورحتها إذا وجدتها. فإن قال قائل: مامعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا) وقد روى شعبة، عن الحكم بن عتيبة، سمعت مجاهدًا يحدث عن عبد الله بن عمرو، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من ادعى إلى غير أبيه لم يجد رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من قدر مسيرة سبعين عامًا) وقد جاء حديث فى الموطأ: (كاسيات عاريات، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها يوجد من مسيرة خمسمائة عام) فما وجه اختلاف المدد فى وجود ريح الجنة؟ قيل: يحتمل والله أعلم أن تكون الأربعون هى أقصى أشد العمر فى قول أكثر أهل العلم، فإذا بلغها ابن آدم زاد عمله ويقينه، واستحكمت بصيرته فى الخشوع لله والتذلل له، والندم على ما سلف له، فكأنه وجد ريح الجنة التى تبعثه على الطاعة وتمكن من قلبه الأفعال الموصلة إلى الجنة، فبهذا وجد ريح الجنة على مسيرة أربعين عامًا. وأما السبعون فإنها آخر المعترك، وهى أعلى منزلة من الأربعين فى الاستبصار، ويعرض للمرء عندها من الخشية والندم لاقتراب أجله ما لم يعرض له قبل ذلك، وتزداد طاعته بتوفيق الله، فيجد ريح الجنة على مسيرة سبعين عامًا. وأما وجه الخمسمائة عام فهى فترة ما بين نبى ونبى، فيكون من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 564 جاء فى آخر الفترة واهتدى باتباع النبى (صلى الله عليه وسلم) الذى كان قبل الفترة، ولم يضره طولها فوجد ريح الجنة على مسيرة خمسمائة عام، والله أعلم. - باب لا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ / 47 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيًّا: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِمَّا لَيْسَ فِى الْقُرْآنِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفِكَاكُ الأسِيرِ، وَأَنْ لا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. ذهب جمهور العلماء إلى ظاهر الحديث، وقالوا: لا يقتل مسلم بكافر على وجه القصاص، روى ذلك عن عمر وعثمان وعلى وزيد بن ثابت، وبه قال جماعة من التابعين وهو مذهب مالك والأوزاعى والليث والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، إلا أن مالكًا والليث قالا: إن قتله غيلة قتل به، وقتل الغيلة عندهم أن يقتله على ماله كما يصنع قاطع الطريق لا يقتله لثائرة ولا عداوة. وذهب أبو حنيفة وأصحابه وابن أبى ليلى إلى أنه يقتل المسلم بالذمى، ولا يقتل بالمستأمن والمعاهد، وهو قول سعيد بن المسيب والشعبى والنخعى، وحكم المستأمن والمعاهد عندهم حكم أهل الحرب. واحتج الكوفيون بما رواه ربيعة عن ابن البيلمانى: (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قتل رجلا من المسلمين برجل من أهل الذمة، وقال: أنا أحق من وفى بذمته) . قال ابن المنذر: وهذا حديث منقطع، وقد أجمع أهل الحديث على ترك المتصل من حديث ابن البيلمانى فكيف بالمنقطع؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 565 وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يقتل المؤمن بكافر) حجة قاطعة فى هذا الباب لثباته عنه (صلى الله عليه وسلم) ، فلا معنى لمن خالفه. واحتج الكوفيون بالإجماع على أن المسلم تقطع يده إذا سرق من مال ذمى؛ فنفسه أحرى أن تؤخذ بنفسه، وهذا قياس حسن لولا أنه باطل بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يقتل مسلم بكافر) . فإن قالوا: قد قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد فى عهده) يعنى بكافر؛ لأنه معلوم أن الإسلام يحقن الدم، والعهد يحقن الدم. قيل: بهذا الحديث علمنا أن المعاهد يحرم دمه، وهى فائدة الخبر ومحال أن يأمر تعالى بقتل الكافر حيث وجد ثم يقول: إذا قتلوهم قتلوا بهم. والمعنى: لا يقتل مؤمن بكافر على العموم فى كل كافر، ولا يقتل ذو عهد فى عهده قصة أخرى، وهو عطف على (لا يقتل) لأن هذا الذى أضمر لو أظهر فقيل: لا يقتل مؤمن بكافر، ولا يقتل ذو عهد فى عهده، ولو أفرد وحده. فقيل: لا يقتل ذو عهد ولم يكن قبله كلام لكان مستقيمًا، وإنما ضم هذا الكلام إلى القصة التى قبلها والله أعلم ليعلموا حين قيل لهم لا يقتل مؤمن بكافر أنهم نهوا عن قتل ذى العهد فى عهده فاحتمل ذلك فى كل ذى عهد من أهل الذمة المقيمين فى دار الإسلام، وفيمن دخل بأمان وهو فى معنى قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره) [التوبة: 6] الآية، فأعلم الله ذلك عباده. قاله إسماعيل بن إسحاق وابن القصار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 566 وأما قول مالك والليث أن المسلم إذا قتل الكافر قتل غيلة قتل به، فمعنى ذلك أن قتل الغيلة إنما هو من أجل المال، والمحارب والمغتال إنما يقتلان لطلب المال لا لعداوة بينهما، فقتل العداوة والثائرة خاص وقتل المغتال عام فضرره أعظم؛ لأنه من أهل الفساد فى الأرض، وقد أباح الله قتل الذين يسعون فى الأرض بالفساد سواء قتل أو لم يقتل، فإذا قتل فقد تناهى فساده، وسواء قتل مسلمًا أو كافرًا أو حرًا أو عبدًا. - باب إِذَا لَطَمَ الْمُسْلِمُ يَهُودِيًّا عِنْدَ الْغَضَبِ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . / 48 - فيه: أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِكَ مِنَ الأنْصَارِ، قَدْ لَطَمَ وَجْهِى، فَقَالَ: ادْعُوهُ، فَدَعَوْهُ، فَقَالَ: أَلَطَمْتَ وَجْهَهُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى مَرَرْتُ بِالْيَهُودِى، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَالَّذِى اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ، قَالَ: قُلْتُ: أَعَلَى مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: فَأَخَذَتْنِى غَضْبَةٌ فَلَطَمْتُهُ، قَالَ: لا تُخَيِّرُونِى مِنْ بَيْنِ الأنْبِيَاءِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ، فَلا أَدْرِى أَفَاقَ قَبْلِى، أَمْ جُوزِىَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ) فيه من الفقه: أنه لا قصاص بين مسلم وكافر وهو قول جماعة الفقهاء، والدليل على ذلك من هذا الحديث أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يقاص اليهودى من لطمة المسلم له، ولو كان بينهما قصاص لبينه (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه بعث معلمًا وعليه فرض التبليغ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 567 فإن قيل: إن الكوفيين يرون قتل المسلم بالكافر فيجب أن يكون على قولهم بينه وبين المسلم قصاص فى اللطمة. قيل: إن الكوفيين لا يرون القصاص بين المسلمين فى اللطمة ولا الأدب، إلا أن يجرحه ففيه الأرش، والكافر والمسلم أحرى ألا يرون بينهما قصاصًا، فالمسألة إجماع. قال المهلب: وفيه جواز رفع المسلم إلى السلطان بشكوى الكافر به. وفيه: خلق النبى (صلى الله عليه وسلم) وما جبله الله عليه من التواضع وحسن الأدب فى قوله: (لا تخيرونى من بين الأنبياء) فذلك كقول أبى بكر الصديق: وليتكم ولست بخيركم. وقد تقدم، فينبغى لأهل الفضل والاقتداء بالنبى (صلى الله عليه وسلم) وأبى بكر فى ذلك، فإن التواضع من أخلاق الأنبياء والصالحين. وقد روى أبو هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (من أحب أن ينظر إلى تواضع عيسى ابن مريم، فلينظر إلى أبى ذر) ذكره ابن أبى شيبة. وفيه: أن العرش جسم وأنه ليس العلم كما قال سعيد بن جبير لقوله: (آخذ بقائمة من قوائم العرش) والقائمة لا تكون إلا جسمًا، ومما يؤيد هذا قوله تعالى: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) [الحاقة: 17] ومحال أن يكون المحمول غير جسم؛ لأنه لو كان روحانيًا لم يكن فى حمل الملائكة الثمانية له عجب، ولا فى حمل واحد، فلما عجب الله تعالى بحمل الثمانية له؛ علمنا أنه جسم؛ لأن العجب فى حمل الثمانية للعرش لعظمته وإحاطته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 568 64 - كِتَاب اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ وَالْمُعَانِدِينَ وَقِتَالِهِمْ - باب إِثْمِ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13] ، وَقَالَ: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر: 65] . / 1 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: (لَمَّا نَزَلَتْ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ، أَلا تَسْمَعُونَ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ () [لقمان: 13] . / 2 - وفيه: أَبُو بَكْرَةَ قَالَ،: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ. . . الحديث. / 3 - وفيه: ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: مَنْ أَحْسَنَ فِى الإسْلامِ، لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِى الإسْلامِ أُخِذَ بِالأوَّلِ وَالآخِرِ) . قال المؤلف: لا إثم أعظم من إثم الإشراك بالله، ولا عقوبة أعظم من عقوبته فى الدنيا والآخرة؛ لأن الخلود الأبدى فى النار لا يكون فى ذنب غير الشرك بالله تعالى ولا يحبط الإيمان غيره؛ لقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 48] وإنما سمَّى الله الشرك ظلمًا؛ لأن الظلم عند العرب وضع الشىء فى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 569 غير موضعه؛ لأنه كان يجب عليه الاعتراف بالعبودية والإقرار بالربوبية لله تعالى حين أخرجه من العدم إلى الوجود، وخلقه من قبل ولم يك شيئًا، ومنَّ عليه بالإسلام والصحة والرزق إلى سائر نعمه التى لا تحصى. وقد ذكر بعض المفسرين فى قوله تعالى: (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) [لقمان: 20] أن رجلا من العباد عد نفسه فى اليوم والليلة، فوجد ذلك أربعة عشر ألف نفس، فكم يرى لله على عباده من النعم فى غير النفس مما يعلم ومما لا يعلم، ولا يهتدى إليه، وقد أخبر الله تعالى أن من بدل نعمة الله كفرًا فهو صال فى جهنم، فقال تعالى: (ألم ترى إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار) [إبراهيم: 28، 29] . قال المهلب: وأما حديث ابن مسعود فمعناه: من أحسن فى الإسلام بالتمادى عليه ومحافظته، والقيام بشروطه؛ لم يؤاخذ بما عمل فى الجاهلية، وأجمعت الأمة أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله. وأما قوله: (من أساء فى الإسلام) فمعناه: من أساء فى عقد الإسلام والتوحيد، بالكفر بالله، فهذا يؤخذ بكل كفر سلف له فى الجاهلية والإسلام، فعرضت هذا القول على بعض العلماء فأجازوه، وقالوا: لا معنى لحديث ابن مسعود غير هذا، ولا تكون هذه الإساءة إلا الكفر؛ لأجماع الأمة أن المؤمنين لا يؤاخذون بما عملوا فى الجاهلية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 570 - باب حُكْمِ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ وَاسْتِتَابَتْهمَا وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالزُّهْرِىُّ وَإِبْرَاهِيمُ تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ (الآيات، وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (، [آل عمران: 100] وَقَالَ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا (إِلَى) سَبِيلا) [النساء: 137] . وَقَالَ: (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (، [المائدة: 54] . وَقَالَ: (وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا (إِلَى) الْغَافِلُونَ لا جَرَمَ (، [النحل: 106] يَقُولُ حَقًّا،) أَنَّهُمْ فِى الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [النحل: 109] إِلَى) لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل: 110] ،) وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا (إِلَى) خَالِدُون) [البقرة: 217] . / 4 - فيه: عِكْرِمَةَ، قَالَ: أُتِىَ عَلِىٌّ بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمْ لِنَهْىِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : لا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ، وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) . / 5 - وفيه: أَبُو مُوسَى أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) بعثه إِلَى الْيَمَنِ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ إِذَا رَجُلٌ مُوثَقٌ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ تَهَوَّدَ، قَالَ: اجْلِسْ، قَالَ: لا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. اختلف العلماء فى استتابة المرتد، فروى عن عمر بن الخطاب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 571 وعثمان وعلى وابن مسعود أنه يستتاب؛ فإن تاب وإلا قتل، وهو قول أكثر العلماء. وقالت طائفة: لا يستتاب ويجب قتله حين يرتد فى الحال، روى ذلك عن الحسن البصرى وطاوس وذكره الطحاوى عن أبى يوسف، وبه قال أهل الظاهر، واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من بدل دينه فاقتلوه) قالوا: ولم يذكر فيه استتابةً، وكذلك حديث معاذ وأبى موسى قتلوا المرتد بغير استتابة. قال الطحاوى: جعل أهل هذه المقالة حكم المرتد حكم الحربيين إذا بلغتهم الدعوة أنه يجب قتالهم دون أن يؤذنوا قال: وإنما تجب الاستتابة لمن خرج عن الإسلام لا عن بصيرة منه، فأما إن خرج منه عن بصيرة فإنه يقتل دون استتابة. قال أبو يوسف: إن بدر بالتوبة، خليت سبيله ووكلت أمره إلى الله تعالى. قال ابن القصار: والدليل على أنه يستتاب الإجماع، وذلك أن عمر بن الخطاب قال فى المرتد: هلا حبستموه ثلاثة أيام، وأطعتموه كل يوم رغيفًا لعله يتوب فيتوب الله عليه، اللهم لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغنى. ولم يختلف الصحابة فى استتابة المرتد، فكأنهم فهموا من قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من بدل دينه فاقتلوه) ، أن المراد بذلك إذا لم يتب، والدليل على ذلك قوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) [التوبة: 5] فهو عموم فى كل كافر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 572 وأما حديث معاذ وأبى موسى فلا حجة فيه لمن لم يقل بالاستتابة؛ لأنه روى أنه قد كان استتابه أبو موسى، روى أبو بكر بن أبى شيبة قال: حدثنا عباد بن العوام، عن سعيد، عن قتادة، عن حميد بن هلال: (أن معاذًا أتى أبا موسى وعنده يهودى أسلم، ثم ارتد، وقد استتابه أبو موسى شهرين فقال معاذ: لا أجلس حتى أضرب عنقه) . واختلفوا فى استتابة المرتدة، فروى عن على بن أبى طالب أنها لا تستتاب وتسترق، وبه قال عطاء وقتادة وروى الثورى عن بعض أصحابه، عن عاصم بن بهدلة، عن أبى رزين، عن ابن عباس قال: لا تقتل النساء إذا هن ارتددن عن الإسلام، ولكن يحبسن ويجبرن عليه. ولم يقل بهذا جمهور العلماء، وقالوا: لا فرق بين استتابة المرتد والمرتدة، وروى عن أبى بكر الصديق مثله. وشذ أبو حنيفة وأصحابه فقالوا بما روى عن ابن عباس فى ذلك، وقالوا: إن ابن عباس روى عن الرسول: (من بدل دينه فاقتلوه) ولم ير قتل المرتدة فهو أعلم بمخرج الحديث، واحتجوا بأن الرسول نهى عن قتل النساء، قالوا: والمرتدة لا تقتل، فوجب أن لا تقتل كالحربية. وحجة الجماعة أنها تستتاب قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من بدل دينه فاقتلوه) ولفظ (من) يصلح للذكر والأنثى فهو عموم يدخل فيه الرجال والنساء؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يخص امرأة من رجل. قال ابن المنذر: وإذا كان الكفر من أعظم الذنوب وأجل جُرم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 573 اجترمه المسلمون من الرجال والنساء، ولله أحكام فى كتابه، وحدود دون الكفر ألزمها عباده، منها الزنا والسرقة وشرب الخمر وحد القذف والقصاص وكانت الأحكام والحدود التى هى دون الارتداد لازمة للرجال والنساء مع عموم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من بدل دينه فاقتلوه) فكيف يجوز أن يفرق أحد بين أعظم الذنوب فيطرحه عن النساء ويلزمهن ما دون ذلك؟ هذا غلط بَيِّن. وأما حديث ابن عباس فإنما رواه أبو حنيفة، عن عاصم، وقد قال أحمد بن حنبل: لم يروه الثقات من أصحاب عاصم كشعبة وابن عيينة وحماد بن زيد، وإنما رواه الثورى، عن أبى حنيفة، وقد قال أبو بكر بن عياش: قلت لأبى حنيفة: هذا الذى قاله ابن عباس إنما قاله فيمن أتى بهيمة أنه لا قتل عليه، لا فى المرتدة، فتشكك فيه وتلون لم يقم به، فدل أنه خطأ. ولو صح لكان قول ابن عباس معارضه؛ لأن أبا بكر الصديق مخالف له، وقد قال: تستتاب المرتدة. ثم يرجع إلى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من بدل دينه فاقتلوه) الذى هو الحجة على كل أحد. وأما قياسهم لها على الحربية فالفرق بينهما أن الحربية إنما لم تقتل إذ لم تقاتل؛ لأن الغنيمة تتوفر بترك قتلها؛ لأنها تسبى وتسترق، والمرتدة: لا تسبى ولا تسترق، فليس فى استبقائها غنم. واختلفوا فى الزنديق هل يستتاب؟ فقال مالك والليث وأحمد وإسحاق: يقتل ولا تقبل توبته. قال مالك: والزنادقة: ما كان عليه المنافقون من إظهار الإيمان وستر الكفر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 574 واختلف قول أبى حنيفة وأبى يوسف؛ فمرة قالا: يستتاب، ومرة قالا: لا يستتاب. وقال الشافعى: يستتاب الزنديق كما يستتاب المرتد. وهو قول عبيد الله بن الحسن. وذكر ابن المنذر، عن على بن أبى طالب مثله. وقيل لمالك: لم يقتل الزنديق ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يقتل المنافقين وقد عرفهم؟ فقال: لأن توبته لا تعرف، وأيضًا فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لو قتلهم وهم يظهرون الإيمان لكان قتلهم بعلمه، ولو قتلهم بعلمه؛ لكان ذريعة إلى أن يقول الناس قتلهم للضغائن والعداوة، ولامتنع من أراد الإسلام من الدخول فيه إذا رأى النبى (صلى الله عليه وسلم) يقتل من دخل فى الإسلام؛ لأن الناس كانوا حديث عهد بالكفر. هذا معنى قوله، وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لئلا يقول الناس أنه يقتل أصحابه) . واحتج الشافعى بقوله تعالى فى المنافقين: (واتخذوا أيمانهم جنة) [المجادلة: 16، المنافقون: 2] قال: وهذا يدل على أن إظهار الإيمان جنة من القتل وقد جعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الشهادة بالأيمان تعصم الدم والمال، فدل أن من أهل القبلة من يشهد بها غير مخلص، وأنها تحقن دمه وحسابه على الله. وقد أجمعوا أن أحكام الدين على الظاهر، وإلى الله السرائر، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) لخالد بن الوليد حين قتل الذى استعاذ بالشهادة: (هلا شققت عن قلبه) فدل أنه ليس له إلا ظاهره. قال: وأما قولهم أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يقتل المنافقين لئلا يقولوا أنه قتلهم بعلمه وأنه يقتل أصحابه، قيل: وكذلك لم يقتلهم بالشهادة عليهم كما لم يقتلهم بعلمه، فدل أن ظاهر الإيمان جنة من القتل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 575 وفى سنته (صلى الله عليه وسلم) فى المنافقين دلالة على أمور: منها: أنه لا يقتل من أظهر التوبة من كفر بعد إيمان. ومنها: أنه حقن دماءهم، وقد رجعوا إلى غير يهودية ولا نصرانية ولا دين يظهرونه، إنما أظهروا الإسلام وأسروا الكفر، فأقرهم (صلى الله عليه وسلم) على أحكام المسلمين، فناكحوهم ووارثوهم، وأسهم لمن شهد الحرب منهم، وتركوا فى مساجد المسلمين، ولا أبين كفرًا ممن أخبر الله تعالى عن كفره بعد إيمانه. 3 - باب قَتْلِ مَنْ أَبَى قَبُولَ الْفَرَائِضِ وَمَا نُسِبُوا إِلَى الرِّدَّةِ / 6 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ عُمَرُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّى مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لأقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِى عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا، قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلا أَنْ رَأَيْتُ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ. قال المهلب: من أبى قبول الفرائض فحكمه مختلف، فمن أبى من أداء الزكاة وهو مقر بوجوبها، فإن كان بين ظهرانى المسلمين، ولم ينصب الحرب، ولا امتنع بالسيف؛ فإنه يؤخذ من ماله جبرًا، ويدفع إلى المساكين ولا يقتل. وقال مالك فى الموطأ: الأمر عندنا فيمن منع فريضة من فرائض الجزء: 8 ¦ الصفحة: 576 الله، فلم يستطع المسلمون أخذها منه كان حقا عليهم جهاده حتى يأخذوها منه. ومعناه: إذا أقر بوجوبها، لا خلاف فى ذلك. قال المهلب: وإنما قاتل أبو بكر الصديق الذين منعوا الزكاة؛ لأنهم امتنعوا بالسيف، ونصبوا الحرب للأمة. واجمع العلماء أن من نصب الحرب فى منع فريضة، أو منع حقا يجب عليه لآدمى أنه يجب قتاله، فإن أبى القتل على نفسه فدمه هدر. قال ابن القصار: وأما الصلاة فإن مذهب الجماعة أن من تركها عامدًا جاحدًا لها فحكمه حكم المرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكذلك جحد سائر الفرائض، وإنما اختلفوا فيمن تركها لغير عذر غير جاحد لها، وقال: لست أفعلها؛ فمذهب مالك: أن يقال له صل ما دام الوقت باقيًا من الوقت الذى ظهر عليه، فإن صلى ترك، وإن امتنع حتى خرج الوقت قتل. قال ابن القصار: واختلف أصحابنا، فقال بعضهم: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وقال بعضهم: يقتل؛ لأن هذا حد لله يقام عليه، لا تسقطه التوبة بفعل الصلاة وهو بذلك فاسق، كالزانى والقاتل، وليس بكافر، وبهذا قال الشافعى. قال الثورى وأبو حنيفة والمزنى: لا يقتل بوجه، ويخلى بينه وبين الله تعالى. والمعروف من مذهب الكوفييون أن الإمام يعزره حتى يصلى. وقال أحمد بن حنبل: تارك الصلاة مرتد كافر، وماله فئ لا يورث، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 577 ويدفن فى مقابر المشركين، وسواء ترك الصلاة جاحدًا لها أو تكاسلاً. ووافق الجماعة فى سائر الفرائض أنه إذا تركها لا يكفر. واحتج الكوفييون فقالوا: أجمع العلماء أن تارك الصلاة يؤمر بفعلها، والمرتد لا يؤمر بفعل الصلاة، وإنما يؤمر بالإسلام ثم بالصلاة. واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (خمس صلوات كتبهن الله على عباده، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئًا استخفافًا بحقهن كان له عند الله عهد إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة) فدل أنه ليس بكافر، لأن الكافر لا يدخل الجنة، وحجة القول الأول قوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) [التوبة: 5] فأمر بقتلهم إلا أن يتوبوا، والتوبة هى اعتقاد الإيمان الذى من جملته اعتقاد وجوب الصلاة وسائر العبادات. ألا ترى إلى قول أبى بكر الصديق: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. فلم ينكر ذلك عليه أحد، ولا قالوا: لا تشبه الصلاة الزكاة. وروى جابر عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (بين الإيمان والكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر) . والرد على أحمد بن حنبل من قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له) وقد ثبت أن الكافر يدخل النار لا محالة، فلا يجوز أن يقال فيه مثل هذا، فعلمنا أنه (صلى الله عليه وسلم) قصد من تركها وهو معتقد لوجوبها لا جاحدًا؛ لأن الجاحد يدخل النار لا محالة، ولا حجة لأحمد فى إباءة إبليس من السجود وصار بذلك كافرًا؛ لأنه عاند الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 578 واستكبر، ورد على الله أمره فجاهر بالمعصية لله، فهو أشد من الجاحد أو مثله؛ لأنه جحدها واستيقنتها نفسه. وقال ابن أبى زيد: الدليل على أن تارك الفرائض غير جاحد لها فاسق وليس بكافر؛ إجماع الأمة أنهم يصلون عليه، ويورث بالإسلام، ويدفن مع المسلمين. وروى عيسى، عن ابن القاسم، عن مالك أنه قال: من قال: لا أحج فلا يجبر على ذلك، وليس كمن قال: لا أتوضأ، ولا أصوم رمضان، فإن هذا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، كقوله: لا أصلى. قال المهلب: والفرق بين الحج وسائر الفرائض أن الحج لا يتعلق وجوبه بوقت معين، وإنما هو على التراخى والإمهال إلى الاستطاعة، وذلك موكول إلى دين المسلم وأمانته، فلو لزم فيه الفور لقيده الله بوقت كما قيد الصلاة والصيام بأوقات. ومما يدل أن الحج ليس على الفور، وغير لازم فى الفروض الموقتة، ألا ترى أن المصلى لا تلزمه الصلاة عند زوال الشمس، وهو فى سعة عن الفور إلى أن يدرك ركعة من آخر وقتها ولم يكن بتأخيرها عن أول وقتها مضيعًا، كذلك فيما لم يوقت له وقت أولى بالإمهال والتراخى، والله الموفق. وميراث المرتد مذكور فى كتاب الفرائض، وأما حكم ولد المرتد فلا يخلو أن يكون ولده صغيرًا أو كبيرًا، فإن كان كبيرًا فحكمه حكم نفسه لا حكم أبيه، وكذلك إن كان صغيرًا لم يبلغ؛ لأنه قد صح له عقد الإسلام إذا ولد وأبوه مسلم، فلا يكون مرتدا بارتداد أبيه، ولا أعلم فى ذلك خلافًا، فإن ادعى الكفر عند بلوغه استتيب، فإن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 579 تاب وإلا قتل، وقد تقدم فى كتاب الزكاة وجه استرقاق الصديق لورثتهم وسبيهم، وحكم عمر برد سبيهم إلى عشائرهم، ومذهب العلماء فى ذلك. 4 - باب إِذَا عَرَّضَ الذِّمِّىُّ وَغَيْرُهُ بِسَبِّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَمْ يُصَرِّحْ نَحْوَ قَوْلِهِ السَّامُ عَلَيْكم / 7 - فيه: أَنَسِ: مَرَّ يَهُودِيٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : وَعَلَيْكَ، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا نَقْتُلُهُ؟ قَالَ: لا، إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ) . / 8 - وفيه: عَائِشَةَ اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأمْرِ كُلِّهِ، قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ) . / 9 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الْيَهُودَ إِذَا سَلَّمُوا عَلَى أَحَدِكُمْ، إِنَّمَا يَقُولُونَ: سَامٌ عَلَيْكَ، فَقُلْ: عَلَيْكَ) . / 10 - وفيه: ابْنِ مَسْعُودٍ كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَحْكِى نَبِيًّا مِنَ الأنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، فَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِى، فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ. اختلف العلماء فيمن سب النبى (صلى الله عليه وسلم) فروى ابن القاسم عن مالك أنه من سبه (صلى الله عليه وسلم) من اليهود والنصارى قتل إلا أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 580 يسلم، فأما المسلم فيقتل بغير استتابة، وهو قول: الليث والشافعى وأحمد وإسحاق، عن ابن المنذر. وروى الوليد بن مسلم، عن الأوزاعى ومالك فيمن سب النبى (صلى الله عليه وسلم) قالا: هى ردة يستتاب منها فإن تاب نكل، وإن لم يتب قتل. وقال الكوفيون: من سب النبى (صلى الله عليه وسلم) أو عابه فإن كان ذميا عزر ولم يقتل. وهو قول الثورى وأبى حنيفة وإن كان مسلمًا صار مرتدًا يقتل ولم يقتلهم النبى (صلى الله عليه وسلم) بذلك؛ لأن ما هم عليه من الشرك أعظم من سبه (صلى الله عليه وسلم) . وحجة من رأى القتل على الذمى بسبه أنه قد نقض العهد الذى حقن دمه؛ إذا لم يعاهد على سبه، فلما تعدى عهده عاد إلى حال كافر لا عهد له فوجب قتله إلا أن يسلم؛ لأن القتل إنما كان وجب عليه من أجل نقضه للعهد الذى هو من حقوق الله، فإذا أسلم ارتفع المعنى الذى من أجله وجب قتله. وقال محمد بن سحنون: وقولهم إن من دينهم سب النبى (صلى الله عليه وسلم) فيقال لهم: وكذلك من دينهم قتلنا وأخذ أموالنا، فلو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 581 قتل واحدًا منا لقتلناه لأنا لم نعطهم العهد على ذلك، وكذلك سبه (صلى الله عليه وسلم) إذا أظهر. فإن قيل: فهو إذا أسلم وقد سب النبى (صلى الله عليه وسلم) تركتموه، وإذا أسلم وقد قتل مسلمًا قتلتموه. قيل: لأن هذا من حقوق العباد لا يزول بإسلامه، وذلك من حقوق الله يزول بالتوبة من دينه إلى ديننا، وحجة أخرى وهو أن الرسول قال: (من لكعب بن الأشرف؛ فإنه قد آذى الله ورسوله) فقتله محمد بن مسلمة، والسب من أعظم الأذى، وكذلك قتل (صلى الله عليه وسلم) ابن خطل يوم فتح مكة والقينتين اللتين كانتا تغنيان بسبه، ولم ينفع ابن خطل استعاذته بالكعبة. وقال محمد بن سحنون: وفرقنا بين من سب النبى (صلى الله عليه وسلم) من المسلمين، وبين من سبه من الكفار، فقتلنا المسلم ولم نقبل توبته؛ لأنه لم ينتقل من دينه إلى غيره، إنما فعل شيئًا حده عندنا القتل، ولا عفو فيه لأحد، فكان كالزنديق الذى لا تقبل توبته؛ لأنه لم ينتقل من ظاهر إلى ظاهر، والكتابى كان على الكفر، فلما انتقل إلى الإسلام بعد أن سب النبى (صلى الله عليه وسلم) غفر له ما قد سلف، كما قال تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) [الأنفال: 38] . قال غيره: فقياس الكوفيين المسلم إذا سب النبى (صلى الله عليه وسلم) على المرتد خطأ؛ لأن المرتد كان مظهرًا لدينه فتصح استتابته، والمسلم لا يجوز له إظهار سب النبى (صلى الله عليه وسلم) وإنما يكون مستترًا به؛ فكيف تصح له توبة؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 582 وقال ابن القاسم، عن مالك: كذلك من شتم نبيا من الأنبياء، أو تنقصه قتل ولم يستتب، كمن شتم نبينا) لا نفرق بين أحد من رسله) [الأحقاف: 35] وكذلك حكم الذمى إذا شتم أحدًا منهم يقتل إلا أن يسلم، وهذا كله قول مالك وابن القاسم وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ. قال أهل هذه المقالة: إنما ترك النبى (صلى الله عليه وسلم) قتل اليهودى الذى قال له: السام عليك، كما ترك قتل المنافقين وهو يعلم نفاقهم، ولا حجة للكوفيين فى أحاديث هذا الباب. وأما حديث ابن مسعود فى الذين ضربوا النبى (صلى الله عليه وسلم) وأدموه، فإنهم كانوا كفارًا، والأنبياء عليهم السلام شأنهم الصبر على الأذى قال الله تعالى لنبيه: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) [الأحقاف: 35] فلا حجة للكوفيين فيه. 5 - باب قَتْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُلْحِدِينَ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) [التوبة: 115] . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللَّهِ، وَقَالَ: إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِى الْكُفَّارِ، فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. / 11 - فيه: عَلِىٌّ، رَضِى اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَدِيثًا فَوَاللَّهِ لأنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خِدْعَةٌ، وَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 583 (سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِى آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الأسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأحْلامِ، يَقُولُونَ: مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِى قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . / 12 - وفيه: أَبِو سَلَمَةَ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ (أَنَّهُمَا أَتَيَا أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ فَسَأَلاهُ عَنِ الْحَرُورِيَّةِ، أَسَمِعْتَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَقَالَ: لا أَدْرِى مَا الْحَرُورِيَّةُ؟ سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: يَخْرُجُ فِى هَذِهِ الأمَّةِ، وَلَمْ يَقُلْ: مِنْهَا، قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ، مَعَ صَلاتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ، أَوْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَيَنْظُرُ الرَّامِى إِلَى سَهْمِهِ، إِلَى نَصْلِهِ، إِلَى رِصَافِهِ، فَيَتَمَارَى فِى الْفُوقَةِ هَلْ عَلِقَ بِهَا مِنَ الدَّمِ شَىْءٌ) . / 13 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَذَكَرَ الْحَرُورِيَّةَ، فَقَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَمْرُقُونَ مِنَ الإسْلامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ) . قال المهلب وغيره: أجمع العلماء أن الخوارج إذا خرجوا على الإمام العدل وشقوا عصا المسلمين ونصبوا راية الخلاف؛ أن قتالهم واجب وأن دماءهم هدر، وأنه لا يتبع منهزمهم ولا يجهز على جريحهم. قال مالك: إن خيف منهم عودة أجهز على جريحهم وأتبع مدبرهم، وإنما يقاتلون من اجل خروجهم على الجماعة. قال الطبرى: والدليل على ذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما أذن فى قتلهم عند خروجهم لقوله: (يخرج فى آخر الزمان قوم سفهاء الأحلام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 584 ثم قال: فأينما لقيتموهم فاقتلوهم) فبان بذلك أنه لا سبيل للإمام على من كان يعتقد الخروج عليه أو يظهر ذلك بقول، ما لم ينصب حربًا أو يخف سبيلا. وقال: هذا إجماع من سلف الأمة وخلفهم. وقد سئل الحسن البصرى عن رجل كان يرى رأى الخوارج، فقال الحسن: العمل أملك بالناس من الرأى إنما يجازى الله الناس بالأعمال. قال الطبرى: وهذا الذى قاله الحسن عندنا إنما هو فيما كان من رأى لا يخرج صاحبه من ملة الإسلام، فأما الرأى الذى يخرجه من ملة الإسلام، فإن الله قد أخبر أنه يحبط عمل صاحبه. وأما قوله: (يمرقون من الدين) فالمروق عند أهل اللغة الخروج يقال: مرق من الدين مروقًا خرج ببدعة أو ضلالة، ومرق السهم من الغرض إذا أصابه ثم نقره، ومنه قيل للمرق مرق لخروجه. وجمهور العلماء على أنهم فى خروجهم ذلك غير خارجين من جملة المؤمنين لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ويتمارى فى الفوق) لأن التمارى الشك، وإذا وقع الشك فى ذلك لم يقطع عليهم بالخروج الكلى من الإسلام، لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يحكم له بالخروج منه إلا بيقين، وقد روى عن على بن أبى طالب من طرق، أنه سئل عن أهل النهروان: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا. قيل: فمنافقون؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل: فما هم؟ قال: هم قوم ضل سعيهم، وعموا عن الحق، بغوا علينا فقاتلناهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 585 وروى وكيع، عن مسعر، عن عامر بن شقيق عن أبى وائل، عن على قال: لم نقاتل أهل النهروان على الشرك. وقول ابن عمر: (إنهم عمدوا إلى آيات فى الكفار فجعلوها فى المؤمنين) يدل أنهم ليسوا كفارًا؛ لأن الكافر لا يتأول كتاب الله؛ بل يرده ويكذب به. وقال أشهب: وقعت الفتنة وأصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) متوافرون فلم يروا على من قاتل على تأويل القرآن قصاصًا فى قتل، ولا حدا فى وطء. وبهذا قال مالك وابن القاسم، وخالف ذلك أصبغ وقال: يقتل من قتل إن طلب ذلك وليه كاللص يتوب قبل أن يقدر عليه. وهذا خلاف للصحابة ولقول مالك وجميع أصحابه. قال مالك: وما وجه أحد من ماله بعينه عندهم أخذه. وهو قول الكوفيين والأوزاعى والشافعى، وقد روى عن بعض أهل الكلام وأهل الحديث أن أهل البدع كفار ببدعتهم، وهو قول أحمد بن حنبل، وأئمة الفتوى بالأمصار على خلاف هذا، فإن احتج من قال بكفرهم بقول أبى سعيد الخدرى: (يخرج فى هذه الأمة) ولم يقل: (منها) فدل أنهم ليسوا من جملة المؤمنين. فيقال لهم قد روى فى حديث أبى سعيد أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: (يخرج من أمتى قوم) . روى مسدد قال: حدثنا عبد الواحد قال: حدثنا مجالد، حدثنا أبو الوداك جبر بن نوف قال: سمعت أبا سعيد الخدرى يقول: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (يخرج قوم من المؤمنين عند فرقة، أو اختلاف، من الناس، يقرءون القرآن كأحسن ما يقرؤه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 586 الناس، ويرعونه كأحسن ما يرعاه الناس، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. .) وذكر الحديث. قال ابن القاسم فى العتبية: أما أهل الأهواء الذين على الإسلام العارفون بالله مثل القدرية والإباضية وما أشبهها ممن هو على خلاف ما عليه جماعة المسلمين من البدع والتحريف لتأويل كتاب الله فإنهم يستتابون، أظهروا ذلك أم أسروا، فإن تابوا وإلا قتلوا، وبذلك عمل عمر بن عبد العزيز، ومن قتل منهم فميراثه لورثته؛ لأنهم مسلمون، وهذا إجماع، وإنما قتلوا لرأيهم السوء. وذكر ابن المنذر عن الشافعى أنه قال: لا يستتاب القدرى. وذم الكلام ذمًا شديدًا، وقال: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشىء من الأهواء. وقال عبد الرحمن بن مهدى: ما كنت لأعرض أحدًا من أهل الأهواء على السيف إلا الجهمية فإنهم يقولون قولاً منكرًا. وسئل سحنون عن قول مالك فى أهل الأهواء: لا يصلى عليهم، فقال: لا أرى ذلك، ويصلى عليهم، ومن قال: لا يصلى عليهم كفرهم بذنوبهم، وإنما قال مالك: لا يصلى عليهم أدبًا لهم. قيل له: فيستتابون، فإن تابوا وإلا قتلوا كما قال مالك؟ قال: أما من كان بين أظهرنا وفى جماعة أهل السنة فلا يقتل، وإنما الشأن فيه أن يضرب مرة بعد أخرى، ويحبس وينهى الناس عن مجالسته والسلام عليه تأديبًا له، كما فعل عمر بضبيع خلى عنه بعد أدبه، ونهى الناس عنه. فقد مضت السنة فيمن لم يبن من عمر وقضت فيمن بان من أبى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 587 بكر الصديق، رضى الله عنهما، قيل له: هؤلاء الذين نصبوا الحرب، وبانوا عن الجماعة وقتلهم الإمام هل يصلى عليهم؟ قال: نعم، وهم من المسلمين، وليس بذنوبهم التى استوجبوا بها القتل ترك الصلاة عليهم، ألا ترى أن المحصن الزانى والمحارب والقاتل عمدًا قد وجب عليهم القتل ولا تترك الصلاة عليهم. قيل له: فما تقول فى الصلاة خلف أهل البدع؟ قال: لا تعاد فى وقت ولا بعده، وبذلك يقول أصحاب مالك: أشهب، والمغيرة وغيرهما، وإنما يعيد الصلاة من صلى خلف نصرانى، وهذا مسلم فكما تجوز صلاته لنفسه كذلك تجوز لغيره إذا صلى خلفه، وأما النصرانى فلا تجوز صلاته لنفسه فكذلك لا تجوز لغيره، ومن يوجب الإعادة أبدًا أنزله بمنزلة النصرانى، وركب قياس قول الإباضية والحرورية الذين يكفرون الناس بالذنوب. وقد تقدم فى كتاب الصلاة فى باب (إمامة المفتون والمبتدع) الاختلاف والصلاة خلفهم. واختلفوا فى رد شهادتهم، فذكر ابن المنذر عن شريك أنه لا تجوز شهادة أهل الأهواء: الرافضة، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور. وقال مالك: لا تجوز شهادة القدرية. وقال أبو عبيد: البدع والأهواء كلها نوع واحد فى الضلال، كما قال ابن مسعود: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار. فلا أرى لأحد منهم شهادة إذا ظهر فيها غلوه وميله عن السنة للآثار الجزء: 8 ¦ الصفحة: 588 المتواترة، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى الخوارج: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) . وقال فيهم سعد: أولئك قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم. وقال حذيفة: الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل؛ لا حظ لهم فى الإسلام. وقال أبو هريرة: القدرية هم نصارى هذه الأمة ومجوسها. وأجازت طائفة شهادة أهل الأهواء إذا لم يستحل الشاهد منهم شهادة الزور، هذا قول ابن أبى ليلى والثورى وأبى حنيفة والشافعى. قال الشافعى: لا أراد شهادة أحد بشىء من التأويل له وجه يحتمله، إلا أن يكون منهم الرجل يباين المحالف له مباينة العداوة فأرده من جهة العدواة. قال: وشهادة من يرى إنفاذ الوعيد خير من شهادة من يستخف بالذنوب. وقال أبو حنيفة: كل من نسب إلى هوى فعرف بالمجانة والفسق فأرده للمجانة التى ظهرت فيه. وأما قوله: (يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم) فمعناه أنهم لما تأولوه على غير تأويله لم يرتفع إلى الله، ولا أثابهم عليه؛ إذ كانت أعمالهم له مخالفة بسفك دماء من حرم الله دمه وإخافتهم سبلهم، ويشهد لهذا قوله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه (فبان أن الكلام الطيب يرتفع إلى الله إذا صحبه عمل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 589 صالح يصدقه، ومتى خالفه العمل لم يعتد بالقول، ولا كان لقائله فيه غير العناء، وهذا يدل أن الإيمان قول وعمل. وأما قول على: (إذا حدثتكم فيما بينى وبينكم فإن الحرب خدعة) فإنما قال ذلك على فى وقت خروجه للخوارج. ومعنى ذلك أن المعاريض جائزة على ما جاء عن عمر أنه قال: فى المعاريض مندوحة عن الكذب. وليس فى هذا جواز إباحة الكذب الذى هو خلاف الحق؛ لأن ذلك منهى عنه فى الكتاب والسنة، وإنما رخص فى الحرب وغيره فى المعاريض فقط؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إياكم والكذب فإنه يهدى إلى الفجور، والفجور يهدى إلى النار) وقد تقدم فى كتاب الصلح فى باب ليس الكاذب الذى يصلح بين الناس مذاهب العلماء فيما يجوز من الكذب وما لا يجوز، وتقدم منه شىء فى باب الكذب فى الحرب فى كتاب الجهاد، وسيأتى فى باب المعاريض مندوحة عن الكذب فى كتاب الأدب مما يقتضيه التبويب، إن شاء الله تعالى. وأما قول البخارى: باب قتال الخوارج بعد إقامة الحجة عليهم فمعناه أنه لا يجب قتال خارجى ولا غيره إلا بعد الإعذار إليه، ودعوته إلى الحق، وتبيين ما ألبس عليه، فإن أبى من الرجوع إلى الحق وجب قتاله بدليل قوله تعالى: (وما كان الله ليضل قومًا بعد إذا هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) [التوبة: 115] فوجب التأسى به تعالى فيمن وجب قتاله أن يبين له وجه الصواب ويدعى إليه. والنصل: حديدة السهم. والرصاف: العقب الذى فوق مدخل السهم. والفوقة والفوق من السهم: موضع الوتر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 590 6 - باب مَنْ تَرَكَ قِتَالَ الْخَوَارِجِ لِلتَّأَلُّفِ، وَأَلاَّ يَنْفِرَ النَّاسُ عَنْهُ / 14 - فيه: أَبِى سَعِيدٍ: (بَيْنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقْسِمُ، جَاءَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ ذِى الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِىُّ، فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ دَعْنِى أَضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ: دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاتَهُ مَعَ صَلاتِهِ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ فِى قُذَذِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِى نَصْلِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِى رِصَافِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِى نَضِيِّهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ إِحْدَى يَدَيْهِ، أَوْ قَالَ: ثَدْيَيْهِ مِثْلُ ثَدْىِ الْمَرْأَةِ، أَوْ قَالَ: مِثْلُ الْبَضْعَةِ، تَدَرْدَرُ، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ) . قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبى، عليه السلام، وأشهد أن عليًا قتلهم وأنا معه، حتى جىء بالرجل على النعت الذى نعت رسول الله، فنزلت فيهم: (ومنهم من يلمزك فى الصدقات) [التوبة: 58] . / 15 - وفيه: سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ سئل: (هَلْ سَمِعْتَ فِى الْخَوَارِجِ شَيْئًا؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ وَأَهْوَى بِيَدِهِ قِبَلَ الْعِرَاقِ: يَخْرُجُ مِنْهُ قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإسْلامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ) . لا يجوز ترك قتال من خرج على الأمة وشق عصاها. وأما ذو الخويصرة، فإنما ترك النبى (صلى الله عليه وسلم) قتله؛ لأنه عذره بجهله، وأخبر أنه من قوم يخرجون ويمرقون من الدين، فإذا خرجوا وجب قتالهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 591 وقد أخبرت عائشة أنه (صلى الله عليه وسلم) كان لا ينتقم لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله، وكان يعرض عن الجاهلين. وقد وصف الله كرم خلقه (صلى الله عليه وسلم) فقال: (وإنك لعلى خلق عظيم) [القلم: 4] . قال المهلب: والتآلف إنما كان فى أول الإسلام؛ إذ كان بالناس حاجة إلى تألفهم لدفع مضرتهم ولمعونتهم، فأما إذا علىَّ الله الإسلام ورفعه على غيره فلا يجب التألف، إلا أن ينزل بالناس ضرورة يحتاج فيه إلى التألف. وقد تقدم. والمروق: الخروج، وقد تقدم. والرمية: الطريدة المرمية. فعيلة بمعنى مفعولة، يقال: شاة رمى: إذا رميت، ويقال: بئس الرمية الأرنب. فيدخل الهاء. والقذذ: ريش السهم، كل واحدة قذة، وقال ثابت: قذتا الجناحين: جانباه. وقال أبو حاتم: القذتان: الأذنان. وأما النضى: فإن أبا عمرو الشيبانى قال: هو نصل السهم. وقال الأصمعى: هو القدح قبل أن ينحت، فإذا نحت فهو مخشوب. والحديث يدل أن القول قول الأصمعى؛ لأنه ذكر النصل قبل النضى فى الحديث. قوله: (يسبق الفرث والدم) يعنى أنه مر مرا سريعًا فى الرمية وخرج، ولم يعلق به من الفرث والدم شىء، فشبه خروجهم من الدين ولم يتعلق منه شىء بخروج ذلك السهم. وقوله: تدردر: يعنى تضطرب، تذهب وتجئ، ومثله تذبذب وتقلقل وتزلزل. الخطبى. ومنه دردور الماء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 592 7 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ / 16 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ) . هذا إخبار عن الغيب وحدوث الفتنة وقتال المسلمين بعضهم لبعض، ويحتمل أن يكون معنى قوله: (دعواهما واحدة) :: دينهما واحد، ويحتمل أن يكون دعواهما واحدة فى الحق عند أنفسهما واجتهادهما، ويقتل بعضهم بعضًا، وقد جاء فى الكتاب والسنة الأمر بقتال الفئة الباغية إذا تبين بغيها، قال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى. . .) [الحجرات: 9] الآية. قال ابن أبى زيد: قال من لقينا من العلماء: معنى ذلك: إذا بغت قبيلة فقاتلتها حمية وعصبية وفسقًا وفخرًا بالأنساب وغيرها من الثائرة؛ رغبة عن حكم الإسلام فعلى الإمام أن يفرق جماعتهم، فإن لم يقدر فليقاتل من تبين له أنه ظالم لصاحبه، وحلت دماؤهم حتى يقهروا، فإن تحققت الهزيمة عليهم وأيس من عودتهم فلا يقتل منهزمهم، ولا يجهز على جريحهم، وإن لم تستحق الهزيمة ولم يؤمن رجوعهم؛ فلا بأس أن يقتل منهزمهم وجريحهم ولا بأس أن يقتل الرجل فى القتال معهم أخاه وقرابته وجده لأبيه وأمه، فأما الأب فلا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 593 وقال أصبغ: يقتل أباه وأخاه، ولا تصاب أموالهم ولا حرمهم، فإن قدر الإمام على كف الطائفتين بترك القتال فلكل فريق طلب الفريق الآخر بما جرى بينهم فى ذلك من دم ومال، ولا يهدر شىء من ذلك بخلاف ما كان على تأويل القران. وقال بعضه ابن حبيب. 8 - باب مَا جَاءَ فِى الْمُتَأَوِّلِينَ / 17 - فيه: عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يَقُولُ: أَنَّه سَمِع هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَؤُهَا عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ، لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَذَلِكَ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِى الصَّلاةِ، فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى سَلَّمَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، أَوْ بِرِدَائِى، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قُلْتُ لَهُ: كَذَبْتَ، فَوَاللَّهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، أَقْرَأَنِى هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِى سَمِعْتُكَ تَقْرَؤُهَا، فَانْطَلَقْتُ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، وَأَنْتَ أَقْرَأْتَنِى سُورَةَ الْفُرْقَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِى سَمِعْتُهُ يَقْرَؤُهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : اقْرَأْ يَا عُمَرُ، فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ. / 18 - وفيه ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ: (يَا بُنَىَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13] . / 19 - وفيه: عِتْبَانَ: (غَدَا عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ رَجُلٌ: أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُنِ؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 594 فَقَالَ رَجُلٌ مِنَّا: ذَلِكَ مُنَافِقٌ لا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : أَلا تَقُولُوهُ يَقُولُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، يَبْتَغِى بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّهُ لا يُوَافَى عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِهِ إِلا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ) . / 20 - وفيه: أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ وَحِبَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ، أَنهما تَنَازَع فَقَالَ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ لِحِبَّانَ: لَقَدْ عَلِمْتُ مَا الَّذِى جَرَّأَ صَاحِبَكَ عَلَى الدِّمَاءِ، يَعْنِى عَلِيًّا، قَالَ: مَا هُوَ لا أَبَا لَكَ؟ قَالَ: شَيْءٌ سَمِعْتُهُ يَقُولُهُ، قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالزُّبَيْرَ وَأَبَا مَرْثَدٍ وَكُلُّنَا فَارِسٌ، قَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ حَاجٍ، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: هَكَذَا قَالَ أَبُو عَوَانَةَ: حَاجٍ، فَإِنَّ فِيهَا امْرَأَةً مَعَهَا صَحِيفَةٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَأْتُونِى بِهَا، فَانْطَلَقْنَا عَلَى أَفْرَاسِنَا حَتَّى أَدْرَكْنَاهَا حَيْثُ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا، وَقَدْ كَانَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِمَسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَيْهِمْ، فَقُلْنَا: أَيْنَ الْكِتَابُ الَّذِى مَعَكِ؟ قَالَتْ: مَا مَعِى كِتَابٌ، فَأَنَخْنَا بِهَا بَعِيرَهَا، فَابْتَغَيْنَا فِى رَحْلِهَا، فَمَا وَجَدْنَا شَيْئًا، فَقَالَ صَاحِبَاىَ: مَا نَرَى مَعَهَا كِتَابًا، قَالَ: فَقُلْتُ: لَقَدْ عَلِمْنَا مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ حَلَفَ عَلِىٌّ، وَالَّذِى يُحْلَفُ بِهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ، أَوْ لأجَرِّدَنَّكِ، فَأَهْوَتْ إِلَى حُجْزَتِهَا، وَهِىَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ، فَأَخْرَجَتِ الصَّحِيفَةَ، فَأَتَوْا بِهَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، دَعْنِى فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : يَا حَاطِبُ، مَا حَمَلكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لِى أَنْ لا أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَكِنِّى أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِى عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يُدْفَعُ بِهَا عَنْ أَهْلِى وَمَالِى، وَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ أَحَدٌ إِلا لَهُ هُنَالِكَ مِنْ قَوْمِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، قَالَ: صَدَقَ، لا تَقُولُوا، لَهُ: إِلا خَيْرًا، قَالَ: فَعَادَ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، دَعْنِى فَلأضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ: أَوَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شىءتُمْ، فَقَدْ أَوْجَبْتُ لَكُمُ الْجَنَّةَ، فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) . قال المهلب وغيره: لا خلاف بين العلماء أن كل متأول معذور بتأوله غير مأثوم فيه إذا كان تأويله ذلك مما يسوغ ويجوز فى لسان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 595 العرب، أوكان له وجه فى العلم؛ ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يعنف عمر فى تلبيبه لهشام مع علمه بثقته وعذره فى ذلك لصحة مراد عمر واجتهاده. وأما حديث ابن مسعود فإن الرسول عذر أصحابه فى تأويلهم الظلم فى الآية بغير الشرك لجواز ذلك فى التأويل. وأما حديث ابن الدخشن فإنهم استدلوا على نفاقه بصحبته للمنافقين ونصيحته، لهم فعذرهم النبى (صلى الله عليه وسلم) باستدلالهم، وكذلك حديث حاطب عذره النبى (صلى الله عليه وسلم) فى تأويله، وشهد بصدقه. وقد تقدم فى الجهاد فى باب الجاسوس، فأغنى عن ذكره وسيأتى فى كتاب الاستئذان فى باب من نظر فى كتاب من يحذر على المسلمين ليستبين أمره إن شاء الله تعالى. وقول أبى عبد الرحمن: (لقد علمت ما الذى جرأ صاحبكم على الدماء) يعنى عليا، فإنه أراد قول النبى (صلى الله عليه وسلم) لأهل بدر: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فكأنه أنس بهذا القول، فاجترأ بذلك على الدماء، ولا يجوز أن يظن بعلى أنه اجترأ على هذا دون أن يعطيه ذلك صحيح التأويل والاجتهاد. وإن كان قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لعل الله اطلع على أهل بدر) دليل ليس بحتم، ولكنه على أغلب الأحوال، وينبغى أن نحسن بالله الظن فى أهل بدر وغيرهم من أهل الطاعات. وقد اعترض بعض أهل البدع بهذا الحديث على قصة مسطح حين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 596 جلد فى قذف عائشة وكان بدريا مغفورًا له، قالوا: وكان ينبغى ألا يحد لذلك كما لم يعاقب حاطب؛ لأنه كان بدريا مغفورًا له. فأجاب فى ذلك أبو بكر بن الطيب الباقلانى، وقال: المراد بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) أنه غفر لهم عقاب الآخرة ولم يرد بذلك أنه غفر لهم عقاب الدنيا. وقد أجمعت الأمة أن كل من ركب من أهل بدر ذنبًا بينه وبين الله فيه حد، أو بينه وبين الخلق من القذف أو الجرح أو القتل فإنه عليه فيه الحد والقصاص. وليس يدل عقاب العاصى فى الدنيا وإقامة الحدود عليه على أنه معاقب فى الآخرة لقوله (صلى الله عليه وسلم) فى ماعز والغامدية: (لقد تابوا توبة لو قسمت على أهل الأرض لوسعتهم) لأن موضع الحدود أنها للردع، والزجر، وحقن الدماء، وحفظ الحريم وصيانة الأموال، وليس فى عقاب النار شىء من ذلك. فبطل قول من قال: إنه كان ينبغى أن يسقط الحد عن مسطح لكونه بدريا مغفورًا له؛ لأن الخبر عن غفران ذنوبهم إنما هو عن غفران عقاب الآخرة دون الدنيا، ولو أسقط الله عقاب الدارين لكان جائزًا، فغفر لحاطب عقوبته فى الدنيا؛ إذ رأى ذلك مصلحة لما غفر له عقاب الآخرة، وقد يجعل الله لنبيه إسقاط بعض الحدود إذا رأى ذلك مصلحة. قال الطبرى: وفى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وما يدريك لعل الله اطلع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 597 على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) الدلالة البينة على خطأ ما قالته الخوارج والمعتزلة أنه لا يجوز فى عدل الله وحكمته الصفح لأهل الكبائر والمعتزلة من المسلمين عن كبائرهم؛ لأنه لم يكن مستنكرًا عند النبى (صلى الله عليه وسلم) فى عدل الله أن يصفح عن بعض من سبقت له من الطاعة سابقة، وسلفت له من الأعمال الصالحة سالفة عن جميع أعماله السيئة التى تحدث منه بعدها صغائر وكبائر، فيتفضل بالعفو عنها إكرامًا له لما كان سلف منه قبل ذلك من الطاعة. وخاخ: موضع قريب من مكة. وقوله: أهوت إلى حجزتها وهى محتجزة بكساء) . يعنى: ضربت بيدها إلى معقد نطاقها من جسدها، وهو موضع حجزة السراويل من الرجل، وقد مر بعض ما فيه من الغريب فى كتاب الجهاد. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) فى قصة مالك بن الدخشن: (ألا تقولوه يقول: لا إله إلا الله) ، هكذا جاءت والصواب: (ألا تقولونه يقول: لا إله إلا الله) بإثبات النون، والمعنى ألا تظنونه يقول: لا إله إلا الله، وقد جاء القول بمعنى الظن كثيرًا فى لغة العرب بشرط كونه فى المخاطب، وكونه مستقبلا، أنشد سيبويه لعمر بن أبى ربيعة المخزومى: أما الرحيل فدون بعد غد فمتى نقول الدار تجمعنا يعنى: فمتى نظن الدار تجمعنا، ويحتمل أن يكون قوله: (ألا تقولوه) خطابا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 598 للواحد والجماعة، فإن كان خطابًا للجماعة، فلا يجوز حذف النون؛ إذ لا موجب لحذفها، وإن كان خطابًا للواحد، وهو أظهر فى نسق الحديث، فهو على لغة من يشبع الضمة كما قال الشاعر: من حيث ما سلكوا أذنوا فانظور وإنما أراد انظر فأشبع ضمة الظاء فحدثت عنها واو. قوله فى حديث عمر: (فكدت أساوره) تقول العرب: ساورته من قولهم: سار الرجل يسور سورًا إذا ارتفع. ذكره ابن الأنبارى عن ثعلب، وقد يكون أساوره من البطش؛ لأن السورة البطش. عن صاحب العين. تم بحمد الله الجزء الثامن، ويليه بإذن الله الجزء التاسع وأوله: (كتاب الاستئذان) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 599 الجزء التاسع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 4 65 - كتاب الاستئذان باب بدء السلام / 1 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ، قَالَ: اذْهَبْ، فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ الْمَلائِكَةِ جُلُوسٌ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ - يعنى الْجَنَّةَ - عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الآنَ) . قال المهلب: هذا الحديث يدل أن الملائكة فى الملأ الأعلى يتكلمون بلسان العرب، ويحيون بتحية الله، وأن التحية بالسلام هى التى أراد الله أن يتحيا بها. وفيه: الأمر بتعليم العلم من أهله والقصد إليهم فيه، وأنه من أخذ العلم ممن أمره الله بالأخذ عنه فقد بلغ العذر فى العبادة وليس عليه ملامة، لأن آدم أمره الله أن يأخذ عن الملائكة ما يحيونه، وجعلها له تحية باقية، وهو تعالى أعلم من الملائكة، ولم يعلمه إلا لتكون سنه. وقوله: (فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن) فهوا فى معنى قولى تعالى: (لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين (ووجه الحكمة فى ذلك أن الله خلق العالم بما فيه دالا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 على خالق حكيم، وجعل فى حركات ما خلق دليلا على فناء هذا العالم وبطلانه خلافًا للدهرية التى تعبد الدهر وتزعم أنه لا يفنى، فأبقى الله هذا النقص دلاله على بطلان قولهم، لأنه إذا جاز النقص فى البعض جاز الفناء فى الكل. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (خلق الله آدم على صورته) فإن العلماء اختلفوا فى رجوع الهاء من (صورته) إلى من ترجع الكناية بها. قال ابن فورك: فذهب طائفة إلى أن الهاء من (صورته) راجعة إلى آدم - عيله السلام - وأفادنا بذلك عليه السلام إبطال قول الدهرية أنه لم يكن قط إنسان إلا من نطفة، ولا نطفة إلا من إنسان فيما مضى ويأتى، وليس لذلك أول ولا آخر، فعرفنا عليه السلام تكذيبهم، وأن أول البشر هو آدم خلق على صورته التى كان عليها من غير أن كان نطفه قبله أو عن تناسل، ولم يكن قط فى صلب ولا رحم، ولا خلق علقه ولا مضغة، ولا طفلاً، ولا مراهقًا، بل خلق ابتداء بشرًا سويًا كما شوهد. وقد قال آخرون: المعنى فى رجوع الهاء إلى آدم تكذيب القدرية، لما زعمت أن من صور آدم وصفاته ما لم يخلقه الله، وذلك أن القدرية تقول: إن صفات آدم على نوعين منها ما خلقها الله، ومنها ما خلقها صورته وصفاته وأعراضه. وقال آخرون: يحتمل أن يكون رجوع الهاء إلى آدم وجهًا آخر على أصول أهل السنة أن الله خلق السعيد سعيدًا والشقى شقيا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 فخلق آدم وقد علم يعصيه ويخالف أمره، وسبق العلم بذلك وأنه يعصى ثم يتوب، فيتوب الله عليه تنبيهًا على وجوب جريان قضاء الله على خلقه، وأنه إنما تحدث الأمور وتتغير الأحوال على حسب ما يخلق عليه المرء وييسر له. وذهب طائفة إلى أن الحديث إنما خرج على سبب، وذلك: (أن النبى عليه السلام مر برجل يضرب ابنه أو عبده فى وجهه لطخًا ويقول: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك فقال عليه السلام: إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته) فزجره النبى عن ذلك، لأنه قد سب الأنبياء عليهم السلام والمؤمنين وخص آدم بالذكر، لأنه هو الذى ابتدئت خلقه وجهه على الحد الذى تخلق عليها سائر ولده، فالهاء على هذا الوجه كناية عن المضروب فى وجهه. وذهب طائفة إلى الهاء كناية عن الله تعالى وهذا أضعف الوجوه، لأن حكم الهاء أن ترجع إلى أقرب المذكور، إلا أن تدل دلالة على خلاف ذلك، وعلى هذا التأويل يكون معنى الصورة معنى الصفة كما يقال: عرفنى صورة هذا الأمر أى صفته ولا صورة للأمر على الحقيقة إلا على معنى الصفة، ويكون تقدير التأويل أن الله خلق آدم على صفته أى خلقه حيًا عالمًا سمعيًا بصيرًا متكلمًا مختارًا مريدًا، فعرفنا بذلك إسباغ نعمه عليه وتشريفه بهذه الخصال. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 ونظرنا فى الإضافات إلى الله فوجدناها على وجوه، منها إضافة الفعل، كما يقال: خلق الله، وأرض الله، وسماء الله، وإضافة الملك فيقال: رزق الله، ووعيد الله، وإضافة اختصاص وتنويه بذكر المضاف إليه، كقولهم: الكعبة بيت الله، وكقوله: (ونفخت فيه من روحي (ووجه آخر من الإضافة نحو قولهم: كلام الله، وعلم الله، وقدرة الله، وهى إضافة اختصاص من طريق القيام به، وليس من وجهة الملك والتشريف بل ذلك على معنى إرادته غير متعرية منها قيامًا بها ووجودًا. ثم نظرنا إلى إضافة الصورة إلى الله فلم يصح أن يكون وجه إضافتها إليه على نحو إضافة الصفة إلى الموصوف بها من حيث تقوم به، لاستحالة أن يقوم بذاته تعالى حادث فبقى من وجوه الإضافة الملك والفعل والتشريف، فأما الملك والفعل فوجهه عام وتبطل فائدة التخصيص فبقى إنها إضافة تشريف، وطريق ذلك أن الله هو الذى ابتدأ تصوير آدم إضافة تشريف، وطريق ذلك أن الله هو الذى ابتدأ تصوير آدم على مثال سبق بل اخترعه، ثم اخترع من بعده على مثاله، فتشرفت صورته بالإضافة إليه لا أنه أريد به إثبات صورة لله تعالى على التحقيق هو بها مصور، لأن الصورة هى التألف والهيئة، وذلك لا يصح إلا على الأجسام المؤلفة، والله تعالى عن ذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 - باب قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم (الآية وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِى الْحَسَنِ لِلْحَسَنِ: إِنَّ نِسَاءَ الْعَجَمِ يَكْشِفْنَ صُدُورَهُنَّ وَرُءُوسَهُنّ، َ قَالَ: اصْرِفْ بَصَرَكَ [عَنْهُنَّ] . وقَوله اللَّهِ: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [النور 30] . وَقَالَ قَتَادَة، عَمَّا لا يَحِلُّ لَهُمْ: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النور: 31] ،) خَائِنَةَ الأعْيُنِ) [غافر 14] مِنَ النَّظَرِ إِلَى مَا نُهِىَ عَنْهُ. وَقَالَ الزُّهْرِىُّ، فِى النَّظَرِ إِلَى الَّتِى لَمْ تَحِضْ مِنَ النِّسَاءِ: لا يَصْلُحُ النَّظَرُ إِلَى شَىْءٍ مِنْهُنَّ مِمَّنْ يُشْتَهَى النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً. وَكَرِهَ عَطَاءٌ النَّظَرَ إِلَى الْجَوَارِى الَّتِى يُبَعْنَ بِمَكَّةَ إِلا أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَشْتَرِيَ. / 2 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَرْدَفَ النَّبِىّ عليه السلام الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ يَوْمَ النَّحْرِ خَلْفَهُ عَلَى عَجُزِ رَاحِلَتِهِ، وَكَانَ الْفَضْلُ رَجُلا وَضِيئًا، فَوَقَفَ الرسول عليه السلام لِلنَّاسِ يُفْتِيهِمْ، وَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ وَضِيئَةٌ تَسْتَفْتِى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا، فَالْتَفَتَ النَّبِى عليه السلام وَالْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، فَأَخْلَفَ بِيَدِهِ، فَأَخَذَ بِذَقَنِ الْفَضْلِ، فَعَدَلَ وَجْهَهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهَا. . . الحديث. / 3 - فيه: أَبُو سَعِيدٍ، أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ) ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ، نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ: (إِذْ أَبَيْتُمْ إِلا الْمَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ) ، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 قَالَ: (غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأذَى، وَرَدُّ السَّلامِ، وَالأمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْى عَنِ الْمُنْكَرِ) . قال المؤلف: قال قتادة وإبراهيم ومجاهد فى قوله تعالى: (وحتى تستأنسوا (قالوا: حتى تستأذنوا وتسلموا. وقال سعيد بن جبير: الاستئناس: الاستئذان، وهو فيما أحسب من خطأ الكاتب، وروى أيوب عنه عن ابن عباس: إنما هو حتى تستأذنوا، سقط من الكاتب. قال إسماعيل بن إسحاق: قوله: (من خطأ الكاتب) هو قول سعيد بن جبير أشبه منه بقوله ابن عباس، لأن هذا مما لا يجوز أن يقوله أحد، إذ كان القرآن محفوظًا قد حفظه الله من أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وقد روى عن مجاهد أن الاستئناس: التنجح والتنخم إذا أراد أن يدخل. وروى ابن وهب عن مالك قال: الاستئناس: الجلوس قال تعالى: (ولا مستأنسين لحديث (وقال عمر حين ودخل على النبى فى حديثه المشربة: (أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم فجلس عمر) . قال إسماعيل بن إسحاق: وأحسب معنى الاستئناس، والله أعلم، إنما هو أن يستأنس بأن الذى يدخل عليه لا يكره دخوله، يدل على ذلك قوله عمر للنبى: (أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم فجلست) قال إسماعيل: فدل قوله: (أستأنس) على أنه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 10 أحب أن يعلم أن النبي لا يكره جلوسه، وهذا مما يضعف ما روى عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال المهلب: ومعنى الاستئذان هو خوف أن يفجأ الرجل أهل البيت على عورة فينظر ما لا يحل له، يدل على ذلك قوله عليه السلام: (إنما جعل الاستئذان للبصر) وغض البصر مأمور به، لقوله تعالى: (قل للمؤمنين من أبصارهم () وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن (ألا ترى صرف النبى وجه الفضل عن المرأة ونهيه عليه السلام عن الجلوس على الطرقات إلا أن يغض البصر، وإنما أمر الله بغض الأبصار عما لا يحل لئلا يكون البصر ذريعة إلى الفتنة، فإذا أمنت الفتنة فالنظر مباح، ألا ترى أن النبى حول وجه الفضل حين علم بإدامته النظر إليها أنه أعجبه حسنها فخشى عليه فتنة الشيطان. وفيه: مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من الميل إلى النساء والإعجاب بهن. وفيه: أن نساء المؤمنين ليس لزوم الحجاب لهم فرضًا فى كل حال كلزومه لأزواج النبى، ولو لزم جميع النساء فرضًا لأمر النبى الخثعمية بالاستتار، ولما صرف وجه الفضل عن وجهها، بل كان يأمره بصرف بصره، ويعلمه أن ذلك فرضه، فصرف وجهه عليه السلام وقت خوف الفتنة وتركه قبل ذلك الوقت. وهذا الحديث يدل أن ستر المؤمنات وجوههن عن غير ذوى محارمهن سنه، لإجماعهم أن المرأة أن تبدى وجهها فى الصلاة، ويراه منها الغرباء، وأن قوله: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم (على الفرض فى غير الوجه، وأن غض البصر عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 11 جميع المحرمات وكل ما يخشى منه الفتنة واجب، وقد قال النبى عليه السلام: (لا تتبع النظرة، فإنما لك الأولى، وليست لك الثانية، وهذا معنى دخول من فى قوله: (من أبصارهم (لأن النظرة الأولى لا تملك فوجب التبعيض لذلك، ولم يقل ذلك فى الفروج، لأنها تملك. وقوله: (فأخلف يده فأخذ بذقن الفضل) قال صاحب الأفعال: يقال: أخلف الرجل بيده إلى سيفه: مدها إليه ليأخذه عند حاجته إليه، وأخلف إلى مؤخر راحلته أو فرسه كذلك. 3 - باب: السلام اسم من أسماء الله تعالى وقوله تعالى: (وإذا حييتم فحيوا بأحسن منها أو ردوها ( / 4 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قُلْنَا: السَّلامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ، السَّلامُ عَلَى جِبْرِيلَ، السَّلامُ عَلَى مِيكَائِيلَ، السَّلامُ عَلَى فُلانٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلامُ. . . .) الحديث. قال المؤلف: مصداق هذا الحديث فى قوله الله تعالى: (القدوس السلام المؤمن (والأسماء إنما تؤخذ توقيفًا من الكتاب والسنة، ولا يجوز أن يسمى الله بغير ما سمى به نفسه، ولما كان السلام من أسماء الله لم يجز أن يقال: السلام على الله، وجاز أن يقال: السلام عليكم، لأن معناه الله عليكم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 12 والعلماء مجمعون أن بأبتداء بالسلام سنه مرغب فيها، ورده فريضة لقوله تعالى: (فحيوا بأحسن منها أو ردوها (ومن الدليل أن الابتداء به سنة قوله عليه السلام فى المتهاجرين: (وخيرهم الذى يبدأ بالسلام) وذهب مالك والشافعى إلى أنه سلم رجل على جماعة فرد عليه واحد منهم أجزأ عنهم، ودخل فى معنى قوله: (فحيوا بأحسن منها أو ردوها (لأنه قد رد عليه مثل قوله، وشبهوه بتشميت العاطس، وقالوا: هو من فروض الكفاية كالجهاد، وطلب العلم ودفن الموتى، وصلاة الجماعة، يقوم بها البعض، ولا يحل الاجماع على تضييعها. وروى مالك، عن زيد بن أسلم (أن النبى عليه السلام قال إذا سلم واحد من القوم أجزأ عنهم) . وروى أبو داود، عن على بن أبى طالب مثله، وقال: يجزىء من الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزىء عن الجلوس إذا رد أحدهم. وذهب الكوفيون إلى أن رد السلام من الفروض المتعينة على كل إنسان بعينه، ولا ينوب فيها فيها غير. قالوا: والإسلام خلاف رد السلام. لأن الابتداء به تطوع، ورده إنسان بعينه، ولا ينوب فيها غيره. قالوا: والسلام خلاف رد السلام. لأن الابتداء به تطوع، ورده فريضة، ولو رد غير المسلم عليهم لم يسقط ذلك عنهم فرض الرد، فدل أن السلام يلزم كل إنسان بعينه. وأنكر أبو يوسف مرسل مالك، ورد عليهم أهل المقالة الأولى فقالوا: قد يكون من السنن مايسد مسد الفرائض، كغسل الجمعة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 13 يجزىء عن غسل الجنابة - عند جماعة من العلماء - وكغسيل اليدين قبل الوضوء يجزء عن غسيلها مع الذراعين فى الوضوء - فى قول عطاء. وقولهم: لو رد غير المسلم عليم لم يجزىء، فكذلك نقول وإنما يجزى عن غسلها مع الذراعين فى الوضوء - فى قول عطاء. وقولهم: لو رد غير المسلم عليهم لم يجزىء، فكذلك نقول وإنما يجزىء أن يرد واحد ممن سلم عليهم عليهم لقوله تعالى: (فحيوا بأحسن منها أو ردوها (فإنما أمر الله تعالى بالرد المسلم عليهم لا غيرهم، ألا ترى لو أن العدو حل ببلده، فلم يقاتل أهلها المسلمون، وقاتل عنهم قوم من أهل الكتاب ما سقط الفرض عنهم، فكذلك إذا رد المسلم من لم يسلم عليه، لم يجزىء عن الرادين فحكم السلام حكم الرد، لأن الرد سلام عند العرب. وقد قال عليه السلام: (يسلم القليل على الكثير) ولما أجمعوا أن الواحد يسلم على الجماعة، ولا يحتاج إلى تكريره على عدد الجماعة، كذلك يرد الواحد من الجماعة على الواحد، وينوب عن الباقين، وانكارهم لمرسل مالك لا وجه له، لأنهم لامسند عندهم فى قولهم ولا مرسل، فالمصير إلى المرسل أولى من المصير إلى رأى يعاض بمثله. 4 - باب: يسلم القليل على الكثير / 5 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ) . وترجم له باب تسليم الراكب على الماشى، وقال فيه عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 14 الرسول: (يسلم الراكب على الماشى، والماشى على القاعدة، والقليل على الكثير) . قال المهلب: هذه آداب من النبى عليه السلام وأما وجه تسليم الصغيرعلى الكبير فمن أجل حق الكبير على الصغير بالتواضع له والتوقير، وتسليم المار على القاعدة هو من باب الداخل على القوم فعليه أن يبدأهم بالسلام، وكذلك فعل آدم بالملائكة حين قيل له: اذهب فسلم على أولئك نفر من الملائكة جلوس. وتسليم القليل على الكثير من باب التواضع أيضًا، لأن حق الكثير أعظم من حق القليل، وكذلك فعل أيضًا آدم كان وحده والملأ من الملائكة كثير حين أمر بالسلام عليهم. وسلام الراكب على الماشى لئلا يتكبر بركوبه على الماشى فأمر بالتواضع. 5 - باب: إفشاء السلام / 6 - فيه: الْبَرَاءِ، أَمَرَنَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِسَبْعٍ: (بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَنَصْرِ الضَّعِيفِ، وَعَوْنِ الْمَظْلُومِ، وَإِفْشَاءِ السَّلامِ، وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ. . .) الحديث. قال الطبرى: إن قال قائل: هذه الخلا التى أمر النبى عليه السلام بها من حق المسلم، هل هى من الحقوق التى إن لم يؤدها كان بتركها حرجًا ولربه عاصيًا أم لا؟ . قيل: منها ما يكون بتركها حرجًا، ومنها مايكون غير حرج، ومنها مايكون بتركها حرجًا فى حال وغير حرج فى أخرى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 15 فإن قيل: فبين لنا ذلك. قيل: أما الذى يكون بفعلها محمودًا وبتركها حرجًا فى كل حال فنصر الضعيف وعون المظلوم، وذلك أن النبى عليه السلام قال: (أنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) وقال: إن المؤمنين جميعًا كالجسد الواحد، وعلى المرء أن يسعى لصلاح كل عضو من أعضاء جسده سعيه لبعضها، فكذلك عليهم فى اخوانهم فى الدين وشركائهم فى المله، وإنصارهم على الأعداء من نصرهم وعونهم مثل ماعليهم من ذلك فى أنفسهم لأنفسهم، إذ كان بعضهم عونًا لبعض وجميعهم يد على العدو. ولذلك خاطبهم تعالى فى كتابه فقال) ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما (إذ كان القاتل منهم غيره بمنزله القاتل نفسه، ولم يقل لهم لايقتل بعضكم بعضًا، إذ كان المؤمن لأخيه المؤمن بمنزله نفسه فى التعاون على البر والتقوى، يؤلم كل واحد منهما مايؤلم الآخر، ألا ترى أن الله تعالى نهى المؤمنين أن يلمز بعضهم بعضًا، وأن يتنابزوا بالألقاب، فقال تعالى: (ولا تلمزوا أنفسكم (فجعل الامز أخاه لامزًا نفسه، إذ كان أخوه بمنزله نفسه، ومعلوم أنه لا أحد صحيح العقل يلمز نفسه، فعلم أن معناه لا يلمز أحدكم المؤمن. ومما هو فرض فى كل حال إبرار القسم، قال الله تعالى: (واحفظوا أيمانكم (. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 16 وأما التى هى فرض فى بعض الأحوال دون بعض وفضل فى بعضها فشهود جنازة الأخ المؤمن، فالحال التى هو فيها فرض إذا لم يكن للجنازة قيم غيره، أو يكون ولا يستغنى عن حضوره أياها، فلا يسعه حينئذ ترك حضورها، وذلك أن الذى يلزم من أمر موتى المسلمين للأحياء غسلهم وتكفينهم والصلاة عليهم ودفنهم، وذلك فرض على الكفاية، فمن قام بذلك منهم سقط فرضه عن سائرهم. ومن أيضًا تشميت العاطس إذا حمد الله، فإنه فرض على جميع من سمع عطاسه وحمده لله تشميته، حتى إذا شمته بعضهم سقط فرض ذلك عن سائرهم. وأما الذى هو بفعلها محمود وبتركها غير مذموم فالسلام عليه إذا لقيه، فإن المبتدىء أخاه بالسلام له الفضل كما قال عليه السلام فى المتهاجرين (وخيرهما الذى يبدأ بالسلام) . ومن ذلك عيادته لأخيه إذا مرض، وإجابته إلى طعام إذا دعاه إليه، فإن تارك ذلك فضل لاتارك فرض، لإجماع الجميع على ذلك، وقد تقدم جملة من معنى هذا الحديث فى كتاب الجنائز، وكتاب المظالم فى باب نصر المظلوم، وفى كتاب النكاح فى باب إجابة دعوة الوليمة، وسيأتى بقيته فى كتاب اللباس. 6 - باب: السلام للمعرفة وغير المعرفة / 7 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَجُلا سَأَلَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَى الإسْلامِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 17 خَيْرٌ؟ قَالَ: (تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ، وَعَلَى مَنْ لَمْ تَعْرِفْ) . / 8 - وفيه: أَبُو أَيُّوبَ، عَنِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِى يَبْدَأُ بِالسَّلامِ) . هذا أيضا من باب الأدب ولتواضع، وفى السلام لغير المعرفة استفتاح للخلطة، وباب الأنس ليكون المؤمنون كلهم إخوة، ولا يستوحش أحد من أحد، وترك السلام لغير المعرفة يشبه صدود المتصارمين المنهى عنه فينبغى للمؤمن أن يجتنب مثل ذلك. وقد روى ابن مسعود عن النبى عليه السلام أنه قال: (من أشراط الساعة السلام للمعرفة) وروى عبد الرزاق عن ابن عمر: (أنه كان يدخل السوق فيما يلقى صغيرًا ولا كبيرًا إلا سلم عليه، ولقد مر بعبد أعمى فجعل يسلم عليه والآخر لايرد عليه، فقيل له: إنه أعمى) وكان السلف من المحافظة على رد السلام كما ذكر معمر قال: (كان الرجلان من أصحاب النبى عليه السلام مجتمعين فتفرق بينهما شجرة، ثم يجتمعان فيسلم أحدهما على الآخر) . ومما يدل على تأكيد السلام على أكل أحد أن الله تعالى - قد أمر الداخل بيتًا غير مسكون بالسلام عند دخوله. وروى عن ابن عباس والنخعى وعطاء وعكرمة وقتادة فى قول الله - تعالى: (فإذا دخلتم بيوتًا فسلموا على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 18 أنفسكم} قالو: إذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. فإن الملائكة ترد عليك، وهذا يدل أن الداخل بيتًا مسكونًا أولى بالسلام. وروى ابن وهب، عن حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم أن رسول الله عليه السلام قال: (إذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أهلها واذكروا اسم الله، فأن أحدكم إذا سلم حين يدخل بيته وذكر اسم الله على طعامه، يقول الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم هاهنا ولاعشاء وإذا لم يسلم إذا دخل ولم يذكر اسم الله على طعامه، قال الشيطان لأصحابه: أدركتم المبيت والعشا) . 7 - باب: آية الحجاب / 9 - فيه: أَنَس، أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ مَقْدَمَ النّبِىّ، عليه السَّلام، الْمَدِينَةَ، فَخَدَمْتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عَشْرًا حَيَاتَهُ، وَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الْحِجَابِ، فكَانَ أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ يَسْأَلُنِى عَنْهُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِى مُبْتَنَى النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، أَصْبَحَ رسول الله بِهَا عَرُوسًا، فَدَعَا الْقَوْمَ، فَأَصَابُوا مِنَ الطَّعَامِ، ثُمَّ خَرَجُوا، وَبَقِى مِنْهُمْ رَهْطٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَطَالُوا الْمُكْثَ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام فَخَرَجَ، وَخَرَجْتُ مَعَهُ كَىْ يَخْرُجُوا، فَمَشَى رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام وَمَشَيْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ، فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ لَمْ يَتَفَرَّقُوا، فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام وَرَجَعْتُ مَعَهُ حَتَّى بَلَغَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَظَنَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 19 أَنهمْ قَدْ خَرَجُوا، فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ، فَإِذَا هُمْ قَدْ خَرَجُوا، فَأُنْزِلَ االْحِجَابِ، فَضَرَبَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ سِتْرًا. / 10 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِلنّبِىّ، عليه السَّلام: احْجُبْ نِسَاءَكَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَكن نساء النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يَخْرُجْنَ لَيْلا إِلَى لَيْلٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، وَكَانَتِ امْرَأَةً طَوِيلَةً، فَرَآهَا عُمَرُ، وَهُوَ فِى الْمَجْلِسِ، فَقَالَ: عَرَفْتُكِ يَا سَوْدَةُ، حِرْصًا عَلَى أَنْ يُنْزَلَ الْحِجَابُ، قَالَتْ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْحِجَابِ. قال الطبرى: فى حديث عائشة فرض الحجاب على أزواج النبى عليه السلام لقول عمر للنبى (أحجب نساءك) وقال فى حديث آخر: (يا رسول الله، لو حجبت أمهات المؤمنين فإنه يدخل عليهن البر والفاجر. فنزلت آيه الحجاب) . قال غيره: ويدل على صحة ذلك قول الفقهاء أن إحرام المرأة فى وجهها كفيها، وإجماعاعهم أن لها أن تبرز وجهها للأشهاد عليها، ولايجوز ذلك فى أمهات المؤمنين. وقد اختلف السلف فى تأويل قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ماظهر منها (فذهب طائفة إلى أن قوله: (إلا ماظهر منها (: الكحل والخاتم وقيل: الخضاب والسوار والقرط والثياب. وقال أكثر أهل العلم: (إلا ماظهر منها (الوجه والكفان، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 20 روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وأنس، وهو قول مكحول وعطاء والحسن. قال إسماعيل بن إسحاق: قد جاء التفسير ماذكر، والظاهر والله أعلم - يدل على أنه الوجه والكفان، لأن المرأة يجب عليها أن تستر فى الصلاة كل موضع منها إلا وجهها وكفيها، وفى ذلك دليل أن الوجه والكفين يجوز للغرباء أن يروه من المرأة، والله أعلم بما أراد من ذلك. وسيأتى بقية الكلام فى حديث أنس فى باب من قام من مجلسه أو بيته ولم يستأذن اصحابه وتهيأ للقيام ليقوم الناس فى هذا الجزء إن شاء الله. وقوله: (وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب) : أنه يجوز للعالم أن يصف ماعنده من العلم لسائله عنه على وجه التعريف بما عنده منه لا على سبيل الفخر والإعجاب. 8 - باب: الاستئذان من أجل البصر / 11 - فيه: سَهْلِ، اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِى حُجَرِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَمَعَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فَقَالَ: (لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ؛ لَطَعَنْتُ بِهِ فِى عَيْنِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ) . / 12 - فيه: أَنَس: أَنَّ رَجُلا اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ حُجَرِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَامَ إِلَيْهِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) بِمِشْقَصٍ، أَوْ بِمَشَاقِصَ، فَكَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَخْتِلُ الرَّجُلَ لِيَطْعُنَهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 21 قال المؤلف: فى هذا الحديث تبين معنى الاستئذان وأنه إنما جعل خوف النظر إلى عورة المؤمن وما لا يحل منه، وفى الموطأ عن عطاء ابن يسار: (أن رجلاً قال: يا رسول الله، أستأذن على أمى؟ قال نعم. قال: أنى معها فى البيت. قال أستأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟ قال: لا. قال: فأستأذن عليها) . وروى عن على بن أبى طالب أنه قال: لا يدخل الغلام إذا اتحتم على أمه، ولا على اخته إلا بإذن وأصل هذا الكلام فى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم (الآية. قال أبو عبيد: فأما ذكور المماليك فعليهم الاستئذان فى الأحوال كلها. وهذا الحديث مما يرد قول أهل الظاهر، ويكشف غلطهم فى إنكارهم العلل والمعانى، وقولهم أن الحكم للأسماء خاصة، لأنه عليه السلام علل الاستئذان أنه إنما جعل من قبل البصر، فدل ذلك على أن النبى عليه السلام أوجب اشياء وحظر أشياء من أجل معان علق التحريم بها، ومن أبى هذا رد نص السنن. وقد نطق القرآن بمثل هذا كثيرًا من ذلك قوله تعالى: (وجعلنا فى الأرض رواسى أن تميد بهم (وقال: (وما أفأ الله على رسوله من أهل القرى (إلى قوله: (كى لا يكون دوله بين الأغنياء منكم (وقال: (لئلا يكون للناس على الله حجة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 22 بعد الرسل (وقال تعالى: (ذلك جزيناهم ببغيهم (فى مواضع كثيرة يكثر عددها، فلا يلتفت إلى من خالف ذلك. 9 - باب: زنا الجوارح دون الفرج / 13 - فيه: ابْن عَبَّاس، لَمْ أَرَ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِنْ قَوْلِ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِى، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ) . قال المؤلف: وزنا العين: فيما زاد على النظرة الأولى التى لا تملك مما يديم النظر إليه على سبيل الشره والشهوة، وكذلك زنا المنطق: فيما يلتذ به من محادثه من ال يحل له ذلك منه، وزنا النفس: تمنى ذلك وتشتهيه، فذلك كله سمى زنا، لأنه من دواعى زنا الفرج، ودل قوله: (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، وأدرك ذلك لا محالة) أن ابن آدم لا يخلص من ذلك. قال المهلب: وكل ما كتبه الله على ابن آدم فهم سابق فى علم الله لابد أن يدركه المكتوب عليه، وإن الإنسان لايملك دفع عن نفسه غير أن الله تعالى تفضل على عباده وجعل ذلك لممًا وصغائر لايطالب بها عباده إذا لم يكن للفرج تصديق لها، فإذا صدقها الفرج كان ذلك من الكبائر، رفقا من الله بعباده، ورحمة لهم، لما جبلهم عليه من ضعف الخلقة، ولو آخذ عباده باللمم أو ما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 23 دونه من حديث النفس لكان ذلك عدلا منه فى عباده وحكمة، لا يسأل عما يفعل وله الحجة البالغة، لكن قبل منهم اليسير وعفا لهم عن الكثير تفضلاً منه وإحسانًا. وقوله: (لا محالة) يعنى: لا حيلة له فى التخلص من إدراك ما كتب عليه. باب: التسليم والاستئذان ثلاثًا / 14 - فيه: أَنَس، كَانَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلاثًا، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاثًا. / 15 - وفيه: أبو سعيد الخدرى قال: كنت فى مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: أستأذنت على عمر ثلاثا، فلم يؤذن لى فرجعت، قال: مامنعك؟ قلت: استأذنت ثلاثا، فلم يؤذن فرجعت، وقال رسول الله: (إذا استأذن أحدكم ثلاثا، فلم يؤذن له فليرجع) ، فقال: والله لتقيمن عليه بينه، أمنكم أحد سمعه من النبى - عليه السلام؟ قال أُبى بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، قال أبو سعيد: فكنت أصغر القوم فقمت معه، فأخبرت عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال ذلك. قال المهلب: أما تسليمه صلى الله عليه ثلاثا وكلامه ثلاثا فهو ليبالغ فى الافهام والاسماع، وقد أورد الله ذلك فى القرآن فكرر القصص والاخبار والأوامر ليفهم عباده، وليتدبر السامع فى المرة الثانية والثالثة مالم يتدبر فى الأولى، وليرسخ ذلك فى قلوبهم. والحفظ إنما هو تكرر الدراسة للشىء المرة الواحدة، وقول أنس: أنه كان إذا تكلم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 24 بكلمة أعادها ثلاثًا. يريد فى أكثر أمره، وأخرج الحديث مخرج العموم، والمراد به الخصوص. قال غيره: واختلف العلماء فى تأويل قوله: (الاستئذان ثلاثًا) فقالت طائفة: معنى قوله: فإن أذن له وإلا فليرجع ان شاء، فإن شاء زاد على الثلاث لا أنه واجب عليه أن يرجع. قال ابن نافع: لا بأس أن عرفت أحدًا أن تدعوه أن يخرج اليك وتنادى به مابدا لك. وروى ابن وهب عن مالك قال: الاستئذان ثلاثا، لاحب لأحد أن يزيد عليها إلا من علم أنه لم يسمع، فلا بأس أن يزيد. وظاهر حديث أبى موسى يرد هذا القول، لأن أبا موسى حمل الحديث على أنه لايزاد على ثلاث مرات، ودل أنه على ذلك تلقى معناه من النبى عليه السلام ولو كان عند أبى موسى أنه يجوز الزيادة على الثلاث فى الاستئذان لم يكن مخالفًا لمذهب عمر ابن الخطاب، ولم يحتج أبو موسى أن ينزع بقوله عليه الساسلام: (الاستئذان ثلاثًا) حين أنكر عليه عمر ترك الزيادة الزيادة على الثلاث. وقد زعم قوم من أهل البدع أن مذهب عمر رد قبول خبر الواحد العدل، وهذا خطأ فى التأويل وجهل بمذهب عمر وغيره من السلف. وقد جاء فى بعض طرق هذا الحديث أن عمر قال لأبى موسى: (أما انى لم أتهمك، ولكنى أردت ألا يتجرأ الناس على الحديث عن رسول الله) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 25 ففيه من الفقه التثبيت فى خبر لما يجوز عليه من السهو وغيره، وحكم عمر بخبر الواحد أشهر من أن يخفى، وقد قبل خبر الضحاك ابن سفيان وحده فى ميراث المرأة من ديه زوجها، وقبل خبر حمل بن مالك الهذلى الاعرابى فى أن ديه الجنين غره عبد أو أمه، وقبل خبر عبد الرحمن بن عوف فى الجزية وفى الطاعون، ولا يشك ذو لب أن أبا موسى أشهر فى العدالة من الاعرابى الهذلى. وقد قال فى حديث السقيفة: إنى قائل مقالة فمن حفظها ووعاها فليتحدث بها، فكيف يأمر من سمع قوله أن يحدث به، وينهى عن الحديث عن رسول الله ولا يقبل خبر الواحد؟ هذا لايقوله إلا معاندًا وجاهل. وفيه: أن العالم المستبحر قد يخفى عليه من العلم مايعلمه من هو دونه، وإلاحاطة لله وحده. - باب: إذا دعى الرجل فجاء هل يستأذن وقَالَ سَعِيدٌ: عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِى رَافِعٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (هُوَ إِذْنُهُ) . / 16 - وفيه: مُجَاهِدٌ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، دَخَلْتُ مَعَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَوَجَدَ لَبَنًا فِى قَدَحٍ، فَقَالَ: (أَبَا هِرٍّ، الْحَقْ أَهْلَ الصُّفَّةِ، فَادْعُهُمْ إِلَىَّ) قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا، فَأُذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا. قال المهلب: إذا دعى وأتى مجيبا للدعوة، ولم تتراخ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 26 المدة فهذا دعاؤه إذنه فأتى فى غير حين الدعاء فأنه يستأذن وكذلك إذا دعى إلى موضع لم يعلم أن به أحدًا مأذونًا له فى الدخول أنه لايدخل حتى يستأذن، فإن كان فيه أحد مأذونا له مدعوًا قبله فلا بأس أن يدخل بالدعوة، وان تراخت الدعوة وكان بين ذلك زمن يمكن الداعى أن يخلو فى أمره أو يتعدى لبعض شأنه، أو يتصرف أهل داره فلا يفتئت بالدعوة على الدخول حتى يستأذن كحديث مجاهد عن أبى هريرة، هذا وجه تأويل الحديثين، والله أعلم. - باب: التسليم على الصبيان / 17 - فيه: أَنَس، أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: كَانَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يَفْعَلُهُ. قال المؤلف: سلام النبى (صلى الله عليه وسلم) على الصبيان من خلفه العظيم، وأدبه الشريف وتواضعه عليه السلام، وفيه تدريب لهم على تعليم السنن، ورياضة لهم على آدابه الشريعة ليبلغوا حد التكليف وهم متأدبون بأدب الإسلام، وقد كان عليه السلام يمازح الصبيان ويداعبهم ليقتدى به فى ذلك، فما فعل شيئًا وان صغير إلا ليسن لأمته الاقتداء به، والاقتداء لأثره، وفى ممازحته للصبيان تذليل النفس على التواضع ونفى التكبر عنها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 27 - باب: تسليم الرجال على النساء والنساء على الرجال / 18 - فيه: سَهْلٍ، قَالَ: كُنَّا نَفْرَحُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، [قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ] : كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تُرْسِلُ إِلَى بُضَاعَةَ - قَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ: نَخْلٍ بِالْمَدِينَةِ - فَتَأْخُذُ مِنْ أُصُولِ السِّلْقِ، فَتَطْرَحُهُ فِى قِدْرٍ، وَتُكَرْكِرُ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ، فَإِذَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَةَ انْصَرَفْنَا، نُسَلِّمُ عَلَيْهَا، فَتُقَدِّمُهُ لْنَا، فَنَفْرَحُ مِنْ أَجْلِهِ، وَمَا كُنَّا نَقِيلُ، وَلا نَتَغَدَّى إِلا بَعْدَ الْجُمُعَةِ. / 19 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا عَائِشَةُ، هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلامَ) ، قَالَتْ: قُلْتُ: وَعَلَيْهِ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، تَرَى مَا لا نَرَى، تُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . تَابَعَهُ معمر، وَقَالَ يُونُسُ، وَالنُّعْمَانُ، عَنِ الزُّهْرِىِّ: (وَبَرَكَاتُهُ) . قال المهلب: السلام على النساء جائز إلا على الشابات منهم فإنه يخشى أن يكون فى مكالمتهن بذلك خائنة أعين أو نزعه شيطان، وفى ردهن من الفتنة مما خيف من ذلك أن يكون ذريعة يوقف عنه، إذ ليس ابتداؤه فريضة، وإنما الفريضة منه الرد، وأما المتجالات والعجائز فهو حسن، إذ ليس فيه خوف ذريعة، هذا قول قتادة، واليه ذهب مالك وطائفة من العلماء. وقال الكوفيون: لا يسلم الرجال على النساء إذا لم يكن منهن ذوات محارم. وقالوا: لما سقط عن النساء الأذان والاقامة والجهر بالقراءة فى الصلاة سقط عنهن رد السلام، فلا يسلم عليهن. وقال ابن وهب: بلغنى عن ربيعة أنه قال: ليس على النساء التسليم على الرجال، ولا على الرجال التسليم على النساء، وحجة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 28 مالك ومن وافقه حديث سهل أنهم كانوا يسلمون على العجوز يوم الجمعة مع النبى عليه السلام ولم تكن ذات محرم منهم، وأيضًا حديث عائشة أن النبى بلغها سلام جبريل، وفى ذلك أعظم الأسوة والحجة. وقال صاحب الأفعال: الكركرة: تصريف الرياح السحاب إذا جمعته بعد تفرق، وتكركر السحاب إذا تراد فى الهواء. - باب: إذا قال من ذا فقال أنا / 20 - فيه: جَابِرَ، أَتَيْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فِى دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِى، فَدَفَعْتُ الْبَابَ، فَقَالَ: (مَنْ ذَا) ؟ فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ: (أَنَا، أَنَا) ، كَأَنَّهُ كَرِهَهَا. قال المهلب: إنما كره عليه السلام قول جابر: لأنه ليس فى ذلك بيان إلا عند من يعرف الصوت، وأما عند من يمكن أن يشتبه عليه فهو من التعنيت، فلذلك كرهه، وقد قال بعض الناس: ينبغى أن يكون لفظ الاستئذان بالسلام، وزعم أن النبى إنما كره قول جابر: لأنه لم يستأذن عليه بلفظ السلام. وفيه: جواز ضرب باب الحاكم واخراجه من داره لبعض مايعزى إليه ويبين هذا قصهة كعب بن مالك، وابن أبى حدرد، وليس كما قال بعض الناس أنه لا يعرض للحكم إلا عند جلوسه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 29 - باب: من رد فقال عليك السلام وَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَعَلَيْهِ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. وَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (رَدَّ الْمَلائِكَةُ عَلَى آدَمَ: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ) . / 21 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَعَلَيْكَ السَّلامُ، ارْجِعْ فَصَلِّ. . .) الحديث. اختلفت الأثار فى هذا الباب فروى أن النبى عليه السلام قال فى رد السلام: عليك السلام، وقال فى رد اللائكة على آدم: السلام عليك، وفى كتاب الله تعالى تقديم السلام على اسم المسلم عليه، وهو قوله تعالى: (سلام على إل ياسين (و) سلام على موسى وهارون (وقال فى قصة إبراهيم: (رحمة الله وبركاتة عليكم أهل البيت (وقد جاء حديث رواه أبو عفان عن أبى تميمة الهجيمى، عن أبى دريد - أو أبى جرى -: (أن رجلا قال للنبى (صلى الله عليه وسلم) : عليك السلام يا رسول الله. فقال له: لاتقل عليك السلام فهى تحية الموتى، قل: السلام عليك) وهذا الحديث لايثبت، وقد صح الوجهان عن النبى عليه السلام إلا أنه جرت عادة العرب بتقديم اسم المدعو عليه فى الشر خاصة كقولهم: عليه لعنة الله وغضب الله، قال تعالى: (وأن عليك لعنتى إلى يوم الدين (وقال فى المتلاعنين) والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين (وفى لعان المرأة: (والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ( الجزء: 9 ¦ الصفحة: 30 وروى يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمه، عن أبى هريرة أن رسول الله قال: (السلام من أسماء الله، فأفشوه بينكم) فإذا صح هذا الحدديث، فالاختيار فى التسليم والأدب فيه تقديم اسم الله تعالى على اسم المخلوق. فإن فعل فاعل غير ذلك وقدم اسم المسم عليه على اسم الله تعالى فلم يأت محرمًا، ولا حرج عليه لثبوت ذلك عن النبى - عليه السلام. وأما قوله عليه السلام: (عليك السلام تحية الموتى) فقد ثبت عن النبى أنه قال فى سلامه على القبور: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين وحياهم بتحية الأحياء) ، وقال ابن أبى زيد: يقول السلام عليكم، فيقول الراد: وعليكم السلام، أو يقول: سلام عليكم كما قيل له، وهو معنى قوله تعالى: (أو ردوها (وأكثر ما ينتهى السلام إلى البركة، وهو معنى قوله تعالى: (فحيوا بأحسن منها (ولا تقل فى ردك: سلام عليك. - باب: إذا قال فلان يقرئك السلام / 22 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ لَهَا: (إِنَّ جِبْرِيلَ يُقْرِئُكِ السَّلامَ) ، قَالَتْ: وَعَلَيْهِ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. هذا حجة فى أن من بلغ إليه سلام غائب عنه أن يرد عليه السلام كما يرد على الحاضر، وروى أيوب، عن أبى قلابة: (أن رجلاً أتى سلمات الفارسى فقال له: إن أبا الدرداء يقول: عليك السلام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 31 قال: متى؟ قال: منذ ثلاث، قال: أما أنك لو لم تؤدها كانت أمانة عندك) . - باب: التسليم فى مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين / 23 - فيه: أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) رَكِبَ حِمَارًا عَلَيْهِ إِكَافٌ تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ، وَهُوَ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، حَتَّى مَرَّ فِى مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلاطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأوْثَانِ وَالْيَهُودِ، وَفِيهِمْ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ بْنُ سَلُولَ، وَفِى الْمَجْلِسِ عَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ، خَمَّرَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَى أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: لا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ نَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ. . . الحديث. قال الطبرى: فى هذا الحديث الابانة أنه لاحرج على المرء فى جلوسه مع قوم فيهم منافق أو كافر، وفى تسليمه عليهم إذا انتهى اليهم بالجلوس، وذلك أن النبى سلم على القوم الذين فيهم عبد الله بن أبى، ولم يمتنع من ذلك لمكان عبد الله مع نفاقه وعدواته للإسلام وأهله، إذ كان فيهم من أهل الإيمان جماعة. وقد روى عن الحسن البصرى أنه قال: إذا مررت بمجلس فيه مسلمون وكفار فسلم عليهم. وذلك خلاف ما يقول بعض الناس أن التسليم غير جائز على من كان عن سبيل الحق منحرفًا، إما لبدعه أو ضلاله من الأهواء الرديئة، أو لملة من ملل الكفار دان بها، وتكليمه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 32 غير سائغ وذلك أنه لا ضلالة أشنع ولابدعة أخبث ولا كفر ارجس من النفاق، ولم يكن فى نفاق عبد الله بن أبى يوم هذه القصة شك. وإن قيل: إن رسول الله إنما سلم عليه يومئذ ونزل إليه ليدعوه إلى الله وذلك فرض عليه. قيل: لم يكن نزوله عليه السلام ليدعوه، لأنه قد كان تقدم الدعاء منه لعبد الله بن الله بن أبى ولجماعة المنافقين فى أول الإسلام، فكيف يدعى إلى ما يظهره؟ وإنما نزل عليه السلام هناك استئلافا لهم ورفقا بهم، رجاء فى رجوعهم إلى الحق. قال المهلب: وقد كان عليه السلام يستألف بالمال، فضلا عن التحية والكلمة الطيبة، ومن استئلافة أنه كناه عند سعد بن عبادة، فقال له سعد: اعف عنه واصفح. أيلا تناصبه العداوة، كل هذا رجاء أن يراجع الإسلام، وقد أجاز ما لك تكنية اليهودى والنصرانى. قال الطبرى: وقد روى عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب، روى جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة قال: كنت ردفًا لابن مسعود فصحبنا دهقان من القنطرة إلى زرارة، فانشقت له طريق فأخذ فيه، فقال عبد الله: أين الرجل؟ فقلت: أخذ فى طريقه، فأتبعه بصره، وقال: السلام عليكم. فقلت ياأبا عبد الرحمن: أليس يكره أن يبدءوا بالسلام؟ قال: نعم، ولكن حق الصحبة. وقال إبراهيم: إذا كانت لك إلى يهودى حاجة فابدأه بالسلام. وكان أبو أمامه إذا أنصرف إلى بيته لايمر بمسلم ولا نصرانى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 33 ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه، فقيل له فى ذلك، فقال: أمرنا أن نفشى السلام. وقال كريب: كتب ابن عباس إلى يهودى جربا فسلم عليه، فقال له كريب: سلمت عليه فقال: ان الله هو السلام. وكان ابن محيريز يمر على السامرة فيسلم عليهم. وقال قتادة: إذا دخلت بيوت أهل الكتاب فقل: السلام على من أتبه الهدى. وسئل الأوزاعى عن مسلم مربكافر فسلم عليه، فقال إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون. فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما رواه شعبة وسفيان عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (لاتبدءوا النصارى واليهود بالسلام، وإذا لقيتموهم فى الطريق فضطروهم إلى أضيقة) ؟ قيل: كل الخبرين صحيح، وليس فى أحدهما خلاف للآخر وإنما فى حديث أسامة معنى خبر أبى هريرة، وذلك أن خبر أبى هريرة مخرجة العموم، وخبر أسامة مبين أن معناه الخصوص، وذلك أن فيه أن النبى عليه السلام لما رأى عبد الله بن أبى جالسًا وحوله رجال من قومه تذمم أن يجاوزه، فنزل فسلم فجلس، فكان نزوله إليه قضاء ذمام. وهو نظير ما ذكر علقمة عن عبد الله فى تسليمه على الدهقان الذى صحبه فى طريق الكوفة فقال: أنه صحبنا وللصحبة حق، وكما قال النخعى: إذا كانت لك إلى يهودى حاجة أو نصرانى فابدأه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 34 بالسلام. فبان بخبر أسامة أن قوله عليه السلام فى خبر أبى هريرة: (لاتبدءوهم بالسلام) إنما هو لا تبدءهم لغير سبب يدعوكم إلى أن تبدءهم: من قضاء ذمام أو حاجة تعرض لكم قبلهم، أو حق صحبة فى جواز أو سفر. قال المهلب: وفيه عيادة المريض على بعد والركوب إليه. وفيه: ركوب الحمر لأشراف الناس والارتداف. وقوله: خمر عبد الله أنفه يعنى غطاه، وكل مغطى عند العرب فهو مخمر، ومنه قوله عليه السلام للرجل فى إناء: (ألا خمرته ولو بعود تعرضه عليه) . والبحرة: القرية، وكل قرية لها نهر ماء جار أو نافع، فإن العرب تسميها بحرًا. وقد قيل فى قوله تعالى: (ظهر الفساد فى البر والبحر (أنه عنى بالبحر الأمصار التى فيها أنهار ماء، والعرب تقول: هذه بحرتنا، أى: بلدتنا، وقال ابن ميادة: كان بقاياه ببحر ملك نقيه سحق من رداء مخبر وقوله: يعصبوه أى: يسودوه، والسيد المطاع يقال له: المعصب، لأنه يعصب الأمر براسه. والتاج عندهم للملك، والعصابة للسيد المطاع. وقوله: شرق بذلك، أى غص به، يقال: غص الرجل بالطعام وشرق بالماء وسجى بالعظم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 35 - باب: من لم يسلم على من اقترف ذنبًا ولم يرد سلامة حتى تتبين) توبته وإلى متى تتبين) توبة العاصى وَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: لا تُسَلِّمُوا عَلَى شَرَبَةِ الْخَمْرِ. / 24 - فيه: كَعْبَ، حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ غزوة تَبُوكَ، وَنَهَى النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ كَلامِنَا، وَآتِى النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَأَقُولُ فِى نَفْسِى: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلامِ أَمْ لا؟ حَتَّى كَمَلَتْ خَمْسُونَ لَيْلَةً، وَآذَنَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى الْفَجْرَ. قال المهلب: ترك السلام على أهل المعاصى بمعنى التأديب لهم سنة ماضية بحديث كعب بن مالك وأصحابه: الثلاثة الذين خلفوا، وبذلك قال كثير من أهل العلم فى أهل البدع: لا يسلم عليهم، أدبا لهم. وقد روى عن على بن أبى طالب أنه قال: لاتسلموا على مدمن الخمر ولا على الملتهى بأبويه. ذكره الطبرى. وكذلك كان فى قطع الكلام عن كعب بن مالك وصاحبه حين تخلفوا عن رسول الله، وإظهار الموجدة عليهم أبلغ فى الأدب لهم، والإعراب أدب بالغ، ألا ترى قوله تعالى: (واللاتى تخافون نشوزهن فعظوهن واهجرهن فى المضاجع (. وقوله: وإلى متى تتبين توبة العاصى ليس فى ذلك حد محدودة، ولكن معناه أنه لاتتبين توبته من ساعته ولا ساعته ولايومه حتى يمر عليه ما يدل على ذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 36 روى ابن وهب بإسناد أن يزيد بن أبى حبيب قال: لو مررت على قوم يلعبون بالشطرنج ما سلمت عليهم. وكان سعيد بن جبير إذا مر على أصحاب النرد لم يسلم عليهم. ورخص مالك فى السلام على من لم يدمن اللعب بها، وإنما يلعب به المرة بعد المرة. - باب: كيف رد السلام على أهل الذمة / 25 - فيه: عَائِشَةَ، دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَفَهِمْتُهَا، فَقُلْتُ: عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ عليه السَّلام: (مَهْلا يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأمْرِ كُلِّهِ) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (فَقَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ) . / 26 - وفيه: ابْنِ عُمَر، وَأنس، أَنَّ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ - قَالَ ابن عُمر: الْيَهُودُ، وقَالَ أنس: أهل الكتاب - فقالوا: وَعَلَيْكَ) . لابن عمر ولأنس: وعليكم. السام: فسره أبو عبيد قال: هو الموت. قال الخطابى: وتأوله قتادة على خلاف ذلك، وروى عبد الوارث، عن سعيد بن أبى عروبة قال: كان قتادة يفسر السام عليكم: تسأمون دينكم، وهو مصدر من سئمته سآمه وسآمه مثل: رضعة رضاعة ورضاعًا ولذذته لذاذة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 37 ووجدت هذا الذى فسره قتادة روى عن النبى عليه السلام ذكر بقى بن مخلد فى التفسير عن سعيد، عن قتادة، عن أنس (أن النبى عليه السلام بينا هو جالس مع أصحابه، إذ أتى يهودى فسلم عليهم فردوا عليه، فقال عليه السلام: هل تدرون ما قال؟ قالوا: سلم يا رسول الله. قال: سام عليكم، أى تسأمون دينكم) . قال أبو سليمان: ورواية (عليكم) بغير وار أحسن من رواية الواو، لأن معناه بغير واو: رددت ما قلتموه عليكم، وإذا أدخلت الواو صار المعنى على وعليكم، لأن الواو حرف التشريك. واختلف العلماء فى رد السلام على أهل الذمة فقالت طائفة: رد السلام فريضة على المؤمنين والكفار، قالوا: وهذا تأويل قوله السلام فريضة على المؤمنين والكفار، قالوا: وهذا تأويل قوله تعالى: (فحيوا بأحسن منها أو ردوها (قال ابن عباس وقتادة وغيره: هى عامة فى رد السلام على المؤمنين والكفار. قال وقوله تعالى: (أو ردوها (يقول: وعليكم للكفار. قال ابن عباس: ومن سلم عليك من خلق الله فاردد عليه، ولو كان مجوسيا. وروى ابن وهب، عن مالك: لاترد على اليهودى والنصرانى، فإن رددت فقل: عليك. وروى ابن عبد الحكم، عن مالك أنه يجوز تكنية اليهودى والنصرانى وعيادته، وهذا أكثر من رد السلام. وروى يحى عن مالك أنه سئل عمن سلم على يهودى أو نصرانى هل يستقليه ذلك؟ قال: لا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 38 وقال ابن وهب: سلم على اليهودى والنصرانى، وتلا قوله تعالى: (وقولوا للناس حسنا (. وقالت طائفة: لا يرد السلام على أهل الذمة، وقوله تعالى: (فحيوا بأحسن منها أو ردوها (فى أهل الإسلام خاصة. عن عطاء. ورد عليه السلام على اليهود: (وعليكم) حجة لمن رأى الرد على أهل الذمة، فسقط قول عطاء. قال المهلب: وفى الحديث من الفقه جواز انخداع الرجل الشريف لمكايد أو عاص، ومقارضته من حيث لايشعر إذا رجا رجوعه وتوبته. وفيه: الانتصار للسلطاء، ووجوب ذلك على حاشيته وحشمه.؟ - باب: من نظر فى كتاب من يحذر على المسلمين ليستبين أمره / 27 - فيه: عَلِىّ، بَعَثَنِى النّبِىّ، عليه السَّلام، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَأَبَا مَرْثَدٍ، وَكُلُّنَا فَارِسٌ، إلى رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مَعَهَا صَحِيفَةٌ مِنْ حَاطِبِ ابْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ، فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهَا، فقُلْنَا لها: أَيْنَ الْكِتَابُ الَّذِى مَعَكِ؟ قَالَتْ: مَا مَعِى كِتَابٌ، فَأَنَخْنَا بِهَا، فَابْتَغَيْنَا فِى رَحْلِهَا، فَمَا وَجَدْنَا شَيْئًا، فقَالَ صَاحِبَاىَ: مَا نَرَى كِتَابًا، فقُلْتُ: لَقَدْ عَلِمْتُ مَا كَذَبَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَالَّذِى يُحْلَفُ بِهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لأجَرِّدَنَّكِ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَتِ االْجِدَّ مِنِّى، أَهْوَتْ بِيَدِهَا إِلَى حُجْزَتِهَا - وَهِىَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ - فَأَخْرَجَتِ الْكِتَابَ، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (مَا حَمَلَكَ يَا حَاطِبُ عَلَى مَا صَنَعْتَ) ؟ قَالَ: مَا بِى إِلا أَنْ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 39 غَيَّرْتُ، وَلا بَدَّلْتُ، أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لِى عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِى وَمَالِى، وَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ هُنَاكَ إِلا وَلَهُ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، قَالَ: (صَدَقَ، فَلا تَقُولُوا لَهُ إِلا خَيْرًا) . . . الحديث. . . فَقَالَ: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ) ، قَالَ: فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ، وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قال المهلب: فيه: هتك ستر المذنب وكشف المأة العاصية وأن الحديث الذى روى أنه لا يجوز النظر فى كتاب أحد، وأن ذلك حرام وماجاء من التغليظ فيه، فإن ذلك لمن يظن به كتابه إلا الخير، فإن كان متهمًا على المسلمين فلا حرمه لكتابه ولا له. ألا ترى أن المرأة لا يجوز النظر إليها عريانة لغير ذى محرم منها لأنها عورة، وقد أراد على تجريدها لو لم تخرج الكتاب وأقسم أن لم تخرجه ليجردها، فحرمه المرأة أكثر من حرمة الكتاب، وقد سقطت عند خيانتها فكذلك حرمة الكتاب. وفيه: دليل أنه لابأس بالنظر إلى عورة المرأة عند الأمر ينزل فلا يجد من النظر إليها بدا، ويشهد لصحة ذلك ما رواه مالك، عن سهيل ابن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة: (أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، أرأيت ان وجدت مع أمرأتى رجلا أمهله حتى أتى بأربعة شهداء فقال رسول الله: نعم) . قال الطبرى: ولو كان الشهداء الأربعة إذا حضروا لم يجز لهم النظر إلى فروجهما، لم يكن حضورهم وغيبتهم إلا سواء، لأن الشهادة على الزنا لاتصح إلا أن يشهد الشهود أنهم رأوا ذلك منهما كالميل فى المكحلة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 40 وقد تقدم بعض معانى هذه الحديث فى باب الجاسوس فى كتاب الجهاد وفى باب المتأولين فى آخر الديات، فأغنى عن إعادته. - باب: كيف يكتب إلى أهل الكتاب / 28 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِى نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ - وَكَانُوا تِجَارًا. . . الحديث، ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُرِئَ، فَإِذَا فِيهِ: (بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، السَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ) . يكتب إلى أهل الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، ويقدم الكاتب اسمه فى كتابه كما يفعل إذا كتب إلى مسلم، وفى هذا الحديث حجة لمن أجاز أن يبدأ أهل الكتاب بالسلام عند الحاجة تكون اليهم لأن النبى إنما كتب إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام. - باب: فيمن يبدأ فى الكتاب / 29 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) (أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلا مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ، أَخَذَ نَقَرَ خَشَبَةً، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: مِنْ فُلانٍ إِلَى فُلانٍ) . قال المهلب: السنة أن يبدأ صاحب الكتاب بذكر نفسه فكذلك هى فى جميع الأشياء، ألا ترى أنه قد جاء فى الحديث: صاحب الدابة أولى لمقدمها) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 41 وروى معمر، عن أيوب قال: (قرأت كتابًا: من العلاء بن الحضرمى إلى محمد رسول الله) . وقال الشعبى: (كتب أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل: من أبى عبيدة ومعاذ لعبد الله عمر أمير المؤمنين) وقال نافع: كان عمال عمر إذا كتبوا إليه بدءوا بأنفسهم. وقال معمر، عن أيوب، عن نافع: كان ابن عمر أمر غلمانه إذا كتبوا إليه أن يبدءوا بأنفسهم، وإلا لم يرد اليهم جوابًا. وأجاز قوم أن يبدأ باسم غيره قبله، قال معمر: وكان أيوب ربما بدأ باسم الرجل قبله إذا كتب إليه. وروى أشهب: سئل مالك عن الذى يبدأ فى الكتاب بأصغر منه ولعله ليس بأفضل منه، قال: لابأس بذلك، أرأيت لو أوسع له فى المجلس إذا جاء إعظامًا له؟ وقال: إن أهل العراق يقولون: لاتبدأ بأحد قبلك، وإن كان أباك أو أكبر منك. يعيب ذلك من قولهم. - باب: قول النبى عليه السلام قوموا إلى سيدكم / 30 - فيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ أَهْلَ قُرَيْظَةَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، فَأَرْسَلَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) إِلَيْهِ فَجَاءَ، فَقَالَ: (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ - أَوْ قَالَ: خَيْرِكُمْ) - فَقَعَدَ عِنْدَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ النَّبِىِّ: (هَؤُلاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ) ، قَالَ: فَإِنِّى أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، فَقَالَ: (لَقَدْ حَكَمْتَ بِمَا حَكَمَ بِهِ الْمَلِكُ) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 42 قال المهلب: فيه أمر السلطان والحاكم بإكرام السيد من المسلمين، وجواز إكرام أهل الفضل فى مجلس السلطان الأكبر، والقيام فيه لغيره من أصحابه، وإلزام الناس كافة للقيام إلى سيدهم. قال الطبرى: فإن قال قائل: قد عارض حديث أبى سعيد ما روى مسعر، عن أبيالعديس، عن أبى مرزوق، عن أبى غالب، عن أبى أمامه قال: (خرج علينا علينا النبى متوكئًا على عصاه فقمنا له، فقال: لاتقوموا كما يقوم الاعاجم بعضهم لبعض) . قال الطبرى: وحديث أبى أمامة لا يجوز الاحتجاج به فى الدين وذلك أن أبا العديس وأبا مرزوق غير معروفين، مع اضطراب من ناقليه فى سنده، فمن قائل فيه عن أبى العديس، عن أبى أمامة. فإن ظن ظان أن حديث عبد الله بن بريده أن أباه دخل على معاوية فأخبرة أن النبى عليه السلام قال: (من أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا وجبت له النار) حجة لمن أنكر القيام للسادة، فقد ظن غير الصواب، وذلك أن هذا الخبر إنما ينبىء عن نهى رسول الله للذى يقام له السرور بما يفعل له من ذلك لا عن نهيه القائم عن القيام، وقد روى حماد بن زيد، عن ابن عون قال: كان المهلب بن أبى صفرة يمر بنا ونحن غلمان فى الكتاب فنقوم يوقوم الناس سماطين. وقال ابن قتيبه: معنى حديث معاوية وبريدة من أراد أن يقوم الرجال على رأسه كما يقام بين يدى الملوك والأمراء، وليس قيام الرجل لأخيه إذا سلم عليه من هذا فى شىء، لقوله: (من سره أن يقوم له الرجال صفوفنًا والصافن: هو الذى أطال القيام الجزء: 9 ¦ الصفحة: 43 فاحتاج لطول قيامه أن يرفع احدى رجليه ليستريح، وكذلك الصافن من الدواب. وروى النسائى: حديثنا زكريا بن يحى، حدثنى اسحاق، عن النضر بن شميل، حديثنا إسرائيل، عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال قال: حدثتنى عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين قالت: (كان رسول الله إذا رأى فاطمة ابنته قد أقبلت رحب بها، ثم قام إليها فقبلها، ثم أخذ بيدها حتى يجلسها فى مكانه) . - باب: المصافحة وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَّمَنِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) التَّشَهُّدَ وَكَفِّى بَيْنَ كَفَّيْهِ. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَامَ إِلَى طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِى وَهَنَّأَنِى. / 31 - فيه: قَتَادَةَ، قَالَ: قُلْتُ لأنَسٍ بن مالك: أَكَانَتِ الْمُصَافَحَةُ فِى أَصْحَابِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: نَعَمْ. / 32 - وفيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ هِشَامٍ، كُنَّا مَعَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. المصافحة حسنة عند عامة العلماء، وقد استحبها مالك بعد كراهة، وهى مما تنبت الود وتؤد المحبة، ألا ترى قول كعب بن مالك فى حديثه الطويل حين قام إليه طلحة وصافحه: (فوالله لا أنساها لطلحة أبدًا) فأخبر بعظيم موقع قيام طلحة إليه من نفسه ومصافحته له وسروره بذلك، وكان عنده أفضل الصله والمشاركة له، وقد قال أنس: إن المصافحة كانت فى أصحاب رسول الله، وهم الحجة والقدوة الذين يلزم اتباعهم، وقد ورد فى المصافحة أثار حسان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 44 روى ابن أبى شيبه: حديثنا أبو خالد وابن نمير، عن الأجلح، عن أبى إسحاق، عن البراء قال: قال رسول الله: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا) . وروى حماد عن حميد، عن أنس، عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (أهل اليمن أول من جاء بالمصافحة) . وروى ابن المبارك من حديث أنس بن مالك قال: (كان رسول الله إذا استقبله الرجل فصافحة لاينزع يده حتى يكون هو الذى نزع ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذى يصرفه) . - باب الأخذ باليدين وَصَافَحَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ بْنَ الْمُبَارَكِ بِيَدَيْهِ. / 33 - فيه: ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَّمَنِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَكَفِّى بَيْنَ كَفَّيْهِ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنِى السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ. . . وذكر الحديث. الأخذ باليدين هو مبالغةالمصافحة، وذلك مستحب عند العلماء، وإنما اختلفوا فى تقبيل اليد، فأنكره مالك وأنكر ما روى فيه، وأجازه آخرون، واحتجوا بما روى عن ابن عمر فى قصة السريه حيث فروا فرجعوا إلى النبى عليه السلام فقالوا: (نحن الفرارون يا رسول الله؟ فقال: بل أنتم العكارون أنا فئه المؤمنين. قال: فقبلنا يده) . وقبل أبو لبابة وكعب بن مالك وصاحباه يد رسول الله حين تاب الله عليهم ذكره الأبهري. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 45 وقد قبل أبو عبيدة يد عمر بن الخطاب حين قدم من سفر، وقبل زيد بن ثابت يد ابن عباس حين حبس ابن عباس بركابه، فقال ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، وقال زيد: هكذا أمرنا أن نفعل بآل رسول الله. قال الأبهرى: وإنما كرهها مالك إذا كانت على وجه التكبر والتعظيم لمن فعل ذلك به، وأما إذا قبل إنسان يد إنسان أو وجهه أو شيئًا من بدنه مالم يكن عورة على وجه القربه إلى الله لدينه أو لعلمه أو لشرفه، فإن ذلك جائز، وتقبيل يد النبى عليه السلام تقرب إلى الله. وما كان من ذلك تعظيمًا لدينا أو سلطان أو شبه ذلك من وجه التكبر فلا يجوز وهو مكروه. وذكر الترمذى من حديث شعبه، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله ابن سلمه، عن صفوان بن عسال (أن يهوديين أتيا إلى النبى عليه السلام فسألاه عن تسع آيات بينات فقال: لاتشركوا بالله شيئًا، ولاتسرقوا، ولاتزنزا، ولاتقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق، ولا تأكلوا الربا، ولاتقذفوا محصنة، ولاتولوا الفرار يوم الزحف وعليكم خاصة اليهود أن لا تعتدوا فى السبت. فقبلوا يده ورجله، وقالا: نشهد أنك نبى الله) قال الترمذى: وهذا حديث حسن صحيح، وفى الباب عن يزيد بن أسود وابن عمر وكعب بن مالك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 46 - باب: المعانقة وقول الرجل كيف أصبحت / 34 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ عَلِىّ بْن أَبِى طَالِب خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فِى وَجَعِهِ الَّذِى تُوُفِّى فِيهِ، فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَبَا حَسَنٍ، كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَارِئًا، فَأَخَذَ بِيَدِهِ الْعَبَّاسُ، فَقَالَ: أَلا تَرَاهُ؟ أَنْتَ وَاللَّهِ بَعْدَ الثَّلاثِ عَبْدُ الْعَصَا، وَاللَّهِ إِنِّى لأرَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سَيُتَوَفَّى فِى وَجَعِهِ، وَإِنِّى لأعْرِفُ فِى وُجُوهِ بَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْمَوْتَ، فَاذْهَبْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَنَسْأَلَهُ، فِيمَنْ يَكُونُ الأمْرُ؟ فَإِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِى غَيْرِنَا، أَمَرْنَاهُ فَأَوْصَى بِنَا، قَالَ عَلِىٌّ: وَاللَّهِ لَئِنْ سَأَلْنَاهَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَيَمْنَعُنَا، لا يُعْطِينَاهَا النَّاسُ أَبَدًا، وَإِنِّى لا أَسْأَلُهَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَبَدًا. قال المهلب: ترجم هذا الباب بباب المعانقة، ولم يذكرها فى الباب، وإنما أن يدخل فيه معانقة النبى للحسن حديث ابن لكع الذى ذكره فى كتاب البيوع فى باب ماذكر فى الأسواق، وقال أبو هريرة: (خرج رسول الله فى طائفة من النهار لا يكلمنى حتى أتى بسوق بنى قينقاع، فجلس بفناء بيت فاطمة من النهار لايكلمنى حتى أتى بسوق بنى يشتد حتى عانقه وقبله. . . .) الحديث، ولم يجد له سندًا غير السند الذى أدخله به فى غير هذا الباب، فمات قبل ذلك، وبقى الباب فارغًا من ذكر المعانقة، وتحته باب آخر قول الرجل كيف أصبحت، وأدخل حديث على، فلما وجد ناسخ الكتاب الترجمتين متواليتين ظنهما واحدة إذ لم يجد بينهما حديثًا، وفى كتاب الجهاد من تتابع الأبواب الفارغة مواضع لم يدرك أن يتمها بالأحاديث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 47 وقد اختلف الناس فى المعانقة فكرهها مالك وأجازها ابن عبيبه، حدثنا عبد الوهاب بن زياد بن يونس إجازة، قال: حدثنا أبى، قال: حدثنا سعيد بن إسحاق، قال: حدثنا على بن يونس الليثى المدنى قال: كنت جالسا عند مالك بن أنس إذ جاء سفيان بن عبيينه يستأذن الباب، فقال مالك: رجل صاحب سنة أدخلوه. فدخل فقال: السلام عليك ياأبا عبد الله ورحمة الله وبركاتة. فقال مالك: وعليك السلام ياأبا محمد ورحمة الله وبركاتة. فصافحة ثم قال: ياأبا محمد، لولا أنها بدعة لعنقناك. قال سفيان: عانق خير منك، النبى عليه السلام قال مالك: جعفر؟ قال: نعم. قال: ذلك حديث خاص ياأبا محمد. قال سفيان: مايعم جعفر يعمنا، ومايخص جعفر يخصنا، إذ كنا صالحين أفتأذن لى أن حدثنى عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس أنه قال: (لما قدم جعفر من أرض الحبشة أعتنقه النبى عليه السلام وقبل بين عينيه، فقال: جعفر أشبه الناس بى خلقًا وخلقًا) . وروى عبد الرازق، عن سليمان بن داود قال: رأيت الثورى ومعمر حين التقيا احتضنا وقبل كل واحد منهما صاحبه. وقد وردت فى المعانقة آثار ذكر الترمذى عن ابن إسحاق، عن عروه، عن عائشة قالت: (قدم زيد بن حارثه المدينة ورسول الله فى بيتى، فأتاه فقرع الباب، فقام إليه رسول الله عريانا يجر ثوبه والله ما رأيته عريانا قبله ولا بعده فاعتنقه وقبله) . وروى سليمان بن داود، عن عبد الحكم بن منصور، عن عبد الملك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 48 ابن عمير، عن أبى سلمه بن عبد الرحمن، عن أبى الهيثم بن التيهان: (أن النبى عليه السلام لقيه فاعتنقه وقبله) من حديث قاسم بن أصبغ، عن محمد بن غالب، عن سليمان بن داود. قال المهلب: وفى أخذ العباس بيد على جواز المصافحة. وفيه: جواز قول الرجل يسأل عن حال العليل: كيف أصبح؟ وإذا جاز أن يقال: كيف اصبح جاز أن يقال: كيف أصبحت؟ ولكن لا يكون هذا إلا بعد التحية المأمور بها من السلام. وقول العباس: (ألا تراه؟ والله بعد ثلاث عبد العصا) يعنى بقوله: ألا تراه ميتًا أى فيه علامة الموت، ثم قال له: (أنت بعد ثلاث عبد العصا) . فيه: جواز اليمين على ماقام عليه الدليل. . وفيه: أن الخلافة لم تكن مذكورة بعد النبى عليه السلام لعلى أصلاً، لأنه قد حلف العباس أنه مأمور لا آمر، لما كان يعرف من توجيه النبى عليه السلام بها إلى غيره، وفى سكوت على على ماقال العباس وحلف عليه دليل على علم بما يقال العباس أنه مأمور من غيره وماخشية على من أن يصرح النبى عليه السلام بصرف الخلافة إلى غير عبد المطلب فلا يمكنهم أحد بعده منها ليس كما ظن والله أعلم، لأن النبى عليه السلام قد قال: (مروا أبا بكر يصلى بالناس، فقيل له: لو أمرت عمر) فلم ير ذلك ومنع عمر من التقدم فلم يكن ذلك محرمها على عمر بعد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 49 - باب: من أجاب بلبيك وسعديك / 35 - فيه: مُعَاذٍ، قَالَ: أَنَا رَدِيفُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ) ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ - ثُمَّ قَالَ مِثْلَهُ ثَلاثًا - (هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ) ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: (حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ) ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: (هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، أَنْ لا يُعَذِّبَهُمْ) . / 36 - وفيه: أَبُو ذَرّ، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِى مَعَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فِى حَرَّةِ الْمَدِينَةِ عِشَاءً، فَقَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ) ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: (الأكْثَرُونَ هُمُ الأقَلُّونَ. . .) ، الحديث، إلى قوله: (أَتَانِى فَأَخْبَرَنِى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِى لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ) ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: (وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ) . قَالَ الأعْمَشُ: وَحَدَّثَنِى أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ نَحْوَهُ. قال ابن الأنبارى: معنى قوله: (لبيك) أنا مقيم على طاعتك من قولهم: لب فلان بالمكان وألب به إذا أقام به، ومعنى سعديك من الاسعاد والمتابعة. وقال غيره: معنى (لبيك) أى: اجابة بعد إجابة، ومعنى سعديك: إسعادًا لك بعد إسعاد. قال المهلب: والإجابة بنعم وكل مايفهم منه الإجابة كاف، ولكن إجابة السيد والتشريف بالتلبية والارحاب والإسعاد أفضل. فإن اعترض بقوله عليه السلام: (هل تدرى ما حق العباد على الله) من زعم من المرجئهة أن الله يجب عليه ثواب المطيعين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 50 فجواب أهل السنة لهم القائلين أن الله لايحب عليه شىء لعباده أن هذا اللفظ خرج على التزاوج والتقابل لما تقدم فى أول الكلام من ذكر حق الله على العباد كما قال تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها (فسمى الجزاء على السيئة باسم السيئة فكذلك هاهنا سمى ثوابه الطائعين من عباده باسم مااستحقه تعالى عليهم من طاعتهم له، وإنما معنى حق العباد على الله انجاز ماوعد به تعالى من أن يدخلهم الجنة، وسيأتى فى كتاب الاعتصام. - باب: قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا فى المجالس (الآية (1) / 37 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، عَنِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ يَجْلِسَ مَكَانَهُ. قال المؤلف: قوله: (تفسحوا) من قولهم: مكان فسيح إذا كان واسعًا، واختلف أهل العلم فى المجلس الذى أمر الله بالتفسح فيه، فقال بعضهم: هو مجلس النبى عليه السلام خاصة. عن مجاهد وقتادة: كانوا يتنافسون فى مجلس النبى عليه السلام إذا رأوه مقبلاً ضيقوا مجلسهم، فأمر الله تعالى أن يوسع بعضهم لبعض. وقال آخرون: عنى بذلك مجلس القتال، عن الحسن البصرى ويزيد بن أبى حبيب، وقال ابن الأدفوى: حمل الآية على العموم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 51 أولى فيكون لمجلس النبى عليه السلام ومجلس الحرب، ومجلس الذكر، والمجلس اسم للجنس يراد به مجالس. وقوله: (فأفسحوا يفسح الله لكم) أى: فوسعوا يوسع الله عليكم منازلكم فى الجنة، وقوموا إلى قتال العدو أو صلاة أو عمل خير أو تفرقوا عن رسول الله فقوموا، عن قتادة ومجاهد. وقال ابن زيد: انشزوا عن رسول الله فى بيته، فأنه به حوائج. قال صاحب العين: نشز القوم من مجلسهم: قاموا منه. واختلف فى تأويل نهيه عليه السلام عن أن يقام الرجل عن مجلسه ويجلس فيه آخر، فتأوله قوم على الندب وقالوا: هو من باب الأدب، لأنه قد يحب للعالم أن يليه أهل الفهم والنهى، ويوسع لهم فى الحلقة حتى يجلسوا بين يديه. وتأوله قوم على الوجوب وقالوا: لا ينبغى لمن سبق إلى مجلس مباح للحلوس أن يقام منه. واحتجوا بما رواه معمر، عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة، عن النبى عليه السلام أنه قال: (إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به) قالوا: فلما كان أحق به بعد رجوعه كان أولى أن يكون أحق به مادام فيه، قالوا: وقد كان ابن عمر يقوم له الرجل من تلقاء فما يجلس فى مجلسه، قالوا: وابن عمر راوى الحديث عن النبى فهو أعلم بتأويله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 52 وحجة الذين حملوه على الندب أن قالوا: لما كان موضوع جلوسه فى المسجد أو حلقة العالم غير متملك له، ولم يستحقه أحد قبل الجلوس فيه، لم يستحقه أحد بالجلوس فيه، وكان حكم الجلوس كحكم المكان فى أنهما غير متملكين، قالوا: وأما حديث أبى هريرة فقد تأوله العلماء على وجين: على الوجوب، والندب كما تأولوا حديث ابن عمر. فقال محمد بن مسلمه: معنى قوله: (فهو أحق به) يريد إذا جلس فى مجلس العالم فهو أولى به إذا قام لحاجة، فأما إن قاما تاركا له فليس هو أولى به من غيره. والوجه الثانى: روى أشهب، عن مالك أنه سئل عن الذى يقوم من المجلس، فقيل له: إن بعض الناس يقول: إذا رجع فهو أحق به. قال: ماسمعت به، وإنه لحسن إذا كانت أوبته قريبه، وإن بعد ذلك حتى يذهب فيتغدى ونحو ذلك فلا أرى ذلك له، وإن هذا من محاسن الأخلاق. - باب: من قام من مجلسه أو بيته ولم يستأذن أصحابه أو تهيأ للقيام ليقوم الناس / 38 - فيه: أَنَس، لَمَّا تَزَوَّجَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، دَعَا النَّاسَ طَعِمُوا، ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ، قَالَ: فَأَخَذَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ، فَلَمْ يَقُومُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ، فَلَمَّا قَامَ، قَامَ مَنْ قَامَ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ، وَبَقِىَ ثَلاثَةٌ، وَإِنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) جَاءَ لِيَدْخُلَ، فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 53 فَانْطَلَقُوا، فَجِئْتُ، فَأَخْبَرْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُمْ قَدِ انْطَلَقُوا، فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ، فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ، فَأَرْخَى الْحِجَابَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِى إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ (إِلَى قَوْلِهِ: (عَظِيمًا (. قال المؤلف: جاء فى بعض طرق الحديث أن النبى عليه السلام استحيا أن يقول للذين أطالوا الحديث فى بيته: قوموا، ويخرجهم من بيته لأنه كان عليه السلام على خلق عظيم، وكان أشد الناس حياء فيما لم يؤمر فيه ولم ينه، فإذا أمره الله لم يستحى من إنفاذ أمر الله - عز وجل - والصدع به، وكان جلوسهم عنده بعد ماطمعوا للحديث أذى له ولأهله، قال الله تعالى: (إن ذلكم كان يؤذى النبى فيستحى منكم والله لايستحى من الحق (فقد حرم الله - عز وجل - أذى رسوله عليه السلام فأنزل الله من أجل ذلك الآية. وفيه: أنه لا ينبغى لأحد أن يدخل بيت غيره إلا بإذنه، وأن الداخل المأذون له لا ينبغى له أن يطول الجلوس فيه بعد تمام حاجته التى دخل لها لئلا يؤذى الداخل الذى أدخله، ويمنع أهله من التصرف فى مصالحهم. وفيه: أن من أطال الجلوس فى دار غيره حتى كره ذلك من فعله، فإن لصاحب الدار أن يقوم بغير إذنه ويظهر التثاقل عليه فى ذلك حتى يفطن له، وأنه إذا قام فإن للداخل القيام معه، وأنه لا يجوز له الجلوس فيه بعده إلا أن يأذن له فى ذلك صاحب المنزل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 54 30 - باب: الاحتباء باليد وهى القرفصاء / 39 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: رَأَيْتُ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ مُحْتَبِيًا، بِيَدِهِ هَكَذَا. إنما يجوز الاحتباء لمن جلس فى حبوته، فأما إن تحرك وصنع بيديه شيئًا أو صلى فلا يجوز له ذلك، لأن عورته تبدو إلا أن يكون احتباؤه على ثوب يستر عورته فذلك جائز، وقد تقدم تفسير الاحتباء فى أبواب اللباس فى الصلاة. 31 - باب من أتكأ بين يدى أصحابه وَقَالَ خَبَّابٌ: أَتَيْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً، قُلْتُ: أَلا تَدْعُو اللَّهَ فَقَعَدَ. / 40 - فيه: أَبُو بَكْرَة، قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ) ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: (الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ) . وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: (أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ) . قال المهلب: فيه جواز العالم بين يدى الناس، وفى مجلس الفتوى، وكذلك السلطان والأمير فى بعض مايحتاج إليه من ذلك لراحة يتعاقب بها فى جلسته أو لألم يجده فى بعض أعضائه أو لما هو أرفق به، ولا يكون ذلك عامة جلوسه، لأنه قال عليه السلام آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد. ولم يكن يأكل متكئًا. 32 - باب: من اسرع فى مشيته لحاجة أو قصد / 41 - فيه: عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ، قَالَ: صَلَّى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) الْعَصْرَ، فَأَسْرَعَ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 55 قال المؤلف: فيه جواز إسراع السلطان والعالم فى حوائجهم والمبادرة إليها. وقد جاء أن إسراعه عليه السلام فى دخوله البيت إنما كان لأنه ذكر أن عنده صدقه، فأحب أن يفرقها فى وقته ذلك. وفيه: فضل تعجيل افعال البر وترك تأخيرها. وذكر ابن المبارك بإسناده: (أن رسول الله عليه السلام كان يمشى مشية السوقى: لا العاجز ولا الكسلان) وكان ابن عمر يسرع المشى ويقول: هو أبعد من الزهو، وأسرع فى الحاجة. 33 - باب: السرير / 42 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى وَسْطَ السَّرِيرِ، وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، تَكُونُ لِىَ الْحَاجَةُ، فَأَكْرَهُ أَنْ أَقُومَ، فَأَسْتَقْبِلَهُ، فَأَنْسَلُّ انْسِلالا. فيه: اتخاذ الصالحين الأسرة ونومهم عليها، وجواز الصلاة فيها. وفيه: جواز الاضطجاع للمرأة بحضرة زوجها. 34 - باب: من ألقى له وسادة / 43 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ذُكِرَ لَهُ صَوْمِى، فَدَخَلَ، عَلَى فَأَلْقَيْتُ لَهُ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَجَلَسَ عَلَى الأرْضِ، فَصَارَتِ الْوِسَادَةُ بَيْنِى وَبَيْنَهُ. . . . الحديث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 56 / 44 - وفيه: عَلْقَمَة، أنه قدم الشَّامِ، فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِى جَلِيسًا صالحًا، فَجَلس إِلَى أَبِى الدَّرْدَاءِ، فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قلت: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ: أَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِى كَانَ لا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ حُذَيْفَةَ؟ أَلَيْسَ فِيكُمْ - أَوْ كَانَ فِيكُمِ - الَّذِى أَجَارَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الشَّيْطَانِ - يَعْنِى عَمَّارًا - أَوَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّوَاكِ وَالْوِسَادِ - يَعْنِى ابْنَ مَسْعُودٍ -؟ . . . . الحديث. قال المهلب: فيه إكرام السلطان والعالم وإلقاء الوسادة له. وفيه: أن السلطان والعالم يزور أصحابه، ويقصدهم فى منازلهم، ويعلمهم مايحتاجون إليه من دينهم. وفيه: جواز رد الكرامة على أهلها إذا لم يردها الذى خص بها، لأن النبى عليه السلام لم يجلس على الوسادة حين ألقيت له، وجلس على الأرض. وفيه: إيثار التواضع على الترفع، وحمل النفس على التذلل. وفيه: أن خدمة السلطان يجب أن يعرف كل واحد منهم بخطته. 35 - باب: القائلة بعد الجمعة / 45 - فيه: سَهْلِ، قَالَ: كُنَّا نَقِيلُ وَنَتَغَدَّى بَعْدَ الْجُمُعَةِ. قد تقدم الكلام فى هذا فى كتاب الجمعة فأغنى عن إعادته وفيه: أن القائلة بعد الجمعة من الأمر بالمعروف، وذلك - والله أعلم - ليستعان بها على قيام الليل لقصر ليل الصيف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 57 36 - باب: القائلة فى المسجد / 46 - فيه: سَهْل، قَالَ: مَا كَانَ لِعَلِىٍّ، رضى اللَّه عنه، اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِى تُرَابٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ بِهِ إِذَا دُعِىَ بِهَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَيْتَ فَاطِمَةَ، فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِى الْبَيْتِ، فَقَالَ: (أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ) ؟ فَقَالَتْ: كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ شَىْءٌ، فَغَاضَبَنِى، فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لإنْسَانٍ: (انْظُرْ أَيْنَ هُوَ) ؟ فَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ فِى الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ، فَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَمْسَحُهُ عَنْهُ، ويَقُولُ: (قُمْ أَبَا تُرَابٍ. . .) ، الحديث. قال المهلب: فيه جواز بالنهار والليل فى المسجد من غير ضرورة إلى ذلك، وقد تقدم من أجاز ذلك ومن كرهه، فى كتاب الصلاة، فى باب نوم الرجل فى المسجد. وفيه: ممازحه الصهر وتكنيته بغير كنته، وبشىء عرض له، كما كنى أبا هريرة بهره، كذلك كنى عليه السلام عليا بالتراب الذى احتبس إليه. وفيه: جواز الممازحة لأهل الفضل، وكان النبى عليه السلام يمزح ولا يقول إلا حقا. وفيه: الرفق بالاصهار وإلطافهم، وترك معاتبتهم على مايكون منهم لأهلهم، لأن النبى عليه السلام لم يعاتب عليا على مغاضبته لأهله، بل قال له: قم. وعرض له بالانصراف إلى أهله. 37 - باب: من زار قوما فقال عندهم / 47 - فيه: ثُمَامَةَ، أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ كَانَتْ تَبْسُطُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) نِطَعًا، فَيَقِيلُ عِنْدَهَا عَلَى ذَلِكَ النِّطَعِ، قَالَ: فَإِذَا نَامَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَخَذَتْ مِنْ عَرَقِهِ وَشَعَرِهِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 58 فَجَمَعَتْهُ فِى قَارُورَةٍ، ثُمَّ جَمَعَتْهُ فِى سُكٍّ، قَالَ: فَلَمَّا حَضَرَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَى أَنْ يُجْعَلَ فِى حَنُوطِهِ مِنْ ذَلِكَ السُّكِّ، قَالَ: فَجُعِلَ فِى حَنُوطِهِ. / 48 - وفيه: أَنَس، كَانَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَاءٍ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، فَتُطْعِمُهُ، وَكَانَتْ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَدَخَلَ يَوْمًا، فَأَطْعَمَتْهُ، فَنَامَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ. . . فذكر الحديث. فيه: جواز القائلة للأمام والرئيس والعالم عند معارفه وثقات إخوانه، وأن ذلك يسقط المؤنة، ويثبت الود، ويؤكد المحبة. وفيه: طهارة شعر ابن آدم وعرقه. 38 - باب: الجلوس كيفما تيسر / 49 - فيه: أَبُو سَعِيد الْخُدْرِىِّ، قَالَ: نَهَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) عَنْ لِبْسَتَيْنِ، وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ، اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ وَالاحْتِبَاءِ فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ، لَيْسَ عَلَى فَرْجِ الإنْسَانِ مِنْهُ شَىْءٌ، وَالْمُلامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ. قال المهلب: هذه الترجمة قائمة من دليل هذا الحديث، وذلك أنه عليه السلام نهى عن حالتين وهما: اشتمال الصماء، والاحتباء، فمفهوم منه إباحة غيرهما مما تسر من الهيئات والملابس إذا ستر ذلك العورة. ورأيت لطاوس أنه كان يكره التربع ويقول: هو جلسة مملكة، وإنما نهى عن هاتين اللبستين فى الصلاة، لأنهما، لا يستران العورة عند الجزء: 9 ¦ الصفحة: 59 الحفض والرفع وإخراج اليدين، فأما الجالس لا يصنع شيئا ولا يتصرف بيديه وتكون عورته مستورة فلا حرج عليه فيهما، لأنه قد ثبت عن النبى - عليه السلام - أنه احتبى بفناء الكعبة، ذكره فى باب الاحتباء باليد وهى القرفصاء - قبل هذا. 39 - باب: من ناجى بين يدى الناس ولم يخبر بسر صاحبه فإذا مات أخبر به / 50 - فيه: عَائِشَةُ، قَالَتْ: إِنَّا كُنَّا أَزْوَاجَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) عِنْدَهُ جَمِيعًا لَمْ تُغَادَرْ مِنَّا وَاحِدَةٌ، فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِى، لا، وَاللَّهِ مَا تَخْفَى مِشْيَتُهَا مِنْ مِشْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا رَآهَا رَحَّبَ، قَالَ: مَرْحَبًا بِابْنَتِى، ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ - أَوْ عَنْ شِمَالِهِ - ثُمَّ سَارَّهَا، فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا، فَلَمَّا رَأَى حُزْنَهَا سَارَّهَا الثَّانِيَةَ، فَإِذَا هِى تَضْحَكُ، فَقُلْتُ لَهَا أَنَا مِنْ بَيْنِ نِسَائِهِ: خَصَّكِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالسِّرِّ مِنْ بَيْنِنَا، ثُمَّ أَنْتِ تَبْكِينَ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سَأَلْتُهَا عَمَّا سَارَّكِ، قَالَتْ: مَا كُنْتُ لأفْشِى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سِرَّهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ، قُلْتُ لَهَا: عَزَمْتُ عَلَيْكِ بِمَا لِى عَلَيْكِ مِنَ الْحَقِّ، لَمَّا أَخْبَرْتِنِى، قَالَتْ: أَمَّا الآنَ، فَنَعَمْ، فَأَخْبَرَتْنِى، قَالَتْ: أَمَّا حِينَ سَارَّنِى فِى الأمْرِ الأوَّلِ، فَإِنَّهُ أَخْبَرَنِى أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ قَدْ عَارَضَنِى بِهِ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلا أَرَى الأجَلَ إِلا قَدِ اقْتَرَبَ، فَاتَّقِى اللَّهَ، وَاصْبِرِى، فَإِنِّى نِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ، قَالَتْ: فَبَكَيْتُ بُكَائِى الَّذِى رَأَيْتِ، فَلَمَّا رَأَى جَزَعِى، سَارَّنِى الثَّانِيَةَ، قَالَ يَا فَاطِمَةُ، أَلا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِى سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الأمَّةِ) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 60 قال المؤلف: فيه من الفقه أنه يجوز المسار مع الواحد بحضرة الجماعة، وليس من باب نهيه عليه السلام عن مناجاة الأثنين دون الواحد، لأن المعنى الذى يخاف من ترك الواحد لا يخاف من ترك الجماعة، وذلك أن الواحد إذا تساورا دونه وقع بنفسه أنهما يتكلمان فيه بما يسوءه ولا يتفق ذلك فى الجماعة، وهذا من حسن الأدب وكرم المعاشرة. وفيه: أنه لا ينبغى إفشاء السر إذا كانت فيه مضرة على المسر، لأن فاطمة لو أخبرت نساء النبى ذلك الوقت بما أخبرها به النبى من قرب أجله لحزن لذلك حزنًا شديدًا، وكذلك لو أخبرتهن أنها سيدة نساء المؤمنين، لعظم ذلك عليهن، واشتد حزنهن، فلما أمنت ذلك ذلك فاطمة بعد موته أخبرت بذلك. 40 - باب: الاستلقاء / 51 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بن زيد، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْمَسْجِدِ مُسْتَلْقِيًا، وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأخْرَى. قال المهلب: إنما فعل ذلك فى المسجد ليرى الناس أن هذا وشبهه خفيف فعله فى المسجد، وقد تقدم فى كتاب الصلاة فى باب الاستلقاء فى المسجد. 41 - باب: لا يتناجى اثنان دون الثالث وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ (الآيتين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 61 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) [المجادلة 12] . / 52 - فيه: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا كَانُوا ثَلاثَةٌ، فَلا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ) . أى: لا يتسار اثنان ويتركا صاحبهما خشية الإيحاش له فيظن أنهما يتكلمان فيه أو يتجنبان جهته ذلك، وقد جاء هذا المعنى بينًا فى رواية معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه، فإن ذلك يحزنه) ويشهد لهذا قوله تعالى: (إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا (الآية. وقد جاء التغليظ فى منجاة الأثنين دون صاحبهما فى السفر، وأن ذلك لا يحل لهما من حديث ابن لهيعه، عن ابن هبيرة عن أبى سالم الجيشانى، عن عبد الله بن عمرو بن عمرو العاص أن الرسول قال: (لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة أن يتناجى اثنان منهما دون صاحبهما) . وتحريمه ذلك - والله أعلم - فى الفلاة من أجل أن الخوف فيها أغلب على المرء، والوحشة إليه أسرع، ولذلك نهى عليه السلام أن يسافر الواحد والأثنان. واختلف أهل التأويل فيمن نزلت: إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا، فقال ابن زيد: نزلت فى المؤمنين، كان الرجل يأتى النبى يسأله الحاجة ليرى الناس أنه قد ناجى رسول الله، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 62 وكان رسول الله لا يمنع أحدًا من ذلك، وكانت الأرض يومئذ حربا، وكان الشيطان يأتى القوم فيقول لهم: إنما يتناجون فى جموع قد جمعت لكم، فأنزل الله الآيه. قال قتادة: نزلت فى المنافقين، كان بعضهم يناجى بعضًا، وكان ذلك يغيظ المؤمنين يوحزنهم، فنزلت هذه الآيه. وقوله: إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدى نجواكم صدقة. قال قتادة: سأل الناس رسول الله حتى أحفوه فى المسألة، فقطعهم الله بهذه الآية، وصمت كثير من الناس عن المسالة. وقال ابن زيد: نزلت هذه الآية لئلا يناجى أهل الباطل رسول الله فيشق ذلك على أهل الحق، فلما ثقل ذلك على المؤمنين خففه الله عنهم ونسخه. 42 - باب: حفظ السر / 52 - فيه: أَنَس، أَسَرَّ إِلَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) سِرًّا، فَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ أَحَدًا بَعْدَهُ، وَلَقَدْ سَأَلَتْنِى أُمُّ سُلَيْمٍ، فَمَا أَخْبَرْتُهَا بِهِ. قال المؤلف: السر أمانة وحفظه واجب، وذلك من أخلاق المؤمنين، وقد روى عن أنس أنه قال: (خدمت النبى عشر سنين، فقال: احفظ سرى تكن مؤمنًا) . وروى ابن أبى شيبة: حدثنا يحى بن آدم، عن ابن أبى ذئب، عن عبد الرحمن بن عطاء، عن عبد الملك، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله: (إذا التفت المحدث فهى أمانة) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 63 قال المهلب: والذى عليه أهل العلم أن السر لا يباح به إذا كان على المسر فيه مضرة، وأكثرهم يقول: إنه إذا مات المسر فليس ويلزم من كتمانة مايلزم فى حياتة إلا أن يكون عليه فيه غضاضة فى دينه. 43 - باب: إذا كانوا أكثر من ثلاثة فلا بأس بالمسارة والمنجاة / 54 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ النَّبِى عليه السلام: (إِذَا كُنْتُمْ ثَلاثَةً فَلا يَتَنَاجَى رَجُلانِ دُونَ الآخَرِ، حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ، لأَجْلَ أَنْ يُحْزِنَهُ) . / 55 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، قَسَمَ النَّبِى عليه السلام، يَوْمًا قِسْمَةً، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لآتِيَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِى مَلأ فَسَارَرْتُهُ، فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ. . . . الحديث. قال المؤلف: روى مالك، عن عبد الله بن دينار قال: (كان ابن عمر إذا أراد أن يسار رجلا وكانوا ثلاثة دعا رابعًا ثم قال للاثنين: استأخرا شيئًا،، فأنى سمعت رسول الله يقول: لا يتناجى اثنان دون واحد. وناجى صاحبه) . فإذا كانوا أكثر من ثلاثة بواحد جازت المنجاة، وكلما كثرت الجماعة كان أحسن وأبعد للتهمة والظنة، ألا ترى ابن مسعود سار النبى وهو فى ملأ من الناس وأخبره بقول الذى قال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. وروى أشهب عن مالك أنه قال: لا يتناجى ثلاثة دون واحد، لأنه قد نهى أن يترك واحد. قال: ولا أرى ذلك ولو كانوا عشرة أن يتركوا واحد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 64 قال المؤلف: وهذا القول يستنبط من هذا الحديث، لأن المعنى فى ترك الجماعة للواحد كترك الأثنين له، وهو ماجاء فى الحديث: (حتى تختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه) وهذا كله من حسن الأدب وكرم الأخلاق، لئلا يتباغض المؤمنون ويتدابروا. 44 - باب: طول النجوى) وَإِذْ هُمْ نَجْوَى) [الإسراء: 47] مَصْدَرٌ مِنْ نَاجَيْتُ فَوَصَفَهُمْ بِهَا وَالْمَعْنَى يَتَنَاجَوْنَ. (1) / 56 - فيه: أَنَس، أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، وَرَجُلٌ يُنَاجِى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَمَا زَالَ يُنَاجِيهِ حَتَّى نَامَ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى. قال المؤلف: ليس فيه أكثر من جواز طول المناجاة بحضرة الجماعة فى الأمر يهم السلطان ويحتاج إلى تعرفه، وإن كان فى ذلك بعض الضرر على بعض من بالحضرة، وقد جاء ذلك فى بعض طرق الحديث وقد تقدم فى كتاب الصلاة فى باب الإمام وتعرض له الحاجة بعد الإقامة، ومن أجاز الكلام حيئذ ومن كرهه. 45 - باب: لا تترك النار فى البيت عند النوم / 57 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام: (لا تَتْرُكُوا النَّارَ فِى بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ) . / 58 - وفيه: أَبُو مُوسَى، احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَحُدِّثَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 65 بِشَأْنِهِمُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِىَ عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإِذَا نِمْتُمْ، فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ) . / 59 - وفيه: جَابِر، قَالَ النّبِىّ، عليه السَّلام: (خَمِّرُوا الآنِيَةَ، وَأَجِيفُوا الأبْوَابَ، وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ، فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا جَرَّتِ الْفَتِيلَةَ، فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ) . قال الطبرى: فى هذا الحديث الإنابة عن أن من الحق على من أراد المبيت فى بيت ليس فيه غيره، وفيه نار أو مصباح ألا يبيت حتى يطفئه أو يحرزه بما يأمن به احراقه وضره، وكذلك إن كان فى البيت جماعة، فالحق عليهم إذا أرادوا النوم ألا ينام آخرهم حتى يفعل ماذكرت، لأمر النبى بذلك، فإن فرط فى ذلك مفرط فلحقه ضرر فى نفس أو مال كان لوصية النبى لأمته، مخالفًا ولأدبه تاركًا. وقد روى عكرمة عن ابن عباس قال: جاءت فأرة فجرت الفتيلة فألقتها بين يدى النبى (صلى الله عليه وسلم) على الخمرة التى كان قاعدًا عليها، فأحرقت منها مثل موضع الدرهم، وإنما سمى الفأرة: فويسقة، لأذاها وفسادها كما يفسد الفاسق، قال عليه السلام: (خمس فواسق يقتلن فى الحل والحرم. . . .) الحديث، فذكر منهن الفأرة يريد انهن يعملن عمل الفاسق. 46 - باب: إغلاق الأبواب (بالليل / 60 - فيه: جَابِر، قَالَ: قَالَ النّبِىّ) : (أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ، إِذَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 66 رَقَدْتُمْ، وَغَلِّقُوا الأبْوَابَ، وَأَوْكُوا الأسْقِيَةَ، وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ) . قَالَ هَمَّامٌ: وَلَوْ بِعُودٍ. قال المؤلف: أمره عليه السلام بإلاق الأبواب بالليل خشية انتشار الشياطين وتسليطهم على ترويع المؤمنين وأذاهم، وقد جاء فى حديث آخر أنه عليه السلام قال: (إذا جنح الليل فاحبسوا أولادكم، فإن الله يبث من خلفه بالليل ما لا يبث بالنهار، وإن للشياطين انتشارًا وخطفه) وقد قال عقيل: يتوقى على المرأة أن تتوضًا عند ذلك. فعلم أمته عليه السلام مافيه المصلحة لهم فى نومهم ويقظتهم. وأمر بتخمير الأناء، وقد تقدم فى كتاب الشربة فى باب تغطية الإناء معنى أمره عليه السلام بتغطية من حديث القعقاع بن حكيم وروى مالك فى حديث جابر (فإن الشيطان لا يفتح غلقا، ولا يحل وكاء، ولا يكشف إناء) وان كان كان قد أعطى ماهو أكثر منها من اللوج حيث لا يلج الإنسان، والوكاء: الخيط الذى يربط به فم السقاء. وقوله: خمروا الإناء: أى غطوه، أى غطوه، والتخمير: التغطية، وكذلك قبل للخمر: خمر، لأنها تغطى العقل، وأصل ذلك من الخمر وهو كل ما وراك من شجر أو حجر. 47 - باب: الختان بعد الكبر ونتف الأبط / 61 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ، وَالاسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإبْطِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الأظْفَارِ) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 67 وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ، عليه السَّلام، بَعْدَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ) . مُخَفَّفَةً. وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: عَنْ أَبِى الزِّنَادِ، وَقَالَ: (بِالْقَدُّومِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ مُشَدَّدٌ. وروى الحديث الأول بالتخفيف شعيب، عن أبى الزناد. / 62 - وفيه: ابْن عَبَّاس، سُئل مَنْ أَنْتَ حِينَ قُبِضَ النَّبِى عليه السَّلام؟ قَالَ: أَنَا يَوْمَئِذٍ مَخْتُونٌ، وَكَانُوا لا يَخْتِنُونَ الرَّجُلَ حَتَّى يُدْرِكَ. قال ابن القصار: الختان سنة عند مالك والكوفيين، وقال الشافعى: هى فرضة، والدليل لقول مالك والكوفيين قوله عليه السلام: (الفطرة خمس) فذكر الختان فى ذلك، والفطرة السنة، لأنه جعلها من جملة السنن فأضافها إليها، ولما أسلم سلمان لم يأمره النبى - عليه السلام - بالإختان، ولو كان فرضًا لم يترك أمره بذلك. واحتج الشافعى بقوله تعالى: (ثم أوحينا إليك أن أتبع ملة إبراهيم حنيفًا (وكان فى ملته الإختان، لأنه ختن نفسه بالقدوم. قيل له: أصل المله الشريعة والتوحيد، وقد ثبت أن فى ملة إبراهيم فرائض وسننًا فأمر أن يتبع ماكان فرضًا ففرضًا، وما كان سنة فسنة، وهذا هو الاتباع، فيجوز أن يكون اختتان إبراهيم من السنن. وقد روى عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (الإختتان سنة للرجال، ومكرمة للنساء) والختان علامة لمن دخل فى الإسلام، فهى من شعائر المسلمين. واختلفوا فى وقت الختان، فقال الليث: الختان للغلام مابين السبع سنين إلى العشر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 68 وقال مالك: عامة ما رأيت الختان ببلدنا إذا أثغر وقال مكحول: ان إبراهيم خليل الرحمن ختن ابنه إسحاق لسبعة أيام وختن ابنه إسماعيل لثلاث عشرة سنة. وروى عن أبى جعفر أن فاطمة كانت تختن ولدها يوم السابع، وكره ذلك الحسن البصرى ومالك بن أنس خلافًا لليهود، وقال مالك: الصواب فى خلافهم، وقال الحسن: هو خطر. قال المهلب: وليس لختتان إبراهيم عليه السلام بعد ثمانين سنة مما يوجب علينا مثل فعله، إذ عامة من يموت من الناس لا يبلغ الثمانين، وإنما اختتن عليه السلام وقت أوحى إليه بذلك، وأمر بالإختتان فاختتن. والنظر يدل أنه ما كان ينبغى الإختتان إلا قرب وقت الحاجة لاستعمال ذلك العضو بالجماع، كما اختتن ابن عباس عند مناهزة الاحتلام. وقال: كانوا لا يختتنون الرجل حتى يدرك، لأن الختان تنظيف لما يجتمع من الوضر تحت الغرلة، ولذلك - والله أعلم - أمر بقطعها، واختتان الناس فى الصغر لتسهيل الألم على الصغير، لضعف عضوه وقلة فهمه. ومن روى (القدوم) مخففة الدال، فإنما أراد الحديدة التى اختتن بها إبراهيم، قال الشاعر: يا بنت عجلان ما أصبرنى على خطوب مثل نحت بالقدوم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 69 ومن شدد الدال فهو اسم الموضع الذى اختتن فيه إبراهيم. وقد يجوز أن يجتمع له الأمران، والله أعلم. والفطرة: فطرة الإسلام، وهى سنته وهى الفعلة من قوله تعالى: (فاطر السموات والأرض (يعنى خالقها. والاستحداد: حلق شعر العانة، والارفاع بالحديد وهو استفعال من الحديد، وحكى أبو نصير عن الأصمعى يقال: استحد الرجل إذا ماتحت ازاره، وتقليم الأظافر: قصها. 48 - باب: كل لهو باطل إذا (شغله) عن طاعة الله وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، وَقَوْلُهُ: (مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ (الآية [لقمان: 6] . / 63 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ، فَقَالَ فِى حَلِفِهِ: بِاللاتِ وَالْعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ) . قال المؤلف: روى عن ابن مسعود، وابن عباس وجماعة من أهل التأويل فى قوله: (ومن الناس من يشترى لهو الحديث) الآية، أنه الغناء، وحلف على ذلك ابن مسعود بالله الذى لا إله إلا هو ثلاث مرات، وقال: الغناء ينبت النفاق فى القلب. وقاله مجاهد وزاد: ان لهو الحديث فى الآية الاستماع إلى الغناء وإلى مثله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 70 من الباطل. قال القاسم بن محمد: الغناء باطل، والباطل فى النار. ولذلك ترجم البخارى باب كل لهو باطل. وأما قوله: (إذا شغل عن طاعة الله) فهو مأخوذ من قوله تعالى: (ليضل عن سبيل الله (فدلت الآية على أن الغناء وجميع اللهو إذا شغل عن طاعة الله وعن ذكره فهو محرم، وكذلك قال ابن عباس: (ليضل عن سبيل الله) أى: عن قراءة القرآن وذكر الله ودلت أيضًا على أن اللهو إذا كان يسيرًا لا يشغل عن طاعة الله، ولا يصد للجاريتين يوم العيد الغناء فى بيت عائشة من أجل العيد، كما أباح لعائشة النظر إلى لعب الحبشة بالحراب فى المسجد ويسترها وهى تنظر إليهم حتى شبعت قال لها: حسبك. وقال عليه السلام لعائشة - وحضرت زفاف أمرأة إلى رجل من الأنصار -: (يا عائشة، ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو) . وقد تقدم فى باب سنة العيدين لأهل الإسلام فى كتاب الصلاة ما يرخص فيه من الغناء وما يكره، فدلت هذه الآثار على ما دلت عليه هذه الآية من أن يسير الغناء واللهو الذى لا يصد عن ذكر الله وطاعته مباح. وما روى عن مالك من كراهة يسير الغناء، فإن ذلك من باب قطع الذرائع، وخشية التطرق إلى كثرة الشغل عن طاعة الله الصاد عن ذكره على مذهبه فى قطع الذرائع، وأجاز سماعه أهل الحجاز. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 71 وقيل لمالك: إن أهل المدينة يسمعون الغناء قال: إنما يسمعه عندنا الفساق. وقال الأوزاعى: يترك من قول أهل الحجاز استماع الملاهى، وروى ابن وهب عن مالك أنه سئل عن ضرب الكبر والمزمار وغير ذلك من اللهو الذى يهنأ لك سماعه وتجد لذته وأنت فى طريق أو مجلس، أيؤمر من ابتلى بذلك أن يرجع من الطريق أو يقوم من المجلس؟ فقال: أرى أن يقوم إلا أن يكون جالسًا لحاجة أو يكون على حال لا يستطيع القيام، وكذلك يرجع صاحب الطريق أو يتقدم أو يتأخر. وقد جاء فيمن نزه سمعه عن قليل اللهو وكثيره ما روى أسد بن موسى، عن عبد العزيز بن أبى سلمه، عن محمد بن المنكدر قال: بلغنا أن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين عبادى الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان، أحلوهم رياض المسك، وأخبروهم انى قد أحللت عليهم رضوانى. وسأذكر اختلاف العلماء فى القراءة بالألحان فى فضائل القرآن عند قوله عليه السلام (ما أذن الله لشىء ما أذن لنبى يتغنى بالقرآن) وقوله (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) . وأما حديث أبى هريرة المذكور فى هذا الباب، فإنما أدخله البخاري الجزء: 9 ¦ الصفحة: 72 على قوله فى الترجمة: ومن قال: تعالى أقامرك فليتصدق، ولم يختلف العلماء أن القمار محرم، لقوله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب (الآية، واتفق أهل التأويل أن الميسر هاهنا القمار كله. وكره مالك اللعب بالنرد وغيرها من الباطل وتلا: (فماذا بعد الحق إلا الضلال (وقال: من أدمن اللعب بها فلا تقبل له شهادة وكذلك قال الشافعى: إذا شغله اللعب بها عن الصالة حتى يفوته وقتها. وقال أبو ثور: من تلهى ببعض الملاهى حتى تشغله عن الصلاة لم تقبل شهادتة. وأما قوله عليه السلام: (ومن قال: تعال أقامرك، فليتصدق) فهو على معنى الندب عند العلماء، لا على الوجوب، لأن الله لا يؤاخذ العباد بالقول فى غير الشرك حتى يصدقه الفعل أو يكذبه، ولو أن رجلا قال لامرأة: تعالى أزنى بك، أو قال لآخر: تعال اشرب معك الخمر أو أسرق، ثم لم يفعل شيئًا من ذلك، لم يلزمه حد فى الدنيا ولا عقوبة فى الآخرة، إذا كان مجتنبًا للكبائر. لكن ندب من جرى مثل هذا القول على لسانه، ونواه قلبه وقت قوله أن يتصدق، خشية أن تكتب عليه صغيرة أو يكون ذلك من اللمم وكذلك ندب من حلف باللات والعزى أن يشهد شهادة التوحيد والاخلاص، لينسج بذلك ماجرى على لسانه من كلمة الاشراك والتعظيم لها، وإن كان غير معتقد لذلك. والدليل أن ذلك على الندب أن الله لا يؤاخذ العباد من الإيمان إلا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 73 بما انطوت الضمائر على اعتقاده وكانت به شريعة لها، وكل محلوف به باطل فلا كفارة فيه، وإنما الكفارات فى الإيمان المشروعة. فإن قيل: فما معنى أمر الرسول الداعى إلى المقامرة بالصدقة من بين سائر أعمال البر؟ قيل له: معنى ذلك - والله أعلم - أن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جعلا فى المقامرة ويستحقونه بينهم، فنسخ الله أفعال الجاهلية وحرم القمار وعوضهم بالصدقة عوضًا مما أرادوا استباحة من الميسر المحرم، وكانت الكفارات من جنس الذنب، لأن المقامر لا يخلوا أن يكون غالبا أو مغلوبًا، فإن كان غالبا فالصدقة كفارة لما كان يدخل فى يده من الميسر، وإن كان مغلوبًا فإخراجه الصدقة لوجه الله أولى من اخراجه عن يده شيئًا لا يحل له إخراجه. 49 - باب ما جاء فى البناء وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ إِذَا تَطَاوَلَ رِعَاءُ الْبَهْمِ فِى الْبُنْيَانِ) . / 64 - فيه: ابْن عُمَر، رَأَيْتُنِى مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، بَنَيْتُ بِيَدِى. / 65 - وفيه: ابْن عُمَر قَالَ: وَاللَّه مَا وضعت لبنة على لبنة، ولا غرست نخلة مذ قبض النّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ سُفيان: فذكرته لبعض أهله. قَالَ: وَاللَّه لقد بنى. قَالَ سفيان: فلعله قَالَ: قبل أن يبنى. قال المؤلف: التطاول فى البنيان من أشراط الساعة، وذلك أن يبنى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 74 مايفضل عما يكنه من الحر والبرد ويستره عن الناس، وقد ذم الله تعالى - من فعل ذلك فقال: (اتبنوا بكل ريع آيه تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون (يعنى: قصورًا، وقد جاء عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (ماأنفق ابن آدم فى التراب فلن يخلف له، ولا يؤجر عليه) وأما من بنى مايحتاج إليه ليكنه من الحر والمطر فمباح له ذلك، وكذلك فعل السلف، ألا ترى قول ابن عمر: بنيت بيدى بيتا يكننى من حرة المطر ويظلنى من الشمس. وقد روى ذلك عن النبى عليه السلام ذكر الطبرى عن حسن، عن حمران بن أبان، عن عثمان بن عفان، أن رسول الله قال: (كل شىء سوى خلف هذا الطعام - يعنى: كسر الطعام - وهذا الماء، وبيت يظله، وثوب يستره لابن آدم فيه حق) . فأباح عليه السلام من البناء مايقيه أذى الشمس والمطر، الذين لا طاقة لأحد باحتمال مكروههما، كما أباح من الغذاء مما به قوام بدنه من مطعم أو مشرب، ومن الملبس مايستر عورته، ومازاد على ذلك فلا حق له فيه، يعنى إذا لم يصرفه فى الوجه المقربة له إلى الله فإذا فعل ذلك فله الحق فى أخذه وصرفه فى حقه. وروى ابن وهب وابن نافع، عن مالك قال: كان سلمان يعمل الخوص بيده وهو أمير ولم يكن له بيت، وإنما كان يستظل بالجدر والشجر، وإن رجلا قال له: ألا أبنى لك بيتًا تسكن فيه؟ فقال: مالى به حاجة. فما زال به الرجل قال: أعرف البيت الذى يوافقك. فقال: فصفه لى. قال: أبنى لك بيتًا إذا قمت فيه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 75 أصاب سقفه راسك، وان مددت فيه رجليك أصابها الجدار. قال: نعم، كأنك كنت نفسى. وفى قول ابن عمر: (والله ما وضعت لبنه على لبنة مذ قبض النبى - عليه السلام. .) إلى آخره. فيه: أن العالم إذا روى عنه قولان مختلفان أنه ينبغى حملهما من التأويل على ماينفى عنه التناقض، وينزهه عن الكذب، ألا ترى قول سفيان: فلعله قال قبل أن يبتنى، فلم يكذبه قريب ابن عمر فى قوله هذا، فعلمنا سفيان كيف يتأول للسلف أحسن المخارج لانتفاء الباطل عنهم، وأنهم القدورة فى الخير، والأسوة - رضى الله عنهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 76 66 - كتاب اللباس - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) [الأعراف 32] وَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُوا وَاشْرَبُوا، وَالْبَسُوا، وَتَصَدَّقُوا فِى غَيْرِ إِسْرَافٍ، وَلا مَخِيلَةٍ) . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ، وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ. / 1 - وفيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ) . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَحَدَ شِقَّىْ إِزَارِى يَسْتَرْخِى، إِلا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَالَ عليه السَّلام: (لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلاءَ) . / 2 - وفيه: أَبُو بَكْرَة، خَسَفَتِ الشَّمْسُ وَنَحْنُ عِنْدَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَامَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ مُسْتَعْجِلا حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. . . الحديث. قال المؤلف: اختلف أهل التأويل فى معنى هذه الآية، فقال بعضهم: والطيبات من الرزق يعنى: المستلذ من الطعام وقيل: الحلال، وقيل: هو عام فى كل مباح، وقيل: هو فى لبس الثياب فى الطواف، وقال الفراء: كانت قبائل العرب لا يأكلون اللحم أياهم حجهم، ويطوفون عرة فنزلت: (قل من حرم زينة الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 77 التى أخرج لعبادة والطيبات من الرزق) وفى قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (كلوا وأشربوا من غير أسراف ولا مخيلة) وقول ابن عباس بيان شاف للآية. والسرف والخيلاء محرمان، وقد قال تعالى: (إنه لا يحب المسرفين (و) لا يحب كل مختال فخور (وقال عليه السلام: (لا ينظر الله إلى من جر إزاره خيلاء) وهذا وعيد شديد. وقال أهل العلم فى معناه: لا ينظر الله اليهم نظر رحمة إن أنفذ عليهم الوعيد، فاتقى أمرؤ ربه، وتأدب بأدبه وأدب رسوله وأدب الصالحين، وذلل بالتواضع لله قلبه، وأودع سمعه وبصره وجوارحه بالاستكانة بالطاعة، وتحبب إلى خلقه بحسن المعاشرة، وخالقهم بجميل المخالقة، ليخرج من صفة من لا ينظر لله إليه ولايحبه. والخيلاء والمخيلة: التكبر فى لسان العرب، وفى حديث أبى بكر بيان أن سقط ثوبه بغير قصده وفعله ولم يقصد بذلك الخيلاء فإنه لا حرج عليه فى ذلك، لقوله عليه السلام لأبى بكر: (لست ممن يصنعه خيلاء) ألا ترى أن النبى عليه السلام جر ثوبه حين استعجل المسير إلى صلاة الخسوف، وهو مبين لأمته بقوله وفعله. وقد كان ابن عمر يكره أن يجر الرجل ثوبه على كل حال وهذه من شدائد ابن عمر، لأنه لم تخف عليه قصة أبى بكر وهو الراوى لها، والحجة فى السنة لا فى ما خلفها، وفى قول النبي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 78 عليه السلام وفى قول ابن عباس أنه مباح للرجل اللباس من الحسن، والجمال فى جميع أموره إذا سلم قلبه من التكبر به على من ليس له مثل ذلك من اللباس، وقد وردت الآثار بذلك، روى المعافى ابن عمران، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن سواد بن عمرو الانصارى أنه قال: (يا رسول الله، انى رجل حبب إلى الجمال وأعطيت منه ماترى حتى ماأحب أن يفوقنى أحد فى شراك نعلى، أفمن الكبر ذاك؟ قال: لا، ولكن الكبر من بطر الحق وغمص - أو غمنص الناس) . ومن حديث عبد الله بن عمر أن النبى عليه السلام قال للذى ساله عن حبه لجمال ثيابه وشراك نعله: هل ذلك من الكبر؟ فقال عليه السلام (لا، ولكن الله جميل يحب الجمال) . فإن قيل: فقد روى وكيع، عن أشعث السمان، عن أبى سلام الأعرج، عن على بن أبى طالب قال: إن الرجل ليعجبه شراك نعله أن يكون أجود من شراك صاحبه فيدخل فى قوله تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علو فى الأرض ولا فسادا (الآية. قال الطبرى: فالجواب أن من أحب ذلك ليتعظم به من سواه من الناس ممن ليس له مثله، فاختال به عليهم واستكبر، فهو داخل فى عدة المستكبرين فى الأرض بغير الحق، ولحقته صفة أهله وأن أحب ذلك سرورًا لجودته وحسنه، غير مريد به الاختيال والتكبر، فإنه بعيد المعنى ممن عناه الله تعالى بقوله: (لا يريدون علو فى الأرض ولا فسادا (بل هو ممن قد اخبر الله تعالى أنه يحب ذلك من فعله، على ماورد فى حديث عبد الله بن عمر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 79 وذكر النائى عن محمد بن العلاء قال: حدثنى أبو بكر بن عياش عن أبى إسحاق، عن أبى الأحوص، عن أبيه قال: (كنت جالسًا عند رسول الله رث الثياب، فقال: ألك مال؟ قلت: يا رسول الله من كل المال. قال: إذا أتاك الله مالا فليرى أثره عليك) . - باب: التشمر فى الثياب / 3 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، خَرَجَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى حُلَّةٍ مُشَمِّرًا، فَصَلَّى. . . الحديث. قال المؤلف: التشمر مباح فى الصلاة وعند المهنة والحاجة إلى ذلك بهذا الحديث، وهو من التواضع ونفى التكبر والخيلاء والحله عند العرب ثوبان ظاهر وباطن. وقال صاحب العين: الحله: إزار ورداء، ولا يقال حلة لثوب واحد. قال أبو عبيد: ومما يدل على ذلك حديث عمر، أنه رأى رجلا عليه حلة قد ائتزر بإحدهما وارتدى بالأخرى. 3 - باب: ما أسفل من الكعبين فهو فى النار / 4 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، مِنَ الإزَارِ فَفِى النَّارِ) . قال المؤلف: روى عبد الرزاق، عن عبد العزيز بن أبى رواد عن نافعه: أنه سئل عن قوله فى هذا الحديث (ما أسفل من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 80 الكعبين ففى النار من الثياب ذلك؟ قال: ما ذنب الثياب، بل هو من القدمين) . قال غيره: ولو كان الزار فى النار ما ضر الذى جر ثوبه شىء. ومعنى هذا الحديث عند أهل السنة: إن أنفذ الله عليه الوعيد كان القدمان فى النار. 4 - باب: من جر ثوبه من الخيلاء / 5 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النّبِىّ عليه السَّلام: (لا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا) . / 6 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِى فِى حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ؛ إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ الأرض، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . / 7 - وفيه: ابْن عُمَر، عَن النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مثله، وقَالَ مرةً: (مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مَخِيلَةً لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . قَالَ شُعْبَةُ: فَقُلْتُ لِمُحَارِبٍ: أَذَكَرَ إِزَارَهُ؟ قَالَ: مَا خَصَّ إِزَارًا، وَلا قَمِيصًا. قال الطبرى: إنما خص الإزار بالذكر فى حديث أبى هريرة - والله أعلم - لأن أكثر الناس فى عهده عليه السلام كانوا يلبسون الإزار والأردية، فلما لبس الناس المقطعات وصار عامة لباسهم القمص والدراريع كان حكمها حكم الإزار، وأن النهى عما جاوز الكعبين منها داخل فى معنى نهيه عليه السلام عن جر الإزار، إذ هما سواء فى المماثلة، وهذا هو القياس الصحيح. قال المؤلف: هذا طريق القياس لو لم يأت نص فى التسوية بينهما، وقد تقدم حديث ابن عمر فى هذا الباب أن النبي عليه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 81 السلام قال: (من جر ثوبه من مخيلة لم ينظر الله إليه يوم القيامة) فعم جميع الثياب. وروى أبو داود، عن ابن عمر: (أنه سئل عن حديث الأزار فقال: ماقال رسول الله فى الإزار فهو فى القميص) وقد جاء هذا أيضًا عن النبى عليه السلام روى أبو داود قال: حدثنا هناد بن السرى قال: حدثنا حسين الجعفى، عن عبد العزيز بن أبى رواد، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه -، عن النبى - عليه السلام قال: (الإسبال فى الإزار والعمامة، من جر منها شيئًا لم ينظر الله إليه يوم القيامة) . وقوله: (يتجلجل) يعنى: يسوخ ويضطرب، قال صاحب العين: جلجلت الشىء إذا حركته، وكل شىء خلطت بعضه ببعض فقد جلجلته. 5 - باب: الإزار المهدب وَيُذْكَرُ عَنِ الزُّهْرِىِّ، وَأَبِى بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَحَمْزَةَ بْنِ أَبِى أُسَيْدٍ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُمْ لَبِسُوا ثِيَابًا مُهَدَّبَةً. / 8 - فيه: عَائِشَة، جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِىِّ وَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالت: وَاللَّهِ مَا مَعَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلا مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ، وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ جِلْبَابِهَا. قال المؤلف: ليس فيه أكثر من أن الثياب المهدبة من لباس السلف، وأنه لا بأس به. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 82 6 - باب: الأردية وَقَالَ أَنَسٌ: جَبَذَ أَعْرَابِى رِدَاءَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . / 9 - فيه: عَلِىّ، قَالَ: دَعَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِرِدَائِهِ فارتدِى، ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِى، وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ الَّذِى فِيهِ حَمْزَةُ. . . الحديث. فيه: أن الرداء من لباس النبى - عليه السلام - غير أنه لم يذكر فى الحديث صفة لباسه له إن كان مشتملا به أو متطيلسا أو على هيئة لباسنا اليوم، وقد روى عن طاوس أنه قال: الشملة من الزينة التى أمر الله بأخذها عند كل مسجد. 7 - باب: لبس القميص وَقَالَ يُوسُفَ: (اذْهَبُوا بِقَمِيصِى هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا) [يوسف: 93] . / 10 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ رَجُلا سأل النَّبِىّ، عليه السَّلام، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ: (لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلا السَّرَاوِيلَ، وَلا الْبُرْنُسَ. . .) الحديث. / 11 - وفيه: جَابِر، أن النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَتَى عَبْدَاللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ قَبْرَهُ، فَأَمَرَ بِهِ، فَأُخْرِجَ، وَوُضِعَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قال المؤلف: فيه أن لباس القميص من الأمر القديم وكل ما ذكر فى حديث ابن عمر من الراويل والبرانس وغيرها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 83 وذكر أبو داود قال: حدثنا زياد بن أيوب، عن أبى تميله، حدثنا عبد المؤمن بن خالد، عن عبد الله بن بريدة، عن أمه، عن أم سلمه قالت: (كانت أحب الثياب إلى رسول القميص) وقد رواه الفضل بن موسى، عن عبد المؤمن بن خالد، هن ابن بريدة عن أم سلمة، ولم يذكر أمه، قال الترمذى: سمعت البخارى يقول: حديث عبد الله بن بريدة، عن أمه أصح. 8 - باب: جيب القميص من عند الصدر وغيره / 12 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَثَلَ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ: (رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، قَدِ اضْطُرَّتْ أَيْدِيهِمَا إِلَى ثُدِيِّهِمَا، وَتَرَاقِيهِمَا، فَجَعَلَ الْمُتَصَدِّقُ كُلَّمَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، انْبَسَطَتْ عَنْهُ، حَتَّى تَغْشَى أَنَامِلَهُ، وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ قَلَصَتْ، وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ بِمَكَانِهَا) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا فِى جَيْبِهِ، فَلَوْ رَأَيْتَهُ يُوَسِّعُهَا، وَلا تَتَوَسَّعُ. تَابَعَهُ ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَأَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأعْرَجِ فِى الْجُبَّتَيْنِ. وَقَالَ حَنْظَلَةُ: سَمِعْتُ طَاوُسًا سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: جُبَّتَانِ، وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ حَيَّانَ، عَنِ الأعْرَجِ: جُبَّتَانِ. قال المؤلف: فى هذا الحديث دليل أن الجيب فى ثياب السلف كان عند الصدر على ماتصنعه النساء اليوم عندنا فى الأندلس، ووجه الدلالة على ذلك أن النبى شبه البخيل والمتصدق برجلين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 84 عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما، فتبسط على جسد المتصدق، وتشد على يدى البخيل إذا هم بالصدقة، وتمسكها فى الموضوع الذى اضطراتها إليه، وهو الثدى والتراقى وذلك فى صدره وفيه، يروم أن يوسع حلقها ولاتتسع، يبين ذلك حديث أبى هريرة: (أنا رأيت رسول الله يقول بإصبعه هكذا فى جبته يوسعها ولا تتسع) فبان أن جيبه عليه السلام كان فى صدره، لأنه لوكان فى منكبه لم تكن يداه مضطرة إلى ثديه وتراقيه، وهذا استدلال حسن، وقال ثابت الترقوتان: العظمان المشرفان فى أعلى الصدر إلى طرف ثغره النحر، وهى الهزمة التى بينهما. 9 - باب: من لبس جبه ضيقة الكمين فى السفر / 13 - فيه: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، لِحَاجَتِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ فَتَلَقَّيْتُهُ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ، فَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ، فَذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَيْهِ مِنْ كُمَّيْهِ، فَكَانَا ضَيِّقَيْنِ، فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ فَغَسَلَهُمَا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَعَلَى خُفَّيْهِ. وترجم له باب جبه الصوف فى الغزو وقال فيه: (وعليه جبه شامية من صوف) . فى هذا الحديث دليل أن ثياب السلف فى الحضر لم تكن أكمامها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 85 بضيق أكمام هذه الجبة التى لبسها عليه السلام فى سفرة، لأنه لم يذكر عنه عليه السلام أنه أخرج يديه من تحت ثيابه لضيق كميه إلا فى هذه المرة، ولو فعله فى الحضر دائما لنقل ذلك. وذلك دليل أن ثياب السفر أكمش وأخصر من ثياب الخصر، فلباس الأكمام الضيقة والواسعة جائز إذا لم يكن مثل سعه أكمام النساء، لأن زى النساء لا يجوز للرجال استعماله على مايأتى فى كتاب الزينة. وقد كره مالك للرجل سعه الثوب وطوله، وأما لباس الصوف فجائز فى الغزو وغيره إذا لم يرد لابسه به الشهرة، وقد سئل مالك عن لباس الصوف الغليظ، فقال: لا خير فيه فى الشهرة ولو كان يلبسه تارة وينزعه أخرى لرجوت، فأما المواظبة حتى يعرف به ويشتهر فلا أحبه، ومن غليظ القطن ماهو فى ثمنه وأبعد من الشهرة منه، وقد قال عليه السلام للرجل (ليرى عليك مالك) . وقال مالك أيضا: لا أكره لباس الصوف لمن لم يجد غيره، وأكرهه لمن يجد غيره، ولأن يخفى عمله أحب إلى، وكذلك كان شأن من مضى، قيل: إنما يريد التواضع يلبسه، قيل: يجد من القطن بثمن الصوف. - باب: البرانس / 14 - فيه: أَنَس، أنّه كَان يَلبَسُ بُرْنُسًا أَصْفَرَ مِنْ خَزٍّ. / 15 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِىّ قَالَ للْمُحْرِمُ: (لا تَلْبَس الْبَرَانِسَ. . . .) الحديث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 86 قال المؤلف: سئل مالك عن لباس البرانس أتكرهها، فإنها لباس النصارى؟ قال: لا بأس بها، وقد كانت تلبس هاهنا. وقال عبد الله بن أبى بكر: ماكان أحد من القراء إلا له برنس يغدو فيه وخميصة يروح فيها، وأما لباس الخز فقد لبسه جماعة من السلف وكرهه آخرون، فممن لبسه: أبو بكر الصديق، وابن عباس، وأبو قتادة، وابن أبى أوفى، وسعد بن أبى وقاص، وجابر وأنس، وابو سعيد الخذرى، وأبو هريرة، وابن الزبير، وعائشة، ومن التابعين: ابن أبى ليلى، والأحنف، وشريح، والشعبى، وعروة، وأبو بكر عبد الرحمن، وعمر بن عبد العزيز أيام إمارته، وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: لا يعجبنى لبس الخز ولا أحرمه. قال البهرى: إنما كرهه من أجل السرف، ولم يحرمه من أجل من لبسه من الصحابة، وكرهه ابن عمر وسالم والحسن وابن سيرين وسعيد بن جبير، وكان ابن المسيب لا يلبسه ولاينهى عنه. قال على بن زيد: جلست إلى سعيد بن المسيب وعلى جبه خز، فأخذ بكم جبتى وقال: م: ماأجود جبتك. قلت: ومامعنى قد أفسدوها على، قال: ومن أفسدها؟ قلت: سالم. قال: إذا صلح قلبك فالبس ماشئت، فذكرت قوله للحسن، فقال: إن من صلاح القلب ترك الخز. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 87 - باب: فروج الحرير وَهُوَ الْقَبَاءُ وَيُقَالُ: هُوَ الَّذِى لَهُ شَقٌّ مِنْ خَلْفِهِ . / 16 - فيه: الْمِسْوَر، قَالَ: قَسَمَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَقْبِيَةً، وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ شَيْئًا، فَقَالَ مَخْرَمَةُ: يَا بُنَىِّ، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَقَالَ: ادْخُلْ فَادْعُهُ لِى، قَالَ: فَدَعَوْتُهُ لَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْهَا، فَقَالَ: خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: رَضِى مَخْرَمَةُ) . / 17 - وفيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّهُ قَالَ: (أُهْدِى إلى النّبِىّ، عليه السَّلام، فَرُّوجُ حَرِيرٍ فَلَبِسَهُ، ثُمَّ صَلَّى فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَنَزَعَهُ نَزْعًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: (لا يَنْبَغِى هَذَا لِلْمُتَّقِينَ) . قال المؤلف: القباء من لباس الأعاجم، ويمكن أن يكون النبى نزعه من أجل ذلك، فقد روى أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبى شبيبة، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت، حدثنا حسان بن عطية، عن أبى منيب الجرشى، عن ابن عمر قال: قال رسول الله: (من تشبه بقوم فهو منهم) ويمكن أن يكون نزعه من أجل أنه من حرير وقد نهى عليه السلام عن لباس الحرير لذكور أمته وسيأتى بعد هذا. - باب: السراويل / 18 - فيه: ذكر فيه حديث ابن عباس، وابن عمر أن النبى، عليه السَّلام، قال: (لاَ يَلبسُ المحرم السراويل) . فقد تقدم أن لباس السراويل من الأمر القديم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 88 - باب العمائم / 19 - فيه: ابْن عُمَر: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْعِمَائَم. . .) الحديث. قال المؤلف: والعامائم تيجان العرب وهى زيهم، وقد روى أن الملائكة الذى نصروا النبى (صلى الله عليه وسلم) يوم بدر كانوا بعمائم صفر. قال مالك: العمة والاحتباء والانتعال من عمر العرب، وليس ذلك فى العجم وكانت العمة فى أول الإسلام، ثم لم تزل حتى كان هؤلاء القوم. قال ابن وهب: وحدثنى مالك أنه لم يدرك أحدًا من أهل الفضل: يحى بن سعيد، وربيعة، وابن هرمز إلا وهم يعتمون، ولقد كنت فى مجلس ربيعة، وفيه أحد وثلاثون رجلاً مامنهم رجل إلا وهو معتم وأنا منهم، ولقد كنت أراهم يعتمون فى العشاء والصبح، وكان ربيع لا يدع العمامة حتى يطلع الثريا، وكان يقول: أنى لأجد العمة تزيد فى العقل. قال: وسئل مالك عن الذى يعتم بالعمامة ولا يجعلها من تحت حلقة، فأنكرها، وقال: ذلك من عمل النبط، وليست من عمة الناس إلا أن تكون قصيرة لا تبلغ، أو يفعل ذلك فى بيته أو فى مرضه فلا بأس به، قيل له: فترخى بين الكتفين؟ قال لم أر أحدًا ممن أردكت يرخى بين كتفيه إلا عامر بن عبد الله بن الزبير، وليس ذلك بحرام، ولكن يرسلها بين يديه وهخو أجمل. وقال عامر بن عبد الله: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 89 رؤي جبريل فى صورة _ دحية الكلبى، وقد سدل عمامته بين كتفيه. وروى أبو داود حدثنا الحسن بن على، ثنا أبو أسامة عن مساور الوراق، عن جعفر بن عمرو فى حديث عن أبيه قال: (رأيت النبى - عليه السلام - على المنبر وعليه عمامة سوداء قد ارخى طرفها بين كتفيه) . وروى الترمذى عن هارون بن اسحاق قال: حدثنا يحيى بن محمد المننى، عن عبد العزيز بن محمد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: (كان النبى - عليه السلام - إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه) . قال نافع: وكان ابن عمر يفعله. قال عبيد الله: ورأيت القاسم، وسالمًا يفعلان ذلك. قال الترمذى: وهذا حديث حسن غريب. - باب التقنع وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَرَجَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَعَلَيْهِ عِصَابَةٌ دَسْمَاءُ. وَقَالَ أَنَسٌ عَصَبَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) عَلَى رَأْسِهِ حَاشِيَةَ بُرْدٍ. / 20 - فيه: عَائِشَةَ، هَاجَرَ نَاسٌ إِلَى الْحَبَشَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : عَلَى رِسْلِكَ، فَإِنِّى أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 90 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَوَ تَرْجُوهُ بِأَبِى أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) لِصُحْبَتِهِ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ، وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَبَيْنَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِى بَيْتِنَا فِى نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَقَالَ قَائِلٌ لأبِى بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُقْبِلا مُتَقَنِّعًا فِى سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدًا لَكَ أَبِى وَأُمِّى، وَاللَّهِ إِنْ جَاءَ بِهِ فِى هَذِهِ السَّاعَةِ إِلا لأمْرٍ، فَجَاءَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فَاسْتَأْذَنَ، فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ فَقَالَ حِينَ دَخَلَ لأبِى بَكْرٍ: أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ، قَالَ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِى أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنِّى قَدْ أُذِنَ لِى فِى الْخُرُوجِ، قَالَ: فَالصُّحْبَةُ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَخُذْ بِأَبِى أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَى هَاتَيْنِ: قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : بِالثَّمَنِ، قَالَتْ: فَجَهَّزْنَاهُمَا، أَحَثَّ الْجِهَازِ وَضَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِى جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِى بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَأَوْكَأَتْ بِهِ الْجِرَابَ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ تُسَمَّى ذَاتَ النِّطَاقِ، ثُمَّ لَحِقَ النَّبِى عليه السلام وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِى جَبَلٍ، يُقَالُ لَهُ: ثَوْرٌ، فَمَكُثَ فِيهِ ثَلاثَ لَيَالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِى بَكْرٍ - وَهُوَ غُلامٌ شَابٌّ لَقِنٌ ثَقِفٌ - فَيَرْحَلُ مِنْ عِنْدِهِمَا سَحَرًا، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكَادَانِ بِهِ إِلا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِى بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ، فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ، فَيَبِيتَانِ فِى رِسْلِهِمَا، حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِى الثَّلاثِ) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 91 قال المؤلف: التقنع للرجل عند الحاجة مباح، وقال ابن وهب: سألت مالكا عن التقنع بالثوب. فقال: أما الرجل يجد الحر والبرد أو الأمر الذى له فيه عذر فلا بأس به، ولقد كان أبو النضر يلزم ذلك، لبرد يجده ومابذلك بأس، وذكر ابن أبى زيد عن مالك قال: رأت سكينة بنت الحسين بعض ولدها مقنعًا راسه قالت: اكشف عن رأسك فإن القناع ريبة بالليل، ومذلة بالنهار. وماأعلمه حرامًا ولكن ليس من لباس خيار الناس. وقال البهزى: إذا تقنع لدفع مضرة فذلك مباح، وأما لغير ذلك فإنه يكره، لأنه من فعل أهل الريب ويكره أن يفعل شيئًا يظن به الريبة، وليس ذلك من فعل من مضى. قال المؤلف: وقد مر كثير من معانى هذا الحديث فى غير موضع من هذا الكتاب، منها فى كتاب البيوع، فى باب من أشترى متاعًا أو دابة فوضعه عند البائع فضاع أو مات قبل أن يقبض، وفى كتاب الاجارة فى باب استئجار المشركين عند الضرورة، وذكره فى كتاب الأدب، فى باب هل يزور صاحبه كل يوم أو بكرة وعشية؟ . وذكر البخارى هذا الحديث فى أبواب الهجرة مما لم أشرحه فى هذا الكتاب بزيادة الفاظ لم تأت فى هذا الحديث ونذكر هنا جملة من معانية، فأول ذلك ماذكره الطبرى قال: فيه الدليل الواضح على ما خص الله به صديق نبيه عليه السلام من الفضيلة والكرامة، ورفع المنزلة عنده، وذلك اختياره إياه دون سائر وعشيرته، لموضع سره وخفى أموره التى كان يخفيها عن سائر أصحابه، ولصحبته فى سفره، إذ لم يعلم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 92 أحد بكونه عليه السلام فى الغار أيام مكثه فيه غير أبى بكر وحاشيته من ولد له ومولى وأجير. ولاصحبه فى طريقه غير خصص، خصص له لذلك دون قرابة رسول الله، فتبين بذلك منزلته عنده، ودل على اختياره أياه، لأمانته على رسول الله - عليه السلام. قال المؤلف: وفيه المعنى الذى استحق به أبو بكر أن سمى صديقًا، وذلك أنه حبس نفسه على رسول الله، لقوله: (أرجو أن يؤذن لى فى الهجرة) فصدقه ولم يرتب بقوله، وأيقن أن مارجاه لا يخيب ظنه فيه لما كان جربه عليه من الصدق فى جميع أموره، وتكلف النفقة على الراحلتين، فأعد إحداهما لرسول الله وبذل ماله كما بذل نفسه فى الهجرة معه، ولذلك قال عليه السلام: (ليس أحد أمن على فى نفسه وماله من أبى بكر) . وفيه: أن المرء ينبغى له التحفظ بسره ولايطلع عليه إلا من تطيب نفسه عليه، لقوله لأبى بكر: (أخرج من عندك) ليخبره بخروجه مخليا به، فلما قال له الصديق رضى الله عنه: إنما هم أهلك. وعلم أن شفقتهم عليه كشفقة اهله أطلعه حينئذ على سره، وأنه قد أذن له فى الخروج، فبدر أبو بكر وقال لرسول الله: الصحبة؟ قبل أن يساله ذلك رسول الله وهذا من أبلغ المشاركة وأعظم الواء لرسول الله. وفيه اتخاذ الفضاء والصالحين الزاد فى أسفارهم، ورد قول من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 93 أنكر ذلك من الصوفية، وزعم أن من صح توكله ينزل عليه طعام من السماء إذا احتاج إليه، ولا أحد أفضل من رسول الله ولا من صاحبه وصديقه وهما كانا أولى بهذه المنزلة، ولو كان كما زعموا مااحتاجا إلى سفرة فيها طعام. قال الطبرى: وفى استخفاء نبى الله وأبى بكر فى الغار عندما أراد المشركون المكر بنبيه وقتله كما وصفه الله تعالى فى كتابه بقوله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك (الآيه فدخل عليه السلام مع صاحبه فى الغار حتى سكن عند الطلب ويئسوا منه ثم ارتحل متوجهًا إلى المدينة، وكان فعله ذلك حذرًا على نفسه من المشركين، فبان بذك، إذ صح فعله أنه عن أمر ربه إياه أن الحق على كل مسلم الهرب مما لا قوام له به، وترك التعرض لما لا طاقة له به،) ولو شاء الله (أن يعمى جميع المشركين يومئذ حتى لا يقدروا على رؤيته، أو يخسف بهم أجمعين حتى ينفرد رسول الله وأصحابه بالمكث فى بلدهم لكان ذلك هينًا عليه. فلم يفعل ذلك تعالى مع قدرته عليه، ليبلغ الكتاب أجله بل أمر نبيه وصاحبه بالدخول فيه، ليكون ذلك سنة لخلقه إذا رأوا منكرًا يجب تغييره فعجزوا عن القيام بتغييره وكانوا فى فسحة من ترك التعرض لما لا قبل لهم من الخوف على مهجهم ودينهم والزوال عنه، وبان ذلك فساد قول قول من قال: إن على كل من رأى منكرًا تغييره وإن فى ذلك هلاك نفسه وماله، وإن لم يفعل ذلك كان مضيعًا فرضًا لله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 94 ووضح خطأ من حمل وحده على عسكر من المشركين وله إلى ترك ذلك سبيل مع خوفه على نفسه، وبان فساد قول من زعم أنه من استجن بجنة فى حرب أو لجأ إلى حصن من عدو غالب أو أتخذ غلقًا لباب من لص أو أعد زادًا لسفر أنه قد برىء من التوكل، لأن الضر والنفع بيد الله وقد أمر الله نبيه بالدخول فى الغار ولاختفاء فيه من شرار خلقه، وكان من التوكل على ربه فى الغاية العليا. وفيه الدليل الواضح على فساد قول من زعم أن من خاف شيئًا سوى الله فلم يوقن بالقدر، وذلك أن الصديق قال لرسول الله: (لو أن أحدكم رفع قدمه لأبصرنا) . حذرًا أن يكون ذلك من بعضهم فيلحقه ورسول الله من مكروه، ذلك ماحذره وبذلك أخبر الله تعالى - عنه فى كتابه بقوله: (إلا تنصروه فقد نصره الله (فلم يصفه الله ولا رسوله بذلك من قوله بضعف اليقين، بل كان من اليقين لقضاء الله وقدرة فى أعلى المنازل، ولكن قال ذلك إشفاقا على رسول الله، وكان حزنه بذلك مع علمه أن الله بالغ أمره فيه وفى رسوله وفى نصر دينه، فجمع الله له بذلك صدق اليقين، وأجر الجزع على الدين، وثواب الشفقة على الرسول، ليضعف له بذلك الأجر، وكان ذلك منه مثل ماكان من موسى نبى الله إذ أوجس فى نفسه خيفة مما أتت به السحرة، حين خيل إليه أن حبالهم وعصيهم تسعى، فقال الله له: (لا تخف إنك أنت الأعلى) ولا شك أن موسى كان من العلم بالله وصدق اليقين بنفوذ قضائه فيه ما لا يلتبس أمره على ذى عقل يؤمن بالله ورسوله، وكذلك الذى كان من أمر أبى بكر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 95 وقوله عليه السلام لأبى بكر ماظنك بأثنين الله ثالثهما. يعنى: أن الله ثالثهما بالحفظ لهما والكلأ، ولم يرد أنه يعلم مكانهما فقط كما قال تعالى: (ما يكون من نجوى ثلاثه إلا هو رابعهم (الآيه، ويدل أنه أراد أن الله ثالثهما بالحفظ، قوله تعالى: (لا تحزن إن الله معنا (أى: يحفظنا ويكلؤنا ويحفظنا، ولو أراد يعلمنا لم يكن فيه له عليه السلام ولا لصاحبه فضيلة على أحد من الناس، لأن الله تعالى شاهد كل نجوى وعالم بها، وإنما كان فضيلة له ولصاحبه حين كان الله ثالثهما بأن صرف عنهما طلب المشركين وأعمى ابصارهم وسيأتى فى كتاب التمنى معنى قوله: لو أن أحدهم رفع قدمه لبصرنا، فى باب مايجوز من اللو ان شاء الله تعالى. وقد تقدم شرح العصابة الدسماء فى أبواب صلاة الجمعة فى باب من قال فى الخطبة بعد الثناء: أما بعد، فأغنى عن إعادته. وقوله: (إن جاء به هذه الساعة لأمر) إن هاهنا مؤكدة، و (اللام) فى قوله: (لأمر) لام التأكيد، كقوله تعالى: (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال (فى قراءة من فتح اللام وهو الكسائى وقوله: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك (وقوله: (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين (، هذا قول سيبويه والبصريين، وأما الكوفيون فيجعلون إن هاهنا نافيه بمعنى ما، والمعنى إلا، والتقدير عندهم ماجاء به إلا أمر، وماوجدنا أكثرهم إلا فاسقين، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 96 وما يكاد لذين كفروا إلا ليزلقونك. وهذه دعوى يحتاج فيها إلى حجة قاطعة، واخراج الكلام عن موضوعه لا يصح إلا إذا بطل معنى نسفه وموضوعه، وقد صح المعنى فى نسقه وقال صاحب الافعال: يقال علفت الدابه، وأعلفتها، واللغة الأولى أفصح. وقوله: لقن ثقف. فالقن: الفهم يقال: لقن الشىء لقنًا ولقانه عقل وذكا، والثقف مثله، يقال: ثقف الحديث: أسرعت فهمه، وثقفت الشىء: أجدته، ومنه قوله تعالى: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم (وأكثر كلام العرب ثقف لفف، وثقف لفف أى: راو شاعر رام، وهذا إتباع، عن الخليل والرسل بكسر الراء: اللبن ونعق ينعق بالغنم إذا صاح بها، عن الخليل وقد تقدم فى فضل المدينة فى آخر كتاب الحج. - باب: المغفر / 21 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ. المغفر من حديد، وهو من آلات الحرب ودخوله به عليه السلام يوم الفتح كان فى حال القتال، ولم يكن محرما كما قال ابن شهاب. وقال بعض المتعسفين على مالك: إن هذا الحديث لم يتابع عليه مالك عن ابن شهاب، وإنما الصحيح فيه أنه دخل يوم الفتح وعليه عمامة سوداء، ولم يكن عليه مغفر، واجتجوا بما رواه الترمذي عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 97 محمد بن _ بشار قال: حدثنا عن الرحمن بن مهدى، عن حماد بن سلمه، عن أبى الزبير، عن جابر (أن النبى عليه السلام دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء) . قال الترمذى: وهذا حديث حسن. قال المؤلف: وهذا تعسف على مالك، وقد وجدت فى حديث الزهرى تصنيف النسائى أن الأوزاعى روى هذا الحديث عن الزهرى، كما رواه مالك وذكر فيه المغفر، وقد يمكن أن يكون عليه السلام عليه مغفر وتحتة عمامة سوداء، لتتفق الروايات، وسواء دخل عليه السلام مكة بمغفر أو بعمامة سوداء فحكمهما سواء ولا حرج عليه فى ذلك، لأنه دخلها كذلك فى الساعة التى أحلت له ولم تحل لأحد قبله ولابعده، ثم هى حرام إلى يوم القيامة. وإنما اتخذ عليه السلام مغفرًا وتسلح به فى حال الحرب، وقد أخبر الله تعالى أن الله يعصمه من الناس، ليس ذلك لأمته ويقتدى به الأئمة والصالحون. - باب: البرود والحبرة والشملة وَقَالَ خَبَّابٌ: شَكَوْنَا إِلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ. / 22 - فيه: أَنَس، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِىٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِىٌّ، فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 98 قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِى مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِى عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ. / 23 - وفيه: سَهْل، جَاءَتِ امْرَأَةٌ بِبُرْدَةٍ - قَالَ سَهْلٌ: هَلْ تَدْرِى مَا الْبُرْدَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ، هِى الشَّمْلَةُ مَنْسُوجٌ فِى حَاشِيَتِهَا - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِى أَكْسُوكَهَا فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا، وَإِنَّهَا لإزَارُهُ، فَجَسَّهَا رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اكْسُنِيهَا، قَالَ: (نَعَمْ) ، فَجَلَسَ مَا شَاءَ اللَّهُ فِى الْمَجْلِسِ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ سَأَلْتَهَا إِيَّاهُ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لا يَرُدُّ سَائِلا، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهَا إِلا لِتَكُونَ كَفَنِى يَوْمَ أَمُوتُ. قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ. / 24 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِى زُمْرَةٌ هِىَ سَبْعُونَ أَلْفًا، تُضِىءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ) ، فَقَامَ عُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الأسَدِىُّ، يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْهِ، قَالَ: ادْعُ اللَّهَ لِى يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَنِى مِنْهُمْ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ. . .) الحديث. / 25 - وفيه: أَنَس، كَانَ أَحَبَّ الثِّيَابِ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، يَلْبَسَهَا الْحِبَرَةُ. / 26 - وفيه: عَائِشَةَ، أن النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) حِينَ تُوُفِّىَ سُجِّىَ بِبُرْدٍ حِبَرَةٍ. البرود هى: برود اليمن تصنع من قطن وهى الحبرات يشتمل بها وهى كانت أشرف الثياب عندهم، إلا ترى انه عليه السلام سجى بها حين توفى، ولو كان عندهم أفضل من البرود شىء لسجي به. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 99 وفيه: جواز لباس الثياب للصالحين رفيع الثياب للصالحين وذلك داخل فى معنى قوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده (الآية. وفى حديث أنس ما جبل عليه السلام عليه من شريف الأخلاق وعظيم الصبر على جفاء الجهال والصفح عنهم والدفع بالتى هى احسن، إلا ترى أنه ضحك حين جبذه الاعرابى، ثم امر له بعطاء ولم يؤاخذه. وفيه حديث سهل كرم النبى - عليه السلام - وإثاره على نفسه ولو كان فى حال حاجة أخذًا بقوله تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة (. وفيه أنه ينبغى التبرك بثياب الصالحين ويتوسل بها إلى الله فى الحياة والممات. وفيه جواز أخذ الهدية للرجل الكبير مما هو دونه إذا علم طيب ما عنده. وفيه جواز من سال الإمام والخليفة ماعليه من ثيابه وسيأتى معنى قوله: (سبقك بها عكاشة) . فى كتاب الطب، فى باب من اكتوى وفضل من لم يكتو إن شاء الله - تعالى والنمرة والبرد سواء. - باب الأكسية والخمائص / 27 - فيه: ابْن عَبَّاس، وَعَائِشَةَ، لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 100 لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا. / 28 - وفيه: عَائِشَةَ، أنها أَخْرَجَتْ وَإِزَارًا غَلِيظًا، وَكِسَاءً، وَقَالَتْ: قُبِضَ رُوحُ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فِى هَذَيْنِ. / 29 - وفيه: عَائِشَةَ، صَلَّى النّبِىّ، عليه السَّلام، فِى خَمِيصَةٍ لَهُ لَهَا أَعْلامٌ، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلامِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا سَلَّمَ، قَالَ: (اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِى هَذِهِ إِلَى أَبِى جَهْمٍ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِى عَنْ صَلاتِى آنِفًا، وَأْتُونِى بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِى جَهْمِ) . الخمائص: أكسية من صوف سود مربعة بها أعلام، كانت من لباس السلف. وقال الأصمعى: الخمائص ثياب من خز أو صوف معلمه وهى سود، وقد تقدم فى كتاب الصلاة. - باب: اشتمال الصماء / 30 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَن اشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ. / 31 - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ، نَهَى النّبِىّ، عليه السَّلام، عَنْ لِبْسَتَيْنِ، اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ - وَالصَّمَّاءُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى أَحَدِ عَاتِقَيْهِ، فَيَبْدُو أَحَدُ شِقَّيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ - وَاللِّبْسَةُ الأخْرَى احْتِبَاؤُهُ بِثَوْبِهِ، وَهُوَ جَالِسٌ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَىْءٌ. وقد تقدم فى كتاب الصلاة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 101 - باب: الثياب الخضر / 32 - فيه: عِكْرِمَةَ: أَنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَعَلَيْهَا خِمَارٌ أَخْضَرُ، فَشَكَتْ إِلَيْهَا، وَأَرَتْهَا خُضْرَةً بِجِلْدِهَا، فَلَمَّا جَاءَ النّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ مَا تَلْقَى الْمُؤْمِنَاتُ لَجِلْدُهَا أَشَدُّ خُضْرَةً مِنْ ثَوْبِهَا، قَالَ: وَسَمِعَ أَنَّهَا قَدْ أَتَته، فَجَاءَ وَمَعَهُ ابْنَانِ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِى إِلَيْهِ مِنْ ذَنْبٍ، إِلا أَنَّ مَا مَعَهُ لَيْسَ بِأَغْنَى عَنِّى مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ ثَوْبِهَا، فَقَالَ: كَذَبَتْ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى لأنْفُضُهَا نَفْضَ الأدِيمِ، وَلَكِنَّهَا نَاشِزٌ تُرِيدُ رِفَاعَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (فَإِنْ كَانَ ذَلِكِ لَمْ تَحِلِّى لَهُ - أَوْ لَمْ تَصْلُحِى لَهُ - حَتَّى يَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِكِ) ، قَالَ: وَأَبْصَرَ مَعَهُ ابْنَيْنِ لَهُ، فَقَالَ: (بَنُوكَ هَؤُلاءِ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (هَذَا الَّذِى تَزْعُمِينَ مَا تَزْعُمِينَ، فَوَاللَّهِ لَهُمْ أَشْبَهُ بِهِ مِنَ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ) . قال المؤلف: الثياب الخضر من لباس أهل الجنة قال تعالى: (ويلبسون ثيابا خضرًا من سندس وإستبرق (. كفى بهذا شرفًا للخضرة وترغيبًا فيها. وقال هشام بن عروة قال: رايت على عبد الله بن الزبير مطرقا من خز أخضر كسته أياه عائشة، وروى أبو داود حديثًا عن أبى رمثة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 102 قال: (انطلقت مع أبى إلى النبي - عليه السلام - فرأيت عليه بردان أخضران) . فيه أن للرجل ضرب زوجته عند نشوزها عليه، وإن اثر ضربه فى جلدها ولا حرج عليه فى ذلك، إلا ترى أن عائشة قالت للنبى - عليه السلام -: (لجلدها أشد خضرة من ثوبها) ولم ينكر ذلك النبى. وفيه أن للنساء أن يطالبن أزواجهن عند الامام بقله الوطء وأن يعرضن بذلك تعريضًا بينًا كالتصريح ولا عار عليهن فى ذلك. وفيه أن للزوج إذا ادعى عليه ذلك أن يخبر بخلاف ويعرب عن نفسه ألا ترى قوله: (يا رسول الله، إنى لانفضها نفض الأديم) وهذه الكناية من الفصاحة العجيبة، وهى أبلغ فى المعنى من الحقيقة. وفيه الحكم بالدليل، لقوله عليه السلام فى أبنيه: (لهم أشبه به من الغراب بالغراب) فاستدل عليه السلام بشبهها على كذبها، ودعواها وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب الطلاق فى باب إذا طلقها ثلاثًا ثم تزوجت بعد العدة زوجًا فلم يمسها. - باب الثياب البيض / 33 - فيه: سَعْدٍ، قَالَ: رَأَيْتُ بِشِمَالِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَيَمِينِهِ رَجُلَيْنِ، عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ يَوْمَ أُحُدٍ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلا بَعْدُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 103 / 34 - وفيه: أَبُو ذَرٍّ، رأيْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ، وَهُوَ نَائِمٌ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقَالَ: (مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ، إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ) ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قُلْتُ ذَلِكَ ثلاثًا، قَالَ لى: كذلِك، عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِى ذَرٍّ. وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا، قَالَ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِى ذَرٍّ. قال المؤلف: الثياب البيض من أفضل الثياب وهو لباس الملائكة الذين نصروا النبى عليه السلام يوم أحد وغيره، والرجلان اللذان كانا يوم أحد عن يمين النبى وعو شماله كانا ملكين، والله أعلم. وكان عليه السلام يلبس البياض ويفضله، ويحض على لباسه الأحياء، ويأمر بتكفين الأموات فيه. روى أبو داود قال: حدثنا أحمد بن يونس قال: ثنا زهير، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله: (ألبسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم) . وأما قوله فى حديث أبى ذر: (من قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك دخل الجنة وإن زنا وإن سرق) . وقول البخارى: فقال هذا عند الموت إذا تاب وندم وقال: لا إله إلا الله، غفر له. هذا تفسير يحتاج إلى تفسير آخر، وذلك أن التوبة والندم إنما تنفع فى الذنوب التى بين العبد وبين ربه، فأما مظالم العباد فلا تسقطها عنه التوبة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 104 ومعنى الحديث أن من مات على التوحيد أنه يدخل الجنة وإن ارتكب الذنوب، ولا يخلد فى النار بذنوبه كما يقوله الخوارج وأهل البدع، وقد تقدم - فى حديث معاذ أن النبى - عليه السلام - قال له: (ما من أحد يشهد أن لا إله ألا الله وأن محمدًا رسول الله صادقا من قلبه إلا حرمه الله على النار) هذا المعنى مبينًا فى كتاب العلم فى باب من خص بالعلم قومًا دون قوم. فإن قال قائل: فى ظاهر قول البخارى هذا أنه لم يوجب المغفرة إلا لمن تاب، فظاهر هذا يوهم إنقاذ الوعيد لمن لم يتب. قيل له: إنما البخارى ماأراده وهب بن منبه بقوله فى مفتاح الجنة فى كتاب الجنائز: أن تحقيق ضمان وعد النبى عليه السلام لمن مات لا يشرك بالله أو لمنم قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك، أنه إنما يتحصل لهم دون مدافعه عن دخول الجنة، ولاعذاب ولاعقاب إذا لقوا الله تائبين أو عاملين بما أمر به، فأولئك يكونون أول الناس دخولا الجنة أو قبلهم تباعات للعباد، فلا بدا أيضًا لهم من دخول الجنة بعد إنقاذ الله مشيئته فيهم من عذاب أو مغفرة. - باب: لبس الحرير للرجال وافتراشه للرجال وقدر ما يجوز منه / 35 - فيه: أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِىَّ، أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ، وَنَحْنُ مَعَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ بِأَذْرَبِيجَانَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنِ الْحَرِيرِ إِلا هَكَذَا - وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ اللَّتَيْنِ تَلِيَانِ الإبْهَامَ - قَالَ: فِيمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ يَعْنِى الأعْلامَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 105 / 36 - وَقَالَ مرة: إن عُمَر كَتَبَ إلى عُتْبَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، قَالَ: (لا يُلْبَسُ الْحَرِيرُ فِى الدُّنْيَا، إِلا لَمْ يُلْبَسْ فِى الآخِرَةِ مِنْهُ) . / 37 - وفيه: حُذَيْفَةُ أنه اسْتَسْقَى، فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِمَاءٍ فِى إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَرَمَاهُ بِهِ، وَقَالَ: إِنِّى لَمْ أَرْمِهِ إِلا أَنِّى نَهَيْتُهُ، فَلَمْ يَنْتَهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْحَرِيرُ وَالدِّيبَاجُ، هِىَ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِى الآخِرَةِ) . / 38 - وفيه: أَنَس، َعَنِ النَّبِى عليه السَّلام، قَالَ: مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِى الدُّنْيَا، لم يَلْبَسَهُ فِى الآخِرَةِ) . قَالَ شُعْبَةُ: فَقُلْتُ: أَعَنِ النَّبِىِّ، عليه السّلام؟ . . . الحديث. / 39 - وفيه: ابْنَ عُمَر، عن عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِى الدُّنْيَا مَنْ لا خَلاقَ لَهُ فِى الآخِرَةِ) . قال الطبرى: اختلف أهل العلم فى معنى هذه الأخبار فقال بعضهم بعموم خبر عمر، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إنما يلبس الحرير فى الدنيا من لا خلاق له فى الآخرة) . وقال: الحرير كله حرام، قليله وكثيره، مصمتًا كان أو غير مصمت، فى الحرب وغيرها على الرجال والنساء، لأن التحريم بذلك قد جاء عاما فليس لأحد أن يخص منه شيئًا، لأنه لم يصح بخصوصه خبر. وقال آخرون: بل هذه الأخبار التى وردت عن النبى - عليه السلام - بالنهى عن لبس الحرير أخبار منسوجة، وقد رخص فيه رسول الله بعد النهى عن لبسه وأذن لأمته فيه. وقال آخرون ممن قال بتحليل لبسه: ليست هذه الأخبار منسوجة، ولكنها بمعنى الكراهة لا بمعنى التحريم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 106 وقال آخرون: بل هذه الأخبار وإن كانت وردت بالنهى عن لبس الحرير فإن المراد بها الخصوص، وإنما أريد بها الرجال دون النساء، وماعنى به الرجال من ذلك فإنما هو ماكان منه حريرًا مصمتًا، فأما مااختلف سداه ولحمته أو كان علمًا فى ثوب فهو مباح. وقال آخرون ممن قال بخصوص هذه الأخبار: إنما عنى بالنهى عن لبس الحرير فى غير لقاء العدو، فأما عند لقاء العدو فلا بأس يلبسه مباهاة وفخرًا. ذكر من قال: إن النهى عن الحرير على العموم: روى عطاء، عن عبد الله مولى أسماء قال: (أرسلت اسماء إلى ابن عمر أنه بلغنى انك تحرم العلم فى الثوب. قال: إن عمر حدثنى أنه سمع النبى عليه السلام يقول: من لبس الحرير فى الدنيا لم يلبسه فى الآخرة. وأخاف أن يكون العلم فى الثوب من لبس الحرير) . قال أبو عمرو الشيبانى: (رأى على بن أبى طالب على رجل جبه طيالسه قد جعل على صدره ديباجًا، فقال: ماهذا النتن تحت لحييك. قال: لا تراه على بعدها) . وعن أبى هريرة أنه رأى رجل لبنه حرير فى قميصه فقال: (لو أزرار ديباج فقال: تتقلد قلائد الشيطان فى عنقك) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 107 وعن الحسن البصرى أنه يكره قليل الحرير وكثيره للرجال والنساء حتى الأعلام فى الثياب. وكره بن سيرين العلم فى الثوب وقال: الدليل على عموم التحريم قوله عليه السلام: (من لبسه فى الدنيا لم يلبسه فى الآخرة) . ومن قال: المراد بالنهى عن لباس الحرير الرجال دون النساء ورخص فى الأعلام. وروى عن حذيفة (أنه رأى صبيانًا عليهم قمص حرير فنزعها عنهم وتركها على الجوارى) . وعن ابن عمر (أنه كان يكره الحرير للرجال، ولا يكرهه للنساء) وعن عطاء مثله. واحتج الذين أجازوه للنساء بما رواه عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن سعيد بن أبى هند، عن أبى موسى الشعرى قال: قال رسول الله: (أحل لأناث أمتى الحرير والذهب، وحرم على ذكروهم) ، وكان ابن عباس لا يرى بأسًا بالأعلام، وقال عطاء: إذا كان العلم إصبعين أو ثلاثة مجموعة فلا بأس به. وكان عمر بن عبد العزيز يلبس الثوب سداه كتان وقيامه حرير، وأجازه ابن أبى ليلى، وقال أبو حنيفة: لا بأس بالخز وإن كان سداه إبريسم، وكذلك لا بأس بالخز، وإن كان مبطنًا بثوب حرير، لأن الظاهر الخظ وليس الظاهر الحرير، ولابأس بحشو القز. وقال الشافعى: إن لبس رجل قباء محشوًا قزًا فلا بأس به، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 108 لأن الحشو باطن، وإنما إظهار القز للرجال. وكان النخعى يكره الثوب سداه حرير، وقال طاوس: دعه لمن هو أحرص عليه. وسئل الأوزاعى عن السيجان الواسطية التى سداها قز، فقال: لا خير فيها. قال غير الطبرى: وكان مالك يعجبه ورع ابن عمر، فلذلك كره لباس الخز، قال مالك: إنما كره الخز، لأن سداه حرير. ذكر من قال: إن الأخبار الواردة بتحريم لبس الحرير منسوجة بإذنه للزبير بن العوام فى ذلك، وأن لباسه جائز فى الحرب وغيرها. روى معمر، عن ثابت، عن أنس قال: لقى عمر عبد الرحمن بن عامر بن ربيعة قال: (شهدت عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وعليه قميص حرير، فقال: ياعبد الرحمن، لا تلبس الحرير والديباج فإنه ذكر لى أن من لبسه فى الدنيا لم يلبسه فى الآخرة) . وروى ابن أبى ذئب، عن سفينة مولى ابن عباس قال: (دخل المسور بن محرمة على ابن عباس يعوده، وعلى ابن عباس ثوب إستبرق وبين يديه كانون عليه تماثيل فقال: ماهذا اللباس عليك؟ قال: ماشعرت به وما أظن النبى نهى عنه إلا للتكبر والتجبر، ولسنا كذلك بحمد الله، قال: وماهذه التماثيل؟ قال: أما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 109 تراها قد أحرقناها بالنار، فلما خرج المسور قال ابن عباس: ألقوا هذا الثوب عنى، واكسروا هذه التماثيل، وبيعوا هذا الكانون) . وعن جبير بن حية أنه اشترى جارية عليها قباء من ديباج منسوج بذهب، فكان يلبسه، فكأن اصحابه عابوا عليه ذلك، فقال: أنه يدفئنى، وألبسه فى الحرب. قال الطبرى: والصواب فى حديث عمر عن النبى - عليه السلام أنه على الخصوص، وقوله: (إنما هذه لباس من لا خلاق له يعنى: من الحرير المصمت من الرجال، فى غير حال المرض والحرب، لغير ضرورة دعته إلى لبسه تكبرًا واختيالا فى الدنيا لم يلبسه فى الآخرة، ولباس ذلك كذلك لباس من لا خلاق له. وإنما قلنا عنى به من الحرير المصمت، لقيام الحجة بالنقل الذى يمتنع منه الكذب أنه لا بأس بلبس الخز، والخز لا شك سداه حرير ولحمته وبر، فإذا كانت الحجة ثابتة بتحليله، فسبيل كل مااختلف سداه ولحمته سبيل الخز، أنه لا بأس به فى كل حال للرجال والنساء، وإنما قلنا عنى به كان ثوبًا دون ماكان علمًا فى ثوب، لصحة الخبر عن النبى - عليه السلام - أنه استثنى من الحرير، إذ نهى عن لبسه ماكان منه قدر أصبعين أو ثلاث أو أربع. وقال عنى به من لم تكن به عله تضطرة إلى لبسه، لصحة الخبر عن النبى - عليه السلام - أنه ارخص للزبير بن العوام فى الحرير وعبد الرحمن لحكه كانت بجلودهما فكان معلومًا بذلك، إذ كل عله كانت بالإنسان يرجى بلبس الحرير خفتها أن له لبسه معها، وأن من كانت بالأنسان يرجى بلبس الحرير خفتها أن له لبسه معها، وأن من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 110 قصد إلى دفع ماهو أعظم أذى من الحكة وذلك كأسلحة العو، أن له من ذلك ماكان لعبد الرحمن والزبير بسبب الحكة. وقلنا: الخبر خاص للرجال دون النساء، لصحة خبر أبى موسى عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (الذهب والحرير حرام على ذكور أمتى، حل لإناثها) . فبان أن جميع الأخبار المروية فى الحرير غير دافع منها خبر غيره، ولاناسخ فيها ولامنسوخ، ولكن يعضد بعضها بعضًا، وقد تقدم فى كتاب الجهاد واختلاف العلماء فى لباس الحرير فى الحرب. قال الطبرى: واختلفوا فى قوله: (إنما يلبسها من خلاق له فى الآخرة) وقال آخرون: ما له فى الآخرة من وجهة. وقال آخرون: ما له فى الآخرة. وقال غير الطبرى: قوله: (إنما يلبسها من لا خلاق له فى الآخرة) يعنى: أنه من لباس المشركين فى الدنيا، فينبغى أن لا يلبسه المؤمنون. - باب: مس الحرير من غير لبس / 40 - فيه: الْبَرَاء، أُهْدِىَ لِلنَّبِىِّ، عليه السَّلام، ثَوْبُ حَرِيرٍ، فَجَعَلْنَا نَلْمُسُهُ، وَنَتَعَجَّبُ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا) ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: (مَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِى الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا) . قال المؤلف: ليس النهى الحرير من أجل نجاسة عينه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 111 فيحرم لمسه باليد، وإنما نهى عن لبسه من أجل أنه ليس من لباس المتقين، وعينه مع ذلك طاهرة، فلذلك جاز لمسه والانتفاع بثمنه. - باب: افتراش الحرير قَالَ عَبِيدَةُ: هُوَ كَلُبْسِهِ . / 41 - فيه: حُذَيْفَةَ، نَهَانَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَنْ نَشْرَبَ فِى آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، أَوْ نَأْكُلَ فِيهَا، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ. قال المؤلف: هذا الباب رد من أجاز افتراش الحرير والارتفاق به، وهو قول عبد العزيز بن أبى سلمه، وروى وكيع، عن مسعر، عن راشد مولى بنى تميم قال: رايت فى مجلس ابن عباس مرفقة حرير. والجمهور على خلافه، وحجتهم حديث حذيفة أن النبى - عليه السلام - نهى عن لباس الحرير وعن الجلوس عليه، وهذا نصر فى المسالة، ولو عدمنا هذا النص لاستدللنا على أن الافتراش والجلوس لباس من حديث أنس فى الحصير الذى اسود من طول ما لبس. وقد روى وهب، عن ابن لهيعة، عن أبى النضر ان عبد الله ابن عامر صنع صنيعًا، فدعا الناس وكان فيهم سعد بن أبى وقاص، فلما أتى أمر بمحبس من حرير كان على سريره فنزع، فلما دخل قال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 112 له ابن عامر ياأبا إسحاق، إنه كان على السير محبس من حرير فلما سمعنا بك نزعناه. قال سعد: لأن أقعد على جمر الغضا أحب إلى من أن أقعد على محبس من حرير. - باب: لبس القسي وَقَالَ عَلِىّ بْن أَبِى طالب: (الْقَسِّيَّةُ) ، ثِيَابٌ أَتَتْنَا مِنَ الشَّامِ - أَوْ مِنْ مِصْرَ - مُضَلَّعَةٌ فِيهَا حَرِيرٌ، وَفِيهَا أَمْثَالُ الأتْرُنْجِ وَالْمِيثَرَةُ، كَانَتِ النِّسَاءُ تَصْنَعُهُ لِبُعُولَتِهِنَّ مِثْلَ الْقَطَائِفِ يُصَفِّرْنَهَا. وَقَالَ جَرِيرٌ، عَنْ يَزِيدَ: الْقَسِّيَّةُ ثِيَابٌ مُضَلَّعَةٌ يُجَاءُ بِهَا مِنْ مِصْرَ، فِيهَا الْحَرِيرُ وَالْمِيثَرَةُ جُلُودُ السِّبَاعِ. / 42 - فيه: الْبَرَاء، نَهَانَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنِ الْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ وَالْقَسِّىِّ. قال الطبرى: القسى ثياب تعمل من الحرير بقرية بمصر يقال لها القسى. وقال أبو عبيد: وأصحاب الحديث يقولون: القسى بكسر القاف، وأهل مصر يفتحون القاف تنسب إلى بلاد يقال لها: قس. وسأذكر المثيرة بعد هذا. - باب: ما يرخص للرجال من الحرير للحكة / 43 - فيه: أَنَس، قَالَ: رَخَّصَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِالرَّحْمَنِ فِى لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحِكَّةٍ بِهِمَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 113 قد تقدم كلام الطبري أن هذا الحديث يدل أنه عن لبس الحرير من لم تكن به عله تضطره إلى لبسه، وكان معلومًا بترخيصه، عليه السلام، فى لبس الحرير للحكة، أن كل عله كانت بالإنسان يرجى بلبس الحرير فخفتها أنه يجوز له لباسه معها، وأن من قصد بلبسه إلى ماهو أعظم من أذى من أذى الحكة كنيل العدو واسلحتهم أن ذلك له جائز، وقد تقدم فى كتاب الجهاد. - باب: الحرير للنساء / 44 - فيه: عَلِىّ، قَالَ: كَسَانِى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، حُلَّةً سِيَرَاءَ، فَخَرَجْتُ فِيهَا، فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِى وَجْهِهِ، فَشَقَّقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِى. / 45 - وفيه: عُمَرَ، أنه رَأَى حُلَّةَ سِيَرَاءَ تُبَاعُ فِى السوق، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ ابْتَعْتَهَا تَلْبَسُهَا لِلْوَفْدِ إِذَا أَتَوْكَ وَالْجُمُعَةِ، قَالَ: (إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ) ، وَأَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، بَعَثَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ حُلَّةَ سِيَرَاءَ حَرِيرٍ كَسَاهَا إِيَّاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: كَسَوْتَنِيهَا، وَقَدْ سَمِعْتُكَ تَقُولُ، فِيهَا مَا قُلْتَ؟ فَقَالَ: (إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ؛ لِتَبِيعَهَا أَوْ تَكْسُوَهَا) . / 46 - وفيه: أَنَس، رَأَى عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ النّبِىّ، عليه السَّلام، بُرْدَ حَرِيرٍ سِيَرَاءَ. العلماء متفقون أن الحرير مباح للنساء، إلا ما روى عن الحسن البصرى قال يونس بن عبيد: كان الحسن يكره قليل الحرير وكثيرة للرجال والنساء، حتى الأعلام فى الثياب. وأحاديث هذا الباب خلاف قول الحسن، ولو كان الحرير لا يجوز لباسه للنساء ماجهل ذلك على بن أبى طالب ولا شق الحلة بين نسائه، ولا جاز لأم كلثوم بنت النبى لباس الحرير، وروى معمر عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 114 الزهري، عن أنس قال: (رأيت على زينب بنت رسول الله برد سيراء من حرير) قال الأصمعى: سيراء: ثياب فيها خطوط من حرير، ويقال من قز، وإنما يقال لها: سيراء لتسيير الخطوط فيها. وقال الزهرى: السيراء المضلع بالقزى، وعن الخليل مثله، وهذا مذهب من لم يجز للرجال لباس المصلع بالقزى، وعن الخليل مثله، وهذا مذهب من لم يجز للرجال لباس الثوب إذا خالطه حرير أو كان فيه منه سدى أو لحمة، والآثار تدل أن الحلة من حرير محض. روى حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن أبى عمر قال عمر: (يا رسول الله، إنى مررت بعطارد وهو يعرض حلة حرير للبيع فلو اشتريتها للجمعة والوفد. . .) وذكر الحديث، وقال الزهرى، عن سالم، عن أبيه حلة من إستبرق وهو غليظ الحرير، وعلى هذا تدل الآثار أنها كانت من حرير محض. - باب: ما كان النبى عليه السلام يتجوز من الباس والبسط / 47 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ عُمَرَ: دَخَلْتُ، عَلَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، فإِذَا هو عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِى جَنْبِهِ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ مِرْفَقَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِذَا أُهُبٌ مُعَلَّقَةٌ، وَقَرَظٌ. / 48 - وفيه: هِنْدُ بِنْتُ الْحَارِثِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتِ: اسْتَيْقَظَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، مِنَ اللَّيْلِ، وَهُوَ يَقُولُ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتْنَةِ؟ مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ؟ كَمْ مِنْ كَاسِيَةٍ فِى الدُّنْيَا عَارِيَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . قَالَ الزُّهْرِىُّ: وَكَانَتْ هِنْدٌ لَهَا أَزْرَارٌ فِى كُمَّيْهَا بَيْنَ أَصَابِعِهَا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 115 قال المؤلف: كان النبى - عليه السلام - ينام على الحصير حتى يؤثر فى جنبه، ويتخذ من الثياب مايشبه تواضعه (صلى الله عليه وسلم) وزهده فى الدنيا توفيرًا لحظة فى الآخرة، وقد خيره الله ان يكون نبيا ملكا أو نبيا عبدًا، فاختار أن يكون نبيًا عبدًا إيثار للآخرة على الدنيا، وتزهيدًا لأمته فيها ليقتدوا به فى أخذ البلغة من الدنيا، إذ هى اسلم من الفتنة التى تخشى على من فتحت عليه زهرة الدنيا، ألا ترى قوله عليه السلام: (ماذا أنزل الليلة من الفتنة؟ ماذا أنزل من الخزائن؟) فقرن عليه السلام الفتنة بنزول الخزائن، فدل ذلك على أن الكفاف والقصد فى أمور الدنيا خير من الإكثار واسلم من الفتنة. فإن قال قائل: حديث أم سلمه لا يوافق معنى الترجمة قيل: بل موافق لها، وذلك أن النبى عليه السلام حذر أهله وجميع المؤمنات من لباس رقيق الثياب الواصفة لأجسامهن، لقوله: (كم من كاسية فى الدنيا عارية يوم القيامة) وفهم منه أن عقوبة لابسة ذلك أن تعرى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، وقام الدليل من ذلك أنه عليه السلام حض أزواجه على استعمال خشن الثياب السائرة لهن حذرًا أن يعرين فى الآخرة. ألا ترى قول الزهرى: وكانت هند لها أزرار فى كميها بين اصابعها. وإنما فعلت ذلك، لئلا يبدو من سعة كميها شىء من جسدها، فتكون وإن كانت ثيابها غير واصفة لجسدها داخلة فى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 116 معنى قوله: (كاسية عارية) فلم يتخذ النبى عليه السلام ولا أهله من الثياب إلا الساتر لهن غير الواصف، وهو كان فعل السلف وهو موافق للترجمة. وقوله: أهب، جمع إهاب عن سيبويه، والقرظ: ورق السلم يدبغ به الأدم، وقد تقدم معنى حديث ابن عباس فى كتاب النكاح فى باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها. - باب ما يدعى به لمن لبس ثوبًا (جديدًا / 49 - فيه: أُمُّ خَالِدٍ، قَالَتْ: أُتِى النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَ: (مَنْ تَرَوْنَ نَكْسُوهَا هَذِهِ الْخَمِيصَةَ) ؟ فَأُسْكِتَ الْقَوْمُ، قَالَ: (ائْتُونِى بِأُمِّ خَالِدٍ) ، فَأُتِىَ بِى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَأَلْبَسَنِيهَا بِيَدِهِ، وَقَالَ: (أَبْلِى وَأَخْلِقِى) مَرَّتَيْنِ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَلَمِ الْخَمِيصَةِ، وَيُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَىَّ، وَيَقُولُ: (يَا أُمَّ خَالِدٍ، هَذَا سَنَا، وَيَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَا) . وَالسَّنَا بالْحَبَشِيَّةِ: الْحَسَنُ. قال المؤلف: من روى اخلقى بالقاف فهو تصحيف، والمعروف من كلام العرب أخلفى بالفاء، يقال: خلفت الثوب إذا أخرجت باليه ولفقته، ويقال: أبل وأخلف أى: عش فخرق ثيابك وارقعها، هذا كلام العرب. وقد روى داود، عن عمرو بن عون، عن ابن المبارك، عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 117 الجريرى، عن أبى نضرة قال: (كان أصحاب رسول الله إذا لبس أحدهم ثوبًا جديدا، قيل له: تبلى ويخلف الله) . وقوله: (فأسكت القوم) قال صاحب الأفعال يقال: سكت سكوتًا، وأسكت: صمت، ويقال: بل معنى أسكت: أطرق. - باب: التزعفر للرجال / 50 - فيه: أَنَس، قَالَ: نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ. قال المؤلف: نهيه عليه السلام عن التزعفر للرجال معناه فى الجسد. وقد روى أبو داود، عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن عطاء الخراسانى، عن يحى بن يعمر، عن عمار بن ياسر قال: (قدمت على أهلى ليلاً وقد تشققت يداى فخلقونى بزعفران، فغدوت على النبى عليه السلام فسلمت عليه ولم يرحب بى، فقال: اذهب فاغسل عنك هذا. فذهب فغسلته، ثم جئت وقد بقى على منه ردع فسلمت فلم يرد على ولم يرحب بى وقال: اذهب فاغسل عنك هذا. فذهبت فغسلته ثم جئت، فسلمت فرد على ورحب بى وقال: إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير، ولا المتضمخ بالزعفران، ولا الجنب) . وقد رواه بن عطاء بن أبى الجوزاء، عن يحى بن يعمر، عن رجل عن عمار، فهو حديث معلول. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 118 فإن قيل: فنهيه عليه السلام عن التزعفر للرجال محملة التحريم. قيل: لا، بدليل حديث أنس أن عبد الرحمن بن عوف قدم على النبى عليه السلام وبه أثر صفرة، وروى (وضر صفرة) وزاد حماد بن سلمه، عن ثابت: (وبه ردع من زعفران، فقال له: مهيم؟ فقال: تزوجت. . .) الحديث، ولم يقل له النبى - عليه السلام - أن الملائكة لا تحضر جنازتك بخير، ولا أن هذه الصفرة التى التصقت بجسمك حرام بقاءها عليك، ولا أمره بغسلها، فدل أن نهيه عليه السلام عن التوعفر لمن لم يكن عروسًا إنما هو محمول على الكراهية، لأن توعفر الجسد من الرفاهية التى نهى النبى - عليه السلام - عنها بقوله: (البذاذة من الإيمان) . 30 - باب: الثوب المزعفر / 51 - فيه: ابْن عُمَر، نَهَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِوَرْسٍ أَوْ بِزَعْفَرَانٍ. قال المؤلف: اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فحمل قوم نهيه عليه السلام عن الثوب المزعفر فى حال الإحرام خاصة. وقالوا: ألا ترى قول ابن عمر أن النبى عليه السلام إنما نهى المحرم عن ذلك، وراوى الحديث أعلم بمخرجه وسببه، وأجازوا لباس الثياب المصبوغة بالزعفران فى غير حال الإحرام للرجال، وروى ذلك عن ابن عمر، وهو قول مالك وأهل المدينة، قال مالك: رأيت عطاء بن يسار يلبس الرداء والازرار المصبوغ بالزعفران ورأيت ابن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 119 هرمز، ومحمد بن المنكدر يفعلان، ورأيت فى رأس ابن المنكدر الغالية. وحملت طائفة نهيه عليه السلام عن لباس المزعفر للرجال فى حال الإحرام وفى كل حال وهو قول الكوفيين والشافعى. 31 - باب: الثوب الأحمر / 52 - فيه: الْبَرَاء، قَالَ: كَانَ النَّبِى عليه السَّلام، مَرْبُوعًا: وَقَدْ رَأَيْتُهُ فِى حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْهُ. قال الطبرى: إن قال قائل: ما وجه هذا الحديث وقد عارضه حديث آخر وهو ما حدثنا حماد بن محمد عن عمارة السدى، حدثنا على بن قادم، حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن عمه، عن أبى هريرة قال: (خرج عثمان حاجا إلى مكه، واتينا محمد بن عبد الله بن جعفر بامرأته فبات عندها، ثم غدا إلى مكة فأتى الناس، وهم بملل قبل أن يروحوا، فرآه عثمان وعليه ملحفة معصفرة مقدمة، فانتهز، وقال: تلبس المعصفر وقد نهى رسول الله عليه السلام عنه؟ فقال على: إن رسول الله لم ينهه ولا إياك إنما نهانى أنا. فسكت عثمان) . قال الطبرى: وقد اختلف السلف فى ذلك، فمنهم من رخص فى لبس ألوان الثياب المصبغه بالحمرة مشبعة كانت أو غير مشبعة، ومنهم من كره المشبعة، ورخص فيما لم يكن مشبعًا، ومنهم من كره لبس الجزء: 9 ¦ الصفحة: 120 جميع الثياب مشبعها وغير مشبعها، ومنهم من رخص فيه للمهنة وكره للبس. ذكر من رخص فى جميع الوان الثياب الصبغة. روى بريدة، عن على أنه نهض بالراية يوم خبير وعليه حلة أرجوان حمراء، وقال أبو ظبيان: رايت على على إزارًا أصفر. وقال الأحنف بن قيس: رأيت على عثمان ملاءة صفراء. وقال عروة بن الزبير: قال عبد الله بن الزبير: كان على الزبير يوم بدر ملاءه صفراء، ونزلت الملائكة يوم بدر معتمين بعمائم صفر. وقال ابن سيرين: كان أبو هريرة يلبس المغيرة. وقال عمران بن مسلم: رأيت على أنس بن مالك إزار معصفرًا. وكان ابن المسيب يصلى وعليه برنس ارجوان. ولبس المعصفر: عروة، والشعبى، وابو وائل، وابراهيم النخعى، والتيمى، وابو قلابة، وجماعة، وقال مالك فى الموطأ، فى الملاحف المعصفرة للرجال فى البيوت والأفنية: ولا أعلم شيئًا من ذلك حرامًا وغير ذلك من الثياب أحب إلى. وقال غير الطبرى: أجاز لباس المعصفر: البراء، وطلحة بن عبيد الله، وهو قول الكوفيين، والشافعى. ذكر من رخص فى ذلك فيما امتهن، وكره مما لبس: وروى عطاء، عن ابن عباس أنه قال: لا بأس بما امتهن من المعصفر ويكره ما لبس منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 121 ذكر من كره مااشتدت حمرته واباح ماخف منها: روى ذلك عن عطاء، وطاوس، ومجاهد. ذكر من كره لبس جميع الوان الحمرة: روى أيوب، عن إبراهيم الخزاعى قال: حدثنا عجوز لنا قالت: كنت أرى عمر إذا راى على الرجل الثوب المعصفر ضربه وقال: دعوا هذه الترافات للنساء. ورأى ابن محيريز على ابن عليه رداء موردًا فقال: دع ذا عنا. وروى يحى بن أبى كثير، عن محمد بن إبراهيم، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن عبد الله بن عمرو قال: (رآنى رسول الله عليه السلام وعلى ثياب معصفرة فقال: القها فإنها ثياب الكفار) . قال الطبرى: وحجة الذين أجازوا لباس المعصفرة والمصبغ بالحمرة للرجال حديث البراء أن النبى عليه السلام لبس حلة حمراء، والذين كرهوا ذلك للرجال اعتمدوا على حديث عبد الله بن عمرو، أن النبى - عليه السلام - أغلظ له القول فى الثياب المعصفر. والذين لم يروا بامتهانه بأسا وكرهوا لبسه قالوا: إنما ورد الخبر بالنهى عن لبسه دون امتهانه وافتراشه وقالوا: لا يعدى بالنهى عن ذلك موضعه. والذين رخصوا من ذلك فيما خفت حمرته بحديث قتيلة أنها قدمت على النبى - عليه السلام - قالت: (فرأيته قاعدًا القرفصاء وعليه أسمال - ملاءتين كانتا بزعفران - قد نفضتا) . والصواب عندنا أن لبس المعصفر وشبه من الثياب المصبغة بالحمرة وغيرها من الأصباغ غير حرام، بل ذلك مطلق مباح غير أنى أحب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 122 للرجال توقى لبس ماكان مشبعًا صبغة، وأكره لهم لبسه ظاهرًا فوق الثياب لمعنين: أحدهما: ماورى فى ذلك عن النبي (صلى الله عليه وسلم) من الكراهية، والثانى: أنه شهرة وليس من لباس أهل المروءة فى زماننا هذا، وإن كان قد كان لباس كثير من أهل الفضل والذين قبلنا، فالذى ينبغى للرجل أن يتزى فى كل زمان بزى أهله مالم يكن إثمًا لأن مخالفة الناس فى زيهم ضرب من الشهرة، ويكون الجمع بين الحديثين أن لبسه عليه السلام للحمرة ليعلم أمته أن النهى عنه لم يكن على وجه التحريم للبسه، ولكن على وجه الكراهية، إذ كان الله تعالى قد ندب أمته إلى الاستنان به. 32 - باب: الميثرة الحمراء / 53 - فيه: الْبَرَاء، أَمَرَنَا النَّبِى عليه السَّلام: بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ: عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالْقَسِّىِّ، وَالإسْتَبْرَقِ، وَالْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ. قال الطبرى: المثيرة: وطأ كان النساء يوطئه لأزواجهن من الأرجوان الأحمر على سروج خيلهم أو من الديباج والحرير، وكان ذلك من مراكب العجم. قال الطبرى: على سروج خيلهم أو من الديباج والحرير، وكان ذلك من مراكب العجم. وقال أبو عبيد: المياثر الحمر التى جاء فيها النهى، فإنها كانت من مراكب الأعاجم من ديباج أو حرير. قال المؤلف: فقول أبى عبيد يدل أن المياثر إذا لم تكن من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 123 حرير أو ديباج من صوف أحمر فإنه يجوز الركوب عليها، وليس النهى عنها كالنهى إذا كانت من حرير أو ديباج، وهذا يشبه قول مالك. قال ابن وهب: سئل مالك عن مثيره أرجوان أيركب عليها؟ قال ماأعلم حرامًا، ثم قرأ: (قل من حرم زينة الله) الآية. والإستبرق: غليظ الديباج والحرير، وهو بالفارسية استبره، وكان الأصمعى يقول: عربتها العرب. والسندس: مارق منه. 33 - باب: النعال السبتية وغيرها / 54 - فيه: أَنس: قيل له: أَكَانَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى فِى نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. / 55 - وفيه: عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ لابْن عُمَر: رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا. . . . الحديث، قَالَ: أَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ، فَإِنِّى رَأَيْتُ النبِىّ، عليه السَّلام، يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِى لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا. / 56 - وفيه: ابْن عُمَر، قَالَ: النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ. . .) الحديث. قال المؤلف: النعال من لباس النبي (صلى الله عليه وسلم) وخيار السلف. قال مالك: والانتعال من عمل العرب وقد روى أبو داود، عن محمد بن الصباح، عن ابن أبى الزناد، عن موسى بن عقبة، عن أبى الزبير، عن جابر قال: (كنا مع النبى فى سفر فقال: أكثروا من النعال، فإن الرجل لا يزال راكبًا ما انتعل) . وقال ابن وهب: النعال السبتية هى التى لا شعر فيها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 124 وقال الخليل والأصمعى: السبت: الجلد المدبوغ بالقرظ. قال أبو عبيد: وإنما ذكرت السبتية، لأن أكثرهم فى الجاهلية كان يلبسها غير مدبوغة إلا أهل السعه منهم. وذهب قوم إلى أنه لا يجوز لبس النعال السبتية فى المقابر خاصة، واحتجوا بما رواه سليمان بن حرب: حدثنا الأسود بن شيبان، حدثنى خالد بن سمير، حدثنى بشير بن نهيك قال: حدثنى بشير بن الخصاصية قال: (بينما أنا أمشى فى المقابر وعلى نعلان فإذا رسول الله فقال: إذا كنت فى مثل هذا الموضع فاخلع نعليك فخلعتهما) فأخذ أحمد بن حنبل بهذا الحديث، وقال: الأسود بن شيبان ثقة، وبشير بن نهيك ثقة. وقال لآخرون: لا بأس بذلك، وحجتهم لباسه عليه السلام للنعال السبتية وفيه السوة الحسنة، ولو كان لباسها فى المقابر لا يجوز لبين ذلك لأمته، وقد يجوز أن يأمره عليه السلام بخلعهما لأذى كان فيهما أو غير ذلك. ويؤيد هذا قوله عليه السلام: (إن العبد إذا وضع فى قبره وتولى عنه اصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم) قاله الطحاوى. قال: وثب عن النبى - عليه السلام - أنه صلى فى نعليه فلما كان دخول المسجد بالنعل غير مكروه، وكانت الصلاة بها غير مكروهه، كان المشى بها بين القبور أحرى ألا يكون مكروها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 125 وأما الصفرة فقد روى عن ابن عمر كان يصبغ بها لحيته، روى عنه أنه كان يصبغ بها ثيابه، وروى ابن إسحاق، عن سعيد المقبرى، عن عبيد بن جريح أنه قال لابن عمر: (رأيتك تصفر لحيتك. فقال: إن رسول الله كان يصفر بالورس، فأنا أحب أن أصفر به كما كان رسول الله يصبغ) . وروى عبد الرازق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع أن ابن عمر كا، يأمر بشىء من زعفران ومشق، فيصبغ به ثوبه فيلبسه. قال عبد الرزاق: وربما رأيت معمرًا يلبسه. وروى ابن وهب قال: أخبرنى عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم، قال: (كان رسول الله عليه السلام يصبغ ثيابه بالزعفران حتى العمامة) . قال المهلب: والصفرة أبهج الألوان للنفوس، كذلك قال ابن عباس: أحسن الألوان كلها الصفرة، وتلا قوله تعالى: (صفراء فاقع لونها تسر الناظرين (فقرن بها السرور. 34 - باب: يبدأ بالنعل اليمنى / 57 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِى طُهُورِهِ وَتَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ. هذا من باب الأدب وتفضيل الميامن على المياسر فى كل شىء وقد تقدم فى الوضوء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 126 35 - باب: ينزع نعله اليسرى / 58 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ، وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ؛ لِيَكُنِ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ) . وهذا معناه أيضًا تفضيل اليمين على الشمال كالحديث الأول. 36 - باب: لا يمشى فى نعل واحد / 59 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لا يَمْشِى أَحَدُكُمْ فِى نَعْلٍ وَاحِدَةٍ لِيُحْفِهِمَا جَمِيعًا أَوْ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا) . قال الأبهرى: كره ذلك - والله أعلم - لأن الماشى فى نعل واحد ينسب إلى اختلال الرأى وضعف الميز. وقال غيره: إنما كره ذلك والله أعلم - لأنه لم يعدل بين جوارحه وهو من باب المثله. وروى عن وكيع عن سفيان عن عبد الله بن دينار قال: (انقطع شسع نعل عبد الله بن عمر فمشى أذرعًا فى نعل واحدة) . 37 - باب: قبالان فى نعل واحد ومن رأى قبالا واحدًا واسعًا / 60 - فيه: أَنَسٌ أَنَّ نَعْلَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، كَانَ لَهَا قِبَالانِ. هذا كله مباح قبالان وقبال، وليس فى ذلك شىء لا يجزئ غيره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 127 38 - باب: القبة الحمراء (من أدم / 61 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، وَهُوَ فِى قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ. / 62 - وفيه: أَنَس، أَرْسَلَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) إِلَى الأنْصَارِ، فَجَمَعَهُمْ فِى قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ. فيه: أن الأدم يجوز استعماله فى القباب والبسط وماأشبه ذلك للأئمة الصالحين. 39 - باب: الجلوس على الحصير (ونحوها / 63 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَحْتَجِرُ حَصِيرًا بِاللَّيْلِ، فَيُصَلِّى، وَيَبْسُطُهُ فِى النَّهَارِ، فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ. . . الحديث. فيه: تواضع النبى - عليه السلام - ورضاه باليسير وصلاته على الحصير، وجلوسه عليها لسن ذلك لأمته. 40 - باب: المزرر بالذهب / 64 - فيه: الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ: أَنَّ أَبَاهُ قَالَ لَهُ: بَلَغَنِى أَنَّ النَّبِيَّ، عليه السَّلام، قَدِمَتْ عَلَيْهِ أَقْبِيَةٌ، فَهُوَ يَقْسِمُهَا، فَاذْهَبْ بِنَا إِلَيْهِ، فَذَهَبْنَا، فَوَجَدْنَا النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فِى مَنْزِلِهِ، فَقَالَ لِى: يَا بُنَىِّ، ادْعُ لِى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فَأَعْظَمْتُ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: أَدْعُو لَكَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيِّ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 128 إِنَّهُ لَيْسَ بِجَبَّارٍ، فَدَعَوْتُهُ فَخَرَجَ، وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرٌ بِالذَّهَبِ، فَقَالَ: (يَا مَخْرَمَةُ، هَذَا خَبَأْنَاهُ لَكَ) ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ. هذا الحديث كان فى أول الإسلام - والله أعلم - قبل تحريم الذهب والحرير. وفيه أن الخليفة والرجل العالم إذا زال من موضع قعوده للناس ونظره بينهم وتعليمه لهم، أنه يجوز دعاؤه وإخراجه لما يعن إليه من حاجات الناس، وأن خروجه لمن دعاه من التواضع والفضل. 41 - باب: خواتيم الذهب / 65 - فيه: الْبَرَاء وأَبُو هُريرة، نَهَانَا النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ. / 66 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِى كَفَّهُ، فَاتَّخَذَهُ النَّاسُ، فَرَمَى بِهِ، وَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، أَوْ فِضَّةٍ. التختم بالذهب منسوج لا يحل استعماله، لنهى النبى، عليه السلام، عنه، والذهب محرم على الرجال، حلال للنساء، ومن ترخص فى التختم بالذهب من السلف لم يبلغه النهى والنسخ والله أعلم. 42 - باب: خاتم الفضة / 67 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 129 وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِى كَفَّهُ، وَنَقَشَ فِيهِ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ مِثْلَهُ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَدِ اتَّخَذُوهَا رَمَى بِهِ، وَقَالَ: لا أَلْبَسُهُ أَبَدًا، ثُمَّ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ الْفِضَّةِ) . قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَلَبِسَ الْخَاتَمَ بَعْدَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، حَتَّى وَقَعَ مِنْ عُثْمَانَ فِى بِئْرِ أَرِيسَ. / 68 - وفيه: أَنَس، أَنَّهُ رَأَى فِى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ يَوْمًا وَاحِدًا، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اصْطَنَعُوا الْخَوَاتِيمَ مِنْ وَرِقٍ، فَلَبِسُوهَا، فَطَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خَاتَمَهُ، فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ. رواه يونس، عن الزهرى، وتابعه إبراهيم بن سعد، وزياد، وشعيب، عن الزهرى. قال المؤلف: أما حديث ابن عمر فإن فيه أن النبى - عليه السلام - نبذ خاتم الذهب، واتخذ خاتمًا من فضة ولبسه إلى أن مان، وأما حديث أنس أن النبى عليه السلام نبذ خاتم الورق، فهو عند العلماء وهم من ابن شهاب، لأن الذى نبذ عليه السلام خاتم الذهب رواه عبد العزيز بن صهيب، وثابت البنانى، وقتادة، عن أنس وهو خلاف مارواه ابن شهاب، عن أنس، فوجب القضاء للجماعة على الواحد إذا خالفها مه مايشهد للجماعة من حديث ابن عمر. قال المهلب: وقد يمكن أن يتأول لأبن شهاب ماينفى عنه الوهم - وإن كان الوهم عنه أظهر - وذلك أنه يحتمل أن يكون النبى لما عزم على إطراح خاتم الذهب اصطنع خاتم الفضة، بدليل أنه كان لا يستغنى عن الختم به على الكتب إلى البلدان، وأجوبه العمال، وقواد السرايا، فلما لبس خاتم الفضة أراد الناس ذلك اليوم أن يصطنعوا مثله فطرح عند ذلك خاتم الهب فطرح الناس خواتيم الذهب، والتأليف بين الأحاديث أولى من حملها على التنافى والتضاد، وبالله التوفيق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 130 وقال أبو داود: ولم يختلف الناس على عثمان حتى سقط الخاتم من يده. 43 - باب: فص الخاتم / 69 - فيه: أَنَس، سُئل هَلِ اتَّخَذَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) خَاتَمًا؟ قَالَ: أَخَّرَ لَيْلَةً صَلاةَ الْعِشَاءِ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَكَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ. . . الحديث. / 70 - وفيه: أنس: (أن النبى عليه السلام كان خاتمه من فضة وكان فصه منه) . قال المؤلف: قد روى ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن أنس قال: (كان خاتم النبى - عليه السلام - من ورق، وكان فصه حبشيًا وهذا ليس يتضاد فى الرواية: كان له عليه السلام خاتم فصه من فضة، وخاتم آخر فصه حبشى. وذكر ابن أبى زيد أن النبى - عليه السلام - تختم بفص عقيق. وقد روى حماد بن سلمه الحديث الأول، وزاد فيه بعد قوله: (فكأنى أنظر إلى وبيض خاتمه) (ورفع يده اليسرى) قال أحمد بن خالد: هذا جيد فى التختم فى اليسار، وهو كان آخر فعله وأصل التختم فى اليسار، وروى أبو داود قال: حديثنا نصر بن على، قال: حدثنا أبى، حدثنا عبد العزيز بن أبى رواد، عن نافع، عن ابن عمر (أن النبى - عليه السلام - كان يتختم فى يساره) قال أبو داود: وقال ابن إسحاق، وأسامة، عن نافع بإسناده: فى يمينه. وكان ابن عمر والحسن يتختمان فى يسارهما. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 131 وقال مالك: أكره التختم فى اليمين، وقال: إنما يأكل ويشرب ويعمل بيمينه، فكيف يريد أن يأخذ باليسار ثم يعمل؟ قيل له: افتجعل الخاتم فى اليمين للحاجة تذكرها؟ قال: لا بأس بذلك. وكان ابن عباس، وعبد الله بن جعفر يتختمان فى اليمين. وقال عبد الله بن جعفر: (كان النبى - عليه السلام - يتختم فى يمينه) ، رواه حماد بن سلمه، عن أبى رافع، عن عبد الله بن جعفر، وقال البخارى: هذا اصح شىء روى فى هذا الباب. ذكره الترمذى. 44 - باب: خاتم الحديد / 71 - فيه: سهل: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَتْ: جِئْتُ أَهَبُ نَفْسِى إليك،. . . إلى قوله: (وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) . قال المؤلف: خاتم الحديد كان يلبس فى أول الإسلام ثم امر النبى - عليه السلام - بطرحه. روى الترمذى عن محمد بن حميد أن زيد بن الحباب، حدثهم عن عبد الله بن مسلم أبى طيبة السلمى المروزى، عن عبد الله ابن بريدة، عن أبيه: (أن رجلا جاء إلى النبى - عليه السلام - وعليه خاتم من حديد فقال: ما لى أجد عليك حلية أهل النار. ثم جاء وعليه خاتم من صفر قال: ما لى أجد منك ريح الأصنام. ثم أتاه وعليه خاتم من ذهب فقال: أرم عنك حلية أهل الجنة. قال: من أى شىء اتخذه؟ قال: من فضة ولاتتمه مثقالاً. قال الترمذى: هذا حديث غريب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 132 45 - باب: نقش الخاتم / 72 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى رَهْطٍ مِنَ الأعَاجِمِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لا يَقْبَلُونَ كِتَابًا إِلا عَلَيْهِ خَاتَمٌ، فَاتَّخَذَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، نَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. / 73 - وفيه: ابْن عُمَر، اتَّخَذَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، وَكَانَ فِى يَدِهِ، ثُمَّ كَانَ بَعْدُ فِى يَدِ أَبِى بَكْرٍ، ثُمَّ كَانَ بَعْدُ فِى يَدِ عُمَرَ، ثُمَّ كَانَ بَعْدُ فِى يَدِ عُثْمَانَ حَتَّى وَقَعَ بَعْدُ فِى بِئْرِ أَرِيسَ، نَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. قال المؤلف: قد بان فى حديث أنس وابن عمر الخاتم إنما اتخذ ليطبع به على الكتب حفظًا للأسرار أن تنتشر، وسياسة للتدبير أن ينخرم. وفى قوله: (نقشه: محمد رسول الله) فيه أنه يجوز أن يكون فى الخاتم ذكر الله، وقد كره ذلك ابن سيرين وغيره، وهذا الباب حجة عليهم. وقد أجاز ابن المسيب أن يلبسه ويستنجى به، وقيل لمالك: إن كان فى الخاتم ذكر الله ويلبسه فى الشمال أيستنجى به؟ قال: أرجو أن يكون خفيفًا. هذه رواية ابن القاسم، وحكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: أنه لا يجوز الاستنجاء بالخاتم فيه ذكر الله، وليخلعه أو يجعله فى يمينه وهو قول نافع وأكثر اصحاب مالك من غير الواضحة، وكان فى نقش خاتم مالك: حسبى الله ونعم الوكيل. وقال مالك: لا خير أن يكون نقش فصه ثمثال. وقد ذكر عبد الرزاق آثارًا تجوز اتخاذ التماثيل فى الخواتيم ليست الجزء: 9 ¦ الصفحة: 133 بصحيحه، منها عن معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل أنه أخرج خاتمًا فيه تمثال اسد وزعم ان النبى - عليه السلام - كان يتختم به. ومارواه معمر عن الجعفى (أن نقش خاتم ابن مسعود إما شجرة، وإما شىء بين ذبابتين) وابن عقيل: ضعيف، تركه مالك. والجعفى: متروك الحديث. وروى معمر عن قتادة، عن أنس موسى الشعرى، أنه كان نقش خاتمه كركى له رأسان. وهذا إن كان صحيحًا فلا حجة فيه، لترك الناس العمل به، ولنهيه عليه السلام عن الصور، ولاتجوز مخالفة النهى. وترجم لحديث أنس: باب اتخاذ الخاتم ليختم به الشىء أو ليكتب به إلى أهل الكتاب أو غيرهم. 46 - باب: الخاتم فى الخنصر / 74 - فيه: أَنَس، صَنَعَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، خَاتَمًا، فَقَالَ: (إِنَّا اتَّخَذْنَا خَاتَمًا وَنَقَشْنَا فِيهِ نَقْشًا، فَلا يَنْقُشَنَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ. قَالَ: فَإِنِّى لأرَى بَرِيقَهُ فِى خِنْصَرِهِ. وترجم له باب: قول النبى - عليه السلام -: لا ينقش على نقش خاتمه. قال المؤلف: السنة فى الخاتم أن يلبس فى الخنصر، وقد روى الترمذى عن ابن أبى عمر العدنى، عن سفيان، عن عاصم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 134 ابن كليب، عن ابن أبى موسى قال: سمعت عليا يقول: (نهانى رسول الله أن ألبس خاتمًا فى هذه وهذه. واشار إلى السبابة والوسطى) قال الترمذى: هذا حديث صحيح وابن أبى موسى هو أبو برده بن أبى موسى، واسمه عامر عبد الله ابن قيس. ونهيه عليه السلام أن لا ينقش أحد على نقش خاتمه من أجل أن ذلك اسمه وصفته برسالة الله له إلى خلقه، وخاتم الرجل إنما ينقش فيه مايكون تعريفًا له وسمة تميزة من غيره، ولايحل لأحد أن يسم نفسه بسمه النبى - عليه السلام - ولابصفته. قال مالك: من شأن الخلفاء والقضاة نقش أسمائهم فى خواتيمهم. وروى أهل الشام أنه لا يجوز اتخاذ الخاتم لغير ذى سلطان، وروا فى ذلك حديثًا عن أبى ريحانة: (أنه سمع النبى - عليه السلام - ينهى عن الخاتم لغير ذى سلطان) . وحديث أبى ريحانه لا حجة فيه لضعفه. وقوله عليه السلام: (لا ينقش أحد على نقشه) يرد حديث أبى ريحانة ويدل على جواز الخاتم لجميع الناس إذا لم ينقش على نقش خاتمه عليه السلام لأنه لم يبح ذلك لبعض الناس دون بعض، بل عم جميعهم لقوله: فلا ينقش أحد على نقشه، وقد تختم السلف بعد رسول الله وهم الأسوة الحسنة. وروى مالك عن صدقة بن شيبان قال: سالت سعيد بن المسيب عن لبس الخاتم فقال: ألبسه، وأخبر الناس أنى أفتيك بذلك. المسيب عن لبس الخاتم فقال: البسه، وأخبر الناس أنى افتيك بذلك. وإنما قاله على وجه الإنكار لقول أهل الشام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 135 47 - باب: من جعل فص الخاتم فى بطن كفه / 75 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، وَجَعَلَ فَصَّهُ فِى بَطْنِ كَفِّهِ، إِذَا لَبِسَهُ، ثُم نَبَذَهُ، فَنَبَذَهُ النَّاسُ. قَالَ جُوَيْرِيَةُ: وَلا أَحْسِبُهُ إِلا قَالَ: فِى يَدِهِ الْيُمْنَى. قال المؤلف: ليس فى كون فص الخاتم فى بطن الكف ولا فى ظهرها نهى ولا أمر، وكل ذلك مباح، وقد روى أبو داود عن ابن إسحاق قال: رأيت على الصلت بن عبد الله بن نوفل بن عبد المطلب خاتمًا فى خنصره هكذا وجعل فصه على ظهرها؟ قال: ولا إخال إلا قال: (إنى رأيت رسول الله كان يلبس خاتمه كذلك) وقال الترمذى: قال البخارى: حديث ابن إسحاق عن الصلت بن عبد الله حديث حسن. وقيل لمالك: يجعل الفص إلى الكف؟ قال: لا. وأظن مالكًا إنما قال ذلك، لأنه وجد الناس يتختمون على ظهر الكف كما كان يفعل ابن عباس، ولم يقل مالك: إن الفص فى باطن الكف لا يجوز. 48 - باب: هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر / 76 - فيه: أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا اسْتُخْلِفَ كَتَبَ لَهُ، وَكَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلاثَةَ أَسْطُرٍ: مُحَمَّدٌ سَطْرٌ، وَرَسُولُ سَطْرٌ، وَاللَّهِ سَطْرٌ. وفيه: أَنَس، كَانَ خَاتَمُ النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) فِى يَدِهِ، وَفِي يَدِ أَبِى بَكْرٍ بَعْدَ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 136 وَفِى يَدِ عُمَرَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ جَلَسَ عَلَى بِئْرِ أَرِيسَ، قَالَ: فَأَخْرَجَ الْخَاتَمَ، فَجَعَلَ يَعْبَثُ بِهِ، فَسَقَطَ، قَالَ: فَاخْتَلَفْنَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ مَعَ عُثْمَانَ، فَنَزَحَ الْبِئْرَ فَلَمْ يَجِدْهُ. هذه كله مباح وليس كون الخاتم أسطر أو سطرين افضل من كونه سطرًا واحدًا. وفيه: استعمال آثار الصالحين ولباس ملابسهم على وجهه التبرك بها والتيمن. وفيه: أن من فعل الصالحين العبث بخواتمهم وبما يكون بأيديهم وليس ذلك بعائب لهم. وفيه: أن يسير المال إذا ضاع أنه يجب البحث فى طلبه ولاجتهاد فى تفتيشه كما فعل النبى عليه السلام حين ضاع عقد عائشة وحبس الجيش على طلبه حتى وجد. وفيه: أن من طلب شيئًا ولم ينجح فيه بعد ثلاثة أيام أن له ترك ذلك ولايكون مضيعًا، وأن الثلاث حد يقع بها العذر فى العذر المطلوبات. 49 - باب: الخاتم للنساء وَكَانَ عَلَى عَائِشَةَ خَوَاتِيمُ ذَهَبٍ. / 77 - فيه: ابْن عَبَّاس، شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَأَتَى النِّسَاءَ، فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِيمَ فِى ثَوْبِ بِلالٍ. قال المؤلف: الخاتم للنساء من جملة الحلى الذى أبيح الجزء: 9 ¦ الصفحة: 137 لهن، والذهب حلال للنساء، والفتخ: خواتيم النساء التى يلبسنها فى أصابع اليد، واحدتها فتخه، وكذلك إن كانت فى الرجل. عن ابن السكيت. وقال غيره: الفتوخ: خواتيم بلا فصوص كأنها حلق، وكل خلخل لا يجرس فهو فتخ. 50 - باب: القلائد والسخاب للنساء / يعني القلادة: من طيب وسك 78 - فيه: ابْن عَبَّاس، خَرَجَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ عِيدٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ، فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تَصَدَّقُ بِخُرْصِهَا وَسِخَابِهَا. قال المؤلف: القلائد: من حلى النساء أيضًا وقال ابن دريد: السخاب: قلائد من قرنفل أو غيره، والجمع سخب. والخرص: الحلقة الصغيرة من الذهب والفضة كحلقة القرط ونحوها يقال: مافى أذنها خرص، وتسمى هذه الحلقة أيضًا الحوف. 51 - باب: استعارة القلائد / 79 - فيه: عَائِشَةَ، هَلَكَتْ لها قِلادَةٌ استعارتها من أسْمَاءَ، فَبَعَثَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فِى طَلَبِهَا رِجَالا. . . الحديث. وفيه: اسعارة الحلى وكل ماهو زينة النساء، وأن ذلك من الأمر القديم المعمول به. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 138 52 - باب: القرط للنساء وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَهُنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) بِالصَّدَقَةِ فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ إِلَى آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِى قُرْطَهَا. القرط أيضا من حلى النساء. 53 - باب: السخاب للصبيان / 80 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، كُنْتُ مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ، فَانْصَرَفَ وَانْصَرَفْتُ، فَقَالَ: (أَيْنَ لُكَعُ) ؟ ثَلاثًا، ادْعُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ، فَقَامَ الْحَسَنُ يَمْشِى وَفِى عُنُقِهِ السِّخَابُ، فَقَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِيَدِهِ هَكَذَا، فَقَالَ الْحَسَنُ بِيَدِهِ هَكَذَا، فَالْتَزَمَهُ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أُحِبُّهُ، فَأَحِبَّهُ، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَى مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِى بَعْدَ مَا قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، مَا قَالَ. فيه: أنه يجوز أن يجعل فى أعناق الصبيان سخاب القرنفل والسك والطيب، وشبه مما يحل للرجال، وأما الذهب فكرهه مالك للصبيان الصغار، وكره لهم لبس الحرير أيضًا. وقوله عليه السلام لبى هريرة: (أين لكح) قال أبو عبيد: هو عند العرب العبد أو اللئيم، وقد تقدم فى كتاب البيوع فى باب ما يكره فى الأسواق، وفيه أن النبى - عليه السلام - عانق والحسن وقبله، وقوله فى هذا الحديث: (فالتزمه) يعنى: المعتنقة والتقبيل المذكورين هناك. قد تقدم الاستئذان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 139 54 - باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال / 81 - فيه: ابْن عَبَّاس، لَعَنَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ. قال الطبرى: فيه من الفقه أنه لا يجوز للرجال التشبه بالنساء فى اللباس والزينة التى هى للنساء خاصة، ولا يجوز للنساء التشبه بالرجال فيما كان ذلك للرجال خاصة. فمما يحرم على الرجال لبسه مما هو من لباس النساء: البراقع والقالائد والمخانق والأسورة والاخلاخل، ومما لا يحل له التشبه بهن من الأفعال التى هن بها مخصوصات فانخناث فى الأجسام، والتأنيث فى الكلام. مما يحرم على المرأة لبسه مما هو من لباس الرجال: النعال والرقاق التى هى نعال الحد والمشى بها فى محافل الرجال، والأردية والطيالسة على نحو لبس الرجال لها فى محافل الرجال وشبه ذلك من لباس الرجال، ولايحل لها التشبه بالرجال من الأفعال فى اعطائها نفسها مما أمرت بلبسه من القلائد والقرط والخلاخل والسورة، ونحو ذلك مما ليس للرجل لبسه، وترك تغيير اليدى والأرجل من الخصاب الذى أمرن بتغييرها به. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 140 روى القعنبى، عن حسين بن عبد الله قال: (رأيت فاطمة بنت رسول الله وفى عنقها قلادة، وفى يدها مسكة فى كل يد، وقالت: كان رسول الله يكره تعطيل النساء وتشبههن بالرجال) . 55 - باب: الأمر بإخراجهم / 82 - فيه: ابْن عَبَّاس، لَعَنَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْمُتَرَجِّلاتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقَالَ: (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ) . قَالَ: فَأَخْرَجَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فُلانًا، وَأَخْرَجَ عُمَرُ فُلانًا. / 83 - وفيه: أُمَّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، كَانَ عِنْدَهَا، وَفِى الْبَيْتِ مُخَنَّثٌ، فَقَالَ لِعَبْدِاللَّهِ - أَخِى أُمِّ سَلَمَةَ: يَا عَبْدَاللَّهِ، إِنْ فَتَحَ اللَّهُ لَكُمْ غَدًا الطَّائِفَ، فَإِنِّى أَدُلُّكَ عَلَى بِنْتِ غَيْلانَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ، وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَدْخُلَنَّ هَؤُلاءِ عَلَيْكُنَّ) . قال الطبرى: إن قال قائل: ماوجه لعن النبى - عليه السلام المخنثين من الرجال، والخنث خلق الله لم يكتسبه العبد ولا له فيه صنع، وإنما يذم العبد على مايكسبه مما له السبيل إلى فعله وتركه، ولو جاز ذمه على غير فعله لجاز ذمه على لونه وعرقه وسائر أجزاء جسمه؟ قيل: وجه لعن النبى إياه إنما هو لغير صورته التى لا يقدر على تغييرها، وإنما لعنه لتأنيثه وتشبهه فى ذلك بخلق النساء، وقد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 141 خلقه الله بخلاف ذلك، ومحاولته تغيير الهيئة التى خلقه الله عليها من خلق الرجال إلى خلق النساء، وله سبيل إلى اكتساب خلق الرجال واجتلاب منه إلى نفسه. ولفعله من الأفعال مايكره الله ونهى عنه رسول الله من التشبه بالنساء فى اللباس والزينة، وذلك أن رسول الله إذ رأى المخنث لم ينكر الخنث منه، وقد رأى خضاب يديه ورجليه بالحناء، حتى سمعه يصف من أمر النساء ماكره سماعه، وذلك وصفه للرجال نساء من يدخل منزله، وذلك مما كان النبى - عليه السلام - ينهى عنه النساء فكيف الرجال؟ فأمر بنفيه وتقدم إليها بمنعه من دخوله عليها، ولو كان ما عليه المخنث من الهيئة والصورة التى هى له خلقة موجبة اللعن والنفى لكان عليه السلام إذ رآه قد أمر بطرحه من بيت زوجه ونفيه، قال ما سمعه أو لم يقله، وإنما وجب ذمه، إذ أتى من محارم الله ما يستحق عليه الذم. فإن قيل: فإن حكمه حكم الرجال، فكيف جاز أن يدخل على أزواج النبى عليه السلام بعد أن أنزل الحجاب؟ قيل: هو من جملة من استثناه الله من جملة الرجال غير أولى الأربة من الرجال، وقد اول ذلك عكرمة أنه المخنث الذى لا حاجة له فى النساء، وبذلك ورد الخبر عن النبى - عليه السلام. روى معمر، عن الزهرى، عن عروة، عن عائشة قالت: كان مخنث يدخل على أزواج النبى - عليه السلام - يعدونه من غير أولي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 142 الإربة، فدخل عليه النبى وهو يصف أمرأة. . . وذكر الحديث (فأمر، عليه السلام، ألا يدخل عليهم) . روى ابن وهب، عن يحى بن أيوب، عن ابن جريح، عن عطاء، عن ابن عباس قال: المؤنثون أولاد الجن. قيل له: وكيف؟ قال: نهى الله ورسوله أن يأتى الرجل امرأته وهى حائض فإذا أتاها سبقه الشيطان إليها فحملت منه فأتت بالمؤنث. قال المؤلف: وفى حديث ابن عباس وأم سلمه إخراج كل من يتأذى به الناس بإظهار المعاصى والمنكر، ونفيهم عن مواضع التأذى بهم، وقد تقدم فى باب إخراج الخصوم وأهل الريب من البيوت فى كتاب الأحكام أنه يخرج كل من تأذى به جيرانه، وتكرى عليه داره، ويمنع من السكنى فيها حتى يتوب. 56 - باب (قص) الشارب وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُحْفِى شَارِبَهُ حَتَّى يُنْظَرَ إِلَى بَيَاضِ الْجِلْدِ وَيَأْخُذُ هَذَيْنِ، يَعْنِى بَيْنَ الشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ. / 84 - وفيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مِنَ الْفِطْرَةِ قَصُّ الشَّارِبِ) . / 85 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: (الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ، وَالاسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإبْطِ، وَتَقْلِيمُ الأظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ) . وترجم له باب: قص الأظفار، وزاد فيه عن ابن عمر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 143 قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : (خالفوا المشركين عفوا اللحى، واحفوا الشوارب) . قال الطبرى: اختلف السلف فى صفة إحفاء الشارب، فقال بعضهم الإحفاء: الأخذ من الإطار. وروى مالك، عن زيد بن اسلم، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: رايت عمر ابن الخطاب إذا غضب فتل شاربه. وقال أبو عاصم: سمعت عبد الله بن أبى عثمان يقول: رايت ابن عمر يأخذ من شاربه من أعلاه واسفله. وكان عروة وعمر بن عبد العزيز وابو سلمه وسالم والقاسم لا يحلق أحد منهم شاربه، وهذا قول مالك والليث، وقال مالك: حلق الشارب مثله ويؤدب فاعله. وكان يكره أن يأخذ من أعلاه. وقال آخرون: الإحفاء حلقه كله. روى يحى بن سعيد، عن ابن عجلان قال: رآني عثمان بن عبيد الله بن نافع أخذت من شاربى أكثر مما أخذت منه إلى أن يشبه الحلق، فنظر إلى فقلت: ماتنكر؟ قال: ماأنكر شيئًا، رايت اصحاب رسول الله يأخذون شواربهم شبه الحلق. فقلت: من هم؟ قال: جابر بن عبد الله، وابو سعيد الخدرى، وابو اسيد الساعدى، وابن عمر، وسلمه بن الأكوع، وأنس. وهو قول الكوفيين وقالوا: اإحفاء هو الحلق، والحلق أفضل من التقصير فى الراس والشارب. قال المؤلف: وحجة هذه المقالة فى اللغة ماقال الخليل قال: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 144 أحفى شاربه: استأصلة. واستقصاه. وكذلك قال ابن دريد، إلا أنه قال: حفوت شاربى أحفوه حفوًا استأصله أخذت شعره. وحجة المقالة الأولى قوله عليه السلام: (من الفطرة قص الشارب) . ومعلوم أن القص لا يقتضى الحلق والاستئصال. قال صاحب الأفعال: يقال قص الشعر والأظفار قطع منها بالمقص، ولما جاء عنه عليه السلام: (أحفوا الشوارب) وجاء عنه (من الفطرة قص الشارب) واحتمل قوله: (أحفوا الشوارب) أخذه كله واستئصالة علم أن المراد أخذ بعضه، ووجب ترجيح هذه المقالة على من قال باستئصال حلقه. وقال الآخرون: لما جاء الحديث عنه عليه السلام بلفظين، يحتمل أحدهما استئصال حلقة وهو قوله: (أحفوا الشوارب) واللفظ الآخر يحتمل أخذ بعضه وهو قوله: (من الفطرة قص الشارب) ولم يكن أحدهما ناسخًا للآخر ولا دافعًا له، دل أخذ بقص شاربه فهو مصيب، ومن استأصل حلقه فهو مصيب لموافقة ذلك السنة، ولذلك اختلف السلف فى صفة حلقة لاختلاف الآثار، والله أعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 145 57 - باب: إعفاء اللحى ) عَفَوْا (: كَثُرُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ. / 86 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ، وَفِّرُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ) . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَمَا فَضَلَ أَخَذَهُ. / 87 - فيه: ابْن عُمَر، قال: قال النَّبِىّ، عليه السَّلام: (انْهَكُوا الشَّوَارِبَ، وَأَعْفُوا اللِّحَى) . وقال الطبرى: إن قال قائل: ماوجه قوله عليه السلام: (أعفوا اللحى) وقد علمت أن الإعفاء الإكثار، وأن من الناس من إن ترك شعر لحيته اتباعًا منه لظاهر هذا الخبر تفاحش طولا وعرضًا، وسمج حتى صار للناس حديثًا ومثلا؟ قيل: قد ثبت الحجة عن النبى عليه السلام على خصوص هذا الخبر وأن من اللحية ماهو محظور إحفاؤه وواجب قصة على اختلاف من السلف فى قدر ذلك وحده، فقال بعضهم: حد ذلك أن يزداد على قدر القبضة طولا، وأن ينتشر عرضًا فيقبح ذلك، فإذا زادت على قدر القبضة كان الأولى، جزّ مازاد على ذلك، من غير تحريم منهم ترك الزيادة على ذلك. وروى عن عمر أنه راى رجال قد ترك لحيته حتى كثرت فأخذ بحديها ثم قال: ائتونى بجلمين ثم امر رجلا فجز ما تحت يده ثم قال: اذهب فأصلح شعرك أو أفسده، يترك أحدكم نفسه حتى كأنه سبع من السباع. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 146 وكان أبو هريرة يقبض على لحيته فيأخذ مافضل، وعن ابن عمر مثله. وقال آخرون: يأخذ من طولها وعرضها مالم يفحش أخذه، ولم يحدوا فى ذلك حدًا غير أن معنى ذلك عندى - والله أعلم - مالم يخرج من عرف الناس. وروى عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا أن يأخذ من طول لحيته وعرضها ما لم يفحش الأخذ منها، وكان إذا ذبح أضحيته يوم النحر أخذ منها شيئًا. وقال عطاء: لا بأس أن يأخذ من لحيته الشىء القليل من طولها وعرضها إذا كثرت، وعلة قائلى هذه المقالة: كراهية الشهرة فى اللبس وغيره فكذلك الشهرة فى شعر اللحية. وكان آخرون يكرهون الأخذ من اللحية إلا فى حج أو عمرة، وروى ذلك عن ابن عمر وعطاء وقتادة. والصواب أن يقال: إن قوله عليه السلام: (أعفوا اللحى) على عمومه إلا ماخص من ذلك، وقد روى عنه حديث فى إسناده نظر أن ذلك على الخصوص، وأن من اللحى ماالحق فيه ترك إعفائه، وذلك ماتجاوز طوله أو عرضه عن المعروف من خلق الناس وخرج عن الغالب فيهم، روى مروان بن معاوية، عن سعيد بن أبى راشد المكى، عن أبى جعفر محمد بن على قال: (كان رسول الله يأخذ اللحية، فما طلع على الكف جزه) ، وهذا الحديث وإن كان فى إسناده نظر فهو جميل من الأمر وحسن من الفعال. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 147 قال غيره: وقوله عليه السلام: (انهكوا الشوارب) أى: جزوا منها مايؤثر فيها، ولايستأصلها. قال صاحب الأفعال: يقال نهكته الحمى - بالكسر - نهكًا أثرت فيه، وكذلك العبادة، والتأثير غير الاستئصال. 58 - باب: ما يذكر فى الشيب / 88 - فيه: ابْن سِيرِينَ، سَأَلْتُ أَنَس بْن مالك أَخَضَبَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: لَمْ يَبْلُغِ الشَّيْبَ إِلا قَلِيلا. وقال مرة: لَمْ يَبْلُغْ مَا يَخْضِبُ، لَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ شَمَطَاتِهِ فِى لِحْيَتِهِ. / 89 - فيه: إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، قَالَ: أَرْسَلَنِى أَهْلِى إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ، وَقَبَضَ إِسْرَائِيلُ ثَلاثَ أَصَابِعَ مِنْ قُصَّةٍ فِيهِ شَعَرٌ مِنْ شَعَرِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَ إِذَا أَصَابَ الإنْسَانَ عَيْنٌ، أَوْ شَىْءٌ بَعَثَ إِلَيْهَا مِخْضَبَهُ، فَاطَّلَعْتُ فِى الْجُلْجُلِ، فَرَأَيْتُ شَعَرَاتٍ حُمْرًا. / 90 - وَقَالَ عُثْمَان مرة: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَأَخْرَجَتْ إِلَيْنَا شَعَرًا مِنْ شَعَرِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) مَخْضُوبًا. اختلف الاثار هلى خضب النبى أم لا؟ فقال أنس: لم يبلغ النبى عليه السلام من الشيب مايخضب وهو قول مالك، وأكثر العلماء أنه عليه السلام لم يخضب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 148 وقال عثمان بن موهب: إن أم سلمه أخرجت إلينا شعرًا من شعر النبى - عليه السلام - مخضوبًا. وروى الطبرى، عن العباس بن أبى طالب، عن المعلى بن أسد حدثنا سلام بن أبى مطيع، عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: (أخرجت إلى أم سلمه زوج النبي (صلى الله عليه وسلم) شعرًا مخضوبًا بالحناء والكتم، فقالت: هذا شعر رسول الله) فزعمت طائفة من أهل الحديث أن النبى - عليه السلام - خضب، واحتجوا بهذا الحديث، وبما رواه ابن إسحاق، عن سعيد المقبرى، عن عبيد بن جريح أنه قال لابن عمر: (رأيتك تصفر لحيتك. فقال: إن رسول الله عليه السلام كان يصفر بالورس، فأنا أحب أن أصفر به كما كان رسول الله يصنع) . وروى القطان وحماد بن سلمه، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد المقبرى، عن عبيد بن جريح أنه قال لابن عمر: (رأيتك تصفر لحيتك. فقال: رايت رسول الله عليه السلام يصفر لحيته) . وروى الطبرى، عن هلال بن العلاء، عن الحسين بن عياش قال حدثنا جعفر بن برقان، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل، قال: (قدم أنس بن مالك المدينة وعمر بن عبد العزيز وإلى عليها، فأرسلنى عمر إلى أنس وقال: سله هل خضب النبى - عليه السلام -؟ فإنا نجد هاهنا شعرًا من شعره فيه بياض كأنه قد لون. فقال أنس: إن رسول الله كان قد متع بسواد الشعر لو عددت خمس ما أقبل من راسه ولحيته، وماكنت أدرى عل أعد خمس عشرة شيبه فما أدرى ما هذا الذى تجدون إلا من الطيب الذى يطيب به شهره وهو غير لونه) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 149 وأما قوله: (فاطلعت فى الجلجل) فروى النضر بن شميل، عن إسرائيل، عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: (كان عند أم سلمه أم المؤمنين جلجل من فضة فيه شعرات من شعر رسول الله، وكان إذا أصاب إنسانًا عين أو أشتكى، بعث بإناء فخضخض فيه، ثم شربه وتوضأ منه فبعثى أهلى فأطلعت فيه فإذا شعرات حمر) . وقوله: (فخضخض فيه) يعنى: خضخض الشعر فى الإناء لتبقى بركته فى ذلك الماء فيشربه المعين أو الوصب، فيدفع الله عنه ببركة ذلك الشعر ما به من شكوى. 59 - باب: الخضاب / 91 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لا يَصْبُغُونَ، فَخَالِفُوهُمْ) . قال الطبرى: إن قال قائل: مامعنى هذا الحديث؟ وقد روى شعبة، عن الركين بن الربيع قال: سمعت القاسم بن محمد يحدث عن عبد الرحمن بن حرملة، عن ابن مسعود (أن رسول الله كان يكره تغيير الشيب) . وروى ابن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبى - عليه السلام - قال: (من شاب شيبة فى الإسلام كانت له نورًا يوم القيامة إلا أن ينتفها أو يخضبها) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 150 قيل: قد اختلف السلف قبلنا فى تغيير الشيب، فرأى بعضهم أن أمر النبى - عليه السلام - بصبغه ندب، وأن تغييره أولى من تركه أبيض. ذكر من رأى ذلك: روى عن قيس بن أبى حازم قال: كان أبو بكر الصديق يخرج إلينا وكأن لحيته صرام العرفج من الحناء والكتم. وعن أنس أن أبا بكر وعمر كان يخضبان بالحنان والكتم، وكان الشعبى وابن أبى مليكة يخضبان بالسواد ويقول: هو اسكن للزوجة وأهيب للعدو، وعن أبن مليكة أن عثمان كان يخضب بالسواد، وعن عقبة بن عامر والحسن والحسين أنهم كانوا يخضبون بالسواد، ومن التابعين: على بن عبد الله بن عباس وعروة بن الزبير وابن سيرين وأبو برده. وروى ابن وهب، عن مالك قال: لم أسمع فى صبغ الشعر بالسواد بنهى معلوم، وغيره أحب إلى. وممن كان يخضب بالصفرة على بن أبى طالب، وابن عمر، والمغيرة بن شعبة، وجرير البجلى، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، ومن التابعين عطاء، وأبو وائل، والحسن، وطاوس، وسعيد بن المسيب. واعتل مغيرو الشيب من حديث أبى هريرة وغيره، بما رواه مطر الوراق، عن أبى رجاء، عن جابر قال: جيء بأبى قحافة إلى النبي ورأسه ولحيته كأنهما ثغامة بيضاء، فأمر رسول الله أن يغيروه، فحمروه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 151 ورأى آخرون ترك الشعر أبيض من تغييره وأن الصحيح عنه عليه السلام نهيه عن تغييره الشيب، وقالوا: توفى النبى عليه السلام وقد بدا فى عنفقه ورأسه الشيب، ولم يغيره بشىء ولو كان تغييره الاختيار لكان هو قد آثر الأفضل. ذكر من راى ذلك: قال أبو إسحاق الهمدانى: رايت على بن أبى طالب ابيض الرأس واللحية. وقاله الشعبى، وكان أبى بن كعب ابيض اللحية، وعن أنس، ومالك بن أوس وسلمه بن الأكوع أنهم كانوا لا يغيرون الشيب، وعن أبى الطفيل، وأبى برزة السلمى مثله، وكان أبو مجلز وعكرمة وعطاء وسعيد بن جبير وعطاء بن السائب لا يخضبون. واعتلوا بما روى أبو إسحاق عن أبى جحيفة قال: (رايت النبى عليه السلام عنفقه بيضاء) . والصواب عندنا الآثار التى رويت عن النبى عليه السلام بتغيير الشيب وبالنهى عن تغييره كلها صحاح، وليس فيها شىء يبطل معنى غيره، ولكن بعضها عام وبعضها خاص، فقوله عليه السلام: (خالفوا اليهود وغيروا الشيب) المراد منه الخصوص، ومعناه: غيروا الشيب الذى هو نظير شيب أبى قحافة، وأما من كان اشمط فهو الذى أمره النبى عليه السلام ألا يغيره وقال: (من شاب شيبة فى الإسلام كانت له نورًا) . فإن قيل: مالدليل على ذلك؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 152 قيل: لا يجوز أن يكون من النبى عليه السلام قولان متضادان فى شىء واحد فى حالة واحدة إلا وأحدهما ناسخ للآخر، فإذا كان ذلك كذلك فغير جائز أن يكون الناسخ منهما إلا معلومًا عند الأمة. ولما وردت الأخبار بنقل العدول أنه أمر بتغيير الشيب، وأنه نهى عن تغييره، ولم يعلم الناسخ منهما فينتهوا إليه كان القول فى ذلك أن الذين غيروا شيبهم كشيب من أصحاب النبى إنما غيروا فى الحالة التى كان فيها شيبهم كشيب أبى قحافة أو قريبا منه، وأما الذين أجازوا ترك تغييره كن شيبهم مخالفًا لشيبابى قحافة إما بالمشط أو بغلبة السواد عليه، كالذى روى عن النبى أنه لم يغير شيبه لقلته، مع أن تغيير الشيب ندب لا فرط، ولا ارى مغير ذلك وإن كان قليلاً حرجًا بتغييره، إذ كان النهى عن ذلك نهى كراهه لا تحريمًا لإجماع سلف الأمة وخلفها على ذلك، وكذلك الأمر فيما أمر به على وجه الندب، ولو يكن كذلك كان تاركو التغيير قد انكروا على المغيرين، أو أنكر المغيرون على تاركى التغيير، وبنحو معناه قال الثورى. 60 - باب: الجعد / 92 - فيه: أَنَس، أَنّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ، وَلا بِالْقَصِيرِ، وَلَيْسَ بِالأبْيَضِ الأمْهَقِ، وَلا بِالآدَمِ، وَلَيْسَ بِالْجَعْدِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 153 الْقَطَطِ، وَلا بِالسَّبْطِ، بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ، وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً، وَلَيْسَ فِى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعَرَةً بَيْضَاءَ. / 93 - وفيه: الْبَرَاء، إِنَّ جُمَّةَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لَتَضْرِبُ قَرِيبًا مِنْ مَنْكِبَيْهِ. وَقَالَ شُعْبَةُ: شَعَرُهُ يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ. / 94 - وفيه: ابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (أُرَانِى اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَرَأَيْتُ رَجُلا آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ، لَهُ لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللِّمَمِ، قَدْ رَجَّلَهَا فَهِىَ تَقْطُرُ مَاءً، مُتَّكِئًا عَلَى رَجُلَيْنِ - أوْ عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ - يطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ: الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ جَعْدٍ قَطَطٍ أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، فَسَأَلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ: الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ) . / 95 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَضْرِبُ شَعَرُهُ مَنْكِبَيْهِ. / 96 - فيه: وَقَالَ مرة: كَانَ شَعَرِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) رَجِلا، لَيْسَ بِالسَّبِطِ وَلا الْجَعْدِ، بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ. وَكَانَ ضَخْمَ الْيَدَيْنِ. / 97 - وَقَالَ مرة: كَانَ ضَخْمَ الرأس وَالْقَدَمَيْنِ، حَسَنَ الْوَجْهِ، لَمْ أَرَ بَعْدَهُ وَلا قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَكَانَ بَسِطَ الْكَفَّيْنِ. / 98 - وَقَالَ مرة: كَانَ شَثْنَ الْقَدَمَيْنِ وَالْكَفَّيْنِ. / 99 - وفيه: جَابِر، كَانَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ضَخْمَ الْقَدَمَيْنِ وَالْكَفَّيْنِ، وَلَمْ أَرَ بَعْدَهُ شَبَهًا لَهُ. / 100 - وفيه: ابْن عَبَّاس، ذَكَرُوا عنده الدَّجَّالَ، فَقَالَ: إِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ قَالَ ذَاكَ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: (أَمَّا إِبْرَاهِيمُ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 154 فَانْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ وَأَمَّا مُوسَى، فَرَجُلٌ آدَمُ جَعْدٌ، عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْهِ؛ إِذِ انْحَدَرَ فِى الْوَادِى يُلَبِّى) . قال المؤلف: فى أحاديث هذا الباب أن النبى - عليه السلام - كانت له جمة تبلغ قريبًا من منكبيه، وقيل: تبلغ شحمة أذنيه، وقيل: يضرب شعره منكبيه، وليس ذلك بإخبار عن وقت واحد فتتضاد الآثار، وإنما ذلك إخبار عن أوقات مختلفة، يمكن فيها زيادة الشعر بغفلتيه عليه السلام عن قصه، فكان إذا غفل عنه بلغ منكبيه، وإذا تعاهده وقصه بلغ شحمة أذنيه أو قريبًا من منكبيه، فأخبر كل واحد عما شاهد وعاين. وذكر عليه السلام أن عيس ابن مريم له لمه حسنة قد رجلها وأن موسى كان جعدًا، فدل أنه كانت له لمة وأن الجعودة لاتبين إلا فى طول الشعر، وهذه الآثار كلها تدل أن اتخاذ اللمم وترجليها من سنن النبيين والمرسلين. وقوله فى وصفه النبى: (ليس بالبض الأمهق) يعنى: أن لونه ليس بالشديد البياض الفاحش الخارج عن حد الحسن، وذلك أن المهق من البياض هو الذى لا يخالطه شىء من الحمرة كلون الفضة. والقطط: الشعر الشديد التجعد. والبسط: ضد الجعد. والآدم: السمر. وقوله: (عنبه طافية) يريد بارزة قد برزت وطفت كما يطفو الشىء فوق الماء، وترجيل الشعر: مشطة وتقويمه، يقال: شعر رجل ورجلّ: مسرح، عن صاحب العين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 155 واختلف فى معنى المسيح ابن مريم عليه السلام على خمسة أقوال: فقال ابن عباس: سمى عيسى مسيحًا، لأنه كان لا يمسح بيده ذا عاه إلا برا، وقال إبراهيم النخعى: المسيح: الصديق. وقال ثعلب: سمى مسيحًا، لأنه كان يمسح الأرض أى: يقطعها. وروى عطاء، عن ابن عباس أنه قال: سمى مسيحًا، لأنه كان أمسح الرجل، فلم يكن لرجله أخمص وهو مايتجافى عن الأرض من وسطها فلا يقع عليها. وقال آخرون: سمى مسيحًا، لأنه خرج من بطن أمه مسموحًا بالدهن، ذكر هذا كله ابن الأنبارى، وقال: إنما سمى الدجال مسحًا لأن إحدى عينيه مسوحة، والأصل فيه مفعول فصرف إلى فعيل قال ثعلب: والدجال مأخوذ من قولهم: دجل فى الرض ومعناة: ضرب فيها وطافها، وقال مرة أخرى: نقول: قد دجل إذا لبسّ وموهّ. وقال ابن دريد: اشتقاقه من قولهم: دجلت الشىء إذا سترته، كأن يستر الحق ويغطيه ويلبس بتمويهه، ومنه سميت: دجلة كأنها جين فاضت على الأرض سترت مكانها. وقوله: (شثن الكفين والقدمين) قال الخليل: الثن: الذى فى أنامله غلظ وقد شثن شثنًا. وقال أبو عبيد: هما إلى الغلظ فكانت كف النبى - عليه السلام - ممتلئة لحمًا، ويبين ذلك قول أنس: (وكان ضخم اليدين والقدمين) غير أن كفه مع ضخامتها كانت لينة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 156 كما روي أنس أنه قال: (ما مسسنت حريرة ألين من كف النبى - عليه السلام) . فإن قال قائل: قد قال أبو حاتم عن الأصمعى: الشثونة: غلظ الكف وخشونتها وأنشد قول امرى القيس: وتعطوا برخص غير شثن كأنه أساريع ظبى أو مساويك إسحل فعلى تأويل الأصمعى البيت يعارض قول أنس فى صفة النبى أنه كان خشن اليدين مع قوله: (ما مسست حريرة ألين من كفه (صلى الله عليه وسلم)) . فالجواب: أن مافسره الأصمعى أن الشثن خشونة مع غلظ، لم يقله أحد من أهل اللغة غيره، ولا فسر أحد بيت امرىء القيس عليه، فلا يوجه قول أنس إليه لئلا يتنافى قوله ويتضاد، وقد شرح الطوسى هذا البيت بما يوافق قول الخليل وأبى عبيد فقال: قوله: بكف غير شثن أى غير غليظ جاف، وهذا هو الصواب لأن الشاعر إنما وصف كف جارية، والمستحب فيها الرقة واللطافة، ألا ترى أنه شبهها فى الدقة بالدود البيض الدقاق اللينة التى تكون فى الرمل، أو بمساويك رقاق ولم يصفها بالغلظ والامتلاء، وذلك لا يستحب فى النساء وهو مستحب فى الرجال، ولايمنع أحد أن تكون كفا ممتلئة لحمًا شديدة الرطوبة غير خشنة، فلا تعارض بين الحدثين. ولو صح تأويل من جعل الشثن الخشن لأمكن الجمع بين الحدثين، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 157 فيكون إخبار أنس لين كف النبى - عليه السلام - أنه كان فى غير الحال التى تكون فيها خشنة، وذلك إذا أمهن فى أهله، قالت عائشة: (كان النبى عليه السلام فى مهنة أهله يرقع الثوب ويخصف النعل) . وفى حديث آخر (ويحلب الشاة) فإذا كان النبى - عليه السلام - يعتمل بيديه حدثت له الخشونة، وإذا ترك ذلك عاد إلى أصل جبلته سريعًا وهى لين الكف، فأخبر أنس عن كلتا الحالتين فلا تعارض فى ذلك لو كان التأويل كما قال الأصمعى، على أن قول الخليل وأبى عبيد والطوسى فى تفسير الشثن مغن عن هذا التخريج. وقوله: (مخطوم بخلبه) قال صاحب العين: هى حبل من ليف. وذكر أنس فى هذا الحديث أن النبى - عليه السلام - مات ابن ستين سته، وهو قول عروة بن الزبير، وروى عن ابن عباس خلاف هذا قال: (أقام رسول الله بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه وبالمدينة عشرًا ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة) . 61 - باب: التلبيد / 101 - فيه: عُمَر، قَالَ: مَنْ ضَفَّرَ فَلْيَحْلِقْ، وَلا تَشَبَّهُوا بِالتَّلْبِيدِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُلَبِّدًا. / 102 - فيه: والتلبيد: أن يجعل الصمغ فى الغسول ثم يلطخ بها راسه عند الإحرام ليمنعه ذلك من الشعث. قال المؤلف وقد تقدم التلبيد فى كتاب الحج ولم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 158 يمض هناك معنى قول عمر لا تشبهوا بالتلبيد ويروى (تشبهوا) أو (تشبهوا) بضم التاء وفتحها والصحيح فتحها والمعنى لا تشبهوا، ومن روى بضم التاء أراد لا تشبهوا علينا. والضفر: أن يضفر شعره ذو الشعر الطويل ليمنعه ذلك من الشعث، ومن فعل هذا لم يجز له أن يقص، لأنه فعل مايشبه التلبيد الذى أوجب رسول الله فيه الحلاق فلذلك رأى عمر الحلاق على من فعل ذلك. ومعنى قوله: لا تشبهوا بالتلبيد. أى تفعلوا الفعالا تشبه التلبيد فى الانتفاع بها، وهى العقص والضفر، ثم تقصرون ولاتحلقون، وتقولون: لم نلبد، فمن فعل ذلك فهو مبلد وعليه الحلاق. 62 - باب الفرق / 103 - فيه: ابْن عَبَّاس، كَانَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدِلُونَ أَشْعَارَهُمْ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُءُوسَهُمْ، فَسَدَلَ النَّبِى عليه السلام نَاصِيَتَهُ ثُمَّ فَرَقَ بَعْدُ. / 104 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِى مَفَارِقِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُحْرِمٌ. وقَالَ عَبْدُاللَّهِ: فِى مَفْرِقِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام. قال المؤلف: فرق شعر الرأس سنة، وروى ابن وهب عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 159 أسامة بن زيد عمر عبد العزيز كان إذا انصرف من الجمعة أقام على باب المسجد حرسًا يجزون كل من لم يفرق شعره. قال مالك: رأيت عامر بن عبد الله بن الزبير وربيعة بن أبى عبد الرحمن وهشام بن عروة يفرقون شعورهم، وكانت لهشام جمةّ إلى كتفيه. فإن قال قائل: قول ابن عباس (كان النبى عليه السلام يحب موافقة أهل الكتاب) يعارض قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم) . فالجواب: أن حديث ابن عباس يحتمل أن يكون فى أول الإسالم فى وقت قوى فيه طمع النبى عليه السلام برجوع أهل الكتاب وإنابهم إلى الإسلام، وأحب موافقتهم على وجه التالف لهم والتأنيس، مع أن أهل الكتاب كانوا أهل شريعة، وكان المشركون لا شريعة لهم، فسدل عليه السلام ناصية، إذ كان ذلك مباحًا لأنه لم يأته نهى عن ذلك، ثم أراد الله تعالى نسخ السدل بالفرق فأمر نبيه بفرق شعره وترك موافقة أهل الكتاب والحديث يدل على صحة هذا، وهو قول ابن عباس (كان رسول الله يحب موافقة أهل الكتاب) (وكان) إخبار عن فعل متقدم، وقوله: ثم فرق بعد إخبار عن فعل متأخر وقع منه عليه السلام بمخالفة أهل الكتاب، وهذا هو النسخ بعينه، لقوله عليه السلام (إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم) فأمر بمخالفتهم عامًا. 63 - باب الذوائب / 105 - فيه: ابْن عَبَّاس، بِتُّ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ خَالَتِي، وَكَانَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 160 النبي (صلى الله عليه وسلم) عِنْدَهَا فِى لَيْلَتِهَا، فَقَامَ النَّبِيّ، عليه السَّلام، يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِذُؤَابَتِى، فَجَعَلَنِى عَنْ يَمِينِهِ. قال المؤلف: الذوائب إنما يجوز اتخاذها للغلام إذا كان فى رأسه شعر غيرها، وأما إذا حلق شعره كله وترك ذؤابه فهو القزع الذى نهى عنه عليه السلام، وقد جاء هذا بينًا فى الباب بعد هذا. وروى أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، جدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر (أن النبى - عليه السلام - نهى عن القزع) وهو أن يحلق رأس الصبى ويترك له ذؤابه. 64 - باب: القزع / 106 - فيه: ابْنَ عُمَر، أَنّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نهَى عَنِ الْقَزَعِ. قُلْتُ: مَا الْقَزَعُ؟ فَأَشَارَ لَنَا عُبَيْدُاللَّهِ قَالَ: إِذَا حَلَقَ الصَّبِى وَتَرَكَ هَاهُنَا شَعَرَةً وَهَاهُنَا وَهَاهُنَا، فَأَشَارَ لَنَا عُبَيْدُاللَّهِ إِلَى نَاصِيَتِهِ، وَجَانِبَىْ رَأْسِهِ، قِيلَ لِعُبَيْدِ اللَّهِ: وَالْجَارِيَةُ وَالْغُلامُ؟ قَالَ: لا أَدْرِى، هَكَذَا قَالَ الصَّبِىُّ. قَالَ عُبَيْدُاللَّهِ: وَعَاوَدْتُهُ، فَقَالَ: أَمَّا الْقُصَّةُ وَالْقَفَا لِلْغُلامِ، فَلا بَأْسَ بِهِمَا، وَلَكِنَّ الْقَزَعَ أَنْ يُتْرَكَ بِنَاصِيَتِهِ شَعَرٌ، وَلَيْسَ فِى رَأْسِهِ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ شَقُّ رَأْسِهِ هَذَا أَوْ هَذَا. قال ابن السكيت: القزع أن تتقوب من الراس مواضع فلا يكون فيها شعر؟ قال ثابت: لم يبق من شعره إلا قزع. الواحدة: قزعه، ومثله فى السماء قزعة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 161 وقد ذكر أبو داود فى حديث المعنى الذى من أجله نهى النبى عليه السلام عن القزع، فقال: حدثنا الحلوانى، حدثنا يزيد بن هارون قال: حدثنا الحجاج بن حسان قال: (دخلنا على أنس بن مالك فقال: حدثتنى أختى قالت: دخل علينا النبى عليه السلام وأنت يومئذ غلام ولك قرنان، فمسح راسك وبرك عليك وقال: احلقوا هذين أو قصوهما، فإن هذا زى اليهود) . 65 - باب: تطييب المرأة زوجها بيديها / 107 - فيه: عَائِشَةَ: طَيَّبْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدِى لِحُرْمِهِ وَطَيَّبْتُهُ بِمِنًى قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ. قد تقدم فى الحج. 66 - باب: الطيب فى الرأس واللحية / 108 - فيه: عَائِشَةَ، كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) بِأَطْيَبِ مَا أَجِدَ حَتَّى أرى وَبِيصَ الطِّيبِ فِى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ. قال المؤلف: هذا يدل أن مواضع الطيب من الرجال مخالفة لمواضعة من النساء، وذلك أن عائشة ذكرت أنها كانت تجد وبيض الطيب فى رأس النبى عليه السلام ولحيته فدل ذلك أنها إنما كانت تجعل الطيب فى شعر راسه ولحيته لا من وجهه كما تفعل النساء فيخططن وجوههن بالطيب يتزين بذلك، وهذا لا يجوز للرجال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 162 دليل هذا الحديث، وهو مباح للنساء، لأن جميع أنواع الزينة بالحلى والطيب ونحوه جائز لهم ما لم يغيرن شيئًا من خلقهن. 67 - باب: الامتشاط / 109 - فيه: سَهْل، أَنَّ رَجُلا اطَّلَعَ مِنْ جُحْرٍ فِى دَارِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَأن النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَحُكُّ رَأْسَهُ بِالْمِدْرَى، فَقَالَ: (لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَنْظُرُ، لَطَعَنْتُ بِهَا فِى عَيْنِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الإذْنُ مِنْ قِبَلِ الأبْصَارِ) . المدرى عند العرب اسم للمشط، قال أمرؤ القيس: تظل المدارى فى مثنى ومرسل يريد فى ماأنثى من شعرها وانعطف، ومااسترسل، يصف امرأة بكثرة الشعر. وذكره أبو حاتم عن الأصعمى، وأبى عبيد، وقال: المدارى: الأمشاط، وفى شرح ابن كسيان المدرى: الود الذى تدخله المرأة فى شعرها لتضم بعضه إلى بعضه. 68 - باب: ترجيل الحائض زوجها / 110 - فيه: عَائِشَةَ، كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأْسَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنَا حَائِضٌ. فيه: أن ترجيل الشعر منزى أهل الإيمان والصلاح، وذلك من النظافة، وقد روى مالك عن يحى بن سعيد أن قتادة الأنصارى قال لرسول الله: (إنى لى جمة فارجلها؟ قال رسول الله: نعم وأكرمها. وكان أبو قتادة ربما دهنها فى يوم مرتين لما قال رسول الله: وأكرمها) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 163 وهذا الحديث قد أسنده الرازى عن يحى بن سعيد، عن محمد بن المنكدر، عن أبى قتادة. . فذكره. وقد روى عن النبى عليه السلام خلاف تأويل أبى قتادة، روى على بن المدينى، عن يحى بن سعيد، عن هشام، عن الحسن عن عبد الله بن مغفل قال: (نهى رسول الله عن الترجيل إلا غبًّا) . وروى ابن المبارك، عن كهمس عن الحسن، عن ابن بريدة عن رجل اصاحاب النبى - عليه السلام - قال: (نهانا رسول الله عن الإرفاء. قلت لأبن بريدة: مالإرفاه؟ قال: الترجيل كل يوم) . روى ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبى أمامه، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبى أمامه قال: (ذكر أصحاب رسول الله يومًا عنده الدنيا البذاذة من الإيمان) . والمراد بهذا الحديث - والله أعلم - بعض الأوقات ولم يأمر بلزوم البذاذة فى جميع الأحوال لتتفق الأحاديث، وقد أمر الله تعالى بأخذ الزينة عند كل مسجد، وأمر النبي (صلى الله عليه وسلم) باتخاذ الطيب، وحسن الهيئة واللباس فى الجمع وماشكل ذلك من المحافل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 164 69 - باب: الترجل / 111 - فيه: عَائِشَةَ، أَن النَّبِىِّ، عليه السَّلام، كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ مَا اسْتَطَاعَ فِى تَرَجُّلِهِ وَوُضُوئِهِ. الترجلّ من باب النظافة والزينة المباحة للرجال، وقد تقدم فى الباب قبل هذا أن ذلك فى بعض الأوقات ومعناه الخصوص وروى مالك، عن زيد بن أسلم أن عطاء بن يسار أخبره قال: (كان رسول الله فى المسجد فدخل رجل ثائر الراس واللحية فاشار إليه رسول الله بيده أن أخرج، كأنه يعنى إصلاح شعر رأسه ولحيته ففعل الرجل ثم رجع، فقال رسول الله: اليس هذا خيرًا من أن أحدكم ثائر الراس كأنه شيطان) . 70 - باب: المسك / 112 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ، عليه السَّلام، (لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ) . قال المؤلف المسك أطيب الطيب، وقد روى ذلك عن النبى عليه السلام من حديث أبى سعيد الخدرى، وقد ذكرته فى كتاب الذبائح، وهذا الحديث يشهد لحديث أبى سعيد، لأنه لو كان فى الطيب فوق المسك لضرب به المثل عند الله كما ضرب بالمسك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 165 71 - باب: من لم يرد الطيب / 113 - فيه: أَنَس، أَنَّهُ لا يَرُدُّ الطِّيبَ، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) كَانَ لا يَرُدُّ الطِّيبَ. وترجم له فى كتاب الهبة باب ما لا يرد من الهدية. ذكره أبو داود من حديث عبد الله بن أبى جعفر، عن الأعرج، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (من عرض عليه طيب فلا يرده، فإنه طيب الريح خفيف المحمل) . ومن حديث كثير بن عبد الله قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول الله: (حبب إلى من الشياء النساء والطيب وجعل قرة عينى فى الصلاة) أنه كان يرى فيها الجنة وماوعد الله فيها لأوليائه المؤمنين. 72 - باب: الذريرة / 114 - فيه: عَائِشَةَ، طَيَّبْتُ النَّبِىّ، عليه السَّلام، بِيَدَىَّ بِذَرِيرَةٍ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِلْحِلِّ وَالإحْرَامِ. يقول المؤلف: الذريرة نوع من أنواع الطيب، وكل ما يطلق عليه اسم طيب فيجوز استعماله، لعموم قول أنس: كان النبى - عليه السلام - لا يرد الطيب. فعم أنواعه كلها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 166 73 - باب: المتفلجات للحسن / 115 - فيه: عَبْدُ اللَّهِ: لَعَنَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، الْوَاشِمَاتِ، وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ، مَالِى لا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَهُوَ فِى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) [الحشر: 7] . وترجم له: باب المتنمصات. الواشمة: هى التى تشم يديها وذلك أن تغرر ظهر كفها أو غيره من جسدها بإبرة حتى تؤثر فيها ثم تحشوه كحلا وتجعله كالنقش فى جسدها تتزين بذلك. والنامصة: هى الناقة، والنمص: والنتف، قال أبو جنيفة ولذلك قيل للمنقاش الذى ينتف به: منماص، ويقال: قد أنمص البقل فهو نميص إذا ارتفع قليلاً حتى يمكن أن ينتف بالأظفار. والمتفلجة: هى المفرقة بين اسنانها المتلاصقة بالنحت لتبعد بعضها من بعض، والفلج: تباعد مابين الشيئين يقال: منه رجل أفلج، وامرأة فلجاء. قال الطبرى: فى هذا الحديث البيان عن رسول الله أنه لا يجوز لامرأة تغيير شىء من خلقها الذى خلقها الله عليه بزيادة فيه أو نقص منه التماس التحسن به لزوج أو غيره، لأن ذلك نقض منها خلقها إلى غير هيئته، وسواء فلجت اسنانها المستوية البنية ووشرتها أو كانت لها أسنان طوال فقطعت طلبًا للحسن، أو أسنان زائدة على المعروف من أسنان بنب آدم فقلعت الزوائد من ذلك بغير عله إلا طلب التحسن والتجمل، فإنها فى كل ذلك مقدمة على مانهى الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 167 تعالى عنه على لسان نبيه إذا كانت عالمة بالنهى عنه، وكذلك غير جائز لامرأة خلقت لها لحية أو شارب أو عنفقه أن تحلق ذلك منها أو تقصه طلبًا للتجمل، لأن كل ذلك تغيير لخلق الله، ومعنى النص الذى لعن رسول الله فاعلته. فإن قال قائل: فإنك لتجيز للرجل أن يأخذ من أطراف لحيته وعوارضه إذا كثرت ومن الشارب وإطاره إذا وفى، فالمرأة أحق أن يجوز لها إماطة ذلك من الرجل، إذ الأغلب من النساء أن ذلك بهن قليل، وإنما ذلك من خلق الرجال، فجعلت أخذ ذلك من النساء تغييرًا لخلق الله، وجعلتها من الرجال غير تغيير، فما الفرق بين ذلك؟ قيل: إنما لم نحظر على المرأة إذا كانت ذات شارب فوفى شاربها أن تأخذ من إطاره وأطرافه أو كانت ذات لحية طويلة أن تأخذ منها، وإنما نهيناها عن نمص ذلك وحلقة للعنة النبى النامصة والمتنمصة، ولاشك أن نمصها لحية أو شاربًا إن كان لها نظير نمصها شعرًا بزجهها أو جبينها، وفى فرق الله على لسان رسوله بين حكمها فيما لها من أخذ شعر راسها وماليس لها منه، وبين حكم الرجل فى ذلك أبين الدليل على افتراق حكمها فى ذلك، وذلك أن النبى - عليه السلام - أذن للرجال فى قص شعر رؤوسهم كلما شاءوا وندبهم إلى حلقة إذا حلوا من إحرامهم، وحظر ذلك على المرأة فى الحالتين كلتيهما، إلا أن تأخذ من أطرافه ففى ذلك أبين البيان أن حكم الرجل والمرأة فى ذلك مفترق، فالواجب أن يكون مفترقًا فيما لهما من إحفاء الشوارب وقص النواصى وحلقها، وإنما أبحنا لها أن تأخذ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 168 من أطراف لحيتها وإطار شاربها، كما ابحنا لها أن تأخذ من أطراف شعر رأسها إذا طال، لما روى شعبه، عن أبى بكر بن حفص، عن أبى سلمه قال: (كان أزواج النبى يأخذن من شعورهن حتى يدعنه كهيئة الوفرة) . وروى ابن جريح، عن صفيه بنت شيبة، عن أم عثمان بنت سفيان، عن ابن عباس قال: (نهى النبى عليه السلام أن تحلق المرأة رأسها، وقال: الحلق مثله) . وقال مجاهد: لعن رسول الله الحالقة. فإن قال: فما وجه من أطلق النمص والوشم، وأحله وقد علمت ما روى شعبه، عن أبى إسحاق، عن امرأته (أنها دخلت على عائشة فسالتها، وكانت امرأة شابة يعجبها الجمال، فقالت: المرأة تحف جبينها لزوجها. فقالت: أميطى عنك الأذى ما استطعت) . قال الطبرى: هكذا قال ابن المثنى تحف، وهو غلط، لأن الحف بالشىء هو الإطافة به، وإنما هو تحفى بمعنى تستأصله حلقًا أو نتفًا. وما حدثك تميم بن المنتصر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا إسماعيل بن قيس قال: دخلت وأنا وأبى على أبى بكر، فرأيت يد أسماء موشومة. قيل: أما عائشة فإن فى الرواية عنها اختلافًا وذلك أن عمران بن موسى قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال: حدثتنى أم الحسن، عن معاذة (أنها سالت عائشة عن المرأة تقشر وجهها؟ فقالت: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 169 إن كنت تشتهين أن تتزيني فلا يحل، وإن كانت امرأة بوجهها كلف شديد فما - كأنها كرهته ولم تصرح) فهذه الرواية بالنهى عن قشر المرأة وجهها للزينة وذلك نظير إحفائها جبينها للزينة، وإذا اتخلفت الرواية عنها كأن أولى الأمور أن يضاف إليها اشبهها بالحق. وأما اسماء فإنها كانت امرأة أدركت الجاهلية، وكان نساء الجاهلية يفعلن ذلك ويتزين به، ولعل ذلك منها كان فى الجاهلية، ولم يخبر قيس عنها أنها وشمت يدها فى الإسلام، وقد يجوز أن تكون وشمتها فى الجاهلية أو الإسلام قبل أن ينهى عن ذلك رسول الله، فمن أنها وشمتها فى الإسلام بعد نهى النبى عليه السلام فليأت ببرهان على ماادعى من ذلك، ولاسبيل إليه. قال المؤلف: يقال للطبرى: أما ما ذكرته من أن المرأة منهية عن حلق رأسها فى الإحرام وغيره بحديث ابن عباس، وقوله عليه السلام: إن الحلق مثله، فإن حديث ابن عباس ليس معناه التحريم بدليل أن المرأة لو حلقت راسها فى الحج مكان التقصير اللازم لها لم تأت فى ذلك حراما، ودل قوله: إن الحلق مثله، أن معنى النهى عن ذلك إنما هو خيفة أن تمثل المرأة بنفسها وتنقض جمالها فيكره ذلك بعلها، والمثلة ليست بحرام وإنما هى مكروهة، وقد قال مالك: حلق الشارب مثله، وقد ثبت حلقه عن كثير من السلف، واحتجوا بأمره عليه السلام بإحفاء الشوارب، وأما قول مجاهد: لعن رسول الله الحالقة فليس من هذا الباب فى شىء، وإنما لعن الحالقة لشعرها عند المصيبة اتباعًا لسنن الجاهلية، وبهذا جاء الحديث، ذكره الجزء: 9 ¦ الصفحة: 170 البخاري فى كتاب الجنائز من حديث أبى موسى: (أن رسول الله برىء من الحالقة والصالقة والشاقة) وترجم له باب ماينهى عنه من الحلق عند المصيبة، فبان بهذا معنى النهى عن الحلق أنه عند المصيبة كفعل الجاهلية، وأما إن احتاجت امرأة إلى حلق راسها فذلك غير حرام عليها كالرجل سواء. 74 - باب: الوصل فى الشعر / 116 - فيه: مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ - وَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعَرٍ كَانَتْ بِيَدِ حَرَسِى -: أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ، وَيَقُولُ: إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَ هَذِهِ نِسَاؤُهُمْ. / 127 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ. / 118 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ جَارِيَةً مِنَ الأنْصَارِ تَزَوَّجَتْ، وَأَنَّهَا مَرِضَتْ، فَتَمَعَّطَ شَعَرُهَا، فَأَرَادُوا أَنْ يَصِلُوهَا، فَسَأَلُوا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ) . / 119 - وفيه: أَسْمَاءَ، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: إِنِّى أَنْكَحْتُ ابْنَتِى، ثُمَّ أَصَابَهَا شَكْوَى، فَتَمَرَّقَ رَأْسُهَا، وَزَوْجُهَا يَسْتَحِثُّنِى بِهَا، أَفَأَصِلُ رَأْسَهَا؟ فَسَبَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ. / 120 - وفيه: ابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ. قَالَ نَافِعٌ: الْوَشْمُ فِى اللِّثَةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 171 قال الطبرى وغيره: فى هذه الأحاديث من الفقه أنه لا يجوز لامرأة أن تصل شعرها بشىء يتجمل به ويظن من يراه أنه شعرها، كما لا يجوز أن تشم خلقها تتزين بذلك، وهو قول مالك وجماعة، وفاعله ذلك لم ترض بما أعطاها الله فغيرت خلقها. قال الطبرى: وقد اختلف العلماء فى معنى نهيه عليه السلام عن الوصل فى الشعر، فقال بعضهم: لا بأس عليها فى وصلها شهرها ماوصلت به من صوف وخرق وشبه ذلك، روى ذلك عن ابن عباس وأم سلمه زوج النبى، وعلة هذه المقالة قول معاية حين أخرج القصة من الشعر وقال: (نهى رسول الله عن مثل هذه) . قالوا: وأما الخرق والصوف فليس ذلك مما دخل فى نهيه عليه السلام. وقال آخرون: كل ذلك داخل فى مهيه لعموم الخبر عنه أنه لعن الواصلة والمستوصلة، قالوا: فبأى شىء وصلت شعرها فهى واصلة، روى ذلك عن أم عطية. وقال آخرون: لا بأس عليها فى وصلها شعرها بما وصلت به من شىء، شعرًا كان الذى وصلت به أو غيره. روى ذلك عن عائشة وسالها ابن اشوع: (لعن رسول الله الواصلة؟ قالت: أيا سبحان الله وماباس بالمرأة الزعراء أن تأخذ شيئًا من صوف فتصل به شعرها تتزين به عند زوجها إنما لعن رسول الله المرأة الشابة تبغى فى شبيبتها حتى إذا أسنت هى وصلتها بالقيادة) . وسئل عطاء عن شعور الناس أينتفع بها قال: لا بأس بذلك. وقال آخرون: لا يجوز الوصل بشىء شعر ولاغيره، ولاباس أن تضع الشعر وغيره على راسها وضعًا مالم تصله، روي ذلك عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 172 إبراهيم، وعلة هذا القول ان الخبر إنما ورد عن النبى عليه السلام بالنهى عن الوصل، فأما مالم يكن وصلا فلا باس به. قال الطبرى: والصواب عندنا فى ذلك أن يقال: غير جائز أن تصل بشعرها شيئًا من الشياء لتتجمل به، وشعرًا كان أو غيره لعموم النهى عن النبى عليه السلام أن تصل بشعرها شيئًا. وأما خبر اشوع عن عائشة فهو باطل، لأن رواته لا يعرفون، وابن اشوع لم يدرك عائشة. قال غيره: وإنما قال معاوية: (يا أهل المدينة أين علماؤكم؟) وإن كانت المدينة دار العلم ومعدن الشريعة وإليها يفزع الناس فى أمر دينهم ألا ترى أن معاوية قد بعث إلى عائشة يسألها عن مسائل نزلت به، فقال: يا أهل المدينة أين علماؤكم الذين يلزمهم تغيير المنكر، والتشدد على استباح مانهى عنه النبى عليه السلام ولايجوز أن يقال: إن المنكر كان بالمدينة ولم يغيره أهلها، لأنه لا يخلو زمان عن ارتكاب المعاصى، وقد كان فى وقت النبى عليه السلام من شرب الخمر وسرق وزنى إلا أنه كان شاذا نادرًا، ولايحل لمسلم أن يقول: إن النبى عليه السلام لم يغير المنكر، فكذلك أمر القصة كان شاذًا بالمدينة ولا يجوز أن يقال: أن أهل المدينة جهلوا نهى النبى - عليه السلام - عن القصة، لأن حديثه فى لعن الواصلة والمستوصلة حديث مدنى، رواه نافع عن ابن عمر، ورواه هشام بن عروه، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء، عن النبى - عليه السلام - وهو معروف عندهم مستفيض. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 173 ولعن رسول الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة لأنهما تعاونا على تغيير خلق الله، وفيه دليل أن من أعان على معصية، فهو شريك فى الأثم. وقوله: (تمرق شعرها) قال صاحب الأفعال: مرق الشعر والصوف نتفه، وأمرق الشعر جاز أن ينتف، و (القصة) قال الأصمعى: القصة ماأقبل على الجبهة من شعر الرأس. 75 - باب: التصاوير / 121 - فيه: أَبُو طَلْحَةَ، قال عليه السَّلام: (لا تَدْخُلُ الْمَلائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلا تَصَاوِيرُ) . وسيأتى الكلام فى هذا الحديث فى باب لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة، إن شاء الله. 76 - باب: عذاب المصورين يوم القيامة / 122 - فيه: مَسْرُوقٍ، أَنَّه رَأَى صُفَّتِهِ فيها تَمَاثِيلَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَاللَّهِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ) . / 123 - وفيه: ابْن عُمَر، قَالَ، عليه السَّلام: (إِنَّ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ) . قال الطبرى: إن قال قائل: ماانت قائل فيمن صور صورة وهو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 174 لله موحد ولنبيه عليه السلام مصدق أهو اشد عذابًا أم فرعون وآله؟ فإن قلت: من صور صورة، قيل: قد قال الله خلاف ذلك: (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب (. قيل: ليس فى خبر ابن مسعود خلاف للتنزيل بل هو له مصدق، وذلك أن المصور الذى أخبر النبى عليه السلام أنه له أشد العذاب هو الذى وصفه النبى عليه السلام - فى حديث عائشة بقوله: (الذين يضاهون خلق الله) . قال المؤلف: المتكلف من ذلك مضاهاة ماصوره ربه فى خلقه أعظم جرمًا من فرعون وآله، لأن فرعون كان كفره بقوله: (أنا ربكم الأعلى) من غير إدعاء منه أنه يخلق ولا محالة منه أن ينشىء خلقا يكون كخلقه تعالى شبيهًا ونظيرًا، والمصور المضاهى بتصويره ذلك منطو على تمثيله نفسه بخالقه، فلا خلق أعظم كفرًا منه فهو بذلك اشادهم عذابا وأعظم عقابًا، وأما من صور صورة غير مضاه ماخلق ربه، وإن كان بفعله مخطئًا، فغير داخل فى معنى من شاهى ربه بتصويره. فإن قيل: ومالوجه الذى تجعله به مخطئًا إذا لم يكن فى تصويرة لربه مضاهيًا؟ قيل: لاتهامه نفسه عند من عاين تصويره أنه ممن قصد بذلك المضاهاة لربه، إذ كان الفعل الذى هو دليل على المضاهاة منه ظاهرًا، والاعتقاد الذى هو خلاف اعتقاد المضاهى باطن لا يصل إلى علمه راءوه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 175 وقد روى الأعمش عن عمارة بن عمير قال: كنت جالسًا عند رجل من اصحاب ابن مسعود فمثلت فى الأرض مثال عصفور فضرب يدى. 77 - باب: نقض الصور / 124 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ فِى بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ إِلا نَقَضَهُ. / 125 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّه دَخَل دَارًا بِالْمَدِينَةِ، فَرَأَى أَعْلاهَا مُصَوِّرًا يُصَوِّرُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِى، فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً، وَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً) ، ثُمَّ دَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ يَدَيْهِ حَتَّى بَلَغَ إِبْطَهُ. فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَشَىْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: مُنْتَهَى الْحِلْيَةِ. قال المؤلف: فى حديث عائشة حجة لمن كره الصور فى كل شىء مما يمتهن ويوطأ وغيره، لعموم قول عائشة (أن النبى - عليه - لم يكن يترك فى بيته شيئًا فيه تماثيل إلا نقضه) فدخل فى ذلك جميع وجوه استعمال الصور فى البسط واللباس وغيره، وفى حديث أبى هريرة دليل على أن نهيه عليه السلام عن الصور مجمل، معناه عندهم على العموم أيضًا فى الحيطان والثياب وغيرها. وقوله عليه السلام: (من أظلم ممن ذهب يخلق كخلقى) هو فى معنى حديثه عليه السلام: (أنه لعن المصور) لأنه وصف المصور الجزء: 9 ¦ الصفحة: 176 بأشد الظلم وقد قال تعال: (ألا لعنة الله على الظالمين (فعمت اللعنة كل من وقع عليه اسم ظالم من مصور وغيره. ووضوء أبى هريرة إلى ابطه ليس عليه العمل وأجمعت الأمة أنه لا يتجاوز بالوضوء ماحده الله من المرفقين، وقد تقدم فى كتاب الوضوء. وقوله: (منتهى الحلية) فهو مثل ما روى عنه فى كتاب الوضوء أنه قال: سمعت رسول الله يقول: (إن أمتى يدعون غرا محجلين من أثر الوضوء فمن استطاع أن يطيل غرته فيفعل) . وكنى بالحلية عن الغرر والتحجيل. 78 - باب: ما نهى عنه من التصاوير / 126 - فيه: عَائِشَةَ، قَدِمَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ سَفَرٍ، وَقَدْ سَتَرْتُ بِقِرَامٍ لِى عَلَى سَهْوَةٍ لِى فِيهَا تَمَاثِيلُ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) هَتَكَهُ، وَقَالَ: (أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ) ، قَالَتْ: فَجَعَلْنَاهُ وِسَادَةً أَوْ وِسَادَتَيْنِ. / 127 - فيه: وَقَالَتْ مرة: قَدِمَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) مِنْ سَفَرٍ، وَعَلَّقْتُ دُرْنُوكًا فِيهِ تَمَاثِيلُ، فَأَمَرَنِى أَنْ أَنْزِعَهُ فَنَزَعْتُهُ، وَكُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِى (صلى الله عليه وسلم) مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 177 فى هذا الحديث حجة لمن أجاز من استعمال الصور مايمتهن ويبسط، إلا ترى أن عائشة فهمت من إنكار النبى - عليه السلام - للصور فى الستر أن ذلك لما كان منصوبًا ومعلقًا دون ماكن منها مبسوطًا يمتهن بالجلوس على والارتفاق، فلذلك جعلته وسادة، وسأذكر ماذاهب العلماء فى الباب بعد هذا. وقوله: (إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون خلق الله) يفسر حديث ابن مسعود المتقدم فى باب عذاب المصورين يوم القيامة، ويدل أن الوعيد الشديد إنما جاء لمن صور صورة مضاهاة لخلف الله، وقد تقدم ذلك. 79 - باب: من كره القعود على الصور / 128 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَقَامَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) بِالْبَابِ، فَلَمْ يَدْخُلْ، فَقُلْتُ: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا أَذْنَبْتُ، قَالَ: مَا هَذِهِ النُّمْرُقَةُ؟ قُلْتُ: لِتَجْلِسَ عَلَيْهَا، وَتَوَسَّدَهَا، قَالَ: (إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ، وَإِنَّ الْمَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ الصُّورَةُ) . نمارق: وسائد مصفوفة بعضها إلى بعض. / 129 - وفيه: أَبُو طَلْحَةَ إِنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ الْمَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُّورَةُ) . قَالَ بُسْرٌ: ثُمَّ اشْتَكَى زَيْدٌ فَعُدْنَاه، فَإِذَا عَلَى بَابِهِ سِتْرٌ فِيهِ صُورَةٌ، فَقُلْتُ لِعُبَيْدِاللَّهِ - رَبِيبِ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) -: أَلَمْ يُخْبِرْنَا زَيْدٌ عَنِ الصُّوَرِ يَوْمَ الأوَّلِ؟ قَالَ عُبَيْدُاللَّهِ: أَلَمْ تَسْمَعْهُ حِينَ قَال: إِلا رَقْمًا فِى ثَوْبٍ؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 178 اختلف العلماء فى الصور: فكره ابن شهاب مانصب منها ومابسط كان رقمًا أو لم يكن، على حديث نافع عن القاسم عن عائشة. وقالت طائفة: إنما يكره من التصاوير ماكان فى حيطان البيوت، وأما ماكان رقمًا فى ثوب فهو جائز على حديث زيد بن خالد عن أبى طلحة، وسواء كان الثوب منصوبًا أو مبسوطًا وبه قال القاسم وخالف حديثه عن عائشة. وقد روى ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عبد الرحمن ابن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أدخلت أسماء بنت عميس على القاسم بحجلة فيها تصاوير، قال القاسم: فتلك الحجلة عندنا بعد) . وقال آخرون: لا يجوز لباس ثوب فيه صور ولابصبه، وإنما يجوز من ذلك مابوطأ ويمتهن. واحتجوا بحديث سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: (سترت سهوة لى بستر فيه تصاوير، فلما رآه النبى عليه السلام هتكه، فجعلته وسادة أو وسادتين) ورواه وكيع عن اسامة بن زيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، وزاد فيه: (فرأيت النبى عليه السلام متكئًا على إحداهما) . قالوا: فكره رسول الله ماكان سترًا ولم يكره ما يت: اعليه ويوطأ، وبهذا قال سعد بن أبى وقاص وسالم وعروة وابن سيرين وعطاء وعكرمة، قال عكرمة: فيما يوطأ من الصور هو أذل لها، وهذا أوسط المذاهب فى هذا الباب، وهو قول مالك والثوري وابي حنيفة والشافعي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 179 قال الطحاوي: يحتمل قوله: (إلا رقمًا فى ثوب) أنه اراد رقمًا يوطأ ويمتهن كالبسط والوسائد. وقال الداودى: حديث سفيان وأسامة بن زيد، عن عبد الرحمن ابن القاسم، عن أبيه، عن عائشة ناسخ لحديث نافع، عن القاسم، عن عائشة، وإنما نهى النبى عليه السلام أولا عن الصور كلها وإن كانت رقمًا، لأنهم كانوا حديث عهد بعبادة الصور، فنهى عن ذلك جملة، ثم لما تقرر نهيه عن ذلك أباح ماكان رقمًا فى ثوب للضرورة إلى اتخاذ الثياب، وأباح مايمتهن لأنه يؤمن على الجاهل تعظيم مايمتهن، وبقى النهى فيما ترفه ولايمتهن، وفيما لا حاجة بالناس إلى اتخاذه، ومايبقى مخلدًا فى مثل الحجر وشبهه من الصور التى لها أجرام وظل، لأن فى صنيعها التشبه بخلق الله - تعالى. وكره بعضهم ماله روح، وإن لم يكن له ظل على ظاهر حديث عائشة: (إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون يقال لهم: أحيوا ماخلقتم) وكره مجاهد صور الشجر المثمر، ولا أعلم أحد كرهها غيره. 80 - باب: كراهة الصلاة فى التصاوير / 130 - فيه: أَنَس، كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (أَمِيطِى عَنِّى، فَإِنَّهُ لا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِى فِى صَلاتِى) . فيه من الفقه: أنه ينبغى التزام الخشوع وتفريغ البال لله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 180 - تعالى، وترك التعرض لكل ما يشغل المصلى عن الخشوع، إلا ترى أن رسول الله نبه على هذا المعنى بقوله: (فإنه لا تزال تصاوير تعرض لى فى صلاتى) وهذا مثل ماعرض له على السلام فى الخميصة التى أهداها له أبو جهم فقال: (اذهبوا بها أبى جهم، فإنى نظرت إلى علمها فى الصلاة فكاد يفتنى) . وفيه من الفقه: أن مايعرض للمرء فى صلاته من الفكرة فى أمور الدنيا ومايخطر بباله من ذلك، وماينظر إليه بعينه أنه لا يقطع صلاته، كما لم يقطع صلاة النبى اعتراض التصاوير له فيها، إذ لم يسلم أحد من ذلك. 81 - باب: لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة / 131 - فيه: ابْن عُمَر: وَعَدَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) جِبْرِيلُ، فَرَاثَ عَلَيْهِ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَخَرَجَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَقِيَهُ، فَشَكَا إِلَيْهِ مَا وَجَدَ، فَقَالَ لَهُ: (إِنَّا لا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلا صُورَةٌ) . قال ابن وضاح: الملائكة فى هذا الحديث ملائكة الوحى مثل حبريل وإسرافيل، فأما الحفظة فيدخلون كل بيت ولا يفارقان الإنسان على كل حال، وقاله الداوجى أيضًا. قال الطبرى: إن قال قائل: أفحرام دخول البيت الذى فيه التماثيل والصور؟ . قيل: لا، ولكنه مكروه أعنى ماكان من ذلك من ذوات الرواح، وأما ما كان من ذلك علمًا فى ثوب أو رقمًا فيه، وكان مما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 181 يوطأ ويجلس عليه فلا باس به وما كان مما ينصب، فإن كان من صورة ما لا روح فيه فلا بأس به كصور الشجار والزرع والنبات، وإن كان من صور ما فيه الروح فلا استحبه لما حدثنا محمد ابن عبد الملك بى أبى الشوارب، حدثنا يزيد، حدثنا داود بن أبى هند، حدثنا عزرة، عن حميد بن عبد الرحمن، عن سعد بن هشام، عن عائشة قالت: كان لنا ستر تمثال طير مستقبل باب البيت فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (حوليه فإنى كلما دخلت فرأيته ذكرت النديا. قالت: وكان لنا قطيفة لها علم حرير فكنا نلبسها) فلم يقطعه، ولم يأمر عائشة بفساد تمثال الطير الذى كان فى الستر، ولكنه أمر بتنحيته عن موضعه الذى كان معلقًا فيه من أجل كراهيته لرؤيته إياه، لما يذكر من الدنيا وزينتها، وفى قوله عليه السلام: (فإنى كلما رأيته ذكرت الدنيا) دليل بين على أنه كان يدخل البيت الذى ذلك فيه فيراه، ولاينهى عائشة عن تعليقه، وذلك يبين صحة ما قلناه من أن ذلك إذا كان رقمًا فى ثوب وعلمًا فيه فإنه مخالف معنى معنى ما كان مثالا ممثلاً قائمًا بنفسه. وقوله: (فراث عليه) يعنى ابطأ، ومنه قولهم: ربّ عجله تهب ريثًا. 82 - باب: من لعن المصور / 132 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، إِنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) لَعَنَ الْمُصَوِّرَ. . . الحديث. / 133 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِى الدُّنْيَا كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 182 قال المهلب: إن قال قائل: كيف أدخل البخارى حديث ابن عباس فى باب من لعن المصور، وليس ذلك فى الحديث؟ قيل: وجه ذلك - والله أعلم - أن اللعن فى لغة العرب الإبعاد من رحمة الله بالعذاب، ومن كلفه الله ينفخ الروح فيما صور وهو لا يقدر على ذلك ابدًا فقد ابعده الله من رحمته، فأين أكثر من هذا اللعن؟ قال الطبرى: وفى قوله عليه السلام: (من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح) دليل بين أن الوعيد إنما جاء فى تصوير ماله روح من الحيوان، وأما تصوير الشجر والجمادات فليس بداخل فى معنى الحديث. وروى سفيان عن عوف عن سعيد بن أبى الحسن قال: (كنت عن ابن عباس فأتاه رجل فقال: إن معيشتى من هذه التاصوير، فقال ابن عباس: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : من صور صورة كلف أن ينفخ فيها وليس بنافخ. فاصفر الرجل، فلما راى صفرته قال: إن كنت لابد صانعًا فعليك بهذا الشجر وكل شىء ليس فيه روح) . 83 - باب الارتداف على الدابة / 134 - فيه: أَنَّ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) أَرْدَفَ أُسَامَةَ عَلَى حِمَارٍ. وقد تقدم في الحج. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 183 84 - باب: الثلاثة على الدابة / 135 - فيه: ابْن عَبَّاس، لَمَّا قَدِمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مَكَّةَ، اسْتَقْبَلَهُ أُغَيْلِمَةُ بَنِى عَبْدِالْمُطَّلِبِ، فَحَمَلَ وَاحِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَالآخَرَ خَلْفَهُ. قال الطبرى: فإن قال قائل: هذا حديث صحيح، فما أنت قائل فيما حدثك إسحاق بن زيد الخطابى قال: حدثنا محمد بن سليمان، عن أبيه قال: حدثنا عطاء، عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله: (لا يركب الدابة فوق أثنين) ؟ . قيل: قد اختلف السلف فى ذلك فقال بعضهم بخبر ابن عباس، وقالوا: جائز أن يركب الدابه ثلاثة إذا أطاقت حملهم، روى ذلك عن ابن عمر قال: ماأبالى أن أكون عاشر عشرة على دابه إذا أطاقت حمل ذلك. رواه شعبة عن عاصم، عن الشعبى عنه. وكره آخرون ركوب دابه أكثر من اثنين، واحتجوا بحديث أبى سعيد، روى ذلك عن على بن أبى طالب قال: إذا رأيتم ثلاثة نفر على دابه فأرجموهم حتى ينزل أحدهم. قال الطبرى: وكلا الخبرين صحيحان فأما معنى حملة أثنين على دابه هو راكبها حتى صاروا ثلاثة عليها، فلأنها كانت مطيقة حملهم، غير فادح ركوبهم عليها ولا مضر بها. وقد قال ابن أبى ملكية عن ابن عباس أن مركب النبى عليه السلام الذى حمل الاثنين عليه معه كان ناقة. ولاشك أن ركوب ثلاثة أنفس على ناقة غير فادحها، ولا مضر بها، وإن كان ذلك فرسًا أو بغلا فلا شك أنه غير فادحة حمل رجل وصبيين يسير الجزء: 9 ¦ الصفحة: 184 مسافة من الأرض لا يتعذر على الصبيان قطعها مشيًا، وروى ابن مهيد، عن حماد بن سلمه، عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود قال: كان يوم بدر ثلاثة على بعير. وأما معنى عليه السلام عن ركوب أكثر من اثنين على الدابة فإنما هو نهى عن ركوب مالم يطق من الدواب حمل أكثر من راكبين، وذلك معنى قول على: إذا رايتهم ثلاثة على دابة فأرجموهم حتى ينزل أحدهم. ونظير ما روى عن النبى عليه السلام وعن على بن أبى طالب فى ذلك روى عن عمر بن الخطاب أيضًا. حدثنا مطر بن محمد، حدثنا أبو دادود، حدثنا ابن خالد، حدثنا المسيب ابن دارم قال: رايت عمر بن الخطاب ضرب جمالا وقال: تحمل على بعيرك ما لا يطيق؟ 85 - باب: حمل صاحب الدابة غيره بين يديه وَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَاحِبُ الدَّابَّةِ أَحَقُّ بِصَدْرِ الدَّابَّةِ إِلا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ. / 136 - فيه: أَبُو كُريب ذُكِرَ شَرُّ الثَّلاثَةِ عِنْدَ عِكْرِمَةَ، فَقال: قال ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَقَدْ حَمَلَ قُثَمَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْفَضْلَ خَلْفَهُ - أَوْ قُثَمَ خَلْفَهُ وَالْفَضْلَ بَيْنَ يَدَيْهِ - فَأَيُّهُمْ شَرٌّ أَوْ أَيُّهُمْ خَيْرٌ. قال البخارى: وقال بعضهم: صاحب الدابة أحق بصدر دابته إلا أن ياذن له، قد روى عن النبى عليه السلام ذكره أبو عيسى الترمذى فى مصنفه قال: حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث، حدثنا على بن الحسين بن واقد قال: حدثنى أبى قال: حدثنا عبد الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 185 ابن بريدة قال: سمعت أبى بريدة يقول: (بينما رسول الله يمشى إذ جاءه رجل ومعه حمار فقال: يا رسول الله، اركب وتأخر الرجل، فقال رسول الله: لأنت أحق بصدر دابتك إلا أن تجعله لى. قال: جعلته لك. قال: فركب) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وحديث ابن عباس يدل على معنى هذا الحديث، لأن النبى عليه السلام كان أحق بصدر دابته، فلما حمل قثم أو الفضل بين يديه كان مقام الإذن فى ذلك، وأظن البخارى لم يرض بلإسناده حديث ابن بريدة فأدخل حديث ابن عباس ليدل على معناه. 86 - باب / 137 - فيه: مُعَاذ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لَيْسَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ إِلا أَخِرَةُ الرَّحْلِ، فَقَالَ: يَا مُعَاذُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثلاثًا. . . . الحديث. فيه: إرداف الإمام والشريف لمن دونه وركوبه معه، وذلك من التواضع أيضًا وترك الكبر، وكان ينبغى أن يدخل البخارى هذا الحديث مع حديث اسامة بن زيد فى كتاب الارتداف على الدابة قبل هذا. وقد تقدم معنى قوله: (هل تدرى ماحق الله على عباده) فى كتاب السلام والاستئذان فى باب من أجاب بلبيك وسعديك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 186 87 - باب: إرداف المرأة خلف الرجل / 138 - فيه: أَنَس، أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ خَيْبَرَ، وَإِنِّى لَرَدِيفُ أَبِى طَلْحَةَ وَهُوَ يَسِيرُ، وَبَعْضُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَدِيفُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذْ عَثَرَتِ النَّاقَةُ، فَقُلْتُ الْمَرْأَةَ، فَنَزَلْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّهَا أُمُّكُمْ) ، فَشَدَدْتُ الرَّحْلَ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ. . . الحديث. فيه: جواز إرداف المرأة خلف الرجل كما ترجم، وفيه أنه لا بأس أن يتدارك الرجل امرأة غيره إذا سقطت أو همت بالسقوط ويعينها على التخلص مما يخشى حدوثه عليها، وإن كانت ممن لا يجوز له رؤيتها، لأن المؤمنين إخوة وقد أمرهم الله بالتعاون. وذكر هاهنا باب الاستلقاء ووضع الرجل على الأخرى، وقد تقدم فى كتاب الاستئذان والسلام، وفى كتاب الصلاة فأغنى عن إعادته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 187 67 - كتاب الأدب 1 - وقول الله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ( / 1 - فيه: عَبْدِاللَّه، سَأَلْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَى الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: (الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا) ، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (بِرُّ الْوَالِدَيْنِ) ، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) ، قَالَ: حَدَّثَنِى بِهِنَّ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِى. قال المؤلف: ذكر أهل التفسير أن هذه الآية التى فى سورة لقمان نزلت فى سعد بن أبى وقاص، قالت أمه حين هاجر: لا يظلنى بين حتى ترجع فنزلت: (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما (فأمره تعالى أن يحسن إليهما ولا يطعهما فى الشرك. وقيل: نزلت فى عياش بن أبى ربيعة. فأخبر النبى عليه السلام أن بر الوالدين افضل الأعمال بعد الصلاة التى هى أعظم دعائم الإسلام، ورتب ذلك بثم التى تقتضى الترتيب، وتدل على أن الثانى بعد الأول وبينهما مهله، وقد دل التنزيل على ذلك قال تعالى: (وقضى ربك إلا تعبدوا إلا أياه وبالوالدين إحسانًا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) يعنى مايبولان ويحدثان) فلا تقل لهما اف (قال مجاهد: والمعنى لاتستقذرهما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 188 كما لم يكونا يستقذرانك. وقال عطاء: لاتنغض يديك عليهما ولا تنهرهما أى لاتغلظ لهما) وقل لهما قولا كريمًا (أى سهلا لينا عن قتادة وغيره. وقال ابن السيب: قول العبد الذليل للسيد الفظ الغليظ) واخفض لهما جناح الذل من الرحمة (أى كن بمنزله الذليل المقهور إكراما لهما، وجعل تعالى شكر الأبوين بعد شكره فقال: (أن أشكر لى ولوالديك (وقال أبو هريرة: لا تمش أمام أبيك، ولا تقعد قبله، ولا تدعه باسمه. وقيل: تمشى فى الظلمة بين يديه: من لم يدرك أبويه أو أحدهما، فلا باس أن يقول: رب أرحمهما كما ربيانى صغيرًا. - باب: من أحق الناس بحسن الصحبة / 2 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِى؟ قَالَ: (أُمُّكَ) ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ) ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ) ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أَبُوكَ) . قال المؤلف: فى هذا الحديث دليل ان محبة الأم والشفقة عليها ينبغى أن تكون ثلاث اميال محبة الب، لأن عليه السلام كرر الأم ثلاث مرات، وذكر الأب فى المرة الرابعة فقط، وإذا تؤمل هذا المعنى شهد له العيان، وذلك أن صعهوبة الحمل وصعوبة الوضع وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الأم، وتشقى بها دون الب فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 189 وقد جرى لبى السود الدؤلى مع زوجته قصة أثار فيها هذا المعنى، ذكر أبو حاتم عن أبى عبيدة أن أبا الأسود جرى بينه وبين امرأته كلام فأراد أخذ ولده منها، فسار إلى زياد وهو وإلى البصيرة، فقالت المرأة: اصلح الله الأمير، هذا بطنى وعاؤه وحجرى فناؤه وثدى سقاؤه، أكلؤه إذا نام، وأحفظه أذا قام، فلم أزل بذلك سبعة أعوام حتى استوفى فصاله وكملت خصالة وأملت نفعه وروجوت رفعه أراد أن يأخذه منى كرهًا. فقال أبو الأسود: أصلحك الله، هذا ابنى حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه. . وأنا أقوم عليه فى أدبه، وحملته ثقلا، ووضعه شهوة، ووضعته كرهًا. فقال له زياد: اردد على المرأة ولدها فهى أحق به منك، ودعنى من سجعك. وروى عن مالك أن رجلا قال له: إن أبى فى بلد السودان، وقد كتب إلى أن اقدم إليه، وأمى تمنعنى من ذلك، فقال له: أطع أباك ولاتعص أمك. فدل قول مالك هذا أن برهما عنده متساوًا لا فضل لواحد منهما فيه على صاحبه، لأنه قد قدر أمره بالتخلص منهما جميعًا، وإن كان لاسبيل إلى ذلك فى المسالة، ولو كان لأحدهما عنده فضل فى البر على صاحبه لأمره بالمصير إلى أمره. وقد سئل الليث عن هذه المسالة فأمره بطاعة الأم، وزعم أن لها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 190 ثلثي البر، وحديث أبى هريرة يدل على ان لها ثلاثة ارباع البر، وهو الحجة على من خالفه، وزعم المحاسبى أن تفضيل الأم على الأب فى البر والطاعة هو إجماع العلماء. 3 - باب: لا يجاهد إلا بإذن الأبوين / 3 - فيه: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قال: قال رَجُلٌ لِلنَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : أُجَاهِدُ، قَالَ: (لَكَ أَبَوَانِ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ) . قال المؤلف: هذا موافق لحديث ابن مسعود أن بر الأبوين أفضل من الجهاد، لأنه ذلك عليه السلام بثم التى تدل على الرتبة، وهذا إنما يكون فى وقت قوة الإسلام وغلبه أهله للعدو، وإذا كان الجهاد من فروض الكفاية، فأما إذا قوى أهل الشرك وضعف المسلمون، فالجهاد متعين على كل نفس، ولايجوز التخلف عنه وإن منع منه الأبوان. وقال ابن المنذر: فى هذا الحديث أن النهى عن الخروج بغير إذن الأبوين مالم يقع النفير، فإذا وقع وجب الخروج على الجميع، وذلك بين فى حديث أبى قتادة: (أن رسول الله بعث جيش الأمراء، فذكر وصية زيد بن حارثه، وجعفر بن أبى طالب، وابن رواحة أن منادى رسول الله نادى بعد ذلك إن الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس اخرجوا فأمدوا إخوانكم ولا يتخلفن أحد. فخرج الناس مشاة وركابًا فى حر شديد) فدل قوله: (أخرجوا فأمدوا إخوانكم) أن العذر فى التخلف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 191 عن الجهاد إنما هو ما لم يقع النفر مع قوله: (وإذا استنفرتم فانفروا) . واختلفوا فى الوالدين المشركين، هل يخرج بإذنهما إذا كان الجهاد من فروض الكفاية؟ وكان الثورى يقول: لا يغزوا إلا بإذنهما قال الشافعى: له أن يغزو بغير إذنهما. قال ابن المنذر: والأجداد آباء، والجدات أمهات، فلا يغزو المرء إلا يإذنهم، ولا أعلم دلاله توجب ذلك لغيرهم من الإخوة وسائر القرابات، وكان طاوس يرى السعى على الأخوات افضل من الجهاد فى سبيل الله. 4 - باب: لا يسب الرجل والده (1) / 4 - فيه: عبد الله بن عمر: قال: قال النبي - عليه السلام -: إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه. قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه (ويسب أمه) . قال المؤلف: هذا الحديث أصل في قطع الذرائع، وأن من آل فعله إلى محرم وإن لم يقصده فهو كمن قصده وتعمده في الإثم، ألا ترى أنه عليه السلام نهى أن يلعن الرجل والديه؟ فكان ظاهر هذا أن يتولى الابن لعنهما بنفسه، فلما أخبر النبي - عليه السلام - أنه إذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 192 سب أبا الرجل وسب الرجل أباه وأمه، كان كمن تولى ذلك بنفسه، وكان [ما آل إليه فعل ابنه] كلعنه في المعنى؛ لأنه كان سببه، ومثله قوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم (وهذه من إحدى آيات قطع الذرائع في كتاب الله - تعالى. والثانية: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا (، والثالثة: (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن (. باب: إجابة دعاء من بر والديه / 5 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَمَا ثَلاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَاشَوْنَ فأَخَذَهُمُ الْمَطَرُ، فَمَالُوا إِلَى غَارٍ فِى الْجَبَلِ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ، فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالا عَمِلْتُمُوهَا لِلَّهِ صَالِحَةً، فَادْعُوا اللَّهَ بِهَا، لَعَلَّهُ يَفْرُجُهَا، فَقَالَ بعضهم: صِغَارٌ كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ، فَحَلَبْتُ، بَدَأْتُ بِوَالِدَىَّ. . . .) وذكر الحديث (. . . . فَفَرَجَ اللَّهُ عَنْهُمْ) . قال المؤلف: كل من دعا إلى الله تعالى بنيه صادقة وتوسل إليه بما صنعه لوجهه خاصا ترجى له الإججابة، الا ترى أن اصحاب الغار توسلوا إلى الله تعالى بأعمال عملوها خالصة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 193 (لوجهه، ورجوا الفرج بها، فذكر أحدهم بر أبويه، وذكر الثانى أنه قعد من المرأة التى كان يحبها مقعد الرجل من المرأة، وانه ترك الزنا بها لوجه الله، وذكر الثالث أنه تجر فى أجرة الأجير حتى صار منها غنم وراعها، وأنه دفعه إليه حين طلب منه أجره، فتفضل الله عليهم بإجابة دعائهم ونجاهم من الغار، فكما أجيب دعوة هؤلاء النفر، فكذلك ترجى إجابة دعاء كل من أخلص فعله لله وأراد به وجهه) . 5 - باب: عقوق الوالدين من الكبائر / 6 - فيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ) ؟ قُلْنَا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ) - وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ - فَقَالَ: (أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ) ، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ: لا يَسْكُتُ. / 7 - وفيه: أَنَس، قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْكَبَائِرَ - أَوْ سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِرِ - فَقَالَ: (الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ) ، فَقَالَ: (أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قَالَ: قَوْلُ الزُّورِ - أَوْ قَالَ شَهَادَةُ الزُّورِ -) . قال المؤلف: ذكر البخارى فى كتاب اليمان والنذور حديث عبد الله بن عمر وفيه زيادة اليمين الغموس، وفى كتاب الديات والاعتصام حديث ابن مسعود (أن تقتل ولدك خشية ان يأكل معك) وفيه الزنا بحليلة الجار من الكبائر. وروى الزنا من الكبائر عن النبى عليه السلام عمران بن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 194 حصين، وعبد الله بن انيس، وأبو هريرة، وفى حديث أبى هريرة: (لا يزنى حين يزنى وهو مؤمن) وفى كتاب الحدود، وفى حديث أبى هريرة قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (اجتنبوا السبع الموبقات) وفيه: (السحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولى يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات والمؤمنات) . وفى باب عقوق الوالدين من الكبائر حديث المغيرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنع وهات ووأد البنات. . .) الحديث، وفى حديث ابن عباس أن النميمة وترك التحرز من البول من الكبائر. وروى السرقة من الكبائر وشرب الخمر من الكبائر عمران بن حصين فى غير كتاب البخارى، وفى كتاب البخارى: (لايسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولايشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولاينتهب نهبه وهو مؤمن) وفى غير البخارى من حديث ابن عباس: (الإضرار فى الوصية من الكبائر، والقنوط من رحمة الله من الكبائر) . وفى حديث أبى أيوب الأنصارى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (منع ابن السبيل من الكبائر) . وروى بريدة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (منع ابن السبيل الماء من الكبائر) وفى حديث ابن عمر: (والإلحاد فى البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتًا من الكبائر) وفى حديث عبد الله بن عمر: (وأكبر الكبائر أن يشتم الرجل والديه، قالوا: وكيف؟ قال: يساب الرجل فيسب أباه) . فهذه آثار رويت عن النبى عليه السلام - بذكر الكبائر، فجميع الكبائر فى هذه الاثار ست وعشرون كبيرة وهى: الشرك، وقتل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 195 النفس، وعول الوالدين، وشهادة الزور، واليمين الغموس، وأن تقتل ولدك خشية ان يأكل معك، والزنا، والسحر، واكل الربا وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات، والسرقة، وشرب الخمر، والإضرار فى الوصية، والقنوط من رحمة الله، ومنع ابن السبيل الماء، والإلحاد فى البيت الحرام، والذى يستسب لوالديه، وفى حديث المغيرة: (حرم عليكم منعًا وهات ووأد البنات) والنميمة، وترك التحرز من البول، والغلول. فهذه ست وعشرون كبيرة وتستنبط كبائر أخر من الأحاديث منها: حديث ابن المسيب عن النبى عليه السلام أنه قال: (إن من أربى من الكبائر) ، ومنها حديث أبى سعيد وأبى هريرة أن النبى عليه السلام قال: (أسوء السرقة الذى يسرق صلاته) . وقد ثبت أن السرقة من الكبائر، وفى التنزيل الجور فى الحكم قال تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) و) الظالمون (و) الفاسقون (وقال تعالى: (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا (فهذه تسع وعشرون كبيرة. قال الطبرى: واختلف أهل التأويل فى الكبائر التى وعد الله عباده بالنهى عنها من أول سورة النساء إلى رأس الثلاثين آيه منها هذا قول ابن مسعود والنخعي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 196 وقال آخرون: الكبائر سبع روى هذا عن على بن أبى طالب، وهو قول عبيد بن عمير وعبيدة وعطاء، قال عبيد: ليس من هذه كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله تعالى قال تعالى: (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء (وقال: (الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا (الآية، وقال تعالى: (الذين يأكلون الربا لايقومون إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس (و) الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات (الآية، والفرار من الزحف، وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفًا فلا تولوهم الأدبار (والسابعة: التعرب بعد الهجرة) إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ماتبين لهم الهدى (وقتل النفس. وقال آخرون: هى تسع. روى هذا عن عبد الله بن عمر، وزاد فيه السحر والإلحاد فى المسجد الحرام. وقال آخرون: هى اربع، رواه الأعمش عن وبرة بن عبد الرحمن، عن أبى الطفيل، عن ابن مسعود قال: الكبائر اربع: الإشراك بالله، والقنوط من رحمة، والإياس من روح الله، والأمن من مكر الله. ففى حديث أبى الطفيل مما لم يمض فى الآثار: الأمن من مكر الله، وفى حديث عبيد بن عمير: التعرب بعد الهجرة، فتمت إحدى وثلاثين كبيرة. وقال آخرون: كل مانهى الله عنه فهو كبيرة، روي ذلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 197 عن ابن عباس قال: وقد ذكرت الطرفة وهى النظرة، قال ابن الحداد: وهذا قول الخوارج: قالوا: كل ماعصى الله فهو كبيرة يخلد صاحبه فى النار، واحتجوا بقوله: ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم قالوا: فالكلام على العموم فى جميع المعاصى. قال الطبرى: وعن ابن عباس قول آخر، قال: كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنه أو غضب فهو كبيرة، وقال طاوس: قيل لابن عباس: الكبائر سبع؟ قال: هى إلى السبعين أقرب. وقال سعيد بن جبير قال رجل لابن عباس: الكبائر سبع؟ قال: هى إلى السبعمائة أقرب منها إلى سبع: غير أنه لاكبيرة مع استغفار، ولاصغيرة مع إصرار. وذهب جماعة أهل التأويل إلى أن الصغائر تغفر باجتناب الكبائر، وهو قول عامة الفقهاء، وخالفهم فى ذلك الشعرية أبو بكر بن الطيب وأصحابه، فقالوا: معاصى الله كلها عندنا كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بافضافة _ إلى ماهو أكبر منها، كما يقال: الزنا صغيرة بإضافته إلى الكفر، والقبلة المحرمة صغيرة بإضافتها إلى الزنا، وكلها كبائر، ولا ذنب عندنا يغفر واجبًا باجتناب ذنب آخر، بل كل ذلك كبيرة ومرتكبة فى المشيئة غير الكفر لقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (. واحتجوا بقراءة من قرأ (إن تجنبوا كبيرة ما تنهون عنه) على التوحيد يعنون الشرك، وقال الفراء: من قرأ (كبائر) فالمراد بها كبير، وكبير الإثم الشرك، وقد يأتى لفظ الجمع يراد به الواحد قال تعالى: (كذبت قوم نوح المرسلين (ولم يأتيهم إلا نوح وحده، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 198 ولا أرسل إليهم روى قبله فى حديث الشفاعة: (ولكن أئتوا نوحًا) فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. قالوا: فجواز العقاب عندنا على الصغيرة كجواز على الكبيرة وقوله عليه السلام: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لايظن أنها تبلغ حيث بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة) . وحجة أهل التأويل والفقهاء ظاهر قوله تعالى: (إن تجنبوا كبائر ماتنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم (. قال الطبرى: يعنى نكفر عنكم أيها المؤمنون ياجتناب الكبائر صغائر سيئاتكم، لأن الله تعالى قد وعد مجتنبها تكفير ماعداها من سيئاته ولا يخلف الميعاد. واحتجوا رواه موسى بن عقبة، عن عبيد الله بن سليمان الأغر، عن أبيه، عن أبى أيوب الأنصارى قال: قال رسول الله (ما من عبد يعبد الله لايشرط به شيئًا، ويقيم الصلاة، ويوتى الزكاة، ويصوم رمضان، ويجتنب الكبائر إلا دخل الجنة) وقال أنس: إن الله تجوز عما دون الكبائر فما لنا ولها وتلا الآتية. وأما قول الفراء من قرأ (كبائر) فالمراد بها كبير الإثم وهو الشرك، فهذا خلاف ما ثبت فى الآثار، وذلك أن فى حديث أبى بكرة أن النبى - عليه اسلام - قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر. فذكر الشرك، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس وقال: ألا وقول الزور، فما زال يقولها حتى قلت: لا يسكت) وفى حديث ابن مسعود (قلت: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 199 يا رسول الله، أى الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، وأن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك، وأن تزانى بحليلة جارك) فجعل عليه السلام فى حديث أبى بكرة قول الزور وعقوق الوالدين من أكبر الكبائر، وجعل فى حديث ابن مسعود أن يقتل ولده خشية أن يأكل معه، والزنا بحليلة جاره من أعظم الذنوب، فهذا يرد تأويل الفراء أن كبائر يراد بها كبير وهو الشرك خاصة، ولوعكس قول الفراء فقيل له من قرأ (كبير الإثم) فالمراد به كبائر كان أولى فى التأويل بدليل هذه الاثار الصحاح، وبالمتعارف المشهور فى كلام العرب، وذلك أن يأتى لفظ الواحد يراد به الجمع كقوله تعالى: (يخرجكم طفلاً (وقوله: (لا نفرق بين أحد من رسله (والتفريق لايكون إلا بين اثنين فصاعدا والعرب تقول: فلان كثير الدينار والدرهم، يريدون الدنانير والدراهم. وقولهم: إن الصغائر كلها كبائر فهذه دعوى وقد ميز الله بين الكبائر وبين ماسماه سيئه من غيرها بقوله تعالى: (إن تجنبوا كبائر ماتنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم (وأخبر أن الكبائر إذا جونبت كفر ماسواها، وماسوى الشىء هو غيره ولايكون هو، ولا ضد للطبائر إلا الصغائر، والصغائر معلومه عند الأمة، وهى ما أجمع المسلمون على رفع التحريج فى شهادة من أتاها، ولا يخفى هذا على ذى لب. وأما احتجاجهم بقوله عليه السلام: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لايظن أنها تبلغ حيث بلغت) فليس فيه دليل أن تلك الكلمة ليست من الكبائر، ومعنى الحديث: إن الرجل ليتكلم بالكلمة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 200 عند السلطان يغريه بعدو له ويطلب أذاه، فربما قتله السلطان أو أخذ ماله أو عاقبه اشد العقوبة، والمتكلم بها لايعتقد أن السلطان يبلغ به كل ذلك فيسخط الله عليه إلى يوم القيامة، وهذا كقوله تعالى: (وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم (. 6 - باب: صلة الوالد المشرك / 8 - فيه: أَسْمَاء، أَتَتْنِى أُمِّى رَاغِبَةً فِى عَهْدِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَسَأَلْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) آصِلُهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ) الحديث. قال المؤلف: صلة الوالدين المشركين واجبة بكتاب الله تصديقًا لحديث أسماء وذلك قوله: (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا () وإن جاهدداك على أن تشرك بى ماليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا (فأمر ببرهما ومصاحبتهما بالمعروف وإن كان مشركين، وقد تقدم هذا فى كتاب الهبة واسماء هذه بنت أبى بكر الصديق زوج الزوبير بن العوام وأمها قتيلة. وترجم لحديث اسماء: باب المرأة أمها ولها زوج وفقه هذه الترجمة أن النبى عليه السلام أباح لأسماء أن تصل أمها ولم يشترط لها فى ذلك مشاورة زوجها، ففيه حجة لمن أجاز من الفقهاء أن تتصرف المرأة فى مالها وتتصدق بغير إذن زوجها، وقد تقدم فى الهبة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 201 7 - باب: صلة الأخ المشرك / 9 - فيه: عُمَر بْن الْخطاب أَنّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، أهدى له حُلَّةَ سِيَرَاءَ وقَالَ: (إِنِّى لَمْ أُعْطِكَهَا، لِتَلْبَسَهَا، وَلَكِنْ تَبِيعُهَا أَوْ تَكْسُوهَا) ، فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ. 8 - باب: فضل صلة الرحم / 10 - فيه: أَبُو أَيُّوبَ، أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِى بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِى الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ عليه السَّلام: (تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِى الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ. . .) الحديث. وقد تقدم هذا الحديث فى أو كتاب الزكاة، والآثار كثيرة فى فضل صلة الرحم. منها ما ذكر بإسناده عن النبى عليه السلام قال: (إن الله ليعمر بالقوم الديار ويكثر لهم فى الأموال، وما نظر إليهم مذ خلقهم بغضًا لهم. قيل: وكيف ذلك يارسول الله؟ قال: بصلتهم أرحامهم) . وقال عليه السلام: (إن أعجل الطاعة ثوابًا صلة الرحم، حتى إن أهل البيت يكونون فجارًا تنمى أموالهم ويكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 202 9 - باب: إثم القاطع / 11 - فيه: جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ) . روى هذا الحديث سعيد عبد الرحمن، عن سفيان، عن الزهرى وقال فيه: (لا يدخل الجنة قاطع رحم) . ومعناه عند أهل السنة: لايدخل الجنة إن أنفذ الله عليه الوعيد، لإجماعهم أن الله تعالى فى وعيده لعصاة المسلمين بالخيار إن شاء عذبهم وإن شاء عفا عنهم. قال الطبرى: فإن قال قائل: قد تقدم من قولك أن المتعاهد رحمة بأدنى البر كالسلام ونحوه غير مستحق اسم قاطع، فمن القاطع الذى جاء فيه الوعيد فى هذا الحديث؟ قال: هو الذى يقطعهم بالهجرة لهم والمعاداة، مع منعه إياهم معروفه ومعونته. وروى ابن وهب، عن سعيد بن أبى أيوب، عن عبد الله بن الوليد، عن أبى حجيرة الأكبر أن رجلا أتاه، فقال: انى نذرت ألا أكلم أخى. قال: إن الشيطان ولد له ولد فسماه نذرًا، وإنه من قطع ماأمر الله به أن يوصل حلت عليه اللعنة، وهذا فى كتاب الله فى قوله: (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 203 - باب: من بسط له فى الرزق لصلة الرحم / 12 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِى رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِى أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) . / 13 - وفيه: أَنس، عَن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مثله. قال الطبرى: فإن قيل كيف ينسأ له فى أجله، وقد قال تعالى: (فإذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولايستقدمون (وقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن ابن آدم يكتب فى بطن أمه أثره وأجله ورزقه) ؟ . فالجواب: أنه إن فعل ذلك به جزاء له على ما كان له من العمل الذى يرضاه، فإنه غير زائد فى علم الله تعالى شيئًا لم يكن له عالما قبل تكوينه، ولا ناقص منه شيئًا، بل لم يزل عالمًا بما العبد فاعل وبالزيادة التى هو زائد فى عمره بصلة رحمه، والنقص الذى هو بقطعه رحمة من عمره ناقص قبل خلقه لايعزب عنه شىء من ذلك. وقد تقدم الزيادة فى بيان هذا المعنى فى كتاب البيوع فى باب: من أحب البسط فى الرزق. وقال الخطابى: قوله: (ينسأ له فى أثره) معناه يؤخر فى أجله ويسمى الأجل أثرًا لأنه تابع للحياة وسابقها، قال كعب بن زهير: والمرء ما عاش ممدود له أمل لا ينتهى العين حتى ينتهى الأثر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 204 - باب: من وصلها وصله الله / 14 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ، قَالَتِ: الرَّحِمُ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، يَا رَبِّ، قَالَ: فَهُوَ لَكِ، قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِى الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ () [محمد: 22] . / 15 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ، عليه السَّلام: (إِنَّ الرَّحِمَ شَجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ) . / 16 - وفيه: عَائِشَةَ عَن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مثله. قال الطبرى: معنى وصل الله تعالى عبده إذا وصل رحمه، فهو تعطفه عليه بفضله، إما فى عاجل دنياه أو آجل آخرته، والعرب تقول إذا تفضل رجل على آخر بمال أو هبة هبة: (وصل فلان فلانًا بكذا وتسمى العطية صلة فتقول: وصلت إلى فلان صلة فلان) ، وكذلك قوله تعالى فى الرحم: (من وصلها. . . .) يعنى وصلته بفضلى ونعمى، وصلة العبد ربه فتعطفه على ذوى أرحامه من قبل أبيه وأمه بنوافل فضله. فإن قال: أفما يكون المرء واصلا رحمه إلا بتعطفه عليهم بفضل ماله؟ . قيل: للبر بالأرحام مراتب ومنازل، وليس من لم يبلغ أعلى تلك المراتب يستحق اسم قاطع، كما من لم يبلغ أعلى منازل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 205 الفضل يستحق اسم الذم، فواصل رحمة بماله مستحق اسم واصل، وواصلها بمعونته ونصرته مستحق اسم واصل، وقد بين ذلك قوله عليه السلام فى حديث أنس: (صلوا أرحامكم ولو بالسلام) فأعلم عليه السلام أمته أن المتعاهد لرحمة بالسلام خارج عن معنى القاطع وداخل فى معنى الواصل، فواصلها بما هو أعلى وأكثر أحق أن يكون خارجا من معنى القاطع. وقول غيره: يقال: هذا شجر متشجن إذا التف بعضه ببعض. قال أبو عبيد: وفيه لغتان: شجنة وشجنة بكسر الشين وضمها. قال الطبرى: الشجنة الفعلة من قولهم شجن فلان على فلان إذا حزن عليه فشجن عليه شجنًا، والمعنى أن الرحم حزينة مستعيذة بالله من القطيعة. - باب: تبل الرحمن ببلالها / 17 - فيه: عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، سَمِعْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) جِهَارًا غَيْرَ سِرٍّ، يَقُولُ: (إِنَّ آلَ أَبِى لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِى، إِنَّمَا وَلِيِّىَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ، أَبُلُّهَا بِبَلاهَا) . قال المهلب: إن آل أبى ليسوا بأوليائى، إنما وليى الله وصالح المؤمنين، فأوجب عليه السلام الولاية بالدين ونفاها عن أهل رحمه، إذ يكونوا من أهل دينه، فدل ذلك أن النسب محتاج إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 206 الولاية التى بها تقع الوراثة بين المتناسبين والقارب، فإن لم يكن لهم دين يجمعهم لم تكن ولاية ولا موارثة، ودل عذا أن الرحمن التى تضمن الله أن يصل من وصلها ويقطع من قعها، إنما ذلك كان فى الله وفيهما شرع، وأما من قطعها فى الله وفيما شرع فقد وصل الله والشريعة واستحق صلة الله بقطعه من قطع الله. قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا عدوى وعدوكم (وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان (وقال: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شىء حتى يهاجروا (فكيف بمن لم يؤمن؟ . وقوله: (ولكن لهم رحم إبلها ببلالها) يعنى: أصلها بمعروفها والبل هو الترطيب والتنديه بالمعروف، وشبه عليه السلام صلة الرحم بالمعروف بالشىء اليابس يندى فيرطب، وذلك أن العرب تصف الرجل إذا وصفته باللؤم بجمود الكف فتقول: ماتندى كفه بخير وأنه لحجر صلد، يعنى لا يرجى نائله، ولايطمع فى معروفه، كما لايرجى من الحجر الصلد مايشرب، فإذا وصل الرجل رحمه بمعروفه قالوا: بل رحمه بلا وبلالا قال الأعشى: ووصال رحم قد نضحت باللها وإنما ذلك تشبيه من النبى عليه السلام صلة الرجل رحمه بالنار يصب عليها بالماء فتطفأ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 207 قال المهلب: فقوله عليه السلام: (ولكن لهم رحم ابلها ببلالها) هو الذى أمره الله تعالى به فى كتابه فقال: (وصاحبهما فى الدنيا معروفا (فلما عصوه وعاندوه دعا عليهم فقلا: (اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف) فلما مسهم الجوع أرسلوا اليه قالوا: يامحمد، إنك بعثت بصلة الرحم، وإن أهلك قد جاعوا فادع الله لهم، وذلك مما لايقدح فى دين الله، ألا ترى صنعه عليه السلام فيهم إذ غلب عليهم يوم الفتح من الرق الذى كان توجه إليهم فسموا بذلك الطلقاء، ولم ينتهك حريمهم، ولا استباح أموالهم ومن عليهم، وهذا كله من البلال. - باب: ليس الواصل بالمكافىء / 18 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) (لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِى إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا) . قال المؤلف: قوله عليه السلام: (ليس الواصل بالمكافىء) يعنى: ليس الواصل رحمه من وصلهم مكافأة لهم على صلة تقدمت منهم إليه فكافأهم عليها بصلة مثلها. وقد روى هذا المعنى عن عمر بن الخطاب، روى عبد الرزاق، عن معمر، عمن سمع عكرمة يحدث عن ابن عباس قال: قال عمر ابن الخطاب: (ليس الواصل أن تصل من وصلك، ذلك القصاص، ولكن الواصل أن تصل من قطعك) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 208 قال المؤلف: هذا حقيقة الواصل الذى وعد الله عباده عليه جزيل الأجر، قال تعالى: (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم. .) الآيات. - باب من وصل رحمه فى الشرك ثم اسلم / 19 - فيه: حَكِيمَ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، مِنْ صِلَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَصَدَقَةٍ، هَلْ لِى فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ عليه السَّلام: (أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ) . فى هذا الحديث تفضل الله على من أسلم من أهل الكتاب وأنه بعطى ثواب ماعمله فى الجاهلية من أعمال البر، وهو مثل قوله عليه السلام: (إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه كتب الله كل حسنة كان زلفها) فهذا - والله أعلم - بركة الإسلام وفضله. وقد تقدم هذا فى كتاب الزكاة فى باب من تصدق فى الشرك ثم أسلم. - باب: من ترك صبية غيره حتى تلعب به أو قبلها أو مازحها / 20 - فيه: أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ، قَالَتْ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَعَ أَبِى، وَعَلَى قَمِيصٌ أَصْفَرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (سَنَهْ، سَنَهْ) - قَالَ عَبْدُاللَّهِ وَهِى بِالْحَبَشِيَّةِ: حَسَنَةٌ - قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِى أَبِى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (دَعْهَا) ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَبْلِى وَأَخْلِقِى، ثُمَّ أَبْلِى وَأَخْلِقِى، ثُمَّ أَبْلِى وَأَخْلِقِى) ، ثلاث مرات، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 209 قال المؤلف: فى هذا الحديث من الفقه أنه يجوز مباشرة الرجل الصبية الصغيرة التى لايشتهى مثلها وممازحتها وإن لم تكن منه بذات محرم؛ لأن لعب أم خالد وهى صبية بمكان خاتم النبوة من جسد النبى عليه السلام ماشرة منها لرسول الله، ومباشرتها له كمباشرته لها وتقبيله إياها، ولو كان ذلك حرامًا لنهاها كما نهى الحسن بن على وهو صغير عن اكل التمرة الساقة التى خشى أن تكون من الصدقة المحرمة على النبى عليه السلام وعلى آله. وقد اختلف أصحاب مالك من هذا الصل فى الصبية الصغيرة تموت هل يغسلها الرجل غير ذى الرحم منها؟ فقال اشهب: لاباس أن يغسلها إذا لم تكن ممن تشتهى لصغرها، وهو قول عيسى بن دينار، وقال ابن القاسم: لايغسلها لحال. وقول عيسى واشهب له هذا الحديث، وذكر ابن مزين قول ابن القاسم وعيسى وذكر ابن حارث قول اشهب. - باب: رحمة الولد وتقبيله ومعانقته وَقَالَ ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ: أَخَذَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ. / 21 - فيه: ابْن عُمَر، أن رجلاً سَأَلَهُ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ؟ فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، قَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا يَسْأَلُنِى عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ، وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، وَسَمِعْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (هُمَا رَيْحَانَتَاىَ مِنَ الدُّنْيَا) . / 22 - وفيه: عَائِشَةَ، جَاءَتْنِى امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ، تَسْأَلُنِى فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِى غَيْرَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 210 تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: (مَنْ يَلِى مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ، كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ) . / 23 - وفيه: أَبُو قَتَادَةَ، خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِى الْعَاصِ عَلَى عَاتِقِهِ، فَصَلَّى فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَ، وَإِذَا رَفَعَ رَفَعَهَا. / 24 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَبَّلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ، وَعِنْدَهُ الأقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِىُّ جَالِسًا، فَقَالَ الأقْرَعُ: إِنَّ لِى عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ قَالَ: (مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ) . / 25 - وفيه: عَائِشَةَ، جَاءَ أَعْرَابِى إِلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ، فَمَا نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ) . / 26 - وفيه: عُمَر، قَدِمَ عَلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْىِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِى، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِى السَّبْىِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِى النَّارِ) ؟ قُلْنَا: لا وَهِىَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: (لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا) . قال المؤلف: رحمة الولد الصغير ومعانقته وتقبيله والرفق به من الأعمال التى يرضاها الله ويجازى عليها، الا ترى قوله عليه السلام للأقرع بن حابس حين ذكر عند النبى أن له عشرة من الولد ماقبل منهم أحدًا: (من لا يرحم لا يرحم) فدل أن تقبيل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 211 الولد الصغير وحمله والتحفى به ممايستحق به رحمة الله، ألا ترى حمل النبى عليه السلام أمامه ابنه أبى العاص على هنقه فى الصلاة، والصلاة أفضل الأعمال عند الله، وقد أمر عليه السلام بلزوم الخشوع فيها ولإقبال عليها، ولم يكن حمله لها مما يضاد الخشوع المأمور به فيها، وكره أن يشق عليها لو تركها ولم يحملها فى الصلاة وفى فعله عليه السلام ذلك أعظم السوة لنا فينبغى الاقتداء به فى رحمته صغار الولد وكبارهم والرفق بهم، ويجوز تقبيل الولد الصغير فى سائر جسده. وروى جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس: (أن النبى عليه السلام أتى بالحسن بن على ففرج بين فخديه وقبل زبيبته) . وأما تقبيل كبار الولد وسائر الأهل فقد رخص فى ذلك العلماء. قال اشهب: سئل مالم عن الذى يقدم من سفره فتلقاه ابنته تقبله أو اخته أو أخل بيته؟ قال: لابأس بذلك. وهذا على وجه الرقة وليس على وجه اللذة، وقد كان عليه السلام يقبل ولده وبخاصة فاطمة، وكان أبو بكر يقبل عائشة، وقد فعل ذلك أكثر أصحاب النبى عليه السلام وذلك على وجه الرحمة. وفى حديث ابن عمر من الفقه أنه يجب على المرء أن يقدم تعليم ما هو أوكد عليه من أمر دينه، وأن يبدأ بالاستغفار والتوبة من أعظم ذنوبه وإن كانت التوبة من جميعها فرضًا عليه فهى من الأعظم أوكد، ألا ترى ابن عمر أنكر على السائل سؤاله عن حكم دم البعوض وتركه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 212 الاستغفار والتوبة من دم الحسين، وقرعه به دون سائر ذنوبه لمكانته من النبى - عليه السلام. وقوله فى حديث عائشة: (من بلى من هذه البنات شيئًا كن له سترًا من النار) دليل أن أجر القيام على البنات أعظم من أجر القيام على البنين، إذ لم يذكر عليه السلام مثل فى القيام على البنين، وذلك والله أعلم من أجل أن مؤنة البنات والاهتمام بأمورهن أعظم من أمور البنين لأنهن عذرات لا يباشرون أمورهن ولا يتصرفن تصرف البنين. - باب: جعل الله الرحمة فى مائة جزء / 27 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أنّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ فِى مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِى الأرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ) . قال المؤلف: قد جاء هذا الحديث فى كتاب الزهد فى باب الرجاء والخوف بغير هذا اللفظ أن النبى عليه السلام قال: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة، وأرسل فى خلقه كلهم رحمة واحدة) . قال المهلب: هذه الرحمة هى رحمته التى خلقها لعباده وجعلها فى نفوسهم، والتى أمسك عند نفسه هى مايتراحمون به يوم القيامة ويتغافرون من التباعات التى كانت بينهم فى الدنيا، وقد يجوز أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 213 تستعمل تلك الرحمة المخلوقة فيهم بها سوى رحمته التى وسعت كل شىء، التى لايجوز أن تكون مخلوقة، وهى صفة من صفات ذاته تعالى لم يزل موصوفًا بها، فهى التى يرحمهم بها زائدًا على الرحمة التى جعلها لهم، وقد يجوز أن تكون الرحمة التى أمسكها عند نفسه هى التى عند ملائكته المستغفرين لمن فى الأرض؛ لأن استغفارهم لهم دليل على أن فى نفوس الملائكة رحمة على أهل الأرض، والله أعلم. - باب: قتل الولد خشية أن يأكل معه / 28 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: (أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا، وَهُوَ خَلَقَكَ) ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: (أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ) ؟ الحديث. إنما جعل النبى قتل الولد خشية أن يأكل مع أبيه أعظم الذنوب بعد الشرك؛ لأن ذلك يجمع القتل وقطع الرحم ونهاية البخل وإنما ذكر البخارى هذا الحديث بإثر باب رحمة الولد وتقبيله؛ ليعلمنا أن قتل الولد خشية أن يأكل مع أبيه من أعظم الذنوب عند الله بعد الشرك به، فإذا كان كذلك فرحمته وصلته والإحساس إليه من أعظم أعمال البر بعد الإيمان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 214 - باب: وضع الصبى فى الحجر / 29 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَضَعَ صَبِيًّا فِى حَجْرِهِ يُحَنِّكُهُ، فَبَالَ عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَأَتْبَعَهُ. كان المسلمون إذا ولد لهم ولد يأتون به إلى الرسول فيحنكه بريقه ويدعو له عليه السلام تبركًا بريقه ودعوتخ، وكان يأخذ الصبى ويضعه فى حجره، ولا يتقزز منه خشية مايكون منه من الحدث، ألا ترى أنا بال فى ثوبه فأتبعه بالماء ولم يضجر من ذلك، فينبغى الاقتداء به فى ذلك، وأن يتوخى المؤمنون بأولادهم أهل الفضل والصلاح منهم فيحملونهم إليهم ليدعوا تاسيًا بفعل النبى فى ذلك. - باب: وضع الصبى على الفخد / 30 - فيه: أُسَامَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَأْخُذُنِى، فَيُقْعِدُنِى عَلَى فَخِذِهِ، وَيُقْعِدُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الأخْرَى، ثُمَّ يَضُمُّهُمَا، ثُمَّ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّى أَرْحَمُهُمَا) . وضع الصبى على الفخد هو من باب رحمة الولد، وقد تقدم أنه عليه السلام كان يحمل ابنه أبى العاصى بن الربيع حفيدته على عنقه فى الصلاة وهو أكثر من إجلاسه للحسن ولأسامة على فخديه فى غير الصلاة. وفيه: مساواة الرجل لبنه ولمن تبناه فى الرفق والرحمة والمنزلة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 215 - باب: حسن العهد من الإيمان / 31 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَلَقَدْ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِى بِثَلاثِ سِنِينَ لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِى الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَيَذْبَحُ الشَّاةَ، ثُمَّ يُهْدِى فِى خُلَّتِهَا مِنْهَا. قال المؤلف: حسن العهد فى هذا الحديث هو إهداء النبى عليه السلام اللحم لأجوار خديجة ومعارفها رعيًا منه لذمامها وحفظًا لعهدها كذلك قال أبو عبيد: العهد فى هذا الحديث الحفاظ ورعاية الحرمة والحق، فجعل ذلك البخارى من الإيمان؛ لأنه فعل بر وجميع أفعال البر من الإيمان. وقولها: (ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت فى الجنة من قصب) فالقصب قصب اللؤلؤ، وهو مااستطال منه فى تجويف، وكل مجوف قصب. وقولها: (ببيت) أى بقصر يقال: هذا بيت فلان أى قصره. قاله أبو سليمان الخطابى. وقد روى أن خديجة قالت لرسول الله حين بشرها بذلك: (ما بيت من قصب؟ بيت من لؤلؤ مجبأة) وفسره ابن وهب قال يريد: مجوفة. قال أبو سليمان: وهذا لا يستقيم على ما قاله ابن وهب إلا أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 216 يكون من المقلوب فتكون مجوبة من الجوب وهو القطع قدم الباء على الواو كقوله تعالى: هار والصل هائر، وكقول الشاعر: لاث به الشياء والعبرى وإنما هو لائث وقوله: لاوصب فيه ولا نصب أى لا أذى فيه ولا عناء - باب: فضل من يعول يتيما / 32 - فيه: سَهْل، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) (أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِى الْجَنَّةِ هَكَذَا، وَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى) . قال المؤلف: حق على كل مؤمن يسمع هذا الحديث أن يرغب فى العمل به ليكون فى الجنة رفيقًا للنبى عليه السلام ولجماعة النبيين والمرسلين - صلوات الله عليهم أجمعين - ولا منزلة عند الله فى الآخرة أفضل من مرافقة الأنبياء. وقد روى أبان القطان وحماد بن سلمة، عن أبى عمران الجونى (أن رجلاً شكا إلى النبى عليه السلام فسوة قلبه فقال: امسح بيدك على راس اليتيم، واطعمه من طعامك يلن قلبك وتقدر على حاجتك) . والسباحة: هى الأصبع التى تلى الابهام، وسميت بذلك لأنها يسبح بها فى الصلاة، وتسمى أيضًا السبابة لأنها يسب بها الشيطان فى التشهد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 217 - باب: الساعى على الأرملة والمسكين / 33 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (السَّاعِى عَلَى الأرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ كَالَّذِى يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ) . قال المؤلف: من عجز عن الجهاد فى سبيل الله وعن قيام الليل وصيام النهار، فليعمل بهذا الحديث وليسع على الرامل والمساكين ليحشر يوم القيامة فى جملة المجاهدين فى سبيل الله دون أن يخطو فى ذلك خطوة، أو ينفق درهمًا، أو يلقى عدوًا يرتاع بلقائه، أو ليحشر فى زمرة الصائمين والقائمين وينال درجتهم وهو طاعم نهاره نائم ليلة أيام حياتو، فينبغى لكل مؤمن أن يحرص على هذه التجارة التى لاتبور، ويسعى على ارملة أو مسكين لوجه الله تعالى فيربح فى تجارته درجات المجاهدين والصائمين والقائمين من غير تعب ولانصب، ذلك فضل الله يوتيه من يشاء. - باب: رحمة الناس والبهائم / 34 - فيه: مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، أَتَيْنَا النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَظَنَّ أَنَّا اشْتَقْنَا إِلى أَهْلَنَا، وَسَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا فِى أَهْلِنَا، وَكَانَ رَفِيقًا رَحِيمًا، فَقَالَ: (ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ، فَعَلِّمُوهُمْ. . .) إلى آخر الحديث. / 35 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِى بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا، فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 218 مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِى كَانَ بَلَغَ بِى، فَنَزَلَ الْبِئْر، َفَمَلأ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، فَسَقَى الْكَلْب، َ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ لَنَا فِى الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ فَقَالَ: (نَعَمْ، فِى كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ) . / 36 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَامَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لِصَلاةٍ، وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ أَعْرَابِى - وَهُوَ فِى الصَّلاةِ -: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِى وَمُحَمَّدًا، وَلا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ لِلأعْرَابِىِّ: (لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا، يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ) . / 37 - وفيه: النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِى تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) . / 38 - وفيه: أَنَس، قَالَ: قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْ مُسْلِمٍ غَرَسَ غَرْسًا، فَأَكَلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ، إِلا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ) . / 39 - وفيه: جَرِير، قَالَ: قَالَ عليه السَّلام: (مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ) . قال المؤلف: فى هذه الأحاديث الحض على استعمال الرحمة للخلق كلهم كافرهم ومؤمنهم ولجميع البهائم والرفق بها. وأن ذلك مما يغفر الله به الذنوب ويكفر به الخطايا، فينبغى لكل مؤمن عاقل أن يرغب فى الأخذ بحظه من الرحمة، ويستعملها فى أبناء جنسه وفى كل حيوان، فلم يخلقه الله عبثًا، وكل أحد مسئول عما استرعيه وملكه من إنسان أو يهيمة لاتقدر على النطق وتبيين مابها من الضر، وكذلك ينبغى أن يرحم كل بهيمة وإن كانت فى غير ملكه، ألا ترى أن الذى سقى الكلب الذى وجده بالفلاة لم يكن له ملكًا فغفر الله له الجزء: 9 ¦ الصفحة: 219 بتكلفة النزول فيالبئر وإخراجه الماء فى خفه وسقيه إياه، وكذلك كل مافى معنى السقى من الإطعام، الا ترى قوله عليه السلام: (ما من مسلم غرس غرسًا فأكل منه إنسان أو دابة إلا كان له صدقة) . مما يدخل فى معنى سقى البهائم وإطعامها التخفيف عنها فى أحمالها وتكليفها ماتطيق حمله، فذلك من رحمتها والإحسان اليها، ومن ذلك ترك التعدى فى ضربها وأذاها وتسخيرها فى الليل وفى غير أوقات السخرة، وقد نهينا فى العبيد أن نكلفهم الخدمة فى الليل فإن لهم الليل ولواليهم النهار، والواب وجميع البهائم داخلون فى هذا المعنى. وفى قوله عليه السلام: (مامن مسلم غرس غرسًا فأكل منه إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة) دليل على أن ماذهب من مال المسلم بغير علمه أنه يؤجر عليه. وأما إنكار على الأعرابى الذى قال: اللهم ارحمنى ومحمدًا ولاترحم معنا أحدًا، بقوله: (لقد حجرت واسعًا) ولم يعجبه دعاؤه لنفسه وحده، فلأنه بخل برحمة الله على خلقه، وقد أثنى الله على من فعل خلاف ذلك بقوله: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولاتجعل فر قلوبنا غلا للذين آمنوا) وأخبر تعالى أن الملائكة يستغفرون لمن فى الأرض، فينبغى للمؤمن الاقتداء بالملائكة والصالحين من المؤمنين ليكون من جملة من أثنى الله عليه ورضى فعله، فلم يخص نفسه بالدعاء دون إخوانه المؤمنين حرصًا على شمول الخير لجميعهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 220 - باب: الوصاة بالجار وقوله عز وجل: (ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا. . (الآية / 40 - فيه: عَائِشَةَ، وَابْن عُمَر، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَا زَالَ يُوصِينِى جِبْرِيلُ بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ) . قال المؤلف: فى هذه الآية والحديث الأمر بحفظ الجار والإحسان إليه والوصاة برعى ذمته والقيام بحقوقه، ألا ترى تأكيد الله لذكره بعد الوالدين والأقربين، فقال تعالى: (والجار ذى القربى والجار الجنب) وقال أهل التفسير: (الجار ذى القربى) هو الذى بينك وبينه قرابة فله حق القرابة وحق الجوار. وعن ابن عباس وغيره: (الجار ذى القربى) أى الجار المجاور، وقيل: هو الجار المسلم، والجار الجنب: الغريب عن ابن عباس. وقيل: هو الذى لاقرابة بينك وبينه. والجنابة: البعد. (والصاحب بالجنب) الرفيق فى السفر عن ابن عباس، وعن على وابن مسعود: الزوجة. (وابن السبيل) المسافر الذى يجتاز بك مارًا عن مجاهد وغيره. - باب: إثم من لايأمن جاره بوائقه يوبقهن: يهلكهن، موبقا: مهلكا / 41 - فيه: أَبُو شُرَيْح، قَالَ: قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ الَّذِى لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 221 قال المؤلف: وهذا الحديث شديد فى الحض على ترك أذى الجار، الا ترى أنه عليه السلام أكد ذلك بقسمه ثلاث مرات أنه لاؤمن من لايؤمن جاره بوائقه، ومعناه أنه لايؤمن الإيمان الكامل، ولا يبلغ أعلى درجاته من كان بهذه الصفة، فينبغى لكل مؤمن أن يحذر أذى جاره ويرغب أن يكون فى أعلى درجات الإيمان، وينتهى عما نهاه الله ورسوله عنه، ويرغب فيما رضياه وحضا العباد عليه. وقال أبو حازم المنزى: كان اهل الجاهلية أبر بالجار منكم هذا قائلهم يقول: نارى ونار الجار واحدة وإليه قبلى القدر ماضر جارًا لى أجاوره أن لايكون لبابه ستر أعمى إذا ماجورتى برزت حتى يواري جارتى الخدر. - باب: لا تحقرن جارة لجارتها / 42 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ) . فى هذا الحديث الحض على مهاداة الجار وصلته، وإنما اشار النبى عليه السلام بفرسن الشاة إلى القليل من الهدية، لا إلى إعطاء الفرسن لأنه لافائدة فيه، وقد قال عليه السلام لأبى تميمة الهجيمى: (لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تضع من دلوك فى إناء المستقى) . وقد تقدم تفسير الفرسن فى كتاب الهبة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 222 - باب: حق الجوار فى قرب الأبواب / 43 - فيه: عَائِشَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِى جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِى؟ قَالَ: (إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا) . قد تقدم فى آخر كتاب الشفعة وفى كتاب الهبة. 30 - باب كل معروف صدقة / 44 - فيه: جَابِرِ، عَنِ النَّبِى عليه السلام قَالَ: (كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ) . / 45 - وفيه: أَبُو مُوسَى الأشْعَرِىِّ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: فَيَعْمَلُ بِيَدَيْهِ، فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ، وَيَتَصَدَّقُ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ - أَوْ لَمْ يَفْعَلْ -؟ قَالَ: فَيُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: فَيَأْمُرُ بِالْخَيْرِ - أَوْ قَالَ: بِالْمَعْرُوفِ - قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: فَيُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ، فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ) . قال المؤلف: المعروف مندوب إليه، ودل هذا الحديث أن يفعله صدقة عند الله يثبت المؤمن عليه ويجازيه به وإن قل لعموم قوله: (كل معروف صدقة) . وقوله فى حديث أبى موسى: (على كل مسلم صدقة) معناه: أن ذلك فى كرم الأخلاق وآداب الإسلام، وليس لك بفرض عليه للإجماع على أن كل فرض فى الشريعة مقدر محدود. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 223 وفي هذا الحديث تنبيه للمؤمن المعسر على أن يعمل بيده وينفق على نفسه ويتصدق من ذلك ولايكون عيالا على غيره، وقال مالك بن دينار: قرأت فى التوراة: (طوبى للذى يعمل بيده ويأكل، طوبى لمحياه، وطوبى لمماته) . وروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: يامعشر القراء خذوا طريق من كان قبلكم وارفعوا رءوسكم، ولاتكونوا عيالا على الناس. وفيه: أن المؤمن إذا لم يقدر على باب من أبواب الخير ولا فتح له فعله أن ينتقل إلى باب آخر يقدر عليه، فإن أبواب الخير كثيرة والطريق إلى مرضاه الله تعالى غير معدومة، الا ترى تفضل الله على عبده حين جعل له فى حال عجزه عن الفعل عروضًا من القول وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ثم جعل عوضًا من ذلك لمن لم يقدر الإمساك عن الشر صدقة. قال المهلب: وهذا يشبه الحديث الآخر: (من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة) . وفيه: حجة لمن جعل الترك عملاً وكسبًا للعبد بخلاف من قال من المتكلمين: إن الترك ليس بعمل، وقد بين النبى ذلك بقوله: (فليمسك عن الشر فإنه له صدقة) . 31 - باب: طيب الكلام وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ) . / 46 - فيه: عَدِىِّ، ذَكَرَ النَّبِى عليه السلام النَّارَ، فَتَعَوَّذَ مِنْهَا، وَأَشَاحَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 224 بِوَجْهِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ، فَتَعَوَّذَ مِنْهَا، وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ) . الكلام الطيب مندوب إليه وهو من جليل أفعال البر؛ لأن النبى عليه السلام جعله كالصدقة بالمال، ووجه تشبيهه على السلام الكلمة الطيبة بالصدقة بالمال هو أن الصدقة بالمال تحيا بها نفس المتصدق عليه ويفرح بها، والكلمة الطيبة يفرح بها المؤمن ويحسن موقعها من قلبه فاشتبها من هذه الجهة، الا ترى أنها تذهب الشحناء وتجلى السخيمة كما قال تعالى: (ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم) والدفع بالتى هى أحسن قد يكون بالقول كما يكون بالفعل. قال صاحب العين: أشاح بوجهه عن الشىء إذا نحاه، ورجل مشيح، وشائح، أى: حازم حذر. 32 - باب: الرفق فى الأمر كله / 47 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، قَالَتْ: عَائِشَةُ فَفَهِمْتُهَا، فَقُلْتُ: وَعَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَهْلا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأمْرِ كُلِّهِ) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (قَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ) . / 48 - فيه: أَنَس، أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُزْرِمُوهُ) ، ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 225 في هذين الحديثين أدب عظيم من أدب افسلام، وحض الرفق بالجاهل والصفح والإغضاء عنه؛ لأن الرسول عليه السلام ترك مقابلة اليهود بمثل قولهم، ونهى عائشة من الإغلاط فى ردها، وقال: مهلا ياعائشة، إن الله يحب الرفق فى جميع الأمور؛ لعموم قوله: (إن الله يحب الرفق فى الأمر كله) وإن كان الانتصار بمثل ماقوبل به المرء جائز لقوله تعالى: (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ماعليهم من سبيل) فالصبر أعظم أجرًا وأعلى درجة لقوله تعالى: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) والصبر أخلاق النبيين والصالحين، فيجب امتثال طريقتهم والتآسى بهم وقرع النفس عن المغالبة رجاء ثواب الله على ذلك وكذلك رفق النبى بالأعرابى الجاهل حين بال فى المسجد المعظم الذى الصلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وأمر أن لايهاج حتى يفرغ من بوله تأنيسًا له ورفقًا به، فدل ذلك على استعمال الرفق بالجاهل - فإنه بخلاف العالم - وترك اللوم له والنثريب عليه. وقال أبو عبيد: قال الأصمعى: الإزرام: القطع، يقال للرجل إذا قطع بوله: قد أزرمت بولك، وأزرمه غيره: قطعه، وزرم البول نفسه. قال الشاعر: أو كماء المثود بعد جمام زرم الدمع لايئوب نزورا والمثمود: الذى قد ثمده الناس أى: ذهبوا به فلم يبق منه إلا قليل، والجمام: الكثير. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 226 قال صاحب العين: زرم البول والدمع: انقطع. وزرم السنور والكلب زرمًا إذا بقى جعره فى دبرة فهو أزرم. 33 - باب: تعاون المؤمنين بعضهم بعضا / 49 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. . . .) الحديث. قال المؤلف: تعاون المؤمنين بعضهم بعضًا فى أمور الدنيا والآخرة مندوب إليه بهذا الحديث، وذلك من مكارم الأخلاق، وقد جاء فى حديث آخر عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (الله فى عون العبد ما دام العبد فى عون أخيه) فينبغى للمؤمنين استعمال آدب نبيهم والاقتداء بما وصف المؤمنين بعضهم لبعض من الشفقة والنصيحة، وتشبيكه بيه اصابعه تاكيدًا لقوله وتمثيلا لهم كيف يكونون فيما خولهم من ذلك. وفيه: أن العالم إذا أراد المبالغة فى البيان أنه يمثل لهم معنى أقواله بحركاته وسيأتى شىء من الكلام فى معنى هذا الحديث فى باب الحب فى الله بعد هذا - إن شاء الله تعالى. 34 - باب: قول الله تعالى: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها / 50 - فيه: أَبُو مُوسَى، أن النَّبِى عليه السلام كَانَ إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ، أَوْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 227 صَاحِبُ الْحَاجَةِ، قَالَ: (اشْفَعُوا، فَلْتُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ) . قال المؤلف: فى هذا الحديث الخص على الشفاعة للمؤمنين فى حوائجهم، وأن الشافع مأجور وإن لم يشفع فى حاجته، وقال أهل التأويل فى قوله تعالى: (من يشفع شفاعة حسنة) يعنى فى الدنيا (يكن له نصيب منها) فى الآخرة. وقال مجاهد وغيره: نزلت هذه الآية فى شفاعة الناس بعضهم لبعض. وقد قيل فى الاية أقوال أخر، قيل: الشفاعة الحسنة: الدعاء للمؤمنين، والسيئة: الدعاء عليهم، وكانت اليهود تدعو عليهم. وقيل: هو فى قول اليهود: السام عليكم. وقيل: معناه من يكن شفيعًا لصاحبه فى الجهاد يكن له نصيبه من الأجر. ومن يكن شفيعًا لآخر فى باطل يكن له نصيبه من الوزر. والكفل: الوزر والإثم عن الحسن وقتادة. والقول الأول اشبه بالحديث وأولاها بتأويل الآية. 35 - باب لم يكن النبى عليه السلام فاحشا ولا متفحشا / 51 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَنَّهُ ذَكَر النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلا مُتَفَحِّشًا. / 52 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ يَهُودَ أَتَوُا النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَتْ: عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ: (مَهْلا يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ) ، قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 228 مَا قَالُوا؟ قَالَ: (أَوَلَمْ تَسْمَعِى مَا قُلْتُ، رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِى فِيهِمْ، وَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِىَّ) . / 53 - وفيه: أَنَس، قَالَ: لَمْ يَكُنِ النَّبِى عليه السلام سَبَّابًا، وَلا فَحَّاشًا، وَلا لَعَّانًا كَانَ يَقُولُ لأحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتِبَةِ: (مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ) . / 54 - وفيه: عَائِشَةَ: أَنَّ رَجُلا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: (بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ، وَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ) ، فَلَمَّا جَلَسَ، تَطَلَّقَ النَّبِى عليه السلام فِى وَجْهِهِ، وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ، قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ، قُلْتَ: لَهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِى وَجْهِهِ، وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَتَى عَهِدْتِنِى فَحَّاشًا؟ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ) . قال الطبرى: الفاحش: البذىء اللسان، وأصل الفحش عند العرب فى كل شىء خروج عن مقداره وحده حتى يستقبح، ولذلك يقال للرجل المفرط الطول الخارج عن طول الناس المستحسن: فاحش الطول، يراد به قبيح الطول غير أن أكثر ما استعمل ذلك فى الانسان إذا وصف بشىء فالأغلب أن معناه فاحش منطقه، بذىء لسانه، ولذلك قيل للزنا فاحشة لقبحة وخروجه عما أباحه الله لخلقه. وقد قيل فى قوله تعالى: (والذين إذا فعلوا فاحشة) معناه والذين إذا زنوا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 229 قال المؤلف: والفحش والذاء مذموم كله، وليس من أخلاق المؤمنين. وقد روى مالك عن يحى بن سعيد أن عيسى ابن مريم لقى خنزيرًا فى طريق فقال له: أنفذ بسلام فقيل له: تقول هذا لخنزيرًا فقال عيسى ابن مريم: إنى أخاف أن أعود لسانى المنطق السوء. فيبغى لمن الهمه الله رشه أن يجنبه ويعود لسانه طيب القول ويقتدى فى ذلك بالآنبياء - عليهم السلام - فهم الأسوة الحسنة. وفى حديث عائشة أنه لاغيبة فى الفاسق المعلن وإن ذكر بقبيح أفعاله. وفيه: جواز مصانعه الفاسق وإلانه القول لمنفعة ترجى منه، وهذا ابن العشيرة هو عيينه بن بدر الفزارى وكان سيد قومه، وكان يقال له: الأحمق المطاع، رجا النبى عليه السلام بإقباله عليه أن يسلم قومه، كما رجا حين أقبل على المشرك وترك حديثه مع ابن مكتوم الأعمى، فأنزل الله تعالى: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى) وإنما أقبل عليه يحدثه رجاء أن تسلم قبيلته بإسلامه. وسأذكر فى باب المدارة مع الناس فى الجزء الثانى من الأدب زيادة فى هذا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 230 36 - باب: حسن الخلق والسخاء ومايكره من البخل وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِى عليه السلام أَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِى رَمَضَانَ. وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَمَّا بَلَغَهُ مَبْعَثُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) لأخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِى، فَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ، فَرَجَعَ، فَقَالَ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأخْلاقِ. / 55 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِى عليه السلام أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ. . . الحديث. / 56 - وفيه: جَابِر، مَا سُئِلَ النَّبِى عليه السلام عَنْ شَىْءٍ قَطُّ، فَقَالَ: لا. / 57 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو لَمْ يَكُنْ النَّبِىّ عليه السلام فَاحِشًا، وَلا مُتَفَحِّشًا، وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقًا) . / 58 - وفيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السلام، بِبُرْدَةٍ - وهِىَ شَمْلَةٌ مَنْسُوجَةٌ - فَقَالَ رَجُل: مَا أَحْسَنَ هَذِهِ، فَاكْسُنِيهَا؟ فَقَالَ: (نَعَمْ) ، فَلَمَّا قَامَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) لامَهُ أَصْحَابُهُ، قَالُوا: مَا أَحْسَنْتَ أَخَذَهَا النَّبِى عليه السلام مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لا يُسْأَلُ شَيْئًا فَيَمْنَعَهُ. . . الحديث. / 59 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (َتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ، وَهو الْقَتْلُ) . / 60 - وفيه: أَنَس، خَدَمْتُ النَّبِى عليه السلام عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِى: أُفٍّ، وَلا لِمَ صَنَعْتَ، وَلا أَلا صَنَعْتَ. قال المؤلف: حسن الخلق من صفات النبيين والمرسلين وخيار الجزء: 9 ¦ الصفحة: 231 المؤمنين، وكذلك السخاء من أشرف الصفات؛ لأن الله تعالى سمى نفسه بالكريم الوهاب. وأما البخل فليس من صفات الأنبياء ولا الجلة الفضلاء، ألا ترى قول الرسول يوم حنين: (لو كان عندى عدد سمر تهامة نعمًا لقسمته بينكم ثم لا تجدونى بخيلاً) . وقال ابن مسعود: لاداء أدوى من البخل، وكان أبو حنيفة لايجيز شهادة البخيل، فقيل له فى ذلك: أنه يتقصى ويحمله التقصى على أن يأخذ فوق حقه. وقال الطبرى: إن قال قائل: وجه قوله (صلى الله عليه وسلم) : (خياركم أحسانكم أخلاقًا) وهل الأخلاق مكتسبة فيتخر العبد منها أحسنها ويترك اقبحها؟ فإن كان ذلك كذلك فما وجه قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم كما حسن خلقى فحسن خلقى) ومسألته عليه السلام ما سأل ربه من ذلك بتحسين خلقه،، وأنت عالم أنه لا يحسن خلق العبد غير ربه، فإذا كان الخلق فعلاً له لم يكن له أيضًا محسن غيره، وفى ذلك بطلان حمد العبد عليه إن حسنًا وترك ذمه إن كان سيئًا، فإن قلت ذلك كذلك قيل لك ما وجه قوله عليه السلام: (أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وإن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم) وقد علمناه أن العبد إنما يثاب على مااكتسب لا على ماخلق له من أعضاء جسده؟ . قيل: قد اختلف فى ذلك: فقال بعضهم: الخلق حسنة وقبيحه جبله فى العبد كلونه وبعض أجزاء جسمه. ذكر من قال ذلك: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 232 روي عن ابن مسعود أنه ذكر عنده رجل فذكروا من خلقه فقال: أرأيتم لو قطعوا راسه أكنتم تستطيعون أن تجعلوا له رأسًا؟ قالوا: لا. قال: فلو قطعتم يده أكنتم تجعلون له يدًا؟ قالوا: لا، قال: فإنكم لن تستطيعوا أن تغيروا خلقه حتى تغيروا خلقه. وقال ابن مسعود: فرغ من اربعة: الخلق والخلق والرزق والأجل. وقال الحسن: من أعطى حسن صورة وخلقًا وزوجة صالحة فقد اعطى خير الدنيا والآخرة. واعتلوا بما رواه الهمدانى: كان ابن مسعود يحدث عن النبى عليه السلام قال: (إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم) قالوا: فهذا الحديث يبين أن الأخلاق من إعطاء الله عباده، ألا ترى تفاوتهم فيه كتفاوتهم بالجبن والشجاعة والبخل والجود، ولو كان الخلق اكتسابًا للعبد لم تختلف أحوال الناس فيه ولكن ذلك غريزة. فإن قيل: فإن كان كذلك فما وجه ثواب الله على حسن الخق إن كان غريزة؟ . قيل له: لم يثبت على خلقه ما خلق، وإنما أثابه على استعماله ما خلق فيه من ذلك فيما أمره باستعماله فيه، نظير الشجاعة التى خلقها فيه وأمره باستعمالها عند لقاء عدوه وأثابه على ذلك، وإن استعملها فى غير لقاء عدوه عاقبه على ذلك، فالثواب والعقاب على الطاعة والمعصية لا هى ما خلق فى العبد. وقال آخرون: أخلاق العبد حسنها وسيئها إنما هى من كسبه واختياره فيحمد على الجميل منها، ويثاب على ماكان منها طاعة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 233 ويعاقب على ماكان منها معصية، ولولا أنها للعبد كسب لبطل الأمر به والنهى عنه، وفى قول النبى عليه السلام لمعاذ: (اتق الله حيثما كنت، وخالق الناس بخلق حسن) البيان عن صحة ما قلناه؛ لأن ذلك لو كان طبعًا فى العبد هيأه الله عليه لاستحال الأمر به والنهى عن خلافه، كاستحالة أمر من لابصر له بأن يكون له بصر، فلذلك كان الحكماء يوصون بالحسن منه. وروى ابن عيينه، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال:: قال لى عمر بن الخطاب: يا قبيصة، أراك شابًا فصيح اللسان فسيح الصدر، وقد يكون فى الرجل عشرة أخلاق تسعة صالحة وخلق سيىء فيفسد التسعة الصالحة الخلق السيىء، فاتق عثرات الشباب. وقال الشعبى: قال صعصعة بن صوحان لابن أخية زيد بن صوحان: خالص المؤمن وخالق الفاجر، فإن الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن. 37 - باب: كيف يكون الرجل فى أهله / 61 - فيه: عَائِشَةَ سُئلت مَا كَانَ النَّبِى عليه السلام يَصْنَعُ فِى أَهْلِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ فِى مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ قَامَ إِلَى الصَّلاةِ. قال المؤلف: أخلاق النبيين والمرسلين عليهم السلام التواضع والتذلل فى افعالهم، والبعد عن الترفه والتنعم، فكانوا يمتهنون أنفسهم فيما يعن لهم ليسنوا بذلك، فيسلك سبيلهم وتقتفى آثارهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 234 وقول عائشة: (كان فى مهنة أهله) يدل على دوام ذلك من فعله متى عرض له ما يحتاج إلى إصلاحه؛ لئلا يخلد إلى الدعة والرفاهية التى ذمها الله وأخبر أنها من صفات غير المؤمنين فقال تعالى: (فذورنى والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا (. روى سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: (أنه سالها: ماكان عمل رسول الله فى بيه؟ قالت: يخصف النعل ويرقع الثوب) . وقال فى حديث آخر: (أما أنا فأتتزر بالكساء وأجلس بالأرض وأحلب شاة أهلى) . وقال ابن مسعود: إن الأنبياء من قبلكم كانوا يلبسون الصوف ويركبون الحمر ويحلبون الغنم. وهذه كانت سيرة سلف هذه الأمة. وسيأتى فى آخر كتاب الرقائق فى باب التواضع كثير من سيرتهم فى ذلك، إن شاء الله تعالى. 38 - باب الْمِقَةِ من الله / 62 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِى عليه السلام قَالَ: (إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِى جِبْرِيلُ فِى أَهْلِ السَّمَاءِ؛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِى أَهْلِ الأرْضِ) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 235 قوله: (ثم يوضع له القبول فى الأرض) يريد المحبة فى الناس، وقال بعض أهل التفسير فى قوله تعالى: (وألقيت عليك محبة مني) أى حببتك إلى عبادى، وقال ابن عباس فى قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودًا) قال: يحبهم ويحببهم إلى الناس. روى مالك حديث أبى هريرة، عن سهيل، عن أبيه، عن أبى هريرة وقال فيه مالك: لا أحسبه إلا قال فى البغض مثل ذلك. فدلت زيادة مالك فى هذا الحديث على خلاف ماتقوله القدرية أن الشر من فعل العبد وليس بخلق الله، وبان أن كل شىء من خير وشر ونفع وضر من خلق الله لا خالق غيره، تعالى عما يشركون. 39 - باب الحب فى الله / 63 - فيه: أَنَس، قال النَّبِى عليه السَّلام: (لا يَجِدُ أَحَدٌ حَلاوَةَ الإيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَحَتَّى أَنْ يُقْذَفَ فِى النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ، وَحَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا) . قال المؤلف: صفة التحاب فى الله تعالى أن يكون كل واحد منهما لصاحبه فى تواصلهما وتحابهما بمنزلة نفسه فى كل مانابه، كما روى الشعبى عن النعمان بن بشير قال: سمعت النبى عليه السلام يقول: (مثل المؤمنين مثل الجسد إذا اشتكى منه شىء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 236 تداعي له سائر الجسد) وكقوله عليه السلام: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) . وروى شريك بن أبى نمر عن أنس قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (المؤمن مرآة المؤمن) ورواه عبد الله بن أبى رافع عن أبى هريرة، عن النبى عليه السلام وزاد فيه: (إذا رأى فيه عيبًا أصلحه) . قال الطبرى: فالأخ فى الله كالذى وصف به رسول الله المؤمن للمؤمن وأن كل واحد منهما لصاحبه بمنزلة الجسد الواحد؛ لأن ماسر أحدهما سر الآخر وماسء أحدهما ساء الآخر، وأن كل واحد منهما عون لصاحبه فى أمر الدنيا والآخرة كالبنيان يشد بعضه بعضًا وكالمرآة له فى توقيفه إياه على عيوبه ونصيحته له فى المشد والمغيب وتعريفه إياه من خطة ومافيه صلاحه ما يخفى عليه، وهذا النوع من الإخوان فى زماننا كالكبريت الأحمر، وقد قيل هذه قبل هذا الزمان؛ كان يونس بن عبيد تقول: ما أنت بواجد شيئًا أقل من أخ فى الله صادق أو درهم طيب. فإن قال قائل: فأخبرنا عن الحب فى الله والبغض فيه أواجب هو أم فضل؟ قيل: بل واجب، هو قول مالك. فإن قيل: وما الدليل على ذلك؟ قيل: مارواه الأعمش عن أبى صالح، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (والذى نفسى بيده لاتدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على أمر إذا فعلتموه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 237 تحاببتم، افشوا السلام بينكم) وما أمرهم النبي فعليهم العمل به. ألا ترى أن أقسم عليه السلام جهد النية أن الناس لن يؤمنوا حتى يتحابوا ولن يدخلوا الجنة حتى يؤمنوا. فحق على كل ذى لب أن يخلص المودة والحب لأهل افيمان؛ فقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أن الحب فى الله والبغض فى الله من أوثق عرى الإيمان) ، من حديث ابن مسعود والبراء. وروى عن ابن مسعود قال: (أوحى الله إلى نبى من الأنبياء ان قل لفلان الزاهد: أما زهدك فى الدنيا فتعجلت به راحة نفسك وأما انقطاعك إلى فقد تعززت بى، فماذا عملت فيما لى عليك؟ قال: يارب وما لك على؟ قال: هل واليت فى وليًا أو عاديت فى عدوًا) ؟ . 40 - باب قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم (الآية (1 / 64 - فيه: عَبْدِاللَّهِ ابْنِ زَمْعَةَ، نَهَى النَّبِى عليه السلام أَنْ يَضْحَكَ الرَّجُلُ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الأنْفُسِ، وَقَالَ: (بِمَ يَضْرِبُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ ضَرْبَ الْفَحْلِ، أَوِ الْعَبْدِ، ثُمَّ لَعَلَّهُ يُعَانِقُهَا) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 238 / 65 - فيه: وَقَالَ ابْن عُمَر:، قال النَّبِى عليه السلام بِمِنًى: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا) . قال المؤلف: قال أهل التفسير فى قوله تعالى: (لا يسخر قوم من قوم) لا يطعن بعضكم على بعض. وقال: لا يستهزى قوم بقوم (عسى أن يكونوا خير منهم) عند الله، ومن هذا المعنى نهيه عليه السلام أن يضحك مما يخرج من الأنفس: الأحداث الناقصة للوضوء؛ لأن الله تعالى سوىّ بين خلقه الأنبياء وغيرهم فى ذلك فقال تعالى فى مريم وعيسى - عليهما السلام -: (كانا يأكلان الطعام) كناية عن الغائط، ومن المحال أن يضحك أحد من غيره أو يعيره بما أتى هو مثله ولاينفك منه. وقد حرم الله تعالى عرض المؤمن كما حرم دمه وماله فلا يحل الهزء والسخرة بأحد، واصل هذا إعجاب المرء بنفسه وازدراء غيره، وكان يقال: من العجب ان ترى لنفسك الفضل على الناس وتمقتهم ولاتمقت نفسك. وقد روى ثابت عن أنس أن النبى عليه السلام قال: (لو لم تكونوا تذنبون لخشيت عليكم ماهو أكبر من ذلك: العجب العجب) وقال مطرف: لأن أبيت نائمًا وأصبح نادمًا أحب إلى من أن أبيت قائمًا واصبح معجبًا. وقال خالد الربعى: فى اإنجيل مكتوب: المستكبر على أخيه بالدين بمنزلة القاتل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 239 41 - باب: ما ينهى عنه من السباب واللعن / 66 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قال: قال النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (سِبَابُ الْمُؤمن فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ) . / 67 - وفيه: أَبُو ذَرٍّ، سَمِعَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لا يَرْمِى رَجُلٌ رَجُلا بِالْفُسُوقِ، وَلا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ، إِلا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ) . / 68 - وفيه: أَنَس، قَالَ: لَمْ يَكُنْ النَّبِىّ عليه السلام فَاحِشًا، وَلا لَعَّانًا، وَلا سَبَّابًا، كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ: (مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ) . / 96 - وفيه: ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام قَالَ: (مَنْ حَلَفَ عَلَى مِلَّةٍ غَيْرِ الإسْلامِ، فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ لَعَنَ مُؤْمِنًا فَهُوَ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ) . / 70 - وفيه: سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ، اسْتَبَّ رَجُلانِ عِنْدَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَغَضِبَ أَحَدُهُمَا، فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى انْتَفَخَ وَجْهُهُ وَتَغَيَّرَ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى لأعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِى يَجِدُ) ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ، فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ: (تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرجيم، فَقَالَ: أَتُرَى بِى بَأْسٌ؟ أَمَجْنُونٌ؟ أَنَا اذْهَبْ. / 71 - فيه: عُبَادَة، خَرَجَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لِيُخْبِرَ النَّاسَ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاحَى رَجُلانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ عليه السَّلام: (خَرَجْتُ لأخْبِرَكُمْ بِهَا، فَتَلاحَى فُلانٌ وَفُلانٌ، وَإِنَّهَا رُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا. . . .) الحديث. / 72 - وفيه: أَبُو ذَرّ، قَالَ: كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَ رَجُلٍ كَلامٌ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 240 فَنِلْتُ مِنْهَا، فَذَكَرَنِى إِلَى النَّبِى عليه السلام فَقَالَ لِى: (أَسَابَبْتَ فُلانًا) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ) . . . الحديث. قال المؤلف: سباب المسلم فسوق؛ لأن عرضه حرام كتحريم دمه وماله، والفسوق فى لسان العرب: الخروج من الطاعة، فينبغى ببمؤمن أن لايكون سبابًا ولا لعنًا للمؤمنين ويقتدى فى ذلك بالنبى عليه السلام لأن السب سب الفرقة والبغضة، وقد من الله على المؤمنين بما جمعهم عليه من الفة افسلام فقال: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فالف بين قلوبكم) الآية، وقال: (إنما المؤمنون إخوة) فكما لا ينبغى سب أخيه فى النسب كذلك لاينبغى سب أخيه فى الإسلام ولا ملاحاتة. إلا ترى أن الله تعالى رفع معرفة ليلة القدر عن عباده وحرمهم علمها عقوبة لتلاحى الرجلين بحضرة النبى - عليه السلام. قال عليه السلام لأبى ذر لما سب الرجل الذى أمه أعجمية: (إنك أمرؤ فيك جاهلية) . وهذا غاية فى ذم السب وتقبيحة؛ لأن أمور الجاهلية حرام منسوخة بالإسلام، فوجب على كل مسلم هجرانها واجتنباها، وكذلك الغضب هو من نزعات الشيطان فينبغى للمؤمن مغالبة نفسه عليه والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم فإن ذلك دواء للغضب، لقوله عليه السلام: (إنى لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الذى يجد) يعنى التعوذ بالله من الشيطان. وأما قوله: (وقتاله كفر) فمعناه التحذير له عن مقاتلة ومشادته والتغليظ فيه، يراد به: كالكفر فلا يقاتله وهذا كما يقال: الفقر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 241 الموت، أي كالموت، ونظير هذا قوله عليه السلام: (كفر بالله من انتفى من نسب وإن دق وادعى نسبًا لا يعرف) ولم يرد أن من انتفى من نسبه أو أدعى غير نسبه كان كافرًا خارجًا عن الإسلام، ومثله فى الكلام كثير، وقد تقدم فى باب خوف المؤمن أن يحبط عمله فى كتاب الإيمان وكذلك تقدم معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لعن المؤمن كقتله) فى كتاب الإيمان والنذور. وقوله عليه السلام: (ترب جبينه) معناه أصابه التراب ولم يرد الدعاء على مافسره أبو عمرو السيبانى فى قوله عليه السلام: (تربت يمينك) . 42 - باب ما يجوز من ذكر الناس نحو قولهم الطويل والقصير وَقَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ) ؟ ، وَمَا لا يُرَادُ بِهِ شَيْنُ الرَّجُلِ. / 73 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ. . . الحديث. . . وَكَانَ فِى الْقَوْمِ رَجُلٌ كَانَ النَّبِى عليه السلام يَدْعُوهُ ذَا الْيَدَيْنِ، فَقَالَ: صَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ. . . الحديث. قال المؤلف: اختلف أهل التأويل فى قوله تعالى: (ولا تنابزوا بالألقاب) فروى الأعمش عن أبى جبيرة بن الضحاك قال: (كان أهل الجاهلية لهم الألقاب، للرجل منهم الاسمان والثلاثة، فدعا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 242 النبي عليه السلام رجلا منهم بلقبه فقالوا: يارسول الله، إنه يكره ذلك) ، فنزلت الآية. وروى عن ابن مسعود والحسن وقتادة وعكرمة، أن اليهودى والنصرانى كان يسلم قيلقب به، فيقال: يا يهودى، يا نصارانى، فنهوا عن ذلك، ونزلت الآية. وعو ابن عيينه: لاتقل: كان يهوديًا ولا مشركًا. قال الطبرى: وقد رأى قوم من السلف أن وصف الرجل غيره بما فيه من الصفة غيبة له، قال شعبة: سمعت معاوية بن قرة يقول: لو مر بك أقطع فقلت: ذاك الأقطع، كانت منك غيبة. وعن الحسن: ألا تخافون أن يكون قولنا: حميد الطويل غيبة؟ وكان قتادة يكره أن يقال: كعب الأحبار، وسلمان الفارسي؛ ولكن كعب المسلم وسلمان المسلم، وروى سليمان الشيبانى، عن حسان ابن المخارق (أن امرأة دخلت على عائشة فلما قامت لتخرج أشارت عائشة بيدها إلى النبى عليه السلام أنها قصيرة، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : اغتبتها) . وروى موسى بن وردان عن أبىهريرة (أن رجلاً قام عند النبى فرأو فى قيامه عجزًا، فقالوا: يا رسول الله، ما أعجز فلانًا قال رسول الله: أكلتم أخاكم واغتبتموه) . قال الطبرى: وإنما يكون ذلك غيبة من قائله إذا قاله على وجه الذم والعيب للمقول فيه وهو له كاره، وعن مثل هذا ورد النهى، وأما إذا قاله على وجه التعريف والتميز له من سائر الناس كقولهم: يزيد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 243 الرشك، وحميد الأرقط، والأحنف بن قيس، والنسبية إلى الأمهات: كإسماعيل ابن علية وابن عائشة، فإن ذلك بعيد من معنى الغيبة ومن مكروه ماورد به الخبر. قال المؤلف: ويشد لصحة هذا قصة ذى اليدين، ويبين أن معنى النهى عن التنابز بالألقاب فى الآية أن يراد به عيب الرجل وتنقصه. قوله عليه السلام: (أصدق ذو اليدين) فعرفه بطول يديه ولم يذكر اسمه، ولو لم يجز ذلك ما ذكره النبى عليه السلام ولهذا استجاز العلماء ذكر العاهات لرواة الحديث، وروى أبو حاتم الرازى، حدثنا عبده قال: سل ابن المبارك عن الرجل يقول: حميد الطويل، وسليمان الأعمش، وحميد الأعرج، ومروان الأصفر. فقال عبد الله: إذا أراد صفته ولم يرد غيبته فلا باس به. وسئل عبد الرحمن بن مهدى عن ذلك. فقال: لا أراه غيبة، ربما سمعت شعبة يقول ليحى بن سعيد: ياأحول، ما تقول؟ يا أحول، ما ترى؟ ذكره ابن الفوطى فى كتاب الألقاب. 43 - باب: الغيبة وقوله تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضا ( / 74 - فيه: ابْن عَبَّاس، مَرَّ النَّبِىّ عليه السلام عَلَى قَبْرَيْنِ، فَقَالَ: (إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِى كَبِيرٍ، أَمَّا هَذَا فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَأَمَّا هَذَا فَكَانَ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ) . قال المؤلف: الغيبة قد فسرها النبى عليه السلام فى مرسل مالك عن الوليد بن عبد الله بن صياد (أن المطلب بن عبد الله بن حنطب أخبره الجزء: 9 ¦ الصفحة: 244 أن رجلاً سأل النبى عليه السلام ما الغيبة؟ قال: أن تذكر من المرء ما يكره أن تسمع وإن كان حقًا، فإن قلت باطلا فذلك البهتان) . وترجم البخارى باب الغيبة وذكر فيه حديث النميمة إذ هى فى معنى الغيبة لكراهية المرء أن يذكر عنه بظهر الغيب، فأشتبها من هذه الجهة والغيبة المحرمة عند أهل العلم فى اغتياب أهل الستر من المؤمنين ومن لايعلن بالمعاصى، فأما من جاهز بالكبائر فلا غيبة فيه، وروى عبد الرزاق عن معمر، عن زيد بن اسلم قال: إنما الغيبة فيمن لم يعلن بالمعاصى. وسأذكر غيبة أهل المعاصى فى باب مايجوز من اغتياب أهل الفساد، والغيبة من الذنوب العظام التى تحبط الأعمال. روى عن الرسول أنه قال: (الغيبة تاكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) . وقد قيل: أنها تفطر الصائم بإحباط أجره، وقد تأول بعض أهل العلم فى قوله عليه السلام: (أفطر الحاجم والمحجوم) أنهما كانا يغتابان على ما تقدم فى باب الصيام، ولذلك قال النخعى: ماأبالى اغتبت رجلا أم شربت ماء بارًا فى رمضان. وعنه عليه السلام أنه قال: (ما صام من ظل يأكل لحوم الناس) . ولعظيم وزر الغيبة وكثرة ماتحبط من الأجر كف جماعة من العلماء عن اغتياب جميع الناس حتى لقد روى عن ابن المبارك أنه قال: لو كنت مغتابًا أحدًا لاغتبت والدي؛ لأنهما أحق الناس بحسناتى. وقال رجل لبعض السلف: إنك قلت فيّ. قال: أنت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 245 إذا أكرم على من نفسى؟ وقيل للحسن البصرى: إن فلانًا اغتابك، فبعث إليه طبقًا من الطرفّ، وقال: بلغنى أنك أهديت إلى حسناتك فأردت أن أكافئك بها. والآثار فى التشيد فيها كثيرة، وقد جاء حديث شريف فى أجر من نصر اغتيب عنده. روى عبد الرزاق، عن معمر، عن أبان، عن أنس: قال رسول الله: (من اغتيب عنده أخوه المسلم فنصره نصره الله فى الدنيا والآخرة، وإن لم ينصره أدركه الله به الدنيا والآخرة) . 44 - باب: ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب / 75 - وفيه: عَائِشَةَ، اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (ائْذَنُوا لَهُ، بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ، أَوِ ابْنُ الْعَشِيرَةِ) ، فَلَمَّا دَخَلَ أَلانَ لَهُ الْكَلامَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ الَّذِى قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْكَلامَ، قَالَ: (أَىْ عَائِشَةُ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ، أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ، اتِّقَاءَ فُحْشِهِ) . قال المؤلف: هذا الحديث اصل فى جواز اغتياب أهل الفساد، ألا ترى قوله للرجل: (بئس أخو العشيرة) ؟ وإنما قال ذلك عليه السلام لما قد صح عنده من شره؛ لقوله عليه السلام فى آخر الحديث: (إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشة) وسيأتى معنى ذلك الكلام فى باب لم يكن النبى عليه السلام فاحشًا ولا متفحشًا. روى ابن وضاح، عن محمد بن المصفى حدثنا بقية بن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 246 الوليد، عن الربيع بن يزيد، عن أبان، عن أنس، عن النبى عليه السلام قال: (من خلع جلباب الحياء فلا غيبة فيه) وفسره ابن سعدان قال: معناه من عمل عملا قبيحًا كشفه للناظرين، ولم يرع وقوفهم عليه فلا باس بذكره عنه من حيث لايسمع؛ لأنه كمن أذن فى ذلك لكشفه عن نفسه، فأما من استتر بفعله فلا يحل ذكره لمن رآه؛ لأنه غير آذن فى ذكره وإن كان كافرًا. وقد سئل وهب عن غيبة النصرانى، فقال: لا وقولوا للناس حسنًا وهو من الناس (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه) فجعل هذا لهم مثلا. وفى الحديث: (اذكروا الفاسق بما فيه كى يحذروه الناس) . قال ابن أبى زيد: يقال: لاغيبة فى أمير جائز ولاصاحب بدعة يدعو إليها، ولافيمن يشاور فى إنكاح أو شهادة ونحو ذلك، وقد قال الرسول عليه السلام لفاطمة بنت قيس حين شاورته فيمن خطبها إلى معاوية: (إن معاوية صعلوك لا مال له) وكذلك رأى الأئمة أن يقبل قوله من أهل الفضل ويجوز له أن يبين له أمر من يخاف أن يتخذ إمامًا فيذكر مافيه من كذب أو غيره مما يوجب ترك الراوية عنه، وكان شعبه يقول: اجلس بنا نغتاب فى الله. 45 - باب: قول النبى (صلى الله عليه وسلم) خير دور الأنصار / 76 - فيه: أَبُو أُسَيْد، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (خَيْرُ دُورِ الأنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ) . قال المهلب: ترجم له باب خير دور الأنصار وأدخل فيه: (خير الجزء: 9 ¦ الصفحة: 247 الأنصار بنو النجار) وإنما أراد عليه السلام بقوله: (خير دور الأنصار) أهل الدور كما قال تعالى: (واسأل القرية) (والعير) وهو يريد أهلها، وقد جاء هذا الحديث فى غير هذا الموضع: (خير دور الأنصار بنو النجار) . وقال ابن قتيبة: الدور فى هذا الحديث القبائل، ويدل على ذلك الحديث الآخر: (ما بقى دار إلا بنى فيها مسجد) ما بقيت قبيلة. قال المهلب: وإنما استوجب بنو النجار الخير فى هذا الحديث لمساعتهم إلى الإسلان، وقد بينه النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إنما بايعك سراق الحجيج من طيىء وأسلم وغفار) - يريد تهجين هذه القبائل الضعيفة القليلة العدد - المسارعة إليك لقتلها وضعفها لتكثر بك وبأصحابك ولتعز من ذلتها، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أرأيت إن كان أسلم وغفار وزينة خيرًا من بنى يتميم) يريد بمسارعتها إلى الإسلام، فاستوجب بذلك ماأثنى الله عليها فى القرآن فى قوله: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) الآية، فكذلك استوجب بنو النجار بالمساعرة إلى افسلام من الخيرية ما لم يستوجبه بنو عبد الشهل المتبطئون بالإسلام. قال المؤلف: فإن قال قائل: مامعنى دخول هذا الحديث فى أبواب الغيبة؟ قيل: معناه بين فى ذلك، وهو أنه يدل على أنه يجوز للعالم أن يفاضل بين الناس وينبه على فضل الفاضل ونقص من لا يلحق بدرجته فى الفضل، ولايكون ذلك من باب الغيبة كما لم يكن ذكر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 248 النبي (صلى الله عليه وسلم) لغير بنى النجار أنهم دون بنى النجار فى الفضل من باب الغيبة ومثل هذا اتفاق المسلمين من أهل السنة أن أبا بكر أفضل من عمر، وليس ذلك غيبة لعمر ولا نقصًا له، ولذلك جاز لابن معين وغيره من ائمة الحديث تجريح الضعفاء وتبين أحوالهم خشية التباس أمرهم على العامة واتخاذهم أئمة وهو غير مستحقين للإمامة. 46 - باب النميمة من الكبائر / 77 - فيه: وذكر حديث ابن عباس فى صحابى القبرين اللذين كان يعذبان، وقد تقدم فى باب الكبائر فى أول هذا الجزء فأغنى عن إعادته. 47 - باب: ما يكره من النميمة وقوله تعالى: (هماز مشاء بنميم (وقوله: (ويل لكل همزة لمزة ( (يهمز) ويلمز ويعيب (واحد) / 78 - فيه: حُذَيْفَةَ، سَمِعْتُ النَّبِى عليه السلام يَقُولُ: (لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ) . قال أهل التأويل: الهماز الذى يأكل لحوم الناس، ويقال: هم المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة، الباغون للبراء العيب. والقتات: النمام عند أهل اللغة، وقوله عليه السلام: (لا يدخل الجنة قتات) معناه: إن أنفذ الله عليه الوعيد؛ لأن أهل السنة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 249 مجمعون أن الله تعالى فى وعيده لعصاة المؤمنين بالخيار، إن شاء عذبهم وإن شاء عفا عنهم. وقد فرق أهل اللغة بين النمام والقتات، فذكر الخطابى أن النمام الذى يكون مع القوم يتحثون فينم حديثهم، والقتات: الذى يتسمع على القوم وهو لايعملون ثم ينم حديثهم، والقساس: الذى يقس الأخبار، أى يسأل عنها ثم ينثرها على أصحابه. 48 - باب قوله تعالى: (واجتنبوا قول الزور ( / 79 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) . قال المؤلف: قول الزور هو الكذب، وهو محرم على المؤمنين، وهذا الحديث فى شاهد الزور تغليظ شديد ووعيد كبير، ودل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه) على أن الزور يحبط أجر الصائم، وأن من نطق به فى صيامه كالآكل الشارب عند الله تعالى فى الإثم، فينبغى تجنيبه والحذر منه لإحباطه للصيام الذى أخبر النبى عليه السلام عن اله تعالى أنه قال فيه: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فأنه لى وأنا أجزى به) فما ظنك بسيئة غطت على هذا الفضل الجسيم والثواب العظيم؟ . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 250 49 - باب ما قيل فى ذى الوجهين / 80 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (تَجِدُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِى يَأْتِى هَؤُلاءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ) . يريد أنه يأتى إلى كل قوم بما يرضيهم كان خيرًا أو شرًا، وهذه هى الماهنة المحرمة، وإنما سمى ذو الوجهين مداهنًا؛ لأنه يظهر لأهل المنكر أنه عنهم راض فيلقاهم بوجه سمح بالترحيب والبشر، وكذلك يظهر لأهل الحق أنه عنهم راض وفى باطنه أن هذا دابة فى أن يرضى كل فريق منهم ويريهم أنه منهم، وإن كان فى مصاحبته لأهل الحق مؤيدًا لفعلهم، وفى صحبته لأهل الباطل منكرًا لفعلهم، فبخلطته لكلا الفريقين وإظهار الرضا بفعلهم استحق اسم المداهنة للأسباب الظاهرة عليه المشبهة بالدهان الذى يظهر على ظواهر الأشياء ويستر بواطنها، ولو كان مع احخدى الطائفتين لم يكن مداهنًا، وإنما كان يسمى باسم اطائفة المنفرد بصحبتها. وقد جاء فى ذى الوجهين وعيد شديد، روى أبو هريرة عن النبى عليه السلام أنه قال: (ذو الوجهين لايكون عند الله وجيهًا) وروى أنس عن النبى عليه السلام أنه قال: (من كان ذا لسانين فى الدنيا جعل الله له لسانين من نار يوم القيامة) فينبغى للمؤمن العاقل أن يرغب بنفسه عما يوبقه ويخزيه عند الله - تعالى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 251 50 - باب من أخبر صاحبه بما يقال فيه / 81 - فيه: ابْن مَسْعُود، قَسَمَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قِسْمَةً، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: وَاللَّهِ مَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ بِهَذَا وَجْهَ اللَّهِ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَخْبَرْتُهُ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ، وَقَالَ: (رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى، لَقَدْ أُوذِىَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ) . قال المؤلف: فى هذا الحديث من الفقه أنه يجوز للرجل أن يخبر أهل الفضل والستر من إخوانه بما يقال فيهم مما لايليق بعم ليعرفهم بذلك من يؤذيهم من الناس وينقصهم، ولا حرج عليه فى مقابلته بذلك وتبليغه له. وليس ذلك من باب النميمة؛ لأن ابن مسعود حين أخبر النبى عليه السلام يقول الأنصارى فيه وتجويره له فى القسمة، لم يقل له: أتيت بما لايجوز، ونمت الأنصارى والنميمة حرام، بل رضى ذلك عليه السلام وجاوبه عليه بقوله (يرحم الله موسى، لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر) وإنما جاز لابن مسعود نقل ذلك إلى النبى عليه السلام لأن الأنصارى فى تجويره للنبى - عليه السلام - استباح إثمًا عظيمًا وركب جرمًا جسيمًا، فلم يكن لحديثه حرمة، ولم يكن نقله من باب النميمة. وقد قال مالك - رحمه الله - فى الرجل يمر بالرجل يقذف غائبًا: فليشهد عليه إن كان معه غيره. وقال فى قوم سمعوا رجلا يقذف رجلا فرفعوا إلى الإمام: فلا ينبغى أن يحده حتى يجىء الطالبب، ولو كان هذا نميمة لم تجز الشهادة؛ لأن النميمة كبيرة، والكبائر تسقط الشهادات. وفى تمعرّ وجه النبى عليه السلام حين أخبر بقوله الأنصارى من الفقه أن أهل الفضل والخير قد يعزّ عليهم مايقال فيهم من الباطل، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 252 ويكبر عليهم، فإن ذلك جبله فى البسر، فطردهم الله عليها، إلا أن أهل الفضل يتلقون ذلك بالصبر الجميل اقتداء بمن تقدمهم من المؤمنين، ألا ترى أن الرسول قد اقتدى فى ذلك بصبر موسى. وقد روى عن الحسن البصرى أنه قيل له: فلان اغتباك، فبعث إليه طبقًا من الطرف وقال: بلغنى أنك أهدبت وفى تمعرّ وجه النبى عليه السلام حين أخبر بقول الأنصارى من الفقه أن أهل الفضل والخير قد يعزّ عليهم مايقال فيهم من الباطل، ويكبر عليهم، فإن ذلك جبلة فى البشر، فطرهم الله عليها، إلا أن أهل الفضل يلتقون ذلك بالصبر الجميل اقتداء بمن تقدمهم من المؤمنين، ألا ترى أن الرسول قد اقتدى فى ذلك بصبر موسى. وقد روى عن الحسن البصرى أنه قيل له: فلان اغتابك، فبعث إليه طبقًا من الطرف وقال: بلغنى انك أهدبت إلى حسناتك فأردت أن أكافئك بها. 51 - باب: ما يكره من التمادح / 82 - فيه: أَبُو مُوسَى، سَمِعَ النَّبِى عليه السلام رَجُلا يُثْنِى عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِى الْمِدْحَةِ، فَقَالَ: (أَهْلَكْتُمْ، أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ) . / 83 - وفيه: أَبُو بَكْرَةَ، أَنَّ رَجُلاً ذُكِرَ عِنْدَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْرًا، فَقَالَ رسُول اللَّه: (وَيْحَكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، يَقُولُهُ مِرَارًا، إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا لا مَحَالَةَ، فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَحَسِيبُهُ اللَّهُ، وَلا يُزَكِّى عَلَى اللَّهِ أَحَدًا) . قَالَ وُهَيْبٌ، عَنْ خَالِدٍ: وَيْلَكَ. معنى هذا الحديث - والله أعلم - النهى عن أن يفرط فى مدح الرجل بما ليس فيه؛ فيدخله من ذلك الإعجاب، ويظن أنه فى الحقيقة بتلك المنزلة؛ ولذلك قال: قطعتم ظهر الرجل. حين وصفتموه بما ليس فيه. فربما ذلك على العجب والكبر، وعلى تضييع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 253 العمل وترك الازدياد من الفضل، واقتصر على حاله من حصل موصوفًا بما وصف به، وكذلك تأول العلماء فى قوله عليه السلام: (احثوا التراب فى وجه المداحين) المراد به: المداحون الناس فى وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم. ولذلك قال عمر بن الخطاب: المدح هو الذبح. ولم يرد به من مدح رجلاً بما فيه، فقد مدح رسول الله عليه السلام فى الشعر والخطب والمخاطبة، ولم يحث فى وجه المداحين ولا أمر بذلك كقول أبى طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه تثمال اليتامى عصمة للأرامل وكمدح العباس وحسان له فى كثير من شعره، وكعب بن زهير، وقد مدح رسول الله عليه السلام الأنصار فقال: (إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع) ومثل هذا قوله عليه السلام: (لا تطردونى كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، قالوا: عبد الله؛ فإنما أنا عبد الله ورسوله) أى: لاتصفونى بما ليس لى من الصفات تلتمسون بذلك مدحى، كما وصفت النصارى عيسى لما لم يكن فيه، فنسبوه إلى أنه ابن الله، فكفروا بذلك وضلوا. فأما وصفه بما فضله الله به وشرفه فحق واجب على كل من بعثه الله إليه من خلقه وذلك كوصفه عليه السلام بما وصفها به فقال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق الأرض عنه) . وفى هذا من الفقه أن من رفع أمرأط فوق حده وتجاوز به مقداره بما ليس فيه، فمعتدّ آثم؛ لأن ذلك لو جاز فى أحد لكان أولى الخلق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 254 بذلك رسول الله، ولكن الواجب أن يقصر كل أحد على ما أعطاه الله من منزلته، ولا يعدى به إلى غيرها من غير قطع عليها، ألا ترى قوله عليه السلام فى حديث أبى بكرة: (إن كان أحدكم مادحًا أخاه لا محالة فليقل: أحسب كذا وحسيبه الله، ولا أزكى على الله أحدًا) . 52 - باب: من أثنى على أخيه بما يعلم وَقَالَ سَعْدٌ: مَا سَمِعْتُ النَّبِى عليه السلام يَقُولُ لأحَدٍ يَمْشِى عَلَى الأرْضِ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلا لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ سَلامٍ. / 84 - فيه: ابْن عُمَر: أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام حِينَ ذَكَرَ فِى الإزَارِ مَا ذَكَرَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ إِزَارِى يَسْقُطُ مِنْ أَحَدِ شِقَّيْهِ، قَالَ: (إِنَّكَ لَسْتَ مِنْهُمْ) . قال المؤلف: فيه من الفقه: أنه يجوز الثناء على الناس بما فيهم على وجه الإعلام بصفاتهم لتعرف لهم سابقتهم وتقدمهم فى الفضل فينزلزا منازلهم ويقدموا على من لايساويهم ويقتدى بهم فى الخير، ولو لم يجز وصفهم بالخير والثناء عليهم بأحوالهم لم يعلم أهل الفضل من غيرهم، ألا ترى أن النبى عليه السلام خص اصحابه بخواص من الفضائل بانوا بها عن سائر الناس وعرفوا بها إلى يوم القيامة فشهد للعشرة - رضى الله عنهم - بالجنة، كما شهد لعبد الله ابن سلام. وليس قول سعد: (ما سمعت النى عليه السلام يقول لأحد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 255 أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام) بمعارض لمن سمعه عليه السلام يشهد بذلك لغيره، بل يأخذ كل واحد بما يسمع، وكذلك قال فى أبى بكر الصديق: (كل الناس قال لى: كذبت، وقال لى النبى (صلى الله عليه وسلم) : أرحم أمتى بأمتى أبو بكر، وأقواهم فى الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم على، وأمين أمتى أبو عبيدة بن الجراح، وأعلم أمتى بالحلال معاذ بن جبل، وأقرؤهم أبى موسى، وأفرضهم زيد) . وقال عليه السلام فى حديث آخر: (ما أظلت الخضراء ولا قلت الغبراء أصدق لهجة من أبى ذر) فأثنى عليهم بالحق وعرف أمته بفضائلهم، وقال لبى بكر الصديق حين قال له: إزارى سقط من أحد شقية: (لست منهم) فدل هذا كله أن المدح بالحق جائز وأن الذى لا يجوز من ذلك إنما هو المدح بالكذب أو القصد بالمدح إلى جهة الإعجاب والفخر وإن كان حقًا، والله الموفق. 53 - باب قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان (الآية وقال: (إنما بغيكم على أنفسكم () ثم بغى عليه لينصرنه الله (وترك إثارة الشر على مسلم أو كافر / 85 - فيه: عَائِشَةَ، أَنّ النَّبِى عليه السلام سحُره لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ اليهودية، فِى مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ فِى بِئْرِ ذَرْوَانَ، فَأَمر النَّبِىُّ عليه السلام فَأُخْرِجَ، فَقُلْتُ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 256 يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَلا تَنَشَّرْتَ، فَقَالَ: (أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِى، وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا) . قال المؤلف: تأول البخارى من هذه الآيات التى ذكرها ترك إثارة الشر على مسلم أو كافر دل عليه حديث عائشة، ووجه ذلك - والله أعلم - أنه تأول فى قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) الندب إلى الإحسان إلى المسىء وترك معاقبة على إساءته، فإن قيل: فكيف يصح هذا التأويل فى آيات البغى التى ذكرها؟ قيل: فكيف يصح هذا التأويل فى آيات البغى التى ذكرها؟ قيل: وجه ذلك - والله أعلم - أنه لما أعلم الله عباده أن البغى ينصرف على الباغى بقوله: (إنما بغيكم على أنفسكم) وضمن تعالى نصره لمن بغى عليه بقوله تعالى: (ثم بغى عليه لينصرنه الله) كان الأولى لمن بغى عليه _ شكر الله على ما ضمن من نصره ومقابلة ذلك بالعفو عمن بغى عليه، وكذلك فعل النبى باليهودى الذى سحره حين عفا عنه، وقد كان له الانتقام بقوله: (وإن عاقبتم فعاقبوه بمثل ما عوقبتم به) لكن آر الصفح عنه أخذًا بقوله تعالى: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور (وكذلك أخبرت عائشة عنه عليه السلام أنه كان لاينتقم لنفسه، ويعفو عمن ظلمه. وللسلف فى قوله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) أقوال أكثرها يخالف قول البخارى، فقال ابن عباس: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 257 العدل شهادة أن لا إله ألا الله، والإحسان أداء الفرائض. وقال غيره: العدل الفرض، واإحسان النافلة، وقال ابن عيينه: العدل هاهنا العلانية. وقال ابن مسعود: أجمع آية فى القراآن لخير أو شر: (إن الله يأمركم بالعدل والإحسان) الآية. ويمكن أن يتخرج تأويل البخارى على هذا القول. وقوله: (وينهى عن الفحشاء والمنكر) يعنى عن كل فعل أو قول قبيح، وقال ابن عباس: هو الزنا. والبغى: قيل: هو الكبر والظلم، وقيل: هو التعدى ومجاوزة الحد. وقال ابن عيينه: (إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا) المراد بها أن البغى تعجل عقوبته لصاحبه فى الدنيا يقال: البغى مصرعه. 54 - باب: ما نهى عنه من التحاسد والتدابر وقوله تعالى: (ومن شر حاسد إذا حسد ( / 86 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلا تَحَسَّسُوا وَلا تَجَسَّسُوا، وَلا تَحَاسَدُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا) . في هذا الحديث: الأمر (بالصحبة والألفة) والنهي عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 258 التباغض والتدابر، وما أمرهم النبى عليه السلام فعليهم العمل به ومانهاهم عنه فعليهم الانتهاء عنه، غير موسع عليهم مخالفة إلا أن يخبرهم عليه السلام أن مخرج أمره لهم ونهيه على وجه الندب والإرشاد، وقد تقدم فى باب الحب فى الله قوله (صلى الله عليه وسلم) : (والذى نفسى بيده لاتدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولاتؤمنوا حتى تحابوا) . فذلك أن أمره عليه السلام ونهيه فى هذا الحديث على الوجوب، وقال أبو الدرداء: (ألا أخبركم بخير لكم من الصدقة والصيام: صلاح ذات البين، وإن البغضة هى الحالقة) لأن فى تباغضهم افتراق كلمتهم وتشتت أمرهم، وفى ذلك ظهور عدوهم عليهم ودروس دينهم. وفيه: النهى عن الحسد على النعم، وقد نهى الله عباده المؤمنين عن أن يتمنوا مافضل الله به بعضهم على بعض وأمرهم أن يسألوه من فضله، وقد أجاز النبى الحسد فى الخير، وسيأتى هذا المعنى فى كتاب التمنى، إن شاء الله تعالى. وفيه: النهى عن التجسس وهو البحث عن باطن أمور الناس وأكثر ما يقال ذلك فى السر. وقال ابن الأعرابى وأبو عمرو الشيبانى: الجاسوس: صاحب سر، والناموس: صاحب سر الخير. وقال سليمان الخطابى: وأما التحسس بالحاء فقد اختلف فى تفسيره فقال بعضهم: هو كالتجسس سواء، وقرأ الحسن: ولا تحسسوا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 259 ومنهم من فرق بينهما، وروى الأوزاعى عن يحى بن أبى كثير أنه قال: التجسس: البحث عن عورات المسلمين، والتحسس: الاستماع لحديث القوم. وقال أبو عمر: التحسس بالحاء أن تطلبه لنفسك، وبالجيم أن تكون رسولا لغيرك. وقال صاحب العين: دابرت الرجل: عاديته، ومنه قولهم جعلته دبر أذنى أى خلفها. 55 - باب قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا (الآية / 87 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلا تَحَسَّسُوا وَلا تَجَسَّسُوا. . .) الحديث. / 88 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا تَبَاغَضُوا، وَلا تَحَاسَدُوا. . .) الحديث. قال أبو سليمان الخطابى: قوله: (إياكم والظن) فإنه أراد النهى عن تحقيق ظن السوء وتصديقه دون مايهجس بالقلب من خواطر الظنون فإنها لاتملك، قال الله تعالى: (إن بعض الظن أثم (فلم يجعل الظن كله إثمًا. قال غيره: فنهى عليه السلام أن تحقق على أخيك ظن السوء إذا كان الخير غالبًا عليه. وروى عن عمر أنه قال: لايحل لمسلم يسمع من أخيه كلمة أن يظن بها سوء وهو يجد لها فى شىء من الخير مصدرًا. وقال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 260 علي بن أبي طالب: من علم من أخيه مروءه جميله فلا يسمعن فيه مقالات الرجال، ومن حسنت علانيته فنحن لسريرته أرجى. وروى معمر عن إسماعيل بن أمية قال: ثلاث لايعجزن ابن آدم، الطيرة، وسوء الظن والحسد. قال: فينجيك من سوء الظن أن لا تتكلم به، وينجيك من الحسد أن لا تبغى أخاك سوءًا وينجيك من الطيرة أن لا تعمل بها. فإن قال قائل: لى فى حديث أنس ذكر الظن فكيف ذكره فى هذا الباب؟ . قال المهلب: فالجواب أن التباغض والتحاسد أصلهما سوء الظن، وذلك أن المباغض والمحاسد يتأول أفعال من يبغضه ويحسده على أسوأ التأويل، وقد أوجب الله تعالى أن يكون ظن المؤمن بالمؤمن حسنًا أبدًا إذ يقول: لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا فإذا جعل الله سوء الظن بالمؤمنين إفكا مبينًا فقد الزم أن يكون حسن الظن بهم صدقًا بينًا والله الموفق. 56 - باب ما يجوز من الظن / 89 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَا أَظُنُّ فُلانًا وَفُلانًا يَعْرِفَانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئًا) . قَالَ اللَّيْثُ: كَانَا رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ مرة: (مَا أَظُنُّ فُلانًا وَفُلانًا يَعْرِفَانِ دِينَنَا الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 261 قال المؤلف: سوء الظن جائز عن أهل العلم لمن كان مظهرًا للقبيح وجانبًا لأهل الصلاح وغير مشاهد للصلوات فى الجماعة، وقد قال ابن عمر: كنا إذا فقدنا الرجل فى صلاة العشاء والصبح أسأنا الظن به. وأما قول النبى: (ماأظن فلانًا وفلانًا يعرفان ديننا) فى رجلين من المنافقين، فإن الظن هاهنا بمعنى اليقين؛ لأنه كان يعرف المنافقين حقيقة بإعلام الله له بهم فى سورة براءة. وقال ابن عباس: كنا نسمى سورة براءة: الفاضحة. قال ابن عباس: ما زالت تنزل (ومنهم. .) (ومنهم. .) حتى خشينا. لأن الله تعالى قد حكى فيها اقوال المنافقين وأذاهم للنبى عليه السلام ولمزاهم فى الصدقات وغيرها، إلا أن الله لم يأمره بقتلهم، ونحن لانعلم بالظن مثل ماعلمه النبى - عليه السلام لأجل نزول الوحى عليه، فلم يجب لنا القطع على الظن غير أنه من ظهر منه فعل منكر فقد عرض نفسه لسوء الظن والتهمة فى دينه فلا حرج على من أساء به الظن. 57 - باب: ستر المؤمن على نفسه / 90 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُّ أُمَّتِى مُعَافًى إِلا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، فَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَليْهُ) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 262 / 91 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ: أَنّ رجلاً سأله كَيْفَ سَمِعْتَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، يَقُولُ فِى النَّجْوَى؟ قَالَ: (يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَرِّرُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّى سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِى الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ) . قال المؤلف: وروى عن ابن مسعود أنه قال: ماستر الله على عبد فى الدنيا إلا ستر عليه فى الآخرة. وهذا مأخوذ من حديث النجوى. وقال ابن عباس فى قوله تعالى: (وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنه) قال: أما الظاهرة بالإسلام وماحسن من خلقك وافضل عليك من الرزق، وأما الباطنة فما ستر عليك من الذنوب والعيوى. وفى ستر المؤمن على نفسه منافع. منها: أنه إذا اختفى بالذنب عن العباد لم يستخفوا به ولا استذلوه؛ لأن المعاصى تذل أهلها. ومنها: أنه كان ذنبًا يوجب الحد سقطت عنه المطالبة فى الدنيا. وفى المجاهرة بالمعاصى استخفاف بحق الله وحق رسوله وضرب من العناد لهما فلذلك قال عليه السلام: (كل أمتى معافى إلا المجاهرون) . قال المهلب: , اما قوله فى حديث النجوى: (يدنو أحدكم من ربه) فقال ابن فورك: معناه يقرب من رحمته وكرامته ولطفه لاستحالة حمله على قرب المسافة والنهاية إذ لايجوز ذلك على الله؛ لأنه لا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 263 يحويه مكان، ولايحيط به موضع، ولاتقع عليه الحدود، والعرب تقول: فلان قريب من فلان يريدون قرب المنزلة وعلو الدرجة عنده. وأما قوله: (فيضع الجبار عليه كنفه) فإنه يبين ما أشرنا اليه فى معنى الدنو أنه على تأويل قرب المنزلة والدرجة، وذلك أن لفظ الكنف إنما يستعمل فى مثل هذا المعنى، ألا ترى أنه يقال: أنا فى كنف فلان إذا أراد أن يعرف إسباغ فضله عليه وتوقيره عنده. وقال مهلب: عبر عليه السلام بالكنف عن ترك إظهار جرمه للملائكة وغيرهم بإدامة الستر الذى منّ به على العبد فى الدنيا، وجعله سببًا لمغرفته له فى الآخرة، ودليلاً للمذنب على عفوه، وتنبيهًا له على نعمة الخلاص من فضيحة الدنيا وعقوبة الآخرة التى هى اشد من عقوبة الدنيا، لقوله تعالى: (ولعذاب الآخرة أشد وأبقي) فيشكر ربه ويذكر وهذا الحديث كقوله تعالى: (إن رحمتى سبقت غضبى) لأن تأخير غضبه عنه عند مجاهرة ربه بالمعصية، وهو يعلم أنه لاتخفى عنه خافية مما يعلم بصحيح النظر أنه لم يؤخر عقوبته عنه لعجز عن إنفاذها عليه إلا لرحمته التى حكم لها بالسبق لغضبه؛ إذ ليس من صفة رحمته التى وسعت كل شىء أن تسبق فى الدنيا بالستر من الفضيحة ويسبقها الغضب فى ذلك الذنب فى الآخرة، فإذا لم يكن بد من تغليب الرحمة على الغضب فليبشر المذنبون المستترون بسعة رحمة الله، وليحذر المجاهرون بالمعاصى من وعيد الله النافذ على من شاء من عباده. وفى قوله تعالى: (سترتها عليك فى الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 264 نص منه تعالى على صحة قول أهل السنة فى ترك إنفاذ الوعيد على العصاة من المؤمنين، والحجة فيه من طريق النظر أنه ليس مذمومًا من وجب له حق على غيره فوهبه له، والمرء قد يقول لعبده: إن صنعت كذا عاقبتك بكذا على معنى أنك إن أتيت هذا الفعل كنت مستحقًا عليه هذه المعاقبة، لإذا جنى العبد تلك الجناية كان السيد مخيرًا فى حق نفسه إن شاء أمضاه وإن شاء تركه، وإذا قال: إن فعلت كذا وكذا فلك على كذا وكذا ففعل ماكلفه لم يجز أن يخلفه بما وعده؛ لأن فى تمام الوعد حقا للعبد، وليس لأحد أن يدع حق غيره كما له أن يدع حق نفسه. والعرب تفتخر بخلف الوعيد، ولو مذمومًا لما جاز أن تفتخر بخلفه وتمتدح به، أنشد أبو عمرو الشيبانى: إنى متى أوعدته ووعدته لمخلف إيعادى ومنجز موعدى قال المهلب: فإن أخذ الله المنفذين للوعيد بحكمهم أنفذه عليهم دون غيرهم لقطعهم على الله الواسع الرحمة بإنفاذه الوعيد لظنهم بالله ظن السوء فعليهم دائرة السوء، وكان لهم عند ظنهم كما وعد فقال: (أنا عند ظن عبدى بى فليظن بى ما شاء) . 58 - باب: الكبر وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (ثَانِى عِطْفِهِ) [الحج: 9] : مُسْتَكْبِرٌ فِى نَفْسِهِ، عِطْفُهُ: رَقَبَتُهُ / 92 - فيه: حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 265 الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَاعِفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأبَرَّهُ، أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ) . / 93 - فيه: أنس قال: أَنَس، قَالَ: كَانَتِ الأمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ النَّبِىّ عليه السلام فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ. قال المؤلف: روى شعبة عن على بن زيد، عن أنس زيادة فى هذا الحديث قال: (إن كانت الوليدة من ولائد المدينة لتأخذ بيد النبى عليه السلام فما ينزع يدها من يده حتى تكون هى تنزعها) . وروى شعبة عن أبان بن تغلب، عن فضيل الفقيمى عن النخعى، عن عقلمة، عن عبد الله، عن النبى عليه السلام قال: (لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل: إن الرجل ليحب أن يكون ثوبه حسنأط ونعله حسنأط، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمص الناس) . روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبى عليه السلام قال: (إن المستكبرين يحشرون يوم القيامة أشباه الذر على صور الناس، يعلوهم كل شىء من الصغار، يساقون حتى يدخلون سجنًا فى النار يسقون من طينه الخبال: عصارة أهل النار) . قال الطبرى: فإن قيل: قد وصف النبى عليه السلام العتل الجواظ المستكبر أنه من أهل النار فبين تكبره على من هو؟ قيل: هو الذى باطنه منطو على الكبر على الله، فهذا كافر لاشك فى كفره، وذلك هو الكبر الذى عناه النبي (صلى الله عليه وسلم) بقوله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 266 في حديث ابن مسعود: (لايدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال حبة من كبر) . فإن قيل: فقد وصفت الكبر بغير ماوصفه به النبى عليه السلام وذلك أنك رويت عنه أنه قال: (الكبر من سفه الحق وغمص الناس وأزدراء الحق ووصفت أنت الكبر بأنه التكبر على الله) . قيل: الكبر الذى وصفناه هو خلاف خشوع القلب لله تعالى ولا ينكر أن يكون من الكبر ما هو استكبار على غير الله، والذى قلنا من معنى الكبر على الله فإنه غير خارج من معنى مارويناه عنه عليه السلام أنه: (غمص الناس وازدراء الحق) وذلك أن معتقد الكبر على ربه لاشك أنه للحق مزدر وللناس أشد استحقارًا. ومما يدل على أن المراد يمعنى الآثار فى ذلك عن النبى عليه السلام ماقلناه ماحدثناه يونس، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث أن دراجًا أبا السمح حدثه عن أبى الهيثم، عن أبى سعيد الخدرى، عن رسول الله قال: (من تواضع لله درجة رفعه الله درجة، ومن تكبر على الله درجة يضعه الله درجة حتى يجعله فى أسفل سافلين) فلدل هذا الحديث أن غمص الحق وحقر الناس استكبارًا على الله. وقد روى حماد بن سلمة عن قتادة، وعلى بن زيد عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة، عن النبى عليه السلام فيما حكى عن ربه تعالى قال: (الكبرياء ردائى فمن نازعنى ردائى قصمته) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 267 فالمستكبر على الله تعالى لاشك أنه منازعه رداءه، ومفارق دينه، وحرام عليه جنته كما قال عليه السلام أنه: (لا يدخلها إلا نفس مسلمة) ومن لم يخشع لله قلبه عليه مستكبر؛ إذ معنى الخشوع التواضع وخلاف الخشوع والتواضع التكبر والتعظم، فالحق لله على كل مكلف إشعار قلبه الخشوع بالذلة والاستكانة له بالعبودية خوف أليم عقابه، وقد روى عن محمد بن على أنه قال: (ما دخل قلب أمرىء شىء من الكبر إلا نقص من عقله قل ذلك أو كثر) . وقد تقدم تفسير العتل والجواظ فى باب قول الله تعالى: (واقسموا بالله جهد أيمانهم) فى كتاب الأيمان والنذور. 59 - باب الهجرة وَقَوْلِ الرسُولِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ) . / 94 - فيه: عَائِشَةَ أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، قَالَ فِى بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ: وَاللَّهِ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لأحْجُرَنَّ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: أَهُوَ قَالَ هَذَا؟ قَالُوا نَعَمْ، قَالَتْ: هُوَ لِلَّهِ عَلَى نَذْرٌ أَنْ لا أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا، فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا حِينَ طَالَتِ الْهِجْرَةُ، فَقَالَتْ: لا، وَاللَّهِ لا أُشَفِّعُ فِيهِ أَبَدًا، وَلا أَتَحَنَّثُ إِلَى نَذْرِى، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الأسْوَدِ بْنِ عَبْدِيَغُوثَ - وَهُمَا مِنْ بَنِى زُهْرَةَ - وَقَالَ لَهُمَا: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ لَمَّا أَدْخَلْتُمَانِى عَلَى عَائِشَةَ، فَإِنَّهَا لا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِى، فَأَقْبَلَ بِهِ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُالرَّحْمَنِ مُشْتَمِلَيْنِ بِأَرْدِيَتِهِمَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 268 حَتَّى اسْتَأْذَنَا عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالا: السَّلامُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، أَنَدْخُلُ؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: ادْخُلُوا، قَالُوا: كُلُّنَا؟ قَالَتْ: نَعَم، ادْخُلُوا كُلُّكُمْ، وَلا تَعْلَمُ أَنَّ مَعَهُمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ، فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ، وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِى، وَطَفِقَ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُالرَّحْمَنِ يُنَاشِدَانِهَا إِلا مَا كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ مِنْهُ، وَيَقُولانِ إِنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَمَّا قَدْ عَلِمْتِ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَى عَائِشَةَ مِنَ التَّذْكِرَةِ وَالتَّحْرِيجِ، طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمَا نَذْرَهَا، وَتَبْكِى وَتَقُولُ: إِنِّى نَذَرْتُ، وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ، فَلَمْ يَزَالا بِهَا حَتَّى كَلَّمَتِ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَأَعْتَقَتْ فِى نَذْرِهَا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً، وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَبْكِى حَتَّى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا. / 95 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَبَاغَضُوا، وَلا تَحَاسَدُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِى يَبْدَأُ بِالسَّلامِ) . قال الطبرى: فى حديث أنس وأبى أيوى البيان الواضح أنه غير جائز لمسلم أن يهجر مسلمًا أكثر من ثلاثة أيام، وأنه إن هجره أكثر من ثلاثة أيام أثم، وكان أمره إلى الله إن شاء عذبع وإن شاء شاء عفا عنه؛ لأنه عليه السلام أخبر أنه لا يحل ذلك ومن فعل ماهو محظور عليه فقد اقتحم حمى الله وانتهك حرمته. وفيه دليل هجرته دون ثلاث أيام مباح لهما ولاتبعه عليهما فيها. وقال غيره: تجاوز الله لهما عما يعرض لهما من ذلك فى ثلاثة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 269 أيام لما فطر الله العباد عليه من ضعف الحيلة، وضيق الصدر وحرم عليهما مازاد على الثلاث؛ لأنه من الغل الذى لا يحل. وروى عيسى عن ابن القاسم فى الرجل يهجر أخاه إلا أنه يسلم عليه من غير أن يكلمه بغير السلام هل يبرأ من الحناء؟ فقال: سمعت مالكًا يقول: إن كان مؤذيا له برىء من الشحناء، وإن كان غير مؤذ فلا يبرأ من الشحنا. وقاله أحمد بن حنبل. وروى ابن وهب عن مالك قولا آخر: إذا سلم عليه فقد قطع الهجرة، وقوله عليه السلام: (وخيرهما الذى يبدأ بالسلام) حجة لهذا القول. وقيل لابن القاسم: هل ترى شهادته عليه جائزة باجتنابه كلامه وهو غير مؤذ له؟ قال: لا تقبل شهادته عليه. قال الطبرى: فإن قيل: فما أنت قائل فى حديث عائشة حين هجرت عبد الله بن الزبير وحلفت أن لا تكلمه أبدًا فتحمل عليها بالشفعاء حتى كلمته؟ قال: معنى الهجرة هو ترك الرجل كلام أخيه مع تلاقيهما واجتماعهما وإعراض كل واحد منهما عن صاحبه مصارمة له وتركه السلام عليه وذلك أن من حق المسلم على المسلم إذا تلاقيا أن يسلم كل واحد منهما على صاحبه، فإذا تركا ذلك بالمصارمة فقد دخلا فيما حظر الله، واستحقا العقوبة إن لم يعف الله عنهما. فعائشة لم تكن ممن يلقى ابن الزبير فتعرض عن السلام عليه صرما له، وإنما كانت من وراء حجاب، ولا يدخل عليها أحد إلا بإذن، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 270 وكان لها منع ابن الزبير دخول منزلها، وليس من الهجرة المنهى عنها، كما لو كانت فى بلدة وهو فى أخرى لا يتلتقيان لم يكن ذلك من الهجرة التى يأثمان بتركهما الاجتماع، وإن مرت أعوام كثيرة، ولم يكونا يجتماعان فيعرض أحدهما عن صاحبه. ويبين صحة ماقلناه قوله فى حديث أبى أيوى: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا) ، فأخبر عليه السلام بسبب حظر الله تعالى هجرة المسلم أخاه إنما ذلك من أجل تضييعهما ماأوجب الله عليهما عن تلاقيهما فإذا لم يلتقيا فيفرط كل واحد منهما فى واجب أخيه عليه، وذلك بعيد من معنى الهجرة. وقد تأول غير الطبرى فى هجرة عائشة لابن الزبير وجهًا آخر فقال: إنما ساغ لعائشة ذلك؛ لأنها أم المؤمنين وواجب توقيرها وبرها لجميع المؤمنين، وتنقصها كالعقوق لها فهجرت ابن الزبير أدبًا له، ألا ترى أنه لما نزع عن قوله، وندم عليه وتشفع اليها رجعت إلى مكالمته وكفرت يمينها، وهذا من باب إباحة هجران من عصى والإعراض عنه حتى يفىء إلى الواجب عليه. 60 - باب ما يجوز من الهجران لمن عصى وَقَالَ كَعْبٌ حِينَ تَخَلَّفَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : وَنَهَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلامِنَا وَذَكَرَ خَمْسِينَ لَيْلَةً. / 96 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنِّى لأعْرِفُ غَضَبَكِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 271 وَرِضَاكِ) ، قُلْتُ: وَكَيْفَ تَعْرِفُ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (إِنَّكِ إِذَا كُنْتِ رَاضِيَةً، قُلْتِ بَلَى، وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ سَاخِطَةً، قُلْتِ: لا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ) ، قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ لَسْتُ أُهَاجِرُ إِلا اسْمَكَ. قال المهلب: غرضه فى كتاب هذا الباب أن يبين صفة الهجران الجائز وأن ذلك متنوع على قدر الإجرام، فمن كان جرمه كبيرًا فينبغى هجرانه واجتنابه وترك مكالمته كما جاء فى أمر كعب بن مالك وصاحبيه، وماكان من المغاضبة بين الأهل والإخوان فالهجران الجائز فيهما هجران التحية والتسمية وبسط الوجه كما فعلت عائشة فى مغاضبتها مع رسول الله. قال الطبرى: وفى حديث كعب بن مالك أصل فى هجران أهل المعاصى والفسوق والبدع، ألا ترى أنه عليه السلام نهى عن كلامهم بتخلفهم عنه، ولم يكن ذلك كفرًا ولا ارتدادًا، وإنما كان معصية ركبوها، فأمر بهجرتهم حتى تاب الله عليهم، ثم أذن فى مراجعتهم، فكذلك الحق فيمن أحداث ذنبًا خالف به أمر الله ورسوله فيما لا شبهة فيه ولا تأويل، أو ركب معصية على علم أنها معصية لله أن يهجر غضبًا لله ورسوله، ولا يكلم حتى يتوب وتعلم توبته علمًا ظاهرًا كما قال فى قصة الثلاثة الذين خلفوا. فإن قيل: فيحرج مكلم أهل المعاصى والبدع على كل وجه؟ قيل: إن كلمهم بالتقريع لهم والموعظة والزجر لهم عما يأتونه لم يكن حرجًا فإن كلمهم على غير ذلك خشيت أن يكون إثمًا، إلا من أمر لا يجد من كلامه فيه بدا فيكلمه وهو كاره لطريقته وعليه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 272 واجد كالذى كان من أبى قتادة فى كعب بن مالك إذ ناشده الله هل تعلم أنى أحب الله وروسوله؟ كل ذلك لا يجيبه، ثم أجابه أن قال: الله ورسوله أعلم، ولم يزده على ذلك. فإن قيل: إنك تبيح كلام أهل الشرك بالله، ولاتوجب على المسلمين هجرتهم فكيف ألزمتنا هجرة أهل البدع والفسوق، وهم بالله وروسوله مقرون؟ قيل: إن حظرنا ماحظرنا وإطلاقنا ماأطلقناه لم يكن إلا عن أمر من لا يسعنا خلاف أمره، وذلك لنهيه عليه السلام عن كلام النفر المتخلفين عن تبوك وهم بوحدانية الله مقرون ونبوة نبيه مصدقون وأما المشركون فإنما أطلقت لأهل الإيمان كلامهم لإجماع الجميع على إجازتهم البيع والشراء منهم والأخذ والإعطاء، وقد يلزم من هجرة كثير من المسلمين فى بعض الأحوال مالايلزم من هجرة كثير من أهل الكفر. وذلك أنهم أجمعوا على أن رجلا من المسلمين لو لزمه حد من حدود الله فى غير الحرم ثم استعاذ بالحرم أنه لا يبايع ولايكلم ولايجالس حتى يخرج من الحرم فيقام عليه حد الله تعالى ولله أحكام فى خلقه جعلها بينهم مصلحة لهم هو أعلم بأسبابها وعليهم التسليم لأمره فيها؛ لأن الخلق والأمر لله، تبارك الله رب العالمين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 273 61 - باب هل يزور صاحبه كل يوم أو بكرة وعشيا / 97 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَى إِلا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْهِمَا يَوْمٌ إِلا يَأْتِينَا فِيهِ النَّبِىّ عليه السلام طَرَفَىِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَبَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ فِى بَيْتِ أَبِى بَكْرٍ فِى نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، قَالَ قَائِلٌ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فِى سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا. . . . الحديث. قال المؤلف: فى هذا الحديث جواز زيارة الصديق الملاطف مرتين كل يوم، وليس - بمعاض لحديث أبى هريرة أن النبى عليه السلام قال: (زد غبًا تزدد حبًا) ذكره أبو عبيد فى كتاب الأمثال، وإنما فى قوله هذا إعلام منه عليه السلام أن إغاب الزيارة أزيد فى المحبة وأثبت للمودة؛ لأن مواترة الزيارة والإكثار منها ربما أدت إلى الضجر، وأبدت أخلاقًا كامنة لا تظهر عند الإغباب فآلت إلى البغضة، وكانت سببًا للقطيعة أو للزهد فى الصديق. وفى حديث عائشة فى هذا الباب جواز الصديق الملاطف لصديقه كل يوم على قدر حاجته إليه والانتفاع به فى مساركته له، فهما حديثان مختلفان لك منهما معنى غير معنى صاحبه وليسا بمتعاضين. 62 - باب: الزيارة ومن زار قوما فطعم عندهم وَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فِى عَهْدِ النَّبِى عليه السلام فَأَكَلَ عِنْدَهُ. / 98 - فيه: أَنَس، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) زَارَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ الأنْصَارِ، فَطَعِمَ عِنْدَهُمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 274 طَعَامًا، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَمَرَ بِمَكَانٍ مِنَ الْبَيْتِ، فَنُضِحَ لَهُ عَلَى بِسَاطٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَدَعَا لَهُمْ. قال المؤلف: من تمام الزيارة إطعام الزائر ماحضر واتحافه بما تيسر وذلك من كريم الأخلاق، وهو ممايثبت المودة ويؤكد المحبة. وفيه: أن الزائر إذا أكرمه المزور أنه ينبغى له أن يدعو له ولأهل بيته ويبارك فى طعامهم وفى رزقهم. 63 - باب من تجمل للوفود / 99 - فيه: يَحْيَى بْنُ أَبِى إِسْحَاقَ، قَالَ: قَالَ لِى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَا الإسْتَبْرَقُ؟ قُلْتُ: مَا غَلُظَ مِنَ الدِّيبَاجِ وَخَشُنَ مِنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَاللَّهِ، يَقُولُ: رَأَى عُمَرُ عَلَى رَجُلٍ حُلَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، فَأَتَى بِهَا النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اشْتَرِ هَذِهِ، فَالْبَسْهَا لِوَفْدِ النَّاسِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ، فَقَالَ: (إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ. . . .) الحديث. قال المؤلف: فيه: جواز تجمل الخليفة والإمام للوفود القادمين عليه بحسن الزى وجميل الهيئة ألا ترى قول عمر للنبى: (اشتر هذه فالبسها لوفد الناس إذا قدموا عليك) وهذا يدل أن عادة النبى كانت جارية بالتجمل لهم، فينبغى الاقتداء بالنبى فى ذلك، ففيه تفخيم الإسلام ومباهته للعدو وغيظ الكفار. وقد تقدم فى كتاب اللباس ماللعلماء فى لباس الحرير. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 275 64 - باب: الإخاء والحلف وَقَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ: آخَى النَّبِى عليه السلام بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِى الدَّرْدَاءِ. وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ آخَى النَّبِى عليه السلام بَيْنِى وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ. / 100 - فيه: أَنَس، قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْف، فَآخَى النَّبِى عليه السلام بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ. / 101 - وفيه: عَاصِمٌ، قُلْتُ لأنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَبَلَغَكَ أَنَّ النَّبِى عليه السلام قَالَ: (لا حِلْفَ فِى الإسْلامِ) ؟ فَقَالَ: قَدْ حَالَفَ النَّبِى عليه السلام بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأنْصَارِ فِى دَارِى. قال المؤلف: آخى النبى بين المهاجرين والأنصار أول قدومه المدينة وحالف بينهم، وكانوا يتوارثون بذلك الإخاء والحلف دون ذوى الرحم، قال سعيد بن الجبير: وقد عاقد أبو بكر رجلا فورثه. قال الحسن: كان هذا قبل آية المواريث، وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك. وقال ابن عباس: فلما نزلت: (ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان (يعنى: ورثه، ونسخت ثم قال: (والذين عقدت أيمانهم فآتوهم نصيبهم (يعنى: من النصر والرفادة والنصيحة. وقد ذهب الميراث. قال الطبرى: لا يجوز الحلف اليوم فى الإسلام لما حدثنا به أبو كريب وغيره قالا: حدثنا محمد بن بشير، حدثنا زكريا بن أبى زائدة، حدثنا سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جبير بن مطعم، عن النبى عليه السلام أنه قال: (لا حلف فى الإسلام وما كان من حلف فى الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة) . وقال ابن عباس: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 276 نسخ الله حلف الجاهلية وحلف الإسلام بقوله: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) ورد المواريث إلى القرابات. فإن قيل: فما معنى قوله عليه السلام: (وما كان من حلف فى الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة) . قيل: الذى أمر به النبى عليه السلام - بالوفاء به من ذلك هو ما لم ينسخه الإسلام ولم يبطله حكم القرآن، وهو التعاون على الحق والنصرة على الأخذ على يد الظالم الباغى. 65 - باب: التبسم والضحك وقالت فاطمة: أسر إلى النبى - عليه السلام فضحكت. وَقَالَتْ فَاطِمَةُ: أَسَرَّ إِلَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَضَحِكْتُ. ذكر فى هذا الباب أحاديث كثيرة فيها أن النبى عليه السلام ضحك وفى بعضها أنه تبسم وذكر حديث عائشة قالت: ما رأيت النبى (صلى الله عليه وسلم) مستجمعًا قط ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يبتسم. وفى حديث أبى هريرة فى الذى وقع على أهله فى رمضان: أنه عليه السلام ضحك حتى بدت نواجذه. والنواجذ آخر الأسنان، وهى أسنان الحلم عند العرب. فإن قيل: إن هذا الخلاف لما روته عائشة (أنها لم تره عليه السلام مستجمعًا ضاحكًا قط حتى تبدو لهواته. ولا تبدو النواجذ على ما قال أبو هريرة إلا عند الاستغراق فى الضحك وظهور اللهوات. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 277 قيل: ليس هذا بخلاف لأن أبا هريرة شهد مالم تشهد عائشة، وأثبت ماليس فى خبرها، والمثبت أولى وذلك زيادة يجب الأخذ بها، وليس فى قول عائشة قطع منها أنه لم يضحك قط حتى تبدو لهواته فى وقت من الأوقات، وإنما أخبرت بما رأت كما أخبر أبو هريرة بما رأى، وذلك إخبار عن وقتين مختلفين. ووجه تأويل هذه الآار - والله أعلم - أنه كان عليه السلام فى أكثر أحواله يبتسم، وكان أيضًا يضحك فى أحوال أخر ضحكا أعلى من التبسم، واقل من الاستغراق الذى تبدو فيه اللهوات، هذا كان شأنه، وكان فى النادر عند إفراط تعجبه ربما ضحك حتى تبدو نواجذه، ويجرى على عادة البشر فى ذلك لأنه قد قال: (إنما أنا بشر) فيبين لأمته بضحكة الذى بدت فيه نواجذه أنه غير محرم على أمته، وبان بحديث عائشة أن التبسم ولاقتصار فى الضحك هو الذى ينبغى لأمته فعله والاقتداء به فيه للزومه عليه السلام له فى أكثر أحواله. وفيه وجه آخر: من الناس من يسمى الأنياب الضواحك نواجذ واستشهد بقول لبيد: وإذا الأسنة اشرعت لنحورها أبرزن حد نواجذ الأنياب فتكون النواجذ الأنياب على معنى إضافة الشىء إلى نفسه، وذلك جائز إذا اختلف اللفظان كما يجوز عطف الشىء على نفسه إذا اختلف اللفظان، ومن إضافة الشىء إلى نفسه قوله تعالى: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) (وحب الحصيد) ، وقولهم: مسجد الجامع، وقال رؤبة: إذا استعبرت من جفون الأغماد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 278 والجفون على الأغماد وإضافة الشىء إلى نفسه مذهب الكوفيين، وقد وجدنا أن النواجذ يعبر عنها بالأنيبا فى حديث الذى وقع على أهله فى رمضان وقع فى هذا الباب: (أن النبى عليه السلام ضحك حتى بدت نواجذه) ووقع فى كتاب الصيام فى هذا الحديث: (أنه ضحك حتى بدت أنيابه) فارتفع اللبس بذلك وزال الاختلاف بين الأحاديث، وهذا الوجه أولى، والله أعلم. وهذا الباب يرد ما روى عن الحسن البصرى أنه كان لا يضحك، وروى جعفر عن أسماء قالت: ما رأيت الحسن فى جماعة ولا فى أهله ولا وحده ضاحك قط إلا مبتسمًا. ولا أحد زهد كزهد النبى (صلى الله عليه وسلم) وقد ثبت عنه أنه ضحك، وكان ابن سيرين يضحك ويحتج على الحسن ويقول: الله هو الذى أضحك وأبكى. وكان الصحابة يضحكون، وروى عبد الرواق، عن معمر، عن قتادة قال: سئل ابن عمر هل كان أصحاب النبى عليه السلام يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان فى قلوبهم أعظم من الجبال. وفى رسول الله واصحابه المهتدين السوة الحسنة. وأما المكروه من هذا الباب فهو الإكثار من الضحك كما قال لقمان لأبنه: يابنى إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب فلإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه، مذموم منهى عنه، وهو من فعل أهل السفه والبطالة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 279 66 - باب: قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (وما ينهى عنه من الكذب / 102 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، عَنِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِى إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا) . / 103 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) . / 104 - وفيه: سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِى، قَالا: الَّذِى رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ، فَكَذَّابٌ يَكْذِبُ بِالْكَذْبَةِ، تُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . قال المؤلف: مصداق حديث عبد الله فى كتاب الله: (إن الأبرار لفى نعيم وإن الفجار لفى جحيم) والصدق أرفع خلال المؤمنين إلا ترى قوله: (ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) فجعل الصدق مقارنًا للتقوى، وقيل للقمان الحكيم: مابلغ بك ما نرى؟ قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وتركى ما لا يعنينى. وروى مالك عن صفوان بن سليم أنه قيل للنبى (صلى الله عليه وسلم) : (أيكون المؤمن كذابًا؟ قال: لا) . وظاهر هذا معارض لحديث عبد الله، والتأويل الجامع بينهما أن معنى حديث صفوان لا يكون المؤمن المستكمل لأعلى درجات الجزء: 9 ¦ الصفحة: 280 الإيمان كذابًا حتى يغلب عليه الكذب لأن كذابًا وزنه فعال، وهو من أبنية المبالغة لمن يكثر منه الكذب ويكرر حتى يعرف به، ومثاله الكذوب أيضًا، ويبين هذا قوله عليه السلام: (إن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صدوقًا) ، يعنى لا يزال يتكرر الصدق منه حتى يستحق اسم المبالغة فى الصدق وكذلك قوله: (إن الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذابًا) يعنى لا يزال يتكرر الكذب منه حتى يغلب عليه، وهذه الصفة ليست صفة عليه المؤمنين بل هى من صفات المنافقين وعلاماتهم كما قال عليه السلام فى حديث أبى هريرة، وقد تقدم معناه فى كتاب الإيمان فى باب علامة المنافق. وأخبر عليه السلام فى حديث سمرة بعقوبة الكاذب الذى كذبه الآفاق أنه يشق شدقه فى النار إلى يوم القيامة، فعوقب فى موضع المعصية وهو فمه الذى كذب به. 67 - باب الهدي الصالح / 105 - فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ: إِنَّ أَشْبَهَ النَّاسِ دَلا وَسَمْتًا وَهَدْيًا بِرَسُولِ اللَّهِ عليه السلام لابْنُ أُمِّ عَبْدٍ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ، لا نَدْرِى مَا يَصْنَعُ فِى أَهْلِهِ إِذَا خَلا. / 106 - وفيه: عَبْدُ اللَّه بْن عُمَر، قَالَ: إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْىِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 281 قال المؤلف: قال أبو عبيد: الهدى والدل أحدهما قرريب المعنى من الآخر وهما من السكينة والوقار فى الهيئة والمنظر والشمائل وغير ذلك، قال الأخطل يصف الكذاب: حتى تناهين عنه ساميًا جرحًا وماهدى هدى مهزوم ولا نكلا يقول: لم أسرع إسراع المنهزم ولكن على سكون وحسن هدى. وقال عدى بن زيد يصف امرأة بحسن الدل: لم تطلع من خدرها تبتغى خب با ولا ساء دلها فى العناق والسمت يكون فى معنيين: أحدهما: حسن الهيئة والمنظر فى مذهب الدين، وليس من الجمال والزينة، ولكن يكون له هيئة أهل الخير ومنظرهم. والوجه الآخر: السمت: الطريق يقال: الزم هذا السمت. وكلاهما له معنى جيد بكون: أن يلزم طريقه أهل الإسلام فتكون له هيئة أهل افسلام، وذكر أبو عبيد فى حديث عمر بن الخطاب أن أصحاب عبد الله كانوا يدخلون إليه فينظرون إلى مته وهديه ودله فيشتبهون به. قال المؤلف: فى هذا من الفقه أنه ينبغى للناس الاقتداء بأهل الفضل والصلاح فى جميع أحواليهم فى هيئتهم وتواضعهم ورحمتهم للخلق، وإنصافهم من أنفسهم، ورفقهم فى أخذ الحق إذا وجب لهم إن أحبوا الاقتصاص أو عفوهم عن ذلك إن آثروا العفو، وفى مأكلهم ومشربهم واقتصادهم فى أمرورهم تبركًا به. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 282 68 - باب: الصبر على الأذى وقول الله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ( / 107 - فيه: أَبُو مُوسَى قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ أَحَدٌ - أَوْ لَيْسَ شَىْءٌ - أَصْبَرَ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَدًا، وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ) . / 108 - وفيه: عَبْدُ اللَّهِ: قَسَمَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قِسْمَةً كَبَعْضِ مَا كَانَ يَقْسِمُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: وَاللَّهِ إِنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، قُلْتُ: أَمَّا أَنَا لأقُولَنَّ لِلنَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فَأَتَيْتُهُ، وَهُوَ فِى أَصْحَابِهِ، فَسَارَرْتُهُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِى عليه السلام وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، وَغَضِبَ حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ أَخْبَرْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ أُوذِى مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَبَرَ. قال المؤلف: ذكر الله جزاء الأعمال وجعل له نهاية وحدا فقال: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) وجعل جزاء الصدقة فى سبيل الله فوق هذا القول: (مثل الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء) وجعل أجر الصابرين بغير حساب ومدح أهله فقال: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) والصبر على الأذى من باب جهاد النفس وقمعها من شهواتها ومنعها عن تطاولها، وهو من أخلاق الأنبياء والصالحين، وإن كان قد جبل الله النفوس على تألمها من الأذى ومشقته، الا ترى أن النبى عليه السلام شق عليه تجوير الأنصارى له فى القسمة حتى تغير وجهه وغضب، ثم سكن ذلك منه علمه بما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 283 وعد الله ذلك من جزيل الأجر، واقتدى بصبر موسى على أكثر من أذى الأنصارى له رجاء ما عند الله. وللصبر أبواب غير الصبر على الأذى روى عن على بن أبى طالب أن النبى عليه السلام قال: (الصبر ثلاثة: فصبر على الكصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر على المعصية، فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلثمائة درجة مابين الدرجة إلى الدرجة ما بين السماء والأرض، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة مابين الدرجة إلى الدرجة مابين تخوم الأرض السابعة إلى منتهى العرش، ومن صبر على المعصية كتب الله له تسعمائة درجة مابين الدرجة إلى الدرجة مابين تخوم الأرض السابعة إلى منتهى العرش مرتين) . وقد روى يزيد الرقاشى عن أنس أن النبى عليه السلام قال: (الإيمان نصفان نصف فى الصبر والنصف فى الشكر) . وروى ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله (أن النبى عليه السلام سئل عن الإيمان فقال: السماحة والصبر) . وقال الشعبى: قال على بن أبى طالب: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. قال الطبرى: وصدق على، وذلك أن الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالحوارج، فمن لم يصبر على العمل بشرائع لم يستحق اسم الإيمان بالإطلاق، والصبر على العمل بالشرائع نظير الرأس من جسد الإنسان الذى لاتمام له إلا له، وهذا فى معنى حديث أنس وجابر أن الصبر نصف الإيمان، وعامة المواضع التي ذكر الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 284 فيها الصبر وحث عليه عباده إنما هى مواضع الشدائد ومواطن المكاره الذى يعظم على النفوس ثقلها، ويشتد عندها جزعها وكل ذلك محن وبلاء، الا ترى قوله عليه السلام للأنصار: (لن تعطوا عطاءًا خيرًا وأوسع من الصبر) . والصبر فى لسان العرب: حبس النفس عن المطلوب حتى يدرك، ومنه نهيه عليه السلام عن صبر البهائم. يعنى أنه نهى عن حبسها على التمثيل بها. ورميها كما ترمى الأغراض، ومنه قولهم: صبر الحاكم يمين فلان يعنى حبسه على حلفه. فإن قال قائل: فهذه صفات توجب التغير وحوث الحواث لمن وصف بها فما معنى وصف الله تعالى بالصبر؟ . قيل: معنى وصفه بذلك هو بمعنى الحلم، ومعنى وصفه بالحلم هو تأخير العقوبة عن المستحقين لها، ووصفه تعالى بالصبر لم يرد فى التنزيل، وإنما ورد فى حديث أبى موسى، وتأوله أهل السنة على تأويل الحلم، هذا قول ابن فورك. 69 - باب: من لم يواجه الناس بالعتاب / 109 - فيه: عَائِشَة، صَنَعَ النَّبِى عليه السلام شَيْئًا، فَرَخَّصَ فِيهِ، فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِى عليه السلام فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّى لأعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً) . / 110 - وفيه: أَبُو سَعِيد الْخُدْرِىِّ، قَالَ: كَانَ النَّبِى عليه السلام أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِى خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِى وَجْهِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 285 قال المؤلف: إنما كان عليه السلام لا يواجه الناس بالعتاب يعنى على مايكون فى خاصة نفسه كالصبر على جهل الجاهل وجفاء الأعرابى ألا ترى أن ترك الذى حبذ البردة من عنقه حتى أثرت حبذته فيه؛ لأنه كان لا ينتقم لنفسه، وهذا معنى حديث أبى سعيد، فأما أن تنتهك من الدين حرمة فإنه كان لا يترك العتاب عليها والتقريع فيها ويصدع بالحق فيما يجب على منتهكها ويقتص منه، سواء كان حقًا لله، أو من حقوق العباد. فإن قيل: فإن كان معنى حديث أبى سعيد ماذكرت من أنه عليه السلام كان لا يعاتب فيما يكون فى خاصة نفسه فقد وجه بالعتاب فى حديث عائشة، وخطب بذلك ذكره فى باب من لم يواجه الناس بالعتاب؟ . فالجواب: أن هذا العتاب وإن كان خطب به فلم يعين من أراد به، ولايقرعه من بين الناس، وكل ما جرى هذا المجرى من عتاب يعم الكل ولايقصد به أحد بعينه فهو رفق بمن عنى به وستر له كما أراد عمر بن الخطاب - حين أمر الناس كلهم بالوضوء يوم الجمعة، وهو يخطب - ومن أجل الرجل الذى أحدث بين يديه للستر له والرفق به، وليس ذلك بمنزلة أمره له بالوضوء من بينهم وحده فى الستر له لو فعل ذلك، وإنما فعل ذلك عليه السلام - والله أعلم - لأن كل رخصة فى دين الله فالعباد مخيرون بين الأخذ بها والترك لها، وكان عليه السلام رفيقًا بأمته حريصًا على التخفيف عنهم، فلذلك خفف عنهم العتاب لأنهم فعلوا مايجوز لهم من الأخذ بالشدة، وقد ترك عتابهم مرة أخرى على ترك الرخصة، وأخذهم بالشدة حين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 286 صاموا فى السفر وهو مفطر، وإن كان قد جاء فى الحديث (إن دين الله يسر) . قال الشعبى: إن الله يحب أن يعمل برخصة كما يحب أن يعمل بعزائمه. فليس ذلك دليلاً على تحريم الأخذ بالعزائم؛ لأن ذلك لو كان حرامًا لأمر الذين خالفوا رخصته بالرجوع من فعلهم إلى فعله. وفى حديث أبى سعيد الحكم بالدليل؛ لأنهم كانوا يعرفون كراهية النبى الشىء بتغير وجهه، كما كانوا يعرفون قراءءته فيما أسر فيه فى الصلاة باضطراب لحيتة. 70 - باب: من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال / 111 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام قَالَ: (إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لأخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا) . / 112 - وفيه: ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإسْلامِ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَىْءٍ، عُذِّبَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ، وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ) . قال المؤلف: قوله عليه السلام: (من قال لأخيه ياكافر فقد باء به أحدهما) يعنى: باء بأثم رميه لأخيه بالكفر ورجع وزر ذلك عليه إن كان كاذبًا. وقد روى هذا المعنى من حديث أبى ذر أن النبى قال: (لا يرمى رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 287 كذلك) ذكره البخارى فى باب ماينهى عنه من السباب واللعن فى أول كتاب الأدب. قال المهلب: وهذا معنى تبويبه من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال، أن المكفر له الذى يرجع عليه إثم التكفير؛ لأن الذى رمى به عند الرامى صحيح الإيمان إذا لم يتأول عليه شيئا يخرجه من الإيمان فكما هو صحيح الإيمان كصحة إيمان الرامى فقد صح أنه أراد برميه له بالكفر كل من هو على دينه فقد كفر نفسه؛ لأنه على دينه ومساو له فى إيمانه، فإن استحق ذلك الكفر المرمى به استحق مثله الرامى وغيره. وقد يجيب الفقهاء من هذا بأن يقولوا: فقد كفر بحق أخيه المسلم، وليس ذلك مما يسمى به الجاحد بحق أخيه المسلم كافرا لأنه لا يستحق من جحد حق أخيه فى بر أو مال. وقد روى اشهب عن مالك أنه سئل عن قوله عليه السلام: (من قال لأخيه ياكافر فقد باء بها أحدهما) قال مالك: أراهم الحرورية. قيل له: أفتراهم بذلك كفارًا؟ قال: لا أدرى ما هذا. والحجة لقول مالك قوله عليه السلام: (سباب المسلم فسوق) والفسوق غير الكفر. وقوله: (فقد باء بها أحدهما) هو على مذهب العرب فى استعمالها الكناية فى كلامها وترك التصريح بالشر، وهذا كقول الرجل لمن أراد أن يكذبه: والله إن أحدنا لكاذب، وهذا كقوله تعالى: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين) . وقوله: (من حلف بمله غير الإسلام كاذبًا فهو كما قال) قد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 288 تقدم معناه فى كتاب الجنائز فى باب قاتل النفس، وفى كتاب الإيمان والنذور فى باب من حلف بمله سوى الإسلام بما فيه فكاية لكنى كرهت أن أخلى هذا الباب من الكلام فيه لأنى كثيرًا ماكنت أسأل المهلب عن هذا الحديث لصعوبته فيجيبنى هنه بألفاظ وطرق مختلفة والمعنى واحد. فقال لى: قوله: (فهو كما قال) يعنى: فهو كاذب لا كافر إلا أنه تعمد بالكذب الذى حلف عليه التزام المللة التى حلف بها قال عليه السلام: (فهو كما قال) من التزام اليهودية والنصرانية وعيدًا منه عليه السلام لمن صح قصده بكذبه إلى التزام تلك المللة فى حين كذبه فى وقت ثان، إذ كان ذلك على سبيل المكر والخديعة للمحلوف له. يبين ذلك قوله عليه السلام: (لا يزنى حين يزنى وهو مؤمن) فلم ينف عنه الإيمان إلا وقت الزنا خاصة، وكذلك هذا الحالف بملة غير الإسلام؛ لقيام الدليل على أنه لم يرد نبذ الإسلام بتعليقه يمينه بشرط المحلوف عليه، ولو أراد الارتداد لم يعلق قوله أنا يهودى لمحلوف عليه من معانى الدنيا. ولذلك قال عليه السلام: (من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله) خشية منه عليه استدامة حاله على ماقال وقتئذ فينفذ عليه الوعيد فيحبط عمله، ويطبع على قلبه لما قال من كلمة الكفر بعد الإيمان، فتكون كلمة وافقت قدرًا فيزين له سوء عمله فيراه حسنًا فيستديم ما قال ويصر عليه. وأما من حلف بملة غير الإسلام وهو فيما حلف عليه صادق فهو تصحيح براءته من تلك الملة مثل أن يقول: أنا يهودي إن طعمت اليوم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 289 أو شربت، وهو صادق لم يشرب ولم يأكل، فلما عقد يمينه بشرط هو فى الحقيقة معدوم ماربطه به وهو الأكل والشرب اللذان لم يقعا منه لم يتعين عليه وعيد يخشى إنفاذه عليه، ولم يتوجه إليه إثم الملة التى حلف عليها لعقده نبيته على نفيها كنفى شرطها لكن لا يبرأ من الملامة لمخالفته لقوله عليه السلام: (من كان حالفًا فليحلف بالله) . قال الطبرى: وقوله عليه السلام: (لعن المؤمن كقتله) يريد فى بعض معناه لا فى الإثم والعقوبة، ألا ترى أن من قتل مؤمنا أن عليه القود ومن لعنه لا قود عليه؟ . واللعن فى اللغة الإبعاد من الرحمة، وكذلك القتل إبعاد المقتول من الحياة التى يجب بها نصره المؤمنين وعون بعضهم لبعض وقد قال عليه السلام: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) وكذلك قوله: (من رمى مؤمنًا بكفر فهو كقتله) لما أجمع المسلمون أنه لا قتل عليه فى رميه له بالكفر، علم أن التشبيه إنما وقع بينهما فى معنى يجمعهما وهو ماقلناه أن اللعن الإبعاد من الرحمة كما أن القتل إبعاد من الحياة وإعدام منها، وقد بعض العلماء: إن معنى قوله: (لعن المؤمن كقتله) يريد فى تحريم ذلك عليه وقد ذكرته فى كتاب الإيمان والنذور. 71 - باب: من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا وَقَالَ عُمَرُ لِحَاطِبِ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (وَمَا يُدْرِيكَ، لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 290 / 113 - فيه: جَابِر، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يُصَلِّى مَعَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ يَأْتِى قَوْمَهُ، فَيُصَلِّى بِهِمُ الصَّلاةَ، فَقَرَأَ بِهِمُ الْبَقَرَةَ، قَالَ: فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ، فَصَلَّى صَلاةً خَفِيفَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذً فَقَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَأَتَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا، وَنَسْقِى بِنَوَاضِحِنَا، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى بِنَا الْبَارِحَةَ، فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ، فَتَجَوَّزْتُ، فَزَعَمَ أَنِّى مُنَافِقٌ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ، ثَلاثًا؟ اقْرَأْ: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) [الشمس: 1] ) وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) [الأعلى: 1] وَنَحْوَهَا) . / 114 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ، فَقَالَ فِى حَلِفِهِ: بِاللاتِ وَالْعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبهِ: تَعَالَ، أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ) . / 115 - وفيه: ابْن عُمَر، أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِى رَكْبٍ، وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ، وَإِلا فَلْيَصْمُتْ) . قال المهلب: معنى هذا الباب أن المتأول معذور غير مأثوم، ألا ترى أن عمر بن الخطاب قال لحاطب لما كاتب المشركين بخبر النبى إنه منافق، فعذر النبى عليه السلام عمر لما نسبه إلى النفاق، وهوأسوأ الكفر، ولم يكفر عمر بذلك من أجل ما جناه حاطب، وكذلك عذرا عليه السلام معاذ حين قال للذى خفف الصلاة وقعطها خلفه إنه منافق؛ لأنه كان متأولا فلم يكفر معاذ بذلك. ومثل ذلك قوله عليه السلام حين سمع عمر يحلف بأبيه: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآباكم) فلم ير النبى إكفار عمر حين حلف بأبيه وترك الحلف بربه الذى خلقه ورزقه وهداه، وقصده اليمين بغير الله تشريك لله فى حقه لاسيما على طراوة عباده غير الله، فلما لم يعرفه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 291 عليه السلام بأن يمينه بأبيه ليس بكفر من أجل تأويله أن له أن يحلف بأبيه للحق الذى له بالأبوة، عذر عمر فى ذلك لجهالته أن الله لا يريد أن يشرك معه غيره فى الإيمان؛ إذ لا يحلف الحالف إلا بأعظم ماعنده من الحقوق، ولا أعظم من حق الله على عباده هذا وجه حديث عمر فى هذا الباب. قال المؤلف: وكذلك عذر عليه السلام من حلف من أصحابه باللات والعزى لقرب عهدهم يجرى ذلك على ألسنتهم فى الجاهلية، وروى عن سعد بن أبى وقاص (أنه حلف بذلك فأتى النبى عليه السلام فقال: يارسول الله، إن العهد كان قريبًا فحلفت باللات والعزى، فقال النبى عليه السلام قل: لا إله إلا الله) وقد تقدم بيان هذا فى باب لا يحلف باللات والعزى فى كتاب الأيمان والنذور، فتأمله هناك. وليس فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله) إطلاق منه لهم على الحلف بذلك وكفارته بقول: لا إله إلا الله، فإنه علمهم عليه السلام أنه من نسى أو جهل فحلف بذلك أن كفارته أن يشهد بشهادة التوحيد؛ لأنه قد تقدم إليهم عليه السلام بالنهى عن أن يحلف أحد بغير الله، فعذر الناسى والجاهل، ولذلك سوى البخارى فى ترجمته الجاهل مع المتأول فى سقوط الحرج عنه؛ لأن حديث أبى هريرة فى الجاهل والناسى، والله أعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 292 72 - باب: ما يجوز من الغضب والشدة فى أمر الله وقال تعالى: (جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم (/ 116 - فيه: عَائِشَةَ، دَخَلَ عَلَى النَّبِى عليه السلام وَفِى الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ صُوَرٌ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ، ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ، وَقَالَتْ: قَالَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ) . / 117 - وفيه: أَبُو مَسْعُودٍ، أَتَى رَجُلٌ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: إِنِّى لأتَأَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِى مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ، فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ وَالْكَبِيرَ، وَذَا الْحَاجَةِ) . / 118 - وفيه: ابْن عُمَر، بَيْنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى رَأَى فِى قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ نُخَامَةً، فَحَكَّهَا بِيَدِهِ، فَتَغَيَّظَ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ فِى الصَّلاةِ فَإِنَّ اللَّهَ حِيَالَ وَجْهِهِ فَلا يَتَنَخَّمَنَّ حِيَالَ وَجْهِهِ فِى الصَّلاةِ) . / 119 - وفيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، أَنَّ رَجُلا سَأَلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: (عَرِّفْهَا سَنَةً. . . .) ، إلى قوله: فَضَالَّةُ الإبِلِ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ. / 120 - وفيه: زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام حُجَيْرَةً مُخَصَّفَةً، أَوْ حَصِيرًا، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام يُصَلِّى فِيهَا، فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلاتِهِ، ثُمَّ جَاءُوا لَيْلَةً، فَحَضَرُوا وَأَبْطَأَ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَحَصَبُوا الْبَابَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مُغْضَبًا. . . . الحديث. قال المؤلف: الغضب والشدة فى أمر الله وذلك من باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأجمعت الأمة على أن ذلك فرض الجزء: 9 ¦ الصفحة: 293 على الأئمة والأمراء أن يقوموا به ويأخذوا على أيدى الظالمين وينصفوا المظلومين ويحفظوا أمور الشريعة حتى لا تغير ولاتبديل، ألا ترى أن النبى عليه السلام غضب وتلون وجهه لما رأى التصاوير فى القرام وهتكه، وقال: (إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون) وكذلك غضب من أجل تطويل الرجل فى صلاته بالناس ونهى عن ذلك، وتغيظ حين رأى النخامة فى القبلة فحكمها بيده ونهى عنها، وكذلك غضب حتى احمر وجهه حين سئل عن ضالة الإبل وقال: (ما لم ولها. . .) الحديث، وغضب عليه السلام على الذين صلوا فى مسجده بصلاته بغير إذنه ولم يخرج إليهم، ففيه من الفقه جواز الغضب للإمام والعالم فى التعليم والموعظة إذا رأى منكرًا يجب تغييره. وقال مالك: الأمر بالمعروف واجب على جماعة المؤمنين من الأئمة والسلاطين وعامة المؤمنين لا يسعهم التخلف عنه، غير أن بعض الناس يحمله عن بعض بمنزلة الجهاد. واحتج فى ذلك بعض العلماء فقال: كل شىء وجب على الانسان فعله من الفرائض والسنن للازمة، وكل شىء وجب عليه تركه من المحارم التى نهى الله عنها ورسوله فإنه واجب عليه فى القياس أن يأمر بذلك من ضيع شيئًا منه، وينهى كل من أتى شيئًا من المحرمات التى وجب عليه تركها. وقال بعض العلماء: الأمر بالمعروف منه فرض ومنه نافلة، فكل شىء وجب عليه العمل به وجب عليه الأمر به كالمحافظة على الوضوء وتمام الركوع والسجود وإخراج الزكاة وماأشبه ذلك، وماكان نافلة لك فإن أمرك به نافلة وأنت غير آثم فى ترك الأمر به إلا عند السؤال عنه لواجب النصيحة التى هى فرض على جميع المؤمنين، وهذا كله عند جمهور العلماء ما لم تخف على نفسك الأذى، فإن خفت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 294 وجب عليك تغيير المنكر وإنكاره بقلبك وهو أضعف الإيمان؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها. وقوله: (حجيرة مخصفة) يعنى ثوبًا أو حصيرًا قطع به مكانًا فى المسجد واستتر وراءه، والعرب تقول: خصفت النعل خصفًا: أطبقتها فى الخرز بالمخصف، وهو الإشفاء، وخصفت على نفس ثوابا أو حصيرًا قطع به مكانًا فى المسجد واستتر وراءه، والعرب تقول: خصفت النعل خصفًا: أطبقتها فى الخرز بالمخصف، وهو الإشفاء، وخصفت على نفسى ثوابًا: جمعت بين طرفيه بعود أو خيط، وفى التنزيل: (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) عن صاحب الفعال. 73 - باب: الحذر من الغضب لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى: 37] وَقَوْلِهِ: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) [آل عمران: 134] . / 121 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ) . / 122 - وفيه: سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ، اسْتَبَّ رَجُلانِ عِنْدَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى لأعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) ، فَقَالُوا لِلرَّجُلِ، أَلا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: إِنِّى لَسْتُ بِمَجْنُونٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 295 / 123 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلا قَالَ لِلنَّبِي (صلى الله عليه وسلم) : أَوْصِنِى، قَالَ: (لا تَغْضَبْ) ، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: (لا تَغْضَبْ) . قال المؤلف: مدح الله تعالى الذين يغفرون عند الغضب وأثنى عليهم، وأخبر أن ماعنده خير وأبقى لهم من متاع الحياة الدنيا وزينتها، وأثنى على الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، وأخبر أنه يحبهم بإحسانهم فى ذلك، وقد روى معاذ بن جبل عن النبى عليه السلام أنه قال: (من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه دهاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخبره فى أى الحور شاء) . وقال عليه السلام: (ليس الشديد بالصرعة) والصرعة: الذى يصرع الناس ويكثر منه ذلك، كما يقال للكثير النوم نومه، وللكثير الحفظ حفظه، فأراد عليه السلام أن الذى يقوى على ملك نفسه عند الغضب ويردها عنه هو القوى الشديد والنهاية فى الشدة لغلبته هواه المردى الذى زينه له الشيطان المغوى، فدل هذا أن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو؛ لأن النبى عليه السلام جعل للذى يمكل نفسه عند الغضب من القوة والشدة ماليس للذى يغلب الناس ويصرعهم. ومن هذا الحديث قال الحسن البصرى حين سئل أى الجهاد أفضل؟ فقال: جهادك نفسك وهواك. وفى حديث سليمان بن صرد أن الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم تذهب الغضب، وذلك أن الشيطان هو الذى يزين للإنسان الغضب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 296 وكل ما لا تحمده عاقبته ليرديه ويغويه ويبعده من رضا الله تعالى فالاستاذة بالله تعالى منه من أقوى السلاح على دفع كيده، وذكر أيضًا أبو داود فى حديث أبى ذر عن النبى عليه السلام أنه قال: (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب ولا فليضطجع) . وذكر أيضًا من حديث عطية عن النبى عليه السلام أنه قال: (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ) . وقال أبو الدرداء: أقرب مايكون العبد من غضب الله تعالى إذا غضب، وفى بعض الكتب قال الله تعالى: ابن آدم اذكرنى إذا غضبت أذكرك إذا غضبت. وقال بكر بن عبد الله: أطفئوا نار الغضب بذكر نار جهنم. 74 - باب: الحياء / 124 - فيه: عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (الْحَيَاءُ لا يَأْتِى إِلا بِخَيْرٍ) . فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: مَكْتُوبٌ فِى الْحِكْمَةِ: إِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ وَقَارًا، وَإِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ سَكِينَةً، فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَتُحَدِّثُنِى عَنْ صَحِيفَتِكَ. / 125 - وفيه: ابْن عُمَر، مَرَّ النَّبِى عليه السلام عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِى الْحَيَاءِ، يَقُولُ: إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِى حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ أَضَرَّ بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (دَعْهُ، فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإيمَانِ) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 297 / 126 - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ، كَانَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِى خِدْرِهَا. وقوله عليه السلام: (الحياء لا يأتى إلا بخير) معناه أن من استحيا من الناس أن يروه يأتى الفجور ويرتكب المحارم، فذلك داعية له إلى أن يكون أشد حياء من ربه وخالقه، ومن استحيا من ربه فإن حياءه زاجر له عن تضييع فرائضه وركوب معاصيه؛ لأن كل ذى فطرة صحيحة يعلم أن الله تعالى النافع له والضار والرزاق والمحى والمميت، فإذا علم ذلك فينبغى له أن يستحى منه عز وجل، وهو قوله عليه السلام: (دعه فإن الحياء من الإيمان) معناه أن الحياء من أسباب الإيمان وأخلاق أهله. وذلك أنه لما كان الحياء يمنع من الفواحش، ويحمل على الصبر والخير كما يمنع الإيمان صاحبه من الفجور، ويقيده عن المعاصى ويحمله على الطاعة صار كالإيمان لمساواته له فى ذلك، وإن كان الحياء غريزة والإيمان فعل المؤمن فاشتبها من هذه الجهة، وقد تقدم فى كتاب الإيمان. وإنما غضب عمران بن حصين؛ لأن بشير كعب حدثه عن صحيفته فيما كان حدثه به عمران عن النبى عليه السلام فهذا أصل أن الحجة إنما هى فى سنة رسول الله لا فيما يروى عن كتب الحكمة؛ لأنه لا يدرى مافى حقيقتها، وقد روى فى هذا الحديث عمران أن بشير بن كعب قال له: إن من الحياء ضعفًا، وعى هذه اللفظة يكون غضب عمران أوكد لمخالفة لقوله عليه السلام: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 298 (الحياء لا يأتى إلا بخير) ولقوله للذى كان يقول صاحبه إنك تستحى حتى أضر بك الحياء: (دعه فإن الحياء من الإيمان) فدلت هذه الآثار أن الحياء ليس بضار فى حالة من الأحوال ولا بمذموم. 75 - باب: إذا لم تستحى فاصنع ما شئت / 127 - فيه: أَبُو مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلامِ النُّبُوَّةِ الأولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْىِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) . قال الخطابى: قوله: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة) يريد أن الحياء لم يزل مستحسنًا فى شرائع الأنبياء الأولين، وأنه لم ينسخ فى جملة مانسخ من شرائعهم. قال المؤلف: قوله: (فاصنع ما شئت) فيه وجهان: أحدهما: أن يكون خرج بلفظ الأمر على معنى الوعيد والتهدد لمن ترك الحياء كما قال تعالى: (اعملوا ما شئتم) ولم يطلقهم تعالى على الكفر وفعل المعاصى، بل توعدهم بهذا اللفظ؛ لأنه تعالى قد بين لهم مايأتون ومايتركون، وكقوله: (من باع الخمر فليشقص الخنازير) فلم يكن فى هذا إباحة تشقيص الخنازير، إذا الخمر محرم شربها محظور بيعها. والوجه الثانى: أن يكون معناه: اصنع ماشئت من أمر لا تستحى منه تفعله، والتأويل الأول أولى وهو الشائع فى لسان العرب، ولم يقل أحد فى تأويل الآية المذكورة غيره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 299 76 - باب ما لا يستحيا منه من الحق للتفقه فى الدين / 128 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، أَنّ أُمُّ سُلَيْمٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحِى مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ غُسْلٌ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ: (نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ) . / 129 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ، أنّ النَّبِى عليه السلام قَالَ: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلِ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ، لا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَلا يَتَحَاتُّ) ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِىَ النَّخْلَةُ، وَأَنَا غُلامٌ شَابٌّ، فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقَالَ: (هِىَ النَّخْلَةُ) ، فَقَالَ عُمَر: لَوْ كُنْتَ قُلْتَهَا لَكَانَ أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا. / 130 - وفيه: أَنَس، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِى عليه السلام تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، فَقَالَتْ: هَلْ لَكَ حَاجَةٌ فِىَّ؟ فَقَالَتِ ابْنَتُهُ: مَا أَقَلَّ حَيَاءَهَا، فَقَالَ: هِىَ خَيْرٌ مِنْكِ، عَرَضَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام نَفْسَهَا. قولها: (إن الله لا يستحى من الحق) يدل على أنه لا يجوز الحياء عن السؤال فى أمر الدين، وجميع الحقائق التى تعبد الله عباده بها، وأن الحياء فى ذلك مذموم. وفى حديث ابن عمر أن الحياء مكروه لمن علم علمًا فلم يخبر به بحضرة من هو فوقه إذا سئل عنه، ألا ترى حرص عمر على أن يقول ابنه أنها النخلة، وقد تقدم فى كتاب العلم. وقول النبى عليه السلام: فى المرأة التى عرضت نفسها عليه لابنته (هى خير منك) حجة فى أن لا يستحيا فيما يحتاج إليه. وقوله: (لا يتحات) أى لا يسقط من احتكاك بعضهم ببعض، تقول العرب: حت الورق والطين اليابس من الثوب حتاّ: فركه ونقضه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 300 77 - باب قول النبي (صلى الله عليه وسلم) : (يسروا ولا تعسروا وكأن يحب التخفيف واليسر على الناس / 131 - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا، وَلا تُنَفِّرُوا) . / 132 - وفيه: أَبُو مُوسى، لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِىّ عليه السلام وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ لَهُمَا: (يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا. . . .) الحديث. / 133 - وفيه: عَائِشَةَ، مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام لِنَفْسِهِ فِى شَىْءٍ قَطُّ، إِلا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا. / 134 - وفيه: الأزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: كُنَّا عَلَى شَاطِئِ نَهَرٍ بِالأهْوَازِ قَدْ نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ، فَجَاءَ أَبُو بَرْزَةَ الأسْلَمِى عَلَى فَرَسٍ، فَصَلَّى وَخَلَّى فَرَسَهُ، فَانْطَلَقَتِ الْفَرَسُ، فَخَلَّى صَلاتَهُ، وَتَبِعَهَا حَتَّى أَدْرَكَهَا، فَأَخَذَهَا ثُمَّ جَاءَ فَقَضَى صَلاتَهُ، وَفِينَا رَجُلٌ لَهُ رَأْيٌ، فَأَقْبَلَ يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ، تَرَكَ صَلاتَهُ مِنْ أَجْلِ فَرَسٍ، فَأَقْبَلَ فَقَالَ: مَا عَنَّفَنِى أَحَدٌ مُنْذُ فَارَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَقَالَ: إِنَّ مَنْزِلِى مُتَرَاخٍ، فَلَوْ صَلَّيْتُ وَتَرَكْتُهُ، لَمْ آتِ أَهْلِى إِلَى اللَّيْلِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَرَأَى مِنْ تَيْسِيرِهِ. / 135 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِى الْمَسْجِدِ، فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ؟ ليَقَعُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (دَعُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ - أَوْ سَجْلا مِنْ مَاءٍ - فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 301 قد تقدمت هذه الأحاديث بأمر النبي عليه السلام بتيسر فى كتاب الحدود، وفى كتاب الأحكام. قال الطبرى: ومعنى قوله: (يسروا ولا تعسروا) فيما كان من نوافل الخير دون ماكان فرضا من الله، وفيما خفف الله عمله من فرائضه فى حال العذر كالصلاة قاعدًا فى حال العجز عن القيام، وكالإفطار فى رمضان فى السفر والمرض وشبه ذلك فيما رخص الله فيه لعباده وأمر بالتيسير فى النوافل والإتيان بما لم يكن شاقًا ولافادحًا خشية الملل لها ورفها، وذلك أن أفضل العمل إلى الله أدومه وإن قل، وقال عليه السلام لبعض أصحابه: (لا تكن كفلان كان يقوم الليل فتركه) . قال غير الطبرى: ومن تيسره عليه السلام أنه لم يعنف البائل فى المسجد ورفق به، ومن ذلك أبى برزة لصلاته فرسه، وأنه رأى من تيسير النبى ماحمله على ذلك، وجماعة الفقهاء يرون أن من كان فى صلاة فانلتت دابته أنه يقطع صلاته ويتبعها؛ لأن الصلاة تدرك إعادتها وميسر دابته قاطع له. وقد تقدم فى الصلاة. قال الطبرى: وفى أمره عليه السلام بالتيسير فى ذلك معان أحدهما: الأمان من الملال. والثانية: الأمان من مخالصة العجب قلب صاحبه حتى يرى كأن له فضلاً على من قصر عن مثل فعله فيهلك، ولهذا قال عليه السلام: (هلك المتنطعون) وبلغ النبى أن قومًا أرادوا أن يختصوا وحرموا الطيبات واللحم على أنفسهم فقام النبى عليه السلام وأوعد في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 302 ذلك أشد الوعيد، وقال: (لم أبعث بالرهبانية وإن خير الدين عند الله الحنفية السمحة، وإن أهل الكتاب هلكوا بالتشديد شدوا فشدد عليهم) . وفى هذا من الفقه أن أمور الدنيا نظير ذلك فى أن الغلو وتجاوز القصد فيها مذموم، وبذلك نزل القرآن قال تعالى: (والذين أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا) فحمد الله فى نفقاتهم ترك الإسراف والإقتار وقال: (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرًا) الآية، فأمر تعالى بترك التبذير فى سبله التى ترجى بها الزلفة لربه، فالواجب على كل ذى لب أن تكون أموره كلها قصدًا فى عبادة ربه كان أو فى أمر دنياه، فى عداوة كان أو محبة، فى أكل أو شرب أو لباس أو عرى، وبكل هذا ورد الخبر عن السلف أنهم كانوا يفعلون. وأما اجتهاده عليه السلام فى عبادة ربه؛ فإن الله كان خصهّ من القوة بما لم يخص به غيره، فكان مافعل من ذلك سهلا عليه على أنه عليه السلام لم يكن يحى ليله كله قيامًا ولا شهرًا كله صيامًا غير رمضان. وقد قيل: إنه كان يصوم شعبان كله فيصله برمضان، فأما سائر شهور السنة فإنه كان يصوم بعضه ويفطر بعضه، ويقوم بعض الليل وينام بعضه، وكان إذا عمل عملا داوم عليه، فأحق من اقتدى به رسول الله الذى اصطفاه الله لرسالته وانتخبه لوحيه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 303 78 - باب: الانبساط إلى الناس وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: خَالِطِ النَّاسَ وَدِينَكَ لا تَكْلِمَنَّهُ وَالدُّعَابَةِ مَعَ الأهْلِ. / 136 - فيه: أَنَس، إِنْ كَانَ النَّبِى عليه السلام لَيُخَالِطُنَا، حَتَّى يَقُولَ لأخٍ لِى صَغِيرٍ: (يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ) . / 137 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَكَانَ لِى صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِى - فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ، فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَىَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِى. قال المؤلف: كان النبى عليه السلام أحسن الأمة أخلاقًا وابسطهم وجهًا، وقد وصف الله ذلك بقوله: (إنك لعلى خلق عظيم) فكان ينبسط إلى النساء والصبيان ويمازحهم ويداعبهم، وروى عنه أنه قال: (إنى لأمزح ولا أقول إلا حقًا) وكان يسرح إلى عائشة صواحباتها ليلعبن معها، فينبغى للمؤمنين الاقتداء بحسن أخلاقه وطلاقة وجهه (صلى الله عليه وسلم) . وقال أبو عبيد: قوله: (يتقمعن) يعنى دخل البيت وتغيبن، يقال للإنسان قد انقمع وقمع إذا دخل فى الشىء أو دخل فى بعضه بعض. وقال الصمعى: فيه سمى القمع الذى يصب فيه الدهن وغيره؛ لأنه يدخل فى الإناء. والذى يراد من الحديث: الرخصة فى اللعب التى تلعب بها الجوارى وهى البنات فجاءت فيها الرخصة وهى تماثيل، وليس وجه ذلك عندنا إلا من أجل أنها لهو الصبيان ولو كان فى الكبار لكان مكروهًا كما جاء النهى فى التماثيل كلها وفى الملاهي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 304 وقال غيره: (كنت العب) : منسوخ بنهى النبى عليه السلام عن الصور؛ لأن كل من رخص فى الصور فيما كان رقمًا أو فى تصوير الشجر ومالاروح له، كلهم قد أجمعوا أنه لا يجوز تصوير ماله روح. وذكر ابن أبى زيد أنه كره أن يشترى الرجل لأبنته الصور. 79 - باب: المدارة مع الناس وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ: إِنَّا لَنَكْشِرُ فِى وُجُوهِ أَقْوَامٍ، وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ. / 138 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِى عليه السلام رَجُلٌ، فَقَالَ: (ائْذَنُوا لَهُ، فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ، أَوْ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ) فَلَمَّا دَخَلَ، أَلانَ لَهُ الْكَلامَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ مَا قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ فِى الْقَوْلِ، فَقَالَ: (أَىْ عَائِشَةُ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ - أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ - اتِّقَاءَ فُحْشِهِ) . / 139 - وفيه: الْمِسْوَرِ أُهْدِيَتْ إلى النَّبِى عليه السلام أَقْبِيَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرَةٌ بِالذَّهَبِ، فَقَسَمَهَا فِى نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَزَلَ مِنْهَا وَاحِدًا لِمَخْرَمَةَ، فَلَمَّا جَاءَ، قَالَ: (قَدْ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ) ، قَالَ أَيُّوبُ: بِثَوْبِهِ، وَأَنَّهُ يُرِيهِ إِيَّاهُ، وَكَانَ فِى خُلُقِهِ شَىْءٌ. قال المؤلف: المدارة من أخلاق المؤمنين وهى خفض الجناح للناس، ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم فى القول وذلك من اقوى أسباب الألفة وسل السخيمة. وقد روى عن النبى عليه السلام أنه قال: (مدارة الناس صدقة) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 305 وقال بعض العلماء: وقد ظن من لم ينعم النظر أن المدارة هى المداهنة، وذلك غلط، لأن المدارة مندوب اليها والمداهنة محرمة، والفرق بينهما بين، وذلك أن المادهنة اشتق اسمها من الدهان الذى يظهر على ظواهر الشياء ويستر بواطنها، وفسرها العلماء فقالوا: المداهنة هى أن يلقى الفاسق المظر فيؤالفه ويؤاكله، ويشاربه، ويى أفعاله المنكرة ويريه الرضا بها ولاينكرها عليه ولو بقلبه وهو اضعف الإيمان، فهذه المداهنة التى برأ الله عز وجل منها نبيه عليه السلام بقوله: (ودوا لوتدهن فيدهنون) . والمدارة هى الرفق بالجاهل الذى يستتر بالمعاصى ولايجاهر بالكبائر، والمعاطفة فى رد أهل الباطل إلى مراد الله بلين ولطف حتى يرجعوا عما هم عليه. فإن قال قائل: فأين أنت فى قولك هذا من فعل النبى عليه السلام حين دخل عليه المنافق فقال عند دخوله: (بئس ابن العشيرة) ثم حدثه وأثنى عليه شرًا عند خروجه؟ . قيل له: إن رسول الله كان مأمورًا بأن لا يحكم على أحد إلا بما ظهر منه للناس لا بما يعلمه دون غيره، وكان المنافقون لا يظهرون له إلا التصديق والطاعة، فكان الواجب عليه أن لا يعاملهم إلا بمثل ما أظهروا له، إذ لو حكم بعلمه فى شىء من الأشياء لكانت سنة كل حاكم أن يحكم بما أطلع عليه فيكون شاهدًا وحاكمًا، والأمة مجمعة أنه لا يجوز ذلك، وقد قال عليه السلام فى المنافقين: (أولئك الذى نهانى الله عن قتلهم) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 306 والداخل على النبي - عليه السلام - إنما كان يظهر فى ظاهر لفظه الإيمان، فقال فيه النبى قبل وصوله إليه وبعد خروجه ماعلمه منه دون أن يظهر له فى وجهه؛ إذ لو أظهره صار حكمًا، وأفاد كلامه بما علمه منه إعلام عائشة بحاله، ولو أنه كان من أهل الشرك ورجا رسول الله إيمانه واستئلافه هو وقومه وإنابتهم إلى الإسلام لم يكن هذا ماهنة؛ لأنه ليس عليه حكم إلا منة الدعاء أى الإسلام لا من وجهة الإنكار والمقاطعة كما فعل عليه السلام مع المشرك رجاء منه وابن أم مكتوم يساله أن يدنيه ويعلمه، فأقبل على المشرك رجاء أن يدخل فى افسلام وتولى عن ابن أم مكتوم، فعاتبه الله فى ذلك، فبان أنه من رسول الله إنصاف أن يظهر لإنسان مايظهر له مما يظهره للناس أجمعين من أحواله مما لا يعلمون منه غيره كما فعل الرسول بابن العشيرة. 80 - باب: لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لا حَكِيمَ إِلا ذُو تَجْرِبَةٍ. / 140 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (لا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ) . قال أبو عبيد: تأويل هذا الحديث عننا أنه ينبغى للمؤمن إذا نكب من وجه أن لا يعود لمثله. وترجم له فى كتاب الأمثال باب المحاذرة للرجل من الشىء قد ابتلى بمثله مرة. وفيه: أدب شريف، أدب به النبى أمته ونبههم كيف يحذرون ما يخافون سوء عاقبته، وهذا الكلام مما لم يسبق إليه النبي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 307 - عليه السلام - وقاله لأبي عزة الشاعر، وكان أسر يوم بدر فسأل النبى عليه السلام أن يمن عليه وذكر فقرًا، فمن عليه النبى وأخذ عليه عهدًا أن لا يخصص عليه ولايهجوه، ففعل ثم رجع إلى مكة فاستهواه صفوان بن أمية وضمن له القيام بعياله، فخرج مع قريش وحضض على النبى - عليه السالم - فأسر، فسأل النبى أن يمن عليه فقال: (لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين لا تمسح عارضيك بمكة وتقول: سخرت من محمد مرتين ثم أمر به فقتل) . وقول معاوية: لا حلم إلا لذى تجربة. يريد أن من جرب الأمور وعرف عواقبها ومايئول إليه أمر من ترك الحلم وركب السفه والسباب من سوء الانتصار منه؛ آثر الحلم وصبر على قليل من الأذى ليدفع به ماهو أكثر منه. وقال الخطابى: معنى قوله: (لا حلم إلا لذى تجربة) أن المرء لا يوصف بالحلم ولا يترقى إلى درجته حتى يركب الأمور ويجربها فيعثر مرة بعد أخرى فيعتبر ويتبين مواضع الخطأ ويجتنبها. وقال ضمرة: الحلم أنفع من العقل؛ لأن الله تسمى به. 81 - باب: حق الضيف / 141 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. . .) ، الحديث. وقد ذكرته فى كتاب الصوم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 308 82 - باب: إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه وقوله تعالى: (ضيف إبراهيم المكرمين ( / 142 - فيه: أَبُو شُرَيْحٍ الْكَعْبِىِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، وَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَلا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِىَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ) . / 143 - وفيه: عُقْبَة، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تَبْعَثُنَا، فَنَنْزِلُ بِقَوْم، ٍ لاَ يَقْرُونَنَا، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَنَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ، فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِى لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا، فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِى يَنْبَغِى لَهُ) . سئل مالك عن جائزته يوم وليلة، فقال: تكرمه وتتحفه يومًا وليلة، وثلاثة أيام ضيافة. قسم رسول الله عليه السلام أمره إلى ثلاث اقسام: إذا نزل به الضيف أتحفه فى اليوم الأول، وتكلف له على قدر وجه، فإذا كان اليوم الثانى قدم إليه مابحضرته، فذا جاوز هذه الثلاثة كان مخيرًا بين أن يستمر على وتيرته أو يمسك، وجعله كالصدقة النافلة. وقوله: (لا يثوى عنه) لا يقيم، والثواء: الإقامة بالمكان، يعنى لا يقيم عنده بعد الثلاث حتى يضيق صدره، وأصل الحرج الضيق، وإنما كره له المقام عنده بعد الثلاثة لئلا يضيق صدره بمقامه فتكون الصدقة منه على وجه المنّ والأذى فيبطل أجره قال الله تعالى: (لا تبطلوا صداقتكم بالمن والأذى (. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 309 وقوله: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) يعنى من كان إيمانه بالله واليوم الآخر إيمانًا كاملا فينبغى أن تكون هذه حالة وصفته فالضيافة من سنن المرسلين. واختلف العلماء فى وجوب الضيافة، فأوجبها الليث بن سعد فرضًا ليلة واحدة، وأجاز للعبد المأذون له أن يضيف مما بيده، واحتج بحديث عقبة بن عامر. وقال جماعة من أهل العلم: الضيافة من مكارم الأخلاق فى بادية وحاضرة وهو قول الشافعى. وقال مالك: ليس على أهل الحضر ضيافة. وقال سحنون: إنما الضيافة على أهل القرى، وأما الحضر فالفندق ينزل فيه المسافر. واحتج الليث بقوله تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) أنها نزلت فيمن منع الضيافة فأبيح للضيف لوم من لم يحسن ضيافته، وذكر قبيح فعله، وروى ذلك عن مجاهد وغيره. فيقال لهم: إن الحقوق لا ينتصف منها بالقول، وإنما ينتصف منها بالأداء والإبراء، فلو كانت الضيافة واجبة لوجب عليهم الخروج إلى القوم مما يلزم من ضيافتهم. وفى قوله عليه السلام: (جائزته يوم وليلة) دليل أن الضيافة ليست بفريضة، والجائزة فى لسان العرب: النحلة والعطية، وذلك تفضل وليس بواجب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 310 وأما حديث عقبة بن عامر فتأويله عند جمهور العلماء أنه كان فى أول الإسلام حين كانت المواساة واجبة، فأما إذا أتى الله بالخير والسعة فالضيافة مندوب إليها. 83 - باب: صنع الطعام والتكلف للضيف / 144 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، قَالَ: آخَى النَّبِى عليه السلام بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِى الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِى الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَال: َ كُلْ فَإِنِّى صَائِمٌ قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ، ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ ليَقُومُ فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ، قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، قَالَ: فَصَلَّيَا. . . . الحديث. قال المؤلف: التكلف للضيف لمن قدر على ذلك من سنن المرسلين وآداب النبيين، ألا ترى أن إبراهيم الخليل ذبح لضيفه عجلا سمينًا. قال أهل التأويل: كانوا ثلاثة أنفس: جبريل وميكائيل وإسرافيل فتكلف لهم ذبح عجل وقربه إليهم. وقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : (جائزته يوم وليلة) يقتضى معنى التكلف له يومًا وليلة لمن وجد، ومن لم يكن من أهل الوجود واليسار فليقدم لضيفه ماتيسر عنده ولايتكلف له مالايقدر عليه، وقد ورد بذلك الخبر عن النبى - عليه السلام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 311 ذكر الطبرى قال: حدثنا محمد بن خالد، عن خراش، حدثنا سلم بن قتيبة، عن قيس بن الربيع، عن عثمان بن شابور عن شقيق بن سلمه قال: (دخلت على سلمان فقرب إلى خبز شعير وملحًا، وقال: لولا أن رسول الله عليه السلام نهى أن تكلف أحدنا ماليس عنه تكلفت لك) . فدل بهذا الحديث أن المرء إذا أضافه ضيف أن الحق عليه أن يأتيه من الطعام بما حضره، وأن لا يتكلف له بما ليس عنده، وإن كان ما حضره من ذلك دون مايراه للضيف أهلا؛ لأن فى تكلفة ماليس عنه معان مكروهة. منها: حبس الضيف عن القرى ولعله أن يكون جائعًا فيضر به. ومنها: أن يكون مستعهجلاً فى سفره فيقطعه عنه بحبسه إياه عن إحضاره ماحضره من الطعام إلى إصلاح ما لم يحضر. ومنها: احتقاره ما عظم الله قدره من الطعام. ومنها: خلافه أمر رسول الله وإتيانه ماقد نهى عنه من التكلف. وروى عبد الله بن الوليد عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: (دخل على جابر بن عبد الله نفر من أصحاب النبى عليه السلام فقرب إليهم خبزًا ثم قال: كلوا فإنى سمعت رسول الله يقول: نعم الإدام الخل، هلاك بالرجل أن يدخل إليه الرجل من إخوانه فيحقر ما فى بيته أن يقدمه إليه، وهلاك بالقوم أن يحتقروا ما قدم إليه) . وقال سفيان الثورى: قال ابن سيرين: لا تكرم أخاك بما يشق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 312 عليه وفسره الثوري فقال: أئته بحاضر ماعندك ولاتحبسه فعسى أن يشق ذلك عليه. وفى حديث أبى جحيفة زيارة الرجل الصالح صديقه الملاطف ودخوله داره فى غيبته وجلوسه مع أهله. وفيه: شكوى المرأة زوجها إلى صديقه الملاطف ليأخذ على يده ويرده عما يضر بأهله. وفيه: أنه لا بأس أن يأكل الضيف حتى يأكل رب الدار معه. وفيه: أنه لا بأس أن يفطر رب الدار لضيفه فى صيام التطوع. وفيه: كراهية التشدد فى العبادة والغلو فيها خشية مايخاف من عاقبة ذلك، وأن الأفضل فى العبادة القصد والتوسط فهو أحرى بالدوام، ألا ترى قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (صدق سلمان) . وفيه: أن الصلاة آخر الليل أفضل؛ لأنه وقت تنزل الله إلى سماء الدنيا فيستجيب الدعاء. 84 - باب ما يكره من الغضب والجزع عند الضيف / 145 - فيه: عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، أَنَّ أَبَاه تَضَيَّفَ رَهْطًا، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: دُونَكَ أَضْيَافَكَ، فَإِنِّى مُنْطَلِقٌ إِلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَافْرُغْ مِنْ قِرَاهُمْ، قَبْلَ أَنْ أَجِيءَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُالرَّحْمَنِ، فَأَتَاهُمْ بِمَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: اطْعَمُوا، فَقَالُوا: أَيْنَ رَبُّ مَنْزِلِنَا قَالَ اطْعَمُوا، قَالُوا: مَا نَحْنُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 313 بِآكِلِينَ حَتَّى يَجِيءَ رَبُّ مَنْزِلِنَا؟ قَالَ: اقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُمْ، فَإِنَّهُ إِنْ جَاءَ وَلَمْ تَطْعَمُوا لَنَلْقَيَنَّ مِنْهُ، فَأَبَوْا، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يَجِدُ عَلَىَّ، فَلَمَّا جَاءَ تَنَحَّيْتُ عَنْهُ، فَقَالَ: مَا صَنَعْتُمْ؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، فَسَكَتُّ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، فَسَكَتُّ، فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ، أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ تَسْمَعُ صَوْتِى لَمَّا جِئْتَ، فَخَرَجْتُ، فَقُلْتُ: سَلْ أَضْيَافَكَ، فَقَالُوا: صَدَقَ، أَتَانَا بِهِ، قَالَ: فَإِنَّمَا انْتَظَرْتُمُونِى، وَاللَّهِ لا أَطْعَمُهُ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ الآخَرُونَ: وَاللَّهِ لا نَطْعَمُهُ حَتَّى تَطْعَمَهُ، قَالَ: لَمْ أَرَ فِى الشَّرِّ كَاللَّيْلَةِ، وَيْلَكُمْ، مَا أَنْتُمْ؟ لِمَ لا تَقْبَلُونَ عَنَّا قِرَاكُمْ، هَاتِ طَعَامَكَ، فَجَاءَهُ فَوَضَعَ يَدَهُ، فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، الأولَى لِلشَّيْطَانِ، فَأَكَلَ وَأَكَلُوا. قال المؤلف: فقه هذا الحديث أنه ينبغى استعمال أحسن الأخلاق للضيف وترك الضجر لكى تنبسط نفسه، ولا تنقبض وتسقط المؤنة والرقبة خشية أن يظن أن الضجر والغضب من أجله، فلذلك من أدب الإسلام ومايثبت المودة، الا ترى أن الصديق لما رأى إبائة أضيافه من الأكل حتى يأكل معهمآثر الأكل معهم وحنت نفسه، وإنما حمله على الحلف - والله أعلم - أنه استنقص ابنه وأهله فى القيام ببر أضيافه، واشتد عليه تأخير عشائهم إلى ذلك الوقت من الليل، فلحقه ما يلحق البشر من الغضب، ثم لم يسعه مخالفة أضيافه لما أبوا من الأكل دونه، فرأى أن من تمام برهم إسعاف رغبتهم وترك التمادى فى الغضب، وأخذ فى ذلك بقوله عليه السلام: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفر عن يمينه، وليأت الذى هو خير) ، وكان مذهبه اختيار الكفارة بعد الحنث. وقوله: (بسم الله الأولى للشيطان) : يعنى اللقمة الأولى إخزاء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 314 للشيطان؛ لأنه هو الذى حمله على الحلف وسول له أن لا يأكل مع أضيافه، وباللقمة الأولى وقع الحنث وبها وجبت الكفارة. وقد تقدم تفسيره قوله: (يا عنثر) فى كتاب الصلاة فى الجزء الثانى فى باب السمر مع الضيف، وسيأتى بعد. 85 - باب قول الضيف لصاحبه: لا آكل حتى تأكل فيه: أبو جحيفة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) / 143 - وفيه: عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِى بَكْرٍ، مثل حديث الباب قبل هذا، وزاد فيه: فَجَعَلُوا لا يَرْفَعُونَ لُقْمَةً إِلا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، فَقَالَ: يَا أُخْتَ بَنِى فِرَاسٍ، مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: وَقُرَّةِ عَيْنِى إِنَّهَا الآنَ لأكْثَرُ قَبْلَ أَنْ يَأَكَلُوا، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فَذَكَرَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْهَا. قال المؤلف: صاحب المنزل فى منزله كالأمير لا ينبغى لحد التقدم عليه فى أمر، يدل على ذلك الحديث الذى جاء عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (لا يؤمن أحد فى سلطانه ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه) فكان هذا الحديث أصلاً لهذا المعنى، ودل هذا أنه ينبغى للضيف المصير إلى مايحمله عليه ضيفه، ويشهد لهذا المعنى حديث أنس (أن غلامًا خاياطًا دعا النبى عليه السلام للطعام فقدمه بين يديه، فاكل النبى وأقبل الخياط على عمله) وقد ترجم البخارى فى كتاب الأطعمة باب من أضاف رجلا إلى طعامه وأقبل هو على عمله فدل هذا الحديث أن أكل صاحب الطعام مع الضيف ليس من الواجبات، إلا أنه جاء فى حديث ضيف أبى بكر معنى يختص الجزء: 9 ¦ الصفحة: 315 بخلاف هذا الصل المتقدم، وذلك أن اضيافه اقسموا أن لا يفطروا حتى ينصرف من عند النبى عليه السلام فاحتبس عنده إلى هوى من الليل فبقوا دون أكل. وقد كان ينبغى على ظاهر الأصل المتقدم من أن صاحب المنزل لا ينبغى لأحد التسور عليه فى منزله فى أمرهم أن يفطروا حين عرض عليهم الأكل ولا يأبوه، فلما امتنعوا من ذلك وبقوا غير مفطرين إلى إقبال أبى بكر حنث نفسه أبو بكر فى يمينه التى بدرت منه إيثارًا لموافقتهم؛ بان بذلك أن يجوز للضيف أن يخالف صاحب المنزل فى تأخير الطعام، وشبهه إذا رأى لذلك وجهًا من وجوه المصلحة وأنه لا حرج عليه فى ذلك، ألا ترى أن الصديق وإن كان غضب لتأخر قراهم إلى وقت قدومه لم ينكر عليهم يمينهم، ولا قال لهم: أتيتم مايجوز لكم فعله. ولا شك أن أبا بكر أعلم بذلك النبى عليه السلام حين حمل إليه بقية الطعام، ولم يعنف القوم ولا خطأهم فى يمينهم - والله أعلم - هذا الذى يغل على الوهم؛ لأن أصاحبه كانوا لا يخفون عنه كل مايعرض لهم ليسن لهم فيه. وقد تقدم فى باب السمر مع الضيف والأهل فى كتاب الصلاة شىء من الكلام فى هذا الحديث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 316 86 - باب إكرام الكبير ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال / 147 - فيه: رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَسَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ، أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ، أَوْ حدثا أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ أَتَيَا خَيْبَرَ فَتَفَرَّقَا فِى النَّخْلِ، فَقُتِلَ عَبْدُاللَّهِ بْن سَهْلٍ فَجَاءَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَحُوَيِّصَةُ، وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِى عليه السلام فَتَكَلَّمُوا فِى أَمْرِ صَاحِبِهِمْ، فَبَدَأَ عَبْدُالرَّحْمَنِ - وَكَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ - فَقَالَ لَهُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (كَبِّرِ الْكُبْرَ) - قَالَ يَحْيَى: يَعْنِى لِيَلِىَ الْكَلامَ الأكْبَرُ. . . الحديث. / 148 - وفيه: ابْن عُمَر، أَنّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (أَخْبِرُونِى بِشَجَرَةٍ مَثَلُهَا كمَثَلُ الْمُسْلِمِ، تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ، بِإِذْنِ رَبِّهَا، وَلا تَحُتُّ وَرَقَهَا، فَوَقَعَ فِى نَفْسِى أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ وَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. . .) الحديث. قال المؤلف: إكرام الكبير وتقديمه فى الكلام وجميع الأمور من أدب الإسلام ومعالى الأخلاق، وذكر عبد الرازق أن فى الحديث من تعظيم جلال الله أن يوقر ذو الشبيه فى الإسلام، ولهذا المعنى قال عليه السلام: (كبر الكبر) فأمر أن يبدأ الأكبر بالكلام، فكان ذلك سنة إلا أنه دل حديث ابن عمر أن معنى ذلك ليس على العموم، وأنه إنما ينبغى أن يبدأ بالأكبر فيما يستوى فيه علم الكبير والصغير، فأما إذا علم الصغير مايجهل الكبير؛ فإنه ينبغى لمن كان عنده علم أن يذكره وينزع به وإن كان صغيرًا، ولا يعد ذلك منه سوء أدب، ولا تنقصًالحق الكبير فى التقدم عليه؛ لأن النبى عليه السلام حين سل أصحابه عن الشجرة التى شببها بالمؤمن وفيهم ابنعمر وغيره ممن كان دونه فى السن لم يوقف الجواب على الكبار منهم خاصة، وإنما سأل دونه فى السن لم يوقف الجواب على الكبار منهم خاصة، وإنما سأل جماعتهم ليجيب كل بما علم، وعلى ذلك دل قول عمر لابنه: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 317 لو كنت قلتها كان أحب إلى من كذا وكذا. لأن عمر لا يحب ما يخالف أدب افسلام سننه، وقد كان رضى الله عنه يسأل ابن عباس وهو صبى مع المشيخة وكان ذلك معدودًا من فضائله، وقد تقدم هذا المعنى فى باب الحياء فى العلم فى آخر كتاب العلم. 87 - باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) [الشعراء: 224] إلى آخر السورة. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَوْلِهِ: (فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (فِى كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ. / 149 - فيه: أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام قَالَ: (إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً) . / 150 - وفيه: جُنْدَب، بَيْنَمَا النَّبِى عليه السلام يَمْشِى؛ إِذْ أَصَابَهُ حَجَرٌ، فَعَثَرَ، فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ، فَقَالَ: (هَلْ أَنْتِ إِلا إِصْبَعٌ دَمِيتِ، وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ) . / 151 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ، كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلا كُلُّ شَىْءٍ مَا خَلا اللَّهَ بَاطِلُ) . وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِى الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِم. / 152 - وفيه: سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ عليه السلام إِلَى خَيْبَرَ فَسِرْنَا لَيْلا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ لِعَامِرِ بْنِ الأكْوَعِ: أَلا تُسْمِعُنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ؟ قَالَ: وَكَانَ عَامِرٌ رَجُلا شَاعِرًا، فَنَزَلَ يَحْدُو بِالْقَوْمِ، يَقُولُ: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فاغفر فداء لك ما اقتقينا إلى آخرها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 318 فَقَالَ النبي (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ هَذَا السَّائِقُ) ؟ قَالُوا: عَامِرُ بْنُ الأكْوَعِ، فَقَالَ: (يَرْحَمُهُ اللَّهُ) ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: وَجَبَتْ يَا نَبِى اللَّهِ، لَوْلا أَمْتَعْتَنَا بِهِ، قَالَ: فَأَتَيْنَا خَيْبَرَ، فَحَاصَرْنَاهُمْ، حَتَّى أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ شَدِيدَةٌ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ فَتَحَهَا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ الْيَوْمَ الَّذِى فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ، أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : مَا هَذِهِ النِّيرَانُ؟ عَلَى أَى شَىْءٍ تُوقِدُونَ؟ قَالُوا: عَلَى لَحْمٍ، قَالَ: عَلَى أَى لَحْمٍ؟ قَالُوا: عَلَى لَحْمِ حُمُرٍ إِنْسِيَّةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَهْرِقُوهَا وَاكْسِرُوهَا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا؟ قَالَ: أَوْ ذَاكَ، فَلَمَّا تَصَافَّ الْقَوْمُ كَانَ سَيْفُ عَامِرٍ فِيهِ قِصَرٌ، فَتَنَاوَلَ بِهِ يَهُودِيًّا؛ لِيَضْرِبَه، ُ وَيَرْجِعُ ذُبَابُ سَيْفِهِ، فَأَصَابَ رُكْبَةَ عَامِرٍ، فَمَاتَ مِنْهُ، فَلَمَّا قَفَلُوا، قَالَ سَلَمَةُ: رَآنِى رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام شَاحِبًا، فَقَالَ لِى: مَا لَكَ؟ فَقُلْتُ فِدًى لَكَ أَبِى وَأُمِّى، زَعَمُوا أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ، قَالَ: مَنْ قَالَهُ؟ قُلْتُ: قَالَهُ فُلانٌ وَفُلانٌ وَفُلانٌ وَأُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ الأنْصَارِىُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (كَذَبَ مَنْ قَالَهُ، إِنَّ لَهُ لأجْرَيْنِ - وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ - إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ قَلَّ عَرَبِىٌّ نَشَأَ بِهَا مِثْلَهُ) . / 153 - وفيه: أَنَس، أَتَى النَّبِى عليه السلام عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، وَمَعَهُنَّ أُمُّ سُلَيْمٍ، فَقَالَ: (وَيْحَكَ، يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَكَ سَوْقًا بِالْقَوَارِيرِ) . قَالَ أَبُو قِلابَةَ: فَتَكَلَّمَ النَّبِى عليه السلام بِكَلِمَةٍ لَوْ تَكَلَّمَ بِهَا بَعْضُكُمْ لَعِبْتُمُوهَا عَلَيْهِ قَوْلُهُ سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ. قال المؤلف: الشعر والرجز والحداء كسائر الكلام، فما كان فيه ذكر تعظيم لله ووحدانيته وقدرته وإيثار طاعته وتصغير الدنيا والاستسلام له تعالى كنحو ماأورده البخارى فى هذا الباب فهو حسن مرغب فيه، وهو الذى قال فيه عليه السلام: (إن من الشعر حمة) وما كان منه كذبًا وفحشًا فهو الذى ذمه الله ورسوله. وقال الشافعى: الشعر كلام، وحسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيحه. وسماع الحداء ونشيد الأعراب لا بأس به؛ فإن الرسول قد سمعه وأقره ولم ينكره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 319 وهذا الباب رد على من نهى عن قليل الشعر وكثيره، واتعتلوا بحديث جبير بن معظم عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أنه كان إذا فتتح الصلاة يستعيذ من الشيطان وهمزه ونفثه ونفخه) وفسره عمرو بن مرة وهو راوى الحديث فقال: نفثه: الشعر، ونفخه: الكبر، وهمزة الموتة التى تأخذ صاحب المس، وبحديث أبى أمامة الباهلى أن النبى عليه السلام قال: لما أنزل إبليس إلى الأرض قال: يارب، وبما روى ابن لهيعة عن أبى قبيل قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: (من قلا ثلاثة أبيات من الشعر من تلقاء نفسه لم يدخل الفردوس) . قال الأعمش: تمثل مسروق بأول بيت شعر ثم سكت، فقيل له: لم سكت؟ قال: أخاف أن أجد فى صحيفتى شعرًا. وقال ابن مسعود: الشعر مزامير الشيطان. وكان الحسن لا ينشد الشعر. قال الطبرى: وهذه أخبار واهية والصحيح فى ذلك أنه عليه السلام كان يتمثل أحيانًا بالبيت فقال: هل أنت إلا إصبع دميت وفى سبيل الله مالقيت وقال عليه السلام: (أصدق كلمة قالها الشاعر لبيت لبيد) ثم تمثل بأول البيت وترك آخرون وقالت عائشة: (كان النبى يتمثل يحدو بالشعر بحضرة النبى وقال: من هذا السائق؟ فقالوا: عامر بن الأكوع فقال: يرحمه الله) وأمر حسان بن ثابت وغيره بهجاء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 320 المشركين وأعلمهم أن لهم على ذلك جزيل الأجر وقال: (هو أشد عليهم من نضح النبل) . وذكر الطبرى عن عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وجله الصحابة أنهم أنشدوا الأشعار، وتمثل معاوية بالشعر، وكان ابن أبى مليكة وعكرمة ينشدان الشعر وكان ابن أبى ليلى ينشد والمؤذن يقيم، وعن ابن سيرين أنه كان ينشد الشعر الريق وقال معمر: سمعت الزهرى وقتادة ينشدان الشعر. قال قتادة: وكان ابن مسعود ربما تمثل بالبيت من وقائع العرب. قال شعبة: وكان قتادة ينشد الشعر فأقول له: أنشدك بيتًا وتحدثنى بحديث. وقال أهل التأويل فى قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون) عم شعراء المشركين يتبعهم غواة الناس ومردة الشياطين وعصاة الجن، ويروون شعرهم؛ لأن الغاوى لا يتبع إلا غاويا مثله. عن ابن عباس وغيره. وقوله: (ألم تر أنهم فى كل واد يهيمون (أى: يمرحون ويمرقون ببما ليس فى الممدوح والمذموم فهم كالهائم على وجهه، والهائم: المخالف القصد. عن أبى عبيدة.) وأنهم يقولون مالا يفعلون (أى يكذبون والمراد بقوله: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات (ابن رواحة وحسان وكعب بن مالك. عن ابن عباس. وقوله: (وذكروا الله كثيرا (قال ابن عباس: فى خلال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 321 كلامهم الناس. وقال ابن زيد: فى شعرهم. وقيل: لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله. (وانتصروا من بعد ما ظلموا) يعنى: ردوا على الكفار الذين يهجون النبى - عليه السلام. قال الطبرى: ولا خلاف أن حكم المستثنى مخالف لحكم المستثنى منه، فوضح أن المذموم من الشعراء غير الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم محمودون غير مذمومين. وقول عامر بن الأكوع: (فاغفر فداء لك ما اقتفينا) فقد زعم بعض أهل الغفلة أن قوله: (فداء لك) تصحيف لا يجوز أن يقال ذلك لله تعالى وليس ذلك كما ظن والشعر صحيح والمعنى فاغفر مااقتفينا أى ماارتكبنا من الذنوب، تقول العرب: قفوت الشىء قفوا: اتبعت أثره، ومنه قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) . وقوله: (فداء لك) دعاء منه ربه أن يفديه من عقابه على مااقترف من ذنوبه فكأنه قال: اللهم اغفر لى وافدنى لك أى فدء من عندك فلا تعاقبنى، وقوله: (لك) تبين الفاعل للفداء المعنى بالدعاء كما تقول فى الدعاء سقيا لك، فلك هاهنا مذكور لتبيين المعنى بالدعاء له، والمعنى: سقاك الله، فكذلك قوله: (فداء لك) معناه افدنا من عقابك، وقد جاء هذا الشعر فى كتاب المغازى بلفظ آخر (فاغفر فداء لك ما ابقينا من الذنوب) أى: مارتكناه مكتوبًا علينا ونحو ذلك، فداء لك بالرفع والخفض أيضًا، فوجه الرفع: أن يكون خبر مبتدأ مضمر ونحن فداء لك، كأنك قلت: نحن لتفدنا أو أفدنا كما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 322 تقول: نحن ارحمنا وزيد ارحمه، ومن خفض (فداء) شبهه بأمس فبناه على الكسر كبناء الأصوات عليه نحو قولهم: قال الغراب: غاق والجبل طاق، وأنشد سيبويه: مهلا فداء لك الأقوام كلهم وتقديره: اغفر افندنا. وأما قول الرجل: (وجبت يا رسول الله) فإنه يعنى الجنة، فهم من دعاء النبى لعامر بالرحمة أنه يستشهد فى تلك الغزاة ويكون من أهل الجنة كما فهم ابن عباس من وقوله: (ورأيت الناس يدخلون فى دين الله افواجا فسبح بحمد ربك واستغفر إنه كان توابا (حضور أجل النبى عليه السلام فلذلك قال الرجل: وجبت يا رسول الله هلا أمتعتنا به. وأما قوله عليه السلام: (وإن له لأجرين إنه لجاهد مجاهد) فيحتمل معنيين - والله أعلم -: أحدهما: أن يكون لما اصاب نفسه وقتلها فى سبيل الله تفضل الله عليه بأن ضاعف أجره مرتين. ويحتمل أن يكون أحد الأجرين لموته فى سبيل الله والأجر الثانى لما كان يحدو به القوم من شعره ويدعو الله فى ثيابهم عند لقاء عدوهم ولك تحضيض للمسلمين وتقوية لنفوسهم، وقد روى نحو هذا المعنى عن النبى. روى معمر، عن الزهرى، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه أنه قال للنبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله قد أنزل في الشعر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 323 ما أنزل، قال: إن المؤمن ليجاهد بنفسه ولسانه، والذى نفسى بيده لكأنما ترمون به فيهم نصح النبل) . وقوله: (ألا أسمعتنا من هنيهاتك) فإن العرب تقول لكل شىء صغير: هنه، والهنوات من الكلام: ماصغر منها ولم يكن له كبير معنى كما قال الشاعر: على هنوات كلها متتابع يريد على صغار من الكلم المستحق بها القطيعة، والنهة كل شىء صغير برز من معظم شىء أو بان منه كزمعه ظلف الشاة وحلمه الثدى والضرع، ويجوز أن يقال: هنية وهنية، وفى كتاب الدعاء: (ألا أسمعتنا من هنياتك) ويقال ذلك للبرهة من الدهر أيضًا. وقوله عليه السلام: (يا أنجشية، رويداك سوقك بالقوارير) فإن القوارير هنا كناية عن النساء الذى على الأبل، أمره بالرفق فى الحداء والإنشاد؛ لأن الحداء يحث الإبل حتى تسرع السير، فلإذا مشت الإبل رويدا أمن على النساء السقوط، وتشبيهه النساء بالقوارير من الاستعارة البديعة؛ لأن القوارير أسرع الأشياء، فأفادت الاستعارة هاهنا من الحض على الرفق بالنساء فى السير ما لم تفده الحقيقة؛ لأنه لو قال له عليه السلام: ارفق فى مشيتك بهن أو ترسل لهم يفهم من ذلك أن التحفظ بالنساء كالتحفظ بالقوارير كما فهم ذلك من الاستعارة لتضمنها من المبالغة فى الرفق ما لم تضمنه الحقيقة. وأنجشة: اسم غلام أسود للنبي - عليه السلام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 324 88 - باب: هجاء المشركين / 154 - فيه: عَائِشَةَ، اسْتَأْذَنَ حَسَّانُ النَّبِىّ عليه السلام فِى هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (فَكَيْفَ بِنَسَبِى) ؟ فَقَالَ حَسَّانُ: لأسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعَرَةُ مِنَ الْعَجِينِ. / 155 - وفيه: عُرْوَة، ذَهَبْتُ أَسُبُّ حَسَّانَ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: لا تَسُبُّهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . / 156 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ فِى قَصَصِهِ يَذْكُرُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، يَقُولُ: (إِنَّ أَخًا لَكُمْ لا يَقُولُ: الرَّفَثَ - يَعْنِى بِذَاكَ ابْنَ رَوَاحَةَ - قَالَ: إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الْفَجْرِ سَاطِعُ بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْكَافِرِينَ الْمَضَاجِعُ وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا يَبِيتُ يُجَافِى جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ / 157 - وفيه: أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ يَسْتَشْهِدُ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَيَقُولُ: نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ، هَلْ سَمِعْتَ النَّبِىّ عليه السلام يَقُولُ: (يَا حَسَّانُ أَجِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ: اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 325 / 158 - وفيه: الْبَرَاء، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) لِحَسَّانَ: (اهْجُهُمْ - أَوْ هَاجِهِمْ - وَجِبْرِيلُ مَعَكَ) . قال المؤلف: هجاء المشركين أهل الحرب وسبهم جائز بهذه الأحاديث وأنه لا حرمة لهم إذا سبوا المسلمين، والانتصار منهم بذمهم وذكر كفرهم وقبيح افعالهم من أفضل الأمال عند الله تعالى ألا ترى قوله عليه السلام لحسان: (أهجهم وجبريل معك) وقوله: (اللهم أيده بروح القدس) وكفى بهذا فضلاً وشرفًا للعمل والعامل به، فأما إذا لم يسب أهل الحرب المسلمين فلا وجه لسبهم؛ لأن الله قد أنزل على نبيه فى قنوته على أهل الكفر: إن الله لم يبعثك لعانًا ولا سبابًا، وإنما بعثك عذابًا، فترك سبهم. فإن قيل: فما دليلك أن النبى عليه السلام إنما أمر حسانًا بهجاء المشركين لينتصر منهم لهجوهم المسلمين؟ . قيل: قول عائشة: (إنه كان ينافح عن رسول الله) يقتضى ذلك تقول العرب: نافحت عن فلان ونفحت عنه إذا خاصمت عنه، والمخاصمة والمنافحة لا تكون إلا من اثنين؛ لأنها مفاعلة وكل مفاعلة تكون كذلك، ويبين هذا قوله لأبى هريرة: نشدتك الله هل سمعت النبى يقول: ياحسان أجب عن رسول الله؟ قال: نعم. فبان أن هجاء المشركين إنما كان مجازاة لهم على قبيح قولهم. روى ابن وهب عن جرير بن حازم قال: سمعت ابن سيرين يقول: (هجاء رسول الله والمسلمين ثلاثة رهط من المشركين عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبعرى، وابو سفيان، فقال المهاجرون: يارسول الله، ألا تأمر عليًا أن يهجو عنا هؤلاء القوم؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 326 فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليس على نالك. ثم قال رسول الله: إذا القوم نصروا النبى بأيديهم وأسلحتهم فبألسنتهم أحق أن ينصروه. فقالت الأنصار: أرادنا. فأتو حسان بن ثابت، فذكروا له ذلك، فأقبل حتى وقف على النبى عليه السلام فقال: يارسول الله، والذى بعثك بالحق ماأحب أن لى بمقولى مابين صنعاء وبصرى. فقال رسول الله: أنت لها ياحسان. قال. يارسول الله، لا علم لى بقريش. فقال رسول الله لأبى بكر: أخبره عنهم ونقب له فى مثالبهم. فهجاهم حسان وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك) . ورواه معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين وقال: العصاص بن وائل مكان عمرو بن العاص. قال المهلب: وأما قوله: (كيف بنسبى؟) فإنه أراد كيف تهجوهم ونسبى المهذب الشريف فيهم فربما مسنى من الهجو ونصيب فقال حسان: (لأسلنك منهم) أى: لأخلصنك من بينهم بالسلامة من الهجاء، أى أهجوهم بما لا يقدح فى نسبهم الماس له عليه السلام، ولكن أهجوهم بسىء أفعالهم وبما يخصهم عارة فى أنفسهم، وتبقى فيهم وصمة من الأخلاق والأفعال المذمومة التى طهر الله نبيه منها ونزهه من عيبها. وقوله فى عبد الله بن رواحة: (إنه لا يقول الرفث فى شعره) فهو حجة أن ماكان من الشعر فيه ذكر الله والأعمال الصالحة، فهو حسن وهو الذى قال فيه عليه السلام: (إن من الشعر حكمة) وليس من المذموم الذى قال فيه عليه السلام: (لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلىء شعرًا) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 327 89 - باب: ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن / 159 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (لأنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا) . / 160 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لأنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا حتَّى يَرِيهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا) . قال أبو عبيد: فسر العشبى هذا الحديث قال ومعنى قوله: (خير له من أن يمتلىء شعرًا) يعنى: الشعر الذى هجى به النبى - عليه السلام. قال أبو عبيد: ولاذى عندى فى هذا الحديث غير هذا القول؛ لأن الذى هجى به النبى عليه السلام لو كان شطر بيت لكان كفرًا، فكأنه إذا حمل وجه الحديث على امتلاء القلب منه أنه قد رخص فى القليل منه عن القرآن وعن ذكر الله فيكون الغالب عليه، فأما إذا كان القرآن والعلم الغالبين عليه فليس جوفه ممتلئًا من الشعر. وقوله: (حتى يريه) قال الأصمعى: هو من الورى على مثال الرمى، يقال منه: (رجل مورّ) غير مهموز مشدد وهو أن يروى جوفه. وقال أبو عبيد: الورى هو أن يأكل القيح جوفه. وأنشد الصمعى: قالت له وريًا إذا تنحنحا. أى تدعو عليه بالوري. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 328 90 - باب: قول النبي (صلى الله عليه وسلم) (تربت يمينك) و (وعقرى حلقى / 161 - فيه: عَائِشَةَ، إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِى الْقُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ عَلَىَّ بَعْدَ مَا نَزَلَ الْحِجَابُ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّهُ عَمُّكِ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ) الحديث. / 162 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنّ النَّبِى عليه السلام أَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ، فَرَأَى صَفِيَّةَ عَلَى بَابِ خِبَائِهَا كَئِيبَةً حَزِينَةً؛ لأنَّهَا كانت حَاضَتْ، فَقَالَ: (عَقْرَى حَلْقَى - لُغَةٌ لِقُرَيْشٍ. . .) الحديث. قال المؤلف: قال ابن السكيت: يقال: تربت يداه إذا افتقر ولم يدع عليه بذهاب ماله، وإنما أراد المثل ليرى المأمور بذلك الجد وأنه إن خالفه فقد اساء، وقال الأصمعى: فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (تربت يمينك) ، و (وتربت يداك) معناه الاستثاث كما تقول: انج تكلتك أمك، وأنت لا تريد أن يثكل، وقال أبو عمرو: أصابه التراب ولم يدع بالفقر عليها. وقال أبو زيد: ترب إذا افتقر وإنما أراد بهذا أن فى يديه التراب. قال النحاس: أى ليس يحصل فى يديه إلا التراب. وقال ابن كيسان: المثل جرى على أنه إن فاتك ما أغريتك به افتقرت الذى عرف معناه، وقال غيره: هى كلمة لا يراد بها الدعاء، وإنما تستعمل فى المدح كما قالوا للشاعر إذا أجاد: قاتله الله لقد أجاد، وكما قالوا: ويل أمة مسعر حرب، وهو يتعجب منه ويمدحه ولكنه دعاء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 329 على أمه يالويل، وهولايريد الدعاء عليها من غضب، وهذا كلامهم وهو مثل تربت يمينك. واختلف أهل اللغة أيضًا فى تأويل قوله: عقرى حلقى فقال صاحب العين: يقال للمرأة: عقرى حلقى أى مشئومة، ويقال: هو دعاء عليها على يراد عقرها الله وحلقها. وقال أبو على القالى: عقرى من العقر دعاء على الإنسان وعقرًا أيضًا، وحلقى من حلق الرأس دعاء على الإنسان أيضًا، وحلقًا أيضًا. وقال ابن قتيبة: عقرى حلق أى عقرها الله وأصابها بوجع فى حلقها. وقال أبو عبيد فى كتاب الأمثال: ومن الدعاء قولهم عقرًا حلقًا وأهل الحديث يقولون: عقرى حلقى، وقال فى غريب الحديث: عقرى حلقى وعقرًا حلقًا. 91 - باب: ما جاء فى زعموا / 163 - فيه: أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِى طَالِبٍ، قَالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ ابْنُ أُمِّى أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلا قَدْ أَجَرْتُهُ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ) . قال صاحب الأفعال: يقال: زعم زعمًا وزعمًا وزعمًا ذكر خبرًا لا يدرى أحق هو أم باطل، وزعمت غير مزعم أى قلت غير مقول وادعيت مالا يمكن، وقد روى عن الرسول عليه السلام أنه قال: (زعموا بئس مطية الجرل) رواه وكيع عن الأوزاعى، عن يحيى، عن أبى قلابة، عن أبى مسعود أو عن أبى عبد الله، عن النبى، ومعناه أن من أكثر من الحديث بما لا يصح عنده ولايعلم صدقه لم يؤمن عليه الكذب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 330 وفائدة حديث أم هانى أنها تكلمت بهذه الكلمة بحضرة النبى عليه السلام ولم ينكرها ولا جعلها كاذبة بذكرها. 92 - باب ما جاء فى قول الرجل ويلك / 164 - فيه: أَنَس، أَنَّ رسُول اللَّه عليه السلام رَأَى رَجُلا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ: (ارْكَبْهَا) ، قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ: (ارْكَبْهَا) ، وَيْلَكَ، فِى الثَّانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَةِ. / 165 - وفيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىّ عليه السلام فِى سَفَرٍ، وَكَانَ مَعَهُ غُلامٌ لَهُ أَسْوَدُ، يُقَالُ لَهُ: أَنْجَشَةُ، يَحْدُو، فَقَالَ: (وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَكَ بِالْقَوَارِيرِ) . / 166 - وفيه: أَبُو بَكْرَة، أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (وَيْلَكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ أَخِيكَ، ثَلاثًا. . .) ، الحديث. / 167 - وفيه: أَبُو سَعِيد، بَيْنَا النَّبِى عليه السلام يَقْسِمُ ذَاتَ يَوْمٍ يقسم قِسْمًا، فَقَالَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ - رَجُلٌ مِنْ بَنِى تَمِيمٍ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ، قَالَ: (وَيْلَكَ، مَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ. . .) ؟ الحديث. / 168 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىّ عليه السلام فَقَالَ: هَلَكْتُ فَقَالَ: (وَيْحَكَ وَمَا أهَلَكْك) ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امرأتِى فِى رَمَضَانَ) . / 169 - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِى عَنِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: (وَيْحَكَ، إِنَّ شَأْنَ الْهِجْرَةِ شَدِيدٌ. . .) ، الحديث. / 170 - وفيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (وَيْلَكُمْ - أَوْ وَيْحَكُمْ، شَكَّ شُعْبَةُ - لا تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) . / 171 - وفيه: أَنَس، أَنَّ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَتَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ قَائِمَةٌ؟ قَالَ: (وَيْلَكَ، وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا) ؟ . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 331 قال سيبوية: ويلك كلمة تقال لمن وقع فى هلكه، ويحك ترحم بمعنى ويل. وقال بعض أهل اللغة: ولا يراد بها الدعاء بإيقاع الهلكة لمن خوطب بها، وإنما يراد به المدح والتعجب كما تقول العرب: ويل أمه مسعر حرب على عادتها فى نقلها الألفاظ الموضوعة فى بابها إلى غيره، كما يقال: انج، ثكلتك أمك، وتربت يداك. وروى يحى بن معين قال: حدثنا معتمر بن سليمان قال: قال لى أبى: أنت حدثتنى عنى عن عبيد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال: ويح كلمة رحمة. 93 - باب: علامة الحب فى الله لقوله تعالى: (إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ( / 172 - فيه: عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ النَّبِى عليه السَّلام: (الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَب) . / 173 - فيه: وَقَالَ ابْن مَسْعُود، مرة: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىّ عليه السلام فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَقُولُ فِى رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا، وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟ فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ) . / 174 - وفيه: أَنَس، أَنَّ رَجُلا سَأَلَ النَّبِى عليه السلام فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (مَا أَعْدَدْتَ لَهَا) ؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلاةٍ وَلا صَوْمٍ وَلا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّى أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) . قال المؤلف: علامة حب الله حب رسوله واتباع سبيله والاقتداء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 332 بسنته؛ لقوله تعالى: (إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله (وقوله عليه السلام: (المرء مع من أحب) فدل هذا أن من أحب عبدًا فى الله فإن الله جامع بينه وبينه فى جنته ومدخله مدخلة وإن قصر عن عمله، وهذا معنى قوله: (ولم يلحق بهم) يعنى فى العمل والمنزلة، وبيان هذا المعنى - والله أعلم - أنه لما كان المحب للصالحين وإنما أحبهم من أجل طاعتهم لله، وكانت المحبة عملا من أعمال القلوب واعتقادًا لها أثاب الله معتقدًا ذلك ثواب الصالحين إذ النية هى الأصل والعمل تابع لها، والله يوتى فضله من يشاء. 94 - باب: قول الرجل للرجل اخسأ / 175 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ لابْنِ صَائِدٍ: (قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا، فَمَا هُوَ) ؟ قَالَ: الدُّخُّ قَالَ: (اخْسَأْ) . / 176 - وفيه: عُمَر، أَنّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ لابْنِ صَائِدٍ: (اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ. . .) ، وذكر الحديث. قال المؤلف: أخسأ زجر للكب وإبعاد له، هذا أصل هذه الكلمة عند العرب ثم استعملت فى كل من قال أو فعل مالاينبغى له مما زجره فبعد، وفى القرآن: (كونوا قردة خاسئين) أى: مبعدين، وقال تعالى: (اخسئوا فيها ولا تكلمون) أى: ابعدوا بعد الكلاب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 333 (ولا تكلمون) فى رفع العذاب عنكم فكل من عصى الله سقطت حرمته ووجب خطابه بالغلظة والشدة والذم له لينزع عن مذهبه ويرجع عن قبيح فعله. وقالوا: (فرضه النبى) من رواه بالضاد فمعناه دفعه حتى وقع فتكسر يقال: رض الشىء فهو رضيض ومرضوض إذا انكسر، ومن رواه بالصاد فمعناه رصه حتى دخل بعضه فى بعض يقال: رص البنيان والقوم فى الحرب رصًا، إذا قرب بعضها إلى بعض، ومنه قوله تعالى: (كأنهم بنيان مرصوص) . وفيه: أن الله لم يطلع نبيه على الدجال متى يخرج فى أمته وأخفى عنه ذلك لما هو أعلم به، فلا علم لنبى مرسل ولاملك مقرب إلا بما أعلمه الله به ولذلك قالت الملاكة: (لا علم لنا إلا ما علمتنا) . 95 - باب قول الرجل مرحبا وَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ النَّبِى عليه السلام لِفَاطِمَةَ: (مَرْحَبًا بِابْنَتِى) وَقَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ: جِئْتُ إِلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ) . / 177 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لوَفْدُ عَبْدِالْقَيْسِ: (مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ الَّذِينَ جَاءُوا غَيْرَ خَزَايَا وَلا نَدَامَى) ، الحديث. قال الأصمعى: معنى قوله (مرحبًا) لقيت رحبًا وسعة، وقال الفراء: هو منصوب على المصدر وفيه معنى الدعاء والرحب، والترحب: السعة، وتقول العرب: مرحبًا وأهلاً وسهلاً أى لقيت أهلاً كأهلك ولقيت سهلاً أى سهلت عليك أمورك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 334 وقوله عليه السلام: (غير خزايا) يعنى غير مخزنين بل مكرمين مرفعين. ولا ندامى يعنى: غير نادمين بل مغتبطين فرحين بما أنعم الله عليهم من عز الإسلام، وتصديق النبى ونصرته ودعاء قومهم إلى دينه. 96 - باب: هل يدعى الناس بآبائهم / 178 - فيه: ابْن عُمَر، أَنّ النَّبِى عليه السلام قَالَ: (إِنَّ الْغَادِرَ يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلانِ بْنِ فُلانٍ) . قال المؤلف: مصداق هذا الحديث فى قوله تعالى: (وجعلناكم شعوبًا وقبائل) قال أهل التفسير: الشعوب النسب الأبعد والقبائل النسب الأقرب يقال فلان من بنى فلان، غير أن النسب إلى الآباء وإن كان هو الأصل فقد جاء فى الحديث أن يدعى المرء بأحب أسمائه إليه، وأحبها إليه أن يدعى بكنيته لما فى ذلك من توقيرة والدعاء بالآباء أشد فى التعريف وأبلغ فى التميز، وبذلك نطق القرآن والسنة. وقد كان الأعراب الجفاء يأتون النبى عليه السلام وهو جالس مع أصاحبه فيقولون: أيكم محمد بن عبد المطلب، ولايذكرون ما شرفه الله من النوبة المعصومة والرسالة المؤيدة فلا ينكر ذلك عليهم لما خصه الله به من الخلق العظيم، وجبله عليه من الطبع الشريف. وفى قوله عليه السلام: (هذه غدرة فلان بن فلان) رد لقوله من زعم أنه لا يدعى الناس يوم القيامة إلا بأمتهم؛ لأن فى ذلك سترًا على آبائهم، وهذا الحديث خلاف قولهم. وفيه: جواز الحكم بظواهر الأمور إذا لم يمكن علم بواطنها؛ لأنه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 335 قد يجوز أن يكون كثير من الناس ممن يدعى إلى أبيه فى الظاهر، وليس كذلك فى الباطن، ودل عموم هذا الحديث على أنه إنما يدعى الناس بالآباء ولايلزم داعيهم البحث عن حقيقة أمورهم والتنقير عنهم. 97 - باب لا يقل خبثت نفسى ولكن ليقل لقست نفسى / 179 - فيه: عَائِشَةَ، وَسَهْل بْن سعد، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: خَبُثَتْ نَفْسِى، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِى) . قال المؤلف: كان النبى يعجبه الاسم الحسن ويتفائل به ويكره الاسم القبيح ويغيره، وكره عليه السلام لفظ الخبيث إذ الخبث حرام على المؤمنين، وقال أبو عبيد: لقسمت وخبثت واحد لكنه استقبح لفظ خبثت. قال المؤلف: وليس قوله عليه السلام (لا يقولن أحدكم خبثت نفسى) على معنى الأيحاء والحتم، وإنما هو من باب الأدب، فقد قال فى الذى يعقد الشيطان على رأسه ثلاث عقد وينام عن صلاة: (أصبح خبيث النفس كسلان) وقد نطق القرآن بهذه اللفظة فقال تعالى: (ومثل كلمة خبيئة كشجرة خبيثة) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 336 98 - باب لا تسبوا الدهر / 180 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيىّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ اللَّهُ جَلّ ثناؤه: يَسُبُّ بَنُو آدَمَ الدَّهْر، َ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِى اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ) . / 181 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ، وَلا تَقُولُوا: خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ) . قال الخطابى: كان أهل الجاهلية يضيفون المصائب والنوائب إلى الدهر الذى هو مر الليل والنهار، وهم فى ذلك فريقان، فرقة لا تؤمن بالله ولا تعرف إلا الدهر الليل والنهار اللذين هما محل للحوادث وظرف لمساقط الأقدار، فنسبت المكارة إليه على أنها من فعله، ولا ترى أن لها مدبرًا غيره وهذه الفرقة هى الدهرية التى حكى الله عنهم: (وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر (. وفرقة ثانية: تعرف الخالق فتنزهه أن تنسب إليه المكارة فتضيفها إلى الدهر والزمان، وعلى هذين الوجهين كانوا يذمون الدهر ويسبونه، فيقول القائل منهم: ياخيبة الدهر، ويا بؤس الدهر، فقال لهم النبى - عليه السلام - مبطلا ذلك من مذهبهم: (لا تسبوا الدهر على أنه الدهر، فإن الله هو الدهر) يريد والله أعلم: لا تسبوا الدهر على أنه الفاعل لهذا الصنع بكم، فإن الله هو الفاعل له، فإذا سببتم الذى أنزل بكم المكارة رجع السب إلى الله وانصرف إليه. ومعنى قوله: (أنا الدهر) : أنا ملك الدهر ومصرفه فحذف اختصارًا للفظ واتساعًا فى المعنى، وبيان هذا فى حديث أبى هريرة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 337 حدثنا ابن الأعرابى، حدثنا محمد سعيد بن غالب، حدثنا ابن نمير حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبى صالح، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (يقول الله: أنا الدهر، بيدى الليل والنهار أجده وأبليه، وأذهب بالملوك وآتى بهم) . روى عبد الرزاق عن معمر، عن الزهرى، عن ابن المسيب، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (يقول الله تعالى: يؤذينى ابن آدم، يقول: ياخيبة الدهر، فلا يقولن أحدكم ياخيبة الدهر، وإنى أنا الدهر أقلب ليله ونهاره، وإذا شئت قبضتها) . وقال ابن النحاس: يجوز فيه نصب الراء من قوله: (إن الله هو الدهر) والمعنى: فإن الله معمر الدهر أى: مقيم أبدأ الدهر. 99 - باب: قول النبى عليه السلام وإنما الكرم قلب المؤمن وَقَدْ قَالَ: إِنَّمَا الْمُفْلِسُ الَّذِى يُفْلِسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا الصُّرَعَةُ الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ، كَقَوْلِهِ: لا مُلْكَ إِلا لِلَّهِ، فَوَصَفَهُ بِانْتِهَاءِ الْمُلْكِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُلُوكَ أَيْضًا، فَقَالَ: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا) [النمل 34] . / 182 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَيَقُولُونَ الْكَرْمُ، إِنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ) . قال المهلب: قوله: (إنما الكرم قلب المؤمن) وإنما المفلس والصرعة وإنما هو على المبالغة، أى ليس المفلس كل والإفلاس إلا من لم تكن له حسنات يوم القيامة من أجل أنه قد يكون فى الدنيا مفلس من المال، وهو غنى يوم القيامة بحسناته، والغنى فى الدنيا قد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 338 يكون مفلسًا يوم القيامة، وهذا على المبالغة، وكذلك الصرعة، ليس الذى يغلب الناس ويصرعهم بقوته، وإنما الصرعة الذى يملك نفسه. وغرضه فى هذا الباب - والله أعلم - أن يعرف بمواقع الألفاظ المشتركة، وأن يقتصر فى الوصف على ترك المبالغة والإغراق فى الصفات إذا لم تستحق الموصوف ذلك ولا يبلغ النهايات فى ذلك إلا فى مواضعها، وحيث يليق الوصف بالنهاية وقال ابن الأنبارى: سمى الكرم كرمًا؛ لأن الخمر المشروبة من عنبه تحث على السخاء وتأمر بمكارم الأخلاق كما سموها راحًا قال الشاعر: والخمر مشتقه المعنى من الكرم ولذلك قال عليه السلام: (لا تسموا العنب الكرم) كره أن يسمى أصل الخمر باسم مأخوذ من الكرم، وجعل المؤمن الذى يتقى شربها ويرى الكرم فى تركها أحق بهذا الاسم الحسن. وقال أبو حاتم: قال رجل من أهل الطائف: شققت من الصبا واشتق منى كما اشتقت من الكرم الكروم 0 - باب قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (فداك أبى وأمى فيه الزبير / 183 - وفيه: عَلِىّ، قَالَ: مَا سَمِعْتُ النَّبِىّ عليه السلام يُفَدِّى أَحَدًا غَيْرَ سَعْدٍ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (ارْمِ فَدَاكَ أَبِى وَأُمِّى) ، أَظُنُّهُ يَوْمَ أُحُدٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 339 قد تقدم معنى تفدية الرجل لأخيه فى كتاب الجهاد ونذكر هنا مالم يمض هناك. قال الطبرى: إن قال قائل: قول على: (ماسمعت النبى - على السلام - يفدى رجلا غير سعد) هل يعارض حديث الزبير؛ فقد روى هشام بن عروة، عن أبيه (أن عبد الله بن الزبير قال يوم الخندق للزبير: ياأبه، لقد رأيتك تحمل على فرسك الأشقر. قال: هل رأيتنى أى بنى؟ قلت: نعم. قال: كان رسول الله يجمع لأبيك أبويه، يقول: احمل فداك أبى وأمى) . قال الطبرى: وقول الزبير غير دافع صحة ماقال عليّ؛ لأن عليًا إنما أخبر عن نفسه أنه لم يسمع النبى جمع أبويه لأحد غير سعد، فجائز أن يكون جمع للزبير أبويه ولم يسمعه على وسمعه الزبير، فأخبر كل واحد منهما بما سمع، وليس فى قول من قال: لم أسمع فلانًا يقول كذا نفى منه أن يكون سمع ذلك منه غيره، ولا فى قول من قال: سمعت فلانًا يقول يقول كذا إيجاب منه أن يكون لا أحد إلا وقد سمع ذلك الخبر منه. 1 - باب قول الرجل: جعلنى الله فداك وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِى عليه السَّلام: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا. / 184 - فيه: أَنَس، أَنَّهُ أَقْبَلَ هُوَ وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَ النَّبِى عليه السلام وَمَعَه صَفِيَّةُ مُرْدِفُهَا عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَثَرَتِ النَّاقَةُ، فَصُرِعَ النَّبِى عليه السلام وَالْمَرْأَةُ، وَأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ: أَحْسِبُ اقْتَحَمَ عَنْ بَعِيرِهِ، فَأَتَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 340 النَّبِيّ عليه السلام فَقَالَ: يَا نَبِى اللَّهِ، جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاكَ، هَلْ أَصَابَكَ مِنْ شَىْءٍ؟ قَالَ: (لا، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْمَرْأَةِ) ، فَأَلْقَى أَبُو طَلْحَةَ ثَوْبَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَقَصَدَ قَصْدَهَا، فَأَلْقَى ثَوْبَهُ عَلَيْهَا، فَقَامَتِ الْمَرْأَةُ، فَشَدَّ لَهُمَا عَلَى رَاحِلَتِهِمَا فَرَكِبَا. . . . الحديث. قال المؤلف: وفى هذا الباب رد قول من لم يجز تفديه الرجل للرجل بنفسه أو بأبويه، زعموا أنه فدى النبى سعدًا بأبويه، لأنهما كانا مشتركين، فأما المسلم فلا يجوز له ذلك. قالوا: وروى عن عمر بن الخطاب أن رجلا قال له: جعلنى الله فداك. قال: إذًا يهينك الله. . وقد ثبت فى هذا الباب عن الصديق، وعن أبى طلحة أنهما فديا النبى فلم ينكر ذلك عليهما، ولأنهاهما عنه، وقد تقدم فى كتاب الجهاد متصلا بباب الترسة. 2 - باب: قول الرجل لصاحبه يا أبا فلان وأحب الأسماء إلى الله / 185 - فيه: جَابِر، قَالَ: وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلامٌ، فَسَمَّاهُ الْقَاسِمَ، فَقُلْنَا: لا نَكْنِيكَ أَبَا الْقَاسِمِ، وَلا كَرَامَةَ، فَأَخْبَرَ النَّبِى عليه السلام فَقَالَ: (سَمِّ ابْنَكَ عَبْدَالرَّحْمَنِ) . قال المؤلف: جاء فى هذا الحديث عن عمر بن الخطاب أنه قال: يصفى للمرء ود أخيه المسلم أن يدعوه بأحب الأسماء إليه، ويوسع له فى المجلس ويسلم عليه إذا لقيه، وإذا قال له يا أبا فلان وكناه فقد أكرمه وتلطف له فى القول، وذلك مما يثبت الود. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 341 وروى ابن لهيعة عن أبى قبيل عن عبد الله بن عمر، عن النبى عليه السلام قال: (تكنوا فإنه أكرم للمكنى والمكنى) . وأما أحب الأسماء إلى الله فذكر أبو داود بإسناده عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر عليه السلام أنه قال: (أحب الأسماء إلى الله - عز وجل - عبد الله وعبد الرحمن) وعن عوف، عن الحسن قال: بلغنى أن رسول الله قال: (من خير أسمائكم عبد الله وعبد الرحمن) . 3 - باب قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (سموا باسمى ولا تكنوا بكنيتى (1) / 186 - فيه: [سقط] قال الطبرى: إن قال قائل: ماوجه هذا الحديث وقد جمع جماعة من أصحاب النبى عليه السلام بين اسمه وكنيته منهم على بن أبى طالب كنى ابنه محمد ابن الحنفية: أبا القاسم؟ قيل: قد اختلف السلف فبلنا فى ذلك، فقالت طائفة: غير جازلأحد أن يكنى نفسه أو ولده أبا القاسم، أو إن يسميه قاسما ليكنى الأب أبا القاسم، فأما أن يسمى ابنه محمدًا فذلك له، واعتلوا بحديث جابر وأبى هريرة، قالوا: فأذن النبى بالتسمى باسمه، ونهى عن التكنى بكنيته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 342 ذكر من روى ذلك عنه: روى ابن سيرين قال: كان مروان بن الحكم يسمى ابنه القاسم، وكان رجل الأنصار يسمى ابنه القاسم، فلما بلغهما هذا الحديث بالنهى سمى مروان عبد الملك، وغير الأنصارى اسم ابنه. وقال ابن عون: سالت ابن سيرين عن الرجل يكنى بكنية النبى ولم يسم باسمه، أيكره؟ قال: نعن. وقال زبيد الأيامى: كان الرجل منا إذا يكنى بأبى القاسم كنيناه أبا القاسم. وقالت طائفة: غير جائز أن يجمع أحد بين اسم النبى وكنيته، فإن سماه محمدًا لم يكن له أن يكنيه أبا القاسم، فإن كناه أبا القاسم ولم يكن له أن يسميه محمدًا ولا أحمد، واعتلوا بما حدثنا به يوسف بن موسى القطان، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام الدستوائى، حدثنا أبو الزبير عن جابر أن رسول الله قال: (من تسمى باسمى فلا يتكنين بكنيتى، ومن تكنى بكنيتى فلا يستمين باسمى) . وقال آخرون: جائز: أن يجمع بين اسم النبى وكنيته، واعتلوا بما حدثنا محمد بن خلف، حدثنا محمد بن الصلات، حدثنا الربيع بن منذر الثورى، عن أبيه، عن محمد ابن الحنيفة قال: (وقع بين على وبين طلحة كلام، فقال له طلحة: إنك لجرىء جمعت بين اسم رسول الله وكنيته، وقد نهى رسول الله عن ذلك. فقال له على: الجرىء كل الجررىء من قال على رسول الله مالم يقل. ثم استشهد على أناسًا فشهدوا له أن رسول الله رخص له فى ذلك، وقد سمى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 343 طلحة ابنه محمدًا وكناه أبا القاسم) ولو صح حديثه ماخالف مارواه عن النبى عليه السلام وقال: إذن النبى لعلى أن يسمى ابنه محمدًا ويكنيه أباالقاسم إطلاق منه ذلك لجميع أمته؛ إذ لم يخبر أنه خص بذلك عليا دون سائر أمته. وقد سمى ولده باسم النبى وكناه بكنيته جماعة من السلف. وروى عشيم عن كغيرة عن إبراهيم أن محمد بن الأشعث كان يكنى أبا القاسم وكان يدخل على عائشة فتكنيه بذلك روان بن معاوية، عن محمد بن عمران الحجبى عن جدته صفية بنت شيبة، عن عائشة قالت: جاءت امرأة إلى النبى عليه السلام فقالت: يارسول الله، ولد لى غلم فسميته محمدًا وكنيته بأبى القاسم، فبلغنى أنك تكره ذلك، فقال رسول الله: (ما حرم اسمى وأحل كنيتى وما حرم كنيتى وأحل اسمي) . وقال آخرون: غير جائز لأحد أن يسمى باسم النبى عليه السلام ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا معاذ بن هشام قال: حدثنى أبى، عن قتادة، عن سالم بن أبى الجعد قال: كتب عمر إلى أهل الكوفة الا تسموا أحدًا باسم نبى. واعتلوا بما حدثنى محمد بن بشار، حدثنا أبو داود، حدثنا الحكم بن عطية، عن ثابت، عن أنس قال: قال النبى - عله السلام - (تسمون أولادكم محمدًا ثم تلعنوهم) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 344 قال الطبري: والصواب عندنا أن يقال كل هذه الأخبار عن النبي صحيح، وليس فى شىء منها مايدفع غيره ولا ينسخه، ولو كان فيها ناسخ أو منسوخ لنقلت الأمة بيان ذلك، وإنما كان نهى النبي عن التكنى بكنيته تكرهًا إعلامًا منه أمته أن الجميع بين اسمه وكنيته أو التكنى بكنيته على الكراهة لا على التحريم، وذلك أنه لو كان على التحريم لم تجهل الأمة ذلك ولم يطلق المهاجرون والأنصار ذلك لمن فعله ولأنكروه، وفى تركهم إنكاره دليل على صحة قولنا. وقال غير الطبرى: وإنما نهى النبي عليه السلام أن يجمع بين اسمه وكنيته تعزيزًا له وتوقرًا؛ لئلا يدعى غيره باسمه فيظن عليه السلام أنه هو المدعو به فيعنت بذلك، وقد روى غيره أن هذا المعنى كان سبب هذا الحديث، روى أبو عيسى الترمذى: حدثنا الحسن بن على الخلال، حدثنا يزيد بن هارون، عن حميد، عن أنس، عن النبي: (أنه سمع رجلا ينادى فى السوق ياأبا القاسم، فالتفت عليه السلام، فقال له الرجل: لم أعنك، فقال عليه السلام: لا تكنوا بكنيتى) وقد أمر الله عباده المؤمنين أن لا يجعلوا دعاء الرسول بينهم كدعاء بعضهم بعضًا، وأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوته، ولايجهروا له بالقول، وهذا كله حض على توقره وإجلاله وتخصيصه بكنيته لا يدعى بها غيره من إجلاله وتوقرة. 4 - باب: اسم الحزن / 187 - فيه: ابْن الْمُسَيَّب، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَبَاهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ، عليه السَّلام، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 345 فَقَالَ: (مَا اسْمُكَ) ؟ قَالَ: حَزْنٌ، قَالَ: (أَنْتَ سَهْلٌ) ، قَالَ: لا أُغَيِّرُ اسْمًا سَمَّانِيهِ أَبِى. قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: فَمَا زَالَتِ الْحُزُونَةُ فِينَا بَعْدُه. قال المؤلف: هذا الحديث يدل أن أمره عليه السام بتغيير الأسماء المكروهة ليس على وجه الوجوب، وأن ذلك على معنى الكراهية؛ لأنه لو كان على معنى الوجوب لم يجز لجد سعيد الثبات على حزن، ولاسوغ النبي ذلك، وسيأتى بعد هذا. وروى أبو دود: حدثنا مسدد، حدثنا هشيم، عن داود بن عمرو، عن عبد الله بن أبى زكريا، عن أبى الدرداء قال: قال رسول الله: (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم) . 5 - باب: تحويل الاسم إلى اسم أحسن منه / 188 - فيه: سَهْل، أُتِىَ بِالْمُنْذِرِ بْنِ أَبِى أُسَيْدٍ إِلَى النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) حِينَ وُلِدَ، فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِهِ، وَأَبُو أُسَيْدٍ جَالِسٌ، فَلَهَا النَّبِي عليه السلام بِشَىْءٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَمَرَ أَبُو أُسَيْدٍ بِابْنِهِ، فَاحْتُمِلَ مِنْ فَخِذِ النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) ، فَاسْتَفَاقَ النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَيْنَ الصَّبِىُّ) ؟ فَقَالَ أَبُو أُسَيْدٍ: قَلَبْنَاهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (مَا اسْمُهُ) ؟ قَالَ: فُلانٌ، قَالَ: (لَكِنْ أَسْمِهِ الْمُنْذِرَ) ، فَسَمَّاهُ يَوْمَئِذٍ الْمُنْذِرَ. / 189 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ زَيْنَبَ كَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ، فَقِيلَ: تُزَكِّى نَفْسَهَا، فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام زَيْنَبَ. / 190 - وفيه: ابْن الْمُسَيَّب، أَنَّ جَدَّهُ حَزْنًا قَدِمَ عَلَى النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (مَا اسْمُكَ) ؟ قَالَ: اسْمِى حَزْنٌ، قَالَ: (بَلْ، أَنْتَ سَهْلٌ) ، قَالَ: مَا أَنَا بِمُغَيِّرٍ اسْمًا سَمَّانِيهِ أَبِى. قال المؤلف: قد قدمنا قبل هذا أن النبي عليه السلام كان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 346 يعجبه تغيير الاسم القبيح بالاسم الحسن على وجه التفاؤل والتيمن؛ لأنه كان يعجبه الفأل الحسن، وقد غير رسول الله عدة أسامى، غير برة بزينب وحول اسم عبد الله بن عمرو بن العاص إلى عبد الله كراهة لاسم العصيان الذى هو مناف لصفة المؤمن، وإنما شعار المؤمن الطاعة وسمته العبودية. قال الطبرى: فلا ينبغى لأحد أن يتسمى باسم قبيح المعنى، ولا باسم معناه التزكية والمدجح، ولا باسم معناه الذم والسب، بل الذى ينبغى أن يسمى به ما كان حقًا وصدقًا، كما أمر الذى سمى بنه القاسم أن يسميه عبد الرحمن، إذ كان الصدق الذى لا شك فيه أنه عبد الرحمن فسماه بحقيقة معناه، وإن كانت الأسماء العوارى لم توضع على المسميات لصفاتها بل للدلالة على أشخاصها خشية أن يسمع سامع باسم العاصى فيظن أن ذلك له صفة، وأنه إنما سمى بذلك لمعصية ربه، فحول ذلك عليه السلام إلى ما لإذا دعى به كان صدقًا. وأما تحويله بره إلى زينب؛ فلأن ذلك كان تزكية ومدحًا فحوله إلى ما لا تزكيه فيه ولا ذم، وعلى هذا النحو سائر الأسماء التى غيرها رسول الله، فأولى الأسماء أن يتسمى بها أقربها إلى الصدق وأحرها أن لا يشكل على سامعها؛ لأن الأسماء إنما هى للدلالة والتعريف، وبهذا وردت الآثار عن النبى - عليه السلام. روى أبو داود فى مصنفه حدثنا عن أبى وهب الخشنى - وكانت له صحبة، عن النبى عليه السلام أنه قال: (أحب الأسماء إلى الله: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 347 عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبها حرب ومرة) وروى عطاء عن أبى سعيد الخدرى قال: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (لا تسموا أبناءكم حكما ولا أبا الحكم، فإن الله هو الجكيم العليم) . قال الطبرى: وليس تغيير رسول الله ماغير من الأسماء على وجه المنع للتسمى بها؛ بل ذلك على وجه الاختيار؛ لأن الأسماء لم يسم لها لوجود معانيها فى المسمى بها، وإنما هى للتمييز، ولذلك أباح المسلمون أن يتسمى الرجل القبيح بحسن، والرجل الفاسد بصالح، يدل على ذلك قول جد ابن المسيب للنبى عليه السلام حين قال له أنت سهل: ماكنت أغير اسما سمانيه أبى، فلم يلزمه الانتقال عنه على كل حال، ولا جعله بثباته عليه آثما بربه، ولو كان آثما بذلك لجبره على النقلة عنه، إذ غير جائز فى صفته عليه السلام أن يرى منكرًا وله إلى تغييره سبيل. 6 - باب: من تسمى بأسماء الأنبياء عليهم السلام / 191 - فيه: إِسْمَاعِيلُ، قُلْتُ لابْنِ أَبِى أَوْفَى: رَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ ابْنَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: مَاتَ صَغِيرًا، وَلَوْ قُضِىَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ عليه السلام نَبِىٌّ عَاشَ ابْنُهُ، وَلَكِنْ لا نَبِىَّ بَعْدَهُ. / 192 - وفيه: الْبَرَاءَ، قَالَ: لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِى الْجَنَّةِ) . / 193 - وفيه: جَابِر، قَالَ النَّبيّ (صلى الله عليه وسلم) : (سَمُّوا بِاسْمِى، وَلا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِى. . .) الحديث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 348 / 194 - وفيه: أَبُو هُرَيرَةَ، عن النَّبِىّ مثله. / 195 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: وُلِدَ لِى غُلامٌ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ. . . الحديث. / 196 - وفيه: الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، قَالَ: كسَفَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ. ورَوَاهُ أَبُو بَكْرَةَ، عَنِ النَّبِى عليه السَّلام. قال المؤلف: هذه الأحاديث تدل على جواز التسمية بأسماء الأنبياء عليهم السلام، وقد قال سعيد بن المسيب: أحب الأسماء إلى الله أسماء الأنبياء، وقد يرد قول من كره التسمية بأسماء الأنبياء، وهى رواية جاءت عن عمر بن الخطاب، عن طريق قتادة، عن سالم بن أبى الجعد قال: كتب عمر إلى أهل الكوفة ألا يتسمى أحد باسم نبى، وقد مر فى باب قوله: (تسموا باسمى، ولاتكنوا بكنيتى) . وذكر الطبرى أن حجة هذا القول حديث الحكم بن عطية عن ثابت عن أنس قال النبى: (تسمون أولادكم محمدًا ثم تلعنوهم) والحكم بن عطية ضعيف، ذكره البخارى فى كتاب الضعفائ، وقال: كان أبو الوليد يضعفه، وليس قوله عليه السلام: (تسمون أولادكم محمدًا ثم تلعنوهم) لو صح عن النبى عليه السلام بمانع أن يتسمى أحد باسم محمد، فقد أطلق ذلك وأباحه بقوله: (تسموا باسمى) وسمى ابنه إبراهيم باسم الخليل - عليل السلام وإنما فيه النهى عن أن يسمى أحد ابنه محمدًا ثم يلعنه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 349 7 - باب: تسمية الوليد / 197 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا رَفَعَ النَّبِى عليه السلام رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ، قَالَ: (اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ. . .) الحديث. قال المؤلف: هذا الحديث يرد ماروى معمر الزهرى قال: (أراد رجل أن يسمى ابنًا له الوليد، فنهاه النبى وقال: إنه سيكون رجل اسمه الوليد يعمل فى أمتى كما عمل فرعون فى قومه) وحديث أبى هريرة أثبت فى الحجة من بلاغ الزهرى، فهو أولى منه. 8 - باب: من دعا صاحبه فنقص من اسمه حرفا وَقَالَ أَبُو هُرَيرَةَ: قَالَ لىِّ النَّبِىَ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا أَبَا هر) . / 198 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (يَا عَائِشَ، هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُكِ السَّلامَ) ، قُلْتُ: وَعَلَيْهِ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، قَالَتْ: وَهُوَ يَرَى مَا لا أَرَى. / 199 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لأَنْجَشَةُ: (يَا أَنْجَشُ، رُوَيْدَكَ، سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ) . أما قوله عليه السلام: (ياعائش) (يا أنجش) فهو من باب النداء المرخم، والترخيم: نقصان أواخر الأسماء، تفعل ذلك العرب على وجه التخفيف، ولاترخم ماليس منادى إلا فى ضرورة الشعر ولاترخم من الأسماء إلا ماكان من ثلاثة أحرف؛ لأن الثلاثة أقل الأصول إلا ماكان فى آخره هاء التأنيث فإنه يرخم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 350 قلت حروفه أو كثرت، فتقول فى ترخيم عائشة وأنجشة: ياعائش، وياأنجش، وفى ترخيم مالك: يامال أقبل، ويا حار للحارث، وفى ترخيم جعفر: ياجعف أقبل فنخذف الراء وندع ماقبلها على حركته، ومن العرب من إذا رخم الاسم حذف منه آخره وجعل مابقى اسمًا على حيالة بمنزلة اسم لم يكن فيه ماحذف منه فبناه على الضم فقال: يامال، وياحار، وياجعف، فيجوز على هذا ياعائش وياأنجش. وأما قوله: (ياأبا هر) فليس من باب الترخيم، وإنما هو نقل اللفظ من التصغير والتأنيث إلى التكبير والتذكير؛ لأن أبا هريرة كناه النبى عليه السلام بتصغير هرة كانت له فخطابه باسمها مذكرًا فهو وإن كا نقصانًا من اللفظ ففيه زيادة فى المعنى. 9 - باب: الكنية للصبى وقبل أن يولد للرجل / 200 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِى عليه السلام أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِى أَخٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عُمَيْرٍ - قَالَ أَحْسِبُهُ فَطِيمًا - وَكَانَ إِذَا جَاءَ، قَالَ: (يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ) ؟ نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ، فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلاةَ، وَهُوَ فِى بَيْتِنَا، فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِى تَحْتَهُ، فَيُكْنَسُ، وَيُنْضَحُ، ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّى بِنَا. الكنية إنما هى على معنى الكرامة والتفاؤل أن يكون أبا ويكون له ابن، وإذا جاز أن يكنى الصبى فى صغره، فالرجل قبل أن يولد له أولى بذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 351 وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: عجلوا بكنى أولادكم لا تسرع إليهم ألقاب السوء. وهذا كله من حسن الأدب ومما يثبت الود، وفى هذا الحديث جواز المزاح مع الصبى الصغير. وفيه: جواز لعب الصبيان الصغار بالطير، واتخاذها لهم وتسليتهم بها. وفيه: استعمال النضح فيما يشك فى طهارته ولم تتيقن نجاسته. 0 - باب: التكنى بأبى تراب وإن كانت له كنية أخرى / 201 - فيه: سَهْل، إِنْ كَانَتْ أَحَبَّ أَسْمَاءِ عَلِىّ إِلَيْهِ لأبُو تُرَابٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ أَنْ ندعوه بِهَا، وَمَا سَمَّاهُ أَبُو تُرَابٍ إِلا النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، غَاضَبَ يَوْمًا فَاطِمَةَ، فَخَرَجَ فَاضْطَجَعَ إِلَى الْجِدَارِ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَجَاءَهُ النَّبِى عليه السلام يَتْبَعُهُ، فَقَالَ: هُوَ ذَا مُضْطَجِعٌ فِى الْجِدَارِ، فَجَاءَهُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، وَامْتَلأ ظَهْرُهُ تُرَابًا، فَجَعَلَ النَّبِى عليه السلام يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ، وَيَقُولُ: (اجْلِسْ يَا أَبَا تُرَابٍ) . قال المؤلف: الكنية موضوعة لإكرام المدعو بها وإتيان مسرته؛ لأنه لا يتكنى المرء إلا بأحب الكنى إليه، وهو مباح له أن يتكنى بكنيتين إن اختار ذلك ولاسيما إن كناه بإحداهما رجل صالح أو عالم، فله أن يتبرك بكنيته لأن عليا كان أحب الكنى اليه: أبا تراب. وفى هذا الحديث أن أهل الفضل قد يقع بينهم وبين أزواجه ماجبل الله عليه البشر من الغضب والحرج حتى يدعوهم ذلك إلى الخروج عن بيوتهم، وليس ذلك بعائب لهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 352 وفيه ما جبل الله عليه رسوله من كرم الأخلاق وحسن المعاشرة وشدة التواضع، وذلك أنه طلب عليا وأتبعه حتى عرف مكانه ولقيه بالدعابة، وقال له: (اجلس أبا تراب) ومسح التراب عن ظهره ليبسطه ويذهب غيظه وتسكن نفسه بذلك، ولم يعاتبه على مغاضبته لابنته. وفيه من الفقه الرفق بالأصهار وترك معاتبتهم وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب الاستئذان فى باب القائلة فى المسجد، وتقدم الحديث أيضًا فى باب نوم الرجل فى المسجد فى كتاب الصلاة. - باب: أبغض الأسماء إلى الله / 202 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَخْنَى الأسْمَاءِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأمْلاكِ) . / 203 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ رِوَايَةً، قَالَ: (أَخْنَعُ اسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ - وَقَالَ سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ: أَخْنَعُ الأسْمَاءِ عِنْدَ اللَّهِ - رَجُلٌ تَسَمَّى بِمَلِكِ الأمْلاكِ) ، قَالَ سُفْيَانُ: يَقُولُ غَيْرُهُ تَفْسِيرُهُ: شَاهَانْ شَاهْ. قال المؤلف: شاهان شاه بالفارسية هو ملك الملوك. وقد روى سفيان، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد قال: أكره الأسماء إلى الله ملك الأملاك وإنما كان ملك الأملاك أبغض إلى الله وأكره إليه أن يسمى به مخلوق؛ لأنه صفة الله، ولا تليق بمخلوق صفاته ولا أسماؤه، ولا ينبغى أن يتسمى أحد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 353 بشيء من ذلك لأن العباد لا يصفون إلا بالذل والخضوع والعبودية وقد تقدم حديث عطاء عن أبى سعيد الخدرى، عن النبى عليه السلام أنه قال: (لا تسموا أبناءكم حكما ولا أبا الحكم؛ فإن الله هو الحكيم العليم) . وقوله: (أخنع الأسماء عند الله) معناه: أذل الأسماء عند الله قال صاحب الأفعال: يقال: خنع الرجل إذا ذل وأعطى الحق من نفسه. فعاتب الله من طلب الرفعة فى الدنيا بما لا يحل له من صفات ربه بالذل يوم القيامة، كما جاء فى الحديث: (إن المتكبرين يحشرون يوم القيامة فى صور الذر يطوؤهم الناس بأقدامهم) . 2 - باب كنية المشرك وَقَالَ الْمِسْوَرٌ: سَمِعْتُ النَّبِى عليه السلام يَقُولُ: (إِلا أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِى طَالِبٍ) . / 204 - فيه: أُسَامَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ، وَأُسَامَةُ وَرَاءَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ. . . الحديث، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَى سَعْدُ، أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ) - يُرِيدُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ -؟ فَعَفَا عَنْهُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ، وَيَصْبِرُونَ عَلَى الأذَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا (وَكَانَ النَّبِىّ عليه السلام يَتَأَوَّلُ فِى الْعَفْوِ عَنْهُمْ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ حَتَّى أَذِنَ لَهُ فِيهِمْ. . . الحديث. / 205 - وفيه: عباس بن عبد المطلب، قلت: يا رسول الله، هل نفعت أبا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 354 طالب بشيء؛ فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: (نعم، هو فى ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان فى الدرك الأسفل من النار) . فيه: جواز كنية المشركين على وجه التألف لهم بذلك رجاء رجوعهم وإسلامهم أو لمنفعة عندهم فأما إذا لم يرج ذلك منهم فلا ينبغى تكنتيتهم، بل يلقون بالإغلاظ والشدة فى ذات الله ألا ترى قوله فى الحديث (إن النبى عليه السلام كان يتأول فى العفو عنهم ماأمره الله به حتى أذن له فيهم) يعنى أذن له فى قتالهم والشدة عليهم، وآيات الشدة والقتال ناسخة لآيات الصفح والعفو. فإن قال قائل: قولك إنه لا يجوز تكنية المشرك إلا على وجه التألف له ورجاء المنفعة بذلك قول حسن، فما معنى تكنية أبى لهب فى القرآن المتلو إلى يوم القيامة، وماوجه التألف ورجاء المنفعة فى ذلك؟ قيل له: ليست تكنية أبى لهب من هذا الباب، ولا من طريق التعظيم للمكنى فى شىء، وقد تأول أهل العلم فى ذلك وجوهًا، أحدها ذكره ثعلب قال: إنما كنى الله أبا لهب؛ لأن اسمه عبد العزى، والله تعالى ولايجعله عبدًا لغيره. والثانى: أخبرت به عن الفقيه ابن أبى زمنين أنه قال: اسم أبى لهب عبد العزى، وكنيته أبو عتبة، وأبو لهب لقبه، وأنما لقب به فيما ذكر ابن عباس - لأنه وجهه كان يتلهب جمالا، فليس بكنية. والثالث: يحتمل أن تكون تكنيته من طريق التجنيس فى البلاغة ومقابلة اللفظ بما شابهه، فكنى فى أول السورة بأبى لهب؛ لقوله في آخرها: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 355 (سيصلى نارًا ذات لهب) فجعل الله ماكان يفخر به فى الدنيا ويوينه فى جماله سببًا إلى المبالغة فى خزيه وعذابه، وليس ذلك من طريق الترفيع والتعظيم. وقال الطبرى فى حديث العباس: فيه الدليل على أن الله تعالى قد يعطى الكافر عوضًا من أعماله التى مثلها تكون قربة لأهل الإيمان بالله؛ لأنه عليه السلام أخبر أن عمه أبا طالب قد نفعته نصرته إياه وحياطته له أن يخفف عنه من العذاب فى الآخرة الذى لو لم ينصره فى الدنيا لم يخفف عنه، فعلم بذلك أن ذلك عوض من الله له مع كفره به لنصرته لرسوله، لا على قرابته منه، فقد كان لأبى لهب من القرابة مثل ماكان لأبى طالب، فلم ينفعه ذلك إذ كان له مؤذيا؛ بل قال تعالى: (تبت يدا أبى لهب) . والضحضاح من النار: الرقيق الخفيف، وكذلك الضحضاح من الماء، ومن كل شىء: هو القليل الرقيق منه. والدرك الأسفل من النار: الطبقة السفلى من أطباق جهنم. وقد تأول بعض السلف أن الدرك الأسفل توابيت من نار تطبق عليهم. 3 - باب: المعارض مندوحة عن الكذب وَقَالَ أَنَس: مَاتَ ابْنٌ لأبِى طَلْحَةَ، فَقَالَ: كَيْفَ الْغُلامُ؟ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: هَدَأَ نَفَسُهُ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَرَاحَ وَظَنَّ أَنَّهَا صَادِقَةٌ. / 206 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِى عليه السلام فِى سَفَرٍ لهُ، فحْدا الحادي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 356 فَقَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (أرفق يَا أَنْجَشَةُ - ويحك - بِالْقَوَارِيرِ) . قَالَ أَبُو قِلابَةَ: يَعْنِى النِّسَاءَ. / 207 - فيه: وَقَالَ أَنَس مرة: (لا تَكْسِرِ الْقَوَارِيرَ) . قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِى ضَعَفَةَ النِّسَاءِ. / 208 - وفيه: أَنَس، كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَعٌ، فَرَكِبَ النَّبِىّ عليه السلام فَرَسًا لأبِى طَلْحَةَ، فَقَالَ: (مَا رَأَيْنَا مِنْ شَىْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا) . ذكر الطبرى فى إسناده عن عمر بن الخطاب: إن فى المعاريض لمندوحة عن الكذب. وعن ابن عباس قال: ماأحب أن لى بمعاريض الكلام كذا وكذا. ومعنى مندوحة متسع. يقال منه: انتدح فلان بكذا ينتدح به انتداحًا إذا اتسع به، وقال ابن الأنبارى: يقال: ندحت الشىء إذا وسعته. وقال الطبرى: ويقال: انتدحت الغنم فى مرابضها إذا تبددت واتسعت من البطنة. وانتدح بطن فلان واندحى - يعنى: استخرى واتسع. قال المهلب: (وظن أنها صادقة) يعنى: بما وردت به من استراحة الحياة وهدوء النفس من تعب العلة، وهى صادقة فى الذى قصدته ولم تكن صادقة فيما اعتقده أبو طلحة وفهمه من ظاهر كلامها، ومثل هذا لا يسمى كذبًا على الحقيقة. وقوله فى النساء (القوارير) شبههن بها؛ لأنهن عند حركة الإبل بالحداء وزيادة مشيها به يخاف عليهن السقوط، فيحدث لهن ما يحدث بالقوارير من التكسر، وكذلك قوله: (إنه لبحر) شبه جريه بالبحر الذى لا ينقطع، فهذا كله أصل فى جواز المعاريض واستعمالها فيما يجوز ويحل، ونحو هذا ماروى عن ابن سيرين أنه قال: (كان رجل من باهلة عيونًا فرأى بغله شريح فأعجبته، فقال له الجزء: 9 ¦ الصفحة: 357 شريح: إنها إذا ربضت لم تقم حتى تقام - يعنى أن الله هو الذى يقيمها بقدرته - فقال الرجل: أف أف - يعنى أنه استصغرها والأف يقال للنتن) . وذكر الطبرى عن الثورى فى الرجل يزوره إخوانه وهو صائم فيكره أن يعلموه بصومه، وهو يحب أن يطعموه عنده، فأى ذلك أفضل؛ ترك ذلك أو إطعامهم؟ قال: إطعامهم أحب إلى، وإن شاء قام عليهم وقال: قد أصبت من الطعام. ويقول: قد تغديت - يعنى: أمس أو قبل ذلك. وقال بعض العلماء: المعاريض شىء يتخلص بها الرجل من الحرام إلى الحلال فيتحيل بها، وإنما يكره أن يحتال فى حق فيبطله أو فى باطل حتى يموهه ويشبه أمره. وقد قال إبراهيم النخعى: اليمين على نية الحالف إذا كان مظلومًا، وإن كان ظالمًا فعلى نية المحلوف له. وقد رخص رسول الله فى الكذب للإصلاح بين الناس، والرجل يكذب لامرأته، والكذب فى الحرب فيما يجوز فيه المعاريض، ماروى عن عقبة بن العيزار أنه قال: كنا نأتى فيما يجوز فيه المعاريض، ماروى عن عقبة بن العيزار أنه قال: كنا نأتى إبراهيم النخعى وكان مختفيًا من الحجاج، فكنا إذا خرجنا من عنده يقول لنا: إن سئلتم عنى وحلفتم، فاحلفوا بالله ماتدرون أين أنا ولا لنا به علم، ولا فى أى موضع هو، واعنوا أنكم لا تدرونى فى أى موضع أنا فيه قاعد أو قائم فتكونون قد صدقتم. قال عقبة: وأتاه رجل فقال: إنى آت الديوان وإنى اعترضت على دابة وقد نفقت، وهم يريدون أن يحلفونى بالله أنها هذه التى اعترضت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 358 عليها، فكيف أحلف؟ قال إبراهيم: اركب دابة واعترض عليها - يعنى: بظنك راكبًا - ثم احلف بالله أنها الدابة التى اعترضت - يعنى بظنك. وعاتبت إبراهيم النخعى امرأته فى جاريه له وبيده مروحة، فقال أشهدكم أنها لها - وأشار بالمروحة - فلما خرجنا من عنده قال: على أى شىء أشهدكم؟ قالوا: على الجارية. قال: ألم ترونى أشير بالمروحة. وسئل النخعى عن رجل مر بعشار فادعى حقا، فقال: أحلف بالمشى إلى بيت الله ما له عندك شىء، واعن مسجد حيك. وقال رجل لإبراهيم: إن الشيطان أمرنى أن آتى مكان كذا وكذا، وأنا لا أقدر على ذلك المكان فكيف الحيلة؟ قال: قل: والله ماأبصر إلا ماسددنى غيرى تعنى: إلا مابصرنى ربى. 4 - باب: قول الرجل للشىء ليس بشىء وهو ينوى أنه ليس بحق قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقَالَ النَّبِى عليه السلام للْقَبْرَيْنِ: (يُعَذَّبَانِ بِلا كَبِيرٍ، وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ) . / 209 - فيه: عَائِشَة: سَأَلَ أُنَاسٌ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْكُهَّانِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسُوا بِشَىْءٍ) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ، يَخْطَفُهَا الْجِنِّىُّ، فَيَقُرُّهَا فِى أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فِيهَا، أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 359 قال المؤلف: هذا الباب أصل لما تقوله العرب من نفيهم العمل كله إذا نفت التجويد فيه والإتقان، فتقول للصائع إذا لم يحكم صنعته: ماصنعت شيئًا، وتقول للسامر والمتكلم إذا لم يحسن القول: ماقلت شيئا. على سبيل المبالغة فى النفى، ولا يكون ذلك كذبًا كما قال عليه السلام فى الكهان: (ليسوا بشىء) لما يأتون به من الكذب، يعنى الذى ليس بشىء وهو خلق موجود، وهذا الحديث نص الترجمة. وقوله عليه السلام: (يعذبان بلا كبير) عندكم ليسارة التحرز من البول والتحفظ منه، فنفى عنه أنه كبير لانتفاء المشقة عنا فى غسله على سبيل المبالغة فى التحرز مما يوجب العذاب، وإن صغر فى نفسه، ثم قال: (وإنه لكبير) يعنى عند الله، لو ورد الشرع بالأمر بغسل البول وأن من خالفه فقد استحق الوعيد إن لم يعف الله عنه. 5 - باب رفع البصر إلى السماء وقوله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت ( وَقَالت عَائِشَة: رَفَعَ النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ. / 210 - فيه: جَابِر، قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (ثُمَّ فَتَرَ عَنِّى الْوَحْىُ، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِى، سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِى إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِى جَاءَنِى بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِىٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) . / 211 - وفيه: ابن عباس: بت عند ميمونة والنَّبِىّ عندها، فَلما كَانَ ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 360 قال المؤلف: هذا الباب رد على بعض أهل الزهد فى قولهم أنه لا ينبغى النظر إلى السماء تخشعًا وتذللاً لله تعالى. وروى عن عطاء السلمى أنه مكث أربعين سنة لا ينظر إلى السماء فحانت منه نظرة فخر مغشيًا عليه، فأصابه فتق فى بطنه. وذكر الطبرى عن إبراهيم التيمى أنه كان يكره أن يرفع الرجل بصره الس السماء فى الدعاء، قال الطبرى: ولا أؤثم فاعل ذلك؛ لأنه لم يأت بالنهى عن ذلك خبر، وإنما عن ذلك المصلى فى دعاء كان أو غيره. قال المؤلف: والحجة فى كتاب الله تعالى وسنة رسول الله ثابتة بخلاف هذا القول فلا معنى له، وروى ابن إسحاق عن يعقوب بن عتبة، عن عمر بن عبد العزيز، عن يوسف بن عبد الله ابن سلام، عن أبيه قال: (كان رسول الله إذا جلس يتحدث يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء) ذكره أبو داود. 6 - باب من نكت العود فى الماء والطين / 212 - فيه: أَبُو مُوسَى، أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ، وَفِى يَدِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) عُودٌ يَضْرِبُ بِهِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ، فَجَاءَ رَجُلٌ يَسْتَفْتِحُ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (افْتَحْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ. . .) الحديث. قال المؤلف: من عادة العرب أخذ المخصرة والعصا والاعتماد عليها عند الكلام وفى المحافل والخطب، وأنكرت الشعوبية على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 361 خطباء العرب أخذ المخصرة والإشارة بها إلى المعانى، والشعوبية طائفة تبغض العرب وتذكر مثالبها وتفضل العجم، وفى استعمال النبى عليه السلام للمحضرة الحجة البالغة على من أنكرها وسأزيد فى بيان المحاضرة والعصى فى الباب بعد هذا إن شاء الله. 7 - باب: الرجل ينكت الشىء بيده فى الأرض / 213 - وفيه: عَلِىّ، كُنَّا مَعَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فِى جَنَازَةٍ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ فِى الأرْضَ بِعُودٍ، وَقَالَ: (لَيْسَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا وَقَدْ فُرِغَ مِنْ مَقْعَدِهِ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ) ، فَقَالُوا: أَفَلا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: (اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ،) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (الآيَةَ) [الليل: 5] . / 214 - وفيه: أُمَّ سَلَمَةَ، اسْتَيْقَظَ النَّبِى عليه السلام فَقَالَ: (سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْفِتَنِ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجَرِ - يُرِيدُ بِهِ أَزْوَاجَهُ - حَتَّى يُصَلِّينَ. . . .) ؟ الحديث. وقد تقدم فى الباب قبل هذا أن الشعوبية تطعن على خطباء الهرب فى أخذ المخصرة عند مناقلة الكلام ومساجله الخصوم، وعابوا الإشارة بالعصا والإتكاء على أطراف القسى، وخد وجه الأرض بها والاعتماد عليها. وحديثه عليه السلام أنه نكت الأرض بحضرة، وقال: (ليس منكم من أحد إلا وقد فرغ من مقعده من الجنة والنار) حجة على من أنكرها، والعصا مأخوذة من أصل كريم ومعدن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 362 شريف ولا ينكرها إلا جاهل، وقد جمع الله لموسى فى عصاه من البراهيم العظام والآيات الجسام ما آمن به السحرة المعاندون. واتخذها سليمان بن داود لخبتهه وموعظته وطول صلاته، وكان ابن مسعود صاحب عصا النبى عليه السلام وعنترته، وكان النبى عليه السلام يخطب بالقضيب وكفى بذلك دلايلا على شرف حال العصا، وعلى ذلك الخلفاء وكبراء الخطباء، وروى عن النبى عليه السلام أنه طاف بالبيت يستلم الركن بمحجنه، والمحجن: العصا المعوجه، وكانت العصا لا تفارق يد سليمان بن داود فى مصافاته وصلواته وموته، وقال مالك: كان عطاء بن يسار المخصرة يستعين بها. قال مالك: والرجل إذا كبر لم يكن مثل الشاب يتقوى بها عند قيامه وقد كان الناس إذا جاءهم المطر خرجوا بالعصى يتكئون عليها، حتى لقد كان الشباب يحبسون عصيهم، وربما أخذ ربيعة العصا من بعض من يجلس إليه حتى يقوم. وسألت المهلب عن حديث أم سلمة فقلت له: ليس فيه معنى الترجمة، قال: إنما هو مقو لمعنى الحديث الذى قبله الموافق للترجمة بالقدر السابق على كل نفس وفى كتاب مقعدها من الجنة والنار فى أم الكتاب بقوله: (ماذا أنزل الليلة من الفتن) يحذر أسباب القدر بالتعرض للفتن التى بالغ فى التحذير منها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 363 بقوله عليه السلام: (القاتل والمقتول فى النار) فلما ذكر أن لكل نفس مقعدها من الجنة والنار، أكد التحذير من النار بأن ذكر الناس بأقوى أسباب النار وهى الفتن والعبية فيها والتقاتل على الولاية، وما يفتح على الناس من الخزائن التى تطغى وتبطر، وليس عليه تقصير فى أن أدخل مايوافق الترجمة ثم أتبعه بما يوافق معناها. 8 - باب التكبير والتسبيح عند التعجب وَقَالَ عُمَرَ: قُلْتُ لِلنَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : أطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ قَالَ: (لا) ، قُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ . / 215 - فيه: صَفِيَّةَ، أَنَّهَا جَاءَتْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) تَزُورُهُ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِى الْمَسْجِدِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ الَّذِى عِنْدَ مَسْكَنِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ بِهِمَا رَجُلانِ مِنَ الأنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ نَفَذَا، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّمَا هِى صَفِيَّةُ) ، قَالا: سُبْحَانَ اللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا. قال المؤلف: التكبير والتسبيح معناهما تعظيم الله وتنزيه من السوء، واستعمال عند التعجب واستعظام الأمور حسن، وفيه تمرين اللسان على ذكر الله، وذلك من أفضل الأعمال. 9 - باب: النهى عن الحذف / 216 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِىِّ، نَهَى النَّبِى عليه السلام عَنِ الْخَذْفِ، وَقَالَ: (إِنَّهُ لا يَقْتُلُ الصَّيْدَ، وَلا يَنْكَأُ الْعَدُوَّ، وَإِنَّهُ يَفْقَأُ الْعَيْنَ، وَيَكْسِرُ السِّنَّ) . الحذف عند العرب: الرمى بالسبابة والابهام، وأكثر ذلك فى الرمى بالحجر، ومنه حصى الحذف فى الحج، وهذا من باب النهى عن أذى المؤمنين، وهو مثل قوله عليه السلام للذى مر فى المسجد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 364 بالسهام: (أمسك بنصالها لا تعقرن بها مسلمًا) وهذا من باب أدب الإسلام. 0 - باب: الحمد للعاطس / 217 - فيه: أَنَس، عَطَسَ رَجُلانِ عِنْدَ النَّبِى عليه السلام فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا، وَلَمْ يُشَمِّتِ الآخَرَ فَقِيلَ لَهُ: فَقَالَ: (إِن هَذَا حَمِدَ اللَّهَ، وَهَذَا لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ) . وترجم له باب لا يشمت العاطس إذا لم يحمد الله. اختلف العلماء أنه من عطس وحمد الله فإنه ينبغى لمن سمعه أن يشمته، وإنما اختلفوا فى وجوب ذلك على مايأتى بعد هذا، وأجمعوا أنه إذا لم يحمد الله أنه لا يجب على من سمعه تشميته. والتشميت عند العرب: الدعاء، قال الخليل: يقال: سمث وشمت - بالسين والشين. قال ثعلب: التشميت معناه: أبعد الله عنك الشماتة، وجنبك مايشمت به عليك، وأما التسميت فمعناه جعلك الله على سمت حسن. 1 - باب: تشميت العاطس إذا حمد الله / 218 - فِيهِ: أَبُو هُرَيْرَةَ، وفيه: الْبَرَاءِ، أَمَر النَّبِى عليه السلام بتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ. . . الحديث. قال المؤلف: إن قال قائل: كيف قال البخارى فى ترجمته باب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 365 تشميت العاطس إذا حمد الله، ولم يأت بذلك فى حديث البراء، وأنما دل حديث البراء على أن كل عاطس يجب تشميته، وإن لم يحمد الله؛ لقوله فيه: (أمرنا رسول الله بتشميت العاطس) وهذا لفظ عام؟ قيل له: إنما أشار البخارى إلى حديث أبى هريرة الذى لم يأت بنصه فى الباب، وذكره فى الباب بعد هذا وفى الباب الآخر الذى بعده، وفيه أن النبى عليه السلام ذكر فيه التشميت للعاطس إذا حمد الله على ماتقدم فى حديث أنس قبل هذا فدل حديث أبى هريرة وأنس أن قول البراء أمرنا رسول الله بتشميت العاطس، وإن كان ظاهرة العموم فمعناه الخصوص وأن المراد به بعض العاطسين، وهم الحامدون لله تعالى كان ينبغى للبخارى أن يذكر حديث أبى هريرة بنصه فى هذا الباب ويجعله بعد حديث البراء، وهذا من الأبواب التى عجلته المنية عن تهذيبها، لكن قد فهم المعنى الذى ترجم به. 2 - باب: ما يستحب من العاطس ويكره من التثاؤب / 219 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ، فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ، وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ، فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِذَا قَالَ: هَا، ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ) . اختلف العلماء فى وجوب التشميت، فذهبت طائفة إلى أنه واجاب متعين على كل من سمع حمد العاطس، هذا قول أهل الظاهر، واحتجوا بهذا الحديث وقالوا: ألا ترى قوله عليه السلام: (فحق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 366 على كل مسلم أن يشمته) فوجب على كل سامع، وذهبت طائفة إلى أنه واجب على الكفاية، كرد السلام، هذا قول مالك وجماعة، وقال آخرون: هو إرشاد وندب وليس بواجب، وتأولوا قوله عليه السلام: (فحق على كل مسلم أن يشمته) أن ذلك فى حسن الأدب وكرم الأخلاق كما قال عليه السلام: (من حق الإبل أن تحلب على الماء) أى أن ذلك حق فر كرم المواساة لا أن ذلك فرض؛ لاتفاق أئمة الفتوى أنه لا حق فى المال سوى الزكاة. 3 - باب: إذا عطس كيف يشمت / 220 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَإِذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ، وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ) . اختلف السلف فيما يقول العاطس، فاختارت طائفة أن يقول: الحمد لله، على ماجاء فى الحديث، وروى ذلك عن ابن مسعود وأنس، واختارت طائفة الحمد لله رب العالمين، وروى ذلك عن ابن عباس وابن مسعود أيضًا وهو قول النخغى، واختارت طائفة أن يقول: الحمد لله على كل حال، روى ذلك عن أبى هريرة وابن عمر، وقال ابن عمر: هكذا علمنا رسول الله. قال الطبرى: والصواب فى ذلك أن العاطس مخير فى أى هذه المحامد شاء، وقد حدثنا محمد بن عمارة، حدثنا عمرو بن حماد بن أبى طلحة، عن عمرو بن قيس، عن عطاء بن أبى رباح، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 367 عن مولى لأم سلمة، عن أم سلمة زوج النبى قالت: (عطس رجل فى جانب بيت النبى فقال: الحمد لله، فقال له النبى: يرحمك الله. ثم عطس آخر فقال: الحمد لله ربا العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (ارتفع هذا على تسع عشرة درجة) . وقد روى عن النبى كل ذلك فعله، وفعله السلف الصالحون فلم ينكر بعضهم من ذلك شيئًا على بعض، وقد اختلف أيضًا فى قول المشمت للعاطس، فقالت طائفة: يقول له يرحمك الله، يخصه بالدعاء وحده على ماجاء فى هذا الحديث، روى ذلك عن أنس ورواية عن ابن مسعود، واحتجوا أيضًا بما روى عمرو بن دينار عن عبيد ابن عمير قال: (لما فرغ الله من خلق آدم عطس آدم، فألقى عليه الحمد، فقال له ربه تعالى: يرحمك ربك) . وقالت طائفة: يعم بالتشميت العاطس وغيره روى عن إبراهيم قال: كانوا يعمون بالتشميت والسلام. وكان الحسن يقول: الحمد لله يرحكمكم الله. وقالت طائفة: يقول يرحمنا الله وإياكم، روى ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وسالم وابراهيم. واختلف السلف أيضًا فى الرد على المشمت فقالت طائفة: يقول يهديكم الله ويصلح بالكم على حديث أبى هريرة، روى ذلك عن أبى هريرة وكان الشعبى يقول: يهديكم الله. وأنكرت طائفة أن يقول يهديكم الله ويصلح بالكم، واختارت أن يقول: يغفر الله لنا ولكم، روى ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وأبى وائل والنخعى وهو قول الكوفيين، واحتجوا بحديث أبى بردة بن أبى موسى عن أبيه: (أن اليهود كانوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 368 يتعاطسون عند النبي عليه السلام جاء أن يقول يرحمكم الله، فيقول: يهديكم الله ويصلح بالكم) . وقال مالك والشافعى: إن شاء أن يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم، أو: يغفر الله لكم لا بأس بذلك كله. وقال الطبرى: لا وجه لقول من أنكر (يهديكم الله ويصلح بالكم) لأن الأخبار بذلك عن النبى عليه السلام أثبت من غيرها. واحتج الطحاوى لقول مالك بقول الله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) فإذا قال جواب قوله يرحمكم الله: يغفر لكم، فقد رد مثل ماحياه به، وإذا قال: يهديكم الله ويصلح بالكم. فقد حياة بأحسن مما حساه؛ لأن المغفرة إنما هى ستر الذنوب، والرحمة ترك العقاب عليها، ومن حصلت له الهداية وكان مهديًا، وكان بعيدًا من الذنوب، ومن أصلح باله فحاله فوق حال المغفور له، فكان ذلك أولى. 4 - باب: إذا تثاءب فليضع يده على فيه / 221 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ. . .) إلى قوله: (وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ، فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَثَاءَبَ، ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ) . قال المؤلف: قد جاء فى آخر هذا الحديث معنى كراهية التثاءب وهو من أجل ضحك الشيطان منه فواجب إخزاؤه ودحره برد التثاؤب كما أمر النبى عليه السلام بأن يضع يده على فيه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 369 فإن قيل: ليس فى الحديث وضع اليد على الفم وإنما فيه (فليرده) ، وقد يمكن رده بإلاق الفم. قيل قد روى لك سفيان عن ابن عجلان، عن المقبرى، عن أبى هريرة أن النبى عليه السلام قال: (العطاس من الله والتثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه، فإذا قال: آه آه، ضحك الشيطان من جوفه) ذكره الترمذى فى مصنفه، وقال ابن القاسم: رأيت مالكًا إذا تثاءب يضع يده على فيه، وينفث فى غير الصلاة، ولا أدرى ماكان يفعل فى الصلاة، وروى عنه فى المتسخرجة أنه كان لا ينفث فى الصلاة. ومعنى إضافة التثاؤب إلى الشيطان إضافة رضى وإرادة أى أن الشيطان يحب أن يرى تثاؤب الانسان؛ لأنها حال المثله وتغيير لصورته فيضحك من جوفه، لا أن الشيطان يفعل التثاؤب فى الانسان لأنه لا خالق للخير والشر غير الله، وكذلك كل ما جاء من الأفعال المنسوبة إلى الشيطان فإنها على معنيين إما إضافة رضى وإرادة أو إضافة بمعنى الوسوسة فى الصدر والتزيين، وقد روى أبو داود من حديث أبى سعيد الخدرى أن النبى عليه السلام قال: (إذا تثاءب أحدكم فليمسك يده على فيه؛ فإن الشيطان يدخل) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 370 68 - كتاب المرضى - ما جاء فى كفارة المرضى وقوله تعالى: (من يعمل سوءًا يجز به ( / 1 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا) . / 2 - وفيه: أَبُو سَعِيد، وأَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى عليه السَّلام: (مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ، وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ، وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ) . / 3 - وفيه: كَعْب، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَالْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ، تُفَيِّئُهَا الرِّيحُ مَرَّةً، وَتَعْدِلُهَا مَرَّةً، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَالأرْزَةِ، لا تَزَالُ حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً) . / 4 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ كَفَأَتْهَا، فَإِذَا اعْتَدَلَتْ تَكَفَّأُ بِالْبَلاءِ، وَالْفَاجِرُ كَالأرْزَةِ صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً حَتَّى يَقْصِمَهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ) . / 5 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ) قال كثير من أهل التأويل فى قوله تعالى: (من يعمل سوءًا يجز الجزء: 9 ¦ الصفحة: 371 به) معناه أن المسلم يجزى بمصائب الدنيا فتكون له كفارة، روى هذا أبى بن كعب وعائشة ومجاهد، وروى عن الحسن وابن زيد أنه فى الكفار خاصة، وحديث عائشة وأبى سعيد وأبى هريرة يشهد بصحة القول الأول، وروى عن ابن مسعود أنه قال: الوجع لا يكتب به الأجر ولكن تكفر به الخطيئة. فإن قيل: إن ظاهرة هذه الآثار يدل على أن المريض إنما يحط عنه بمرضه السيئات فقط دون زيادة. وقد ذكر البخارى فى كتاب الجهاد فى باب يكتب للمسافر ماكان يعمل فى الإقامة فى حديث أبى موسى عن النبى عليه السلام أنه قال: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا) وظاهرة مخالف لآثار هذا الباب لأن فى حديث أبى موسى أنه يزاد على التكفير. قيل له: ليس ذلك بخلاف وإنما هو زيادة بيان على آثار هذا الباب التى جاءت بتكفير الخطايا بالوجع لكل مؤمن لقوله عليه السلام: (مايصيب المؤمن من وصب ولا نصب فعم جميع المؤمنين) . وفى حديث أبى موسى معنى آخر وهو أنه من كانت له عادة من عمل صالح ومنعه الله منه بالمرض أو السفر وكانت نبيته لو كان صحيحًا أو مقيمًا أن يدوم عليه ولايقطعه، فإن الله تعالى يتفضل عليه بأن يكتب له ثوابه، فأما من لم له تنفل ولاعمل صالح فلا يدخل فى معنى الحديث لأنه لم يكن يعمل فى صحته أو لإقامته مايكتب له فى مرضه وسفره، فحديث أبى موسى المراد به الخصوص، وأحاديث هذا الباب المراد بها العموم. وكل واحد منهما يفيد معنى غير معنى صاحبه، فلا خلاف فى شىء منها، وقد بينًا معنى حديث أبى موسى فى كتاب الجهاد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 372 قال المهلب: وأما قوله عليه السلام: (مثل المؤمن الخامة من الزرع يفىء ورقه من حيث أتته الريح) يعنى من حيث جاء أمر الله انطاع له ولان ورضيه، وإن جاءه مكروه رجا فيه الخير والأجر، فإذا سكن البلاء عنه اعتدل قائما بالشكر له على البلاء والاختبار وعلى المعافاة من الأمر والاجتياز ومنتظرًا لاختيار الله له ماشاء مما حكم له بخيره فى دنياه وكريم مجازاته فى أخراه، والكافر كالأرزة صماء معتدلة لا يتفقده الله باختبار بل يعافيه فى دنياه وييسر عليه فى أموره ليعسر عليه فى معاده، حتى إذا أراد الله إهلاكه قصمه قصم الأرزة الصماء فيكون موته أشد عذابًا عليه وأكثر ألما فى خروج نفسه من ألم النفس الملينة بالبلاء المأجور عليه. والأرز من أصلب الخشب. وقال صاحب العين: الخامة: الزرع أول ماينبت على ساق واحد. - باب شدة المرض / 6 - فيه: عَائِشَةَ، مَا رَأَيْتُ أَحَدًا الْوَجَعُ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . / 7 - وفيه: عَبْدِ اللَّهِ، رأَيْتُ النَّبِى عليه السلام فِى مَرَضِهِ، وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، وَقُلْتُ: إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، قُلْتُ: إِنَّ ذَاكَ بِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟ قَالَ: (أَجَلْ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى إِلا حَاتَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 373 وترجم لحديث عبد الله باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. وقال فيه بعد قوله: (إنك لتوعك وعكًا شديدًا. قال: أجل إنى أوعك كما يوعك رجلان منكم. قلت: ذاك أن لم لأجرين. قال أجل ذلك كذلك. .) الحديث. قال المؤلف: خص الله أنبياءه الأوجاع والأصواب لما خصهم به من قوة اليقين وشدة الصبر والاحتساب ليكمل لهم الثواب ويتم لهم الأجر وذكر عبد الرزاق من حديث أبى سعيد الخدرى: (أن رجلا وضع يده على النبى فقال: والله ماأطيق أن أضع يدى عليك من شدة حماك. فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر، إن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالقمل حتى يقتله، وإن كان النبي من من الأنبياء ليبتلى بالفقر حتى يأخذ العباءة فيجوبها، وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء) . وقوله: باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فقد روى هذا اللفظ عن النبى عليه السلام رواه الترمدذى قال: حدثنا قتيبة، حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن مصعب ابن سعد، عن أبيه قال: (يارسول الله، أى الناس أشد بلاء. قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا أشتد بالؤه، وإن كان فى دينه رقه ابتلى على حسبه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشى على الأرض وما عليه خطيئة) . قال الترمذى: هذا الحديث حسن صحيح، وفى الباب عن أبى هريرة وأخت حذيفة اليمان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 374 3 - باب: وجوب عيادة المريض / 8 - فيه: أَبُو مُوسَى، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام قَالَ: (أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِىَ) . / 9 - وفيه: الْبَرَاء، أَمَرَنَا النَّبِىّ عليه السلام أَنَّ نَعُودَ الْمَرِيضَ. يحتمل أن تكون عيادة المريض من فروض الكفاية، كإطعام الجائع وفك الأسير، وهو ظاهر الكلام، ويحتمل أن يكون معناه الندب والحض على المؤاخاة والألفة كما قال عليه السلام: (مثل المؤمنين فى تواصلهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا تداعى منه عضو تداعى سائره) . وقد جاء فى فضل عيادة المريض آثار منها قوله قوله عليه السلام: (عائد المريض على مخارف الجنة) وروى مالك أنه بلغه عن جابر ابن عبد الله أن رسول الله عليه السلام قال: (إذا عاد الرجل المريض خاض الرحمة حتى إذا قعد عنده قرت فيه) أسنده ابن معين وابن أبى شيبة، عن هشيم، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن عمر بن الحكم بن ثوبان، عن جابر. 4 - باب عيادة المغمى عليه / 10 - فيه: جَابِر، مَرِضْتُ مَرَضًا، فَأَتَانِى النَّبِى عليه السلام يَعُودُنِى وَأَبُو بَكْرٍ - وَهُمَا مَاشِيَانِ - فَوَجَدَانِى أُغْمِىَ عَلَىَّ، فَأَفَقْتُ. . . . الحديث. الإغماء كسائر الأمراض تنبغى العيادة فيه تأسيًا بالنبي عليه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 375 السلام وأبى بكر الصديق، وقوله عليه السلام (عودوا المريض) يدخل فى عمومه جميع الأمراض، وفيه رد لما يعتقده عامة الناس أنه لا يجوز عندهم عيادة من مرض من عينيه وزعموا ذلك لأنهم يرون فى بيته مالا يراه هو، وحالة الإغماء أشد من حالة مرض العينين؛ لأن المغمى عليه يزيد عليه بفقد عقله، وقد جلس النبى عليه السلام فى بيت جابر فى حالة إغمائه حتى أفاق وهو الحجة فيه. وفيه أن عائد المريض قد يطول فى جلوسه عند العليل إذا رأى لذلك وجهًا. 5 - باب فضل من يصرع / 11 - فيه: ابْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ لِعَطَاء: (أَلا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) ؟ فقُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: إِنِّى أُصْرَعُ، وَإِنِّى أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِى، قَالَ: (إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ) ، فَقَالَتْ: أَصْبِرُ، فَقَالَتْ: إِنِّى أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِى أَنْ لا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَنَّهُ رَأَى أُمَّ زُفَرَ تِلْكَ امْرَأَةً طَوِيلَةً سَوْدَاءَ عَلَى سِتْرِ الْكَعْبَةِ. قال المؤلف: فيه فضل الصع، وفيه أن اختيار البالء والصبر عليه يورث الجنة، وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه أنه يطيق التمادى على الشدة ولايضعف عن التزامها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 376 6 - باب: فضل من ذهب بصره / 12 - فيه: أَنَس، سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (قَالَ اللَّهَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِى بِحَبِيبَتَيْهِ، فَصَبَرَ، عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ) ، يُرِيدُ عَيْنَيْهِ. هذا الحديث أيضًا حجة فى أن الصبر على البلاء ثوابه الجنة، ونعمة البصر على العبد وإن كانت من أجل الله تعالى فعوض الله عليها الجنة أفضل من نعمتها فى الدنيا لنفاذ مدة الالتذاذ بالبصر فى الدنيا وبقاء مدة الالتذاذ به فى الجنة. فمن ابتلى من المؤمنين بذهاب بصره فى الدنيا فلم يفعل ذلك به لسخط منه عليه، وإنما أراد تعالى الإحسان إليه إما بدفع مكروه عنه يكون سببه نظر عينيه لا صبر له على عقابه فى الآخرة أو ليكفر عنه ذنوبًا سلفت لا يكفرها عنه إلا بأخذ أعظم جوارحه فى الدنيا ليلقى ربه طاهرًا من ذنوبه أو ليبلغ به من الأجر إلى درجة لم يكن يبلغها بعمله وكذلك جميع أنواع البالء، فقد أخبر عليه السلام أن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه. وجاء عنه عليه السلام: (إن أهل العافية فى الدنيا يودون لو أن لحومهم قرضت بالمقاريض فى الدنيا لما يرون من ثواب الله لأهل البلاء) فمن ابتلى بذهاب بصره أو بفقد جارحه من جوارحه فليتلق ذلك بالصبر والشكر والاحتساب وليرض باختبار الله له ذلك ليحصل على أفضل العوضين وأعظم النعمتين وهى الجنة التى من صار إليها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 377 فقد ربحت تجارته وكرمت صفقته ولم يضره مالقى من شدة البلاء فيما قاده إليها. 7 - باب عيادة النساء الرجال / 13 - فيه: عَائِشَةَ، لَمَّا قَدِمَ النَّبِىّ عليه السلام الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلالٌ، قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا، فقُلْتُ: يَا أَبَتِ، كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَيَا بِلالُ، كَيْفَ تَجِدُكَ؟ . . . . الحديث. حديث عائشة كان فى أول الإسلام عند قدزمهم المدينة فوجدوها وبئة فدعا لها النبى أن يصححها وينقل حماها إلى الجحفة فأجاب الله دعوته. وعيادة أم الدرداء تحمل على أنها عادت الأنصارى وهى متجالة فلا تزورون امرأة رجلا إلا أن تكون ذات محرم أو تكون متجالة يؤمن من مثلها الفتنة بها. وفيه عيادة السادة الجلة لعبيدهم؛ لأن بلالا وعامر بن فهيرة اعتقلهما أبو بكر رضى الله عنه. 8 - باب: عيادة الأعراب / 14 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِى عليه السلام دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِى يَعُودُهُ، قَالَ: وَكَانَ النَّبِى عليه السلام إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ، فَقَالَ لَهُ: (لا بَأْسَ طَهُورٌ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ) ، قَالَ: قُلْتَ: طَهُورٌ، كَلا بَلْ هِىَ حُمَّى تَفُورُ أَوْ تَثُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ الْقُبُورَ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (فَنَعَمْ إِذًا) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 378 قال المؤلف: عيادة الأعراب داخله فى عموم قوله: (عودوا المريض) إذ هم من جملة المؤمنين. قال المهلب: وفائدة هذا الحديث أنه لا نقص على السلطان فى عيادة مريض من رعيته أو واحد من باديته ولا على العالم فى عيادة الجاهل؛ لأن الأعراب شأنهم الجهل كما وصفهم الله، ألا ترى رد هذا الأعرابى لقول النبى عليه السلام وتهوينه عليه مرضه بتذكيره ثوابه عليه فقال له: بل هى حمى تفوز على شيخ كبير تزيره القبور، وهذا غاية الجهل، وقد روى معمر عن زيد بن مسلم فى هذا الحديث أن النبى حين قال للأعرابى: (فنعم إذا) أنه مات الأعرابى، وسيأتى زيادة فى هذا فى باب مايقال للمريض ومايجيب بعد. 9 - باب: عيادة الصبيان / 15 - فيه: أُسَامَةَ، أَنَّ بنتًا لِلنَّبِى عليه السلام أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أَنَّ ابْنَتِي قَدْ حُضِرَتْ فَاشْهَدْنَا. . . . إلى قوله:. . . . فَقَامَ النَّبِىُّ عليه السلام وَقُمْنَا، فَرُفِعَ الصَّبِى فِى حَجْرِ النَّبِى عليه السلام وَنَفْسُهُ تقعقع. . . قال المؤلف: فيه من الفقه عيادة الرؤساء وأهل الفضل للصبيان المرضى وفى ذلك صلة لآبائهم ولا يعدم من ذلك بركة دعائهم للمرضى وموعظة الآباء وتصبيرهم واحتسابهم لما ينزل بهم من المصائب عند الله تعالى. وهذا الحديث لم يضبطه الراوى فمرة قال: (إن بنتًا للنبى أرسلت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 379 إليه أن ابنتى قد احتضرت) ومرة قال فى آخر الحديث: (فرفع الصبى فى حجر النبى ونفسه تقعقع) ، فأخبر مرة عن صبيه ومرة عن صبى والله أعلم. - باب: عيادة المشرك / 16 - فيه: أَنَس، أَنَّ غُلامًا لِيَهُودى كَانَ يَخْدُمُ النَّبِى عليه السلام فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِى عليه السلام يَعُودُهُ، فَقَالَ: (أَسْلِمْ) ، فَأَسْلَمَ. وقال سعيد بن المسيب عن أبيه: (لما حضر أبو طالب جاءه النبى - عليه السلام) . إنما يعاد المشرك ليدعى إلى الإسلام إذا رجا إجابته إليه، ألا ترى أن اليهودى أسلم حين عرض عليه النبى الإسلام وكذلك عرض الإسلام على عمه أبى طالب، فلم يقض الله له به، فأما إذا لم يطمع بإسلام الكافر ولا رجيت إنابته فلا تنبغى عيادته. - باب إذا عاد مريضًا فحضرت الصلاة فصلى بهم جماعة / 17 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِى عليه السلام دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ يَعُودُونَهُ فِى مَرَضِهِ، فَصَلَّى بِهِمْ جَالِسًا، فَجَعَلُوا يُصَلُّونَ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمُ أَنّ اجْلِسُوا. . . . الحديث. وقال الحميدى: هذا مسنوخ لأن النبى عليه السلام آخر ماصلى قاعدًا والناس خلفه قيام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 380 قال المؤلف: من السنة المعروفة أن صاحب المنزل يتقدم للصلاة على من حضره من الناس إلا أن يقدم غيره، وصلاة النبى بمن عاده فى مرضه هو الواجب من وجهين: أحدهما: ماذكرناه من أن صاحب المنزل أولى من غيره بالإمامة، والوجه الثانى: أن النبى لا يجوز أن يتقدمه أحد فى كل مكان، ولا يجوز اليوم لمن كان مريضًا أن يؤم أحد فى بيته جالسًا؛ لأن إمامه الجالس منسوخة عند أكثر العلماء، وقد تقدم اختلافهم فى ذلك فى كتاب الصلاة. - باب: وضع اليد على المريض / 18 - فيه: عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، أَنَّ أَبَاهَا قَالَ: تَشَكَّيْتُ بِمَكَّةَ شَكْوًا شَدِيدًا، فَجَاءَنِي النَّبِي عليه السلام يَعُودُنِى، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّى أَتْرُكُ مَالا. . . . الحديث ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، ثُمَّ مَسَحَ وَجْهِى وَبَطْنِى، ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا، وَأَتْمِمْ لَهُ هِجْرَتَهُ) . / 19 - وفيه: عَبْدُ اللَّهِ، دَخَلْتُ عَلَى النَّبِىّ عليه السلام وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، فَمَسِسْتُهُ بِيَدِى، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَتُوعَكُ. . . الحديث. قال المؤلف: فى وضع اليد على المريض تأنيس له وتعرف لشدة مرضه ليدعو له العائد على حسب مايبدو له منه، وربما رقاه بيده ومسح على ألمه فانتفع العليل به إذا كان العائد صالحًا تبرك بيده ودعائه كما فعل النبى، وذلك من حسن الأدب واللطف بالعليل وينبغى امتثال أفعال النبى عليه السلام كلها والاقتداء به فيها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 381 - باب ما يقال للمريض وما يجيب / 20 - فيه: عَبْدُ اللَّهِ: أتيتُ النَّبِىّ عليه السلام فِى مرضِهِ فَمَسِسْتُهُ وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، فَقُلْتُ: إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، وَذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟ قَالَ: (أَجَلْ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى إِلا حَاتَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ) . / 21 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ يَعُودُهُ، فَقَالَ: (لا بَأْسَ طَهُورٌ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ) ، فَقَالَ: كَلا، بَلْ هِىَ حُمَّى تَفُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ كَيْمَا تُزِيرَهُ الْقُبُورَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (فَنَعَمْ إِذًا) . قال المهلب: فيه أن السنة أن يخاطب العليل بما يسليه من ألمه وبغطة بأسقامه بتذكيره بالكفارة لذنوبه وتطهيرة من آثامه ويطمعه بالإقالة لقوله: لا بأس عليك مما تجده بل يكفر الله به ذنوبك ثم يفرج عنك فيجمع لك الأجر والعافية لئلا يسخط أقدار الله، واختياره له وتفقده إياه بأسباب الرحمة ولايتركه إلى نزعات الشيطان والسخط فربما جازاه الله بالتسخط وبسوء الظن عقابًا فيوافق قدرًا يكون سببًا إلى أن يحل به مالفظ به من الموت الذى حكم على نفسه. وقوله عليه السلام لابن مسعود: (أجل) أنه ينبغى للمريض أن يحسن جواب زائره ويتقبل مايعده من ثواب مرضه ومن إقالته ولا يرد عليه بمثل مارد الأعرابى على النبى عليه السلام وسيأتى فى باب يريد الله بكم اليسر ولايريد بكم العسر فى كتاب الاعتصام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 382 - باب: عيادة المريض راكبًا وماشيًا / 22 - فيه: أُسَامَةَ، أَنَّ النَّبِى عليه السلام رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَى قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ. . . وذكر الحديث. / 23 - وفيه: جَابِر، جَاءَنِى النَّبِى عليه السلام يَعُودُنِى لَيْسَ بِرَاكِبِ بَغْلٍ وَلا بِرْذَوْنٍ. فيه أن عيادة المريض راكبًا وماشيًا كل ذلك سنة مرجو بركة العمل بها وثواب الأعمال على صحة النية وإخلاصها لله تعالى وإن قلت المشقة فيها. - باب: قول المريض إنى وجع، أو وارأساه أو أشتد بى الوجع وقول أيوب: (مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين ( / 24 - فيه: كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، مَرَّ بِىَ النَّبِى عليه السلام وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ الْقِدْرِ، فَقَالَ: (أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَا الْحَلاقَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ أَمَرَنِى بِالْفِدَاءِ. / 25 - وفيه: عَائِشَةُ، قَالَت: وَا رَأْسَاهْ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَىٌّ، فَأَسْتَغْفِرَ لَكِ، وَأَدْعُوَ لَكِ) ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَا ثُكْلِيَاهْ، وَاللَّهِ إِنِّى لأظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِى، فَلَوْ كَانَ ذَاكَ لَظَلِلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّسًا بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (بَلْ أَنَا وَا رَأْسَاهْ، لَقَدْ هَمَمْتُ - أَوْ أَرَدْتُ - أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِى بَكْرٍ وَابْنِهِ، وَأَعْهَدَ. . .) الحديث. / 26 - وفيه: عبد اللَّهِ بْن مَسْعُود، دَخَلْتُ عَلَى النَّبِي عليه السلام وَهُوَ يُوعَكُ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 383 فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي، فَقُلْتُ: إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا؟ قَالَ: (أَجَلْ كَمَا يُوعَكُ رَجُلانِ مِنْكُمْ) ، قَالَ: لَكَ أَجْرَانِ؟ قَالَ: (نَعَمْ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ إِلا حَطَّ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا) . / 27 - وفيه: سَعْد، جَاءَنِى النَّبِىّ عليه السلام يَعُودُنِى مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِى زَمَنَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. . . . الحديث. قال الطبرى: اختلف العلماء فى هذا الباب فقالت طائفة: لا أحد من ينى آدم إلا وهو يألم من الوجع ويشتكى المرض لأن نفوس بنى آدم بنيت على الجزع من ذلك والألم، فغير قادر أحد على تغييرها عما خلقها الله بارئها، ولا كلف أحد أن يكون بخلاف الجبلة التى جبل عليها، وإنما كلف العبد فى حالة المصيبة أن يفعل ماله إلى ترك فعله سبيل وذلك ترك البكاء على الرزية والتأوه من المرض والبلية. فمن تأو من مرضه أو بكى من مصيبة تحدث عليه أو فعل نظيرًا لذلك فقد خرج من معانى أهل الصبر ودخل فى معانى أهل الجزع وممن روى ذلك عنه مجاهد وطاوس، قال مجاهد: يكتب على المريض ماتكلم به حتى الأنين. وقال ليث: قلت لطلحة بن مصرف: إن طاوسًا كره الأنين فى المرض، فما سمع لطلحة أنين حتى مات. واعتلوا لقولهم بإجماع على كراهة شكوى العبد ربه على ضر ينزل به أو أشتد تحدث به، وشكواه ذلك إنما هو ذكره للناس ما امتحنه به ربه عز وجل على وجه الضجر به، قالوا: فالمتوجع المتأوه فى معنى ذكراه للناس متضجرًا به أو أكثر منه به. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 384 وقال آخرون: ليس الذى قال هؤلاء بشىء وقالوا: إنما الشاكى ربه تعالى من أخبر عما أصابه من الضر والبلاء متسخطًا قضاء الله فيه، فأما من أخبر به إخوانه ليدعو له بالشفاء والعافية وأن استراحة إلى الأنين والتأوه فليس ذلك بشاك ربه، وقد شكا الألم والوجع المؤذى للنبى عليه السلام وأصاحبه وأن جماعة من القدوة ممن ذكرهم البخارى فى هذا الباب وغيرهم، روى عن الحسن البصرى أنه دخل عليه أصحابه وهو يشتكى ضرسه فقال: رب مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين، وهذا القول أولى بالصواب لما يشهد له من فعل النبى وأصحابه، وأيضًا فإن الأنين من الم العلة والتأوه قد يغلبان الإنسان ولايطيق كفهما عنه، ولا يجوز إضافة موأخذة العبد به إلى الله تعالي؛ لأنه قد أخبر أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وليس فى وسع ابن آدم ترك الاستراحة إلى الأنين عند الوجع يشتد به والألم ينزل به فيؤمر به أو ينهى عن خلافه. - باب: قول المريض قوموا عنى / 28 - فيه: ابْن عَبَّاس، لَمَّا حُضِرَ النَّبِىّ عليه السلام وَفِى الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ) ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِى عليه السلام قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ، حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالاخْتِلافَ عِنْدَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (قُومُوا. . . .) الحديث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 385 قال المؤلف: فيه من الفقه أن المريض إذا اشتد به المرض أنه يجوز أن يقول لزوره قوموا عنى ويأمرهم بالخروج لينفرد بألطافه ويمرضه من يخف عليه مباشرته له من أهله وذوى رحمة، ولا يعد ذلك جفاء على الزائرين بل الجفاء منهم طول الجلوس عند المريض إذا اشتد مرضه، والصواب لهم تخفيف القعود عنده وترك إحراجه وأذاه، وقد تقدم فى كتاب العلم فى باب كتابه العلم وسيأتى فى كتاب الاعتصام فى باب النهى على التحريم إلا بما يعرف إباحتع إن شاء الله تعالى - باب: من ذهب بالصبى المريض ليدعى له / 29 - فيه: السَّائِبَ، ذَهَبَتْ بِى خَالَتِى إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِى وَجِعٌ، فَمَسَحَ رَأْسِى وَدَعَا لِى بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ. . . . الحديث. لا بأس بالذهاب بالصبيان إلى الصالحين وأهل الفضل رغبة فى بركة دعائم والانتفاع بهم، ألا ترى أن هذا الصبى مسح النبى عليه السلام رأسه ودعا له وسقاه من وضوئه فبرىء حتى قام خلف ظهره عليه السلام ورأى بين كتفيه خاتم النبوة. وفيه أن شرب صاحب الوجع من وضوء الرجل الفاضل مما يذهب وجعه. - باب تمنى المريض الموت / 30 - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُ الْمَوْتَ مِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 386 مرض أصابه، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ فَاعِلا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي) . / 31 - وفيه: قَيْسِ بْنِ أَبِى حَازِمٍ، دَخَلْنَا عَلَى خَبَّابٍ نَعُودُهُ - وَقَدِ اكْتَوَى سَبْعَ كَيَّاتٍ - فَقَالَ: إِنَّ أَصْحَابَنَا الَّذِينَ سَلَفُوا مَضَوْا، وَلَمْ تَنْقُصْهُمُ الدُّنْيَا، وَإِنَّا أَصَبْنَا مَا لا نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلا التُّرَابَ، وَلَوْلا أَنَّ النَّبِى عليه السلام نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ، ثُمَّ أَتَيْنَاهُ مَرَّةً أُخْرَى، وَهُوَ يَبْنِى حَائِطًا لَهُ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ لَيُؤْجَرُ فِى كُلِّ شَىْءٍ يُنْفِقُهُ إِلا فِى شَىْءٍ يَجْعَلُهُ فِى هَذَا التُّرَابِ. / 32 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ) ، قَالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (وَلا أَنَا، إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِى اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَلا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، إِمَّا مُحْسِنًا، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا مُسِيئًا، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ) . / 33 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَىَّ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى، وَارْحَمْنِى، وَأَلْحِقْنِى بِالرَّفِيقِ) . قال المؤلف: نهى النبى أمته عن تمنى الموت عند نزول البلاء بهم وأمرهم أن يدعوا بالموت ما كان الموت خيرًا لهم فى حديث أبى هريرة: (لا يتمنى أحدكم الموت، إما محسنا فلعله أن يزداد خيرًا، وإما مسيئًا فلعله أن يستعتب) . قال الطبرى: فإن قيل: هذا الحديث جاء بلفظ (لعلى) وهى موضوعة لغير التحقيق. قيل: قد جاء هذا الحديث بلفظ (إن) التى هى موضوعة للتحقيق من رواية معمر، عن همام بن منبه، عن أبى هريرة قال: قال النبى: (لا يتمنى أحدكم الموت ولايدعو به قبل أن يأتيه، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 387 فإنه إذا مات أحدكم انقطع أمله وعمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا) فإن قال قائل: إن قول النبى عليه السلام عند موته: (اللهم ألحقنى بالرفيق) تمن للموت، وذلك معارض للأحاديث المتقدمة وقد تمنى الموت عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب. فأما حديث عمر فرواه معمر عن على بن زيد، عن الحسن، عن سعيد بن أبى العاص قال: (رصدت عمر ليلة فخرج إلى البقيع وذلك فى السحر فاتبعته فصلى فرفع يديه ثم قال: اللهم كبرت سنى وضعفت قوتى وخشيت الانتشار من رعيتى فاقبضنى إليك غير عاجز ولا ملوم) قال الزهرى، عن ابن المسيب: فما انسلخ الشهر حتى مات. وأما حديث على فرواه معمر عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: سمعت عليًا يخطب فقال: (اللهم إنى قد سئمتهم وسئمونى فارحمنى منهم وارحمهم منى، مايمنع أشقاكم أن يخضبها بدم - وأشار إلى لحيته) . قيل: لا تعارض بين شىء مما ذكرت ولكل خبر منها وجه صحيح، فأما قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم ألحقنى بالرفيق) فإنما قال ذلك بعد أن علم أنه ميت فى يومه برؤية الملائكة المبشرة له عن ربه بالسرور الكامل الا تسمعه يقول لابنته فاطمة حين ندبته: (لا كرب على أبيك بعد اليوم) فكانت نفسه مفزعة فى اللحاق بكرامة الله تعالى والمصير إلى ماوعده به من سعادة الأبد، وكذلك قالت عائشة: سمعت النبى عليه السلام يقول: (لا يقبض نبى حتى يخير، فلما سمعته يقول: الرفيق الأعلى علمت أنه ذاهب وأنه لا يختارها) وهذا خير له من كونه فى الدنيا وبهذا أمر أمته فقال: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 388 (كان لابد فاعلا فليقل اللهم توفنى ما كانت الوفاة خيرًا لى) . وأما حديث عمر وعلى ففيها بيان معنى نهيه عليه السلام عن تمنى الموت وأن المراد بذلك إذا نزل بالمؤمن ضر أو ضيق فى دنياه فلا يتمنى الموت عند ذلك، فأما إذا خشى أن يصاب فى دينه فمباح له أن يدعو بالموت قبل مصابه بدينه، ويشهد لصحة هذا قوله عليه السلام: (وإذا أردت بالناس قتنة، فأقبضنى إليك غير مفتون) فاستعمل عمر هذا المعنى حين خشى عند كبر سنه وضعف قوته أن يعجز عن القيام بما فرض الله عليه من أمر الأمة أو أن يفعل مايلام عليه فى الدنيا والآخرة، فلذلك قال: فاقبضنى إليك غير عاجز ولاملوم، فأجاب الله دعاءه وأماته قبل انسلاخ الشهر. وكذلك خشى على بن أبى طالب من سآمته لرعيته وسآمتهم له أن يحملهم ذلك على مايئول إلى سخط الله وإلى مالا يرقع فتقه، فكان ذلك من قبلهم فقتلوه وتقلدوا دمه وباءه وبإثمه وهو إمام عدل بر تقى لم يأت مايستحق عليه التأنيب فضلا عن غيره؛ فلذلك سأل الله أن يريحه منهم فليس فى شىء من ذلك تعارض ولا اختلاف، بل كل ذلك يفسر بعضه بعضًا. وقول خباب: (إن المسلم ليؤجر فى كل شىء ينفقه إلا فى شىء يجعله فى هذا التراب) يعنى البنيان، ومعنى الحديث أن من بنى مايكنه ولا غنى به عنه فلا يدخل فى معنى الحديث بل هو مما يؤجر فيه، وإنما أراد خباب من بنى مايفضل عنه ولا يضطر إليه فذلك الذى لا يؤجر عليه لأنه من التكاثر الملهى لأهله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 389 وقد تقدم فى باب البناء فى آخر الاستئذان وسيأتى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يدخل أحدًا عمله الجنة) وتأويل قوله تعالى: (وتلك الجنة التى أورثتموها بما كنتم تعملون (فى باب القصد والداومة على العمل فى كتاب الرقاق، إن شاء الله تعالى. - باب: دعاء العائد للمريض وَقَالَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهَا: قَالَ النَّبِى عليه السَّلام: (اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا) . / 34 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام كَانَ إِذَا أَتَى مَرِيضًا، أَوْ أُتِىَ بِهِ، قَالَ: (أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِى، لا شِفَاءَ إِلا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لاَ يُغَادرُ سقمًا) . قال الطبرى: فى هذه الآثار من الفقه أن الرغبة إلى الله فى عافية فى الجسم أفضل للعبد وأصلح له من الرغبة اليه فى البلاء، وذلك أنه عليه السلام كان يدعو للمرضى بالشفاء من عللهم. فإن قال قائل: ماوجه دعائه عليه السلام لسعد بالشفاء، وقد تظاهرت الأخبار عنه عليه السلام أنه قال يومًا لأصحابه: من أحب أن يصح ولايسقم؟ فقالوا: نحن يارسول الله. فقال: أتحبون أن تكونوا مثل الحمر الصيالة؟ وتغير وجه النبى عليه السلام ثم قال: ألا تحبون أن تكونوا أصحاب بلاء وأصحاب كفارات؟ قالوا: بلى يارسول الله. قال: فوالذى نفس أبى القاسم بيده إن الله تعالى ليبتلى المؤمن، وما يبتليه إلا لكرامته عليه، وإلا أن له عنده الجزء: 9 ¦ الصفحة: 390 منزلة لا يبلغها شيء من عمله دون أن يبلغ من البلاء ما يبلغه تلك المنزلة. من حديث أبى عقيل مسلم بن عقيل، عن عبد الله بن إياس بن أبى فاطمة، عن أبيه، عن جده، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) . وروى زيد بن أبى أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة قال: (جاء رجل مصح إلى النبى عليه السلام فقال له رسول الله: أصابتك أم ملدم قط؟ قال له: لا يارسول الله. فلما ولى الرجل قال لهم رسول الله: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا) . وروى الليث عن يزيد أبى حبيب، عن سعد بن يسار عن أنس بن مالك، عن النبى عليه السلام أنه قال: (إن أعظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضى فله الرضا، ومن سخط فله السخط) مع كثرة من كان يؤثر العلل والأسقام من السلف. قيل: ليس شىء من هذه الآثار يعارض أحاديث هذا الباب ولكل حديث منها وجه مفهوم وذلك أن العلل والأمراض كفارات لأهل الإيمان وعقويات يمحص الله بها عمن شاء منهم فى الدنيا ليلقوه مطهرين من دنس الذنوب، كما روى أيوب، عن أبى قلابة، عن أنس قال: (كان أبو بكر الصديق يأكل مع النبى فنزلت هذه الآية: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 391 ذرة شرًا يره) فرفع أبو بكر يده فقال: يارسول الله، إنى أجزى بما عملت من مثقال ذرة من شر؟ فقال: ياأبا بكر، مارأيت فى الدنيا مما تكره فبمثقال ذر الشر ويدخر لك مثاقيل الخير حتى توفاه يومه القيامة) . فإذا كانت العلل والأوجاع إنما هى عقوبات على التبعات ثبت أنه النبى عليه السلام إنما دعا بالشفاء من الأمراض لمن لا كبائر له، ومن سلم من الذنوب الموجبة للعقوبات وبرىء من مظالم العباد وكره اختيار الصحة على البلاء فى هذه الأحاديث الأخر لأهل الإجرام ولمن اقترف على نفسه الآثام، فكره له أن يختار لنفسه لقاء ربه بآثمه وموافاته بإجرامه غير متحمص ولا متطهر من الأدناس، فليس شىء من الاخبار خلاف لصاحبه، والله الموفق. - باب: وضوء العائد المريض / 35 - فيه: جَابِر، دَخَلَ عَلَىَّ النَّبِى عليه السلام وَأَنَا مَرِيضٌ، فَتَوَضَّأَ فَصَبَّ عَلَىَّ فَعَقَلْتُ، فَقُلْتُ: لا يَرِثُنِى إِلا كَلالَةٌ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ. وضوء العائد للمريض إذا كان إماما فى الخير ورئيسًا فى الفضل يتبرك به وصبه عليه مما يرجى نفعه، وقد يمكن أن يكون مرض جابر الذى صب عليه النبى (ص) الماء من الحمى الذى أمر النبى بإبرادها بالماء لأنها من فيح جهنم، فتكون صفه من الإبراد هكذا أن يتوضأ الرجل الفاضل ويصب ذلك الماء طار من وضوئه على المريض. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 392 - باب: من دعا برفع الوباء والحمى / 36 - فيه: وذكر حديث عَائِشةَ حين وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلالٌ بتمامه إلى قوله: (اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ) . وقد تقدم فى باب عيادة الرجال النساء. قال المؤلف: فيه من الفقه جواز الدعاء إلى الله تعالى فى رفع الوباء والحمى والرغبة إليه فى الصحة والعافية، وهذا رد على الصوفية فى قولهم: إن الولى لا تتم له بالولاية إلا إذا رضى بجميع مانزل به من البلاء ولا يدع الله فى كشفه، وقد تقدم فى آخر كتاب الحج فى أبواب فضائل المدينة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 393 69 - كتاب الطب - باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء ً / 1 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً) . قال الترمذى فى هذا الحديث: عن ابن مسعود، وأبى هريرة، وأبى خزامة، عن أبيه وابن عباس، وعن أسامة بن شريك. وفيه إباحة التداوى وجواز الطب، وهو رد على الصوفية الذى يزعمون أن الولاية لا تتم إلا إذا رضى بجميع مانزل من البلاء، ولا يجوز له له مداوته. وقد أباح عليه السلام التداوى وقال للرجلين: (أيكما أطب؟ فقالا: أو فى الطب خير يارسول الله؟ فقال: أنزل الدواء الذى أنزل الأدواء) فلا معنى لقول من أنكر ذلك. - باب هل يداوى الرجل المرأة والمرأة الرجل / 2 - فيه: رُبَيِّعَ بِنْتِ مُعَوِّذِ، قَالَتْ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِىّ عليه السلام نَسْقِى الْقَوْمَ وَنَخْدُمُهُمْ، وَنَرُدُّ الْقَتْلَى وَالْجَرْحَى إِلَى الْمَدِينَةِ. قال المؤلف: هذا إنما يجوز للنساء المتجالات اللاتي لا تخشى من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 394 قبلهن الفتنة وأما الجواري فلا يباشرون الرجال غير ذوي المحارم منهن. 3 - باب: الدواء بالعسل وقوله تعالى: (فيه شفاء للناس / 3 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىُّ عليه السلام يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ. / 4 - وفيه: جَابِر، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنْ كَانَ فِى شَىْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِى شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ، تُوَافِقُ الدَّاءَ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِىَ) . / 5 - وفيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِى عليه السلام فَقَالَ: أَخِى يَشْتَكِى بَطْنَهُ، فَقَالَ: (اسْقِهِ عَسَلا) ، ثُمَّ أَتَى الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: (اسْقِهِ عَسَلا) ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: (اسْقِهِ عَسَلا) ، ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، فَقَالَ: (صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ، اسْقِهِ عَسَلا، فَسَقَاهُ فَبَرَأَ) . اختلف أهل التأويل فيما عادت عليه الهاء التى فى قوله: (فيه شفاء للناس) فقال بعضهم: عادت على القرآن وهو قول مجاهد. وقال آخرون: يراد بها العسل روى ذلك عن ابن مسعود وابن عباس، وهو قول الحسن وقتادة، وهذا القول أولى بدليل حديث جابر وأبى سعيد، وقال قتادة فى حديث سعيد: (صدق القرآن وكذب بطن أخيك) وقال بعض العلماء فى قوله: (شفاء للناس) المعنى فيه شفاء لبعض الناس. وتأولوا الآية. وحديث جابر وأبى سعيد على الخصوص. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 395 وقالوا: الحجامة وشرب العسل والكى إنما هو شفاء لبعض الأمراض دون بعض، ألا ترى قوله عليه السلام: (أو لذعة بنار توافق الداء) فشرط موافقتها للداء فدل هذا أنها إذا لم توافق الداء فلا دواء فيها، وقد جاء فى القرآن مالفظه العموم والمراد به الخصوص كقوله تعالى: (وماخلقت الجن واإنس إلا ليعبدون) يريد المؤمنين منهم لقوله تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس) أى: خلقنا، وقال تعالى فى بلقيس: (وأوتيت من كل شىء) ولم تؤت ملك سليمان، ومثله كثير. 4 - باب: الدواء بأوبوال الإبل وألبانها / 6 - فيه: أَنَس، أَنَّ نَاسًا اجْتَوَوْا فِى الْمَدِينَةِ فَأَمَرَهُمُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَنْ يَلْحَقُوا بِرَاعِيهِ - يَعْنِى الإبِلَ - فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَفَعلوا حَتَّى صَلَحَتْ أَبْدَانُهُمْ، فَقَتَلُوا الرَّاعِىَ. . . . الحديث. قال مالك: لا بأس بشرب أبواب الإبل فى الداء، كذلك أبواب الإنعام والبقر والغنم، قيل له: فأبوال الخيل؟ قال: لا خير فيه. قيل له: تحلب فتبول فى اللبن. قال: أرجو أن لا يكون بذلك بأس. وأبوالها عنده طاهرة كلحومها. وقال مالك مرة: تشرب أبوال الأنعام الثمانية التى ذكر الله سبحانه، وقد تقدم فى كتاب الوضوء فى باب أبواب الإبل والدواب والغنم ومرابضها وقوله: (يكدم الأرض بلسانه) فالكدم عض بأدنى الفم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 396 5 - باب: الحبة السوداء / 7 - فيه: خَالِدِ بْنِ سَعْد، خَرَجْنَا وَمَعَنَا غَالِبُ بْنُ أَبْجَرَ، فَمَرِضَ فِى الطَّرِيقِ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، وَهُوَ مَرِيضٌ، فَعَادَهُ ابْنُ أَبِى عَتِيقٍ، فَقَالَ لَنَا: عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْحُبَيْبَةِ السَّوْدَاءِ، فَخُذُوا مِنْهَا خَمْسًا أَوْ سَبْعًا فَاسْحَقُوهَا، ثُمَّ اقْطُرُوهَا فِى أَنْفِهِ بِقَطَرَاتِ زَيْتٍ فِى هَذَا الْجَانِبِ، وَفِى هَذَا الْجَانِبِ، فَإِنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْنِى أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (إِنَّ هَذِهِ الْحَبَّةَ السَّوْدَاءَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلا مِنَ السَّامِ) ، قُلْتُ: وَمَا السَّامُ؟ قَالَ: (الْمَوْتُ) . / 8 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (فِى الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلا السَّامَ) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَالسَّامُ الْمَوْتُ، وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ الشُّونِيزُ. هذا الحديث يدل عمومه على الانتفاع بالحبة السوداء فى كل داء غير داء الموت كما قال عليه السلام، إلا أن أمر ابن أبى عتيق بتقطير الحبة السوداء بالزيت فى أنف المريض لا يدل أن هكذا سبيل التداوى بها فى كل مرض، فقد يكون من الأمراض مايصلح للمريض شربها أيضًا ويكون منها مايصلح خلطها ببعض الأدوية فيعم الانتفاع بها منفردة ومجموعة مع غيرها، والله أعلم. 6 - باب: التلبية للمريض / 9 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينِ لِلْمَرِيضِ وَلِلْمَحْزُونِ عَلَى الْهَالِكِ، وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىّ عليه السلام يَقُولُ: (إِنَّ التَّلْبِينَةَ تُجِمُّ فُؤَادَ الْمَرِيضِ، وَتَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ، وكانت تقول: هو [البغيض] النافع) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 397 ويروى (تخم) ومعناه: تنفى والمخمة المكنسة، ومنه قوله عليه السلام حين سئل أى المؤمنين أفضل؟ قال: (الصادق اللسان المخموم القلب. قيل: قد عرفنا الصادق اللسان، فما المخموم القلب؟ قال: الذى لا غل فيه ولا حسد) ومن روى تجم بالجيم، فمعناه قريب من هذا وهو من خفة النفس ونشاطها، تقول العرب: جم الفرس يجم ويجم جمامًا وأجم إذا ترك ولم يركب ولم يتعب. 7 - باب: السعوط / 10 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) احْتَجَمَ، وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ، وَاسْتَعَطَ. روى الترمذى من حديث عبادة بن منصور عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : إن خير ماتداويتم به السعوط والحجامة شفاء لبعض الناس دون بعض، وكلك اللدود والمشى. 8 - باب: السعوط بالقسط الهندي وَهُوَ الْكُسْتُ مِثْلُ الْكَافُورِ، وَالْقَافُورِ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: قُشِطَتْ، وَكُشِطَتْ. / 11 - فيه: أُمِّ قَيْس أَنَّ النَّبِى عليه السلام قَالَ: (عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِىِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، يُسْتَعَطُ بِهِ مِنَ الْعُذْرَةِ، وَيُلَدُّ بِهِ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ. . . .) الحديث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 398 وفي كتاب العين: العذرة: وجع فى الحلق، ويلد: يداوى، واللدود ماكان من السقى فى أحد شقى الفم، وسيأتى فى باب اللدود. 9 - باب: أى ساعة يحتجم واحتجم أبو موسى ليلا. / 12 - فيه: ابْن عَبَّاس، احْتَجَمَ النَّبِىُّ عليه السلام وَهُوَ صَائِمٌ. الحجامة فى الليل والنهار وفى كل وقت احتيج اليها مباحة، وقد روى أبو داود عن الربيع بن نافع، حدثنا سعيد بن عبد الرحمن الجمحى، عن سهيل، عن أبيه، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (من احتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين، كان شفاء من كل داء) . وسئل مالك عن الحجامة فى خمس وسبع عشرة وثلاث وعشرين، فكره أن يكون لذلك يوم محدود، وقال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو بكرة بكار بن عبد العزيز قال: أخبرتنى عمتى كبشة بنت أبى بكر: (أن أباها كان ينهى أهله عن الحجامة يوم الثلاثاء، ويزعم عن رسول الله أن يوم الثلاثاء يوم الدم وفيه ساعة لا يرقأ) . وقال مالم: لا أرى بأسا بالحجامة يوم السبت ويوم الأربعاء والأيام كلها، وكذلك السفر والنكاح، وأراه عظيما أن يكون يومًا من لأتقى الحجامة يوم السبت والأربعاء لحديث بلغني. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 399 - باب: الحجامة من الدواء / 13 - فيه: أَنَس، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَجْرِ الْحَجَّامِ، فَقَالَ: احْتَجَمَ النَّبِىّ عليه السلام حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ، وَأَعْطَاهُ صَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ، وَكَلَّمَ مَوَالِيَهُ فَخَفَّفُوا، عَنْهُ، وَقَالَ: إِنَّ أَمْثَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ، وَالْقُسْطُ الْبَحْرِىُّ، وَقَالَ: (لا تُعَذِّبُوا صِبْيَانَكُمْ بِالْغَمْزِ مِنَ الْعُذْرَةِ، وَعَلَيْكُمْ بِالْقُسْطِ) . (1) / 14 - وفيه: جَابِر، أَنَّهُ عَادَ الْمُقَنَّعَ، ثُمَّ قَالَ: لا أَبْرَحُ حَتَّى تَحْتَجِمَ، فَإِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىّ عليه السلام يَقُولُ: (إِنَّ فِيهِ شِفَاءً) . قال الطبرى: فإن قال قائل: قول النبى (أمثل ما تداويتم به الحجامة) و (إن فيه الشفاء) هل هو على العموم أو الخصوص، فإن قلت: أنها على العموم فما أنت قائل فيما روى ابن علية عن ابن عون، عن ابن سيرين أنه قال: إذا بلغ الرجل أربعين لم يحتجم، قال ابن عون: فتركت الحجامة وكانت نعمة من الله. وإن قلت: هى على الخصوص. فما الدليل على ذلك؟ . قال الطبرى: فالجواب أن أمر النبى بذلك أمته إنما هو ندب لا إيجاب وهو عام فيما ندبهم إليه من معناه، وذلك أنه أمرهم بالحجامة حضًا منه لهم على مافيه نفعهم، ودفع مايخاف من غائلة الدم على أجسامهم إذا كثر وتبيغ فندبهم إلى استعمال ذلك فى الحين الذى إخراجه فيه صلاح لأبدانهم، وقد بين عليه السلام فى خبر حميد عن أنس أنه قال عليه السلام: (إذا هاج بأحدكم الدم فليحتجم، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 400 فإن الدم إذا تبيغ بصاحبه قتله) وغير بعيد ماروى عن ابن سيرين من نهيه ابن أربعين سنة عن الحجامة، وذلك أنه فى انتفاض من عمره وانحلال من قوى جسمه، وفى ذلك غناء له عن معونته عليه بما يزيد وهنًا على وهن، إلا أن يتبيغ به الدم حتى يكون الأغلب من أمره خوف الضرر بتركه إخراجه فيحق عليه حينئذ إخراجه والأخذ بما ندبه اليه نبيه عليه السلام والغمر: العصر باليد. - باب: الحجامة على الرأس / 15 - فيه: ابْن بُحَيْنَة، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام احْتَجَمَ بِلَحْىِ جَمَلٍ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فِى وَسَطِ رَأْسِهِ. / 16 - وفيه: ابْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) احْتَجَمَ فِى رَأْسِهِ. ذكر الطبرى روى شيبان عن جابر، عن محمد بن على عن عبد الله بن جعفر قال: (احتجم رسول الله عليه السلام على قرنه بعدما سم) . روى طاوس عن ابن عباس أن النبى عليه السلام قال: (الحجامة فى الرأس شفاء من سبع: من الجنون والجذام والبرص والصداع والنعاس وظلمة العينين ووجع الأضراس) . - باب: الحجامة من الشقيقة والصداع / 17 - فيه: ابْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِى عليه السلام احْتَجَمَ فِى رَأْسِهِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ، وَقَالَ مرة: مِنْ شَقِيقَةٍ كَانَتْ بِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 401 / 18 - وفيه: جَابِر، قَالَ عليه السَّلام: (إِنْ كَانَ فِى شَىْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ، فَفِى شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ شَرْطَةِ مِحْجَمٍ. . . .) الحديث. قال الطبري: وقد روى عن النبي أنه كان يحتجم على رأسه وبين كتفيه من حديث أبى كبشة الأنمارى وسلمى خادمة عليه السلام ومن حديث جرير، عن قتادة، عن أنس أنه كان يحتجم فى الأخدعين وبين الكتفين، وصحة هذا غير مبطلة صحة الخبر عنه أنه احتجم على رأسه وذلك أن حجم المحتجم من جسده مايرجو نفعه فى بعض أحايينه غير موجب علينا إحالة احتجامة على هامته ونفره قفاه، وغيرها من أماكن جسده لاختلاف العلل، وقد ذكر عن المتقدمين فى العلم بحجامة الأدواء أن حجامة الأخدعين على النقرة لأدواء العينين، والرأس والعنق والظهر، وأن الحجامة على الكاهل نفعها من داء الجسد كله وأن الحجامة فوق القحف نفعها من السدد وقروح الفخد واحتباس الطمث، فإذا كانت منافع الحجامة مختلفة لاختلاف أماكنها فمعلوم أن حجمه عليه السلام من جسده ما حجم كان لاختلاف أسباب الحاجة إليه، وروى عنه عليه السلام أن حجمه هامته كان لوجع أصابه فى رأسه من أكلة الطعام المسموم بخيير. - باب: الحلق من الأذى / 19 - فيه: كَعْبٍ بْن عُجْرَة، أَتَى عَلَى النَّبِي عليه السلام زَمَنَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 402 الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ بُرْمَةٍ، وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى رَأْسِى، فَقَالَ: (أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (فَاحْلِقْ وَصُمْ. . .) الحديث. فيه: أن ما مايتأذى به المؤمن وإن صغر أذاه فمباح له إزالته وإماطته عنه؛ لأن إنتاثر القمل عليه كان من شعث الإحرام وذلك لا محالة أهون من علة لو كانت بجسده، فكما أمره عليه السلام بإماطة أذى القمل عنه كان مداواة أسقام الأجساد أولى بإمطاتها بالدواء بخلاف قول الصوفية الذين لا يرون المداواة. - باب: من اكتوى أو كى غيره وفضل من لم يكتو / 20 - فيه: جَابِر، قَالَ عليه السَّلام: (إِنْ كَانَ فِى شَىْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ شِفَاءٌ، فَفِى شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِىَ) . / 21 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (عُرِضَتْ عَلَىَّ الأمَمُ، فَجَعَلَ النَّبِى وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ وَمَعَهُمُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِى لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ حَتَّى رُفِعَ لِى سَوَادٌ عَظِيمٌ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ أُمَّتِى هَذِهِ؟ قِيلَ: بَلْ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ، قِيلَ: انْظُرْ إِلَى الأفُقِ، فَإِذَا سَوَادٌ يَمْلأ الأفُقَ، ثُمَّ قِيلَ لِى: انْظُرْ هَاهُنَا وَهَا هُنَا فِى آفَاقِ السَّمَاءِ، فَإِذَا سَوَادٌ قَدْ مَلأ الأفُقَ، قِيلَ: هَذِهِ أُمَّتُكَ، وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ هَؤُلاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ) ، ثُمَّ دَخَلَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ، فَأَفَاضَ الْقَوْمُ، وَقَالُوا: نَحْنُ الَّذِينَ آمَنَّا بِاللَّهِ، وَاتَّبَعْنَا رَسُولَهُ، فَنَحْنُ هُمْ أَوْ أَوْلادُنَا الَّذِينَ وُلِدُوا فِى الإسْلامِ، وَإِنَّا وُلِدْنَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَبَلَغَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَخَرَجَ، فَقَالَ: (هُمِ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 403 وَلا يَتَطَيَّرُونَ، وَلا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ، فَقَالَ عُكَاشَةُ: أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (نَعَمْ) ، فَقَامَ آخَرُ، فَقَالَ: أَمِنْهُمْ أَنَا، قَالَ: (سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ) . قال المؤلف: فى حديث جابر إباحة الكي والحجامة وأن الشفاء فيهما؛ لأنه عليه السلام لايدل أمته على مافيه الشفاء لهم إلا ومباح لهم الاستشفاء والتداوى. فإن قال قائل: مامعنى قوله عليه السلام: (لا أحب أن أكتوى) ؟ قيل: معنى ذلك - والله أعلم - أن الكي إحراق بالنار وتعذيب وقد كان عليه السلام يتعوذ كثيرًا من فتنة النار وعذاب النار فلو اكتوى بها لكان قد عجل لنفسه ألم ما قد استعاذ بالله منه. فإن قيل: فهل نجد فى الشريعة مثل هذا مما أباحه النبى عليه السلام لأمته ولم يفعله هو فى خاصة نفسه فتسكن النفس إلى ذلك؟ قيل: بلى وذلك أنه عليه السلام أباح لأصحابه أكل الضب على مائدته ولم يأكله هو وبين علة امتناعه منه فقال: (لم يكن بأرض قومى فأجدنى أعافه) ومثله أنه لم يأكل الثوم والبصل والخضروات المنتنه الريح وأباحها لأمته، وقال: (إنى أناجى من لا تناجى) وقال مرة: (إنه يحضرنى من الله حاضرة) فكذلك أباح الكي وكرهه فى خاصة نفسه عليه السلام. وقال الطبرى: أما قوله عليه السلام: (لايتطيرون ولا يسترقون) فمعناه - والله أعلم - الذين لايفعلون شيئًا من ذلك معتقدين أن البرء إن حدث عقيب ذلك كان من عند الله وأنه كان بسبب الكي والرقية، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 404 وأن الذي يتطير منه لو لم ينصرف من أجله ومضى فى مضيه إن أصابه مكروه من قبل مضيه لا من قبل الله. فأما من انصرف ومضى وهو فى كلا حالية معتقد أنه لا ضار ولا نافع غير الله تعالى وأن الأمور كلها بيده، فإنه غير معنى بقوله: (لا يكتوون ولا يتطيرون) . قال أبو الحسن بن القابسى: معنى لا يسترقون. يريد الاسترقاء الذى كانوا يسترقونه فى الجاهلية عند كهانهم وهو استرقاء لما ليس فى كتاب الله ولا بأسمائه وصفاته، وإنما هو ضرب من السحر، فأما الاسترقاء بكتاب الله والتعوذ بأسمائه وكلماته فقد فعله الرسول وأمر به ولا يخرج ذلك من التوكل على الله، ولايرجى فى التشفى به إلا رضا الله. وأما قوله: (وعلى ربهم يتوكلون) فقال الطبرى: اختلف الناس فى حد التوكل، فقالت طائفة: لايستحق اسم التوكل حتى لايخالط قلبه خوف شىء غير الله من سبع عاد وعدو لله كافر حتى يترك السعى على نفسه فى طلب رزقه؛ لأن الله تعالى قد ضمن أرزاق العباد والشغل بطلب المعاش شاغل عن الخدمة. واحتجوا بما رواه فضيل بن عياض، عن هشام، عن الحسن، عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله: (من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤمن ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها) وبما رواه فضيل عن عطيه عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لو فر أحدكم من رزقه لأدركه كما يدركه الموت) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 405 وقالت طائفة: حد التوكل على الله: الثقة به ولاستسلام لأمره والإيقان بأن قضاءه عليه ماض واتباع سنته وسنة رسوله ومن اتباع سنته سعى العبد فيما لابد له من مطعم ومشرب وملبس لقوله تعالى: (وما جعلناهم جسدًا لا يأكلون الطعام) ومن سنته أن يحترز من عدوه كما فعل النبى عليه السلام يوم أحد من مظاهرته بين درعين وتغفره بمغفر يتقى به سلاح المشركين، وإقعاده الرماة على فم الشعب ليدفعوا من أدراد إتيانه، وكصنيعة الخندق حول المدينة حصنًا للمسلمين وأموالهم مع كونه من التوكل والثقة بربه بمحل لم يبلغه أحد ثم كان من أصحابه ما لا يجهله أحد من تحولهم عن منازلهم مرة إلى الحبشة ومرة إلى مدينته عليه السلام خوفًا على أنفسهم من مشركى مكة وهربًا بدينهم أن يفتنوهم عنه بتعذيبهم إياهم. وقد أحسن الحسن البصرى حين قال - للمخبر عن عامر بن عبد الله أنه نزل مع أصحابه فى طريق الشام على ماء فحال الأسد بينهم وبين الماء فجاء عامر إلى الماء فأخذ منه حاجته، فقيل له: قد خاطرت بنفسك قال: لأن تختلف الأسنة فى جوفى خير لى من أن يعلم الله أنى أخاف شيئًا سواه -: قد خاف من كان خيرًا من عامر موسى عليه السلام حين قيل له: (إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنى لك من الناصحين فخرج منها خائفًا يترقب قال رب نجنى من القوم الظالمين) وقال: (فأصبح فى المدينة خائفًا يترقب) وقال حين القى السحرة حبالهم وعصيهم: (فأوجس فى نفسه خيفة موسى قلنا لاتخف إنك أنت الأعلي) قالوا: فالمخبر عن نفسه بخلاف ماطبع الله نفوس بنى آدم كاذب، وقد طبعهم الله على الهرب مما يضرهم، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 406 وقد أمر الله عباده بالإنفاق من طيبات ماكسبوا وقال تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) فأحل للمضطر ماكان حرم عليه عند عدمه للغذاء الذى أمره باكتسابه والاغتذاء به، ولم يأمره بانتظار طعام ينزل عليه من السماء، ولو ترك السعى فى طلب مايتغذى به حتى هلك كان لنفسه قاتلا، وقد كان رسول الله يتلوى من الجوع مايجد مايأكله، ولم ينزل عليه طعام من السماء وهو أفضل البشر وكان يدخل لنفسه قوت سنه حين فتح الله عليه الفتوح. وقد روى أنس بن مالك (أن رجلا أتى النبى عليه السلام ببعير، فقال: يارسول الله أعقله وأتوكل أو أطلقه وأتوكل؟ قال: اعقله وتوكل) . وأما اعتلالهم بقوله عليه السلام: (يدخل الجنة من أمتى سبعون الفًا بغير حساب الذين لايسترقون ولايتطيرون ولايكتوون ةعلى ربهم يتوكلون) فذلك إغفال منهم، ومعنى ذلك الذين يايكتوون معتقدين أن الشفاه الله بعلاجه أن الله هو الذى شفاه به فهو المتوكل على ربه التوكل الصحيح ولا أحد يتقدم النبى عليه السلام فى دخول الجنة ولايسبقه إليها وقد قال: (أنا أول من يقرع باب الجنة فيقال لى: من أنت؟ فأقول: محمد فيقول الخازن: أمرت ألا أفتح لأحد قبلك) قالوا: وقد كوى عليه السلام جماعة من أصحابه، كوى أبا أمامه أسعد بن زرارة من الذبحة، وكوى سعد بن معاذ من كلمه يوم الخندق، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 407 وكوى أبى بن كعب على أكحله حين أصابه السهم يوم أحد، وكوى أبو طلحة فى زمن النبى عليه السلام وقال جرير بن عبد الله: أقسم على بن عمر بن الخطاب لأكتوين، واكتوى خباب بن الأرت سبعًا على بطنه واكتوى من اللقوة ابن عمر ومعاوية وعبد الله بن عمرو روى ذلك كله الطبرى بأسانيد صحاح. قال الطبرى: فبان أن معنى الحديث ماقلناه وأن الصواب فى حد التوكل الثقة بالله تعالى والاعتماد فى الأمور عليه، وتفويض كل ذلك إليه بعد استفراغ الوسع فى السعى فيما بالعبد الحاجة إليه من أمر دينه ودنياه على ما أمر به من السعى فيه لا مالقله الزاعمون أن حدة الاستسلام للسباع وترك الاحتراز من الاعداء ورفض السعى للمكاسب والمعاش، والإعراض عن علاج العلل؛ لأن ذلك جهل وخلاف لحكم الله فى بعاده. وخلاف حكم رسوله فى أمته وفعل الأثمه الراشدين. قال غيره: وأما قوله: (سبقك بها عكاشة) فمعناه - والله أعلم - أن ذلك الرجل لم يكن ممن بلغت درجته فى الفضل إلى منزلة الذين لايسترقون ولايتطيرون ولايكتوون وعلى ربهم يتوكلون، فكره عليه السلام أن يفزعه بأنه ليس من هذه الطبقة فيحزنه بذلك، وكان عليه السلام رحيمًا رفيقًا فجابه بكلام مشترك ألف به به القول وهو قوله: (سبقك بها عكاشة) أى سبقك بهذه الحال الرفيعة من الإيمان حين كان من أهل تلك الصفات المذكورة، فبذلك استحق أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 408 يكون منهم وأنت لم يبلغ بك عملك إلى تلك الدرجات فكيف تكون منهم، وهذا من معاريض الكلام والرفق بالجاهل فى الخطاب، وقد قيل: إنما كان منافعقًا فأراد عليه السلام الستر له والإبقاء عليه ولعله أن يتوب فرده ردًا جميلاً، وهذا خلقه عليه السلام. - باب: الإثمد والكحل من الرمد فيه عن أم عطية / 22 - فيه: أُمِّ سَلَمَة، أَنَّ امْرَأَةً تُوُفِّىَ زَوْجُهَا فَاشْتَكَتْ عَيْنَهَا، فَذَكَرُوهَا لِلنَّبِى عليه السلام وَذَكَرُوا لَهُ الْكُحْلَ، وَأَنَّهُ يُخَافُ عَلَى عَيْنِهَا، فَقَالَ: (قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِى بَيْتِهَا فِى شَرِّ أَحْلاسِهَا فَإِذَا مَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ بَعْرَةً. . .) الحديث. روى إسرائيل عن عباد بن منصور، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: (كان النبى عليه السلام يكتحل قبل أن ينام بالأثمد فى كل عين ثلاثًا) . وروى ابن إسحاق عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال رسول الله: (عليكم بالأثمد عند النوم؛ فإنه يجلوا البصر وينبت الشعر) . - باب: الجذام / 23 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا عَدْوَى، وَلا طِيَرَةَ، وَلا هَامَةَ، وَلا صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأسَدِ) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 409 قال أبو بكر بن الطيب: زعم الجاحظ عن النظام أن قوله عليه السلام: (فر من المجذوم كما تفر من الأسد) معارض قوله عليه السلام (لا عدوى) قال ابن الطيب: وهذا جهل وتعسف من قائله؛ لأن قوله: (لا عدوى) مخصوص ويراد به شىء دون شىء وإن كان الكلام ظاهرة العموم فليس ينكر أن يخص العموم بقول آخر له أو استثناء، فيكون قوله: (لا عدوى) المراد به إلا من الجذام والبرص والجرب، فكأنه قال: (لا عدوى) إلا ماكنت بينته لكم أن فيه عدو وطيره فلا تناقص فى هذا إذا رتب الأحاديث على ماوصفناه. قال الطبرى: اختلف السلف فى صحة هذا الحديث، فأنكر بعضهم أن يكون عليه السلام أمر بالبعد من ذى عاهه جذامًا كانت برصًا أو غيره وقالوا قد أكل رسول الله مع مجذوم وأقعده معه وفعل ذلك أصحابه المهديون حدثنا ابن بشار ثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه: (أن وفد ثقيف أتوا أبا بكر الصديق فأتى بطعام فدعاهم فتنحى رجل، فقال مالك؟ قال: مجذوم. فدعاه وأكل معه) وعن سلمان وابن عمر أنهما كانا يصنعان الطعام للمجذومين ويأكلان معهم، وعن عكرمة أنه تنحى من مجذوم، فقال له ابن عباس: ياماض، لعله خير منى ومنك. وعن عائشة: (أن امرأة سألتها أكاد رسول الله يقول فى المجذومين فروا منهم فراركم من الأسد؟ فقالت عائشة كلا والله ولكنه قال: لا عدوى فمن أعدى الأول) وكان مولى لى أصابه ذلك الداء فكان يأكل فى صحافى ويشرب فى أقداحى وينام على فراشى. قالوا: وقد أبطل رسول الله العدوى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 410 روينا عنه عليه السلام أنه أكل مع مجذوم خلافًا لأهل الجاهلية فيما كانوا يفعلونه من ترك مؤاكلته خوفًا أن يعديهم داؤه، حدثنا به العباس ابن محمد، حديثنا يونس بن محمد، عن مفضل بن فضالة، عن حبيب بن الشهيد، عن محمد بن المنكدر، عن جابر: (أن النبى عليه السلام أخذ بيد مجذوم فأقعده معه، وقال: كل ثقة بالله وتوكلا عليه) . وقال آخرون بتصحيح هذا الخبر، وقالوا: أمر النبى بالفرار من المجذوم واتقاء مؤاكلته ومشاربته، فغير جائز لمن علم أمره بذلك إلا الفرار من المجذوم، وغير جائز إدامته النظر إليهم لنهيه عليه السلام عن ذلك، ذكر من قال لك روى معمر عن الزهرى أن عمر بن الخطاب قال لمعقيب: (اجلس منى قيد رمح. وكان به ذلك الداء وكان بدريًا) وروى أبو الزناد عن خارجة بن زيد قال: (كان عمر إذا أتى بالطعام وعنده معيقيب قال: كل مما يليك، وايم الله لو غيرك به مابك ماجلس منى على أدنى من قيد رمح) وكان أبو قلابة يتقى المجذوم. قال الطبرى: والصواب عندنا ما صح به الخبر عنه (ص) ، أنه قال: (لا عدوى) وأنه لا يصيب نفسًا إلا ما كتب عليها فأما دنو عليل من صحيح فإنه غير موجب للصحيح عله وسقمًا غير أنه لا ينبغى لذى صحة الدنو من الجذام والعاهة التى يكرها الناس لا أن ذلك حرام، ولكن حذار من أن يظن الصحيح إن نزل ذلك الداء يومًا أن ماأصابه لدنوه منه فيوجب له ذلك الدخول فيما نهى عنه عليه السلام وأبطله من أمر الجاهلية فى العدوى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 411 وليس فى أمره عليه السلام بالفرار من المجذوم خلاف معه لأنه يأمر بالأمر على وجه الندب أحيانًا وعلى وجه الإباحة أخرى ثم يترك فعله ليعلم بذلك أن أمره لم يكن على وجه الإلتزام وكان ينهى عن الشىء على وجه التكره والتنزه أحيانًا وعلى وجه التأديب أخرى ثم يفعله ليعلم أن هيه لم يكن على وجه التحريم. قال غيره: وقد قال بعض العلماء: هذا الحديث يدل أنه يفرق بين المجذوم وامرأته إذا حدث به الجذام وهى عنده لموضع الضرر، إلا أن ترضى بالمقام معه. وقال ابن القاسم: يحال بينه وبين وطء رقيقة إذا كان فى ذلك ضرر. قال سحنون: لا يحال بينه وبيه وطء إمائه. ولم يختلفوا فى الزوجة. قال ابن حبيب: وكذلك يمنع المجذوم من المسجد والدخول بين الناس واختلاطة بهم كما روى عن عمر أنه مر بامرأة مجذومة تطوف بالبيت فقال لها: ياأمة الله، اقعدى فى بيتك ولاتؤذي الناس. وقال مطرف وابن الماجشون فى المرضى إذا كانوا يسيرًا: لايخرجون عن قرية ولاحاضرة ولاسوق، وإن كثروا رأينا أن يتخذوا لأنفسهم موضعًا كما صنع مرضى مكة عند التنعيم منزلهم وفيه جماعتهم، ولا أرى أن يمنعوا من الأسواق لتجارتهم والنظر والمسألة إذا لم يكن لهم إمام عادل يرزقهم، ولايمنعوا من الجمعة يمنعون من غيرها. وقال أصبغ: ليس على مرضى الحواضر أن يخرجوا منها إلى نايحة بقضاء يحكم به عليهم، ولكنهم إن كفاهم الإمام مؤنتهم وأجرى عليهم الرزق منعوا من مخالطة الناس. قال ابن حبيب: والحكم بتنحيتهم إذا كثروا أعجب إلى، وهو الذي عليه الناس. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 412 - باب: المن شفاء للعين / 24 - فيه: سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ، سَمِعْتُ النَّبِى عليه السلام يَقُولُ: (الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ) . ذكر الطبرى عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: (كثرت الكمأة على عهد رسول الله عليه السلام فامتنع أقوام من أكلها، وقالوا: هى جدى الأرض، فبلغ ذلك النبى عليه السلام فقال: إن الكمأة ليست من جدى الأرض، ألا إن الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين) قال الطبرى: إن قيل مامعنى قوله: (الكمأة من المن) والكمأة معروفة كما أن المن معروف، كل واحد منهما غير نوع صاحبه؟ قيل: الكمأة وإن لم تكن من نوع المن فإنه يجمعهما فى المعنى أنهما مما يحدث الله رزقًا لعباده من غير أصل له ومن غير صنع منهم ولاعلاج، إذ كانت جميع أقوات العباد لا سبيل إليها إلا بأصل عندهم وغرس وليس كذلك فى الكمأة والمن. - باب: اللدود / 25 - فيه: ابْن عَبَّاس، وَعَائِشَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَبَّلَ النَّبِىَّ عليه السلام وَهُوَ مَيِّتٌ، قَالَ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَدَدْنَاهُ فِى مَرَضِهِ، فَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ لا تَلُدُّونِى، فَقُلْنَا: كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ، فَلَمَّا أَفَاقَ، قَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِى؟ قُلْنَا: كَرَاهِيَةَ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: لا يَبْقَى فِى الْبَيْتِ أَحَدٌ إِلا لُدَّ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلا الْعَبَّاسَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 413 وفيه: أم قيس: دخلت بابن لي على النبي - عليه السلام - وقد أعلقت عنه من العذرة، فقال: علام تدغرن أولادكن بهذا العلاق، عليكم بهذا العود الهندي فإنه فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب ويسعط من العذرة ويلد من ذات الجنب. [قلت] لسفيان: فإن [معمراً] يقول: أعلقت عليه. قال: لم يحفظ إنما قال أعلقت عنه، حفظته من الزهري، ووصف سفيان الغلام يحنك بالأصبع وأدخل سفيان في حنكه، وإنما يعني رفع حنكه بأصبعه ولم يقل أعلقوا عنه شيئاً. وفيه: عائشة: لما ثقل النبي (صلى الله عليه وسلم) واشتد وجعه استأذن أزواجه في أن يمرّض في بيتي فأذنّ له، فخرج بين رجلين تخط رجلاه في الأرض فقال النبي - عليه السلام - بعد ما دخل بيتها واشتد وجعه: هريقوا عليّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس. قالت: فأجلسناه في مخضب لحفصة زوج النبي ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب حتى جعل يشير إلينا أن قد فعلتم، وخرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم. قال المؤلف: اللدود من أدوية الخدر وذات الجنب، تقول العرب: لددت المريض لدا [ألقيت الدواء في شق] فيه: وهو التحنيك بالأصبع كما قال أبو سفيان، واسم الشيء الذي يلد به المريض اللدود بفتح اللام. فإن قال قائل: لمَ أمر النبي أن يلد كل من في الببت؟ قال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 414 المهلب: وجه ذلك - والله أعلم - أنه لما فعل به من ذلك ما لم يأمرهم به من المداواة بل نهاهم عنه، وألم بذلك ألماً شديداً أمر أن يقتصّ من كل [من] فعل به ذلك، ألا ترى قوله: لا يبقى في البيت أحد إلا لد إلا العباس فإنه لم يشهدكم. فأوجب القصاص على كل من لده من أهل البيت ومن ساعده فى ذلك ورآه لمخالفتهم نهيه عليه السلام، وقد جاء هذا المعنى فى رواية ابن إسحاق عن الزهرى، عن عبد الله بن كعب بن مالك (أنهم لدوا النبى عليه السلام فى مرضه، فلما أفاق قال: لم فعلتم ذلك؟ قالوا خشينا يارسول الله أن تكون بك ذات الجنب. فقال: إن ذلك لداء ماكان الله ليقذفنى به. لا يبقى فى البيت أحد إلا لد إلا عمى) فقد لدت ميمونة وهى صائمة لقسم رسول الله عقوبة لهم لما صنعوا برسول الله وقد أشرت إلى شىء من هذا المعنى فى باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقبون أو يقتص منهم كلهم فى آخر كتاب الديات، وقد قال بعض العلماء: إن من هذا الحديث فهم عمر ابن الخطاب قتل من تمالأ على قتل الغلام بصنعاء. فإن قال قائل: ماوجه ذكر حديث عائشة الذى فى آخر فى هذه الترجمة وليس فيه ذكر اللدود الذى ترجم به؟ قيل: يحتمل ذلك - والله أعلم - أنه أراك أن مافعل بالمريض مما أن يفعل به أنه لايلزم فاعل ذلك به لوم ولاقصاص حين لم يأمر بصب الماء على كل من حضره، وأنه بخلاف ما أولم له مما نهى أن يفعل به؛ لأن ذلك من باب الجناية عليه، وفيه القصاص. وقوله فى حديث أم قيس: (أعلقت عنه) فالإعلاق أن ترفع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 415 العذرة باليد والعذرة قريبة من اللهاة، وقال ابن قتيبة: العذرة: وجع الحلق وأكثر مايعترى الصبيان فيعلق عنهم، والاعلاق والدغر شىء واحد وهو أن ترفع اللهاة، ونى رسول الله عن ذلك وأمر بالقسط البحرى. قال عبدة بن الطيب: غمز الطيب نغانغ المعذور. يقال: دغرت المرأة الصبى: رفعت لهاته بأصبعها إذا أخذته العذزرة. والصواب أعلق عنه كذلك خكاه أهل اللغة ولم يعدوه إلا بعن. - باب دواء المبطون / 28 - فيه: أَبُو سَعِيد، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِى عليه السلام فَقَالَ: إِنَّ أَخِى اسْتَطْلَقَ، بَطْنُهُ فَقَالَ: (اسْقِهِ عَسَلا) فَسَقَاهُ فَقَالَ: إِنِّى سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلا اسْتِطْلاقًا، فَقَالَ: (صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ) . فيه أن ماجعل الله فيه شفاء من الأدوية قد يتأخر تأثيرة فى العلة حتى يتم أمره وتنقضى مدته المكتوبة فى أم الكتاب. وقوله: (صدق الله وكذب بطن أخيك) يدل أن الكلام لايحمل على ظاهرة ولو حمل على ظاهرة لبرىء المريض عند أول شربة العسل، فلما لم يبرأ إلا بعد تكرر شربه له دل أن الألفاظ مفتقرة إلى معرفة معانيها، وليست على ظواهرها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 416 - باب: لاصفر وهو داء يأخذ البطن / 29 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا عَدْوَى، وَلا صَفَر، وَلا هَامَةَ) ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّه، فَمَا بَالُ إِبِلِى تَكُونُ فِى الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ، فَيَأْتِى الْبَعِيرُ الأجْرَبُ، فَيَدْخُلُ بَيْنَهَا فَيُجْرِبُهَا، فَقَالَ: (فَمَنْ أَعْدَى الأوَّلَ) . قال الطبرى: ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى قال: سمعت يونس الجرمى سأل رؤبة العجاج عن الصفر فقال: هى حبة تكون فى البطن تصيب الماشية والناس، وهى أعدى من الجرب عن العرب. ويقال إن قوله: (لا صفر) إبطال ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من تأخير المحرم إلى صفر فى التحريم، وقد روى عن مالك مثل هذا القول. قال الطبرى: والصواب عندى ماقال رؤبة، ويدل على صحة قوله قول الأعشى: ولا يعض على سرشوفه الصفر قال ابن وهب: كان أهل الجاهلية يقولون إن الصفار التى فى الجوف تقتل صاحبها، فرد ذلك رسول الله، وقال: لايموت أحد إلا بأجله، وقد فسر جابر بن عبد الله وهو رواى الحديث عن النبى - عليه السلام. قال الطبرى: وقوله: (لا هامة) فإن الهامة طائر كانت العرب تسميه الصدى، وقيل: إنه ذكر البوم. وأشبه عندى بالصواب من قال أنه ذكر البوم، وإنما أراد النبى بقوله: (لا هامة) إبطال ما كان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 417 أهل الجاهلية يقولونه فى ذلك، وذلك أنهم كانوا يقولون: إذا قتل الرجل فلم يطلب وليه بدمه ولم يثأر به خرج من هامته طائر يسمى الهامة فلا يزال يزفر عند قبره حتى يثأر به. وقد تقدم معنى قوله: (لا عدوى) فى باب الجذام ونذكر هاهنا طرفًا منه، قال ابن قتيبه: والعدوى جنسان: عدوى الجذام، والطاعون، فأما عدوى الجذام فإن المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجلسه معه ومؤاكلته، وربما جذمت امرأته بطول مصاحبتهات له وربما نزع أولاده فى الكبر إليه، وكذلك من كان به سل، والأطباء تأمر أن لا يجالس المسلول ولا المجذوم ولايريدون بذلك معنى العدو وإنما بذلك تغير الرائحة وأنها تسقم من أطال اشتمامها والأطباء أبعد الناس من الإيمان بيمن أو شؤم. وكذلك الجرب الرطب يكون بالبعير الإبل وحاكها وأوى فى مباركها وصل إليها بالماء الذى يسيل منه نحوًا مما به فلهذا المعنى نهى رسول الله أن يورد ذو عاهة على مصح كراهية أن يخالط ذو العاهة الصحيح فيناله من حكة ودائه نحوًا مما به، وقد ذهب قوم إلى أنه أراد بذلك ألا يظن أن الذى نال إبله من ذى العاهة قيأثم، وسيأتى الكلام فى الطاعون فى باب من خرج من أرض لاتلائمه بعد هذا. - باب: ذات الجنب / 30 - فيه: أُمَّ قَيْسٍ، أَنّ النَّبِيّ عليه السلام قَالَ: (عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 418 الْهِنْدِيِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ) - يُرِيدُ الْكُسْتَ - يَعْنِى الْقُسْطَ، قَالَ: وَهِىَ لُغَةٌ. / 31 - وفيه: أَنَس، أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ وَأَنَسَ بْنَ النَّضْرِ كَوَيَاهُ، وَكَوَاهُ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِهِ. وَقَالَ أَنَس مرة: أَذِنَ النَّبِىّ عليه السلام لأهْلِ بَيْتٍ مِنَ الأنْصَارِ أَنْ يَرْقُوا مِنَ الْحُمَةِ وَالأذُنِ. قَالَ أَنَسٌ: كُوِيتُ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ، وَالنَّبِىّ عليه السلام حَىٌّ، وَشَهِدَنِى أَبُو طَلْحَةَ وَأَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو طَلْحَةَ كَوَانِى. وفيه أن ذات الجنب تداوى بالكست وتداوى بالكى أيضًا، وفى حديث أنس جواز الكى والاسترقاء، وقد تقدم ماللعلماء فى الكى فى باب من اكتوى أو كوى غيره، وفضل من لم يكتو قبل هذا والحمة: سم كل شىء يلدغ، عن صاحب العين، والأذن: وجع الأذن. - باب: حرق الحصير ليسد به الدم / 32 - فيه: سَهْل، لَمَّا كُسِرَتْ عَلَى رَأْسِ النَّبِىّ عليه السلام الْبَيْضَةُ وَأُدْمِى وَجْهُهُ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَكَانَ عَلِى يَخْتَلِفُ بِالْمَاءِ فِى الْمِجَنِّ، وَفَاطِمَةُ تَغْسِلُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ الدَّمَ يَزِيدُ عَلَى الْمَاءِ كَثْرَةً عَمَدَتْ إِلَى حَصِيرٍ، فَأَحْرَقَتْهَا، وَأَلْصَقَتْهَا عَلَى جُرْحِ النَّبِىّ عليه السلام فَرَقَأَ الدَّمُ. قال المهلب: فيه أن قطع الدم بالرماد من المعلوم القديم المعمول به الجزء: 9 ¦ الصفحة: 419 لا سيما إذا كان الحصير من ديس السعدى فهى معلومه بالقبض وطيب الرائحة، فالقبض يسد أفواه الجراح وطيب الرائحة يذهب بزهم الدم وإذا غسل الدم بالماء كما فعل اولا بجرح النبى فليجمد الدم ببرد الماء إذا كان الجرح سهلا غير غائر، وأما إذا كان غائرًا فلا تؤمن فيه آفاة الماء وضررة، وكان أبو الحسن بن القابسى يقول: لوددنا أن نعلم ذلك الحصير ماكان فنجعله دواء لقطع الدم. المؤلف: وأهل الطب يزعمون أن كل حصير إذا أحرق يقطع رماده الدم، بل الأرمدة كلها تفعل ذلك؛ لأن الرماد من شأنه القبض وقد ترجم أبو عيسى الترمذى لحديث سهل بن سعد بهذا المعنى فقال: باب التداوى بالرماد، ولم يقل باب التداوى برماد الحصير، وقد تقدم تفسير رق الدم فى باب الترسة والمجن فى كتاب الجهاد. - باب: الحمىّ من فيح جهنم / 33 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَطْفِئُوهَا بِالْمَاءِ) ، وَكَانَ عَبْدُاللَّهِ يَقُولُ: اكْشِفْ عَنَّا الرِّجْزَ. / 34 - وفيه: أَسْمَاءَ، كَانَتْ إِذَا أُتِيَتْ بِالْمَرْأَةِ قَدْ حُمَّتْ، تَدْعُو لَهَا، أَخَذَتِ الْمَاءَ فَصَبَّتْهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جَيْبِهَا، قَالَتْ: وَكَانَ النَّبِىّ عليه السلام يَأْمُرُنَا أَنْ نَبْرُدَهَا بِالْمَاءِ. / 35 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 420 وَروى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عن النَّبِىّ عليه السلام وَقَالَ: (مِنْ فَوْحِ جَهَنَّمَ) . وقد فسرت أسماء أن إبرام الحمى صب الماء على جسد المحموم وقد تختلف أحوال المحمومين، فمنهم من يصلح أن يبرد بصب الماء عليه، وآخر يصلح بأن يشرب الماء، وزعم بعض العلماء أن بعض الحميات هى التى يجب إبرادها بالماء قال: وهى التى عنى النبى عليه السلام وهى الحميات الحادة التى يكون أصلها من الحر، والحديث يراد به الخصوص، واستدل على ذلك بقوله عليه السلام: (الحمى من فيح جهنم) والفيح عند العرب سطوع الحر. عن صاحب العين. وفى كتاب الأفعال: فاحت النار والحر فيحًا انتشرا واشتد واستدل بقوله عليه السلام: (فأطفئوها بالماء) و (أبردوها بالماء) قال: ودل قوله أنه عليه السلام لم يأمر بإبراد الحميات الباردة التى يكون أصلها البرد وإنما أمر بإبراد الحميات الحارة التى يكون أصلها الحر والله أعلم. والفوح والفيح لغتان. - باب: من خرج من أرض لا تلائمه / 36 - فيه: أَنَس، أَنَّ نَاسًا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ، قَدِمُوا عَلَى النَّبِىّ عليه السلام وَتَكَلَّمُوا بِالإسْلامِ، فَقَالُوا: يَا نَبِى اللَّهِ إِنَّا كُنَّا أَهْلَ ضَرْعٍ، وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ، وَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ النَّبِىّ عليه السلام بِذَوْدٍ وَبِرَاع، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فِيهِ. . . . الحديث. / 37 - فيه: سَعْد، أَنّ النَّبِى عليه السلام قَالَ: (إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلا تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلا تَخْرُجُوا مِنْهَا) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 421 / 38 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عُمَر خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّأْمِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ: ادْعُ لِى الْمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ، فَدَعَاهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لأمْرٍ، وَلا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام، وَلا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّى، ثُمَّ قَالَ: ادْعُوا لِى الأنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلافِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّى، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِى مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَلَيْهِ رَجُلانِ، فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ، وَلا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ فِى النَّاسِ: إِنِّى مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ، فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ: إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ وَالأخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِى بَعْضِ حَاجَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِى فِى هَذَا عِلْمًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام يَقُولُ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، قَالَ فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ، ثُمَّ انْصَرَفَ. وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ المَسِيحُ وَلا الطَّاعُونُ) . / 39 - وفيه: حَفْصَةُ بِنْتُ سِيرِينَ، قَالَتْ: قَالَ لِى أَنَس: يَحْيَى بِمَ مَاتَ؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 422 قُلْتُ: مِنَ الطَّاعُونِ، قال: قال النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ) . / 40 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (الْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَالْمَطْعُونُ شَهِيدٌ) . قال الطبرى فى حديث سعد: فيه الدلالة على أن على المرء توقى المكاره قبل وقوعها وتجنب الشياء المخوفه قبل هجومها، وأن عليه الصبر وترك الجزع بعد نزولها، وذلك أنه عليه السلام نهى من لم يكن فى أرض الوباء عن دخولها إذا وقع فيها، ونهى من هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها فرارًا منه، فكذلك الواجب أن يكون حكم كل متق من الأمور سبيله فى ذلك سبيل الطاعون وهذا المعنى نظير قوله عليه السلام: (لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية وإذا لقيتموهم فاصبروا) . فإن قال قائل: فإن كان كما ذكرت فما أنت قائل فيما روى شعبه عن يزيد بن أبى زياد، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص أن أبا موسى بعث بنيه إلى الأعراب من الطاعون، وروى شعبه عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبى موسى الأشعرى: (أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبى عبيدة فى الطاعون الذى وقع فى الشام إنه عرضت به حاجة لا غنى بى عنك فيها فإذا أتاك كتابى ليلا فلا تصبح حتى ترد إلى وإن أتال نهارًا فلا تمس حتى ترد إلى، فلما قرأ أبو عبيدة الكتاب قال: عرفت حاجة أمير المؤمنين أراد أن يستبقى من ليس بباق. ثم كتب إليه أنى قد عرفت حاجتك فحللنى من عزمتك ياأمير المؤمنين؛ فإنى فى جند المسلمين ولن أرغب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 423 بنفسي عنهم. فلما عمر الكتاب بكى، فقيل له: توفى أبو عبيدة؟ قال: لا وكان قد كتب إليه عمر أن الأردن أرض غمقة وأن الجابية أرض نزهة فاظهر بالمسلمين إلى الجابية. فلما قرأ أبو عبيدة الكتاب قال: هذا نسمع فيه لأمير المؤمنين ونطيعه. فأراد ليركب بالناس فوجد وخزة فطعن وتوفى أبو عبيدة وإنكشف الطاعون) . وروى شعبة أنه سأل الأشعث هل فرّ أبوك من الطاعون؟ قال كان إذا اشتد الطاعون فر هو والأسود بن هلال. وروى شعبه عن الحكم أن مسروقًا كان يفر من الطاعون؟ . قيل: قد خالف هؤلاء من القدوة مثلهم، وإذا اختلف فى أمر كان أولى بالحق من كان موافقًا أمر رسول الله. فإن قيل: فاذكر لنا من خالفهم. قيل. روى شعبه عن يزيد بن خمير، عن شر حبيل ابن شفعة قال: (وقع الطاعون، فقال عمرو بن العاص: إنه رجز فتفرقوا عنه. فبلغ شرحبيل بن حسنة فقال: لقد صحبت رسول الله وعمرو أضل من بعير أهله، وإنه دعوة نبيكم ورحمة من ربكم وموت الصالحين قبلكم، فاجتمعوا له ولا تفرقوا عنه، فبلغ ذلك عمرو بن العاص فقال: صدق) . وروى أيوب عن أبى قلابة، عن عمرو بن العاص قال: (تفرقوا عن هذا الرجز فى الشعبا والأدوية ورؤوس الجبال. فقال معاذ بن جبل: بل هو شهادة ورحمة ودعوة بيكم: اللهم أعط معاذًا وأهله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 424 نصيبهم من رحمتك. فطعن فى كفه، قال أبو قلابة: قد عرفت الشهادة والرحمة مادعوة نبيكم، فسألت عنها فقيل: دعا عليه السلام أن يجعل فناء أمته بالطعن والطاعون حين دعا أن لايجعل بأس أمته بينهم فمنعها، فدعا بهذا) . وقالت عمرة: سألت عائشة عن الفرار من الطاعون، فقالت: هو كالفرار من الزحف. وسئل الثورى عن الرجل يخرج أيام الوباء بغير تجارة معروفة، قال: لم يكونوا يفعلون ذلك وماأحبه. فإنقال: فهل من أحد إلا وهو ميت بعد استيفائه مدة أجله الذى كتب له؟ قيل: نعم. قال: فإن كان كذلك فما وجه النهى عن دخول أرض بها الطاعون أو الخروج منها؟ قيل: لم ينه عن ذلك أحد حذارًا عليه من أن يصيبه غير ماكتب عليه أو أن يهلك قبل الأجل الذيلايستأخر عنه ولايستقدم، ولكن حذار الفتنة على الحى من أن يظن إنما كتان هلاكه من أجل قدومه عليه وأن من فر عنه فنجا من الموت أن نجاتهكانت من أجل خروجه عنه. فكره رسول الله ذلك، ونهيه عليه السلام عن ذلك نظير نهيه عن الدنو من المجذوم، وقال: (فرّ منه فرارك من الأسد) مع إعلامه أمته أن لا عدوى ولا صفر. وقال غير الطبرى: فإن قال: فإن فى حديث أنس فى الذين استوخموا المدينة فأمرهم النبى أن يخرجوا منها حجة لمن أجاز الفرار من أرض الوباء والطاعون. قيل: ليس ذلك كما توهمته، وذلك أن القوم شكوا إلى النبى أنهم كانوا أهل ضرع ولم تلائمهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 425 المدينة واستوخموها لمفارقهم هواء بلادهم فهم الذين استوخموا المدينة دون سائر الناس، فأمرهم النبى عليه السلام بالخروج منها ففى هذا من الفقه أن من قدم إلى بلده ولم يوافقه هواها أنه مباح له الخروج عنها والتماس هوى أفضل منها، وليس ذلك بفرار من الطاعون وإنما الفرار منه إذا عم الموت فى البلدة الساكنين فيها والطائرين عليها وفى ذلك جاء النهى، والله أعلم. وقوله: (وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرار منه) دليل أنه يجوز الخروج من بلدة الطاعون على غير سبيل الفرار منه إذا اعتقد أن ماأصابه لم يكن ليخطئه، وكذلك حكم الداخل فى بلدة الطاعون إذا أيقن أن دخوله لايجلب إليه قدرًا لم يكن قدره الله عليه، فمباح له الدخول إليه. وقد روى عن عروة بن رويم أنه قال: بلغنا أن عمر كتب إلى عامله بالشام إذا سمعت بالطاعون قد وقع عندكم فاكتب إلى حتى أخرج إليه. وروى القاسم عن عبد الله بن عمر أن عمر قال: اللهم اغفر لى رجوعى من سرغ وروى عن ابن مسعود قال: الطاعون فتنة على المقيم والفار، أما الفار فيقول: فررت فنجوت، وأما المقيم فيقول أقمت فمت، وكذلك فرّ من لم يجىء أجله وأقام فمات من جاء أجله. وقال المدائنى يقال: إنه قلّ مافر أحد من الطاعون فسلم من الموت. وقوله عليه السلام: (الطاعون شهادة لكل مسلم) سيأتى تفسيرة فى الباب المتصل بهذا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 426 - باب: أجر الصابر فى الطاعون / 41 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا سَأَلت النَّبِىّ عليه السلام عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَهَا أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاء، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِى بَلَدِهِ صَابِرًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ. قال المؤلف: هذا الحديث مثل قوله: (الطاعون شهادة) ، (والمطعون شهيد) أنه الصابر عليه المحتسب أجره على الله، العالم أنه لم يصيبه إلا ماكتب الله عليه، ولذلك تمنى معاذ بن جبل أن يموت فيه لعله إن مات فيه فهو شهيد، وأما من جزع من الطاعون وكرهه وفر منه فليس بداخل فى معنى الحديث. - باب: الرقى بالقرآن والمعوذات / 42 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِى عليه السلام كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِى الْمَرَضِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا ثَقُلَ، كُنْتُ أَنْفِثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ، وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا، فَسَأَلْتُ الزُّهْرِىَّ: كَيْفَ يَنْفِثُ؟ قَالَ: كَانَ يَنْفِثُ عَلَى يَدَيْهِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ. فى الاسترقاء بالمعوذات استاذة بالله تعالى من شر كل من خلق ومن شر النفاثات فى السحر ومن شر الحاسد ومن شر الشيطان ووسوسته، وهذه جوامع من الدعاء تعم أكثر المكروهات ولذلك كان عليه السلام يسترقى بهما، وهذا الحديث أصل ألا يسترقى إلا بكتاب الله وأسمائه وصفاته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 427 وقد روى مالك فى الموطأ أن أبا بكر الصديق دخل على عائشة وهى تشتكى ويهودية ترقيها، فقال أبو بكر: ارقيها بكتاب الله. يعنى بالتوراة والانجيل؛ لأن ذلك كلام الله الذى فيه الشفاء. وقد روى عن مالك جواز رقية اليهودية والنصرانى للمسلم إذا رقى بكتاب الله، وهو قول الشافعى، وفى المستخرجة أن مالكًا كره رقى أهل الكتاب وقال: لا أحبه. وذلك والله أعلم لأنه لايدرى هل يرقون بكتاب الله أو الرقى المكروهات التى تضاهى السحر. وروى ابن وهب عن مالك أنه سئل عن المرأة التى ترقى بالحديدة والملح وعن التى تكتب الكتاب للإنسان ليعلقه عليه من الوجع، وتعقد فى الخيط الذى يربط به الكتاب سبع عقد، والذى يكتب خاتم سليمان فى الكتاب فكرهه كله وقال: لم يكن ذلك من أمر الناس القديم. - باب: الرقى بفاتحة الكتاب / 43 - وفيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِى عليه السلام أَتَوْا عَلَى حَى مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَلَمْ يَقْرُوهُمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ؛ إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ، فَقَالُوا: هَلْ مَعَكُمْ مِنْ دَوَاءٍ، أَوْ رَاقٍ؟ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَمْ تَقْرُونَا، وَلا نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً، فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعًا مِنَ الشَّاءِ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ، وَيَتْفِلُ فَبَرَأَ، فَأَتَوْا بِالشَّاءِ، فَقَالُوا: لا نَأْخُذُهُ، حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فَسَأَلُوهُ فَضَحِكَ، وَقَالَ: (وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ، خُذُوهَا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 428 فيه: جواز الرقى بفاتحة الكتاب وهو يرد ماروى شعبه عن الزكى قال: سمعت القاسم بن حسان يحدث عبد الرحمن بن حرملة عن ابن مسعود (أن النبى عليه السلام كان يكره الرقى إلا بالمعوذات) . قال الطبرى: وهذا حديث لا يجوز الاحتجاج به فى الدين إذ فى نقلته من لايعرف، ولو كان صحيحًا لكان إما غلطًا أو منسوخًا؛ لقوله عليه السلام فيه: (ما أدراك أنها رقية) فأثبت أنها رقية بقوله عليه السلام فيه: (ما أدراك أنها رقية) ، فأثبت أنها رقية بقوله هذا، وقال: (اضربوا لى معكم بسهم) وإذا جازت الرقية بالمعوذتين وهما سورتان من القرآن كانت الرقية بسائر القرآن مثلها فى الجواز؛ إذ كله قرآن قال المهل: فى (الحمد لله) من معنى الرقى شبيه بمعنى مافى المعوذات منه وهو قوله: (وإياك نستعين) والاستعانة به فى ذلك دعاء فى كشف الضر وسؤال الفرج، وقد بينا هذا المعنى فى كتاب الإجارة فى باب أخذ الأجرة على الرقى وذكرنا معنى قوله عليه السلام: (ما يدريك أنها رقية) والاختلاف فى جواز أخذ الأجرة على الرقى فلذلك تركنا باب الشرط فى الرقية بقطيع من الغنم إذ أغنى عنه ماتقدم فى كتاب الإجارة. - باب: رقية العين / 44 - فيه: عَائِشَةَ رَضِى اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: أَمَرَنِى النبى (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُسْتَرْقَى مِنَ الْعَيْنِ. / 45 - وفيه: أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) رَأَى فِى بَيْتِهَا جَارِيَةً فِى وَجْهِهَا سَفْعَةٌ، فَقَالَ: اسْتَرْقُوا لَهَا، فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 429 الرقية من العين والنظرة وغير ذلك باسم الله تعالى وكتابه مرجو بركتها؛ لأمر النبى عليه السلام بذلك، وقد أمر رسول الله عليه السلام باغتسال العائن وصب ذلك بالماء على العين. روى مالك عن ابن شهاب، عن أبى أمامه بن سهل بن حنيف أنه قال: (رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف يغتسل فقال: مارأيت كاليوم ولاجلد مخبأ، فلبط سهل، فأخبر النبى عليه السلام بمرضه، فقال: هل تتهمون أحدًا قالوا: نتهم عامر بن ربيعة، فدعا عليه السلام عامرًا فتغيظ عليه، وقال: علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألا بركب، اغتسل له. فغسل عامر وجهه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخله إزاره فى قدح ثم صب عليه فراح سهل مع الناس ليس به بأس) . فيه من الفقه أنه إذا عرف العائن أنه يقضى عليه بالوضوء لأمر النبى عليه السلام بذلك وأنها نشرة ينتفع بها. وقوله: (ألا بركت) فيه أن من رأى شيئًا فأعجبه فقال: تبارك الله أحسن الخالقين وبرك فيه؛ فإنه لايضره بالعين وهى رقية منه. والسفع: سواد وشحوب فى الوجه، وامرأة سفعاء الخدين، والسفع الأثافى لسوادها من كتاب العين. قال المؤلف: وقوله: (فلبط سهل) من حديث مالك. قال أبو زيد: رجل ملبوط، وقد لبطًا وهو سعال وزكام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 430 - باب: العين حق / 46 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (الْعَيْنُ حَقٌّ، وَنَهَى عَنِ الْوَشْمِ) . وروى مالك عن حميد بن قيس: (أن النبى قال لحاضنة ابنى جعفر: ما لى أراها ضارعين؟ فقالت: يا رسول الله، تسرع إليهما العين. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : استرقوا لهما فلو يسبق شىء القدر لسبقته العين) . وقال بعض أهل العلم إذا عرف أحد بالإصابة بالعين فينبغى اجتنابه والتحرز منه، وإذا ثبت عند الإمام فينبغى للإمام منعه من مداخله الناس والتعرض لأذاهم ويأمره بلزوم بيته، فإن كان فقيرًا رزقه مايقوم به، وكف عن الناس عاديته فضره أشد من ضر آكل الثوم الذى منعه النبى مشاهدة صلاة الجماعة، وضره أشد من ضر المجذومة التى منعها عمر بن الخطاب الطواف مع الناس. 30 - باب رقية الحية والعقرب / 47 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) رَخَّصَ فِى الرُّقْيَةَ مِنْ كُلِّ ذِى حُمَةٍ. هذا الحديث يبين ماروى عن على وابن مسعود أنهما قالا: الرقى والتمائم والتوله شرك. أن المراد بذلك رقى الجاهلية ومايضاهى السحر من الرقى المكروهة، روى ابن وهب عن يونس بن يزيد، عن ابن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 431 شهاب قال: بلغني عن رجال من أهل العلم أنهم كانوا يقولون إن رسول الله نهى عن الرقي حتى قدم المدينة، وكان الرقي فى ذلك الزمان فيها كثير من كلام الشرك، فلما قدم المدينة لدغ رجل من أصحابه، قالوا: يارسول الله قد كان آل حزم يرقون من الحمة، فلما نهيت عن الرقى تركوها، فقال رسول الله عليه السلام ادعوا إلى عمارة - وكان قد شهد بدرًا - فقال: اعرض على رقبتك. فعرضها عليه فلم ير بها بأسًا، وأذن له فيها. 31 - باب: رقية النبي (صلى الله عليه وسلم) / 48 - فيه: عَبْدِ الْعَزِيزِ، دَخَلْتُ مَعَ ثَابِتٌ عَلَى أَنَسِ، فَقَالَ: ثَابِتٌ يَا أَبَا حَمْزَةَ، اشْتَكَيْتُ، قَالَ أَنَسٌ: أَلا أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: (اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، مُذْهِبَ الْبَاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِى لا شَافِىَ إِلا أَنْتَ، شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَمًا) . / 49 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِى عليه السلام كَانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَيَقُولُ: (اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، أَذْهِبِ الْبَاسَ، اشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِى لا شِفَاءَ إِلا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَمًا) . / 50 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام كَانَ يَقُولُ لِلْمَرِيضِ: (بِسْمِ اللَّه، تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا، بِإِذْنِ رَبِّنَا) . وترجم لحديث عائشة الأول باب مسح الراقى الوجع بيده اليمنى. قال الطبرى: فيه البيان عن جواز الرقية بكل ما كان دعاء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 432 للعليل بالشفاء. وذلك أن النبي عليه السلام كان إذا عاد مريضًا قال القول الذى تقدم، وذلك كان رقيته التى كان يرقى بها أهل العلل، وإذا كان ذلك دعاء ومسالة للعليل بالشفاء فمثله كل مارقى به ذو عله من رقية إذ كان دعاء لله ومسألة من الراقي ربه للعليل الشفاء فى أنه لابأس به. وذكر عبد الرازق عن معمر قال: الرقية التى بها جبريل النبى (صلى الله عليه وسلم) : (بسم الله أرقيك، ولله يشفيك من كل يؤذيك ومن كل عيد حاسد، وبسم الله أرقيك) . قال الطبرى: ومعنى مسحه الوجع بيده فى الرقية ولله أعلم تفاؤلا لذهاب الوجع لمسحة بالرقى. 32 - باب: النفث فى الرقية / 51 - فيه: أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (الرُّؤْيَا مِنَ اللَّهِ، وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ شَيْئًا يَكْرَهُهُ، فَلْيَنْفِثْ حِينَ يَسْتَيْقِظُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَيَتَعَوَّذْ، مِنْ شَرِّهَا، فَإِنَّهَا لا تَضُرُّهُ) . وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَإِنْ كُنْتُ لأرَى الرُّؤْيَا هِىَ أَثْقَلَ عَلَىَّ مِنَ الْجَبَلِ، فَمَا هُوَ إِلا أَنْ سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ فَمَا أُبَالِيهَا. / 52 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَفَثَ فِى كَفَّيْهِ: (بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَبِالْمُعَوِّذَتَيْنِ جَمِيعًا، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ، وَمَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 433 بَلَغَتْ يَدَاهُ مِنْ جَسَدِهِ) ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَمَّا اشْتَكَى، كَانَ يَأْمُرُنِى أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ. وَكَانَ ابْنَ شِهَابٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِه. ِ / 53 - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ، أَنَّ رَهْطًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىّ عليه السلام نَزَلُوا بِحَىٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَىِّ، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الْغَنَمِ، فَجَعَلَ يَتْفُلُ وَيَقْرَأُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (، حَتَّى لَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ. . . الحديث. وترجم لحديث عائشة باب المرأة ترقى الرجل. قال الطبرى: فى هذه الآثار البيان عن أن التفل على العليل إذا رقى أو دعى له بالشفاء جائز والرد على من لم يجز ذلك، وبمثل هذه الآثارقال جماعة من الصحابة وغيرهم، وأنكر قوم من أهل العلم النفث والتفل فى الرقى وأجازوا النفخ فيها، روى جرير عن مغيره عن إبراهيم قال: كان الأسود يكره النفث ولا يرى بالنفخ بأسًا. وقال سفيان عن الأعمش عن إبراهيم: إذا دعوت بما فى القرآن فلا تنفث. وكره النفث عكرمة والحكم وحماد، وأحسب أن السود كره النفث لذكر الله تعالى له فى كتابه وأمره بالاستعاذة منه ومن فاعله فقال: (ومن شر النفاثات فى العقد) وليس فى ذمة تعالى نفث أهل الباطل مايوجب أن يكون كل نافث ونافثة بالحق فى معناه؛ لأن النفاثات التى أمر الله نبيه بالاستعاذة من شرهن السحرة. فأما من نفث بالقرآن وبذكر الله على النحو الذى كان رسول الله وأصحابه ينفثون فليس ممن أمر الله بالاستعاذة من شره، وإذ قد صح عن النبى أنه نفث على نفسه بالمعوذات وإطلاقه التفل بفاتحة الكتاب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 434 راقيا بها، فبين أن التفل والنفث بكتاب الله شفاء من العلل، ومن استشفى بذلك مصيب، وفى فعله ذلك برسول الله مقتد، وقد روت عائشة عن الرسول أن ريق ابن آدم شفاء قالت: كان إذا اشتكى الإنسان قال النبى عليه السلام هكذا بريقه فى الأرض وقال: (تربة أرضنا بريقه بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا) . وقوله: (لكأنما نشط من عقال) قال صاحب الأفعال يقال: أنشطت العقدة: حللتها، ونشطتها عقدتها بأنشوطة وهى حديدة يعقد بها. 33 - باب: من لم يرق / 54 - فيه: ابْن عَبَّاس، عن النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فِى: (الَّذِينَ لا يَتَطَيَّرُونَ، وَلا يَسْتَرْقُونَ، وَلا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) . وقد تقدم الكلام فيه فى باب من اكتوب من اكتوى وفضل من لم يكتو، فأغنى عن إعادته. 34 - باب: الطيرة / 55 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا عَدْوَى، وَلا طِيَرَةَ، وَالشُّؤْمُ فِى ثَلاثٍ: فِى الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ) . / 56 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (لا طِيَرَةَ، وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ) ، قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: (الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ) . / 57 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (لا عَدْوَى، وَلا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِى الْفَأْلُ الصَّالِحُ، وَالْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 435 قال الخطابى: الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل إنما هو من طريق حسن الظن بالله تعالى والطيرة وإنما هى من طريق الاتكال على شىء سواه. وقال الأصمعى: سألت ابن عون عن الفأل فقال: هو أن تكون مريضًا فتسمع يا سالم، أو تكون باغيا فتسمع يا واجد. قال المؤلف: وكان النبى يسأل عن اسم الخيل والأرض والإنسان فإن كان حسنًا سر بذلك واستبشر به وإن كان سيئًا ساء ذلك، وزعم بعض المعتزلة أن قوله عليه السلام: (لا طيرة) يعارض قوله: (الشئوم فى ثلاث) قال ابن قتيبة وغيره: وهذا تعسف وبعد عن العلم، ولكل شىء منها موضع إذا وضع فيه زال الخلاف وارتفع التعارض. ووجه ذلك أن يكون قوله عليه السلام: (لا طيرة) مخصوصًا بحديث الشؤم، فكأنه قال: لاطيرة إلا فى المرأة والدار والفرس لمن التزم الطيرة، يدل على صحة هذا مارواه زهير بن معاوية، عن عتبة ابن حميد، عن عبيد الله بن أبى بكر أنه سمع أنس بن مالك يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا طيرة، والطيرة على من تطير، وإن يكن فى شىء ففى الدار والمرأة والفرس) . فبان بهذا الحديث أن الطيرة إنما تلزم من تطير بها، وأنها فى بعض الأشياء دون بعض، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يقولون: الطيرة في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 436 الدار والفرس والمرأة، فهناهم النبى عليه السلام عن الطيرة فلم ينتهوا فبقيت فى هذه الثلاثة الشياء التى كانوا يلزمون التطير فيها. ومثله قوله تعالى عن أهل القرية حين قالوا: (إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم. . . قالوا طائركم معكم) أى: حظكم من الخير والشر معكم ليس هو من شؤمنا وكذلك قوله عليه السلام فى الدار: (اتركوها ذميمة) فإنما قال ذلك لقوم علم منهم أن الطيرة والتشاؤم غلب عليهم وثبت فى نفوسهم؛ لأن ازاحة مايثبت فى النفس عسير، وقد قال عليه السلام: (ثلاثة لا يسلم منهن أحد: الطيرة والظن والحسد؛ فإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق) . وليس فى قوله عليه السلام: (دعوها ذميمة) أمر منه بالتطير، وكيف وقد قال: لايطرة؟ وإنما أمرهم بالتحول عنها لما قد جعل الله فى غرائز الناس من استثقال مانالهم فيه الشر وإن كان لاسبب له فى ذلك، وحب من جرى لهم الخير على يديه وإن لم يردهم به، وكان النبى عليه السلام يستحب الاسم الحسن والفأل الصالح، وقد جعل الله فى فطرة الناس محبة الكلمة الطيبة والفأل الصالح والأنس به، كما جعل فيهم الارتياح للبشرى والمنظر الأنيق، وقد يمر الرجل بالماء الصافى فعجبه وهو لايشربه وبالروضه المنثورة فتسره وهي لاتنفعه، وفى بعض الحديث (أن الرسول عليه السلام كان يعجبه الأترج ويعجبه الفغية وهي نور الحناء) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 437 وهذا مثل اعجابه بالاسم الحسن والفأل الحسن وعلى حسب هذا كانت كراهيته الاسم القبيح كبنى النار وبنى حزن وشبهه، وقد كان كثير من أهل الجاهلية لا يرون الطيرة شيئًا ويمدحون من كذب بها قال المرقش: ولقد عذروت وكنت لا أغدو على واق وحائم فإذا الأشائك كالأيا من والأيامن كالأشائم وقال عكرمة: كنت عند ابن عباس فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير. فقال ابن عباس: ما عند هذا لا خير ولا شر. 35 - باب الكهانة والسحر / 58 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام قَضَى فِى امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ اقْتَتَلَتَا، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى بِحَجَرٍ، فَأَصَابَ بَطْنَهَا، وَهِىَ حَامِلٌ، فَقَتَلَتْ وَلَدَهَا الَّذِى فِى بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ مَا فِى بَطْنِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، فَقَالَ وَلِى الْمَرْأَةِ الَّتِى غَرِمَتْ: كَيْفَ أَغْرَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لا شَرِبَ، وَلا أَكَلَ، وَلا نَطَقَ، وَلا اسْتَهَلَّ، فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ؟ فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ) . / 59 - وفيه: أَبُو مَسْعُود نَهَى الرسول عليه السلام عَنْ حُلْوَانِ الْكَاهِنِ. . . . . الحديث. / 60 - وفيه: عَائِشَةَ، سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام نَاسٌ عَنِ الْكُهَّانِ، فَقَالَ: (لَيْسَ بِشَيْءٍ) ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 438 قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أَحْيَانًا بِشَىْءٍ، فَيَكُونُ حَقًّا، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ، يَخْطَفُهَا الْجِنِّىِّ، فَيَقُرُّهَا فِى أُذُنِ وَلِيِّهِ، فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ) . قال المؤلف: فى هذه الآثار ذم الكهان وذم من تشبه بهم فى ألفاظهم؛ لأنه عليه السلام كره قول ولى المرأة لما أشبه سجع الكهان الذين يستعملونه فى الباطل ودفع الحق، ألا ترى أنه أتى بسجعه محتجًا على رسول الله فى دفع شىء قد أوجبه عليه فاستحق بذلك غاية الذم وشديد العقوبة فى الدنيا والآخرة، غير أن النبى عليه السلام جبله الله على الصفح عن الجاهلين وترك الانتقام لنفسه فلم يعاقبه فى اعتراضه عليه كما لم يعاقب الذى قال له: إنك لم تعدل منذ اليوم. ولم يعاقب موالى بريرة فى اشتراطهم مايخالف كتاب الله وأنفذ حكم الله فى كل ذلك. فإن قال قائل: فالسجع كله مكروه؟ قيل له: لا قد أتى به كلام رسول رب العالمين، ومنه قوله عليه السلام: (يقول العبد: ما لى ما لى، وما لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت) قاله ابن النحاس. وأما نهيه عن حلوان الكاهن فالأمة مجمعة على تحريمه؛ لأنهم يأخذون أجره مالا يصلح فيه أخذ عوض وهو الكذب الذى يخلطونه مع مايسترقه الجن فيفسدون تلك الكلمة من الصدق بمائة كذبة أو أكثر كما جاء فى بعض الروايات فلم يسغ أن يلتفت اليهم، ولذلك قال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 439 عليه السلام: (ليسوا بشىء) وقد جاء فيمن أتى الكهان آثار شديدة روى الطبرى عن عبد الله بن شبويه، حدثنا أبى، حدثنا أيوب بن سليمان، حدثنا أبو بكر بن أبى أويس، عن سليمان بن بلال، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن صفية بنت أبى عبيد، عن عمر بن الخطاب أن النبى عليه السلام قال: (من أتى عرافًا لم تقبل صلاته أربعين ليلة ولم ينظر الله أربعين ليلة) . وحدثنا أبو كريب، حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمه، عن حكيم الأثرم، عن أبى تميمة، عن أبى هريرة أن النبى عليه السلام قال: (من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل هلى محمد) وقال ابن دريد: أهل الحديث يقولون: (بطل) وهو تصحيف وإنما هو (يطل) قال صاحب الأفعال: طل الدم وطل إذا هدر، قال الشاعر: وما مات منا ميت فى فراشه ولا طلمنا حيث كان قتيل وقد قيل: أطل الدم بمعنى طل، ولم يعرفه الأصمعى. 36 - باب السحر وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ (الآية [البقرة: 102] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (، وَقَوْلِهِ: (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) [طه: 20] وَقَوْلِهِ: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) [طه: 66] وَقَوْلِهِ: (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ (وَالنَّفَّاثَاتُ: السَّوَاحِرُ، تُسْحَرُونَ: تُعَمَّوْنَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 440 / 61 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَحَرَ النَّبِيّ عليه السلام رَجُلٌ مِنْ بَنِى زُرَيْقٍ، يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ الأعْصَمِ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّىْءَ وَمَا فَعَلَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ - أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ - وَهُوَ عِنْدِى لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا، ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ، أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِى فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أَتَانِى رَجُلانِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِى، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَىَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الأعْصَمِ، قَالَ: فِى أَى شَىْءٍ قَالَ فِى مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ، قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِى بِئْرِ ذَرْوَانَ، فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام فِى نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ - أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلا اسْتَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: (قَدْ عَافَانِى اللَّهُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا، فَأَمَرَ بِهَا، فَدُفِنَتْ) . هذه رواية عيسى بن يونس عن هشام بن عروة، وقال الليث وابن عيينة عن هشام: (فى مشط ومشاقة) قال أبو عبد الله يقال المشاطة مايخرج من الشعر إذا مشط، والمشاقة من مشاقة الكتان. قال المهلب: والجف غشاء الطلع، وقال أبو عمرو الشيبانى: الجف: شىء ينقر من جذوع النخل، ونقاعة الحناء: الماء الذى يصب عليها وتقع فيه، وقد تقدم فى آخر كتاب الجهاد حكم الذمى إذا سحر المسلم فى باب هل يعفى عن الذمى إذا سحر، والجواب عن اعتراض الملحدين بحديث عائشة فى جواز السحر على النبي عليه السلام فأغنى عن إعادته. وقال ابن القصار: ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعى إلى أن السحر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 441 له حقيقة، وقد يمرض من يفعل ويموت ويتغير عن طبعه. وقال بعض الناس: السحر تخييل وشعوذة وليس له حقيقة ولايمرض منه ولايقتل به أحد، واستدلوا على لك بقوله تعالى: (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) فأخبر أن حبالهم وعصيهم ماسعت فى الحقيقة، فلو كان للسحر حقيقة لتحقق فى ذلك الوقت؛ لأن فرعون كان قد جمع السحرة من البلدان، فلما أخبرنا الله تعالى أن ما فعلوه خيالا علم لا حقيقة له. قال ابن القصار: والحجة على هذه المقالة حديث عائشة وهو نص لا يحتمل التأويل؛ لأنهم سحروا النبى عليه السلام حتى وصل المرض إلى بدنه، لأنه قال لما حل السحر: إن الله شفانى. والشفاء إنما يكون برفع العلة وزوال المرض، وأيضًا قوله تعالى: (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) فنفى الله السحر عن سليمان وأضافة إلى الشياطين وأخبر أنهم يعلمونه الناس. واختلف العلماء فى المسلم إذا سحر بنفسه، فذهب مالك إلى أن السحر كفر وأن الاسحر يقتل ولاتقبل توبته؛ لأن الله - تعالى سمى السحر كفرًا بقوله تعالى: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) وهو قول أحمد بن حنبل، وروى قتل الساحر عن عمر وعثمان وعبد الله بن عمر، وحذيفة، وحفصة، وأبى موسى، وقيس بن سعد، وعن سبعة من التابعين. وقال الشافعى: لا يقتل الساحر إلا أن يقتل بسحره، وروى عنه أيضا أنه يسأل عن سحره، فإن كان كفرًا استتيب منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 442 واحتج أصحاب مالك بأنه لم تقبل توبته؛ لأن السحر باطن لايظهره صاحبه فلا تعرف توبته كالزنديق، وإنما يستتاب من أظهر الكفر كالمرتد. قال مالك: فإن جاء الساحر أو الزنديق تائبًا قبل أن يشهد عليهما بذلك قبلت توبتها، والحجة لذلك قوله تعالى: (فلم ويك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) فدل أنه كان ينفعهم إيمانهم قبل نزول العذاب بهم، فكذلك هذان قال مالك فى المرأة تعقد زوجها عن نفسها أو عن غيرها: تنكل ولا تقتل. 37 - باب: هل يستخرج السحر وَقَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ - أَوْ يُؤَخَّذُ عَنِ امْرَأَتِهِ - أَيُحَلُّ عَنْهُ أَوْ يُنَشَّرُ؟ قَالَ: لا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الإصْلاحَ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ فَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ. / 62 - فيه: عَائِشَةَ، أَنّ النَّبِىّ عليه السلام سُحِرَ، حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِى النِّسَاءَ، وَلا يَأْتِيهِنَّ - قَالَ سُفْيَانُ: وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ إِذَا كَانَ كَذَا - فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، أَعَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِى فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أَتَانِى رَجُلانِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِى، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَىَّ، فَقَالَ الَّذِى عِنْدَ رَأْسِى لِلآخَرِ: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ، رَجُلٌ مِنْ بَنِى زُرَيْقٍ، حَلِيفٌ لِيَهُودَ، كَانَ مُنَافِقًا، قَالَ: وَفِيمَ؟ قَالَ: فِى مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ، قَالَ: وَأَيْنَ؟ قَالَ: فِى جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، تَحْتَ رَاعُوفَةٍ فِى بِئْرِ ذَرْوَانَ، قَالَتْ: فَأَتَى النَّبِى عليه السلام الْبِئْرَ حَتَّى اسْتَخْرَجَهُ، قَالَ: هَذِهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 443 الْبِئْرُ الَّتِى أُرِيتُهَا، وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ، وَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ، قَالَ: فَاسْتُخْرِجَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: أَفَلا - أَى - تَنَشَّرْتَ، فَقَالَ: (أَمَّا اللَّهُ، فَقَدْ شَفَانِى، وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ شَرًّا) . قال المهلب: وقع فى هذا الحديث فاستخرج السحر، ووقع فى باب السحر (قلت: يا رسول الله، أفلا استخرجت فأمر بها فدفنت) . وهذا اختلاف من الرواة، ومدار الحديث على هشام بن عروة، واصحابه مختلفون فى استخراجه فأثبته سفيان فى روايته من طريقين فى هذا الباب، وأوقف سؤال عائشة النبى عليه السلام عن النشرة ونفى الاستخراج عن عيسى بن يونس وأوقف سؤالها للنبى على الاستخراج ولم يذكر أنه جاوب على الاستخراج بشىء، وحقق أبو أسامة جوابه عليه السلام؛ إذ سألته عائشة عن استخراجه بلا. فكان الاعتبار يعطى أبو سفيان أولى بالقول لتقدمه فى الضبط، وأن الوهم على أبى أسامة فى أنه لم يستخرجه، ويشهد لذلك أنه لم يذكر النشرة فى حديثه فوهم فى أمرها فرد جوابه عليه السلام بلا على الاستخراج فلم يذكر النشرة. وكذلك عيسى بن يونس لم يذكر أنه عليه السلام جاوب على استخراجه بلا ولا ذكر النشرة، والزيادة من سفيان مقبولة؛ لأنه أثبتهم وقوى ثبوت الاستخراج فى حديثه لتكرره فيه مرتين فبعد من الوهم فيما حقق من الاستخراج، وفى ذكره للنشرة فى جوابه عليه السلام مكان الاستخراج. وفيه: وجه آخر يحتمل أن يحكم بالاستخراج لسفيان، ويحكم لأبي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 444 أسامة بقوله: لا على أنه استخرج الجف بالمشاقة، ولم يستخرج صورة ما فى الجف من المشط وما ربط به لئلا يراه الناس فيتعلمونه إن أرادوا استعمال السحر فهو عندهم مستخرج من البئر وغير مستخرج من الجف، والله أعلم. واختلف السلف، هل يسأل الساحر عن حل السحر عن المسحور فأجازة سعيد بن المسيب على ماذكره البخارى، وكرهه الحسن البصرى وقال: لايعلم ذلك إلا ساحر ولا يجوز إتيان الساحر. لما روى سفيان، عن أبى إسحاق، عن هبيرة، عن عبد الله بن مسعود قال: (من مشى إلى ساحر أو كاهن فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - عليه السلام) . قال الطبرى: وليس ذلك عندى سواء؛ وذلك أن مسالة الساحر عقد السحر مسألة منه أن يضر من لا يحل ضرره وذلك حرام، من غير حصر معالجتهم منها على صفة دون صفة فسواء كان المعالج مسلمًا تقيًا أو مشركًا ساحرًا بعد أن يكون الذى يتعالج به غير محرم، وقد أذن النبى 0 عليه السلام - فى التعالج وأمر به أمته فقال: (إن الله لم ينزل داء إلا وأنزل له شفاء، وعلمه من علمه وجهله من جهله) . فسواء كان عليم ذلك وحله عند ساحر أو غير ساحر، وأما معنى نهيه عليه السلام عن إتيان السحرة؛ فإنما ذلك على التصديق لهم فيما يقولون على علم من أتاهم بأنهم سحرة أو كهان، فأما من أتاهم لغير ذلك وهو عالم به وبحاله فليس بمنهى عنه عن إتيانه. واختلفوا فى النشرة أيضًا فذكر عبد الرزاق عن عقيل بن معقل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 445 عن همام بن منبه قال: (سئل جابر بن عبد الله عن النشرة فقال: من عمل الشيطان) ، وقال عبد الرزاق: قال الشعبى: لا بأس بالنشرة العربية التى لاتضر إذا وطئت، وهى أن يخرج الإنسان فى موضع عصاه فيأخذ عن يمينه وشماله من كل ثم يدقه ويقرأ فيه ثم يغتسل به. وفى كتب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسى وذوات قل، ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به؛ فإنه يذهب عنه كل ما به إن شاء الله، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله. وقولها للنبى: (هلا تنشرت) يدل على جواز النشرة كما قال الشعبى، وأنها كانت معروفة عندهم لمداوة السحر وشبهه، ويدل قوله عليه السلام: (أما الله فقد شفانى) وتركه الإنكار على عائشة على جواز استعماله لها لو لم يشفه فلا معنى لقول من أنكر النشرة. وراعوفه البئر وأرعوفتها: حجر يأتى فى أسفلها، ويقال: بل هو على رأس البئر يقوم عليه المستقى. 38 - باب من البيان سحر / 63 - فيه: ابْن عُمَر، قَدِمَ رَجُلانِ مِنَ الْمَشْرِقِ، فَخَطَبَا، فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا، أَوْ إِنَّ بَعْضَ الْبَيَانِ لَسِحْرٌ) . قال المؤلف: الرجلان اللذان خطبا: عمرو بن الأهتم والزبرقان ابن بدر. روى حماد بن زيد عن محمد بن الزبير قال: (قدم على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 446 رسول الله الزبرقان بن بدر وعمر بن الأهتم، فقال رسول الله لعمرو: أخبرنى عن الزبرقان. فقال: هو مطاع فى ناديه، شديد المعارضة، مانع لما وراء ظهره. قال الزبرقان: هو والله يارسول الله يعلم أنى أفضل منه ولكنه حسدنى شرفى فقصرنى. قال عمرو: إنه لزمر المروءة ضيق العطن أحمق الأب، لئيم الخال يارسول الله صدقت فى الأولى وماكذبت فى الأخرى، ولكنى رضيت فقلت أحسن ماعلمت، وسخطت فقلت أسوأ ماعلمت، فقال رسول الله: إن من البيان لسحرًا) ، واختلف العلماء فى تأويله. فقال قوم من أصحاب مالك: إن هذا الحديث خرج على الذم للبيان. وقالوا على هذا يدل مذهب مالك، واستدلوا بإدخاله للحديث فى باب مايكره من الكلام، وقالوا: إن النبى شبه البيان بالسحر، والسحر مذموم محرم قليله وكثيره وذلك لما فى البيان من التفيهق وتصوير الباطل فى صورة الحق. وقد قال رسول الله: (أبغضكم إلىّ الثرثارون المتفيهقون) وقد فسره عامر بنحو هذا المعنى وهو رواه الحديث عن رسول الله، وكذلك فسره صعصعة بن صوحان فقال: أما قوله عليه السلام: (إن من البيان لسحرًا) فالرجل يكون الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وهو عليه. وقال آخرون: هو كلام خرج على مدح البيان واستدلوا بقوله فى الحديث: (فعجب الناس لبيانها) والإعجاب لايقع إلا بما يحسن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 447 ويطيب سماعه، قالوا وتشبيهه بالسحر مدح له؛ لأن معنى السحر الاستمالة، وكل من استمالك فقد سحرك، وكان رسول الله عليه السلام أميز الناس بفضل البلاغة لبلاغته فأعجبه ذلك القول واستحسنه ولذلك شبهه بالسحر، قالوا: وقد تكلم رجل فى حاجة عند عمر ابن عبد العزيز وكان فى قضائها مشقة بكلام رقيق موجز وتأنى لها وتلطف، فقال عمر بن العزيز: هذا السحر الحلال. وكان زيد ابن إياس يقول للشعبى: يا مبطل الحاجات، يعنى أنه يشغل جلساءه بحسن حديثه عن حاجاتهم. وأحسن مايقال فى ذلك أن هذا الحديث ليس بذم للبيان كله ولا بمدح للبيان كله ألا ترى قوله عليه السلام: (إن من البيان لسحرًا) و (من) للتبعيض عند العرب، وقد شك المحدث إن كان قال: إن من البيان أو أن من بعض البيان، وكيف يذم البيان كله، وقد عدد الله به النعمة على عباده فقال: (خلق الإنسان علمه البيان) ولايجوز أن يعدد على عباده إلا مافيه عظيم النعمة عليهم وماينبغى إدامة شكره عليه؟ فإذا ثبت الاحتجاج للشىء الواحد مرة بالفضل ومرة بالنقص وتزيينه مرة وعيبه أخرى؛ ثبت أن ما جاء من البيان مزينًا للحق ومبينًا له فهو ممدوح وهو الذى قال فيه عمر بن عبد العزيز: هذا السحر الحلال. ومعنى ذلك أنه يعمل فى استمالة النفوس مايعمل السحر من استهوائها، فهو سحر على معنى التشبيه لا أنه السحر الذذى هو الباطل الحرام، والله أعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 448 39 - باب: الدواء بالعجوة / 64 - فيه: سَعْد، قال النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَنِ اصْطَبَحَ كُلَّ يَوْمٍ بِسبع تَمَرَاتٍ عَجْوَةً، لَمْ يَضُرُّهُ سُمٌّ وَلا سِحْرٌ، ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ) . وروى ابن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة (أنها كانت تأمر من الدواء بسبع تمرات عجوة فى سبع غدوات على الريق) . 40 - باب: لا هامة ولا صفر / 65 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (لا عَدْوَى، وَلا هَامَةَ، وَلا صَفَرَ) ، قَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا بَالُ الإبِلِ، تَكُونُ فِى الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ، فَيُخَالِطُهَا الْبَعِيرُ الأجْرَبُ، فَيُجْرِبُهَا؟ فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (فَمَنْ أَعْدَى الأوَّلَ؟) . وَعَنْ أَبِى سَلَمَةَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ) . وأنكر أبو هريرة الحديث الأول، قلنا: ألم تحدثنا به أنه لاعدوى؟ فرطن بالحبشية. قال أبو سلمة: فما رأيته نسى حدينا غيره. وترجم له باب لاعدوى وقد تقدم تفسير لوله: (لا هامة ولا صفر) فى باب قوله لاصفر قبل هذا وزعم بعض أهل البدع أن قوله عليه السلام: (لا عدوى) يعارض قوله: (لا يوردن ممرض على مصح) كما يعارض قوله: (فر من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 449 المجذوم كفرارك من الأسد) وقد تقدم فى باب الجذام وجه الجمع بين قوله: (فر من المجذوم) ، وبين قوله: (لا عدوى) وتقدم فى باب قوله لاصفر بعض ذلك، ونتكلم هاهنا على قوله: (لا عدوى) إعلام منه أمته ألا يكون لذلك حقيقة وقوله: (لا يوردن ممرض على مصح) نهى منه الممرض أن يورد ماشيته المرضى على ماشية أخيه الصحيحة لئلا يتوهم المصح إن مرضت ماشيته الصحيحة أن مرضها حدث من أجل ورود المرضى عليها فيكون داخلا بتوهمه ذلك فى تصحيح ماقد أبطله النبى عليه السلام من أمر العدوى. والممرض: ذو الماشية المريضة، والمصح: ذو الماشية الصحيحة، وقد تأول يحيى بن يحيى الأندلوسى فى قوله: (لا يحل الممرض على المصح) تأويلاً آخر، قال: لا يحل من أصابه جذام محله الأصحاء فيؤذيهم برائحته وإن كان لا يعدو، والأنفس تكره ذلك. قال: وكذلك الرجل يكون به المرض لا ينبغى له أن يحل مورده الصحاء إلا أن لايجد عنها غناء فيرد. قلت: فالقوم يكونون شركاء فى القرية ويريدون منعهم من ذلك، قال يحيى: إن كانوا يجدون من ذلك الماء غناء بماء غيره يستقون منه من غير ضرر بهم أو يقومون على حفر بئر أو جرى عين فأرى أن يؤمروا بذلك، وإن كانوا لايجدون من ذلك غناء إلا بما يضرهم، قيل لمن تأذى بهم: استنبط لهم بئرًا أو أجر لهم عينا أو أؤمر من يستقى من البعد وإلا فكل ذي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 450 حق أولى بحقه، وأعظم الضرر أن يمنع أحد ملكه بغير عوض، وقد تقدم فى باب الجذام فاطلبه هناك. والرطانة: التكلم بالعجمية وقد تراطنا. 41 - باب: ما يذكر فى سم النبى عليه السلام رواه عروة عن عائشة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . / 66 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ إلى النَّبِىّ عليه السلام شَاةٌ فِيهَا سَمٌّ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (اجْمَعُوا لِى مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنَ الْيَهُودِ) ، فَجُمِعُوا لَهُ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى سَائِلُكُمْ عَنْ شَىْءٍ، فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِى عَنْهُ) ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَبُوكُمْ) ؟ قَالُوا: أَبُونَا فُلانٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلانٌ) ؟ فَقَالُوا: صَدَقْتَ، وَبَرِرْتَ، فَقَالَ: هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِىَّ عَنْ شَىْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِى أَبِينَا، قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَهْلُ النَّارِ) ؟ فَقَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا، ثُمَّ تَخْلُفُونَنَا فِيهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (اخْسَئُوا فِيهَا، وَاللَّهِ لا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا) ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: (فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِى عَنْ شَىْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ) ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: (هَلْ جَعَلْتُمْ فِى هَذِهِ الشَّاةِ سَمًّا) ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: (مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ) ؟ فَقَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَذَّابًا نَسْتَرِيحُ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 451 لا أعلم خلافًا فيمن سم طعامًا أو شرابًا لرجل فلم يمت به أنه لاقصاص عليه ولاحد، وفيه العقوبة الشديدة والأدب البالغ قدر ما يراه الإمام فى ذلك، فإن قيل: كيف وجب فيه العقوبة والنبى لم يعاقب من وضع له السم فيها؟ قيل: كان النبى (ص) لاينتقم لنفسه ما لم تنتهك لله حرمة، وكان يصبر على أذى المنافقين واليهود، وقد سحره لبيد بن الأعصم وناله من ضرر السحر مالم ينله من ضرر السم فى الشاة ولم يعاقب الذى سحره؛ لأن الله تعالى كان قد ضمن لنبيه عليه السلام أنه لايناله مكروه وأن لايموت حتى يبلغ دينه ويصدع بتأدية شريعته، وكان معصوما من ضرر الأعداء قال الله تعالى: (والله يعصمك من الناس (وغيره من الناس بخلافه فهذا الفرق بينه وبين غيره (صلى الله عليه وسلم) . واختلفوا فيمن سم طعامًا أو شرابًا لرجل فمات منه، فذكر ابن المنذر عن الكوفيين: إذا سقاه سمًا أو جربه به فقتله فلا قصاص عليه وعلى عاقلته الدية، وقال مالك: إذا استكرهه فسقاه سمًا فقتله فعليه القود. قال الكوفيون: ولو أعطاه إياه فشربه هو لم يكن عليه فيه شىء ولا على عاقلته من قبل أنه هو شربه. وقال الشافعى: إذا جعل السم فى طعام رجل أو شربه فأطعمه أو سقاه غير مكروه له ففيها قولان: أحدهما أن عليه القود، وهذا اشبههما والثانى: أن لاقود عليه وهو آثم لأن الآخر شربه وإن خلطه فوضعه فأكله الرجل فلا عقل ولاقود ولاكفارة، وقيل: يضمن. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 452 وفى حديث أبى هريرة الدليل الواضح على صحة نبوة نبينا عليه السلام من وجه منها: إخباره عن الغيب الذى لايعلمه إلا من أعلمه الله بذلك، وذلك معرفته بأبيهم وبالسم الذى وضوعا له فى الشاة ومنها تصديق اليهود له حين أخبرهم بأبيهم، ومنها: قول اليهود له: إن كنت نبيًا لم يضرك، فرأوا أنه لم يقتله السم وتمادوا فى غيهم، ولم يؤمنوا بما رأوا من برهانه عليه السلام فى السم وفى إخباره عن الغيب، وهذا الحديث يشهد بمباهة اليهود وعنادهم للحق، كما قال عبد الله بن سلام: اليهود قوم بهت. 42 - باب شرب السم والدواء به ومايخاف منه والخبيث / 67 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ، يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسُمُّهُ فِى يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِى يَدِهِ، يَجَأُ بِهَا فِى بَطْنِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا) . / 68 - وفيه: سَعْد، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنِ اصْطَبَحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتِ عَجْوَةٍ، لَمْ يَضُرُّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سَمٌّ وَلا سِحْرٌ) . قال المؤلف: هذا الحديث يشهد لصحة نهى الله تعالى فى كتابه المؤمن عن قتل نفسه فقال تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا ومن يفعل ذلك) الآية، فأما من شرب سمًا للتداوى ولم يقصد به قتل نفسه وشرب منه مقدرًا مثله، أو خلطه بغيره مما يكسر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 453 ضره فليس بداخل فى الوعيد؛ لأنه لم يقتل نفسه غير أنه يكره له ذلك لما روى الترمذى قال: حدثنا بن نصر، حدثنا ابن المبارك، عن يونس بن أبى إسحاق، عن مجاهد، عن أبى هريرة قال: (نهى النبى عن الدواء الخبيث) . قال أبو عيسى: يعنى: السم. وقد تعلق بقوله: (خالدًا مخلدًا) فى حديث أبى هريرة من أنفذ الوعيد على القاتل وهو قول روى عن قوم من الصحابة قد ذكرناهم فى أول كتاب الديات وجمهور التابعين وجماعة الفقهاء على خلافه، ولا يجوز عندهم إنفاذ الوعيد على القاتل وأنه فى مشيئة الله تعالى لحديث عباده بن الصامت على ماتقدم فى كتاب الديات. فإن قيل ظاهر حديث أبى هريرة يدل على أن قاتل نفسه مخلدًا فى النار أبدًا، قيل: هذا قول تقلده الخوارج وهو مرغوب عنه، ومن حجة الجماعة أن لفظ التأبيد فى كلام العرب لا يدل على ما توهتموه، وقد يقع البد على المدة من الزمان التى قضى الله تعالى فيها بتخليد القاتل إن أنفذ عليه الوعيد، وذلك أن العرب تجمع الأبد على آباد كما تجمع على دهور فإذا كان الأبد عندها واحد الآباد لايدل الأبد على ماقالوه، ويدل على صحة هذا إجماع المؤمنين كلهم غير الخوارج على أنه يخرج من النار من كان فى قلبه مثقال ذرة من إيمان وأنه لايخلد فى النار بالتوحيد مع الكفار، فسقط قولهم. وقوله: (يجأ بها فى بطنه) قال صاحب الأفعال: وجأت البعير طعنت منخره، ووجأة وجئًا: طعنه مثل وجأه، والأصل فى المستقبل يوجأ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 454 43 - باب ألبان الأتن / 69 - فيه: أَبُو ثَعْلَبَة، نَهَى النَّبِى عليه السلام عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِى نَابٍ مِنَ السَّبُعِ. وَزَادَ اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: وَسَأَلْتُهُ هَلْ نَتَوَضَّأُ، أَوْ نَشْرَبُ أَلْبَانَ الأتُنِ، أَوْ مَرَارَةَ السَّبُعِ، أَوْ أَبْوَالَ الإبِلِ، قَالَ: قَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَدَاوَوْنَ بِهَا، فَلا يَرَوْنَ بِذَلِكَ بَأْسًا، فَأَمَّا أَلْبَانُ الأتُنِ، فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنْ لُحُومِهَا، وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَلْبَانِهَا أَمْرٌ وَلا نَهْيٌ، وَأَمَّا مَرَارَةُ السَّبُعِ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِى أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلانِىُّ أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِىَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِى نَابٍ مِنَ السَّبُعِ. قال المؤلف: أما قول ابن شهاب قد كان المسلمون يتداوون بها فلا يرون بذلك باسًا، فإنه اراد أبوال الإبل فإن النبى عليه السلام أباح للعرنيين شربها والتداوى بها. وقوله فى أبان الأتن أن النبى عليه السلام نهى عن لحومها ولم يبلغنا عن البانها أمر ولا نهى، فما نهى عن لحمه فلبنه منهى عنه؛ لأن اللبن متولد من اللحم، ألا ترى أنه استدل ابن شهاب على النهى عن مرارة السبع بنهيه عليه السلام عن أكل ذى ناب من السباع، فكذلك ألبان الأتن. وقد سئل مالك عن ألبان الأتن فقال: لاخير فيها. 44 - باب: إذا وقع الذباب فى إناء / 70 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِى إِنَاءِ أَحَدِكُمْ، فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ، ثُمَّ لِيَطْرَحْهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً، وَفِي الآخَرِ دَاءً) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 455 قال المؤلف: هذا الحديث يتأول على وجهين أحدهما: حمله على ظاهرة وهو أن يكون فى أحد جناحيه داء وفى الآخر دواء كما قال عليه السلام، فيذهب الداء بغمسه ويحدث مع الغمس دواء الداء الذى فى الجناح الواقع أولا، وقد جاء فى بعض طرق هذا الحديث وأنه يقدم الداء. والوجه الآخر: أن يكون الداء مايحدث فى نفس الآكل من التفرز والتقدر للطعام إذا وقع فيه الذباب، والدواء الذى فى الجناح الآخر رفع التفرز والتكبر بغمسه كله فى الطعام وقله المبالاة بوقعه فيه؛ لأن الذباب لانفس لها سائله وليس فيه يخشى منه إفساد الطعام فلا معنى لتقذره، والله أعلم بما أراد النبي عليه السلام من ذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 456 70 - كتاب الأطعمة وقول الله تعالى: (كلوا من طيبات مارزقناكم (وقوله (أنفقوا من طيبات ما كسبتم (وقوله: (كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا (/ 1 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ عليه السَّلام: (أَطْعِمُوا الْجَائِعَ. . .) الحديث. / 2 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: (مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ طَعَامٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى قُبِضَ) . / 3 - وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَصَابَنِى جَهْدٌ شَدِيدٌ، فَلَقِيتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَاسْتَقْرَأْتُهُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَدَخَلَ دَارَهُ، وَفَتَحَهَا عَلَى فَمَشَيْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَخَرَرْتُ لِوَجْهِى مِنَ الْجَهْدِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَائِمٌ عَلَى رَأْسِى، قَالَ: (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ) ، فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وسَعْدَيْكَ، فَأَخَذَ بِيَدِى فَأَقَامَنِى وَعَرَفَ الَّذِى بِى، فَانْطَلَقَ بِى إِلَى رَحْلِهِ، فَأَمَرَ لِى بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبْتُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: (عُدْ يَا أَبَا هُرَيَرْةَ) ، فَعُدْتُ فَشَرِبْتُ، ثُمَّ قَالَ: (عُدْ) ، فَعُدْتُ فَشَرِبْتُ، حَتَّى اسْتَوَى بَطْنِى، فَصَارَ كَالْقِدْحِ، قَالَ: فَلَقِيتُ عُمَرَ، وَذَكَرْتُ لَهُ الَّذِى كَانَ مِنْ أَمْرِى، وَقُلْتُ لَهُ: فَوَلَّى اللَّهُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْكَ يَا عُمَرُ، وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَقْرَأْتُكَ الآيَةَ، وَلأنَا أَقْرَأُ لَهَا مِنْكَ، قَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لأنْ أَكُونَ أَدْخَلْتُكَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي مِثْلُ حُمْرِ النَّعَمِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 457 قال المؤلف: وقع فى النسخ كلها قوله تعالى: (كلوا من طيبات ماكسبتم) ، وهو وهم من الكاتب وصواب الآيه ماذكره الله تعالى فى سورة البقرة: (ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ماكسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض) واختلف أهل التأويل فى معى الآية على قولين، فقالت طائفة: المراد بالطيبات الحلال. وقالت طائفة: المراد بها جيد الطعام وطيبه، وقال البراء بن عازب: كانوا يتصدقون بأردأ ثمرهم وطعامهم فنزلت الاية. وقوله: (كلوا من الطيبات واعملوا صالحا (تأويلها كتأويل الآية المتقدمة ولم يختلف أهل التأويل فى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لاتحرموا طيبات ماأحل الله لكم (أنها نزلت فيمن خرم على نفسه لذيذ الطعام واللذات المباحة، قال عكرمة: إنها نزلت فى عثمان بن مظعون وأصحابه حين هموا بترك النساء واللحم والخصاء وأرادوا التخلى من الدنيا والترهب، منهم على بن أبى طالب وعثمان ابن مظعون، وقد تقدم فى كتاب النكاح فى باب مايكره من التبتل والخصاء، وفى حديث أبى موسى الأمر بالمواساة وإطعام الجائع وذلك من فروض الكفاية قال الداودى: إلا أن يحتاج الرجل ولايجد مايقيمه يأخذ ذلك منه كرهًا وأن يختفى به إن لم يقدر عليه إلا بذلك، ومنه إعطاء السائل إن صادف شيئًا موضوعًا كان حقًا على المسئول أن يقبله منه، وإن لم يجد شيئًا حاضرًا وعلم المسئول أن ليس له شىء يقيمه وجب عليه أن يغنيه وإن لم يعلم حاله فليقل له قولا سديدًا، وقد تقدم فى باب فكاك الأسير في الجهاد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 458 وفي حديث أبي هريرة إباحة الشبع عند الجوع لقوله: (فشربت حتى استوى بطنى فصار كالقدح) يعنى كالسهم يعنى فى استوائه؛ لأنه لما روى من اللبن استقام بطنه وصار كأنه سهم لأنه كان بالجوع ملتصقًا منثنيًا. وفيه: ماكان السلف عليه من الصبر من التقلل وشظف العيش والرضا ياليسير من الدنيا، ألا ترى أن أبا هريرة لم يكن له هم إلا سد عمر جوعته فقط فلما سقاه النبى حتى روى أقنعه ذلك ولم يطلب سواه، ودل ذلك على إيثارهم للبلغة من الدنيا وطلبهم للكفاية، ألا ترى قول أبى هريرة: (ما شبع آل محمد من طعام ثلاثًا حتى قبض) وسيأتى معنى هذا الحديث والآحاديث المعارضة له فى باب ماكان النبى عليه السلام وأصحابه يأكلون، إن شاء الله. وفيه: سد الرجل خله أخيه المؤمن إذا علم منه حاجة من غير أن يسأله ذلك. وفيه أنه كان من عادتهم إذا استقر أحدهم صاحبه القرآن أن يحمله إلى بيته ويطعمه ماتيسر عنده، والله أعلم لم لم يحمل عمر أبا هريرة حين استقرأه أبو هريرة ألشغل كان به أو لأنه لم يتيسر له حيئذ مايطعمه. وقد روى عن أبى هريرة أنه قال: والله مااستقرأت عمر الآية، وأنا أقأ بها منه إلا طعمًا فى أن يذهب بى ويطعمنى. وفيه: الحرص على أفعال البر لتأسف عمر على مافاته من حمل أبى هريرة إلى بيته وإطعامة؛ إذ كان محتاجًا إلى الأكل، وأن ذلك كان أحب اليه من حمر النعم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 459 - باب التسمية على الطعام / 4 - فيه: عُمَرَ بْنَ أَبِى سَلَمَةَ، يَقُولُ: كُنْتُ غُلامًا فِى حَجْرِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَتْ يَدِى تَطِيشُ فِى الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا غُلامُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ) ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِى بَعْدُ. وترجم له باب: الأكل ممايليه، قال أنس: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (وليأكل كل رجل مما يليه) وقال عمر بن أبى سلمه: (كنت آكل يومًا مع النبى عليه السلام من نواحى الصحفة) . التسمية على الطعام سنة مؤكدة؛ لقوله عليه السلام: (يا غلام، سم الله، فإن نسى أن يسمى الله فى أول طعامه فليسم الله فى آخره - أو متى ذكر - وليقل: بسم الله أولا وآخر) ، وروى ذلك فى الحديث. وفيه أن الأكل ممايليه من أدب الطعام إلا أن يكون الطعام ألوانًا مختلفة فلا بأس من أيها شاء؛ لقول النبى عليه السلام لعكراش لما أتو بطبق من تمر أو رطب: (كل من حيث شئت؛ فإنه غير لون واحد) ذكره ابن المنذر فى كتاب الأطعمة وذكره الترمذيفى مصنفه وقال: لايعرف لعكراش عن النبى عليه السلام غير هذا الحديث. وفيه أن السنة الأكل ياليمين، وقد نهى عليه السلام أن يأكل الرجل بشماله أو يشرب بشماله، وقال: (إن الشيطان يفعل ذلك) ، ورواه مالك، وعبيد الله، وابن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام ولم يخرجه البخارى؛ لأنه قد رواه معمر وعقيل عن الزهرى، عن سالم، عن ابن عمر ورواية مالك أصح، قال الترمذي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 460 وذكره الطبري من حديث ابن عمر عن أبيه عن النبى عليه السلام فالله أعلم لم لم يخرجه البخارى. قال الطبرى: فى هذا الحديث لايجوز الأكل والشرب باليد اليسرى إلا لمن كانت بيمين عله مانعة من استعمالها ومثله الأخذ والإعطاء بها والرفع والوضع والبطش. فإن قال قائل: (شهدت عليًا شوررا له كبد أضحية فأخذ رغيفًا بيده والكبد بالأخرى فأكل) قلنا: هذا غير دافع حقيقة ما قلناه، وذلك أن هذا الخبر إنما يدل أنه استعمل اليسرى فى وقت شغل اليمنى بالطعام، وإذا كانت كذلك فصاحبها معذور فى إعماله الأخرى فيما هو محظور عليه إعمالها فيه فى غير حال العذر كما لو كانت مقطوعة لكان له استعمال اليسرى فى مطعمه ومشربه، وماكان محظورًا عليه استعمالها فيه، وبنحو ماقلناه جاء الخبر عن عمر حدثنا سوار بن عبد الله، أخربنا يحى بن سعيد، عنعمارة بن مطرف، حدثنى يزيد بن أبى مريم، عن أبيه قال: (رأى عمر رجلا قد صوب يده اليسرى ليأكل بها، فقال: لا إلا أن تكون يدك معتلة) فرأى عمر أن لمن كانت يده معتلة أن يأكل بيسراه مثل ما لو كانت يمناه بائنة. فإن قيل: فهل روى عن أحد من السلف كراهية الأخذ والإعطاء باليسرى؟ قيل: روى ذلك نافع مولى ابن عمر، وعن عطاء قالا لاتأكل بشمالك ولاتصدق بها. قال المؤلف: روى ابن وهب، عن عمر بن محمد بن زيد قال: كان نافع يزيد فيها: (ولا تأخذن بها ولاتعطين - يعني: الشمال) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 461 روى ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن هشام بن أبى عبد الله عن يحى بن أبى كثير، عن عبد الله بن أبى قتادة، عن أبيه (أن رسول الله نهى أن يعطى الرجل بشماله شيئًا أو يأخذ شيئًا) . باب: من تتبع حوالي القصعة مع صاحبه إذا لم يعرف منه كراهية فيه: أنس: أن خياطاً دعا النبي - عليه السلام - لطعام صنعه، قال أنس: فذهبت مع رسول الله [فرأيته] يتبع الدباء من حوَالَي القصعة فلم أزل أحب الدباء من يومئذ. هذا الحديث يفسر قوله عليه السلام في حديث عمر بن أبي سلمة: كل مما يليك ويدل عل أن المراد بذلك إذا كان يأكل مع غير عياله ومن يتقذر جولان يده في الطعام، فأما إذا أكل مع أهله ومن لا مؤنة عليه منهم من خالص إخوانه فلا بأس أن تجول يده في الطعام استدلالا بهذا الحديث، وإنما جالت يده عليه السلام في الطعام؛ لأنه علم أن أحداً لا يتكره ذلك ولا يتقززه منه؛ بل كل مؤمن ينبغي له أن يتبرك بريقه وما مسَّه بيده، ألا ترى أنهم كانوا يتبادرون إلى نخامته فيتدلكون بها، فكذلك من لم تتقزز مؤاكلته [له] أن تجول يده في الصفحة، والله أعلم. وقول أنس: فلم أزل أحب الدباء من يومئذ فيه الحرص على التشبه بالصالحين والاقتداء بأهل الخير في مطاعمهم، واقتفاء آثارهم في جميع أحوالهم تبركاً بذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 462 باب: التيمن في الأكل وغيره فيه: عائشة: كان النبي - عليه السلام - يحب التيمن ما استطاع في طهوره وتنعله وترجله وكان قال بواسط قبل هذا: في شأنه كله. معنى قول باب التيمن في الأكل وغيره يعني [باليد] اليمنى في جميع أفعاله، وكذلك في مناولة الأكل والشرب ومناولة سائر الأشياء من على اليمين وهو قول الفقهاء وقد تقدّم في كتاب الأشربة. 5 - باب من أكل حتى شبع / 7 - فيه: أَنَس، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لأمِّ سُلَيْمٍ: لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَىْءٍ؟ فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا، فَلَفَّتِ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ ثَوْبِى، وَرَدَّتْنِى بِبَعْضِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَتْنِى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهِ، فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام فِى الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ، لِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: بِطَعَامٍ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام لِمَنْ مَعَهُ: قُومُوا، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، بِالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنَ الطَّعَامِ مَا نُطْعِمُهُمْ، فَقَالَتِ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَقْبَلَ أَبُو طَلْحَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ عليه السلام حَتَّى دَخَلا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : هَلُمِّى يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، مَا عِنْدَكِ؟ فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ، فَأَمَرَ بِهِ فَفُتَّ وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا، فَأَدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 463 فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ أَذِنَ لِعَشَرَةٍ، فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، وَشَبِعُوا وَالْقَوْمُ ثَمَانُونَ رَجُلا. / 8 - وفيه: عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، ثَلاثِينَ وَمِائَةً، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ) ؟ قَلنا: مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ - أَوْ نَحْوُهُ - فَعُجِنَ ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (أَبَيْعٌ أَمْ عَطِيَّةٌ) ؟ - أَوْ قَالَ: هِبَةٌ - قَالَ: لا، بَلْ بَيْعٌ، قَالَ: فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً، فَصُنِعَتْ فَأَمَرَ النَّبِىّ عليه السلام بِسَوَادِ الْبَطْنِ يُشْوَى، وَايْمُ اللَّهِ مَا فِى الثَّلاثِينَ وَمِائَةٍ، إِلا قَدْ حَزَّ لَهُ حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا، إِنْ كَانَ شَاهِدًا أَعْطَاهَا إِيَّاهُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا خَبَأَهَا لَهُ، ثُمَّ جَعَلَ فِيهَا قَصْعَتَيْنِ، فَأَكَلْنَا أَجْمَعُونَ، وَشَبِعْنَا وَفَضَلَ فِى الْقَصْعَتَيْنِ، فَحَمَلْتُهُ عَلَى الْبَعِيرِ - أَوْ كَمَا قَالَ -. / 9 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالت: تُوُفِّي النَّبِي عليه السلام حِينَ شَبِعْنَا مِنَ الأسْوَدَيْنِ الْمَاءِ وَالتَّمْرِ. قوله: (لقد سمعت صوت رسول الله ضعيفًا أعرف فيه الجوع فيه أن الأنبياء تزوى عنهم الدنيا حتى يدركهم الم الجوع ابتلاءًا واختبارًا) وقد خير رسول الله بين أن يكون نبيًا عبدًا أو نبيًا ملكًا، فأختيار أن يكون نبيًا عبدًا، وعرضت عليه الدنيا فردها واختار ماعند الله لتتأسى به أمته فى ذلك ويمتثلون زهيده فى الدنيا. وفيه سد الرجل خله إذا علم منه حاجة، نزلت به من حيث لا يسأله ذلك، وهذا من مكارم الأخلاق، وعليم النبى من أبى طلحة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 464 أنه يسره ميسرة مع أصحابه، ولذلك تلقاه أبو طلحة مسرورًا به وبأصحابه وليس العمل على هذا؛ من أجل أنه لايحتملة كل الناس ولذلك قال مالك: أنه من دعى إلى طعام وليمة أو غيرها فلا ينبغى أن يحمل معه غيره إذ لايدرى هل يسر بذلك صاحب الوليمة أم لا، إلا أن يقال له: ادع من لقيت، فمباح له ذلك حينئذ. وفيه الخروج إلى الطريق للضيف والزائر إكرامًا له وبرًا به، وفى قوله: (لقد سمعت صوت رسول الله ضعيفًا أعرف فيه الجوع) دليل على جواز الشهادة على الصوت. وفيه أنه لا حرج على الصديق أن يأمر فى دار صديقه بما شاء مما يعلم أنه يسره به، ألا ترى أن اشترط عليهم أن يفتوا الخبز، وقال لأم سليم: هات ماعندك. وفيه بركة الثريد. وفيه جواز الأكل حتى يشبع الإنسان وأن الشبع مباح، وكذلك حديث عبد الرحمن بن أبى بكر وحديث عائشة جواز الشبع أيضًا وإن كان ترك الشبع فى بعض الأحايين افضل وقد وردت فى ذلك آثار عن سلمان وأبى جحيفة أن النبى عليه السلام قال: (إن أكثر الناس شبعًا فى الدنيا أطولهم جوعًا فى الآخرة) . قال الطبرى: غير أن الشبع وإن كان مباحًا فإن له حدًا ينتهى إليه ومازاد على ذلك فهو سرف، فالمطلق منه ماأعان الآكل على طاعة ربه ولم يشغله ثقله عن أداء واجب عليه، وذلك دونما أثقل المعدة وثبط آكله عن خدمة ربه والأخذ بحظه من نوافل الخير، فالحق لله على عبده المؤمن أن لايتعدى فى مطعمه ومشربه ماسد الجوع وكسر الظمأ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 465 فإن تعدى فى ذلك إلى مافوقه مما يمنعه القيام بالواجب عليه لله كان قد أسرف فى مطعمه ومشربه، وبنحو هذا ورد الخبر عن النبي عليه السلام روى ابن وهب، عن ماضى بن محمد، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (إذا سددت كلب الجوع برغيف وكوز من الماء القراح فعلى الدنيا الدمار) وروى أبو داود عن حريثبن السائب قال: حدثنا الحسن، حدثنا حمران بن أبان، عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله عليه السلام (كل شىء فضل عن ظل بيت وجلف الخبز - يعنى: كسر الخبز - وثوب يستره فضل ليس لابن آدم منه حق) فأخبر عليه السلام أن لابن آدم من الطعام ماسد به كلب جوعه، ومن الماء ما قطع ظمأه، ومن اللباس ماستر عورته، ومن المساكن ماأظله وكنه من حر وقر، وأن لاحق له فيما عدا ذلك فالمتجاوز من ذلك ما حده رسول الله خاطب على نفسه، متحمل ثقل وباله، ولو لم يكتسب المقل من الأكل إلا التخفيف من بدنه من كظ المعدة ونتن التخمة لكان حريًا به تحرى ذلك لها طلب الترويح عنها، فكيف والإكثار منه الداء العضال، وبه كان يتعاير أهل الجاهلية والإسلام، وفى حديث أنس وعبد الرحمن ابن أبى بكر علامات النبوة؛ لأنه أكل من الطعام اليسير العدد الكثير حتى شبعوا ببركة النبي - عليه السلام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 466 باب: (ليس على الأمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج (الآية والنهد والاجتماع فى الطعام / 10 - فيه: سُوَيْدُ بْنُ النُّعْمَانِ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام إِلَى خَيْبَرَ، فَلَمَّا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ - قَالَ يَحْيَى وَهِى مِنْ خَيْبَرَ عَلَى رَوْحَةٍ - دَعَا رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام بِطَعَامٍ، فَمَا أُتِى إِلا بِسَوِيقٍ فَلُكْنَاهُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا فَصَلَّى، بِنَا الْمَغْرِبَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. قَالَ سُفْيَانُ: سَمِعْتُهُ مِنْهُ عَوْدًا وَبَدْءًا. وترجم له باب السويق. إن قال قائل: مامعنى ذكره حديث سويد بن النعمان فى هذه الترجمة قال المهلب: فالمعنى الجامع بينهما هو فأباح لهم الأكل مجتمعين ومفترقين من بيت ملكوا مفاتحة بائتمان أو قرابة أو صداقة وذلك أكل بغير مساواة. وذكر الكبى فى قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعًا أو أشتاتًا) قال: كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا عزل الأعمى على حدة والأعرج على حدة والمريض على حدة لتقصير أصحاب هذه الآفات عن أكل الاصحاء، وكانوا يتحرجون أن يتفضلوا عليهم فنزلت هذه الآية رخصت لهم فى الأكل جميعًا. وقال عطاء بن يزيد: كان الأعمى يتحرج أن يأكل طعام غيره لجعله يده فى غير موضعها، وكان الأعرج يتحرج ذلك لاتساعه فى موضع الأكل والمريض لرائحته فأباح الله تعالى لهم الأكل مع غيرهم، ومعنى الآية كمعنى حديث سويد بن النعمان سواء، ألا ترى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 467 حين أملقوا فى السفر جعل أيديهم جميعًا فيما بقى من الأزواد سواء، ولايمكن أن يكون أكلهم بالسواد أصلا لاختلاف أحوالهم فى الأكل، وقد سوغهم النبي ذلك من الزيادة والنقصان فصار ذلك سنة فى الجماعات التى تدعى إلى الطعام فى النهد والولائم والإملاق فى السفر وماملكت مفاتحة بأمة أو قرابه أو صداقة، فلك أن تأكل مع القريب أو الصديق ووحدك، وقد تقدم تفسير النهد فى أول كتاب الشركة. 7 - باب: الخبز المرقق والأكل على الخوان والسفرة / 11 - فيه: قَتَادَةَ، كُنَّا عِنْدَ أَنَسٍ وَعِنْدَهُ خَبَّازٌ لَهُ، فَقَالَ: مَا أَكَلَ النَّبِىُّ عليه السلام خُبْزًا مُرَقَّقًا وَلا شَاةً مَسْمُوطَةً حَتَّى لَقِىَ اللَّهَ تَعَالَى. / 12 - وَقَالَ أَنَس مرة: مَا عَلِمْتُ النَّبِى عليه السلام أَكَلَ عَلَى سُكْرُجَةٍ قَطُّ، وَلا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قَطُّ، وَلا أَكَلَ عَلَى خِوَانٍ قَطُّ، قِيلَ لِقَتَادَة: فَعَلامَ كَانُوا يَأْكُلُونَ؟ قَالَ: عَلَى السُّفَرِ. / 13 - وفيه: أَنَس، قَامَ النَّبِى عليه السلام يَبْنِى بِصَفِيَّةَ، فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ، أَمَرَ بِالأنْطَاعِ فَبُسِطَتْ، فَأُلْقِى عَلَيْهَا التَّمْرُ وَالأقِطُ وَالسَّمْنُ. / 14 - وَقَالَ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ: كَانَ أَهْلُ الشَّأْمِ يُعَيِّرُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، يَقُولُونَ: يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ، فَقَالَتْ لَهُ أَسْمَاءُ: يَا بُنَىَّ، إِنَّهُمْ يُعَيِّرُونَكَ بِالنِّطَاقَيْنِ، هَلْ تَدْرِى مَا كَانَ النِّطَاقَانِ؟ إِنَّمَا كَانَ نِطَاقِى شَقَقْتُهُ نِصْفَيْنِ، فَأَوْكَيْتُ قِرْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِأَحَدِهِمَا، وَجَعَلْتُ فِى سُفْرَتِهِ آخَرَ، قَالَ: فَكَانَ أَهْلُ الشَّأْمِ إِذَا عَيَّرُوهُ بِالنِّطَاقَيْنِ، يَقُولُ: إِيهًا وَالإلَهِ (تِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 468 / 15 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ أُمَّ حُفَيْدٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ حَزْنٍ - خَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ - أَهْدَتْ إِلَى النَّبِى عليه السلام سَمْنًا وَأَقِطًا وَأَضُبًّا، فَدَعَا بِهِنَّ، فَأُكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ، وَتَرَكَهُنَّ النَّبِى عليه السلام كَالْمُسْتَقْذِرِ لَهُنَّ، وَلَوْ كُنَّ حَرَامًا مَا أُكِلْنَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَلا أَمَرَ بِأَكْلِهِنَّ. قال المؤلف: أكل المرقق مباح ولم يجتنب النبى عليه السلام أكله إلا زهدًا فى الدنيا وتركًا للتنعيم وإيثارًا عند الله كما ترك كثيرًا مما كان مباحًا له وكذلك الأكل على الخوان مباح أيضًا، وليس نفى أنس أن النبى عليه السلام لم يأكل على خوان ولا أكل شاة مسموطة يرد قول من روى عن النبى عليه السلام أنه أكل على خوان وأنه أكل شواء، وإنما أخبر كل بما علم. وهذا ابن عباس يقول فى الأضب أنهن أكلن على مائدة النبى، فأثبت له مائدة، وقد أنزل الله على قوم عيسى ابن مريم المائدة حين سألوه إياها، وأكل المرقق والشاة المسموطة داخل فى قوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق) فجميع الطيبات حلال أكلها إلا أن يتركها تارك زهدًا وتوضعًا وشحًا على طيباته فى الآخرة أن ينتقصها فى الدنيا كما فعل النبى عليه السلام وذلك مباح له. وقول ابن الزبير: (فتلك شكاة ظاهر عنك عارها) فهو قول أبى ذؤيب الهذلى: وعيرها الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 469 وقال ابن قتيبة: لست أدرى أخذ ابن الزبير هذا من أبى ذؤيب أم ابتدأه هو، وهى كلمة مقولة. والشكأة: العيب والذم. وقوله: (ظاهر عنك عارها) لاتعلق بك ولكنه ينبو عنك وهو من قولك: ظهر فلان على السطح أى: علا عليه، وقال ثعلب أى لايلزمك عارها. 8 - باب ما كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يأكل شيئًا حتى يسمى له فيعلم ما هو / 16 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ - سَيْفُ اللَّهِ - دَخَلَ مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى مَيْمُونَةَ - وَهِىَ خَالَتُهُ وَخَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ - فَوَجَدَ عِنْدَهَا ضَبًّا مَحْنُوذًا، قَدِمَتْ بِهِ إليه أُخْتُهَا حُفَيْدَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ مِنْ نَجْدٍ، فَقَدَّمَتِ الضَّبَّ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَكَانَ قَلَّمَا يُقَدِّمُ يَدَهُ لِطَعَامٍ حَتَّى يُحَدَّثَ بِهِ، وَيُسَمَّى لَهُ، فَأَهْوَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَدَهُ إِلَى الضَّبِّ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ النِّسْوَةِ الْحُضُورِ: أَخْبِرْنَ رَسُولَ اللَّهِ) مَا قَدَّمْتُم إِلَيه. . . . وذكر الحديث. قال المؤلف: كانت العرب لاتعاف شيئًا من المآكل لقلتها عندها فلذلك كان النبى يسأل عن الطعام قبل الأكل. وفيه من الفقه أنه يجوز للإنسان تجنب مايعافه، ولم تجر بأكله عادته وإن كان حلالا ولاحرج عليه فى ذلك ولاإثم، وقد تقدمت أقوال العلماء فى أكل الضب فى كتاب الذبائح. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 470 9 - باب: طعام الواحد يكفى الاثنين / 17 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (طَعَامُ الاثْنَيْنِ كَافِى الثَّلاثَةِ، وَطَعَامُ الثَّلاثَةِ كَافِى الأرْبَعَةِ) . يريد أنه ما شبع اثنان يكفى ثلاثة رجال ومايشبع منه ثلاثة يكفى أربعة والكفاية ليست بالشبع والاستنباط كما أنها ليست بالغنى والإكثار،، ألا ترى قول أبى حازم: ابن آدم إذا كان مايكفيك لايغنيك فليس شىء يغنيك. وقد روى لفظ الترجمة عن النبى عليه السلام من حديث ابن وهب عن ابن لهيعة عن أبى الزبير، عن جابر قال: سمعت النبى عليه السلام يقول: (طعام الواحد يكفى الأثنين، وطعام الأثنين يكفى الأربعة، وطعام الأربعة يكفى الثمانية) . قال المهلب: والمراد بهذه الأحاديث الحض على المكارمة فى الأكل والموساة والإيثار على النفس الذى مدح الله به أصحاب نبيه، فقال: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة (ولا يراد بها معنى التساوى فى الأكل والتشاح؛ لأن قوله عليه السلام: (كافى الثلاثة) دليل على الأثرة التى كانوا يمتدحون بها والتقنع بالكفاية، وقد هم عمر بن الخطاب فى سنة مجاعة أن يجعل مع كل أهل بيت مثلهم وقال: لن يهلك أحد عن نصف قوته. قال ابن المنذر: وحديث أبى هريرة يدل على أنه يستحب الاجتماع على الطعام وألا يأكل المرء وحده؛ فإن البركة فى ذلك على ما جاء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 471 في حديث وحشي عن النبي، وسيأتي فى باب من أدخل الضيفان عشرة عشرة - إن شاء الله. - باب: المؤمن يأكل فى معاء واحد / 18 - فيه: ابْنُ عُمَرَ كَانَ لا يَأْكُلُ حَتَّى يأْتَى بِمِسْكِينٍ يَأْكُلُ مَعَهُ، قَالَ نَافِعٌ: فَأَدْخَلْتُ رَجُلاً يَأْكُلُ مَعَهُ، فَأَكَلَ كَثِيرًا، فَقَالَ: يَا نَافِعُ، لا تُدْخِلْ هَذَا عَلَىَّ، سَمِعْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِى مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِى سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ) . / 19 - وَقَالَ عَمْرو: كَانَ أَبُو نَهِيكٍ رَجُلا أَكُولا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ النَّبِىّ عليه السلام قَالَ: (إِنَّ الْكَافِرَ يَأْكُلُ فِى سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ) ، فَقَالَ: فَأَنَا أُومِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. / 20 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلا كَانَ يَأْكُلُ أَكْلاً كَثِيرًا، فَأَسْلَمَ فَكَانَ يَأْكُلُ أَكْلا قَلِيلاً فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِى مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرَ يَأْكُلُ فِى سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ) . قال المؤلف: ذكر ابن إسحاق قال بلغنى عن أبى سعيد المقبرى عن أبى هريرة أن الذى قال فيه النبى هذا الحديث ثمامة بن أثال الحنفى، وذكر غيره أنه جهجاه الغفارى، والله أعلم. فإن قال قائل: مامعنى هذا الحديث وقد نجد مؤمنًا كثير الأكل كأبى نهيك وغيره، ونجد أيضًا كافرًا قليل الأكل؟ فالجواب وبالله التوفيق أن النبى عليه السلام وإنما أراد بقوله: (المؤمن يأكل فى معاء واحد) المؤمن التام الإيمان؛ لأنه من حسن إسلامه وكمل إيمانه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 472 تفكر فى خلق الله له وفيما يصير إليه من الموت ومابعده، فيمنعه الخوف والإشفاق من تلك الأهوال من استيفاء شهواته، وقد روى هذا المعنى عن النبى عليه السلام من حديث أبى أمامة قال أبو أمامة: سمعت النبى عليه السلام يقول: (عليكم بقله الأكل تعرفون فى الآخرة، فمن كثر تفكره قل طعمه وكل لسانه ومن قل تفكره كثر طعمه وعظم ذنبه وقسا قلبه، والقلب القاسى بعيد من الله) . فأخبر عليه السلام أن من تفكر فيما ينبغى له التفكر فيه من قرب أجله ومايصير إليه فى معاده قلّ طمعه وكل لسانه وحق ذلك. قوله عليه السلام: (المؤمن يأكل فى معاء واحد) الحض على التقلل من الدنيا والزهد فيها والقناعةبالبلغة، ألا ترى قوله عليه السلام: (إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذخ بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذخ بإشراف نفس كان كالذى يأكل ولا يشبع) . فدل هذا المعنى أن المؤمن الذى وصفه النبى عليه السلام أنه يأكل معاء واحد هو التام الإيمان المقتصد فى مطعمه وملبسه الذى قبل وصية نبيه فأخذ المال بسخاوة نفس فبورك له فيه واستراح من داء الحرص. فإن قال قائل: فإن كان معنى الحديث ماذكرت، فما أنت قائل فيما روى عن عمر بن الخطاب أنه كان يأكل صاع تمر حتى تتبع حشفه، ولا أتم من إيمانه. قيل له: من علم بسيرة عمر وتقلله فى مطعمه وملبسه لم يعترض بهذا ولم يتوهم أن قوت عمر كل يوم كان صاع تمر؛ لأنه كان من التقلل فى مطعمه وملبسه فى ابعد الغايات، وكان أشد الناس اقتداء برسول الله فى سيرته، وإنما كان يأكل عمر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 473 الصاع فى بعض الأوقات إذا غالبه الجوع وآلمه فكثيرًا كان يجوع نفسه ولايبلغ من الكل نهمته، وقد كانت العرب فى الجاهلية تمتدح بقلة الأكل وتذم بكثرته، قال الشاعر: يكفيه حزة فلذ ان ألم بها من الشواة ويروى شربه الغمر وقالت أم زرع فى ابن أبى زرع: وتشبعه ذراع الجفرة وقال حاتم الطائى يذم كثرة الأكل: فإنك إن أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا. وقد شبه الله تعالى أكل الكفار بأكل البهائم فقال تعالى: (والذين كفروا ويتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام (أى: أنهم يأكلون بالشرة والنهم كالأنعام؛ لأنهم جهال، وذلك لأن الأكل على ضربين: أكل نهمة وأكل حكمة، فأكل النهمة للشهوة فقط، وأكل الحكمة للشهوة والمصلحة. - باب: الأكل متكأ / 21 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا آكُلُ مُتَّكِئًا) . إنما فعل ذلك والله أعلم توضعًا لله وتذللا له، وقد بين هذا أبو أيوب فى حديثه عن الزهرى: (أن النبى عليه السلام أتاه ملك لم يأتيه قبل تلك المرة ولابعدها فقال: إن ربك يخيرك بين أن تكون عبدًا نبيًا أو ملكًا نبيًا، قال فنظر إلى جبريل كالمستشير له، فأومأ إليه أن يتواضع، فقال: بل عبدًا نبيًا، فما أكل متكئاً) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 474 وقال مجاهد: (لم يأكل النبي (صلى الله عليه وسلم) متكأ قط إلا مرة، ففزع فجلس فقال: اللهم أنا عبدك ورسولك) . قال المؤلف: من أكل متكئًا فلم يأت حرامًا، وإنما يكره ذلك؛ لأنه خلاف التواضع الذى اختاره الله لأنبيائه وصفوته من خلقه، وقد أجاز ابن سيرين والزهرى الأكل متكئا. - باب الشواء وقوله تعالى: (فجاء بعجل حنيذ (مشوي / 22 - فيه: ابْن عَبَّاس، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، أُتِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِضَبٍّ مَشْوِىٍّ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ لِيَأْكُله، فَقِيلَ: إِنَّهُ ضَبٌّ. . . الحديث. قَالَ مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ. قال صاحب العين: حنذت اللحم أحنذه إذا شويته بالحجارة المسخنة، واللحم حنيذ حنذ، والشمس تحنذ أيضًا. وفيه: صاحب جواز أكل الشواء؛ لأنه عليه السلام أهوى ليأكل منه، ولو كان مما لا يقتذر أكله غير الضب. - باب الخزيرة قَالَ النَّضْرُ: الْخَزِيرَةُ مِنَ النُّخَالَةِ وَالْحَرِيرَةُ مِنَ اللَّبَنِ. / 23 - فيه: عِتْبَان، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى أَنْكَرْتُ بَصَرِى - الحديث - فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، وَحَبَسْنَاهُ عَلَى خَزِيرٍ صَنَعْنَاهُ. . . . الحديث. وذكر الطبري أن الخزيرة شيء يتخذ كهيئة العصيدة غير أنه أرق منها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 475 - باب الأقط / 24 - فيه: أَنَس: بَنَى النَّبِى عليه السلام بِصَفِيَّةَ، فَأَلْقَى التَّمْرَ وَالأقِطَ وَالسَّمْنَ. / 25 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَهْدَتْ خَالَتِى إِلَى النَّبِى عليه السلام ضِبَابًا وَأَقِطًا وَلَبَنًا. . . الحديث. الأقط: هو شىء يصنع من اللبن، وذلك أن يؤخذ ماء اللبن فيطبخ فكلما طفا عليه من بياض اللبن شىء جمع فى إناء فذلك الأقط، وهو أطعمة العرب. - باب: السلق والشعير / 26 - فيه: سَهْل، إِنْ كُنَّا لَنَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تَأْخُذُ أُصُولَ السِّلْقِ، فَتَجْعَلُهُ فِى قِدْرٍ لَهَا، فَتَجْعَلُ فِيهِ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ، إِذَا صَلَّيْنَا زُرْنَاهَا، فَقَرَّبَتْهُ إِلَيْنَا، وَكُنَّا نَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَمَا كُنَّا نَتَغَدَّى وَلا نَقِيلُ إِلا بَعْدَ الْجُمُعَةِ، وَاللَّهِ مَا فِيهِ شَحْمٌ وَلا وَدَكٌ. فيه ماكان السلف عليه من الاقتصار فى مطعمهم وتقللهم واقتصارهم على الدون من ذلك، ألا ترى حرصهم على السلق والشعير، وهذا يدل أنهم كانوا لايأكلون ذلك فى كل وقت ولم تكن همتهم اتباع شهواتهم، وإنما كانت همتهم من القوت فيما يبلغهم المحل ويدفعون سورة الجوع بما يمكن، فمن كان حريصًا أن يكون فى الآخرة مع صالح سلفه فليسلك سبيلهم وليجر على طريقتهم وليقتد بهديهم، والله أعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 476 - باب: النهس وانتشال اللحم / 27 - فيه: ابن سيرين، عن ابْنِ عَبَّاسٍ، تَعَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام كَتِفًا، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. وَقَالَ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: انْتَشَلَ النَّبِى عليه السلام عَرْقًا مِنْ قِدْرٍ فَأَكَلَ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. لا يصح لابن سيرين سماع من ابن عباس ولا من ابن عمر، وإنما يسند الحديث برواية عكرمة عن ابن عباس. وقال أهل اللغة: نهس الرجل والسبع اللحم نهسًا: قبض عليه ثم نتره، والنهس والنهش عند الأصمعى واحد، وخالفه أبو زيد وغيره، فقالوا: النهس بمقدم الفم كنهس الحية، وانتشال اللحم نتفه وقطعه، يقال: نشلت اللحم من المرق نشلاً: أخرجته منه، وقال بعضهم نشلت اللحم نشلا: إذا أخذت بيدك عضوًا فانتشلت ماعليه، وتعرق اللحم: إذا أكله على عظمه. - باب: تعرق العضد / 28 - فيه: أَبُو قَتَادَةَ، أَنَّهُ كَانَ غَيْرُ مُحْرِمٍ، فِى طَرِيقِ مَكَّةَ، فَرأى حِمَارًا وَحْشِيًّا، فعقره. . . . وذكر الحديث، إلى قوله: فَنَاوَلْتُ النَّبِىّ الْعَضُدَ، فَأَكَلَهَا فَتَعَرَّقَهَا، وَهُوَ مُحْرِمٌ قال صاحب العين: تعرقت العظم وأعرقته وعرقته أعرقه عرقًا؛ أكلت ماعليه، والعراق العظم بال لحم، فإن كان عليه لحم فهو عرق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 477 - باب: قطع اللحم بالسكين / 29 - فيه: عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ، أَنَّهُ رَأَى النَّبِى عليه السلام يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فِى يَدِهِ، فَدُعِى إِلَى الصَّلاةِ، فَأَلْقَاهَا وَالسِّكِّينَ الَّتِى يَحْتَزُّ بِهَا، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. هذا الحديث يرد حديث أبى معشر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله: (لا تقطعوا اللحم بالسكين؛ فإنه من صنيع الأعاجم، وانهشوه فإنه أهنأ وأمرأ) قال أبو داود: وهو حديث ليس بالقوى. - باب: ما عاب النبى عليه السلام طعامًا / 30 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، مَا عَابَ النَّبِىُّ عليه السلام طَعَامًا قَطُّ، إِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ. هذا من حسن الأدب على الله تعالى لأنه إذا عاب المرء ما كرهه من الطعام فقد رد على الله رزقه، وقد يكره بعض الناس من الطعام مالايكرهه غيره، ونعم الله تعالى لا تعاب وإنما يجب الشكر عليها، والحمد لله لأجلها؛ لأنه لا يجب لنا عليه شىء منها، بل هو متفضل فى إعطائه عادل فى منعه. - باب: النفخ فى الشعير / 31 - فيه: أَبُو حَازِم، أَنَّهُ سَأَلَ سَهْلا: هَلْ رَأَيْتُمْ فِى زَمَانِ النَّبِى عليه السلام النَّقِيَّ؟ قَالَ: لا، فَقُلْتُ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَنْخُلُونَ الشَّعِيرَ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنْ كُنَّا نَنْفُخُهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 478 وفي هذا الحديث أيضًا ماكان عليه السلف من التخشن فى مأكلهم وترك الترقيق لها والتباين فيها، وكانوا فى سعة من تنحيله؛ لأن ذلك مباح لهم فآثروا التخشن وتركوا التنعيم ليقتدى بهم من يأتي بعدهم، فخالفناهم فى ذلك وآثرنا الترقيق فى مأكلنا، ولم نرض بما رضوا به من ذلك رضوان الله عليهم فكيف نرجو اللحاق بهم؟ . - باب: ما كان النبي عليه السلام وأصحابه يأكلون / 32 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَسَمَ النَّبِى عليه السلام يَوْمًا بَيْنَ أَصْحَابِهِ تَمْرًا، فَأَعْطَى كُلَّ إِنْسَانٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَانِى سَبْعَ تَمَرَاتٍ إِحْدَاهُنَّ حَشَفَةٌ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِنَّ تَمْرَةٌ أَعْجَبَ إِلَىَّ مِنْهَا، شَدَّتْ فِى مَضَاغِى. / 33 - وفيه: قَيْسٍ، عَنْ سَعْدٍ، رَأَيْتُنِى مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، سابع سبعة، مَا لَنَا طَعَامٌ إِلا وَرَقُ الْحُبْلَةِ - أَوِ الْحَبَلَةِ - حَتَّى يَضَعَ أَحَدُنَا مَا تَضَعُ الشَّاةُ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِى عَلَى الإسْلامِ خَسِرْتُ إِذًا وَضَلَّ سَعْىِ. / 34 - وفيه: أَبُو حَازِم، سَأَلْتُ سَهْلاً، هَلْ أَكَلَ النَّبِىّ عليه السلام النَّقِيَّ؟ فَقَالَ سَهْلٌ: مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام النَّقِى مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، قَالَ: فَقُلْتُ: هَلْ كَانَتْ لَكُمْ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام مَنَاخِلُ؟ قَالَ: مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام مُنْخُلا مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ حَين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 479 قَبَضَهُ. قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ الشَّعِيرَ غَيْرَ مَنْخُولٍ؟ قَالَ: كُنَّا نَطْحَنُهُ وَنَنْفُخُهُ، فَيَطِيرُ مَا طَارَ، وَمَا بَقِى ثَرَّيْنَاهُ فَأَكَلْنَاهُ. / 35 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ فَدَعَوْهُ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ، وَقَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام مِنَ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ. / 36 - وفيه: أَنَس، مَا أَكَلَ النَّبِى عليه السلام عَلَى خِوَانٍ، وَلا فِى سُكْرُجَةٍ، وَلا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ. / 37 - وفيه: عَائِشَةَ، مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ الْبُرِّ ثَلاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ. قال الطبرى: إن قال قائل: ماوجه هذه الأخبار ومعانيها وقد علمت صحة الخبر عن النبى أنه كان يرفع مما أفاء الله عليه من النضير وفدك قوته وقوت عياله لسنة ثم يجعل مافضل من ذلك فى الكراع والسلاح عدة فى سبيل الله، وأنه بين اربعة أنفس زهاء الف بعير من نصيبه مما أفاء الله عليه من أموال هوازن، وأنه ساق فى حجة الوداع مائة بعير فنحرها وأطعمها المساكين، وأنه كان يأمر للأعرابى يسلم بقطيع من الغنم. هذا مع ما يكثر تعداده من عطاياه التى لايذكر مثلها عمن تقدم قبله من ملوك الأمم السالفة مع كونه بين ارباب الأموال الجسام كابى بكر الصديق وعمر وعثمان وأمثالهم فى كثرة الأموال وبذلهم مهجهم وأولادهم، وخروج أحدهم من جميع ماله تقربا إلى الله تعالى مع إشراك الأنصار فى أموالهم من قدم عليهم من المهاجرين وبذلهم نفائسها فى ذات الله، فكيف بإنفاقها على رسول الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 480 وبه إليها الحاجة العظمى، وأنكر النكير تضاد الآثار فى ذلك إذ غير جائز اجتماع قشف المعيشة وشظفها والرخاء والسعة فيها فى حال واحدة؟ . قيل: كل هذه الأخبار صحاح ولاشىء منها يدفع غيره ولاينقصه فأما حديث سعد قال: (رأيتنى مع النبى عليه السلام مالنا طعام إلا ورق الحبلة) وغيرها من الأحاديث أنه كان عليه السلام يظل اليوم يتلوى من الجوع مايجد مايملأ بطنه، فإن ذلك كان يكون فى الحين بعد الحين من أجل أن من كان منهم ذا مال كانت تستغرق نوائب الحقوق وماله وموساة الضيفان، ومن قدم عليهم من وفود العرب حتى يقل كثيره أو يذهب جميعه. وكيف لا يكون كذلك وقد روينا عن عمر أن النبى أمر بالصدقة فجاء أبو بكر الصديق بجميع ماله فقال: هذا صدقة لله، فكيف يستنكر لمن هذا فعله أن يملق صاحبه ثم لا يجد السبيل إلى سد جوعته وإرفاقه بمايغنيه؛ وعلى هذه الخليفة كانت خلائق أصحابه، كالذى ذكر عن عثمان أنه كهز جيشًا من ماله حتى لم يفقدوا حبلا ولاقتبًا، وكالذى روى عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله حث على الصدقة فجاء بأربعة آلاف دينار صدقة، فمعلوم أن من كانت هذه أخلاقه وأفعاله أنه لا يخطئه أن تأتى عليه التارة من الزمان والحين من الايام مملقًا لاشىء له، إلا أن يثوب له مال. فبان خطأ قول القائل: كيف يجوز أن يرهن النبى درعه عند اليهود بوسق شعير، وفى أصحابه من أهل الغنى والسعة من لايجهل موضعه؟ أم كيف يجوز أن يوصف أنه كان يطوى الأيام ذوات العدد خميصًا وأصحابه يمتهنون أموالهم لمن هو دونه من أصحابه، فكيف له الجزء: 9 ¦ الصفحة: 481 إذ كان معلومًا وجوده وكرمه عليه السلام وإيثاره ضيفانه القادمين عنده من الأقوات والأموال على نفسه. واحتماله المشقة والمجاع فى ذات الله، ومن كان كذلك هو واصحابه فغير مستنكر لهم حال ضيق يحتاجون معها إلى الاستسلاف وإلى طى الأيام على المجاعة والشدة وأكلهم ورق الحبلة. فأما ما روى عنه: (أنه لم يشبع من البر ثلاثة أيام تباعًا حتى قبض) فإن البر كان بالمدينة قليلاً، وكان الغالب عليهم الشعير والتمر فغير نكير أن يؤثر قوت أهل بلده ويكره أن يخص نفسه لما لاسبيل للمسلمين إليه من الغذاء، وهذا هو الأشبه بأخلاقه عليه السلام. وما روى عنه أنه خرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير، فإن ذلك لم يكن منه فى كل أحواله لعوز ولا ضيق وكيف ذلك وقد كان الله أفاء عليه قبل وفاته بلاد العرب كلها ونقل إليه الخراج من بعض بلاد العجم كأيله والبحرين وهجر؛ ولكن كان بعضه لما وصفت من إيثار نوائب حقوق الله، وبعضه كراهية منه الشبع وكثرة الأكل، فإنه كان يكرهه ويؤدب أصحابه به. وروى عن زيد وهب، عن عطية بن عامر الجهنى قال: (أكره سلمان على طعام يأكله فقال: حسبى؛ فإنى سمعت النبى عليه السلام يقول: إن أكثر الناس شبعًا فى الدنيا أطولهم جوعًا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 482 في الآخرة) وروى أسد ابن موسى من حديث عون بن أبى جحيفة عن أبيه قال: (أكلت ثريدة بر بلحم سمين، فأتيت النبى عليه السلام وأنا أتجشأ، فقال: اكفف عليك من جشائك أبا جحيفة، فإن أكثر الناس شبعًا فى الدنيا أطولهم جوعًا فى الآخرة) فما أكل أبو جحيفة ملىء جحيفة ملء بطنه فارق الدنيا كان إذا تغذى لايتعشى وإذا نعتشى لايتغدى. وعلى إيثار الجوع وقله الشبع مع وجود السبيل إليه مرة وعدمه أخرى مضى الخيار من الصحباة والتابعين، وروى وهب بن كيسان، عن جابر قال: (لقينى عمر بن الخطاب ومعى لحم اشتريته بدرهم، فقال: ما هذا؟ فقلت: ياأمير المؤمنين، اشتريته للصبيان والنساء. فقال عمر: لا يشتهى أحدكم شيئًا إلا وقع فيه أو لا يطوى أحدكم بطنه لجاره وابن عمه، أين تذهب عنكم هذه الآية: (أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) ؟ . وقال هشيم عن منصور، عن ابن سيرين: (أن رجلاً قال لابن عمر: اجعل جوارشنا؟ قال: ما هو؟ قال: شىء إذا كظمك الطعام فأصبت منه سهل عليك. قال ابن عمر: ماشبعت منذ أربعة أشهر، وماذاك إلا أكون له واجدًا، ولكنى عهدت قومًا يشبعون مرة ويجوعون مرة) . وقال الزهرى: (إن عبد الله بن مطيع قال لصفية: لو ألطفت هذا الشيخ - يعنى ابن عمر - قالت: إن عبد الله بن مطيع قال لصفية: لو ألطفت هذا الشيخ - يعنى ابن عمر - قالت: قد أعيانى أن لا يأكل إلا ومعه آكل فو كلمته. قال: فكلمته، فقال: الآن تأمرنى بالشبع ولم يبق من عمرى إلا ظمء حمار، فما شبعت منذ ثمانى سنين) . وقال مجاهد: لو أكلت كل ماأشتهى ماسويت حشفة. وقال الفضيل: خصلتان تقسيان القلب: كثرة الأكل والكلام. وقوله: (ثم أصبحت بنو أسد تعزرنى على الإسلام) يعنى: يقومونى عليه ويعلمونيه، من قولهم: (عزر السلطان فلانًا إذا أدبه وقومه) . وأصل العزير التأديب، ولهذا سمى الضرب دون الحد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 483 تعزيرًا، وكان هذا القول عن سعد حين شكاه أهل الكوفة إلى عمر وقالوا: إنه لايحسن الصلاة وعمر بن الخطاب من بنى أسد. وفيه من الفقه أنه لابأس أن يذكر الرجل فضائله وسوابقه فى الإسلام عندما ينتقصه أهل الباطل ويضعون من قدره، ولايكون ذكره لفضائله من باب الفخر المنهى عنه. وقال صاحب العين: الحبلة: بضم الحاء ثمر العضاة، والحبلة: بفت الحاء والباء قضبان الكرم. وقال أبو حنيفة: الزرجون حبلة وجمعها حبل. وقال صاحب العين: والحبلة أيضًا ضرب من الشجر. وقوله: (شاة مصلية) يعنى: مشوية، يقال: صليت اللحم أصلية صليا: شويته، فالصلاء: الشواء، وأصليته: ألقيته فى النار. باب التلبينة / 38 - فيه: عَائِشَةَ، سَمِعْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يَقُول: (التَّلْبِينَةُ مُجِمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ) . وقد تقدم فى كتاب الطب. - باب الثريد / 39 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) : (كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 484 / 40 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ) . / 41 - وفيه: أَنَس، دَخَلْتُ مَعَ النَّبِى عليه السلام عَلَى غُلامٍ لَهُ خَيَّاطٍ، فَقَدَّمَ إِلَيْهِ قَصْعَةً فِيهَا ثَرِيدٌ، قَالَ: وَأَقْبَلَ عَلَى عَمَلِهِ. . . . الحديث. قال المؤلف: الثريد أزكى الطعام بركة، وهو طعام العرب وقد شهد له النبى بالفضل على سائر الطعام وكفى بذلك تفضيلا له وشرفًا. فإن قال قائل: فقد شهد النبى عليه السلام بالكمال لمريم وآسية، ثم قال: (وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) ولايبين فى ظاهر هذا اللفظ تفضيل مريم وآسية على عائشة ولافضل عائشة عليهما. فالجواب فى ذلك أن التفضيل لا يدرك بالرأى، وإنما يؤخذ بالتوقيف، فإذا عدم التوقيف بالقطع فى ذلك رجع إلى الدلائل، وقد اختلفت الدلائل فى ذلك لاحتمال اللفظ للتأويل. فمما استدل به من فضل مريم على عائشة قوله تعالى لمريم: (إن الله اصطفاك) أى: اختارك وطهرك من الكفر، عن مجاهد والحسن. وقيل: وطهرك من الأدناس: الحيض والنفاس، عن الزجاج وغيره. وقوله: (واصطفاك على نساء العالمين) يدل على تفضيلها على جميع نساء الدنيا؛ لأن العالمين جمع عالم، ألا ترى أن الله جعلها وأبنها آية أن ولدت من غير فحل، وهذا شىء لم يخص به غيرها من نساء الدنيا وجاءها جبريل ولم يأت غيرها من النساء قال تعالى: (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرًا سويًا. .) إلى (زكياً) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 485 وقال ابن وهب صاحب مالك صاحب مالك بنوتها واختاره أبو إسحاق الزجاج وهو إمام سنة، وهو قول أبى بكر بن اللباد فقيه المغرب، وقول أبى محمد بن أبى زيد، وأبى الحسن بن القابس، وعلى هذا القول يكون أول الحديث على العموم فى مريم وآسية وآخره على الخصوص فى عائشة، ويكون المعنى فضل مريم ولآسية على جميع نساء كل عالم، وفضل عائشة على نساء عالمها خاصة. وأبى هذا طائفة أخرى، وقالوا: بفضل عائشة على جميع النساء ولم يقولوا بنبوة مريم ولا أحد من النساء، وحملوا آخر الحديث على العموم وأوله على الخصوص وقالوا: قوله تعالى: (يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك) و (اصطفاك على نساء العالمين) يعنى عالم زمانها وهو الحسن وابن جريح، ويكون قوله: (فضل عائشة) على نساء الدنيا كلها، ومن حجتهم على ذلك قوله عز وجل: (كنتم خير أمة أخرجن للناس) فعلم بهذا الخطاب أن المسلمين أفضل جميع الأمم، ألا ترى قوله عز وجل: (وكذلك جعلناهم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس) والوسط: العدل عند أهل التأويل فدل هذا كله أن من شهد له النبى بالفضل من أمته وعينه فهو أفضل ممن شهد له بالفضل من الأمم الخالية، ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى: (يا نساء النبى لستن كأحد من النساء) فدل عموم هذا اللفظ على فضل أزواجه على كل من قبلهن وبعدهن، وأجمعت الأمة أن نبينا محمدًا أفضل من جميع الأنبياء، فكذلك نساؤه لهن من الفضل على سائر الدنيا ماللنبى على سائر الأنبياء، وقد صح أن نساءه معه فى الجنة، ومريم مع ابنها، وابنها فى الجنة، ودرجة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 486 محمد في الجنة فوق درجة هؤلاء كلهم. والله أعلم بحقيقة الفضل فى ذلك. - باب: الشاة المسموطة والكتف والجنب / 42 - فيه: قَتَادَةَ، كُنَّا نَأْتِى أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ، ثُمّ قَالَ: كُلُوا، فَمَا أَعْلَمُ النَّبِى عليه السلام رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ، وَلا رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ. / 43 - وفيه: جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِىِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَدُعِىَ إِلَى الصَّلاةِ فَقَامَ فَطَرَحَ السِّكِّينَ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. إن قال قائل: كيف يتفق قول أنس بن مالك: (ما أعلم أن الرسول رأى سميطًا بعينه قط) مع قول عمرو بن أمية: (أنه رأى النبى عليه السلام يحتز من كتف شاة) مع ما روى الترمذى قال: حدثنا الحسن بن محمد الزعفرانى حدثنا حجاج بن محمد حدثنا ابن جريج أخبرنى محمد بن يوسف أن عطاء بن يسار أخبره أن أم سلمة أخبرته: (أنها قربت إلى رسول الله عليه السلام جنبًا مشويًا، فأكل منه ثم قام إلى الصلاة وما توضأ) قال الترمذى: وهذا حديث صحيح غريب، وفى الباب عن عبد الله بن الحارث والمغيرة وأبى رافع. قال المؤلف: فالجواب أن قول أنس يحتمل تأويلين: أحدهما: أن يكون النبى عليه السلام لم يتفق له قط أن تسمط له شاة بكمالها، لأنه قد احتز من الكتف مرة ومن الجنب أخرى، وذلك لحم مسموط لا محالة. والثانى: أن أنسًا قال: لا أعلم ولم يقطع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 487 على أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يأكل لحمًا مشويًا، فأخبربما علم وأخبر عمرو ابن أمية أم سلمه وغيرها أنه رأى النبى يحتز من الكتف والجنب المشوى، وكل واحد أخبر بما علم، وليس قول أنس برافع قول من علم لأن من علم حجه على من لم يعلم؛ لأنه زاد عليه فوجب قبول الزيادة. والمسموطة: المشوية بجلها، قال صاحب العين: سمطت الجمل أسمطة سمطأط: تنقيته من الصوف بعد إدخاله فى الماء الحار. وقال صاحب الأفعال: سمطت الجدى، وغيره: علقه من السموط، وهى معاليق من سيور تعلق من السرج. - باب ما كان السلف يدخرون فى بيوتهم وأسفارهم من الطعام واللحم وغيره وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَأَسْمَاءُ: صَنَعْنَا لِلنَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَأَبِى بَكْرٍ سُفْرَةً. / 44 - فيه: عَائِشَةَ، سئلت أَنَهَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الأضَاحِى فَوْقَ ثَلاثٍ، قَالَتْ: مَا فَعَلَهُ إِلا فِى عَامٍ جَاعَ النَّاسُ فِيهِ، فَأَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ الْغَنِى الْفَقِيرَ، وَإِنْ كُنَّا لَنَرْفَعُ الْكُرَاعَ، فَنَأْكُلُهُ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ، قِيلَ مَا اضْطَرَّكُمْ إِلَيْهِ؟ فَضَحِكَتْ، قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ عليه السلام مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ. / 45 - وفيه: جَابِر، كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الْهَدْىِ عَلَى عَهْدِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) إِلَى الْمَدِينَةِ. هذا الباب رد على الصوفية فى قولهم إنه لايجوز ادخالر طعام الغد، وأن المؤمن الكامل الإيمان لا يستحق اسم الولاية لله حتى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 488 يتصدق بما فضل عن شبعه ولا يترك طعامًا لغد ولايصبح عنده شىء من عين ولا عرض ويمسى كذلك ومن خالف ذلك فقد اساء الظن بالله ولم يتوكل عليه حق توكله، وهذه الآثار ثابتة بإدخار الصحابة وتزود النبى وأصحابه فى أسفارهم وهى المقنع والحجة الكافية فى رد قولهم، والله الموفق. وقد تقدم فى كتاب الخمس فى حديث مالك بن أوس بن الحدثان قول عمر لعلى والعباس حين جاءا يطلبان ماأفاء الله على رسوله من بنى النضير إلى قول عمر: (فكان النبى ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال) وقد صح بهذا إدخاره عليه السلام لأهله قوت سنتهم وفيه الأسوة الحسنة، وفى باب نفقة نساء النبى عليه السلام وبعد وفاته. فى كتاب الخمس أيضًا استقصاء الحجة فى هذه المسألة والأحاديث المعارضة. - باب الحيس / 46 - فيه: أَنَس: (أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بنى بصفية بنت حى بالصهباء حين أقبلنا من خيبر صنع حيسا فِى نطع ثُمَّ أرسلنى فدعوت رجالاً فأكلوا. . الحديث) . والحيس عند العرب خلط الأقط بالسمن والتمر تقول حته حيسًا وحيسة، عن صاحب العين، وقد تقدم فى النكاح. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 489 - باب الأكل فى إناء مفضض / 47 - فيه: ابْن أَبِى لَيْلَى، أَنَّ حُذَيْفَةَ اسْتَسْقَى فَسَقَاهُ مَجُوسِىٌّ فَلَمَّا وَضَعَ الْقَدَحَ فِى يَدِهِ رَمَاهُ بِهِ، وَقَالَ: لَوْلا أَنِّى نَهَيْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلا مَرَّتَيْنِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَمْ أَفْعَلْ هَذَا، وَلَكِنِّى سَمِعْتُ النَّبِى عليه السلام يَقُولُ: (لا تَشْرَبُوا فِى آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلا تَأْكُلُوا فِى صِحَافِهَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِى الدُّنْيَا وَلَك فِى الآخِرَةِ) . قد تقدم هذا فى كتاب الأشربة روى ابن القاسم عن مالك أنه كره مداهن الفضة، والاستجمار فى آنية الفضة، والمرأة فيها حلقة فضة لنهيه عليه السلام عن استمال آنية الذهب والفضة، وقال: هى لهم فى الدنيا يعنى الكفار ولكم فى الآخرة. - باب ذكر الطعام / 48 - فيه: أَبُو مُوسَى، قال النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الأتْرُجَّةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِى لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلِ التَّمْرَةِ، لا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ. . .) الحديث. / 49 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ) . / 50 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ. . .) . قال المؤلف: معنى هذه الترجمة - والله أعلم - إباحة أكل الطعام الجزء: 9 ¦ الصفحة: 490 الطيب وكراهة أكل المر، وأن الزهد ليس فى خلاف ذلك ألا ترى أن النبى عليه السلام شبه المؤمن الذى يقرأ القرآن بالأترجة التى طعمها طيب وريحها طيب، وشبه المؤمن الذى لايقرأ بالتمرة طعمها طيب ولاريح لها، ففى هذا الترغيب فى أكل الطعام الطيب وأكل الحلو، ولو كان الزهد فيه أفضل لماشبه النبى - عليه السلام - ذلك مرة بقرأة القرآن ومرة بالإيمان، فكما يفضل المؤمن بقرأة القرآن وبالإيمان فكذلك فضل الطعام الطيب سائر الطعام، ويشهد لهذا أنه فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، وهذا تنبيه منه على أكل الثريد واستعماله لفضله، وتشبيهه المنافق بالحنظلة والريحانة اللتين طعمهما مر؛ فذلك غاية الذم للطعام المر، إلا أن السلف كرهوا الأكثار من أكل الطيبات وإدمانها خشية أن يصير ذلك لهم عادة، فلا تصبر نفوسهم على فقدها رياضة لهم وتذليلا وتواضعًا. فإن قيل: فما معنى حديث أبى هريرة وليس فيه ذكر أفضل الطعام ولا أدناه؟ قيل: يحتمل أن يريد به أن ابن آدم لابد له فى الدنيا من طعام يقيم به جسده ويقوى به على طاعة ربه، وأن الله تعالى جبل النفوس على الأكل والشرب والنوم وذلك قوام الحياة، والناس فى ذلك بين مقل ومكثر، فالمؤمن يأخذ من ذلك قدر إيثاره للآخر والدنيا. - باب الأدم / 51 - فيه: عَائِشَةُ، أَن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) دَخَلَ بَيْتَها وَعَلَى النَّارِ بُرْمَةٌ تَفُورُ، فَدَعَا بِالْغَدَاءِ، فَأُتِىَ بِخُبْزٍ وَأُدْمٍ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ، فَقَالَ: (أَلَمْ أَرَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 491 لَحْمًا) ؟ قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَأَهْدَتْهُ لَنَا، فَقَالَ: (هُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا، وَهَدِيَّةٌ لَنَا) . قال الطبرى: فى هذا الحديث البيان البين أن النبى - عليه السلام كان يؤثر فى طعامه اللحم على غيره إذا وجد إليه سبيلا، وذلك أنه لما رأى اللحم فى منزله قال: (ألم أر لحمًا؟ فقالوا: إنه تصدق به على بريرة) فدل هذا على إيثاره عليه السلام للحم إذا وجد إليه السبيل، لأنه قال ذلك بعد أن قرب إليه أدم من أدم البيت، فالحق على كل ذى لب أن يؤثر اللحم على طعامه لإيثار النبى له ولما حدثنا سعيد بن عنبسه الرازى حدثنا أبو عبيدة الحداد حدثنا أبو هلال، عن ابن بريدة عن أبيه أن النبى عليه السلام قال: (سيد الإدام فى الدنيا والآخرة اللحم) . فإن قيل: فقد قال عمر بن الخطاب لرجل رآه يكثر الاختلاف إلى القصابين: اتقوا هذه المجازر على أموالكم، فإن لها ضرواة كضراوة الخمر، وعلاه بالدرة. وقال أبو أمامة: إنى لأبغض أهل اليت أن يكونوا لحميين. قيل: وما اللحميون؟ قال: يكون لهم قوت شهر فيأكلونه فى اللحم فى أيام. وقد قال يزيد بن أبى حبيب: القنية طعام الأنبياء. وقال ابن عون: ما رأيت على خوان لحمًا يشتريه إلا أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 492 يهدى له، وكان يأكل السمن والكامخ، فيقول: سأصبر على هذا حتى يأذن الله بالفرج. قال الطبرى: وهذه أخبار صحاح ليس فيها خلاف لشىء مماتقدم، فأما كراهة عمر فإنما كان خوفًا منه عليه الاحجاف بماله لكثرة شرائه اللحم إذ كان اللحم قليلاً عندهم، وأراد أن يأخذ بحظه من ترك شهوات الدنيا وقمع نفسه، يدل على ذلك قوله لابنه: كفى بالمرء سرفًا أن يأكل كل ما اشتهى، وأما أبو أمامة فقد أخبر بالعلة التى لها كره أن يكون أهل البيت لحميين وهو تبذيرهم وتدميرهم. وأما ابن سيرين فإنما ترك شراء اللحم؛ إذ لزمه الدين وفلس من أجله، فلم يكن عنده لها فضاء، والحق عليه مافعل من التقصير فى عيشه وترك التوسع فى مطعمه حتى يؤدى ماعليه لغرمائه، وكان إذا وجده من غير الشراء لم يؤثر عليه غيره. وأما قول يزيد بن أبى حبيب أن القطنية طعام الأنبياء، فمعنى ذلك والله أعلم نحو معنى فعل عمر فى تركه ذلك إشفاقًا ممن يكون بأكله مم يكون فى جملة من أذهب طيباته فى حيانه الدنيا مع أن التأسى بنبينا عليه السلام لايؤثر على اللحم شيئًا ما وجد إليه السبيل. حدثنى محمد بن عمار الرازى حدثنا سهل بن بكار حدثنا أبو عوانة، عن الأسود بن قيس، عن نبيح العنزى، عن جابر بن عبد الله قال: (ذبحت للنبى عليه السلام عناقًا واصحلتها، فلما وضعتها بين يديه، نظر إلى وقال: كأنك قد علمت حبنا اللحم) . وبمثل الذى قلنا كان السلف يعملون، روى الأعمش عن أبى عباد عن أبى عمرو الشيبانى قال: (رأى عبد الله مع رجل دراهم فقال: ما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 493 تصنع بها؟ قال: أشترى بها سمنًا. قال: أعطها أمراتك تضعها تحت فراشها، ثم اشتر كل يوم بدرهم لحمًا. وكان للحسن كل يوم لحم بنصف درهم، وقال ابن عون: إذا فاتنى اللحم فما أدرى ما أئتدم) . 30 - باب: الحلواء والعسل / 52 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ. / 53 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، كُنْتُ أَلْزَمُ رسُول عليه السلام لِشِبَعِ بَطْنِى حِينَ لا آكُلُ الْخَمِيرَ، وَلا أَلْبَسُ الْحَرِيرَ، وَلا يَخْدُمُنِى فُلانٌ وَلا فُلانَةُ، وَأُلْصِقُ بَطْنِى بِالْحَصْبَاءِ، وَأَسْتَقْرِئُ الرَّجُلَ الآيَةَ - وَهِى مَعِى - كَى يَنْقَلِبَ بِى فَيُطْعِمَنِى، وَخَيْرُ النَّاسِ لِلْمَسَاكِينِ جَعْفَرُ بْنُ أَبِى طَالِبٍ، يَنْقَلِبُ بِنَا، فَيُطْعِمُنَا مَا كَانَ فِى بَيْتِهِ حَتَّى إِنْ كَانَ لَيُخْرِجُ إِلَيْنَا الْعُكَّةَ لَيْسَ فِيهَا شَىْءٌ، فَنَشْتَقُّهَا، فَنَلْعَقُ مَا فِيهَا. الحلواء والعسل من جملة الطيبات المباحة فى قوله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا لاتحرموا طيبات ماأحل الله لكم) وقوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق) على قول من ذهب إلى أن الطيبات من الرزق فى الآية المستلذ من الطعام، ودل حديث عائشة على صحة هذا التأويل لمحبة رسول الله الحلواء والعسل، وأن ذلك من طعام الصالحين والأبرار اقتداء بحب النبى عليه السلام لهما، ودخل فى معنى هذا الحديث كل ماشاكل الحلواء والعسل من أنواع المآكل اللذيذة الحلوة المطعم، كالتمر والتين والزبيب والعنب، والرمان ذلك من الفواكه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 494 وفي حديث أبي هريرة من الفقه الاقتصاد فى المعيشة والأخذ منها بالبلغة الباعثه على الزهد فى الدنيا. وفيه فضل جعفر بن أبى طالب ووصفه بالكرم والتواضع لتعاهده للمساكين وإطعامه لهم فى بيته وإكرامهم بذلك، وفى قول أبى هريرة: (إن كان ليخرج إلينا العكة ليس فيها شىء فنشتقها ونلعق ما فيها) جواز الصدقة باشىء التافه؛ لأن ذلك لايخلو أن يكون فيه مثاقيل ذر كثيرة. 31 - باب الرجل يتكلف لإخوانه الطعام / 54 - فيه: أَبُو مَسْعُود، كَانَ مِنَ الأنْصَارِ رَجُلٌ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو شُعَيْبٍ، وَكَانَ لَهُ غُلامٌ لَحَّامٌ، فَقَالَ: اصْنَعْ لِى طَعَامًا أَدْعُو النَّبِىّ عليه السلام خَامِسَ خَمْسَةٍ، فَدَعَا النَّبِىّ عليه السلام خَامِسَ خَمْسَةٍ، فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّكَ دَعَوْتَنَا خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَهَذَا رَجُلٌ قَدْ تَبِعَنَا، فَإِنْ شِئْتَ أَذِنْتَ لَهُ، وَإِنْ شِئْتَ تَرَكْتَهُ) ، قَالَ: بَلْ أَذِنْتُ لَهُ. قال المؤلف: فيه الترجمة وأنه فى باب ماقيل فى اللحام والجزار وقد تقدم هنالك الكلام فى هذا الحديث وذكرت فيه وجه قوله (صلى الله عليه وسلم) : (هذا رجل قد تبعنا فإن شئت أذنت له) ولم يقل ذلك لأبى طلحة حين حمل جماعة أصحابه مع نفسه إلى طعامه. فتأمله هناك، وقد تقدم أيضًا فى كتاب باب صنع الطعام والتكلف للضيف فى حديث سلمان وأبي الدرداء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 495 32 - باب من أضاف رجلا إلى طعامه وأقبل هو على عمله / 55 - فيه: أَنَس، كُنْتُ غُلامًا أَمْشِى مَعَ النَّبِىّ عليه السلام فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى غُلامٍ لَهُ خَيَّاطٍ، فَأَتَاهُ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، وَعَلَيْهِ دُبَّاءٌ، فَجَعَلَ النَّبِىّ عليه السلام يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ جَعَلْتُ أَجْمَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: فَأَقْبَلَ الْغُلامُ عَلَى عَمَلِهِ، قَالَ أَنَسٌ: مَا أَزَالُ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ بَعْدَ مَا رَأَيْتُ النَّبِىّ عليه السلام صَنَعَ مَا صَنَعَ. فى هذا الحديث حجة أن للمضيف أن يقدم الطعام إلى ضيفه ولا يأكل منه، ولايكون ذلك من سوء الأدب بضيفه ولا إخلالا بإكرامه، لأن ذلك صنع بحضرة النبى عليه السلام فلم ينه عنه، ولو كان من دنىء الأخلاق لنهى عنه لأنه بعث معلمًا، ولا أعلم فى الأكل مع الضيف وجهًا غير أنه أبسط لنفسه وأذهب لاحتشامه، فمن قدر على ذلك فهو أبلغ فى بر الضيف، ومن ترك ذلك فواسع إن شاء الله. وقد تقدم فى كتاب ذكر حديث أبى بكر الصديق لامرأته أن تطعم أضيافه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 496 33 - باب المرق / 56 - فيه: أَنَس، أَنَّ خَيَّاطًا دَعَا النَّبِى عليه السلام لِطَعَامٍ صَنَعَهُ، فَذَهَبْتُ مَعَ النَّبِى عليه السلام فَقَرَّبَ خُبْزَ شَعِيرٍ وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ. . . . الحديث. فيه أن السلف كانوا يأكلون الطعام الممرق، وفى بعض الآحاديث: (المرق أحد اللحمين) روى أبو عيسى الترمذى حدثنا الحسين بن على بن الأسود، حدثنا عمرو بن محمد العنقرى، حدثنا إسرائيل، عن صالح بن رستم أبى عامر الخزاز، عن أبى عمران الجونى، عن عبد الله بن الصامت، عن أبى ذر قال النبى - عليه السلام: (لا يحقرن أحدكم شيئًا لحمًا أو طبخت قدرًا فأكثر مرقته وأغرف لجارك منه) قال أبو عيسى: وهذا حديث صحيح، وقد رواه شعبة عن أبى عمران الجونى. وترجم لحديث أنس باب: القديد. / 57 - وفيه: عَائِشَةَ، مَا فَعَلَهُ إِلا فِى عَامٍ جَاعَ النَّاسُ، أَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ الْغَنِىُّ الْفَقِيرَ، وَإِنْ كُنَّا لَنَرْفَعُ الْكُرَاعَ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ. . . . الحديث. فيه: أن القديد كان من طعام النبى عليه السلام وسلف الأمة، وأما قول عائشة: (ما فعله إلا فى عام جاع الناس) تريد نهيه أن يأكلوا من لحوم نسكهم فوق ثلاث من أجل الدافة التى كان بها الجهد فأطلق لهم عليه السلام بعد زوال الجهد الأكل من الضحايا ما شاءوا، ولذلك قالت: (إن كنا لنرفع الكراع بعد خمس عشرة) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 497 34 - باب: من ناول أو قدم إلى أصحابه على المائدة شيئًا وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لا بَأْسَ أَنْ يُنَاوِلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلا يُنَاوِلُ مِنْ هَذِهِ الْمَائِدَةِ إِلَى أُخْرَى. / 58 - فيه: أَنَس، إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا النَّبِىّ عليه السلام لِطَعَامٍ، فَرَأَيْتُ النَّبِىّ عليه السلام يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوْلِ الصَّحْفَةِ، فَجَعَلْتُ أَجْمَعُ الدُّبَّاءَ بَيْنَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) . إنما جاز أن يناول بعضهم بعضًا من على مائدة واحدة لأن ذلك الطعام إنما قدم لهم بأعيانهم ليأكلوا فقد صار من حقوقهم، وهم فيه شركاء، فمن ناول صاحبه مما بين يديه فكأنه آثره بنصيبه ومايجوز له أكله فمباح له ذلك، وقد قال النبى عليه السلام لابن أم سلمة: (كل ما يليك) فجعل ما يليه من المائدة حلالاً له، وأما من كان على مائدة أخرى فلا حق له فى ذلك الطعام ولا شركة، فلذلك كره العلماء أن يناول رجل من كان على مائدة أخرى. باب: الرطب بالقثاء / 59 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِى طَالِبٍ، رَأَيْتُ النَّبِى عليه السلام يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ. / 60 - وفيه: أَبُو عُثْمَانَ، قَالَ: تَضَيَّفْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ سَبْعًا، فَكَانَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَخَادِمُهُ يَعْتَقِبُونَ اللَّيْلَ أَثْلاثًا، يُصَلِّى هَذَا ثُمَّ يُوقِظُ هَذَا، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَسَمَ النَّبِىّ عليه السلام بَيْنَ أَصْحَابهِ تَمْرًا، فَأَصَابَنِى سَبْعُ تَمَرَاتٍ إِحْدَاهُنَّ حَشَفَةٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 498 قال ابن المنذر: ومن لذيذ المطعم جمع الآكل بين الشىء الحار والبارد فى الأكل ليعتلا كان النبى عليه السلام يأطل الرطب بالقثاء، وقد قال: (كلوا البلح بالتمر، فإن الشيطان يغضب ويقول: عاش ابن آدم حتى أكل الجديد والخلق) . 36 - باب الرطب التمر وقوله تعالى: (وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبًا جنيًا ( / 61 - فيه: عَائِشَةَ، تُوُفِّى النَّبِىّ عليه السلام وَقَدْ شَبِعْنَا مِنَ الأسْوَدَيْنِ التَّمْرِ وَالْمَاءِ. / 62 - وفيه: حديث جابر حين طاف النبى فى نخله وبرك فيها وأكل من رطبها، وقضى اليهودى كل ما عليه وبقى له مثل ما قضاه. . . وذكر الحديث. الرطب والتمر من طيب ماخلق الله وأباحه لعباده فهو جل طعام أهل الحجاز وعمدة أقواتهم، وقد دعا إبراهيم عليه السلام لتمر مكة بالبركة، ودعا النبى عليه السلام لتمر المدينة بمثل ما دعا به إبراهيم لمكة ومثله معه، فلا تزال البركة فى تمرهم وثمارهم إلى قيام الساعة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 499 37 - باب: أكل الجمار / 63 - فيه: ابْن عُمَر، بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِى عليه السلام إِذَا أُتِىَ بِجُمَّارِ نَخْلَةٍ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِى النَّخْلَةَ. . . .) الحديث. 38 - باب: العجوة / 64 - فيه: سَعْد، قال النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرُّهُ فِى ذَلِكَ الْيَوْمِ سُمٌّ وَلا سِحْرٌ) . قد تقدم فى كتاب الطب. 39 - باب: القران فى التمر / 65 - فيه: جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ، أَصَابَنَا عَامُ سَنَةٍ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَرَزَقَنَا تَمْرًا، فَكَانَ عَبْدُاللَّهِ يَمُرُّ بِنَا وَنَحْنُ نَأْكُلُ، فَيَقُولُ: لا تُقَارِنُوا، فَإِنَّ النَّبِىَّ عليه السلام نَهَى عَنِ الْقِرَانِ، ثُمَّ يَقُولُ: إِلا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ. قد تقدم فى كتاب الشركة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 500 40 - باب - جمع اللونين أو الطعامين بمرة / 66 - فيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ، رَأَيْتُ النَّبِى عليه السلام يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ. قال المهلب: لا أعلم من نهى عن خلط الأدم، إلا شيئًا يروى عن عمر، ويمكن أن يكون ذلك من السرف، والله أعلم. لأنه كان يمكن أن يأتدم بأحدهما ويرفع الآخر إلى مرة أخرة، ولم يحرم ذلك عمر لأن النبى عليه السلام قد جمع بين إدامين وأكل الرطب بالقثاء وأكل القديد مع الدباء، وقد روى عن النبى عليه السلام مايبين هذا. روى عبد الله بن عمر القواريرى حدثنا حمزة بن نجيح الرقاشى حدثنا سلمة ابن أبى حبيب عن أهل بيت رسول الله (أن رسول الله نزل قباء ذات يوم وهو صائم، فانتظر رجل يقال له أوس بن خولى، حتى إذا دنا إفطاره أتاه بقدح فيه لبن وعسل فناوله رسول الله عليه السلام فذاقه ثم وضعه فى الأرض ثم قال: ياأوس بن خولى ما شرابك هذا؟ قال: لبن وعسل يارسول الله. قال: إنى لا أحرمه، ولكنى أدعه تواضعًا لله، فإنه من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر قصمه الله، ومن بذر أفقر الله، ومن اقتصد أغناه الله، ومن ذكر الله أحبه الله) . 41 - باب: من أدخل الضيفان عشرة عشرة والجلوس على الطعام عشرة عشرة / 67 - فيه: أَنَس، أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ سُلَيْمٍ، عَمَدَتْ إِلَى مُدٍّ مِنْ شَعِيرٍ جَشَّتْهُ، وَجَعَلَتْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 501 مِنْهُ خَطِيفَةً، وَعَصَرَتْ عُكَّةً عِنْدَهَا، ثُمَّ بَعَثَتْنِى إِلَى النَّبِى عليه السلام فَأَتَيْتُهُ، وَهُوَ فِى أَصْحَابِهِ، فَدَعَوْتُهُ، قَالَ: (وَمَنْ مَعِى) ، قَالَ: فَجِئْتُ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ يَقُولُ، وَمَنْ مَعِى، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُو طَلْحَةَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ شَىْءٌ صَنَعَتْهُ أُمُّ سُلَيْمٍ، فَدَخَلَ فَجِىءَ بِهِ، وَقَالَ: (أَدْخِلْ عَلَىَّ عَشَرَةً) ، فَدَخَلُوا فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ قَالَ: (أَدْخِلْ عَلَىَّ عَشَرَةً) ، فَدَخَلُوا فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ قَالَ: (أَدْخِلْ عَلَى عَشَرَةً) ، حَتَّى عَدَّ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ أَكَلَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ قَامَ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ هَلْ نَقَصَ مِنْهَا شَىْءٌ؟ . فيه أن الاجتماع على الطعام من أسباب البركة فيه، وقد روى (أن أصحاب النبى عليه السلام قالوا: يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع. قال: فلعلكم تأكلون وأنتم مفترقون؟ قالوا: نعم. قال: فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله تعالى يبارك لكم) رواه أبو داود، قال: حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا الوليد بن مسلم حدثنا وحشى ابن حرب، عن أبيه، عن جده أن أصحاب النبى عليه السلام قالوا. . . وإنما أدخلهم النبى عليه السلام عشرة عشرة - والله أعلم - ولم يجمعهم كلهم على الأكل لأنها كانت قصعة واحدة فيها مد من شعير ولايمكن مثل هذه الجماعو الكثيرة أن يقدروا على التناول من هذا المقدار القليل، فجعلهم عليه السلام عشرة عشرة ليتمكنوا من الأكل، ولاؤذى بعضهم بعضًا فى التزاحم على الطعام، وليس فى الحديث دليل أنه لايجوز أن يجلس على مائدة أكثر من عشرة كما ظن من لم ينعم النظر فى ذلك لأن أصحاب النبى عليه السلام قد أكلوا فى الولائم مجتمعين. وفيه علامة النبوة لأن الطعام كان مدًا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 502 من شعير وأكل منه أربعون رجلا ببركة النبوة المعصومة، ثم أكل منه النبى بعد ذلك وبقى الطعام على حاله، وهذا من أعظم البراهين وأكبر المعجزات. وقال ابن السكيت: الخطيفة: الدقيق يذر على اللبن ثم يطبخ فيلعقه الناس. 42 - باب: مايكره من أكل الثوم والبصل فيه ابن عمر عن النبى عليه السلام / 68 - وفيه: أَنَس، قيل لَهُ: مَا سَمِعْتَ من النَّبِى عليه السلام يَقُولُ فِى الثُّومِ؟ فَقَالَ: (مَنْ أَكَلَ فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا) . / 69 - وفيه: جَابِرَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلا فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا) . وقد تقدمت هذا فى كتاب الصلاة. 43 - باب: الكباث وهو ورق الأراك / 70 - فيه: جَابِر، كُنَّا مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِمَرِّ الظَّهْرَانِ نَجْنِى الْكَبَاثَ، فَقَالَ: (عَلَيْكُمْ بِالأسْوَدِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ أَيْطَبُ) ، فقيل: أَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَهَلْ مِنْ نَبِىٍّ إِلا رَعَاهَا) ؟ . الكباث ثمر الأراك الغض منه خاصة، والبرير ثمر الأراك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 503 الرطب منه واليابس، وكان هذا فى أول الإسلام عند عدم الأقوات؛ فإذا قد أغنى الله عباده بالحنطة والحبوب الكثيرة وسعة الرزق فلا حاجة بهم إلى ثمر الأراك. وقوله: (أيطب) بمعنى أطيب وهما لغتان بمعنى واحد، ذكره أهل اللغة كما يقال: جذب وجبذ. 44 - باب: المضمضة بعد الطعام / 71 - فيه: سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى خَيْبَرَ، فَلَمَّا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ دَعَا بِطَعَامٍ، فَمَا أُتِىَ إِلا بِسَوِيقٍ، فَأَكَلْنَا، فَقَامَ إِلَى الصَّلاةِ، فَتَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا. المضمضة بعد الطعام سنة مؤكدة، وكان النبى عليه السلام يواظب على فعل ذلك ويحض أمته على تنظيف أفواههم وتطيبها لأنها طرق القرآن، ولذلك قال أبو هريرة: (لولا أن يشق على أمته لأمرهم بالسواك عند كل صلاة) . فالمضمضة بالماء بعد الطعام من أجل الصلاة ومن أجل مباشرة كلام الناس أيضًا تغنى عن السواك، ولا شىء أنظف من الماء، وبه أمر الله أن يطهر كل شىء. وقد روى عن النبى فى وضوء اليدين قبل الطعام وبعده بركة. رواه أبو داود حدثنا موسى بن اسماعيل حدثنا قيس، عن أبى هاشم، عن زاذان، عن سليمان عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . قال ابن المنذر: وليس ذلك بواجب لأن النبى عليه السلام قد أكل لما خرج من البراز قبل أن يغسل يديه. رواه أبو داود الجزء: 9 ¦ الصفحة: 504 من حيدث ابن أبي مليكة عن ابن عباس، وأنكر مالك غسل اليدين قبل الطعام، وقال إنه من فعل الأعاجم، وبه قال الثورى. وقال البهرى: لا نحفظ ذلك عن النبى ولا عن أصحابه. 45 - باب: لعق الأصابع ومصها قبل أن تمسح بالمنديل / 72 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ، فَلا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا، أَوْ يُلْعِقَهَا) . قد جاء معنى هذا الحديث فى حديث آخر، روى ابن وهب عن عياض بن عبد الله القرشى وابن لهيعة، عن أبى الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله: (لا يمسح أحدكم يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه، فإنه لايدرى فى أى الطعام يبارك له فيه) . قال ابن المنذر: فى حديث ابن عباس إباحة مسح اليد بالمنديل، وترجم له أبو داود باب المنديل بعد الطعام. 46 - باب: المنديل / 73 - فيه: جَابِر، أَنَّهُ سَئُل عَنِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ، فَقَالَ: لا، قَدْ كُنَّا زَمَانَ النَّبِى عليه السلام لا نَجِدُ مِثْلَ ذَلِكَ مِنَ الطَّعَامِ إِلا قَلِيلا، فَإِذَا نَحْنُ وَجَدْنَاهُ لَمْ يَكُنْ لَنَا مَنَادِيلُ إِلا أَكُفَّنَا وَسَوَاعِدَنَا وَأَقْدَامَنَا، ثُمَّ نُصَلِّى وَلا نَتَوَضَّأُ. قال ابن وهب: سئل مالك عن الحديث الذى جاء من باب فى يده غمر فلا يلومن إلا نفسه. فقال مالك: لا أعرف هذا الحديث، وقد سمعت أنه كان يقال: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 505 منديل عمر بطن قدميه، وما كان هذا إلا شيئًا حديثًا، والحديث الذى لم يعرفه مالك رواه أبو داود قال: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (من نام وفى يده غمر لم يغسله فأصابه شىء فلا يلومن إلا نفسه) . ورواه الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة. وقيل لمالك: أيغسل يده بالدقيق؟ قال: غيره أعجب إلى منه، ولو فعل لم أر به بأسًا، قد تمندل عمر بباطن قدمه. وروى ابن وهب فى الجلباب وشبه ذلك: أنه لابأس أن يتوضأ به، ويتلك به فى الحمام، وقد يدهن جسده بالزيت والسمن من الشقاق، وروى أنه سئل عن الوضوء بالدقيق والنخالة والفول قال: لا علم به، ولم يتوضأ به؟ إن أعياه شىء فليتوضأ بالتراب. 47 - باب: ما يقول إذا فرغ من طعامه / 74 - فيه: أَبُو أُمَامَة، أَنَّ النَّبِى عليه السلام كَانَ إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ، قَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، غَيْرَ مَكْفِى وَلا مُوَدَّعٍ وَلا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا) . / 75 - قَالَ أَبُو أُمَامَةَ مَرَّةً: كَانَ النَّبِى عليه السلام إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى كَفَانَا، وَأَرْوَانَا غَيْرَ مَكْفِى وَلا مَكْفُورٍ. وَقَالَ مَرَّةً: (لك الْحَمْدُ رَبِّنَا غَيْرَ مَكْفِىٍّ، وَلا مُوَدَّعٍ وَلا مُسْتَغْنًى عَنْهُ) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 506 أهل العلم يستحبون حمد الله عند تمام الأكل والأخذ بهذا الحديث وشبهه، فقد روى عن النبى عليه السلام فى ذلك أنواع من الحمد والشكر كان يقول إذا فرغ من طعامه، وقد روى عنه عليه السلام أنه قال: (من سمى الله على أول طعامه وحمده إذا فرغ منه لم يسئل عن نعيمه) . وقوله: (غير مكفى) يحتمل أن يكون من قولهم: كفأت اإناء فيكون معناه: غير مردود عليه إنعامه وإفضاله إذا فضل الطعام على الشبع، فكأنه قال: ليست تلك الفضيلة مردودة ولامهجروة، ويحتمل أن يكون معناه أن الله غير مكفى رزق عباده، أى ليس أحد يرزقهم غيره، الا ترى أن فى بعض الأسانيد مستغنى عنه ربنا، فيكون هو قد كفى رزقهم، والله أعلم. 48 - باب: الأكل مع الخادم / 76 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ، فَلْيُنَاوِلْهُ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ، أَوْ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ، فَإِنَّهُ وَلِى حَرَّهُ وَعِلاجَهُ) . الأكل مع الخادم من التواضع والتذلل وترك التكبر، وذلك من آداب المؤمنين وأخلاق المرسلين، وقد تقدم فى كتاب العتق. 49 - باب: الطاعم الشاكر مثل الصائم الصابر والرجل يدعى إلى الطعام فيقول: وهذا معي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 507 وَقَالَ أَنَسٌ: إِذَا دَخَلْتَ عَلَى مُسْلِمٍ لا يُتَّهَمُ، فَكُلْ مِنْ طَعَامِهِ وَاشْرَبْ مِنْ شَرَابِهِ. / 77 - فيه: أَبُو مَسْعُود، قَالَ: أن أَبَا شُعَيْبٍ كَانَ لَهُ غُلامٌ، فَأَتَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ فِى أَصْحَابِهِ، فَعَرَفَ الْجُوعَ فِى وَجْهِه،، فَقَالَ لغُلامهُ: اصْنَعْ لِنا طَعَامًا يَكْفِى خَمْسَةً لَعَلِّى أَدْعُو فَأَتَاهُم، فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِنْ شِئْتَ أَذِنْتَ لَهُ. . . .) الحديث. قال المؤلف: لم يذكر البخارى حديثا فى الطاعم الشاكر، وذكر ابن المنذر قال فى حديث سنان بن سنة أن النبى عليه السلام قال: (الطاعم الشاكر له مثل أجر الصائم الصابر) ورواه عبد الرزاق عن معمر، عن رجل من غفار أنه سمع سعيد المقبرى يحدث عن أبى هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . وهذا من عظيم تفضل الله على عباده، أن جعل للطاعم إذا شكر لله على طعامه وشرباه ثواب الصائم الصابر. ومعنى الحديث - والله أعلم - التنبيه على لزوم الشكر لله تعالى على جميع نعمه، صغيرها وكبيرها، فكما الحق عليه السلام الطاعم الشاكر بالصائم الصابر فى الثواب، دل على أنه تعالى كذلك يفعل فى شكر سائر النعم؛ لأنها كلها من عند الله تعالى لاصنع فى شىء منها للمخلوقين فهو المبتدىء بها والمللهم للشكر عليها والمثيب على ذلك، فينبغى للمؤمن لزوم الشكر لربه فى جميع حركاته وسكونه وعند كل نفس وكل طرفة، وليعلم العبد تحت ماهو من نعم مولاه ولايفتر لسانه عن شكرها، فتستديم النعم والعافية، لقوله تعالى: (لئن شكرتم لأزيدنكم) وروى معمر عن قتادة والحسن، قالا: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 508 (عرضت على آدم ذريته فرأى فضل بعضهم على بعض فقال: أى رب، هلا سويت بينهم؛ فقال: إنى أحب أن أشكر) . فإن قال قائل: فهل يسمى الحامد لله على نعمة شاكرًا؟ قيل: نعم؛ روى معمر، عن قتادة، عن ابن عمر أن النبى عليه السلام قال: (الحمد رأس الشكر، وماشكر الله عبد لا يحمده) . وقال الحسن: ما أنعم الله على عبد نعمة فحمد الله عليها؛ إلا كان حمده أعظم منها كائنة ماكانت. وقال النخعى: شكر الطعام أن تسمى إذا أكلت، وتحمد إذا فرغت. وقد تقدم فى البيوع فى باب مايل فى اللحام والجزار 50 - باب: إذا حضر العشاء فلا يعجل عن عشائه وقد تقدم فى كتاب الصلاة. 51 - باب: قوله تعالى: (فإذا طعمتم فانتشروا / 78 - فيه: أَنَس، قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْحِجَابِ. . . وذكر الحديث. وجلوس الرجال فى بيته عليه السلام بعد ما طعموا، وبعد قيامه ورجوعه ثلاث مرات إلى آخر الحديث. قال المؤلف: بين الله تعالى فى آخر هذه الآية معنى هذا الحديث وذلك قوله تعالى: (إن ذلكم كان يؤذى النبى فيستحى منكم والله لا يستحيي من الحق) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 509 وأذى النبي حرام على جميع أمته وكذلك أذى المؤمنين بعضهم لبعض حرام. وفيه من الفقه أن من أطال الجلوس فى بيت غيره حتى أضر بصاحب المنزل أنه مباح له أن يقوم عنه أو يخبره أن له حاجة إلى قيامه لكى يقوم وليس ذلك من سوء الأدب، وقد تقدم هذا فى كتاب الإستئذان فى باب من قام من مجلسه ولم يستأذن وتهيأ للقيام ليقوم الناس. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 510 71 - كتاب التعبير باب: أول ما بدئ به الرسول - عليه السلام - من الوحى الرؤيا الصالحة / 1 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ. . . وذكر الحديث بطوله. قال المهلب: الرؤيا الصالحة الصادقة قد يراها الرجل المسلم والكافر والناس كلهم، إلا أن ذلك يقع لهم فى النادر والوقت دون الأوقات، وخص النبى عليه السلام بعموم صدق رؤياه كلها، ومنع الشيطان أن يتمثل فى صورته لئلا يتسور بالكذب على لسانه عليه السلام فى النوم، والرؤيا جزء من أجزاء الوحى، فإن قيل: فإن الشيطان قد تسور عليه فى اليقظة وألقى فى أمنيته عليه السلام. قيل: ذلك التسور لم يستتم؛ بل تلاقاه الله فى الوقت بالنسخ وأحكم آياته، وكانت فائدة تسوره إبقاء دليل البشرية عليه لئلا يغلو مغلون فيه، فيعبدونه من دون الله كما فعل بعيسى وعزير. فإن قيل: كيف يمنع الشيطان أن يتصور بصورة النبى فى المنام وأطلق له أن يتمثل ويدعى أنا البارى تعالى والصورة لاتجوز على البارى؟ قيل له: إنما منع أن يتصور فى صورة النبى الذى هو صورة فى الحقيقة دلالة للعلم وعلامة على صحة الرؤيا من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 511 ضغثها وأطلق له أن يتصور على ماليس بصورة على ماليس بصورة، ولايجوز عليه دلالة للعلم أيضًا وسببًا إليه؛ لأنه قد تقرر فى نفوس البشر أنه لايجوز التجسم على البارى - تعالى فجاز أن يجعل لنا هذا الوهم فى النوم دليل على علم ما لاسبيل إلى معرفته إلا من طريق التمثيل فى البارى - تعالى، مرة، وفى سائر الأرباب والسلاطين مرة. وكذلك قال أبو بكر بن الطيب الباقلانى: إن رؤية البارى فى النوم أوهام وخواطر فى القلب فى أمثال لاتليق به فى الحقيقة وتعالى سبحانه عنها دلالة للرائى على أمر كان أو يكون مسائر المرئيات. وهذا كلام حسن؛ لأنه لما كان خرق العادة دلالاً على صحة العلم فى اليقظة للأنبياء يهد بها الخلق، جعل خرق العادة الجارية على النبى يتصور الشيطان على مثاله بالمنع من ذلك دليلاً على صحة العلم. فإن قيل: كان يجب أن تكون الرؤيا إذا رأى فيها البارى صادقة أبدًا كما كانت الرؤيا التى رأى فيها النبى عليه السلام فالجواب أنه لما كان الله تعالى قد يعبر به فى النوم علس سائر السلاطين لأنه سلطان السلاطين ويعبر له على الاباء والسادة والمالكين، ووجدنا سائر السلاطين يجوز عليهم الصدق والكذب فأبقيت رؤياهم على العادة فيهم. ووجدنا النبيين لا يجوز الكذب على أحد منهم، ولا على شىء من حالهم فابقيت حال النبوة فى النوم على ماهى عليه فى اليقظة من الصدق برؤية النبى، وإذا قام الدليل عند العابر على الرؤيا التى يرى فيها البارى لايراد به غيره لم يجز فى تلك الرؤيا التى قام فيها دليل الحق على الله كذبًا أصلاً، لا في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 512 مقال ولا فى فعال، فتشابهت الرؤيا من حيث اتفقت فى معنى الصدق، واختلفت من حيث جاز غير ذلك، وهذا مالاذهاب عنه. وقوله: (فسكن لذلك جاشة) قال صاحب العين: الجأش: النفس. باب: رؤيا الصالحين وقوله تعالى: (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق (الآية / 2 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ) . قال المهلب: (الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح) إنما يريد عامة رؤيا الصالحين، وهى التى يرجى صدقها؛ لأنه قد يجوز على الصالحين الأضغاث فى رؤياهم؛ لكن لما كان الأغلب عليهم الخير والصدق وقلة تحكم الشيطان عليهم فى النوم أيضًا، لما جعل الله فيهم من الصلاح، وبقى سائر الناس غير الصالحين تحت تحكم الشيطان عليهم فى النوم؛ مثل تحكمه عليهم فى اليقظة فى ألب أمورهم، وإن كان قد يجوز منهم الصدق فى اليقظة فكذلك يجوز فى رؤياهم صدق أيضًا. باب الرؤيا من الله / 3 - فيه: أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) : (الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ مِنَ اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 513 / 4 - وفيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَقُولُ: (إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحِبُّهَا، فَإِنَّمَا هِى مِنَ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَيْهَا، وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ فَإِنَّمَا هِى مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا، وَلا يَذْكُرْهَا لأحَدٍ فَإِنَّهَا لا تَضُرُّهُ) . فإن قال قائل: مامعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الرؤيا من الله والحلم من الشيطان) وقد تقرر أنه لا خالق والشر غير الله، وأن كل شىء بقدره وخلقه؟ . قال المهلب: فالجواب أن النبى عليه السلام سمى ريا من خلص من الأضغاث وكان صادقا تأويله موافقًا لما فى اللح الحفوظ، فحسنت إضافته إلى الله، وسمى الريا الكاذبة التى هى من حيز الأضغاث حلمًا وأضافها إلى الشيطان؛ إذ كانت مخلوقة على شاكلة الشيطان وطبعه، وليعلم الناس مكائدة فلا يحزنزن لها ولايتعذبون بها، وإنما سميت ضغثًا لأن فيها اشياء متضادة. قال غيره: والدليل على أنه لايضاف إلى الله تعالى إلا الشىء الطيب الطاهر قوله تعالى: (إن عبادى ليس لك عليهم سلطان) فأضافهم إلى نفسه لأنهم أولياؤه ومعلوم أن غير أوليائه عباد الله أيضًا، وقال تعالى: (فإذا نفخت فيه من روحى) ، (وطهر بيتى للطائفين) وقال تعالى: (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت) ، فأضافهم إلى ما هم أهله وإن كان الكل خلقه وعبيده (وما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها) قال المهلب: وإن كان المحزن من الأحلام مضافًا إلى الشيطان فى الأغلب وقد يكون المحزن فى النادر من الله تعالى لكن لحكمة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 514 بالغه، وهو أن ينذر بوقوع المحزن من الأحلام بالصبر لوقوع ذلك الشىء لئلا يقع على غرة فيقتل، فإذا وقع على مقدمة وتوطين نفس كان أقوى النفوس وأبعد لها من أذى البغثة، وقال (فإنها لا تضره) يعنى بها ماكان من قبل الشيطان جعل الله الاستعاذةمنها مما يدفع به أذاها، ألا ترى قول أبى قتادة: (إن كنت لأرى الرؤيا هى أثقل على من الجبل فلما سمعت بهذا الحديث كنت لاأعدها شيئًا) . وروى قتادة، عن ابن سيرين، عن أبى هريرة، عن النبى عليه السلام فى هذا الحديث: (فمن رأى منكم مايكره فليقم ويصلى) . باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة / 5 - فيه: عُبَادَة، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ) . ورواه أنس، وأبو هريرة، وأبو سعيد، عن النبى. ذكر الطبرى فى تهذيب الآثار أحاديث كثيرة مخالفة لحديث هذا الباب فى الأجزاء، منها حديث ابن عباس: (أن الرؤيا جزء من أربعين جزءًا من النبوة) وحديث عبد الله بن عمرو: (أنها جزء من تسعة وأربعين جزءًا من النبوة) وحديث العباس: (جزء من خمسين جزءًا من النبوة) وحديث ابن عمر وابن عباس وأبى هريرة: (جزء من سبعين جزءًا من النبوة) . قال الطبرى: والصواب أن يقال إن عامة هذه الأحاديث أو أكثرها صحاح، ولكل حديث منها مخرج معقول. فأما قوله: (من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 515 سبعين جزءًا من النبوة) . فإن ذلك قول عام فى كل رؤيا صالحة صادقة لكل مسلم رآها فى منامه على أى أحواله كان. وهذا قول ابن مسعود وأبى هريرة والنخعى أن الرؤيا جزء من سبعين جزءًا من النبوة. وأما قوله أنها جزء من اربعين أو ستة وأربعين فإنه يريد بذلك ماكان صاحبها بالحال التى ذكر عن الصديق - رضى الله عنه - أنه يكون بها. روى ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه أن زياد بن نعيم حدثه أن أبا بكر الصديق كان يقول: لأن يرى الرجل المسلم يسبغ الوضوء رؤيا صالحة أحب إلى من كذا وكذا. قال الطبرى: فمن كان من أهل إسباغ الوضوء فى السبرات والصبر فى الله على المكروهات وانتظار الصلاة بعد الصلاة فرؤيا الصالحة إن شاء الله جزء من أربعين جزءًا من النبوة، ومن كانت حالة فى ذاته بين ذلك فروياه الصادقة بين الجزء من الأربعين إلى السبعين لاينتقص عن سبعين ولايزاد على الأربعين. قال المؤلف: أصح ما فى هذا الباب أحاديث الستة وأربعين جزءًا ويتلوها فى الصحة حديث السبعين جزءًا، ولم يذكر مسلم فى كتابه غير هذين الحدثين، فأما حديث السبعين جزءًا فرواه عن أبو بكر ابن أبى شيبة، عن أبى أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبى عليه السلام ورواه ابن نمير ويحى بن سعيد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، ورواه الليث أيضًا عن نافع، عن ابن عمر وأما سائرها فهى من أحاديث الشيوخ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 516 السبعين جزءًا وحديث الستة واربعين جزءًا، وهذا تعارض ولايجوز النسخ فى الأخبار؟ فالجواب: أنه يجب أن نعلم مامعنى كون الرؤيا جزءًا من أجزاء النبوة فلو كانت جزءًا من الف جزء منها لكان ذلك كثيرًا. فنقول وبالله التوفيق: إن لفظ النبوة مأخوذ من النبأ والإنباء، وهو الإعلام فى اللغة والمعنى أن الرؤيا إنباء صادق من الله، لاكذب فيه كما أن معنى النبوة الإنباء الصادق من الله الذى لايجوز عليه الكذب فتشاهبهت الؤيا النبوة فى صدق الخبر عن الغيب. فإن قيل: فما معى اختلاف الأجزاء فى ذلك فى القلة والكثرة؟ قيل: وجدنا الرؤيا تنقسم قسمين لا ثالث لهما، وهو أن يرى الرجل رؤيا جلية ظاهرة التأويل مثل من رأى أنه يعطى شيئًا فى المنام فيعطى مثله بعينه فى اليقظة، وهذا الضرب من الرؤيا لا إغراق فى تأويلها ولا رمز فى تعبيرها، والقسم الثانى مايراه من المنامات المرموزة البعيدة المرام فى التأويل وهذا الضرب يعسر تأويله إلا الحذاق بالتعبير لبعد ضرب المثل فيه، فيمكن أن يكون هذا القسم من السبعين جزءًا كانت الرؤيا أقرب إلى النبأ الصادق، وآمن من وقوع الغلط فى تأويلها، وإذا كثرت الأجزاء بعدت بمقدار ذلك وخفى تأويلها، والله أعلم بما أراد نبيه (صلى الله عليه وسلم) . وقد عرضت هذا القول على جماعة من أصحابى ممن وثقت بدينة وفهمه فحسنوه وزادنى فيه بعضهم مرة، وقال لى: الدليل على صحته أن النبوة على مثل هذه الصفة تلقاها نبينا عليه السلام الجزء: 9 ¦ الصفحة: 517 جبريل بالوحى فيكلمه بكلام فيعيه بغير مؤمنة ولا مشة، ومرة يلقى إليه جملا وجوامع يشتد عليه فكها وتبيينها، حتى تأخذه الرحضاء ويتحدر منه العرق مثل الجمان فى اليوم الشديد البرد، ثم يعينه الله على تبيين ماألقى إليه من الوحى، فلما كان تلقيه عليه السلام للنبوة المعصومة بهذه الصفة كان تلقى المؤمن من عند الملك الآتى بها من أم الكتاب بهذه الصفة، والله أعلم. وفيه: تأويل ذكره أبو سعيد السفسقى عن بعض أهل العلم قال معنى قوله: (جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة) . فإن الله تعالى - أوحى إلى محمد عليه السلام فى الرؤيا ستة أشهر، ثم بعد ذلك أوحى إليه بإعلام باقى عمره، وكان عمره فى النبوة ثلاثة وعشرين عامًا فيما رواه عكرمة وعمرو بن دينار، عن ابن عباس، فإذا نسبنا ستة أشهر من ثلاثة وعشرين عامًا وجدنا ذلك من ستة وأربعين. وهذا التأويل يفسد من وجهين: أحدهما: أنه قد اختلف فى مدة النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فقيل: إنها كانت عشرين عامًا. رواه أبو سلمة عن ابن عباس وعائشة، والوجه الثانى: أنه يبقى حديث السبعين جزءًا بغير معنى. باب: المبشرات / 6 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلا الْمُبَشِّرَاتُ) ، قَالُوا: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: (الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ) . قال المؤلف: وذكر ابن أبى شيبة بإسناده عن أبى الدرداء: (أنه سأل النبى عليه السلام عن قوله تعالى: (لهم البشرى في الحياة الدنيا (. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 518 قال: هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، وفى الآخرة الجنة) . روى مثله عن ابن عباس وعروة ومجاهد. قال المهلب: وحديث أبى هريرة خرج لفظه على العموم، ومعناه الخصوص؛ وذلك أن المبشرات هى الرؤيا الصادقة من الله التى تسر رأئيها وقد تكون صادقة منذرة من الله تعالى لاتسر رأئيهايريها الله المؤمن رفقًا به ورحمة له؛ ليستعد لنزول البلاء قبل وقوعه فقوله: (لم يبق بعدى إلا المبشرات) خرج على الأغلب من حال الرؤيا، وقد قال محمد بن واسع: الرؤيا بشرى للمؤمن، ولا تغره. قال الطبري: فإن قال قائل: فإن كانت كل رؤيا حسنة وحى من الله وبشرى للمؤمنين، فما باله يرى الرؤيا الحسنة أحيانًا، ولايجد لها حقيقة فى اليقظة؟ فالجواب: أن الرؤيا مختلفة الأسباب فمنها من وسوسة وتخزين للمؤمن، ومنها من حديث النفس فى اليقظة فيراه فى نومه، ومنها ماهو وحى من الله، فما كان من حديث النفس ووسوسة الشيطان فإنه الذى يكذب، وماكان من قبل الله فإنه لا يكذب. وبنحو هذا ورد الخبر عن النبى عليه السلام وروى ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن أبيه، عن أيوب وهشام، عن ابن سيرين، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (الرؤيا ثلاث: رؤيا بشرى من الله، ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه، ورؤيا تخزين من الشيطان) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 519 باب: رؤيا يوسف عليه السلام وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا (الآية [يوسف: 4] ، وَقَوْلِهِ: (يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاىَ مِنْ قَبْلُ (إلى) بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: 100] . قال المؤلف: رؤيا يوسف حق ووحى من الله كرؤيا سائر الأنبياء، ألا ترى قول يوسف لأبيه يعقوب: (يا أبت هذا تأويل رؤياى من قبل قد جعلها ربى حقًا) . وقول بعقوب ليوسف: (لا تقصص رؤياك على إخواتك فيكيدوا لك كيدًا) قال له ذلك علم من تأويل الرؤيا فخاف أن يحسدوه، وكان تبين له الحسد منهم له، وهذا أصل أن لاتقص الرؤيا على غير شفيق ولاناصح، ولاتقص على من لا يحسن التأويل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 520 باب: رؤيا إبراهيم عليه السلام وقوله تعالى: (فلما بلغ معه السعى (الآيات وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (أَسْلَمَا (: سَلَّمَا لأُمِرَا اللَّه،) وَتَلَّهُ (وَضَعَ وَجْهَهُ بِالأرْضِ. قال المهلب: هذا دليل أن رؤيا الأنبياء وحى لايجوز فيها الضغث لأ، إبراهيم عليه السلام حكم بصدقها، ولم يشك أنها من عند الله فسهل عليه ذبح ابنه والتقرب به إلى الله، وكذلك فعل إسحاق حين أعلمه أبوه إبراهيم برؤياه، فسلم لحكم الله ورضى وانقاد له وفوض أمره إلى الله فقال: (يا أبت افعل ماتؤمر ستجدنى إن شاء الله من الصابرين) بهذه الآية استدل ابن عباس على أن رؤيا الأنبياء وحى. باب: التواطؤ على الرؤيا / 7 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ أُنَاسًا أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِى السَّبْعِ الأوَاخِرِ، وَأَنَّ أُنَاسًا أُرُوا أَنَّهَا فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (الْتَمِسُوهَا فِى السَّبْعِ الأوَاخِرِ) . قال المهلب: فيه الحكم على صحة الرؤيا بتوطئها وتكريرها، وهذا أصل فى ذلك يجب لنا أن نحكم به إذا ترادفت الريا وتواطأت بالصحة؛ كما حكم النبي - عليه السلام -. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 521 باب: رؤيا أهل السجن وأهل الفساد والشرك لقوله تعالى: (ودخل معه السجن (إلى: (يعصرون ( / 8 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ لَبِثْتُ فِى السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ، ثُمَّ أَتَانِى الدَّاعِى لأجَبْتُهُ) . قال المهلب: إنما ترجم بهذا لجواز أن يكون فى ريا أهل الشرك رؤيا صادقة كما كانت رؤية الفتيين صادقة إلا أنه لايجوز أن تضاف إلى النبوة إضافة رؤيا المؤمن إلى النبوة فى التجزئة لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الرؤيا الحسنة يراها العبد الصالح أو ترى له جزء له ستة وأربعين جزءًا من النبوة) . فدل هذا أنه ليس كل ما يصح له تأويل من الرؤيا وله حقيقة يكون جزءًا من ستة واربعين جزءًا من النبوة، قال أبو الحسن بن أبى طالب: وفى صدق رؤيا الفتين حجة على من زعم أن الكافر لايرى رؤيا صادقة. فإن قيل: فإذا رأى الكافر رؤيا صادقة فما مزيه المؤمن عليه فى رؤياه، ومعنى خصوصه عليه السلام المؤمن بالرؤيا الصادق فى قوله: (يراها الرجل الصالح أو ترى له) ؟ . فالجواب: أن لمنام المؤمن مزية على منام الكافر فى إنباء والإعلام والفضل والإكرام، وذلك أن المؤمن يجوز أن يبشر على إحسانه وينبأ بقبول أعماله ويحذر من ذنب عمله ويردع من سوء قد أمله، ويجوز أن يبشر بنعيم الدنيا وينبأ ببؤسها، والكافر فإن جاز أن يحذر ويتوعد على كفره فليس عنده ما عند المؤمن من الأعمال الموجبة لثواب الآخرة وكل مابشر به الكافر من حالة وغبط به من أعماله، فذلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 522 غرور من عدوه ولطف من مكائده فنقص لذلك حظه من الرؤيا الصادقة عن حظ المؤمن لأن النبى عليه السلام حين قال: (رؤيا المؤمن ورؤيا الصالح جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة) لم يذكر فى ذلك كافرًا ولامبتدعًا فأخرجنا لذلك مايراه الكافر من هذه التقدير والتجزئة لما فى الأخبار من صريح الشرط لرؤيا المؤمن، وأدخلنا ما يراه الكافر من صالح الرؤيا فى خبره المطلق عليه السلام: (الرؤيا من منامات الكفار فهى من الله) ، ولم نقل كذا وكذا من النبوة لاسيما أن الشعرى وابن الطيب يريان أن جميع مايرى فى المنام من حق أو باطل خلق لله فما كان منه صادقا خلقه بحضور الملك، وما كان باطلاً خلقه بحضور الشيطان، فيضاف بذلك إليه. فإن قال: يجوز أن نسمى مايراه الكافر صالحًا؟ قيل له: نعم وبشارة أيضًا كانت الرؤيا له أو لغيره من المؤمنين لقوله عليه السلام: (الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له) . فاحتمل هذا الكلام أن يراها الكافر لغيره من المؤمنين وهو صالح للمؤمنين، كما أن يراه الكافر ممايدل على هدايته وإيمانه فهو صالح له فى عاقبته، وذلك حجة الله عليه وزجر له فى منامه، وقد خرج البخارى فى بعض طرق حديث عائشة (أول ما بدئ به رسول الله من الوحى الرؤيا الصالحة) أنها الصادقة؛ لأنها صالح مايرى فى المنام من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 523 الأضغاث، وأباطيل الأحلام، وكما أنبأ الله الكفار فى اليقظة بالرسل وبالمؤمنين من عباده دون المشركين من أعدائه قامت الحجة على المشركين بذلك إلى يوم الدين فكذلك يجوز إنباؤهم فى المنام بما يكون حجة عليهم أيضًا. قال المهلب: وقوله: (لو لثبت فى السجن ما لبث يوسف ثم أتانى الداعى لأجبته) . هذا من تواضعه عليه السلام لئلا يغلى فى مدحه فقال عليه السلام: (لا تطرونى كما أطرت النصارى المسيح وقولوا عبد الله ورسوله) (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) لكن فى حكم الأدب إذا ذكر الأنبياء والرسل أن يتواضع. وفيه: الترفيع لشأن يوسف لأنه حين دعى للإطلاق من السجن قال: ارجع إلى ربك. ولم يرد الخروج منه إلا بعد أن تقر امرأة العزيز على نفسها أنها راودته عن نفسه فأقرت وصدقته، وقالت: أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين، فخرج حينئذ. قال ابن قتيبة: فوصفه بالأناة والصبر وأنه لم يخرج حين دعى، وقلا: لو كنت مكانه ثم دعيت إلى مادعى إليه من الخروج من السجن لأجبت ولم ألبث، وهذا من حسن تواضعه على السلام؛ لأنه لو كان مكان يوسف فبادر وخرج ولم يكن عليه نقص أو على يوسف عليه السلام لو خرج مع الرسول من السجن نقص ولاأثر، وإنما أراد أن يوسف لم يكن يستثقل محنة الله قيبادر ويتعجل؛ ولكنه كان صابرًا محتسبًا. وفى هذا الحديث زيادة ذكرها البخارى فى كتاب الأنبياء قال النبي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 524 - عليه السلام -: (نحن أحق بالشك من إبراهيم؛ إذ قال: رب أرنى كيف تحيى الموتى قال أو لم تؤمن، ورحم الله لوطًا لقد كان ياوى إلى ركن شديد، ولو ثبت فى السجن. . .) الحديث قال ابن قتيبة: وقوله: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) . فإنه لما نزل عليه: (وإذا قال إبراهيم رب أرنى كيف تحيى الموتي) الآية. قال قوم سمعوا الآية: شك إبراهيم ولم يشك نبينا، فقال رسول الله: (أنا أحق بالشك من إبراهيم) . تواضعًا وتقديما لإبراهيم على نفسه يريد: إنا لم نشك ونحن دونه، فكيف يشك هو؟ . ومثل هذا من تواضعه عليه السلام قوله: (لا تفضلونى على يونس ابن متى) . فخص يونس وليس كغيره من أولى العزم من الرسل، فإذا كان لايحب أن يفضل على يونس، فغيره من الأنبياء بأن لايحب أن يفضل عليهم. وتأويل قول إبراهيم: (ولكن ليطمئن قلبى) أى بيقين البصر، واليقين جنسان: أحدهما يقين السمع، والآخر يقين البصر، ويقين البصر أعلاهما؛ ولذلك قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (ليس الخبر كالمعاينة) حين ذكر قوم موسى وعكوفيهم على العجل قال: فأعلمه الله أن قومه عبدوا العجل فلم يلق الألواح؛ فلما عاينهم وعاكفين عليه غضب وألقى الألواح فتكسرت، وكذلك المؤمنون بالقيامة والبعث والجنة والنار متيقنون أن ذلك كله حق وهم فى القيامة عند النظر وعيان أعلى يقينًا، فأراد إبراهيم أن يطمئن قلبه بالنظر الذى هو أعلى اليقين. وقال غير ابن قتيبة: لم يشك إبراهيم عليه السلام أن الله يحيى الموتى وإنما قال: أرنى كيف، والجهل بالكيفية لايقدح فى اليقين بالقدرة إذ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 525 ليس من المؤمنين أحد يؤمن بالغيوب وبخلق السموات والأرض إلا وقد يجهل الكيفية، وذلك لايقدح فى إيمانه. فضرب الله تعالى مثلا لإبراهيم من نفسه فقال له: (خذ اربعة من الطير) الآية. فكما أحيى هذه الطير عن دعوتك، فكذلك أحيى أهل السموات والأرض عن نفخه الصور (وأعلم أن الله عزيز حكيم) عزيز فى صنائعه إذ صنائعه له عن مباشرة إلا عن قوله: كن، وماسواه من الصانعين فلا يتم له صنع إلا بمباشرة، وفى ذلك ذله ومفارقة للعزة، حكيم: أى فى أفعاله وإن كان بائنًا عنها، والصانع إذا بان من صنعته تختل أفعاله إذا كان بائنًا. قال ابن قتيبة: وقوله: (يرحم الله لوطًا إن كان ليأوى إلى ركن شديد) فإنه أراد قوله لقومه: (لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) وفى الوقت الذى ضاق فيه صدره واشتد جزعه بنا دهمه من قومه، وهو يأوى إلى الله تعالى اشد اركان، قالووا: فما بعث الله تعالى نبيًا بعد لوط إلا فى ثروة من قومه. قال غير ابن قتيبة: ولايخرج هذا لوطًا من صفات المتوكلين على الله الواثقين بتأيده ونصره، لكن لوطًا - عليه السلام أثار منه الغضب فى ذات الله مايثير من البشر، فكان ظاهر قول لوط كأنه خارج عن التوكل، وإن كان مقصده مقصد المتوكلين فنبه النبى على ظاهر قول لوط تنبيه على ظاهر قول إبراهيم، وإن كان مقصده غير الشك لأنهم كانوا صفوة الله المخصوصين بغاية الكرامة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 526 ونهاية القرية، لايقنع منهم إلا بظاهر مطابق للباطن بعيد عن الشبهة؛ إذ العتاب والحجة من الله على قدر مايصنع فيهم. وفى كتاب مسلم عن بعض رواه الحديث قال: إنما شك إبراهيم: هل يجيبه الله عز وجل أم لا؟ . باب فى رؤية النبى عليه السلام فى المنام / 90 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ رَآنِى فِى الْمَنَامِ فَسَيَرَانِى فِى الْيَقَظَةِ، وَلا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِى) . / 10 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ رَآنِى فِى الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِى، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَتَخَيَّلُ بِى. . .) الحديث. هذا إخبار منه (صلى الله عليه وسلم) عن الغيب وأن الله تعالى منع الشيطان أن يتصور على صورته، وقد تقدم فى أول كتاب العبارة وقوله: (فسيرانى فى اليقظة) يعنى تصديق تلك الرؤيا فى اليقظة وصحتها وخروجها على الحق؛ لأنه عليه السلام ستراه يوم القيامة فى اليقظة جميع أمته من رآه فى النوم، ومن لم يره منهم. باب رؤيا الليل رواه سمرة. / 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ الْبَارِحَةَ؛ إِذْ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأرْضِ حَتَّى وُضِعَتْ فِى يَدِي. . .) الحديث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 527 / 12 - وفيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (أُرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَرَأَيْتُ رَجُلا آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ، لَهُ لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللِّمَمِ، قَدْ رَجَّلَهَا تَقْطُرُ مَاءً. . . .) وذكر الحديث. ورواه ابن عباس أيضًا. وقوله: (عنبة طافية) يقال: طفا الشىء على الماء يطفوا، إذا علا، فعين الدجال طافية على وجهه قد برزت كالعنبة. باب: رؤيا النهار قَالَ ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: رُؤْيَا النَّهَارِ مِثْلُ رُؤْيَا اللَّيْلِ. / 13 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا، فَأَطْعَمَتْهُ، وَجَعَلَتْ تَفْلِى رَأْسَهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى عُرِضُوا عَلَىَّ غُزَاةً فِى سَبِيلِ اللَّهِ. . .) وذكر الحديث. قال المهلب: معنى هذهين البابين أنه لايخص نوم النهار على نوم الليل، ولانوم الليل على نوم النهار بشىء من صحة الرؤيا وكذبها، وأن الرؤيا متى اريت فحكمها واحد، وتأويل المفاتيح فى النوم أسباب الفتح، والمعنى أتيت مادلنى على أنه سيفتح لى ولأمتى خزائن الأرض مايرفع عنهم المسغبة والفقر ومايدين لهم ملوك الأرض؛ لأن خزائن الأرض بأيدى الملوك، وهو فى معنى قوله: (وزويت لى الأرض. . .) الحديث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 528 باب رؤيا النساء / 14 - فيه: أُمَّ الْعَلاءِ - امْرَأَةً مِنَ الأنْصَارِ بَايَعَتْ النَّبِىّ عليه السلام - أَخْبَرَت أَنَّهُمُ اقْتَسَمُوا الْمُهَاجِرِينَ قُرْعَةً، قَالَتْ: فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِى أَبْيَاتِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِى تُوُفِّىَ فِيهِ. . . . وذكر الحديث. قالت: وأحزننى فنمت فرأيت لعثمان بن مظعون عينا تجرى فأخبرت رسول الله فقال: (ذلك عمله يجرى له) . وترجم له باب العين الجارية فى المنام. رؤيا النساء كرؤيا الرجال، لافرق بينهما، والمرأة المؤمنة داخلة فى معنى قوله عليه السلام: (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة) . والعين فى المنام تختلف وجوهها؛ فإذا تعرت من دلائل الهم وكان مأؤها صافيا دلت على العمل الصالح كما فسر النبى، وقد تدل من العمل على مالاينقطع ثوابه كوقف أرض أو غله يجرى ثوابها دائمًا، وعلم علمه الناس عمل به من علمه، فإن كان ماؤها غير صاف فهو غم وحزن، وقد تدل على العين الباكية وعلى الفتنة لقوله تعالى: (وفجرنا الأرض عيونًا فالتقى الماء على أمر قد قدر) فكانت فتنة وجرت بهلاكهم ألا ترى قوله تعالى: (ماء غدقًا لنفتنهم فيه) وقد تدل على المال العين، ويستدل العابر على هذه الوجوه بأحوال الرائين وبزيادة الرؤيا ونقصانها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 529 باب: اللبن / 15 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ مِنْهُ حَتَّى إِنِّى لأرَى الرِّى يَخْرُجُ مِنْ أَظْفَارِى، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) ، قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الْعِلْمَ) . قال المهلب: رؤية اللبن فى النوم تدل على السنة والفطرة والعلم والقرآن؛ لأنه أول شىء ناله المولود من طعام الدنيا، وهو الذى يفتق معاه، وبه تقوم حياته كما تقوم بالعلم حياة القلوب، فهو يشاكل العلم من هذه الناحية. وقد يدل على الحياة؛ لأنها كانت به فى الصغر، وقد يدل على الثواب؛ لأنه من نعيم الجنة إذا رئى نهر من لبن، وقد يدل على المال الحلال، وإنما أوله عليه السلام فى عمر بالعلم والله أعلم؛ لعلمه بصحة فطرته ودينه، والعلم زيادة فى الفطرة على اصل معلوم. باب: القميص فى المنام / 16 - قَالَ أَبُو سَعِيد: قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَىَّ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثَّدْيَ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ دُونَ ذَلِكَ، وَمَرَّ عَلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ) ، قَالُوا: مَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الدِّينَ) . وترجم له: باب جر القميص فى المنام. قال المهلب: أصل عبارته عليه السلام للقميص بالعلم فى كتاب الله فى قوله تعالى: (وثيابك فطهر) يريد صلاح العمل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 530 وتطهير الأحوال التى كانت أهل الجاهلية تستبيحها، هذا قول ابن عباس، والعرب تقول: فلان نقى الثوب إذا كان صالحًا فى دينه. وفيه دليل على أن الرؤيا لاتخرج كلها على نص مارؤيت عليه، وإنما تخرج على ضرب الأمثال، فضرب المثل على الدين بالقميص، وعلى الإيمان والعلم باللبن من أجل اشتراك ذلك فى المعانى، وذلك أن القميص يستر العورات كما يستر الدين الأعمال التى كان الناس فى حال الكفر يأتونها، وفى حال الجهل يقترفونها. وقد تقدم أن اللبن حياة الأجسام كما بالعلم حياة القلوب، هذا وجه اشتباه المعانى فى هذه الأمثال التى لها ضربت؛ لأن المثل يقتضى المماثلة، فإذا كان مثل لا مماثلة فيه لم يصح التعبير به. فإن قيل: فإذا كان التعبير يقتضى المماثلة فما وجه كون جر القميص فى النوم حسنأط، وجره فى اليقظة منهى عنه وهو من الخيلاء؟ قال المهلب: فالجواب أن القميص فى الدنيا ستر وزينة كما سماه الله، وأنه فى الآخرة لباس لاتقوى. فلما كان فى الدنيا زينة حرم منها ماكان مخرجًا إلى الخيلاء والكبرياء الذى لايجمل بمخلوق مربوب ضعيف الخلقة سفيه الشهوة. فالكبر مع هذه الحال لا يجمل به ولا يصح له لا ضراره إلى مدبر يديره ورازق يرزقه، ودافع يدفع عنه ما لا امتناع له منه، ويحميه من الآفات، فوجب أن تكون تلك الزينة فى الدنيا مقرونة بدليل الذلة وعلامة العبودية، هذا معنى وجوب تقصيرها فى الدنيا. ولما خلصت فى الآخرة من أن يقترن بها كبر أو يخطر منه خارط على قلب بشر، حصلت لباس التقوى كما سماها الله فحسن فيها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 531 الكمال والجر لفضولها على الأرض، ودل ذلك الفضل المجرور على بقايا من العلم والدين يخلد ويكون أثرًا باقيًا خلفه، ولم يكن بسبيل إلى أن يكون فيه من معنى الكبر شىء فى ذلك الموطن، وليس هذا مما يحمل على أحوال الرائين، وإنما هو ابدًا محمول على جوهر الشىء المرئى، فجوهرالقميص فى الدنيا بقرينة الجر له كبر وتعاظم، وجوهرة فى الآخرة بالدين والعلم، وليس فى الآخرة فيه تحليل ولاتحريم، وإنما يحمل الشىء على حال الرائى له إذا تنوع جوهر الشىء المرئى به فيه أو عليه فى التفسير. وأكثر ما يكون ذلك فى الدنيا لاختلاف الشىء أحوال أهلها، وقد يكون فى الآخرة شىء من ذلك ليس هذا منه. ولايجوز أن ينقل جوهر شىء من الثياب أو غيرها عما وضعت له فى أصل العلم إلا بدليل ناقل لجوهر ذلك الشىء، كمن رأى أحدًا من الأموات فى نومه وعليه ثياب يجرها من نار أو متقدة بنار فيفسرها أنه كافر يلبس فى الدنيا ثياب الكبر والتبختر يجرها خيلاء فعوقب فى النار بصنعه ذلك فى الدنيا، أو يرى عليه ثيابًا من قطران كما قال الله تعالى فيها فحينئذ تكون الثياب فى الآخرة دليلاً على العذاب بما كان عليه فى الدنيا، ولايكون حيئذ لباس زينة ولا لباس تقوى. هذا مما يحمل فى الآخرة على أحوال صاحب الرؤيا. باب: فى الخضر فى المنام والروضة الخضراء / 17 - فيه: قَيْسُ بْنُ عُبَادٍ، كُنْتُ فِى حَلْقَةٍ فِيهَا سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَابْنُ عُمَرَ، فَمَرَّ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلامٍ، فَقَالُوا: هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ قَالُوا: كَذَا وَكَذَا، قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا كَانَ يَنْبَغِى لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ، إِنَّمَا رَأَيْتُ كَأَنَّمَا عَمُودٌ وُضِعَ فِى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، فَنُصِبَ فِيهَا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 532 وَفِي رَأْسِهَا عُرْوَةٌ، وَفِى أَسْفَلِهَا مِنْصَفٌ، وَالْمِنْصَفُ الْوَصِيفُ، فَقِيلَ ارْقَهْ فَرَقِيتُهُ حَتَّى أَخَذْتُ بِالْعُرْوَةِ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (يَمُوتُ عَبْدُاللَّهِ، وَهُوَ آخِذٌ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) . وترجم له باب التعلق بالعروة والحلقة وقال فيه: (وقيل لى: أرقه فقلت: لا أستطيع، فأتانى وصيف فرفع ثيابى، فرقيت. . .) الحديث. قال المهلب: قال أبو الحسن على بن أبى طالب العابر: الروضة التى لايعرف بيتها دالة على الإسلام لنضرتها وحسن بهجتها، وقد تأولها بذلك الرسول عليه السلام و، وقد تدل من الإسلام على كل مكان فاضل يطاع الله فيه كقبر رسول الله، وحلق الذكر، وجوامع الخير، وقبور الصالحين لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما بين قبرى ومنبرى روضة من رياض الجنة) . وقوله: (ارتعوا فى رياض الجنة أو حفرة من حفر النار) . وقد تئول الروضة على المصحف وعلى كتب العلم لقولهم: الكتب رياض الحكماء، والعمود دال على كل ما يعتمد عليه القرآن والسنن والفقه فى الدين، وعلى الفقيه والحاكم، والوالد والسيد، والزوج والزوجة والمال. وبمكان العمود وصفات المنام يستدل على تأويل الأمر وحقيقة التعبير. وكذلك العروة بالإسلام والتوحيد وهى العروة الوثقى قال تعالى: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لاانفصام لها) . فأخبر الرسول أن ابن سلام يموت على الإيمان، ولما فى هذه الرؤيا من شواهد ذلك حكم له اصحاب النبى بالجنة لحكم النبى عليه السلام بموته على الإسلام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 533 وفيه القطع لكل من مات على دين الإسلام والتوحيد لله بالجنة وإن نالت بعضهم عقوبات. وقول ابن سلام: ماكان ينبغى لهم أن يقولوا ماليس لهم به علم؛ إنما قاله على سبيل التواضع، وكره أن يشار غليه بالأصابع فيدخله العجب فيحبط عمله. - باب: كشف المرأة فى المنام / 18 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أُرِيتُكِ فِى الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ، إِذَا رَجُلٌ يَحْمِلُكِ فِى سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَأَكْشِفُهَا، فَإِذَا هِى أَنْتِ، فَأَقُولُ: إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ) . وترجم له باب: ثياب الحرير فى المنام. رؤية المرأة فى المنام تختلف على وجه فمنها أن تدل على امرأة تكون له فى اليقظة تشبه التى رأى فى المنام كما كانت رؤية النبى عليه السلام هذه، وقد تدل المرأة عيل الدنيا والمنزلة فيها والسعة فى الرزق، وهذا أصل عند المعبرين فى ذلك، وقد تدل المرأة أيضًا على فتنة بما يقترن إليها من دلائل ذلك. وقوله: (إن يكن هذا من عند الله يمضه هذه الرؤيا أريها النبى قبل زمن النبوة فى وقت تجوز عليه رؤيا سائر البشر فلما أوحى الله غليه حصن رؤياه من الأضغاث وحرسه فى النوم كما حرسه فى اليقظة وجعل رؤياه وحياه) . ويحتمل وجهًا آخر: أن تكون هذه الرؤيا منه عليه السلام بعد النبوة وبعد علمه بأن رؤياه وحى فعبر عليه السلام عما علمه بلفظ يوهم الشك ظاهره ومعناه اليقين، وهذا موجود فى لغة العرب أن يكون اللفظ مخالفًا لمعناه كما قال ذو الرمة: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 534 أيا ظبية الوعساء بين جلاجل وبين النقا آأنت أم أم سالم ولم يشك ذو الرمة أن الظبية ليست بأم سالم، وكما قال جرير: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح. فعبر عما هو قاطع عليه وعالم به بلفظ ظاهره الشك والمسالة عما لايقطع عليه فكذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن يكن هذا ابن أبى طالب) وثياب الحرير يدل اتخاذها للنساء فى الرؤيا على النكاح وعلى الأزواج وعلى العز والغنى وعلى الشحم ولبس الذهب، قال واللباس دال على جسم لابسه لأنه محله ومشتمل عليه ودافع عنه، فهو معبر عنه لاسيما أن اللباس فى غالب الناس دال على أقدارهم وأحوالهم ومذاهبهم وأجناسهم، فيعرف كل جنس بلبسه وزيه من العرب والعجم والأغنياء والفقراء، ولاخير فى ثياب الحرير للرجال وهى صالحة فى الجاه والسلطان وسعة المال. - باب المفاتيح فى اليد / 19 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأرْضِ، فَوُضِعَتْ فِى يَدِى) . قَالَ مُحمد: وَبَلَغَنِى أَنَّ جَوَامِعَ الْكَلِمِ أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ الأمُورَ الْكَثِيرَةَ الَّتِى كَانَتْ تُكْتَبُ فِى الْكُتُبِ قَبْلَهُ فِى الأمْرِ الْوَاحِدِ وَالأمْرَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 535 قال أبو الحسن على بن أبى طالب: المفتاح يدل على السلطان وعلى المال والعلم والحكمة والصلاح، فإن كان مفتاح الجنة نال سلطانًا عظيما فى الدينأو علما كثيرًا من أعمال البر أو وجد كنزًا أو مالا حلالاً ميراثًا، وإن كان مفتاح الكعبة حجب سلطانًا أو أماما، ثم على نحو هذا فى سائر المفاتيح وجواهرها، وقال الكرمانى: قد يكون المفتاح إذا فتح به بابًا دعاء يستجاب له. - باب عمود الفسطاط تحت وسادته ودخول الجنة فى المنام / 20 - فيه: ابْن عُمَر، رَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ كَأَنَّ فِى يَدِى سَرَقَةً مِنْ حَرِيرٍ لا أَهْوِى بِهَا إِلَى مَكَانٍ فِى الْجَنَّةِ إِلا طَارَتْ بِى إِلَيْهِ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (إِنَّ أَخَاكِ رَجُلٌ صَالِحٌ) . قال المهلب: السرقة الكلة وهى كالهودج عند العرب وكون عمودها فى يد عمر دليل على الإسلام وطنبها الدين والعلم بالشريعة الذى به يرزق التمكن من الجنة حيث شاء، وقد يعبر هنا بالحرير عن شرف الدين والعلم؛ لأن الحرير أشرف ملابس الدنيا، فكذلك العلم بالدين اشرف العلوم، ودخول الجنة فى المنام يدل على دخولها فى اليقظة؛ لأن من بعض وجوه الرؤيا وجها يكون فى اليقظة كما يرى نصًا، وقد يكون دخول الجنة أيضًا دخول الإسلام الذى هو سبب الجنة، فمن دخله دخل الجنة كما قال تعالى: (فادخلنى فى عبادى وادخلى جنتي) وطيران الشرقة: قوة يرزقه الله على التمكن من الجنة حيث شاء كما فى الخبر عن جعفر بن أبى طالب أنه أكرمه الله بأن جعل قوة على الطيران فى الجنة، وفى خبر آخر: (إنما نسمه المؤمن طائر يعلق من شجر الجنة) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 536 وسألت المهلب فقلت: كيف ترجم البخارى باب عمود الفساط تحت وسادته ولم يذكر فى الحديث عمود فسطاط ولاوسادة؟ فقال لى: الذى يدل عليه الباب ويقه فى نفسى أنه رأى حديث السرقة أكمل مما ذكره فى كتابه، وفيه أن السرقة مضروبة فى الأرض على عمود كالخباء، وأن ابن عمر اقتلعها من عمودها فوضعها تحت وسادته وقام هو بالسرقة يمسكها، وهى كالهودجة من إستبرق فلا ينوى موضعًا من الجنة إلا طارت إليه، ولم يرض سنده بهذه الزيادة فلم يذكره وأدخله فى كتاب من طريق وثقة والله أعلم. وقد نقل فى كتابه مثل هذا كثيرًا فقال باب: إذا حرق المشرك المسلم هل يحرق، ثم أدخل سمل النبى عليه السلام أعين العرنين ولم يذكر سمل العرنين أعين الرعاء، وإنما ترجم بذلك ليدل أن ذلك من فعلهم مروى، وكما فعل بقول سهل بن أبى حثمة فى الأوسق الموسقة فى باب العرايا فتركه للين سنده أولا ثم أعجلته المنية عن تهذيب كتابه. - باب القيد فى المنام / 21 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ تَكْذِبُ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ، وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَمَا كَانَ مِنَ النُّبُوَّةِ فَإِنَّهُ لا يَكْذِبُ) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَنَا أَقُولُ هَذِهِ الأمة، وَكَانَ يُقَالُ الرُّؤْيَا ثَلاثٌ: حَدِيثُ النَّفْسِ، وَتَخْوِيفُ الشَّيْطَانِ، وَبُشْرَى مِنَ اللَّهِ، فَمَنْ رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ، فَلا يَقُصَّهُ عَلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 537 أَحَدٍ، وَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ، قَالَ: وَكَانَ يُكْرَهُ الْغُلُّ فِى النَّوْمِ، وَكَانَ يُعْجِبُهُمُ الْقَيْدُ، وَيُقَالُ الْقَيْدُ: ثَبَاتٌ فِى الدِّينِ. وَرَوَى قَتَادَةُ وَيُونُسُ وَهِشَامٌ وَأَبُو هِلالٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . وَأَدْرَجَهُ بَعْضُهُمْ كُلَّهُ فِى الْحَدِيثِ، وَحَدِيثُ عَوْفٍ أَبْيَنُ. وَقَالَ يُونُسُ: لا أَحْسِبُهُ إِلا عَنِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فِى الْقَيْدِ. قَالَ البخارى: لا تَكُونُ الأغْلالُ إِلا فِى الأعْنَاقِ. قال المهلب: روى عن النبى عليه السلام أنه قال: (القيد ثبات فى الدين) ، ومن رواية قتادة ويونس وغيرهم، وتفسير ذلك أنه يمنع من الخطايا ويقيد عنها. قال غيره: وقد ينصرف القيد على وجوه أحدها: فمن رأى ذلك على رجله وهو فى سفر فإنه يقيم بذلك الموضع إلا أن يرى ذلك قدحل عنه، وكذلك من رأى قيدًا فى رجليه فى مسجد أو فى موضع ينسب إلى الخير فإنه دين ولزوم لطاعة ربه وعباده له، فإن رآه مريض أو مسجون أو مكروب فهو طول بقائه فيه، وكذلك إن رآه صاحب دنيا فهو طول بقائه فيها أيضًا. قال المهلب: والغل مكروه لأن الله تعالى أخبر فى كتابه أنه من صفات أهل النار فقال: (إذ الأغلال فى أعناقهم والسلاسل (فقد دل على الكفر، وقد يكون الغل امرأة سوء تشين صاحبها، وأما غل اليدين لغير العنق فهو كفهما عن الشر. وقوله عليه السلام: (إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن) ، فمعناه - والله أعلم - إذا اقتربت الساعة وقبض أكثر العلم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 538 ودرست معالم الديانة بالهرج والفتنة، فكان الناس على فترة من الرسل يحتاجون إلى مذكر ومجدد لما درس من الدين كما كانت الأمم قبلنا تذكر بالنبوة، فلما كان نبينا محمد عليه السلام خاتم الرسل ومابعده من الزمان مايشبه الفترة عوضوا مما منع من النبوة بعده بالرؤيا الصادقة التى هى جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة الآتية بالتبشير والإنذار. وقد ذكر أبو سليمان الخطابى فى غريب الحديث عن أبى داود السجستانى أنه كان يقول فى تأويل قوله عليه السلام: (إذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب) . قال: تقارب الزمان هو استواء الليل والنهار قال والعبرون يزعمون أن أصدق الأزمان لوقوع التعبير وقت انبثاق الأنوار ووقت ينع الثمار وإدراكها وهما الوقتان اللذان يتقارب الزمان فيهما ويعتدل الليل والنهار. قال المؤلف: والتأويل الأول هو الصواب الذى أراده النبى عليه السلام لأنه قد روى مرفوعًا عنه روى معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبى هريرة، عن النبى عليه السلام أنه قال: (فى آخر الزمان لا تكذب رؤيا المؤمن وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثًا) . قال المؤلف: وأما قول ابن سيرين: وأنا اقول هذه الأمة. فتأويله والله أعلم أنه لما كان عنده معنى قوله عليه السلام: (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة) . ويراد به رؤيا الرجل الصالح لقوله عليه السلام: (الرؤيا الحسنة يراها الرجل الصالح جزء من ستة واربعين جزءًا من النبوة) . قال: (إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن) خشى ابن سيرين أن يتأول معناه أن عند تقارب الزمان لا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 539 تصدق إلا رؤيا الصالح المستكمل الإيمان خاصة، فقال: وأنا اقول هذه الأمة. يعنى تصدق رؤيا هذه الأمة كلها صالحها وفاجرها ليكون صدق رؤياهم زاجرة لهم وحجة عليهم؛ لدروس أعلام الدين وطموس آثاره بموت العلماء وظهور المنكر، والله أعلم. - باب: نزع الماء من البئر حتى يروى الناس رواه أبو هريرة عن النبى. / 22 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَا أَنَا عَلَى بِئْرٍ أَنْزِعُ مِنْهَا؛ إِذْ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ الدَّلْوَ، فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ، وَفِى نَزْعِهِ ضَعْفٌ، يَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ مِنْ يَدِ أَبِى بَكْرٍ، فَاسْتَحَالَتْ فِى يَدِهِ غَرْبًا، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِى فَرْيَهُ، حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ) . وترجم له باب: زع الذنوب والذنوبين من البئر بضعف وقال ابن عمر عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (رأيت الناس اجتمعوا فقام أبو بكر فنزع ذنوبًا) . . الحديث وعن أبى هريرة مثله. قال أبو سلمان: فسر أبو عبيد، وابن قتيبة طائفة من لفظ هذا الحديث ولم يتعرض أحد منهما لمعناه، وقد علمنا أن هذا مثل فى رؤيا النبى عليه السلام وإنما يراد بالمثل تقريب علم الشىء وإيضاحه بذكر نظيره، وفى إغفال بيانه والذهاب عن معناه وعن موضع التشبيه به إبطال فائدة المثل وإثبات الفضيلة لعمر على أبى بكر، إذ قد وصف بالقوة من حيث وصف أبو بكر بالضعف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 540 وتلك خطة أباها المسلمون، والمعنى - والله أعلم - أنه إنما أراد بهذا إثبات خلافتهما، والإخبار عن مدة ولايتهما، والإبانة عما جرى عليه أحوال أمته فى أيامهما، فشبه أمر المسلمين بالقليب وهو البئر العادية، وذلك لما يكون فيها من الماء الذى به حياة العباد وصلاح البلاد وشبه الوالى عليهم والقائم بأمورهم بالنازع الذى يستقى الماء ويقربه من الوارد، ونزع أبى بكر ذنوبًا أو ذنوبين على ضعف فيه إنما هو قصر مدة خلافته، والذنوبان مثل ما فى السنتين اللتين وليهما واشهر بعدهما، وانقضت أيامه فى قتال أهل الردة واستصلاح أهل الدعوة ولم يتفرغ لافتتاح الأمصار وجباية الأموال، فذلك ضعف نزعه، وأما عمر فطالت أيامه واتسعت ولايته، وفتح الله على يديه العراق والسواد وأرض مصر وكثيرًا من بلاد الشام، وقد غنم أموالها وقسمتها فى المسلمين فأخصبت رحالهم وحسنت بها أحوالهم فكان جودة نزعه مثلا لما نالوا من الخير فى زمانه والله أعلم. قال المؤلف: فذكر الطبرى مثل ماحكى الخطابى عن ابن عباس أنه قال: فتأول الناس معنى قوله: (حتى ضرب الناس بعطن) أبى بكر وعمر - رضى الله عنهما. قال الخطابى: والعرب تضرب المثل فى المفاخرة والمغالبة بالمساقاة والمساجلة فتقول فلان يساجل فلانًا أى: يقاومه ويغالبه، واصل ذلك أن يستقى ساقيان فيخرج كل واحد منهما فى سجله مايخرج الآخر فأيهما نكل غلب، قال العباس بن الفضل يذكر ذلك: من يساجلنى يساجل ماجدًا يملأ الدلو إلى عقد الكرب . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 541 وقوله: (بينا أنا على بئر أنزع منها) . قال صاحب العين يقال: نزعت الشىء نزعًا: قلعته، وبئر نزوع إذا نزعت دلاؤها بالأيدى، وجمل نزوع ينزع عليه الماء. والذنوب: الدلو الملأى، ويكون النصيب أو الغرب أعظم من الدلو، عن صاحب العين. وقال أبو عبيد: قوله: (يفرى فريه) كقوله يعمل عمله، ويقول كقوله ونحو هذا، وأنشد الأحمر: قد أطعمتنى وقلا حوليا مسوسًا مدودًا حجريًا قد كنت تفرين به الفريا أى قد كنت تكثرين فيه القول وتعظمينه. ومنه قوله تعالى: (لقد جئت شيئًا فريا) أى مشينًا عظيمًا، وقال الأصمعى: سألت أبا عمرو بن العلاء عن العبقرى فقال: يقال هذا عبقرى قوم يعنون: سيد قوم وكبيرهم وقويهم. قال أبو عبيد: أصله فيما يقال أنه نسب إلى عبقر، وهى أرض يسكنها الجن فصارت مثلاً لك منسوب إلى شىء رفيه، ويقال فى عبقر الجن أرض تعمل فيها البرود؛ ولذلك نسب الوشى إليها؛ ومن هذا قيل للبسط عبقرية لأنها نسبت إلى تلك البلاد. قال ابن دريد: فإذا استحسنوا شيئًا وعجبوا من شدته ومضائه نسبوه إلى عبقر، وقالوا: ظلم عبقرى شديد فاحش وفى التنزيل: (عبقرى حسان) خوبطوا بما عرفوا. وقال ابن الأنبارى: أصل العطن الموضع الذى تبرك فيه الإبل قرب الماء إذا شربت لتعاد إاليها إن أرادت ذلك، يقال عطنت الإبل وأعطنها صاحبها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 542 - باب: الاستراحة فى المنام / 23 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ أَنِّى عَلَى حَوْضٍ أَسْقِى النَّاسَ، فَأَتَانِى أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَ الدَّلْوَ مِنْ يَدِى؛ لِيُرِيحَنِى، فَنَزَعَ ذَنُوبَيْنِ، وَفِى نَزْعِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، فَأَتَى ابْنُ الْخَطَّابِ، فَأَخَذَ مِنْهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَنْزِعُ حَتَّى تَوَلَّى النَّاسُ، وَالْحَوْضُ يَتَفَجَّرُ) . قال المهلب: فيه دليل أن الدنيا للصالحين دار نصب وتعب وأن الراحة منها الموت على الصلاح والدين كما استراح النبى عليه السلام من تعب ذلك السقى بالموت. والحوض خاهنا: معدن العلم وهو القرآن الذى يغرف الناس كلهم منه دون أن ينتقص حتى يروا وهو معدن لايفنى ولاينتقص. - باب القصر فى المنام / 24 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِى فِى الْجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، قُلْتُ: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ قَالُوا: لِعُمَرَ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَبَكَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ثُمَّ قَالَ: أَعَلَيْكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغَارُ. / 25 - ورواه جَابِر، عن النَّبيىّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ فِيهِ: فَقُلْتُ: (لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقَالُوا: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ. وترجم له باب: الوضوء فى المنام. قال المهلب: هذه الرؤيا بشرى لعمر بن الخطاب بقصر فى الجنة وهذه الرؤيا مما تخرج على حسب مارؤيت بغير رمز ولا غموض تفسير، والجارية كذلك والوضوء إنما يؤخذ منه اسمه من الوضاءة، لأنه ليس فى الجنة وضوء لصلاة ولاعبادة، وفيه دليل على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 543 الحكم لكل رجل بما يعلم من خلقه ألاترى أن النبى - عليه السلام - لم يدخل القصر حين ذكر غيره عمر، وقد علم عليه السلام أنه لايغار عليه لأنه أبو المؤمنين، وكل مانال بنوه المؤمنين من خير الدنيا والآخرة فسببه وعلى يديه (صلى الله عليه وسلم) ، لكن أراد أن يأتى ما يعلم أنه يوافق عمر أدبا منه. وقال ابن سيرين: من رأى أنه يدخل الجنة فإنه يدخلها إن شاء الله؛ لأن ذلك بشارة لما قدم من خير أو يقدمه. وقال الكرمانى: وأما بنيانها فهى نعيمها. وأما نساؤها فهى أجور فى أعمال البر على قدر جمالهن. قال على بن أبى طالب: وقد ينصرف دخول الجنة فى المنام على وجوه فيدل لمن يحج على تمام حجه، ووصوله إلى الكعبة المؤدية إلى الجنة، وإن كان كافرًا أو مذنبًا بطالا ورأى ذلك غيره له أسلم من كفره وتاب من بطالته، وإن كان مريضا مات من مرضه؛ لأن الجنة هى أجر المؤمنين إن كان المريض مؤمنًا، وإن كان كافرًا أفاق من علته لأن الدنيا جنة الكافرين، وإن كان عزبًا تزوج لأن الآخرة على السعى إلى الجمعة والجماعة، ودار العلم وحلق الذكر، والجهاد والرباط وكل مكان يؤدى إليها. وقال: ومن رأى أنه يتوضًا فى المنام فإنه وسيلة السلطان أو إلى عمل من الأعمال فمن تم له فى النوم تم له مايؤمله فى اليقظة، وإن تعذر عليه إن عجز الماء أو توضأ بما لايجوز له الصلاة به لم يتم له ما يحاوله، والوضوء للخائف فى اليقظة أمان له لما جاء فى فضل الوضوء، وربما دل الوضوء على الثواب وتكفير الجزء: 9 ¦ الصفحة: 544 الخطايا لما جاء أنها تخرج من آخر قطر الماء، وربما دل الوضوء على الصوم؛ لأن الصائم ممتنع من كثير من لذاته والمتوضىء يدانيه فى ذلك، والوضوء والصوم واللجام ورباط اليد والقيد شركان فى التأويل ويتعاقبون فى التعبير، وقد تقدم حديث أبى هريرة فى كتاب النكاح فى باب الغيرة. - باب: الطواف بالكعبة فى المنام / 26 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِى أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعَرِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، يَنْطُفُ رَأْسُهُ مَاءً، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: ابْنُ مَرْيَمَ، فَذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ، فَإِذَا رَجُلٌ أَحْمَرُ جَسِيمٌ، جَعْدُ الرَّأْسِ، أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا الدَّجَّالُ، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ) . قال بعض التأويل: الطواف بالبيت ينصرف عى وجوه، فمن رأى أنه يطوب بالبيت فإنه يحج إن شاء الله، وقد يكون تأويل ذلك إن كان يطلب حاجة من الإمام بشارة نيلها منه؛ لأن الكعبة إمام الخلق كلهم، وقد يكون الطواف تطهيرًا من الذنوب لقوله تعالى: (وطهر بيتى للطائفين) ، وقد يكون الطواف لمن يريد أن يسترى أو يتزوج امرأة حسناء دليلا على تمام إرادته، وقال على بن أبى طالب العابر: وقد يكون الطواف لمن كان ذا والدين والدين أن يحسن برهما وزوجة يسعى عليها أو كان يخدم عالمًا أو كان عبدًا ينصح سيدة بشارة بالثواب عن فعله في اليقظة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 545 وقال المهلب: ووصف عليه السلام عيسى بن مرين ووصف الدجال بصفاتها التى خلقهما الله عليها؛ لكونها فى زمن واحد، ولأن الحديث قد جاء عنه عليه السلام أن عيسى يقتل الدجال، فوصف الدجال بصفة لا تشكل عليهم على حسب مارأه، وهى العور، والذي لايجوز على ذوي العقول أن يصفوا بالإلهية والقدرة من كان بتلك الصفة؛ إذ الإله لاتجوز عليه الآفات وهذا مدعيها وقد جازت عليه الآفة، فهى برهان على تكذيبه، وقوله: (ينطف رأسه ماء) فالمنطف: الصب، وليلة نطوف: ماطرة، من كتاب العين. - باب: الأمن وذهاب الروع فى المنام / 27 - فيه: ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: إِنَّ رِجَالا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) كَانُوا يَرَوْنَ الرُّؤْيَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام فَيَقُصُّونَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَيَقُولُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام مَا شَاءَ اللَّهُ، وَأَنَا غُلامٌ حَدِيثُ السِّنِّ، وَبَيْتِى الْمَسْجِدُ قَبْلَ أَنْ أَنْكِحَ، فَقُلْتُ فِى نَفْسِى لَوْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ؛ لَرَأَيْتَ مِثْلَ مَا يَرَى هَؤُلاءِ، فَلَمَّا اضْطَجَعْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ فِى خَيْرًا، فَأَرِنِى رُؤْيَا، فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ؛ إِذْ جَاءَنِى مَلَكَانِ فِى يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، يُقْبِلانِ بِى إِلَى جَهَنَّمَ، وَأَنَا بَيْنَهُمَا أَدْعُو اللَّهَ: اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَهَنَّمَ، ثُمَّ أُرَانِى لَقِيَنِى مَلَكٌ فِى يَدِهِ مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَقَالَ: لَنْ تُرَاعَ، نِعْمَ الرَّجُلُ أَنْتَ، لَوْ كُنْتَ تُكْثِرُ الصَّلاةَ، فَانْطَلَقُوا بِى حَتَّى وَقَفُوا بِى عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا هِى مَطْوِيَّةٌ كَطَى الْبِئْرِ، لَهُ قُرُونٌ كَقَرْنِ الْبِئْرِ، بَيْنَ كُلِّ قَرْنَيْنِ مَلَكٌ بِيَدِهِ مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَأَرَى فِيهَا رِجَالا مُعَلَّقِينَ بِالسَّلاسِلِ، رُءُوسُهُمْ أَسْفَلَهُمْ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 546 عَرَفْتُ فِيهَا رِجَالا مِنْ قُرَيْشٍ، فَانْصَرَفُوا بِى عَنْ ذَاتِ الْيَمِينِ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ عَبْدَاللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ، لَوْ كَانَ يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ) . فَقَالَ نَافِعٌ: فَلَمْ يَزَلْ بَعْدَ ذَلِكَ يُكْثِرُ الصَّلاةَ. وترجم له باب الأخذ على اليمين فى النوم، وقال فيه: (وقلت: اللهم إن كان لى عندك خير فأنرى منامًا يعبر لى رسول الله، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : عبد الله رجل صالح لو كان يكثر الصلاة من الليل) . قال المهلب: هذا الحديث مما فسرت فيه الرؤيا على وجهها، وفيه دليل على توعد الله عباده وجواز تعذيبهم على ترك السنن. وقول الملك: (لم ترع، نعم الرجل أنت لو تكثر الصلاة بالليل) هذه الزيادة تفسر سائر طرق هذا الحديث. وفيه: الحكم بالدليل؛ عبد الله استدل على أن اللذين أتياه ملكان؛ لأنهما أوقفاه على جهنم ووعظاه بها، والشيطان لايعظ ولايذكر بالخير، فاستدل بوعظهما وتذكيرهما أنهما ملكان. وقوله: (لم ترع) هذا خرج على ماراه، وعلى أنه ليس من أهل مارآه لأنه إذا قام الدليل أنهما ملكان فلا يكون كلامهما إلا حقًا. وفيه: دليل على أن مافسر فى النوم فهو تفسير فى اليقظة؛ لأن النبى عليه السلام لم يزد فى تفسيرها على ما فسرها الملك. وفيه: دليل على أن أصل التعبير من قبل الأنبياء؛ ولذلك كانوا يتمنون أن يروا رؤيا فيفسرها النبى لتكون عندهم أصلا، وهو مذهب الأشعرى أن أصل التعبير بالتوقيف من قبل الأنبياء وعلى ألسنتهم، وهو كما قال، لكن المحظوظ على الأنبياء وإن كان أصلا فلا يعم اشخاص الرؤيا، فلا بد للبارع فى هذا العلم أن يستدل بحسن نظره الجزء: 9 ¦ الصفحة: 547 فيرد مالم ينص عليه إلى حكم التمثيل، ويحكم له بحكم الشبيه الصحيح فيجعل أصلا يقاس عليه كما يفعل فى فروع الفقه. وقد تقدم فى باب فضل قيام الليل فى آخر كتاب الصلاة شىء من معنى هذا الحديث. - باب: إذا طار الشىء فى المنام / 28 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ أَنَّهُ وُضِعَ فِى يَدَىَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقِطَعْتُهُمَا وَكَرِهْتُهُمَا، فَأُذِنَ لِى فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا: كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ) . قَالَ عُبَيْدُاللَّهِ: أَحَدُهُمَا الْعَنْسِى الَّذِى قَتَلَهُ فَيْرُوزٌ بِالْيَمَنِ، وَالآخَرُ مُسَيْلِمَةُ. قال المهلب: هذه الرؤيا ليست على وجهها، وإنما هى على ضرب المثل، وإنما أولهما النبى بالكذابين؛ لأن الكذب إنما هو الإخبارعن الشىء بخلاف ما هو به ووضعه فى غير موضوعه، فلما رآهما فى ذراعيه وليسا موضعًا للسوارين؛ لأنهما ليسا من حلية الرجال علم أنه سيقضى على يدى النبى - يعنى على أوامره ونواهيه - من يدعى ما ليس له، كما وضعا حيث ليس لهما، وكونهما من ذهب، والذهب منهى عنه فى الدين دليل على الكذب من وجوه: أحدها: وضع الشىء غير موضوعه. والثانى: كون الذهب مستعملاً فى الرجال وهو منهى عنه والذهب مشتق منه الذهاب، فعلم أنه شيء يذهب عنه ولايبقى، ثم وكد له الأمر فأذن له فى نفخهما فطارًا عباره أنهما لايثبت لهما أمر، وأن كلامه عليه السلام بالوحي الذى جاءه به يزيلهما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 548 الذي قاما فيه، والنفخ دليل على الكلام. وقال الكرمانى: من رأى أنه يطير بين السما والأرض أو من مكان إلى مكان فإن كانت من الأضغاث فإنه كثير التمنى والفكر والاغترار بالأمانى، وإن كانت رؤيا صحيحة وكان يطير فى عرض السما فإنه يسافر سفرًا بعيدًا وينال رفعة (بقدر ما استقل من الأرض فى طيرانه، فإن طار إلى السماء مستويا لا يتعرج ناله ضر، فإن وصل إلى السماء بلغ الغاية فى ضره، فإن غاب فيها ولم يرجع مات، وإن رجع إلى الأرض أفاق) . وقال ابن أبى طالب العابر: وإن كان ذلك بجناح فقد يكون جناحه مالا ينهض به أو سلطانًا يسافر تحت كنفه، فإن كان بغير جناح دل على التغرير فيما يدخل فيه. وقوله: (سواران) والأكثر عند أهل اللغة سوار بغير الف، قال أبو عبيدة: سوار المرأة وسوارها. قال أبو على الفارسى: وحكى قطرب إسوار، وذكر أن اساور جمع إسوار على حذف الياء؛ لأن جمع إسوار أساوير. - باب: إذا رأى بقرًا تنحر / 29 - فيه: أَبُو مُوسَى: قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (رَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ أَنِّى أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِى إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ، أَوْ هَجَرٌ، فَإِذَا هِى الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ، وَرَأَيْتُ فِيهَا بَقَرًا، وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَإِذَا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ وَثَوَابِ الصِّدْقِ الَّذِى آتَانَا اللَّهُ بِهِ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 549 قال المهلب: هذه الرؤيا فيها نوعان من التأويل فيها الرؤيا على حسب مارئيت وهو قوله: (أهاجر إلى أرض بها نخل وكذلك هاجر فخرج على ما رأى، وفيها ضرب المثل؛ لأنه رأى بقرًا تنحر، فكانت البقر أصحابه، فعبر عليه السلام عن حال الحرب بالبقر من أجل مالها من السلاح والقرون شبهت بالرماح، ولما كان من طبع البقر المناطحة والدفاع عن أنفسها بقرونها كما يفعل رجال الحرب، وشبه عليه السلام النحر بالقتل) . وقوله: (والله خير) يعنى ماعند الله من ثواب القتل فى سبيل الله خير للمقتول من الدنيا. وقيل: معى: (والله خير) إن صنع الله خير لهم وهو قتلهم يوم أحد، وقد تدل البقر على أهل البادية لعمارتهم الأرض، وعيشهم من نباتها، وقد يدل الثور الواحد على التأثر؛ لأنه يثير الأرض عن حالها، فكذلك الثأر أيضًا يثير الناحية التى يقوم فيها ويحرك أهلها ويقلب اسفلها أعلاها. قال ابن أبى طالب: والبقر إذا دخلت المدينة فإن كانت سمانًا فهى سنى رخاء، وإن كانت عجافًا كانت شدادًا وإن كانت المدينة مدينة بحر وإبان السفر قدمت سفن على عددها وحالها إلا كانت فتن مترادفة كأنها وجوه البقر كما فى الخبر: (يشبه بعضها بعضًا وفى خير آخر فى الفت) كأنها صياصى البقر (يريد لتشابهها بعضًا) صفرًا كلها فإنها أمراض تدخل على الناس، وإن كانت مختلفة الألوان شنيعة القرون أو كان الناس ينفرون منها، أو كان النار والدخان يخرج من أفواهها فإنه عسكر أو غارة أو عدو يضرب عليهم فينزل بساحتهم، وقد يدل البقر على الوةجة والخادم والأرض والغلة والسنة؛ لمايكون فيها من الولد والغلة والنبات. وقوله: (وهلى) يعنى وهمى، عن صاحب العين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 550 - باب: النفخ فى المنام / 30 - فيه: هَمَّام، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ) ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ؛ إِذْ أُوتِيتُ خَزَائِنَ الأرْضِ، فَوُضِعَ فِى يَدَىَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَكَبُرَا عَلَىَّ، وَأَهَمَّانِى، فَأُوحِىَ إِلَىَّ أَنِ انْفُخْهُمَا، فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا: الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا: صَاحِبَ صَنْعَاءَ، وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ) . النفخ فى المنام إزالة الشىء المنفوخ فيه، وإهاب له بغير تكلف شديد لسهولة النفخ على النافخ، والنفخ دليل على الكلام، وكذلك أهلك الله الكذابين صاحب صنعاء واليمامة بكلامه عليه السلام وأمر بقتليهما، وقد تقدم هذا المعنى فى باب إذا طار الشىء فى المنام. وأما قول همام: هذا ماحدثنا به أبو هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (نحن الآخرون السابقون) وأتى بحديث السوارين، فمعنى ذلك - والله أعلم - أن همامًا روى عن أبى هريرة أحاديث ليست بالكثيرة تعرف بقطعة همام وفى أولها: (نحن الآخرون السابقون) فأراد أن يذكر ذلك فى مواضع من هذا المصنف وقد نبهنا على هذا المعنى فى باب لايبول فى الماء الدائم، فى كتاب الوضوء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 551 - باب: إذا رأى أنه أخرج الشىء من كورة فأسكنه موضعًا آخر / 31 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (رَأَيْتُ كَأَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ، خَرَجَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ حَتَّى قَامَتْ بِمَهْيَعَةَ، وَهِى الْجُحْفَةُ، فَأَوَّلْتُ أَنَّ وَبَاءَ الْمَدِينَةِ نُقِلَ إِلَيْهَا) . وترجم له: باب المرأة السوداء، وباب المرأة الثائرة الرأس. قال المهلب: هذه الرؤيا ليست على وجهها، وهى مما ضرب بها المثل فبعض المعبرين يجهل وجه التمثيل فى ذلك فتأول النبى عليه السلام خروجها مشخصة ماجمع اسمها، وقد اختلف فى معنى إسكانها الجحفة، فقيل: لعدوان أهلها وأذاهم للناس. وقيل: لأن الجحفة قليلة البشر. فكأنه رأى أن يعافى منها الكثير مع بلية القليل. وأما ثوران راسها فتأول منه أنها لما كانت الحمى مثيرة للبدن بالاقشعرار وارتفاع الشعر عبر عن حالها فى النوم باتفاح شعر رأسها، فكأنه قيل له: الداء الذى يسوء ويثير الشعر يخرج من المدينة. وقيل: إن معنى الاقشعرار: الاستيحاش، فكذلك هذا الداء تستوحش النفوس منه. وقال على بن أبى طالب العابر: أى شىء دلت عليه السوداء فى أكثر وجوهها فهو مكروه، فربما دلت على الدنيا الحرام والزوجة الحرام، فمن وطئها فى المنام دخل فيما لايليق به، فإما طعامًا حرامًا يأكله أو شرابًا يشربه أو ثوبًا على ذلك النعت يلبسه أو دارًا مغصوبة يسكن فيها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 552 قال صاحب العين: الكور: الرحل والجمع أكوار وكيران. 30 - باب: إذا هز سيفًا فى المنام / 32 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (رَأَيْتُ فِى رُؤْيَاى أَنِّى هَزَزْتُ سَيْفًا، فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ، فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى، فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ، فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ) . قال المهلب: هذه الرؤيا على ضرب المثل وغير الوجه المرئى والسيف ليس هو أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) لكنهم لما كانوا ممن يصول بهم النبى عليه السلام كما يصول بالسيف ويغنون عنه غنى السيف عبر عنهم بالسيف، وللسيف وجوه، فمن تقلده فى المنام فإنه ينال سلطانًا أو ولاية، أو إمامة أو وديعة يعطاها أو زوجة ينكحها إن كان عزبًا أو تلد زوجته غلامًا إن كانت حاملاً، فإن سله من غمدة وتكسر الغمد وسلم السيف فإن امرأته تموت وينجو ولده، فإن تكسر السيف وسلم الغمد هلك الولد وسلمت الأم، وربما يكون السيف أباه أو عمه أو أهاه يموت، فإن انكسرت النعلة ماتت أمه أو خالته أو نظيرهما والقائم أبدًا فى اآباء والنعلة فى الأمهات، فإن رآه بيده وتهيأ ليلقى به عدوًا أو يضرب به شخصًا، فسيفه لسانه يجرده فى خصومه أو منازعه، فإن لم تكن له نية وكان بذلك فى مسجد أو كان الناس يتوضئون من عنده، أو رأى شيئًا فى لحيته فإنه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 553 يقوم مقامًا بحجة ويبدى لسانه بالنصيحة والعلم والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وربما يكون السيف سلطانًا جائرًا. 31 - باب من كذب فى حلمه / 33 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ، وَلَنْ يَفْعَلَ، وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ، وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ - أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ - صُبَّ فِى أُذُنِهِ الآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ صَوَّرَ صُورَةً عُذِّبَ وَكُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا وَلَيْسَ بِنَافِخٍ) . عن أبى هريرة قوله: (من كذب فى رؤياه) ، (ومن صور صورة، ومن تحلم واستمع) وروى عن ابن عباس مثله. (1) / 34 - وفيه: ابْن عُمَرَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ مِنْ أَفْرَى الْفِرَى أَنْ يُرِى عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَ) . قال محمد بن جرير: إن قال قائل: ماوجه خصوص النبى عليه السلام الكاذب فى رؤياه بما خصه به من تكليف العقد بين طرفى شعرتين يوم القيامة، وهل الكاذب فى رؤياه إلا كالكاذب فى اليقظة، وقد يكون الكذب فى اليقظة أعظم فى الجرم إذا كان شهادة توجب على المشهود عليه بها حدًا أو قتلاً أو مالاً يؤخذ منه، وليس ذلك فى كذبه فى منامه؛ لأن ضرر ذلك عليه فى منامه وحده دون غيره. قيل له: اختلفت حالتهما فى كذبهما، فكان الكاذب على عينيه فى منامه أحق بأعظم النكالين وذلك لتظاهر الأخبار عن النبى عليه السلام أن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، والنبوة لاتكون إلا وحيًا من الله، فكان معلومًا بذلك أن الكاذب فى نومه كاذب على الله أنه اراه مالم ير، والكاذب على الله أعظم فرية وأولى بعظيم العقوبة من الكاذب على نفسه، بما أتلف به حقًا لغيره أو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 554 أوجبه عليه، وبذلك نطق محكم التنزيل فقال تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم لعنة الله على الظالمين) . فابان ذلك صحة ماقلناه أن الكذب فى الرؤيا ليس كالكذب فى اليقظة؛ لأن أحداهما كذب على الله والآخر كذب على المخلوقين. قال المهلب فى قوله: كلف أن يعقد بين شعرتين حجة للأشعرية فى تجويزهم تكليف مالا يطاق، وفى كتاب الله مايزيد ذلك بيانًا وهو قوله تعالى: (يوم يدعون إلى السجود فلا يستطيعون (ولله أن يفعل فى عباده ماشاء لايسأل عما يفعل وهم يسألون. ومنع من ذلك الفقهاء والمعتزلة واحتجوا بقوله تعالى: (لايكلف الله نفسًا إلا وسعها) . وقالوا: قوله تعالى: (يوم يدعون إلى السجود) وتكليفه عليه السلام العقد بين شعرتين وما أشبهه من أحكام الآخرة وليست الآخرة دار تكليف، وإنما هى دار مجازاة فلا حجة لهم فى ذلك؛ لأن الله تعالى قد أخبر فى كتابه بأنه لايكلف نفسًا من العبادات فى الدنيا إلا وسعها، ولو كلفهم ما لايقدرون عليه فى الدنيا لكان فى ذلك كون خبره الصادق على خلاف إخبار الله تعالى، وعلى هذا التأويل لاتضاد الآيات. وقال الطبرى: إن سأل سائل عن معنى قوله: (من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون. .) الحديث. فقال: أرأيت إن استمع إلى حديث قوم لا ضرر على المحدثين فى استماعه إليهم، وللمستع فيه نفع عظيم إما فى دينه أو دنياه، أيجوز استماعه إليه وإن كره ذلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 555 المتحدثون؟ قيل: المستمع لا يعلم هل له فيه نفع إلا بعد استماعه إليه، وبعد دخوله فيما كره له رسول الله عليه السلام فغير جائز له اسماع حديثهم، وإن كان ضرر عليهم فيه؛ لنهى النبى عليه السلام عن الاستماع إلى حديثهم نهيًا عامًا، فلا يجوز لأحد من الناس أن يستمع إلى حديث قوم يكرهون استماعه، فإن فعل ذلك فأمره إلى خالفه إن شاء غفر له وإن شاء عذبه. فإن قيل: أفرأيت من استمع إلى حديثهم وهو لايعلم هل يكرهون ذلك، هل هو داخل فيمن يصب فى أذنيه الآنك يوم القيامة؟ قيل: إن الخبر إنما ورد بالوعيد لمستمع ذلك وأهله له كارهون، فأما من لم يعلم كراهتهم لذلك فالصواب ألا يستمع حديثهم ألا بإذنهم له في ذلك؛ للخبر الذي روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أنه نهى عن الدخول بين المتناجيين) فى كراهية ذلك إلا بإذنهم. والآنك: الرصاص المذاب. وقولهم: أفرى الفرى يعنى: أكذب الكذب، والفرية: الكذبة العظيمة التى يتعجب منها. وجمعهافرى مقصور مثل لحية ولحى، وقد تقدم القول فى التصوير فى كتاب الزينة. 32 - باب: إذا رأى ما يكره فلا يخبر بها ولا يذكرها / 35 - فيه: أَبُو سَلَمَةَ، لَقَدْ كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا فَتُمْرِضُنِى حَتَّى سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ، يَقُولُ: وَأَنَا كُنْتُ لأرَى الرُّؤْيَا تُمْرِضُنِى حَتَّى سَمِعْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنَ اللَّهِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ، فَلا يُحَدِّثْ بِهِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 556 إِلا مَنْ يُحِبُّ، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ، فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ، وَلْيَتْفِلْ ثَلاثًا، وَلا يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ) . / 36 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يُحِبُّهَا، فَإِنَّهَا مِنَ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَيْهَا، وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ، فَإِنَّمَا هِى مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا، وَلا يَذْكُرْهَا لأحَدٍ فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ) . قال المؤلف: جاء فى حديث أبى قتادة فى الأبواب المتقدمة أن التفل ثلاثًا إنما يكون عن شماله، فمرة جاء (فليبصق عن يساره) ومرة جاء (فلينفث عن شماله) ، وفى هذا الباب (فليتفل) والمعنى فيه تقارب، وإنما أمر الله عليه السلام - والله أعلم - إذا رأى ما يحب إلا يحدث بها إلا من يحب؛ لأن المحب لايسوءه مايسر به صديقه، بل هو مسرور بما سره وغير حريص أن يتأول الرؤيا الحسنة شر التأويل، ولو أخبر بها من لايحبه لم يأمن أن يتأولها شر التأويل، فربما وافق ذلك وجهًا من الحق فى تأويلها فتخرج كذلك لقوله عليه السلام: (الرؤيا لأول عابر) وأما إذا رأى ما يكره فقد أمره عليه السلام بمداة مايخاف من ضرها وتلافيه بالتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان، ويتفل ثلاثًا عن يساره، ولايحدث بها فإنها لن تضره. فإن قال قائل: قد تقدم من قولك قد يكون من ضروب الرؤيا منذرة ومنبهة للمرء على الاستعداد للبلاء قبل وقوعه رفقًا من الله لعباده لئلا يقع وعلى غرة فيقتل، وإذا وقع على مقدمة وتوطين كان أقوى للنفس وابعد لها من أذى البغتة، وقد سبق في علم الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 557 إذا كانت الرؤيا الصحيحة من قبل الله محزنة أن تضر من رآها، فما وجه الحكمة فى كتمانها؟ . قال المهلب: فالجواب أنه إذا أخبر بالرؤيا المكروهة لم يأمن أن تفسر له بالمكروه فيستعجل الهم، ويتعذب بها ويترقب وقوع المكروه به، فيسوء حاله، ويغلب عليه اليأس من الخلاص من شرها، ويجعل ذلك نصب عينيه، وقد كان داود النبى عليه السلام من هذا البلاء الذى كان عجلة لنفسه بما أمره به من كتمانها والتعوذ بالله من شرها، وإذا لم تفسر له بالمكروه بقى بين الطمع والرجاء المجبولة عليه النفس أنها لاتجزع إما لأنها من قبل الشيطان أو أن لها تأويلا آخر على المحبوب، فأراد الرؤيا قد يبطؤ خروجها وعلى أن أكثر مايراه الإنسان مما يكرهه فهو من قبل الشيطان، ولو أخبر بذلك كله لم ينفك دهره دائما من الاهتمام بما لايؤذيه أكثره، وهذه حمة بالغة واحتياط على المؤمنين، فيجزى الله نبينا عنا خيرًا وصلى الله عليه وسلم. قال الطبرى: ووجه أمره عليه السلام بالنفث عن الشمال ثلاثًا - والله أعلم - إخساء للشيطان كما يتفل اإنسان عند الشىء القذر يراه أو يذكره، ولاشىء أقذر من الشيطان فأمره عليه السلام بالتفل عند ذكره، وأما خصوصه بذلك الشمال دون اليمين فلأن تأتى الشرور كلها عند العرب من قبل الشمال، ولذلك سمتها الشؤمى ولذلك كانوا يتشاءمون بماجاء من قبلها من طائر وحشى أخذ إلى ناحية اليمين فسمى ذلك بعضهم بارحًا وكانوا يتطيرون منه، وسماه بعضهم سانحًا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 558 وأنه ليس فيه كثير اعتمال من بطش وأخذ وإعطاء، وأكل وشرب وأصل طريق الشيطان إلى ابن آدم لدعائه إلى مايكرهه الله من قبلها. 33 - باب من لم ير الرؤيا لأول عابر إذا لم يصب / 37 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (إِنِّى رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ فِى الْمَنَامِ ظُلَّةً تَنْطُفُ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ، فَأَرَى النَّاسَ يَتَكَفَّفُونَ مِنْهَا، فَالْمُسْتَكْثِرُ وَالْمُسْتَقِلُّ، وَإِذَا سَبَبٌ وَاصِلٌ مِنَ الأرْضِ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَرَاكَ أَخَذْتَ بِهِ، فَعَلَوْتَ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلا بِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلا بِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَانْقَطَعَ ثُمَّ وُصِلَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِى أَنْتَ وَاللَّهِ، لَتَدَعَنِّى فَأَعْبُرَهَا، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : اعْبُرْهَا، قَالَ: أَمَّا الظُّلَّةُ فَالإسْلامُ، وَأَمَّا الَّذِى يَنْطُفُ مِنَ الْعَسَلِ وَالسَّمْنِ فَالْقُرْآنُ، حَلاوَتُهُ تَنْطُفُ، فَالْمُسْتَكْثِرُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْمُسْتَقِلُّ، وَأَمَّا السَّبَبُ الْوَاصِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ فَالْحَقُّ الَّذِى أَنْتَ عَلَيْهِ، تَأْخُذُ بِهِ فَيُعْلِيكَ اللَّهُ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ، رَجُلٌ مِنْ بَعْدِكَ فَيَعْلُو بِهِ ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ، رَجُلٌ آخَرُ فَيَعْلُو بِهِ ثُمَّ يَأْخُذُهُ رَجُلٌ آخَرُ فَيَنْقَطِعُ بِهِ ثُمَّ يُوَصَّلُ لَهُ، فَيَعْلُو بِهِ، فَأَخْبِرْنِى يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِى أَنْتَ أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ؟ قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : أَصَبْتَ بَعْضًا، وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا، قَالَ: فَوَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَتُحَدِّثَنِّى بِالَّذِى أَخْطَأْتُ، قَالَ: لا تُقْسِمْ) . قال المهلب: إنما عبر بالظله عن الإسلام؛ لأن الظله نعمة من نعم الله عن أهل الجنة، وكذلك كانت على بنى إسرائيل، وكذلك كانت تظل النبى عليه السلام أينما مشى قبل نوته، فكذلك الإسلام الجزء: 9 ¦ الصفحة: 559 يقي ويقي الأذى وينعم المؤمن فى الدنيا والآخرة، وأما العسل، فإن الله تعالى جعله شفاء للناس وقال فى القرآن: (شفاء لما فى الصدور) وهو ابدًا حلو على الأسماع كحلاوة العسل على المذاق، وكذلك جاء فى الحديث أن فى السمن شفاء من كل داء. والسبب: هو الحبل والعهد والميثاق، قال تعالى: (أينما ثقفوا إلا بحبل من الله) أى: بعهده وميثاق، والرجل الذى يأخذ الحبل بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) : أبو بكر الصديق يقوم بالحق فى أمته بعده، ثم يقوم بالحق بعده عمر، ثم يقوم بالحق بعده عثمان، وهو الذى انقطع به. قال المهلب: موضع الخطأ الذى قال له النبى (صلى الله عليه وسلم) : (وأخطأت بعضًا) فى قوله: (ثم وصل له) إنما الخطأ فى قوله: له، لأن فى الحديث: (ثم وصل) ولم يذكر له فالوصل إنما يكون لغيره، وكان ينبغى لأبى بكر أن يقف حيث وقفت الرؤيا، ويقول: ثم يوصل على نص الرؤيا، ولايذكر الموصول له، ومعنى كتمان النبى موضع الخطأ؛ لئلا يحزن الناس بالعارض لعثمان، فهو الرابع الذى انقطع له ثم وصل، أى وصلت الخلافة لغيره، وفى هذا تفسير للحديث الذى رواه أبو معاوية، عن الأعمش، عن يزيد الرقاشى، عن أنس بن مالك أن النبى عليه السلام قال: (الرؤيا لأول عابر) . وقال أبو عبيد وغيره من العلماء: تأويل قوله: (الرؤيا لأول عابر) إذا أصاب الأول وجه العبارة وإلا فهى لمن أصابها بعده، إذ ليس المدار إلا على إصابة الصواب فيما يرى النائم ليوصل بذلك إلى مراد الله بما ضربه من الأمثال فى المنام، فإذا اجتهد العابر وأصاب الصواب فى معرفة المراد بما ضربه الله فى المنام فلا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 560 تفسير إلا تفسيره ولاينبغي أن يسال عنها غيره، إلا أن يكون الأول قد قصر به تاويله فخالف اصول التأويل، فاللعابر الثانى أن يبين ماجهله ويخبر بما عنده كما فعل النبى عليه السلام بالصديق فقال: (أصبت بعضًا وأخطأت بعضًا) ولو كانت الرؤيا لأول عابر سواء أصاب أو أخطأ ماقال له الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (وأخطأت بعضًا) وقال الكرمانى: لا تغير الرؤيا عن وجهها التى رئيت له عبارة عابر ولاغيره، وكيف يستطيع مخلوق أن يغير ماجاءت نسخته من أم الكتاب، غير أن الذى يستحب لمن لم يتدرب فى علم التأويل ولااتسع فى التعبير الا يتعرض لما قد سبق إليه من لايشك فى إمامته ودينه، وله من التجربة فوق تجربته. قال ابن قتية: وليس ينبغى أن يسأل صاحب الرؤيا عن رؤياه إلا عالمًا ناصحا أمينا كما جاء فى الخبر عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (لا تقصص رؤياك إلا على عالم أو ناصح أوذى رأى من أهلك، فإنه سوف يقول خيرًا) وليس معنى ذلك أن الرؤيا التى يقول عليها خيرًا كانت دلالة على المكروه والشر، فقد قيل لمالك: أتعبر الرؤيا على الخير وهى عنده على الشر لوقل من قال: أنها على ماأولت؟ فقال: معاذ الله، والرؤيا من أجزاء النبوة فيتلاعب بالنبوة؟ ولكن الخير الذى يرجى من العالم والناصح هو التأويل بالحق أو يدعو له بالخير ودفع الشر، فيقول خيرًا لك وشرًا لعدوك إذا جهل التأويل. قال المهلب: وفيه أن للعالم أن يسكت عن تعبير بعض الرؤيا إذا خشى منها فتنة على الناس غمًا شاملاً، فأما إن كان الغم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 561 يخص واحدًا من الناس، واستفسر العابر عنه فلا بأس أن يخبر بالعبارة ليعد الصبر ويكون على أهبته من نزول الحادثة لئلا تفجأة فتفزعه، وقد فسر أبو بكر الصديق رضى الله عنه للمرأة التى رأت جائز بيتها انكسر، فقال: (يموت زوجك وتلدين غلامًا) لماخصها من الحزن وسالت عن التفسير. وفيه: تخصيص معنى أمره عليه السلام بإبرار القسم؛ لأن أبا بكر قد أقسم على النبى عليه السلام ليخبره بموضع الخطأ، فلم يبر قسمه فعلم أن إبرار القسم إنما يجوز إذا لم يكن فى ذلك ضرر على المسلمين، وكذلك إذا أقسم على ما لا يجوز أن يقسم عليه لم ينبغ أن يبر قسمه، الا ترى أن رجلا لو أقسم على أخيه ليشربن بالخمر، أو لعصين الله، لكان فرضًا عليه أن لا يبر قسمه. وفيه: أنه لا بأس للتلميذ أن يقسم على استاذه أن يدعه يفتى فى المسألة؛ لأن هذا القسم إنما هو بمعنى الرغبة والتدرب. وفيه: جواز فتوى المفضول بحضرة الفاضل إذا كان مشارًا إليه بالعلم والأمانة. والظلة: سبحانه لها ظل. وتنطف: تمطر. والسبب: الحبل. وقوله: (يتكففون) قال صاحب العين: تكفف واستكف: إذا بسط كفه ليأخذ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 562 34 - باب تعبير الرؤيا بعد الصبح / 38 - فيه: سَمُرَة، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لأصْحَابِهِ: هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا؟ قَالَ: فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ، وَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ: إِنَّهُ أَتَانِى اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِى، وَإِنَّهُمَا قَالا لِى: انْطَلِقْ وَإِنِّى انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، وَإِنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِى بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ، فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ فَيَتَهَدْهَدُ الْحَجَرُ هَا هُنَا، فَيَتْبَعُ الْحَجَرَ، فَيَأْخُذُهُ فَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ، كَمَا كَانَ ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأولَى، قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا هَذَانِ؟ قَالَ: قَالا لِى: انْطَلِقِ، انْطَلِقْ. وذكر الحديث بطوله، إلى قوله: قلت: إِنِّى قَدْ رَأَيْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ عَجَبًا، فَمَا هَذَا الَّذِى رَأَيْتُ، قَالَ: قَالا لِى: أَمَا إِنَّا سَنُخْبِرُكَ، أَمَّا الرَّجُلُ الأوَّلُ الَّذِى أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ، فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِى أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ، وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ فِى مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ، فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِى، وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِى أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِى النَّهَرِ، وَيُلْقَمُ الْحَجَرَ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا، وَأَمَّا الرَّجُلُ الْكَرِيهُ الْمَرْآةِ الَّذِى عِنْدَ النَّارِ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا، فَإِنَّهُ مَالِكٌ خَازِنُ جَهَنَّمَ، وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الَّذِى فِى الرَّوْضَةِ، فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ (صلى الله عليه وسلم) ، وَأَمَّا الْوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، قَالَ: فَقَالَ: بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَوْلادُ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : وَأَوْلادُ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنًا وَشَطْرٌ قَبِيح، فَإِنَّهُمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُمْ) . قال المهلب: أما معنى الترجمة في سؤاله عليه السلام عن الرؤيا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 563 عند صلاة الصبح أولى من غيره من الأوقات لحفظ صاحبها لها وقرب عهده لها، وأن النسيان قلما يعترض عليه فيها ولجام ذهن العابر وقله ابتدائه بالفكره فى أخبار معاشه ومداخلته للناس فى شعب دنياهم، وليعرف الناس مايعرض لهم فى نومهم ذلك، فيستبشرون بالخير ويحذرون موارد الشر، ويتأهبون لورود الأسباب الماوية عليهم، فربما كانت الرؤيا تحذيرًا عن معصية لاتقع إن جهدت، وربما كانت إنذارًا لما لابد من وقوعه، لا تقع إن جهدت، وربما كانت البشرى الخير سببًا لسماعها إلى الازدياد منه وقويت فيه نبيته وانشرحت له نفسه وتسبب إليه، وفى هذا الحديث حجة لمن قال إن أطفال المشركين فى الجنة كأطفال المسلمين، وقد تقدم فى الجنائز. وقوله: (يثلغ رأسه) يعنى: يشدخه، والمثلغ من الرطب والتمر: ماأسقطه المطر، الدهدهة: فنزول الشىء دهده من أعلاه إلى أسفل، والكلوب، والكلاب لغتان وقد تقدم تفسير الكلول والدهدهة فى الجنائز بزيادة على ما فى هذا الباب. وشرشر: قطع. من كتاب العين. والضوضاء: الصوت والجلبة، وقد ضوضا الناس. وفغرفاه يفغر، إذا فتحه. وقوله: يحشها، قال صاحب العين: حششت النار حشًا: أوقدتها وجمعت الحطب إليها، وكل ما قوى بشىء فقد حش به. ومغن إذا كثر شجرة ودغله. ولايعرف الأصمعى إلا أغن وحده. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 564 وقال صاحب العين: روضة غناء: كثيرة العشب والذباب، وقرية غناء: كثيرة الأهل، وواد أغن. وقوله: (كأن ماءه المحض فى البياض) ، قال صاحب العين المحض: اللبن بلا رغوه، وكل شىء خالص فهو محض، وقال: الرباب: السحاب واحدتها ربابة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 565 الجزء العاشر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 4 كِتَاب الْفِتَنِ - قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال 25] وَمَا كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُحَذِّرُ مِنَ الْفِتَنِ / 1 - فيه: أَسْمَاءُ، قَالَتْ: قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (أَنَا عَلَى حَوْضِى أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُ عَلَىَّ، فَيُؤْخَذُ بِنَاسٍ مِنْ دُونِى، فَأَقُولُ: أُمَّتِى، فَيُقَالُ: لا تَدْرِى، مَشَوْا عَلَى الْقَهْقَرَى) . وقَالَ ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْد عَلَى أَعْقَابِنَا أَوْ نُفْتَنَ. / 2 - وفيه: عَبْدُاللَّهِ، قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، لَيُرْفَعَنَّ إِلىَّ رِجَالٌ مِنْكُمْ حَتَّى إِذَا أَهْوَيْتُ لأنَاوِلَهُمُ اخْتُلِجُوا دُونِى، فَأَقُولُ: أَىْ رَبِّ، أَصْحَابِى، يَقُولُ: لا تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ) . / 3 - وفيه: سَهْل، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَمَنْ وَرَدَهُ شَرِبَ مِنْهُ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا، لَيَرِدُ عَلَىَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِى، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ) . وزاد أَبُو سَعِيد قَالَ: (إِنَّهُمْ مِنِّى) ، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا، سُحْقًا، لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 قال المؤلف: كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يستعيذ من الفتن ومن شرها ويتخوف من وقوعها؛ لأنها تذهب بالدين وتتلفه، وقال: قول الله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً) [الأنفال: 25] قال: إن الفتنة إذا عمّت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصى وانتشار المنكر. وقد سألت زينب النبى (صلى الله عليه وسلم) عن هذا المعنى فقالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كثر الخبث) وفسر العلماء الخبث أولاد الزنا، فإذا ظهرت المعاصى ولم تُغير، وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها، فإن لم يفعلوا فقد تعرضوا للهلاك، إلا أن الهلاك طهارة للمؤمنين ونقمة على الفاسقين، وبهذا قال السلف. وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: تهجر الأرض التى يصنع فيها المنكر جهارًا ولا يستقر فيها. واحتج بصنيع أبى الدرداء فى خروجه عن أرض معاوية حين أعلن بالربا وهو من الكبائر، وأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها فقال له أبو الدرداء: (سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينهى عن مثل هذا إلا مثلاً بمثل. فقال معاوية: ما أرى بمثل هذا بأسًا. فقال أبو الدرداء: من يعذرنى من معاوية، أنا أخبره عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويخبرنى عن رأيه لا أساكنك بأرض أنت بها) . وأما أحاديث أهل هذا الباب فى ذكر من يعرفهم النبى من أمته، ويحال بينهم وبينه، لما أحدثوا بعده، فذلك كل حدث فى الدين لا يرضاه الله من خلاف جماعة المسلمين، وجميع أهل البدع كلهم فيهم مبدلون محدثون، وكذلك أهل الظلم والجور، وخلاف الحق وأهله كلهم محدث مبدل ليس فى الإسلام داخل فى معنى هذا الحديث. وقوله: (اختلجوا دوني) . قال صاحب العين: خلجت الشيء، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 واختلجته: جذبته. وقوله: (فسحقًا سحقًا لمن بدل بعدي) يعنى: بعدًا له والسحيق: البعيد ومنه قوله تعالى: (فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك: 11] ، ومعنى ذلك: الدعاء على من بدّل وغيرّ كقوله: أبعده الله. قال أبو جعفر الداودى: وليس هذا مما يحتم به للمختلجين بدخول النّار؛ لأنه يحتمل أن يختلجوا وقتًا فيلحقهم من هول ذلك اليوم وشدته ما شاء الله، ثم يتلقاهم الله بما شاء من رحمته، ولا يدل قوله: (سحقًا سحقًا) أنه لا يشفع لهم بعد؛ لأن الله تعالى قد يلقى لهم ذلك فى قلبه وقتًا ليعاقبهم بما شاء إلى وقت يشاء، ثم يعطف قلبه عليهم فيشفع لهم، وقد جاء فى الحديث: (شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى) . وقد قال بعض السلف: فالذين يعرفهم النبى ويحال بينهم وبينه أنهم هم المرتدون، واستدل على ذلك بقوله: (أى رب أصحابى، فيقال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى) ذكره فى باب الحوض فى آخر الرقاق وفى هذه الأحاديث الإيمان بحوض النبى (صلى الله عليه وسلم) على ما ذهب إليه أهل السنة. - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (سَتَرَوْنَ بَعْدِى أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا وَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ زَيْدٍ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِ عَلَى الْحَوْضِ) . / 4 - فيه: ابن مسعود، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً، وَأُمُورًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 تُنْكِرُونَهَا) ، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ) . / 5 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا، فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) . / 6 - وفيه: عُبَادَة، بَايَعَنَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِى مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأمْرَ أَهْلَهُ، إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ. / 7 - وفيه: أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَعْمَلْتَ فُلانًا، وَلَمْ تَسْتَعْمِلْنِى، قَالَ: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِى) . قال المؤلف: فى هذه الأحاديث حجة فى ترك الخروج على أئمة الجور، ولزوم السمع والطاعة لهم والفقهاء مجمعون على أن الإمام المتغلّب طاعته لازمة، ما أقام الجمعات والجهاد، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما فى ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه: (سترون بعدى أثرةً وأمورًا تنكروها) فوصف أنهم سيكون عليهم أمراء يأخذون منهم الحقوق ويستأثرون بها، ويؤثرون بها من لا تجب له الأثرة، ولا يعدلون فيها، وأمرهم بالصبر عليهم والتزام طاعتهم على ما فيهم من الجور، وذكر على بن معبد، عن على بن أبى طالب أنه قال: لابد من إمامة برة أو فاجرة. قيل له: البرة لابد منها، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 فما بال الفاجرة؟ قال: تقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويقسم بها الفئ، ويجاهد بها العدو. ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث ابن عباس: (من خرج من السلطان شبرًا مات ميتةً جاهليةً) . وفى حديث عبادة: (بايعنا رسول الله على السمع والطاعة) إلى قوله: (وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا) فدل هذا كله على ترك الخروج على الأئمة، وألا يشق عصا المسلمين، وألا يتسبب إلى سفك الدماء وهتك الحريم، إلا أن يكفر الإمام ويظهر خلاف دعوة الإسلام، فلا طاعة لمخلوق عليه، وقد تقدم فى كتاب الجهاد، وكتاب الأحكام هذا. قال الخطابى: (بواحًا) يريد ظاهرًا باديًا، ومنه قوله: باح بالشىء يبوح به بوحًا وبئوحًا، إذا أذاعه وأظهره ومن رواه (براحًا) فالبراح بالشىء مثل البواح أو قريب منه، وأصل البراح الأرض القفر التى لا أنيس ولا بناء فيها، وقال غيره: البراح: البيان، يقال: برح الخفاء أى ظهر. 3 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (هَلاكُ أُمَّتِى عَلَى يَدَي أُغَيْلِمَةٍ سُفَهَاءَ من قريش / 8 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (هَلَكَةُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ) . فَقَالَ مَرْوَانُ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ غِلْمَةً، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ بَنِى فُلانٍ، وَبَنِى فُلانٍ لَفَعَلْتُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 قال المؤلف: وفى هذا الحديث أيضًا حجة لجماعة الأمة فى ترك القيام على أئمة الجور ووجوب طاعتهم والسمع والطاعة لهم، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) قد أعلم أبا هريرة بأسمائهم وأسماء آبائهم، ولم يأمره بالخروج عليهم ولا بمحاربتهم، وإن كان قد أخبر أن هلاك أمته على أيديهم، إذ الخروج عليهم أشدّ فى الهلاك وأقوى فى الاستئصال، فاختار (صلى الله عليه وسلم) لأمته أيسر الأمرين وأخف الهلاكين، إذ قد جرى قدر الله وعلمه أن أئمة الجور أكثر من أئمة العدل وأنهم يتغلّبون على الأمة، وهذا الحديث من أقوى ما يرد به على الخوارج. فإن قال قائل: (ما أراد النبى (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (هلاك أمتى) أهلاكهم فى الدين أم هلاكهم فى الدنيا بالقتل؟ . قيل: أراد الهلاكين معًا، وقد جاء ذلك بينًا فى حديث على بن معبد عن إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن عبيد الله، عن أبيه قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله: (أعوذ بالله من إمارة الصبيان. فقال أصحابه: وما إمارة الصبيان؟ فقال: إن أطعتموهم هلكتم، وإن عصيتموهم أهلكوكم، فهلاكهم فى طاعتهم هلاك الدين، وهلاككم فى عصيانهم هلاك الأنفس) . فإن قيل: فلم ذكر البخارى فى الترجمة أغيلمة سفهاء من قريش، ولم يذكر (سفهاء) فى حديث الباب؟ . قيل: كثيرًا ما يفعل مثل هذا، وذلك أن تأتى فى حديث لا يرضى إسناده لفظة تبين معنى الحديث فيترجم بها ليدل على المراد بالحديث، وعلى أنه قد روى عن العلماء ثم لا يسعه أن يذكر فى حشو الباب إلا أصحّ ما روى فيه لاشتراطه الصحةّ فى كتابه، وقد روى ذلك على بن معبد قال حدثنا أشعث بن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 سعيد، عن سماك، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (إن فساد أمتى، أو هلاك أمتى على رءوس غلمة سفهاء من قريش) . فبان بهذا الحديث أن الغلمة سفهاء، وأن الموجب لهلاك الناس بهم أنهم رؤساء وأمراء متغلبين. 4 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ / 9 - فيه: زَيْنَب، قَالَتِ: اسْتَيْقَظَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) مِنَ النَّوْمِ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ، يَقُولُ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ، مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ) ، وَعَقَدَ سُفْيَانُ تِسْعِينَ أَوْ مِائَةً، قِيلَ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: (نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ) . / 10 - وفيه: أُسَامَة، أَشْرَفَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: (هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى) ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: (فَإِنِّى لأرَى الْفِتَنَ تَقَعُ خِلالَ بُيُوتِكُمْ كَوَقْعِ الْقَطْرِ) . قال المؤلف: هذه الأحاديث كلها مما أنذر النبى (صلى الله عليه وسلم) بها أمته وعرّفهم قرب الساعة لكى يتوبوا قبل أن يهجم عليهم وقت غلق باب التوبة حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، وقد ثبت أن خروج يأجوج ومأجوج من آخر الأشراط، فإذا فتح من ردمهم فى وقته (صلى الله عليه وسلم) مثل عقد التسعين أو المائة فلا يزال الفتح يستدير ويتسع على مرّ الأوقات، وهذا الحديث فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (بعثت أنا والساعة كهاتين. وأشار بأصبعيه السبابة والتى تليها) وقد روى النضر بن شميل، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 هريرة قال: قال رسول الله: (ويل للعرب من شر قد اقترب، موتوا إن استطعتم) وهذا غاية فى التحذير من الفتن والخوض فيها حين جعل الموت خيرًا من مباشرتها، وكذلك أخبر فى حديث أسامة بوقوع الفتن خلال بيوتهم ليتوقفوا ولا يخوضوا فيها ويتأهبوا لنزولها بالصبر، ويسألوا الله العصمة منها والنجاة من شرها. قال ابن قتيبة: والخبث: الفسوق والفجور، والعرب تدعو الزنا خبثًا وخبيثة، وفى الحديث أن رجلا وجد مع امرأة يخبث بها أى يزني. قال الله تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ) [النور: 26] والأطم: حصن مبنى بالحجارة. 5 - باب ظُهُورِ الْفِتَنِ / 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّمَ هُوَ؟ قَالَ: (الْقَتْلُ، الْقَتْلُ) . / 12 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، وَأَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ لأيَّامًا، يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ) . وَالْهَرْجُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: الْقَتْلُ. / 13 - وَقَالَ عَبْدِ اللَّهِ لأبِى مُوسَى: تَعْلَمُ الأيَّامَ الَّتِى ذَكَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَيَّامَ الْهَرْجِ، قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكْهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 12 قال المؤلف: هذا كله إخبار من النبي بأشراط الساعة، وقد رأينا هذه الأشراط عيانًا وأدركناها، فقد نقص العلم، وظهر الجهل، وألقى بالشح فى القلوب، وعمّت الفتن، وكثر القتل، وليس فى الحديث ما يحتاج إلى تفسير غير قوله: (يتقارب الزمان) ومعنى ذلك، والله أعلم، تقارب أحوال أهله فى قلة الدين حتى لا يكون فيهم من يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر لغلبة الفسق وظهور أهله، وقد جاء فى الحديث: (لا يزال الناس بخير ما تفاضلوا، فإذا تساووا هلكوا) يعنى لا يزالون بخير ما كان فيهم أهل فضل وصلاح وخوف لله يلجأ إليهم عند الشدائد، ويستشفى بآرائهم، ويتبرك بدعائهم، ويؤخذ بتقويمهم وآثارهم. وقال الطحاوى: قد يكون معناه فى ترك طلب العلم خاصةً والرضا بالجهل، وذلك أن الناس لا يتساوون فى العلم؛ لأن درج العلم تتفاوت، قال الله تعالى: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف: 76] وإنما يتساوون إذا كانوا جهالا. قال الخطابى: وأما حديثه الآخر: (أنه يتقارب الزمان حتى تكون السنّة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة) فإن حماد بن سلمة قال: سألت عنه أبا سلمان فقال: ذلك من استلذاذ العيش. يريد، والله أعلم، خروج المهدى ووقوع الأمنة فى الأرض ببسطه العدل فيها فيستلذ العيش عند ذلك وتستقصر مدته، ولا يزال الناس يستقصرون أيام الرخاء وإن طالت، ويستطيلون أيام المكروه وإن قصرت، وللعرب فى مثل هذا: مر بنا يوم كالعرقوب القطا قصرًا. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 13 أحياء) فإنه وإن كان لفظه العموم فالمراد به الخصوص، ومعناه: أن الساعة تقوم فى الأكثر والأغلب على شرار الناس بدليل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تزال طائفة من أمتى على الحق منصورة لا يضرها من ناوأها حتى تقوم الساعة) . فدل هذا الخبر أن الساعة تقوم أيضًا على قوم فضلاء، وأنهم فى صبرهم على دينهم كالقابض على الجمر، وذكر فى مواضع. 6 - باب لا يَأْتِى زَمَانٌ إِلا الَّذِى بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ / 14 - فيه: الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِىٍّ، أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لا يَأْتِى عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلا الَّذِى بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ (صلى الله عليه وسلم) . / 15 - وفيه: أُمَّ سَلَمَةَ، اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَيْلَةً فَزِعًا يَقُولُ: (سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْفِتَنِ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ، يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ، لِكَىْ يُصَلِّينَ، رُبَّ كَاسِيَةٍ فِى الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِى الآخِرَةِ) . قال المؤلف: حديث أنس من علامات النبوة لإخبار النبى (صلى الله عليه وسلم) بتغير الزمان وفساد الأحوال، وذلك غيب لا يعلم بالرأى، وإنما يعلم بالوحى، ودل حديث أم سلمة على الوجه الذى يكون به الفساد، وهو ما يفتح الله عليهم من الخزائن وأن الفتن مقرونة بها، ويشهد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 14 لذلك قول الله تعالى: (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6، 7] فمن فتنة المال ألا ينفق فى طاعة الله، وأن يمنع منه حق الله، ومن فتنته السرف فى إنفاقه ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (رُبّ كاسية فى الدنيا عارية في الآخرة) . قال المهلب: فأخبر أن فيما فتح من الخزائن فتنة الملابس، فحذّر (صلى الله عليه وسلم) أزواجه وغيرهن أن يفتن فى لباس رفيع الثياب التى يفتن النفوس فى الدنيا رقيقها وغليظها، وحذّرهن التعرى يوم القيامة منها ومن العمل الصالح، وحضّهن بهذا القول أن يقدمن ما يفتح عليهن من تلك الخزائن للآخرة وليوم يحشر الناس عراةً، فلا يكسى إلا الأول فالأول فى الطاعة والصدقة، والإنفاق فى سبيل الله، فمن أراد أن تسبق إليه الكسوة فليقدمها لآخرته، ولا يذهب طيباته فى الدنيا وليرفعها إلى يوم الحاجة. وقوله: (من يوقظ صواحب الحجرات) ندب بعض خدمه لذلك، كما قال يوم الخندق: (من يأتينى بخبر القوم) وكذلك قال من يسهل عليه فى الليل أن يدور على حجر نسائه، فيوقظهن للصلاة والاستعاذة مما أراه الله من الفتن النازلة كى يوافقن الوقت المرجو فيه الإجابة، وأخبرنا (صلى الله عليه وسلم) أن حين نزول البلاء ينبغى الفزع إلى الصلاة والدعاء، فيرجى كشفه لقوله تعالى: (فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا) [الأنعام: 42] الآية، وقد تقدم حديث أم سلمة فى كتاب الصلاة فى باب تحريض النبى (صلى الله عليه وسلم) على صلاة اللّيل وذكرنا فيه معنىً زائدًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 15 7 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا / 16 - فيه: ابْن عُمَرَ، وَأَبُو مُوسَى، قَالا: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا) . / 17 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلاحِ، فَإِنَّهُ لا يَدْرِى، لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِى يَدِهِ، فَيَقَعُ فِى حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) . / 18 - وفيه: سُفْيَانُ، قُلْتُ لِعَمْرٍو: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، سَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ، يَقُولُ: مَرَّ رَجُلٌ بِسِهَامٍ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا) ، قَالَ: نَعَمْ. / 19 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِى مَسْجِدِنَا، أَوْ سُوقِنَا، وَمَعَهُ نَبْلٌ، فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا، أَوْ فَلْيَقْبِضْ بِكَفِّهِ، أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا شَىْءٌ) . قال المؤلف: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فليس منا) يعنى ليس متبعًا لسُنتنا ولا سالكًا سبيلنا، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (ليس منا من شق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) لأن من حق المسلم على المسلم أن ينصره ولا يخذله ولا يسلمه، وأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضُه بعضًا، فمن خرج عليهم بالسيف بتأويل فاسدٍ رآه، فقد خالف ما سَنّهُ النبى (صلى الله عليه وسلم) من نصرة المؤمنين وتعاون بعضهم لبعض، والفقهاء مجمعون على أن الخوارج من جملة المؤمنين لإجماعهم كلهم على أن الإيمان لا يزيله غير الشرك بالله ورسوله والجحد لذلك، وأن المعاصى غير الكفر لا يكفر مرتكبها، ذكر أسد بن موسى فى كتاب الكف عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 16 أهل القبلة قال: حدثنا هشيم بن بشير قال: حدثنا كوثر بن حكيم قال: حدثنا نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لابن مسعود: (أتدرى كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: حكم الله فيها أن لا يقتل أسيرها ولا يقسم فيئها، ولا يجهز على جريحها ولا يتبع مدبرها) . وبهذا عمل على بن أبى طالب، ورضيت الأمة بفعله هذا فيهم، وقال الحسن بن على: لولا على بن أبى طالب لم يعلم الناس كيف يقاتلون أهل القبلة، فقاتلهم على بما كان عنده من العلم فيهم من النبى (صلى الله عليه وسلم) فلم يكفرهم ولا سبَاهم ولا أخذ أموالهم، فمواريثهم قائمة، ولهم حكم الإسلام. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح) وأمرهُ للذى مر بالسهام فى المسجد أن يمسك نصالها، هو من باب الأدب وقطع الذرائع ألا يشير أحد بالسلاح خوف ما يئول منها ويخشى من نزع الشيطان. وقوله: (فيقع فى حفرة من النار) معناه: إن أنفذ الله عليه الوعيد، وهذا مذهب أهل السنة، ومن روى فى الحديث (ينزغ فى يده) فقال صاحب العين: نزغ بين القوم نزغًا: حمل بعضهم على بعض بفساد بينهم، ومنه نزغ الشيطان. وقال صاحب الأفعال: نزغ: طعن، ومن روى (ينزع) بالعين فهو قريب من هذا المعنى. قال صاحب العين: نزعت الشىء نزعًا: قلعته، ونزع بالسهم: من رمى به. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 17 8 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ / 20 - فيه: عَبْدُاللَّهِ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ) . / 21 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، وابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) . / 22 - وفى حديث أَبِى بَكْرَةَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ حُرِّقَ ابْنُ الْحَضْرَمِىِّ، حِينَ حَرَّقَهُ جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: أَشْرِفُوا عَلَى أَبِى بَكْرَةَ، قَالُوا: هَذَا أَبُو بَكْرَةَ يَرَاكَ. قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ، فَحَدَّثَتْنِى أُمِّى عَنْ أَبِى بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ دَخَلُوا عَلَىَّ مَا بَهَشْتُ بِقَصَبَةٍ. قال المؤلف: هذا الباب فى معنى الذى قبله، فيه النهى عن قتل المؤمنين بعضهم بعضًا، وتفريق كلمتهم وتشتيت شملهم، وليس معنى قوله: (لا ترجعوا بعدى كفارًا) النهى عن الكفر الذى هو ضد الإيمان بالله ورسوله، وإنما المراد بالحديث النهى عن كفر حق المسلم الذى أمر به النبى (صلى الله عليه وسلم) من التناصر والتعاضد، والكفر فى لسان العرب: التغطية، وكذلك قوله: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) يعنى: قتاله كفر بحقه وترك موالاته، للإجماع على أن أهل المعاصى لا يكفرون بارتكابها. وقال أبو سليمان الخطابى: قيل: معناه لا يكفر بعضكم بعضًا فتستحلوا أن تقاتلوا ويضرب بعضكم رقاب بعض، وقيل: إنه أراد بالحديث أهل الردة أخبرنى إبراهيم بن فراس قال: سمعت موسى بن هارون يقول: هؤلاء أهل الردة قتلهم أبو بكر. وقد تقدم في كتاب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 18 الحج فى باب الخطبة فى أيام منى زيادة فى معنى هذا الحديث من كلام الطبري. قال المهلب: وابن الحضرمى رجل امتنع من الطاعة فأخرج إليه جارية بن قدامة جيشًا فظفر به فى ناحية من العراق، وكان أبو بكرة يسكنها، فأمر جارية بصلبه فصلب، ثم ألقى النار فى الجذع الذى صلب فيه بعد أيام، ثم أمر جارية خيثمة أن يشرفوا على أبى بكرة ليختبر إن كان يحارب فيعلم أنه على غير طاعة أو يستسلم فيعرف أنه على الطاعة، فقال له خيثمة: هذا أبو بكرة يراك وما صنعت فى ابن الحضرمى وما أنكر عليك بكلام ولا بسلاح، فلما سمع أبو بكرة ذلك وهو فى عليّة له قال: لو دخلوا علىّ دارى ما بهشت بقصبة فكيف أن أقاتلهم بسلاح؛ لأنى لا أرى الفتنة فى الإسلام، ولا التحرك فيها مع إحدى الطائفتين. قال الطبرى: (ما بهشت إليهم بقصبة) يعنى ما تناولتهم ولا مددت يدى إليهم بسوء، يقال للرجل إذا أراد معروف الرجل أو أراد مكروهه وتعرّض لخيره أو شره: بهش فلان إلى كذا وكذا، ومنه قول النابغة: سبقت الرجال الباهشين إلى العلا كسبق الجواد اصطاد قبل الطوارد وفي كتاب الأفعال: بهشت إلى فلان: خففت إليه، ورجل بهش وباهش. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 19 9 - باب تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ / 23 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِى، وَالْمَاشِى فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِى، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجًأ أَوْ مَعَاذًا، فَلْيَعُذْ بِهِ) . قال الطبرى: إن قال قائل: ما معنى هذا الحديث، وهل المراد به كل فتنة بين المسلمين أو بعض الفتن دون البعض؟ فإن قلت: المعنى به كل فتنةٍ، فما أنت قائل فى الفتن التى مضت، وقد علمت أنه نهض فيها من خيار المسلمين خلق كثير، وإن قلت المعنى به البعض، فأيتها المعنيّة به، وما الدليل على ذلك؟ قيل: قد اختلف السلف فى ذلك، فقال بعضهم: المراد به جميع الفتن وغير جائز للمسلم النهوض فى شىء منها، قالوا: وعليه أن يستسلم للقتل إن أريدت نفسه ولا يدفع عنها، والفتنة: الاختلاف الذى يكون بين أهل الإسلام ولا إمام لهم مجتمع على الرضا بإمامته لما يستنكر من سيرته فى رعيته، فافترقت رعيته عليه حتى صار افتراقهم إلى القتال بأن رضيت منهم فرقة إمامًا غيره، وأقامت فرقة على الرضا به، قالوا: وإذا كان كل واحد من هذين المعنيين، فهى التى أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بكسر السيوف فيها ولزوم البيوت وهى التى قال (صلى الله عليه وسلم) : (القاعد فيها خير من القائم) وممن قعد فى الفتنة حذيفة، ومحمد بن سلمة، وأبو ذر، وعمران بن حصين، وأبو موسى الأشعرى، وأسامة بن زيد، وأهبان بن صيفى، وسعد بن أبى وقاص، وابن عمر، وأبو بكرة، ومن التابعين شريح والنخعي، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 20 وحجتهم من طريق النظر أن كل فريق من المقتتلين فى الفتنة فإنه يقاتل على تأويل، وإن كان فى الحقيقة خطأ فهو عند نفسه فيه محق وغير جائز لأحدٍ قتله، وسبيله سبيل حاكم من المسلمين يقضى بقضاء مما اختلف فيه العلماء على ما يراه صوابًا، فغير جائز لغيره من الحكام نقضه إذا لم يخالف بقضائه ذلك كتابًا ولا سُنّةً ولا جماعة، فكذلك المقتتلون فى الفتنة كل حزب منهم عند نفسه محق دون غيره بما يدعون من التأويل، وغير جائز لأحد قتالهم، وإن هم قصدوا لقتله فغير جائز دفعهم بضرب أو جرح، لأن ذلك إنما يستحقه من قاتل وهو متعمد الإثم فى قتاله، والواجب على الناس إذا اقتتل حزبان من المسلمين بهذه الصفة ترك معاونة أحدهما على الآخر وعليهم لزوم البيوت، كما أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) أبا ذر ومحمد بن سلمة وعبد الله بن عمر، وما عمل به من تقدّم ذكرهم من الصحابة. وقال آخرون: إذا كانت فتنة بين المسلمين، فالواجب على المسلمين لزوم البيوت وترك معاونة أحد الحزبين، ولكن إن دخل على بعض من قد اعتزل الفريقين منزله، فأتى من يريد نفسه، فعليه دفعه عن نفسه وإن أتى الدفع على نفسه، روى ذلك عن عمران بن حصين وابن عمر وعبيدة السلمانى، واحتجوا بعلة الذين تقدم قولهم غير أنهم اعتلوا فى إباحة الدفع عن أنفسهم بالأخبار الواردة عن النبى أنه قال: (من أريدت نفسه وماله فقتل فهو شهيد) . فالواجب على كل من أريدت نفسه وماله ظلمًا دفع ذلك ما وجد إليه السبيل، متأولا كان المريد أو معتمدًا للظلم،؛ لأن ذلك عندهم ظلم وعلى كل أحد دفع الظلم عن نفسه بما قدر عليه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 21 وقال آخرون: كل فرقتين اقتتلتا فغير خارج أحدهما من أحد وجهين من أن تكون الفرقتان مخطئتين فى قتال لعضهم بعضًا، وذلك كقتال أهل الغصب والمقتتلين على النهب وأشباه ذلك مما لا شبهة فى أن اقتتالهم حرام، وأن على المسلمين الأخذ على أيديهم وعقوبتهم بما يكون نكالا لهم، أو تكون إحداهما مخطئة والأخرى مصيبة، فالواجب على المسلمين الأخذ على أيدى المخطئة ومعونة المصيبة؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد أمر بالأخذ على يدى الظالم بقوله: (لتأخذن على يدى الظالم حتى تأطروه على الحق أطرًا أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم) فإذا كان كما قلنا، وكان غير جائز أن تكون فرقتان تقاتل كل واحدة منهما صاحبتها أو يسفك بعضها دماء بعض كلاهما مصيبة؛ لأن ذلك لو جاز جاز أن يكون الشىء الواحد حرامًا وحلالاً فى حالة واحدة، وإذا كان كذلك فالواجب على المسلمين معونة المحقّة من الفئتين، وقتال المخطئة حتى ترجع إلى حكم الله، فلا وجه لكسر السيوف والاختفاء فى البيوت عند هيج الفتنة، روى ذلك عن على بن أبى طالب وعمار بن ياسر وعائشة وطلحة، ورواية عن ابن عمر، روى الزهرى، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه أنه قال: ما وجدت فى نفسى من شىء ما وجدت أنى لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرنى الله. وروى سفيان عن يحيى بن هانئ أنه قال لعبد الله بن عمرو: (على كان أولى أو معاوية؟ قال: علي. قال: فما أخرجك؟ قال: إنى لم أضرب بسيفٍ ولم أطعن برمح، ولكن رسول الله قال: أطع أباك فأطعته) . وقال إبراهيم بن سعد: قتل أويس القرني الجزء: 10 ¦ الصفحة: 22 مع علي فى الرجالة. وقيل لإبراهيم النخعي: من كان أفضل علقمة أو الأسود؟ فقال: علقمة؛ لأنه شهد صفّين وخضب بسيفه فيها. وقال ابن إسحاق: شهد مع على عبيدة السلمانى وعلقمة وأبو وائل وعمرو بن شرحبيل. وقال ابن إسحاق: خرج مع ابن الأشعث فى الجماجم ثلاثة آلاف من التابعين ليس فى الأرض مثلهم: أبو البخترى، والشعبى، وسعيد بن جبير، وعبد الرحمن بن أبى ليلى، والحسن البصري. وقال آخرون: كل قتال وقع بين المسلمين ولا إمام لجماعتهم يأخذ للمظلوم من الظالم فذلك القتال هو الفتنة التى أمر رسول الله بالاختفاء فى البيوت فيها وكسر السيوف، كان الفريقان مخطئين أو كان أحدهما مخطئًا والآخر مصيبًا، روى ذلك عن الأوزاعى قال: ما كانت منذ بعث الله نبيه إلى اليوم طائفتان من المؤمنين اقتتلتا إلا كان قتالهم خطأ ومعصية، فإن كانتا فى سواد العامة، فإمام الجماعة المصلح بينهم يأخذ من الباغية القصاص فى القتل والجراح كما كان بين تينك الطائفتين اللتين نزل فيهما القرآن إلى رسول الله وإلى الولاة بعده وإن كان قتالهم وليس للناس إمام يجمعهم فهى الفتنة التى النجاة منها الأخذ بعهد النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يعتزل تلك الفرق كلها ولو أن يعض بأصل الشجرة حتى يدركه الموت، وإن كانت خارجة فشهدت على أختها بالضلالة فى إيمانها وبالكفر لم تسم فئة باغية، وقد برئت من ولايتها قبل خروجها عليها، فكفى بالخروج براءة وبرجوع فلهم إذا هزموا إلى مقرهم مروقًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 23 قال الطبري: وأنا قائل بالصواب فى ذلك ومبين معنى الفتنة التى القاعد فيها خير من القائم وأمره (صلى الله عليه وسلم) بكسر السيوف ولزوم البيوت والهرب فى الجبال، والخبر المعارض لهما وهو أمره (صلى الله عليه وسلم) بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين والأخذ على يد السفهاء والظالمين، إذ غير جائز التعارض فى أخباره (صلى الله عليه وسلم) ؛ إذ كل ما قال حق وصدق. فنقول: الفتنة فى كلام العرب الابتلاء والاختبار، فقد يكون ذلك بالشدّة والرخاء والطاعة والمعصية، وكان حقًا على المسلمين إقامة الحق ونصرة أهله، وإنكار المنكر والأخذ على أيدى أهله، كما وصفهم الله تعالى بقوله: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ) [الحج: 41] كان معلومًا أن من أعان فى الفتنة فريق الحق على فريق الباطل فهو مصيب أمر الله تعالى ومن أنكر ما قلناه قيل له: أرأيت المفتئتين. الملتمسين ولاية أمر الأمة فى حال لا إمام لهم يقيم عليهم الحق هل خلوا عندك من أحد أمور ثلاثة: إما أن يكون كلاهما محقين أو كلاهما مبطلين أو أحدهما محقًا والآخر مبطلا؟ فإن قال: نعم. قيل له: أو ليس الفريقان إذا كانوا مبطلين حق على المسلمين الأخذ على أيديهما إن قدروا على ذلك، وإن لم تكن لهم طاقة؛ فكراهة أمرهما والقعود عنهما وترك معونة أحدهما على الآخر فقد أوجب معونة الظالم على ظلمه، وذلك خلاف حكم الله. وإن قال: بل الواجب عليهم ترك الفريقين يقتتلون واعتزالهما، أباح للمسلمين ترك إنكار المنكر وهم على ذلك قادرون، وسئل عن رجل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 24 غصب امرأة نفسها للفجور بها على أعين الناس وهم على منعه قادرون، هل يجوز لهم تركه؟ فإن أجاز ذلك لم يمكن خصمه الإبانة عن خطأ قوله بأكثر من ذلك، فإن أوجب منعه والأخذ على يده، قيل له: فما الفرق بينه وبين من رآه يريد قتل رجل ظلمًا وعدوانًا، وما الذى أوجب عليهم منع ذلك ظاهرًا وأباح لهم ترك من يريد قتل النفس التى حرمها الله؟ ويقال له: أرأيت إن كان أحد الفريقين محقًا والآخر مبطلاً أيجب على المسلمين معونة المحق على المبطل؟ فإن قال: لا أوجب ترك الساعى فى الأرض بالفساد، وهذا خلاف قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المائدة: 33] الآية. فإن قال: تجب معونة المحق على المبطل، أوجب قتال الفرقة الباغية. وأما الحالة الثالثة فإنها حالة ممتنع فى العقل وجودها، وذلك حال حرب فريقين من المسلمين يقتلان وهما جميعًا محقان فى ذلك، ولو جاز أن يكون كل واحد منهما مصيب حقيقة حكم الله فى ذلك لجاز أن يكون الشىء الواحد بحكم الله حلالاً وحرامًا فى حالة واحدة وشخص واحد، وهذا ما لا يجوز أن يوصف به تعالى. فإن قيل: فما تنكر أن يكون الفريقان المقتتلان مصيبين فى قتال كل واحد منهما صاحبه حقيقة حكم الله إذا كان قتالهما فى وجهة التأويل لا من وجهة الخلاف للنصّ الذى لا يحتمل التأويل، فقد علمت قول من قال باجتهاد الرأى فيما لا نصّ فيه من أن كل مجتهد مصيب، وأن حكم الله فى الحادثة على كل مجتهد ما أداهُ إليه اجتهاده، وأنه لا خطأ في شيء من ذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 25 صحة ذلك بما يكون من الصحابة، رضوان الله عليهم، فيما لا نص فيه الله وللرسول من الاختلاف بينهم، ثم لم يظهر واحد منهم لصاحبه البراء ولا الخروج من ولايته، قال: فكذلك الفريقان المقتتلان إذا كانا كلاهما طالبى الحق عند أنفسهما ورأى كل واحد منهما أنه محق كالمختلفين من أصحاب رسول الله. قيل له: أما قول من قال: كل مجتهد وإن كان غير مصيب فى خطئه حكم الله الذى طلبه فأضله فقد أخطأ، وذلك كالملتمس عين القبلة للصلاة إليها فى يوم دخن فى فلاة من الأرض بالدلائل غير موجب له التماسه إياها، وقد أخطأها أن يكون مصيبًا فى طلب جهتها، فكذلك المقتتلان على التأويل الذى يعذر فيه المخطئ؛ إذا أخطأ أحدهما حكم الله فى قتاله الفريق المصيب حكم الله. وإن عذر بالخطأ الذى وضع عنه الوزر فيه إذا كان سبيله فيما كلف فيه سبيل المحنة والابتلاء، إذا لم يوقفوا على عينه بالنص الذى لا يحتمل التأويل، وأما استشهاد من قال: كل مجتهد مصيب بإختلاف أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) فيما لا نص فيه بعينه، فإن أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) لم ينكروا فيما قالوا فيه من الاجتهاد والاستنباط أن يكون فيهم مصيب ومخطئ، فلا حجة لمحتج باختلافهم، فإذا بطل الوجه الثالث وهو أن يكونا معًا محقين ثبت أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم) غير معنى به القتال الذى هو معونة المسلمين للمحق والقتال الذى يكون من المسلمين لأهل السّفُه والفسق للأخذ على أيديهم ومنعهم من السعى فى الأرض بالفساد. فإن قيل: فأى حالة هى التى وصف النبى (صلى الله عليه وسلم) من الفتنة أن القاعد فيها خير من القائم؟ قيل: هذه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 26 حالة لها ثلاث منازل: أحدها: أن يكون الفريقان المقتتلان مبطلين، وسائر المسلمين مقهورين بينهما لا طاقة لمن أراد الأخذ على أيديهما على النهوض فى ذلك، فإن هو نهض عرض نفسه للهلاك ولم يرج إصلاحًا بينهما فهذه حالة هو فيها معذور بالتخلف، والسلامة له فى الهرب وكسر السيوف، وهذه التى قال (صلى الله عليه وسلم) : (القاعد فيها خير من القائم) يعنى القاعد عن هذه الفتنة خير من القائم فيها للنهوض إليها معين أهلها؛ لأنه خير من القائم بذكر الله والعمل بطاعته. والحالة الثانية: أن يكون أحد الفريقين مخطئًا والآخر مصيبًا، وأمرهما مشكل على كثير من الناس لا يعرفون المحق فيها من المبطل، فمن أشكل عليه أمرهما فواجب عليه اعتزال الفريقين ولزوم المنازل حتى يتضح له الحق ويتبين المحق منهما، وتنكشف عنه الشبهة فيلزمه من معونة أهل الحق ما لزم أهل البصائر. وأما المنزلة الثالثة: فأن يكون مخرج الكلام من رسول الله فى ذلك كان فى خاص من الناس على ما روى عن عمار بن ياسر أنه قال لأبى موسى حين روى عن النبى أنه قال: (إذا وقعت الفتنة فاضربوا سيوفكم بالحجارة. . .) الحديث فقال له عمار: أنشدك الله يا أبا موسى قال هذا رسول الله لك أنت خاصةً؟ قال: نعم. ولو كان الواجب فى كل اختلاف يكون بين الفريقين من المسلمين الهرب منه ولزوم المنازل وكسر السيوف؛ لما أقيم لله تعالى حق ولا أبطل باطل، ولو وجد أهل النفاق والفجور سبيلا إلى استحلال كل ما حرّم الله عليهم من أموال المسلمين ونسائهم، وسفك دمائهم بأن يتحزبوا عليهم ويكف المسلمون أيديهم عنهم بأن يقولوا هذه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 27 فتنة قد نهينا عن القتال فيها، وأمرنا بكفّ الأيدى والهرب منها. وذلك مخالفة لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (خذوا على أيدى سفهائكم) ولقوله: (مثل القائم والمنتهك والمدهن فى حدود الله مثل ثلاثة نفر اصطحبوا فى سفينة، فقال أحدهم: نحفر لنأخذ الماء وقال الأخر: دعه فإنما يحفر مكانه. فإن أخذوا على يده نجا ونجوا جميعًا. . .) الحديث. فإن قال قائل: فإنك قد ذكرت أنه لا فتنة تخلو من الأسباب الثلاثة، ثم أوجبت فى جميعها على أهل البصائر بالحق النهوض مع أهله على أهل الباطل لقمعه، وقد علمت أنه لا فتنة كانت ولا تكون منذ بعث الله نبيّه (صلى الله عليه وسلم) أفضل أهلا ولا أقوم بالحق ولا أطلب له من قوم نهضوا فيها بعد مقتل عثمان فإنهم كانوا أهل السابقة والهجرة وخيار الأمة، ولم تكن فتنة يرجى بالنهوض لمعونة أحد فريقيها على الآخر ما كان يرجى فيها لو كان النهوض فى فتن المسلمين جائزًا، وقد علمت من تثبط عن النهوض فيها، ونهى عن المشى إليها وأمر بالجلوس عنها من جلة الصحابة كسعد وأسامة ومحمد بن مسلمة وأبى مسعود الأنصارى وابن عمر وأبى موسى وغيرهم يكثر إحصاؤهم. قيل له: إن سبيل كل ما احتج من أمر الدين إلى الاستخراج بالقياس والاستنباط بالعقول والأفهام سبيل ما كان من الأختلاف بين الذين نهضوا فى الفتنة التى قعد عنها من ذكرت من القاعدين فيها، ولذلك عذر أهل العلم من قعد عنها، ومن نهض فيها من أهل الدين، ولولا ذلك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 28 عظمت المصيبة وجسمت البلية، ولكن قعود من قعد عنها لما كان بتأويل ونهوض من نهض فيها بمثله رجا العالمون بالله للمصيب منهم الثواب الجزيل، وعذروا المخطئ فى خطئه؛ إذ كان خطؤه بالتأويل، لا بالخلاف للنصّ المحكم الذى لا يحتاج للتأويل، ولا شك أن الناهضين فى الفتنة التى قعد عنها سعد ومحمد بن مسلمة وأسامة كانوا أفضل وأعلم بالله ممن قعد عنها، وذلك أن الناهضين فيها كان منهم من يقر له جميع أهل ذلك الزمان بالفضل والعلم، ومنهم من لا يدفعه جميعهم عن أنه إن لم يكن أفضل منه وأعلم أنه ليس بدونه. وإذا كان الأمر كذلك لم يكن المحتج إذا أغفل سبيل الصواب، لتأويل تأوله وإن كان خطأ، حجةً على من خالفه فى تأويله. فإن قال: فإن جلوس من جلس ممن ذكرنا لم يكن تأويلا، ولكنه كان نصًا لا يحتمل التأويل لقوله: (القاعد فيها خير من القائم) قيل: إنه لا أحد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الفتنة التى قعد عنها أنه (صلى الله عليه وسلم) نهاه عن النهوض فيها بعينها نصًا، وإنما قال (صلى الله عليه وسلم) : (القاعد فيها خير من القائم) من غير نص على فتنة بعينها أنها هى تلك الفتنة، من غير تسميته بها باسم وتوقيته لها بوقت. وقد روى أهل العراق عن على وعبد الله: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر عليًا بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين) . وعن أبى سعيد وغيره أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (لتقاتلنّ على تأويله كما قاتلت على تنزيله) وروى أهل الشام عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى معاوية أنه الذى يقاتل على الحق وأنه (صلى الله عليه وسلم) ذكر فتنة فمرّ به عثمان، فقال: (هذا وأصحابه يومئذ على الحق) . وكل راوٍ منهم لرواية يدعى أنها الحق، وأن تأويله أولى، فإذا كان الأمر كذلك علم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 29 أن القول فى ذلك من غير وجه النص الذى لا يحتمل التأويل، وأن الاختلاف بينهم كان من جهة الاستنباط والقياس، والذى لا يوجد فى مثله إجماع من الأمة على معنىً واحد، ولذلك قيل فى قتلى الفريقين ما قيل من رجاء الفريق الآخر الإصابة وأمن على فريق الشبهة. وكذلك ما حدثنا خلاد بن أسلم قال: حدثنا النضر بن شميل عن ابن عون عن ابن سيرين: (أن عائشة سمعت صوتًا فقالت: من هذا أخالد ابن الواشمة؟ قال: نعم. قالت: أنشدك الله إن سألت عن شىء أتصدقني؟ قال: نعم. قالت: ما فعل طلحة؟ قال: قتل. قالت: ما فعل الزبير؟ قال: قتل. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون. قال: قلت: بل نحن إنا لله وإنا إليه راجعون على زيد وأصحاب زيد، والله لا يجمعهم الله وقد قتل بعضهم بعضًا. قالت: أو لا تدري؟ وسعت رحمته كل شىء وهو على كل شىء قدير. قال: فكانت أفضل منى) . وحدثنا مجاهد بن موسى، حدثنا يزيد، حدثنا العوّام بن حوشب، عن عمرو بن مرة، عن أبى وائل قال: (رأى عمرو بن شرحبيل أبا ميسرة وكان من أفضل الناس عند الله، قال: رأيت كأنى دخلت الجنّة، فإذا قباب مضروبة فقلت: لمن هذه؟ فقالوا: لذى الكلاع وحوشب، كانا ممن قتل مع معاوية. قلت: فأين عمار وأصحابه؟ فقال: أمامك. فقلت: قد قتل بعضهم بعضًا؟ قيل: إنهم لقوا الله فوجدوه واسع المغفرة. قلت: فما فعل أهل النهر؟ قال: لقوا برجاء) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 30 - باب إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا / 24 - فيه: أَبُو بَكْرَة، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَكِلاهُمَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ) ، قِيلَ: فَهَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: (إِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ) . قال المؤلف: ولهذا الحديث أيضًا قعد من قعد من الصحابة عن الدخول فى الفتنة ولزموا بيوتهم، وفسر أهل العلم هذا الحديث فقالوا: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (القاتل والمقتول فى النار) ليس هو على الحتم لهما بالنار، وإنما معناه أنهما يستحقان النار إلا أن يشاء الله أن يغفر لهما؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) سمّاهما مسلمين وإن قتل أحدهما صاحبه، ومذهب جماعة أهل السنة أن الله تعالى فى وعيده لعصاة المؤمنين بالخيار إن شاء عذبهم، وإن شاء عفا عنهم، وقد تقدّم فى كتاب الإيمان. وقال المؤلف: فى حديث أبى بكرة أنه إذا التقى المسلمان بسيفيهما واختلفت طائفتان على التأويل فى الدين، ولم يتبين البغى من أحدهما أنه يجبُ القعود عنهما وملازمة البيوت، ولهذا تخلف محمد بن مسلمة، وسعد بن أبى وقاص، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، وحذيفة وجماعة عن تلك المشاهد؛ لأنه لم يتبين لهم ما قام فيه المقتتلون، وأخذوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (تكون فتن القاعد فيها خير من القائم) فأما إذا ظهر البغى فى إحدى الطائفتين لم يحل لمسلم أن يتخلف عن قتال الباغية لقوله تعالى: (فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) [الحجرات: 9] ولو أمسك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 31 المسلمون عن قتال أهل البغى لبطلت فريضة الله تعالى وهذا يدل أن قوله: (فالقاتل والمقتول فى النار) ليس فى أحد من أصحاب محمد؛ لأنهم قاتلوا على التأويل، وقال بعض العلماء: فإن قال قائل: فبأى الطائفتين كانت أولى بالحق؟ قيل: كلا الطائفتين عندنا محمودة مجتهدة برة تقية، وقد قعد عنها أصحاب النبى ولم يروا فى ذلك بيانًا، وهم كانوا أولى بمعرفة الحق فكيف يحكم لأحد الفريقين على الآخر، ألا ترى أن النبى شهد لعلى وطلحة والزبير بالشهادة، فكيف يكون شهيدًا من يحل دمه، وكيف يحكم لأحد الفريقين على الآخر وكلاهما شهداء؟ روى خالد بن خداش، عن الدراوردى، عن سهيل عن أبيه، عن أبى هريرة قال: (كان النبى (صلى الله عليه وسلم) وأبو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير على حراء فتحرك، فقال رسول الله: اسكن حراء، فإنه ليس عليك إلا نبى وصديق وشهيد) وكل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يجب على المسلمين توقيرهم والإمساك عن ذكر زللهم ونشر محاسنهم، وكل من ذهب منهم إلى تأويل فهو معذور، وإن كان بعضهم أفضل من بعض وأكثر سوابق. - باب كَيْفَ الأمْرُ إِذَا لَمْ تَكُنْ جَمَاعَةٌ؟ / 25 - فيه: حُذَيْفَة، كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ؛ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِى، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِى جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: (نَعَمْ) ، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ) ، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: (قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِى، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 32 قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: (نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا) ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: (هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا) ، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِى إِنْ أَدْرَكَنِى ذَلِكَ؟ قَالَ: (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ) ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلا إِمَامٌ؟ قَالَ: (فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ) . قال المؤلف: هذا الحديث من أعلام النبوة، وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) أخبر حذيفة بأمور مختلفة من الغيب لا يعلمها إلا من أوحى إليه بذلك من أنبيائه الذين هم صفوة خلقه، وفيه حجة لجماعة الفقهاء فى وجوب لزوم جماعة المسلمين وترك القيام على أئمة الجور، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) وصف أئمة زمان الشر فقال: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها) فوصفهم بالجور والباطل والخلاف لسنته؛ لأنهم لا يكونون دُعاةً على أبواب جهنم إلا وهم على ضلال، ولم يقل فيهم تعرف منهم وتنكر، كما قال فى الأولين، وأمر مع ذلك بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم، ولم يأمر بتفريق كلمتهم وشق عصاهم. قال الطبرى: اختلف أهل العلم فى معنى أمر النبى بلزوم الجماعة ونهيه عن الفرقة، وصفة الجماعة التى أمر بلزومها، فقال بعضهم: هو أمر إيجاب وفرض، والجماعة التى أمرهم بلزومها: السواد الأعظم، وقالوا: كل ما كان عليه السواد الأعظم من أهل الإسلام من أمر دينهم فهو الحق الواجب والفرض الثابت، الذى لا يجوز لأحدٍ من المسلمين خلافه، وسواء خالفهم فى حكم من الأحكام أو خالفهم فى إمامهم القيم بأمرهم وسلطانهم، فهو للحق مخالف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 33 ذكر من قال ذلك: روى عن ابن سيرين قال: لما قتل عثمان، رضى الله عنه، أتيت أبا مسعود الأنصارى، فسألته عن الفتنة، فقال: عليك بالجماعة، فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة، والجماعة حبل الله، وإن الذى تكرهون من الجماعة هو خير من الذى تحبون من الفرقة. واحتجوا بما روى الأوزاعى قال: حدثنى قتادة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله: (إن بنى إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقةً، وإن أمتى على ثنتين وسبعين فرقة كلها فى النار إلا واحدة، وهى الجماعة) . وروى معتمر بن سليمان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله: (لا يجمع الله أمتى على ضلالةٍ أبدًا، ويد الله على الجماعة هكذا، فاتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ فى النار) . وقال آخرون: الجماعة التى أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بلزومها هى جماعة أئمة العلماء، وذلك أن الله جعلهم حجةً على خلقه، وإليهم تفزع العامة فى دينها، وهى تبع لها، وهم المعنيون بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله لن يجمع أمتى على ضلالة) . ذكر من قال ذلك: روى عن المسيب بن رافع قال: كانوا إذا جاءهم شىء ليس فى كتاب الله ولا فى سنة رسول الله سمّوه صوافى الأمر، فجمعوا له العلماء، فما اجتمع عليه رأيهم فهو الحق. وسئل عبد الله بن المبارك عن الجماعة الذين ينبغي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 34 أن يقتدي بهم، فقال: أبو بكر وعمر. فلم يزل يجئ حتى انتهى إلى محمد بن ثابت بن الحسين بن واقد، قلت: هؤلاء قد ماتوا فمن الأحياء؟ قال: أبو حمزة السكرى. وقال آخرون: الجماعة التى أمر رسول الله بلزومها: هم جماعة الصحابة الذين قاموا بالدين بعد مضيّه (صلى الله عليه وسلم) ، حتى أقاموا عماده وأرسوا أوتاده وردوه، وقد كاد المنافقون أن ينزعوا أواخيه ويقلبوه من أواسيه إلى نصابه وسلكوا فى الدعاء منهاجه، فأولئك الذين ضمن الله لنبيّه أن لا يجمعهم على ضلالة، قالوا: ولو كان معناه لا تجتمع أمته فى زمن من الأزمان من يوم بعثه الله إلى قيام الساعة على ضلالة؛ بطل معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس) وشبه ذلك من الأخبار المرويّة عنه (صلى الله عليه وسلم) أن من الأزمان أزمانًا تجتمع فيها أمته على ضلالة وكفر. وقال آخرون: الجماعة التى أمر رسول الله بلزومها: جماعة أهل الإسلام ما كانوا مجتمعين على أمر واجب على أهل الملل اتباعها، فإذا كان فيهم مخالف منهم فليسوا بمجتمعين، ووجب تعرف وجه الصّواب فيما اختلفوا فيه. قال الطبرى: والصواب فى ذلك أنه أمر منه (صلى الله عليه وسلم) بلزوم إمام جماعة المسلمين ونهى عن فراقهم فيما هم عليه مجتمعون من تأميرهم إياه فمن خرج من ذلك فقد نكث بيعته ونقض عهده بعد وجوبه، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (من جاء إلى أمتى ليفرق جماعتهم فاضربوا عنقه كائنًا من كان) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 35 قال المؤلف: وحديث أبى بكرة حجة فى ذلك لأنه (صلى الله عليه وسلم) أمره بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم، فبان أن الجماعة المأمور باتباعها هى السواد الأعظم مع الإمام الجامع لهم، فإذا لم يكن لهم إمام فافترق أهل الإسلام أحزابًا فواجب اعتزال تلك الفرق كلها على ما أمر به النبى (صلى الله عليه وسلم) أبا ذرّ ولو أن يعض بأصل شجرة حتى يدركه الموت، فذلك خير له من الدخول بين طائفة لا إمام لها خشية ما يئول من عاقبة ذلك من فساد الأحوال باختلاف الأهواء وتشتت الآراء. وقال صاحب العين: الدخن: الحقد، ويوم دخنان: شديد الغم. - باب مَنْ كَرِهَ أَنْ يُكَثِّرَ سَوَادَ الْفِتَنِ وَالظُّلْمِ / 26 - فيه: أَبُو الأسْوَدِ، قُطِعَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْثٌ، فَاكْتُتِبْتُ فِيهِ، فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَنَهَانِى أَشَدَّ النَّهْىِ، ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنِى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ، يُكَثِّرُونَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَيَأْتِى السَّهْمُ، فَيُرْمَى فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ، أَوْ يَضْرِبُهُ فَيَقْتُلُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِى أَنْفُسِهِمْ) [النساء: 97] . قال المؤلف: ثبت عن النبى أنه قال: من كان مع قوم راضيًا بحالهم فهو منهم صالحين كانوا أو فاسقين، هم شركاء فى الأجر أو الوزر، ومما يشبه معنى هذا الحديث فى مشاركة أهل الظلم فى الوزر قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 36 وأما مشاركة مجالس الصالحين فى الأجر فما فى الحديث: (إن لله ملائكة يطوفون فى الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإن وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم. .) وذكر الحديث بطوله (قال: فيقول الله: اشهدوا أنى قد غفرت لهم. فيقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجته. قال: هم الجلساء لا يشقى جليسهم) . فإن كان مجالس أهل الفسق كارهًا لهم ولعملهم، ولم يستطع مفارقتهم خوفًا على نفسه أو لعذر منعه فترجى له النجاة من إثم ذلك، يدل على ذلك قوله فى آخر الآية التى نزلت فيمن كثر سواد المشركين) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء) [النساء: 98] الآية وقد كره السلف الكلام فى الفتنة، ذكر ابن جريج عن ابن عباس قال: إنما الفتنة باللسان. وقال سفيان عن شريح: ما أخبرت ولا استخبرت تسعة أعوام منذ كانت الفتنة، فقال له مسروق: لو كنت مثلك لسرّنى أن أكون قد مُتّ. قال: شريح: فكيف بأكثر من ذلك مما فى الصدور تلتقى الفئتان إحداهما أحب إلىّ من الأخرى. وقال الحسن: السلامة من الفتنة: سلامة القلوب والأيدى والألسن. وكان إبراهيم يستخبر ولا يخبر. - باب إِذَا بَقِىَ فِى حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ / 27 - فيه: حُذَيْفَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ، حَدَّثَنَا: (أَنَّ الأمَانَةَ نَزَلَتْ فِى جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ) ، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا، فقَالَ: (يَنَامُ الرَّجُلُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 37 النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ الأمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ، فَيَبْقَى فِيهَا أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا، وَلَيْسَ فِيهِ شَىْءٌ، وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّى الأمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِى بَنِى فُلانٍ رَجُلا أَمِينًا) ، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ، وَمَا أَظْرَفَهُ، وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَلَقَدْ أَتَى عَلَىَّ زَمَانٌ وَلا أُبَالِى أَيُّكُمْ بَايَعْتُ، لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَىَّ الإسْلامُ، وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَىَّ سَاعِيهِ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلا فُلانًا وَفُلانًا. قال المؤلف: هذا الحديث من أعلام النبوة؛ لأن فيه الإخبار عن فساد أديان الناس وقلة أمانتهم فى آخر الزمان، ولا سبيل إلى معرفة ذلك قبل كونه إلا من طريق الوحى، وهذا كقوله: (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ) وروى ابن وهب، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمر مولى المطلب، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبى هريرة قال: (قال رسول الله لعبد الله بن عمرو: كيف بك يا عبد الله إذا بقيت فى حثالة من الناس، قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فصاروا هكذا، وشبك بين أصابعه؟ قال: قلت: يا رسول الله، فما تأمرني؟ قال: عليك بخاصتك، ودع عنك عوامهم) ومن هذا الحديث ترجم البخارى ترجمة هذا الباب، والله أعلم، وأدخل معناه فى حديث حذيفة ولم يذكر الحديث بنص الترجمة؛ لأنه من رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عن أبى هريرة، ولم يخرج عن العلاء حديثًا فى كتابه. والحثالة: سفلة الناس، وأصلها فى اللغة ما تساقط من قشور التمر والشعير وغيرها وهى الحفالة والسخافة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 38 وقوله فى حديث حذيفة: (فى جذر قلوب الرجال) قال الأصمعى وأبو عمرو، وغيرهما: الجذر: الأصل. قال الأصمعى: بفتح الجيم، وقال أبو عمرو: بكسر الجيم. وقال صاحب العين: الوكت: شبيه نكتة فى العين، وعين موكوتة، والوكت: سواد اللّون. وقال أبو عبيد: الوكت: أثر الشىء اليسير منه. وقال الأصمعى: يقال للبُسر إذا بدا فيه الإرطاب: بُسر موكت. والمجل: أثر العمل باليد يعالج به الإنسان الشىء حتى تغلظ جلودها، يقال منه: مَجِلت يده ومَجَلت لغتان، وذكر الحربى عن ابن الأعرابى: المجَل: النفط باليد ممتلئ ماءً، وقال أبو زيد: إذا كان بين الجلد واللحم ماء قيل: مجلت يده تمجل، ونفطت تنفط نفطًا ونفيطًا. والمنتبر: المتنفط. قال الطوسى: انتبر الجرح: إذا ورم، ويقال: سمعت نبرات من كلامه أى: ارتفاعات من صوته. قال أبو عبيد: وقوله: (ما أبالى أيكم بايعت) حمله كثير من الناس على بيعة الخلافة، وهذا خطأ فى التأويل، وكيف يكون على بيعة الخلافة وهو يقول: (لئن كان يهوديًا أو نصرانيًا ردّه على ساعيه) فهو يبايع على الخلافة اليهودى والنصرانى؟ ومع هذا إنه لم يكن يجوِّز أن يبايع كل أحد فيجعله خليفة، وهو لا يرضى بأحد بعد عمر، فكيف يتأول هذا عليه مع مذهبه فيه؟ إنما أراد مبايعة البيع والشراء؛ لأنه ذكر الأمانة وأنها قد ذهبت من الناس يقول: فليس أثق اليوم بأحد أئتمنه على البيع والشراء إلا فلانًا وفلانًا لقلة الأمانة فى الناس. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 39 وقوله: (ردّه علىّ ساعيه) يعنى: الوالى الذى عليه، يقول: ينصفنى منه، وإن لم يكن له إسلام، وكل من ولى على قوم فهو ساع عليهم، وأكثر ما يقال هذا فى ولاة الصدقة قال الشاعر: سعى عقالا فلم يترك لنا سَبَدًا - باب التَّعَرُّبِ فِى الْفِتْنَةِ / 28 - فيه: سَلَمَةَ ابْنِ الأكْوَعِ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ الأكْوَعِ، ارْتَدَدْتَ عَلَى عَقِبَيْكَ، تَعَرَّبْتَ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَذِنَ لِى فِى الْبَدْوِ. وَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ خَرَجَ سَلَمَةُ بْنُ الأكْوَعِ إِلَى الرَّبَذَةِ، وَتَزَوَّجَ هُنَاكَ امْرَأَةً، وَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلادًا، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِلَيَالٍ، فَنَزَلَ الْمَدِينَةَ. / 29 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ، يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ) . التعرب: معناه أن يرجع أعرابيًا بعد الهجرة، وكانوا يستعيذون بالله أن يعودوا كالأعراب بعد هجرتهم؛ لأن الأعراب لم يتعبدوا بالهجرة التى يحرم بها على المهاجر الرجوع إلى وطنه، كما فرض على أهل مكة البقاء مع النبى (صلى الله عليه وسلم) ونصرته، ولذلك قال الحجاج: (يا ابن الأكوع ارتددت على عقبيك، تعربت؟) أى: رجعت عن الهجرة التى فعلتها لوجه الله تعالى بخروجك من المدينة، فأخبره أن رسول الله أذن له فى سكنى البادية، فلم يكن خروجه من المدينة فرارًا منها ولا رجوعًا فى الهجرة، وهذا لا يحل لأحدٍ فعله، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 40 ولذلك دعا النبى (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه ألا يموتوا فى غير المدينة التى هاجروا إليها لله تعالى، فقال: (اللهم أمض لأصحابى هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة. يرثى له رسول الله أن مات بمكة) فتوجع رسول الله حين مات بمكة فى الأرض التى هاجر منها. وذكر البخارى أن سعد بن خولة شهد بدرًا، ثم انصرف إلى مكة ومات بها، وأنه من المهاجرين. وقوله: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن) من أعلام نبوته (صلى الله عليه وسلم) لأنه أخبر عما يكون فى آخر الزمان. وفيه أن اعتزال الناس عند الفتن والهرب عنهم أفضل من مخالطتهم وأسلم للدين، وسأذكر تفسير شعف الجبال فى حديث أبى سعيد فى كتاب الرقاق فى باب العزلة راحة من خلطاء السوء. - باب التَّعَوُّذِ مِنَ الْفِتَنِ / 30 - فيه: أَنَس، سَأَلُوا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ، فَصَعِدَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ذَاتَ يَوْمٍ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: (لا تَسْأَلُونِى عَنْ شَىْءٍ إِلا بَيَّنْتُ لَكُمْ) ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالا، فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لافٌّ رَأْسَهُ فِى ثَوْبِهِ يَبْكِى، فَأَنْشَأَ رَجُلٌ كَانَ إِذَا لاحَى يُدْعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، فَقَالَ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ، مَنْ أَبِى؟ فَقَالَ: (أَبُوكَ حُذَافَةُ) ؟ ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ، فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإسْلامِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 41 دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) رَسُولا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْفِتَنِ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا رَأَيْتُ فِى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَالْيَوْمِ قَطُّ، إِنَّهُ صُوِّرَتْ لِىَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَتَّى رَأَيْتُهُمَا دُونَ الْحَائِطِ. . .) الحديث. وَقَالَ قَتَادَة يَذْكُرُ هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَ هَذِهِ الآيَةِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة 101] . وَقَالَ: كُلُّ رَجُلٍ لافًّا رَأْسَهُ فِى ثَوْبِهِ يَبْكِى، وَقَالَ: عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْفِتَنِ، أَوْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سَوْأَى الْفِتَنِ. وقَالَ مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَس، عَنْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ الْفِتَنِ) . قال صاحب الأفعال: أحفى الرجل فى السؤال: ألح، وفى التنزيل) إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) [محمد: 37] أى يلح عليكم فيما يوجبه فى أموالكم، ولما ألحوا على النبى (صلى الله عليه وسلم) فى المسألة كره مسائلهم وعز على المسلمين ما رأوا من الإلحاح على النبى (صلى الله عليه وسلم) والتعنيت له، وتوقعوا عقوبة الله أن تحل بهم؛ ولذلك بكوا، فمثل الله له الجنة والنار، وأراه كل ما يسأل عنه فى ذلك الوقت، فقال: (لا تسألونى عن شى إلا بينت لكم) وقال للرجل: (أبوك حذافة) وروى أنّ أم ابن حذافة قالت له: (يا بنى ما رأيت ابنًا أعق منك أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس. فقال ابنها: (والله لو ألحقنى بعبدٍ أسودٍ للحقت به) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 42 وفي هذا الحديث فضل عمر بن الخطاب وفهمه، ومكانه من الحماية عن الدين والذّب عن رسول الله إذ قال: (رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا ومحمد نبيًا) ومنع تعنيته والإلحاح عليه؛ لأن الله تعالى قد أمر بتعزيزه وتوقيره وألا يرفع الصوت فوق صوته، واستعاذ بالله من شر الفتن، وكذلك استعاذ النبى بالله من شر الفتن، واستعاذ من فتنة المحيا والممات، وإن كان قد أعاذه الله تعالى من كل فتنة، وعصمه من شرها ليسن ذلك لأمته، فتستعيذ مما أستعاذ منه نبينا (صلى الله عليه وسلم) وهذا خلاف ما يروى عن بعض من قصر علمه أنه قال: اسألوا الله الفتنة فإنها حصاد المنافقين، وزعم أن ذلك مروى عن رسول الله، وهو حديث لا يثبت، والصحيح خلافه من رواية أنس وغيره عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) الْفِتْنَةُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ / 31 - فيه: ابْن عُمَرَ، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَامَ إِلَى جَنْبِ الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: (الْفِتْنَةُ هَاهُنَا، الْفِتْنَةُ هَاهُنَا مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ، أَوْ قَالَ: قَرْنُ الشَّمْسِ) . / 32 - وَقَالَ ابْن عُمَرَ مرةً: (أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ، الْمَشْرِقَ يَقُولُ: (أَلا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ) . / 33 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِى شَأْمِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِى يَمَنِنَا) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَفِى نَجْدِنَا، فَأَظُنُّهُ قَالَ فِى الثَّالِثَةِ: (هُنَاكَ الزَّلازِلُ وَالْفِتَنُ، وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ) . / 34 - وقيل لابْن عُمَرَ: حَدِّثْنَا عَنِ الْقِتَالِ فِى الْفِتْنَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 43 ) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) [البقرة: 193] ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرِى مَا الْفِتْنَةُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ؟ إِنَّمَا كَانَ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم) يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ الدُّخُولُ فِى دِينِهِمْ فِتْنَةً، وَلَيْسَ كَقِتَالِكُمْ عَلَى الْمُلْكِ. قال المؤلف: قال الخطابى: القرن فى الحيوان يضرب به المثل فيما لا يحمد من الأمور، كقوله (صلى الله عليه وسلم) فى الفتنة وطلوعها من ناحية المشرق: (ومنه يطلع قرن الشيطان) وقال فى الشمس أنها تطلع بين قرنى الشيطان، والقرن: الأمة من الناس يُحدثون بعد فناء آخرين، قال الشاعر: إذا ما مضى القرن الذى أنت منهم وخلفت فى قرن فأنت غريب وقال غيره: كان أهل المشرق يومئذ أهل كفر فأخبره (صلى الله عليه وسلم) أن الفتنة تكون من تلك الناحية، وكذلك كانت الفتنة الكبرى التى كانت مفتاح فساد ذات البين وهى مقتل عثمان، رضى الله عنه، وكانت سبب وقعة الجمل وصفين، ثم ظهور الخوارج فى أرض نجد والعراق وما وراءها من المشرق، ومعلوم أن البدع إنما ابتدأت من المشرق، وإن كان الذين اقتتلوا بالجمل وصفين بينهم كثير من أهل الشام والحجاز فإن الفتنة وقعت فى ناحية المشرق، وكان ذلك سببًا إلى افتراق كلمة المسلمين وفساد نيات كثير منهم إلى يوم القيامة، وكان رسول الله يحذر من ذلك ويعلمه قبل وقوعه، وذلك دليل على نبوّته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 44 - باب الْفِتْنَةِ الَّتِى تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الأبْيَاتِ عِنْدَ الْفِتَنِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: الْحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا شَمْطَاءَ يُنْكَرُ لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ / 35 - فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ عُمر: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) فِى الْفِتْنَةِ؟ قَالَ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِى أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالأمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ، قَالَ: لَيْسَ عَنْ هَذَا أَسْأَلُكَ، وَلَكِنِ الَّتِى تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ، قَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا، قَالَ عُمَرُ: أَيُكْسَرُ الْبَابُ أَمْ يُفْتَحُ؟ قَالَ: بَلْ يُكْسَرُ، قَالَ عُمَرُ: إِذًا لا يُغْلَقَ أَبَدًا، قُلْتُ: أَجَلْ، قُلْنَا لِحُذَيْفَةَ: أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ الْبَابَ، قَالَ: نَعَمْ، كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً، وَذَلِكَ أَنِّى حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالأغَالِيطِ، فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ مَنِ الْبَابُ، فَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: مَنِ الْبَابُ؟ فقَالَ: الْبَابُ عُمَرُ. / 36 - وفيه: أَبُو مُوسَى، خَرَجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِ الْمَدِينَةِ لِحَاجَتِهِ وَخَرَجْتُ فِى إِثْرِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْحَائِطَ، جَلَسْتُ عَلَى بَابِهِ، وَقُلْتُ: لأكُونَنَّ الْيَوْمَ بَوَّابَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَلَمْ يَأْمُرْنِى، فَذَهَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَقَضَى حَاجَتَهُ، وَجَلَسَ عَلَى قُفِّ الْبِئْرِ، فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلاهُمَا فِى الْبِئْرِ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ لِيَدْخُلَ، فَقُلْتُ: كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ، فَوَقَفَ، فَجِئْتُ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 45 أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: (ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ) ، فَدَخَلَ، فَجَاءَ عَنْ يَمِينِ النَّبيىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلاهُمَا فِى الْبِئْرِ، فَجَاءَ عُمَرُ، فَقُلْتُ: كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ) ، فَجَاءَ عَنْ يَسَارِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ فَدَلاهُمَا فِى الْبِئْرِ، فَامْتَلأ الْقُفُّ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَجْلِسٌ، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ، فَقُلْتُ: كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، مَعَهَا بَلاءٌ يُصِيبُهُ) ، فَدَخَلَ، فَلَمْ يَجِدْ مَعَهُمْ مَجْلِسًا، فَتَحَوَّلَ حَتَّى جَاءَ مُقَابِلَهُمْ عَلَى شَفَةِ الْبِئْرِ، فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ، ثُمَّ دَلاهُمَا فِى الْبِئْرِ، فَجَعَلْتُ أَتَمَنَّى أَخًا لِى وَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَأْتِىَ. قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: فَتَأَوَّلْتُ ذَلِكَ قُبُورَهُمُ اجْتَمَعَتْ هَاهُنَا، وَانْفَرَدَ قبر عُثْمَانُ. / 37 - وفيه: أَبُو وَائِل، قِيلَ لأسَامَةَ: أَلا تُكَلِّمُ هَذَا؟ قَالَ: قَدْ كَلَّمْتُهُ مَا لم أَفْتَحَ بَابًا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَفْتَحُهُ، وَمَا أَنَا بِالَّذِى أَقُولُ لِرَجُلٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ أَمِيرًا عَلَى رَجُلَيْنِ: أَنْتَ خَيْرٌ، بَعْدَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (يُجَاءُ بِرَجُلٍ، فَيُطْرَحُ فِى النَّارِ، فَيَطْحَنُ فِيهَا كَطَحْنِ الْحِمَارِ بِرَحَاهُ، فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: أَىْ فُلانُ أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: إِنِّى كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلا أَفْعَلُهُ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَفْعَلُهُ) . / 38 - وفيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ: لَقَدْ نَفَعَنِى اللَّهُ بِكَلِمَةٍ أَيَّامَ الْجَمَلِ لَمَّا بَلَغَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّ فَارِسًا مَلَّكُوا ابْنَةَ كِسْرَى، قَالَ: (لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً) . / 39 - وفيه: أَبُو مَرْيَم، لَمَّا سَارَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةُ إِلَى الْبَصْرَةِ بَعَثَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 46 عَليٌّ إلى عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ، فَقَدِمَا عَلَيْنَا الْكُوفَةَ، فَصَعِدَا الْمِنْبَرَ، فَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ فَوْقَ الْمِنْبَرِ فِى أَعْلاهُ، وَقَامَ عَمَّارٌ أَسْفَلَ مِنَ الْحَسَنِ، فَاجْتَمَعْنَا إِلَيْهِ، فَسَمِعْتُ عَمَّارًا، يَقُولُ: إِنَّ عَائِشَةَ، قَدْ سَارَتْ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَوَاللَّهِ إِنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ (صلى الله عليه وسلم) فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ابْتَلاكُمْ؛ لِيَعْلَمَ إِيَّاهُ تُطِيعُونَ أَمْ هِىَ. وَقَالَ مرةً: وَلَكِنَّهَا مِمَّا ابْتُلِيتُمْ، يعنى عائشة. / 40 - وفيه: أَبُو وَائِلٍ، دَخَلَ أَبُو مُوسَى وَأَبُو مَسْعُودٍ عَلَى عَمَّارٍ حَيْثُ بَعَثَهُ عَلِىٌّ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ يَسْتَنْفِرُهُمْ، فَقَالا: مَا رَأَيْنَاكَ أَتَيْتَ أَمْرًا أَكْرَهَ عِنْدَنَا مِنْ إِسْرَاعِكَ فِى هَذَا الأمْرِ مُنْذُ أَسْلَمْتَ، فَقَالَ عَمَّارٌ: مَا رَأَيْتُ مِنْكُمَا مُنْذُ أَسْلَمْتُمَا أَمْرًا أَكْرَهَ عِنْدِى مِنْ إِبْطَائِكُمَا عَنْ هَذَا الأمْرِ، وَكَسَاهُمَا حُلَّةً حُلَّةً، ثُمَّ رَاحُوا إِلَى الْمَسْجِدِ. / 41 - وروى أيضًا قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ وَكَانَ مُوسِرًا: يَا غُلامُ، هَاتِ حُلَّتَيْنِ، فَأَعْطَى إِحْدَاهُمَا أَبَا مُوسَى وَالأخْرَى عَمَّارًا، وَقَالَ: رُوحَا فِيهِ إِلَى الْجُمُعَةِ. قال المؤلف: حديث حذيفة وأبى موسى من أعلام النبوة؛ لأن فيهما الإخبار عما يكون من الفتن والغيب، وذلك لا يعلم إلا بوحى من الله. وقال الخطابى: إنما كان يسأل حذيفة عن الشر ليعرف موضعه فيتوقاه، وذلك أن الجاهل بالشر أسرع إليه وأشد وقوعًا فيه وروى عن بعض السلف أنه قيل له: إن فلانًا لا يعرف الشر. قال: ذاك أجدر أن يقع فيه، ولهذا صار عامّة ما يروى من أحاديث الفتن وأكثر ما يذكر من أحوال المنافقين ونعوتهم منسوبة إليه ومأخوذة عنه. وقال غيره: وإنما تنكب حذيفة حين سأله عمر عن الفتنة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 47 فجاوبه عن فتنة الرجل فى أهله وماله وولده وجاره ولم يجاوبه عن الفتنة الكبرى التى تموج كموج البحر لئلا يغمه ويشغل باله، ألا ترى قوله لعمر: (ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين فإن بينك وبينها بابًا مغلقًا) ولم يقل له أنت الباب، وهو يعلم أن الباب عمر، فإنما أراد حذيفة ألا يواجهه بما يشق عليه ويهمه، وعرض له بما فهم عنه عمر أنه هو الباب ولم يصرح له بذلك، وهذا من حسن أدب حذيفة، رضى الله عنه. قال المهلب: فإن قال قائل: فمن أين علم عمر أن الباب إذا كسر لم يغلق أبدًا. فالجواب: أنه استدل عمر على ذلك؛ لأن الكسر لا يكون إلا غلبةً، والغلبة لا تكون إلا فى الفتنة، وقد علم عمر وغيره من النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه سأل ربه ألا يجعل بأس أمته بينهم فمنعها، فلم يزل الهرج إلى يوم القيامة، وروى معمر، عن أيوب، عن أبى قلابة، عن أبى الأشعث الصنعانى، عن أبى أسماء الرحبى، عن شداد بن أوس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا وضع السيف فى أمتى لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة) وفيه أن الصحابة كان يأخذ بعضهم العلم عن بعض، ويصدق بعضهم بعضًا، وكلهم عدول رِضىً، وهم خير أمةٍ أخرجت للناس. وفى حديث أبى موسى البُشرى بالجنة لأبى بكر وعمر وعثمان، إلا أنه قال فى عثمان (مع بلاءٍ يصيبه) وكان ذلك البلاء أنه قتل مظلومًا شهيدًا. فإن قيل: فكيف خص عثمان بذكر البلاء؛ وقد أصاب عمر مثله؛ لأنه طعنه أبو لؤلؤة فمات من طعنته شهيدًا كما مات عثمان شهيدًا؟ . فالجواب: أن عمر وإن كان مات من الطعنة شهيدًا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 48 فإنه لم يمتحن بمثل محنة عثمان من تسلط طائفة باغية متغلبة عليه، ومطالبتهم له أن ينخلع من الإمامة، وهجومهم عليه فى داره، وهتكهم ستره، ونسبتهم إليه الجور والظلم وهو برئ عند الله من كل سوء، بعد أن منع الماء مع أشياء كثيرة يطول إحصاؤها، وعمر لم يلق مثل هذا، ولا تسوّر عليه أحد داره، ولا هتك ستره، ولا قتله من شهد شهادة التوحيد فيحاجه بها عند الله يوم القيامة؛ ولذلك حمد الله عمر على ذلك، فكان الذى أصاب عثمان من البلاء غير قتله بلاء شديدًا لم يصب عمر مثله. قال المهلب: وأما قول أبى وائل: (قيل لأسامة: ألا تكلم هذا الرجل) يعنى عثمان بن عفان ليكلمه فى شأن الوليد؛ لأنه ظهر عليه ريح نبيذ وشهر أمره، وكان أخا عثمان لأمه، وكان عثمان يستعمله على الأعمال، فقيل لأسامة: ألا تكلمه فى أمره؛ لأنه كان من خاصة عثمان، وممن يخف عليه، فقال: قد كلمته فيما بينى وبينه، وما دون أن أفتح بابًا أكون أوّل من يفتحه، يريد لا أكون أوّل من يفتح باب الإنكار على الأئمة علانيةً فيكون بابًا من القيام على أئمّة المسلمين فتفترق الكلمة وتتشتت الجماعة، كما كان بعد ذلك من تفرق الكلمة بمواجهة عثمان بالنكير، ثم عرفهم أنه لا يداهن أميرًا أبدًا بل ينصح له فى السر جهده بعدما سمع النبى يقول فى الرجل الذى كان فى النار كالحمار يدور برحاه، من أجل أنه كان يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن الشر ويفعله يعرفهم أن هذا الحديث جعله ألا يداهن أحدًا، يتبرأ إليهم مما ظنوا به من سكوته عن عثمان في أخيه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 49 فإن قال قائل: فإن الإنكار على الأمراء فى العلانية من السنة لما روى سفيان عن علقمة بن مرثد، عن طارق بن شهاب: (أن رجلاً سأل النبى (صلى الله عليه وسلم) أى الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حق عند سلطان جائر) . قال الطبرى: قد اختلف السلف قبلنا فى تأويل هذا الحديث فقال بعضهم: إنما عنى النبى (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (كلمة حق عند سلطان جائر) إذا أمن على نفسه القتل أو أن يلحقه من البلاء ما لا قبل له به، هذا مذهب أسامة بن زيد، وروى ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وحذيفة، وروى عن مطرف بن الشخير أنه قال: والله لو لم يكن لى دين حتى أقوم إلى رجل معه ألف سيف فأنبذ إليه كلمة فيقتلنى إن دينى إذًا لضيق. وقال آخرون: الواجبُ على من رأى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 50 منكرًا من ذى سلطان أن ينكره علانيةً وكيف أمكنه، روى ذلك عن عمر بن الخطاب وأبىّ بن كعب، واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطيع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وبقوله: (إذا هابت أمتى أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تودع منهم) . وقال آخرون: من رأى من سلطانه منكرًا فالواجب عليه أن ينكره بقلبه دون لسانه، واحتجوا بحديث أم سلمة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (يستعمل عليكم أمراء بعدى، تعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضى وتابع، قالوا: يا رسول الله، أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا) . قال الطبرى: والصّواب: أن الواجب على كل من رأى منكرًا أن ينكره إذا لم يخف على نفسه عقوبة لا قبل له بها؛ لورود الأخبار عن النبى (صلى الله عليه وسلم) بالسمع والطاعة للأئمة، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا ينبغى للمؤمن أن يذل نفسه. قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء ما لا يطيق) . فإن قال قائل فى حديث أسامة: فكيف صار الذين كان يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر معه فى النار وهو لهم بالمعروف آمر، وعن المنكر ناهٍ؟ قيل: لم يكونوا أهل طاعة، وإنما كانوا أهل معصية. وأما حديث أبى بكرة فإن فى ظاهره توهية لرأى عائشة فى الخروج. قال المهلب: وليس كذلك لأن المعروف من مذهب أبى بكرة أنه كان على رأى عائشة وعلى الخروج معها، ولم يكن خروجها على نيّة القتال، وإنما قيل لها: اخرجى لتصلحى بين الناس فإنك أمهم ولم يعقوك بقتال. فخرجت لذلك، وكان نية بعض أصحابها إن ثبت لهم البغى أن يقاتلوا التى تبغى، وكان منهم أبو بكرة ولم يرجع عن هذا الرأى أصلا وإنما تشاءم بقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى تمليك فارس امرأة أنهم يغلبون، لأن الفلاح فى اللغة البقاء؛ لا أن أبا بكرة وهّن رأى عائشة، ولا فى الإسلام أحد يقوله إلا الشيعة، فلم يرد أبو بكرة بكلامه إلا أنهم يغلبون إن قوتلوا، وليس الغلبة بدلالة على أنهم على باطل؛ لأن أهل الحق قد يُغلبون، وتكون لهم العاقبة كما وعد الله المتقين، وذلك عيان فى أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) يوم حنين وأحد، وجعل الله لهم العاقبة، كما جعلها لمن غضب لعثمان وأنف من قتله وطلب دمه، وليس فى الإسلام أحد يقول: إن عائشة دعت إلى أمير معها، ولا عارضت عليًا فى الخلافة، ولا نازعته لأخذ الإمارة، وإنما أنكرت عليه منعه من قتلة عثمان، وتركهم دون أن يأخذ منهم حدود الله ودون أن يقتصّ لعثمان منهم، لا غير ذلك، فهم الذين خشوها وخشوا على أنفسهم فورّشوا ودسوا فى جمع عائشة من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 51 يقول لهم: إن عليا يقاتلكم فخذوا حذركم وشكوا سلاحكم وعبئوا حربكم، وقالوا لعلى: إنهم يريدون أن يخلعوك ويقاتلوك على الإمارة، ثم استشهدوا بما يرونه من أخذ أصحاب الجمل بالحزم وتعبئتهم الصفوف وحمل السلاح ثم يقولون له: هل يفعلون ذلك إلا لقتالك حتى حرّكوه، وكانوا أول من رمى فيهم بالسّهام وضربوا بالسيوف والرماح حتى اشتبك القتال ووقع ما راموه، وكان فى ذلك خلاصهم مما خشوه من اجتماع الفريقين على الاستقادة لعثمان منهم، هذا أحسن ما قيل فى ذلك. وأما حديث أبى موسى وأبى مسعود حين دخلا على عمار، فإن عمارًا بعثه على إلى الكوفة ليستنفرهم، فجرى بينهم ما جرى من تقبيح رأى عمار وإسراعه فى الفتنة بالخروج وكشف الوجه وقد علم نهى النبى عن حمل السلاح على المسلمين، ثم توبيخ عمار لأبى موسى وأبى مسعود على قعودهما عن ذلك، وكل فريق منهم مجتهد له وجه فى الصّواب، وكان اجتماعهم عند أبى مسعود بعد أن خطب عمار الناس على المنبر بالنفير، وكان أبو مسعود كثير المال جوادًا وكان ذلك يوم جمعة فكساهما حلتين ليشهدا بها الجمعة؛ لأن عمارًا كان فى ثياب السفر وهيئة الحرب فكره أن يشهد الجمعة فى تلك الثياب، وكره أن يكسوه بحضرة أبى موسى ولا يكسو أبا موسى؛ لأنه كان كريمًا. والقف: ما ارتفع عن الأرض، عن صاحب العين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 52 - باب إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا / 42 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ، ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ) . قال المؤلف: هذا الحديث يبين حديث زينب بنت جحش أنها قالت: (يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث) فيكون إهلاك جميع الناس عند ظهور المنكر والإعلان بالمعاصى، ودلّ قوله: (ثم بعثوا على أعمالهم) أن ذلك الهلاك العام يكون طهرةً للمؤمنين ونقمةً للفاسقين وقد تقدّم هذا فى أول كتاب الفتن. - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِىٍّ: (إِنَّ ابْنِى هَذَا لَسَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ / 43 - فيه: إِسْرَائِيلُ، أنَّهُ جَاءَ إِلَى ابْنِ شُبْرُمَةَ، فَقَالَ: أَدْخِلْنِى عَلَى عِيسَى أَعِظَهُ، فَكَأَنَّ ابْنَ شُبْرُمَةَ خَافَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: لَمَّا سَارَ الْحَسَنُ ابْنُ عَلِىٍّ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالْكَتَائِبِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ: أَرَى كَتِيبَةً لا تُوَلِّى حَتَّى تُدْبِرَ أُخْرَاهَا، قَالَ مُعَاوِيَةُ: مَنْ لِذَرَارِىِّ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: أَنَا، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ: نَلْقَاهُ، فَنَقُولُ لَهُ: الصُّلْحَ، قَالَ الْحَسَنُ: وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ، قَالَ: بَيْنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَخْطُبُ، جَاءَ الْحَسَنُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إن ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) . / 44 - وفيه: حَرْمَلَةَ مَوْلَى أُسَامَةَ، قَالَ: أَرْسَلَنِى أُسَامَةُ إِلَى عَلِيٍّ بْن أَبِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 53 طالب، وَقَالَ: إِنَّهُ سَيَسْأَلُكَ الآنَ، فَيَقُولُ: مَا خَلَّفَ صَاحِبَكَ؟ فَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ: لَوْ كُنْتَ فِى شِدْقِ الأسَدِ لأحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِيهِ، وَلَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَمْ أَرَهُ، فَلَمْ يُعْطِنِى شَيْئًا، فَذَهَبْتُ إِلَى حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ وَابْنِ جَعْفَرٍ، فَأَوْقَرُوا لِي رَاحِلَتِي. قال المؤلف: فيه فضل السعى بين المسلمين فى حسم الفتن والإصلاح بينهم وأن ذلك مما تستحق به السيادة والشرف، وقول معاوية: (من لذرارى) يدل على أنه كره الحرب وخشى سوء عاقبة الفتنة؛ ولذلك بعث عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة إلى الحسن ابن على يسأله الصلح، فأجاب الحسن بن على رغبةً فيه وحقنًا لدماء المسلمين وحرصًا على رفع الفتنة، وقد تقدم فى الصلح. وأما قول إسرائيل لابن شبرمة أدخلنى على عيسى أعظه يعنى: عيسى بن موسى، فخاف عليه ابن شبرمة من ذلك، فدل أن مذهب ابن شبرمة أن من خاف على نفسه لا يلزمه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وأما حديث أسامة فإنه أرسل مولاه إلى على بن أبى طالب يعرفه أنه من أحبّ الناس إليه وأنه يحب مشاركته فى السراء والضراء، ويعتذر إليه من تخلفه عن الحرب معه، وأنه لا يرى ذلك لما روى عنه: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما بعثه إلى الحرقة أدرك رجلا بالسيف فقال له الرجل: لا إله إلا الله، فقتله فأخبر النبى بذلك، فقال له: يا أسامة قتلته بعدما قال: لا إله إلا الله. فقال: يا رسول الله إنما قالها تعوّذًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 54 فقال رسول الله: أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ فما زال يكررها حتى تمنيت أن لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم) فآلى أسامة على نفسه أن لا يقاتل مسلمًا أبدًا، فلذلك قعد عن علىّ، رضى الله عنه، فى الجمل وصفين. - باب إِذَا قَالَ عِنْدَ قَوْمٍ شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ بِخِلافِهِ / 45 - فيه: نَافِع، لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ، فَقَالَ: إِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّى لا أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ: وَإِنِّى لا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ، وَلا بَايَعَ فِى هَذَا الأمْرِ إِلا كَانَتِ الْفَيْصَلَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ. / 46 - وفيه: أَبُو الْمِنْهَالِ، لَمَّا كَانَ ابْنُ زِيَادٍ وَمَرْوَانُ بِالشَّأْمِ، وَوَثَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، وَوَثَبَ الْقُرَّاءُ بِالْبَصْرَةِ، فَانْطَلَقْتُ مَعَ أَبِى إِلَى أَبِى بَرْزَةَ الأسْلَمِىِّ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَيْهِ فِى دَارِهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِى ظِلِّ عُلِّيَّةٍ لَهُ مِنْ قَصَبٍ، فَجَلَسْنَا إِلَيْهِ، فَأَنْشَأَ أَبِى يَسْتَطْعِمُهُ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَرْزَةَ، أَلا تَرَى مَا وَقَعَ فِيهِ النَّاسُ؟ فَأَوَّلُ شَىْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ: إِنِّى احْتَسَبْتُ عِنْدَ اللَّهِ أَنِّى أَصْبَحْتُ سَاخِطًا عَلَى أَحْيَاءِ قُرَيْشٍ، إِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، كُنْتُمْ عَلَى الْحَالِ الَّذِى عَلِمْتُمْ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْقِلَّةِ وَالضَّلالَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَنْقَذَكُمْ بِالإسْلامِ وَبِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى بَلَغَ بِكُمْ مَا تَرَوْنَ، وَهَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِى أَفْسَدَتْ بَيْنَكُمْ، إِنَّ ذَلكَ الَّذِي بِالشَّأْمِ، وَاللَّهِ إِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 55 يُقَاتِلُ إِلا عَلَى الدُّنْيَا، وَإِنْ ذَلكَ الَّذِي بِمَكَّةَ وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُ إِلا عَلَى الدُّنْيَا وَإِنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُونَ إِلا عَلَى الدُّنْيَا. / 47 - وفيه: حُذَيْفَة، قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) كَانُوا يَوْمَئِذٍ يُسِرُّونَ وَالْيَوْمَ يَجْهَرُونَ. / 48 - وَقَالَ مرةً: إِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ عَلَى عَهْدِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الإيمَانِ. قال المؤلف: معنى الترجمة إنما هو فى خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية ورجوعهم عن بيعته وما قالوا له، وقالوا بغير حضرته خلاف ما قالوا بحضرته، وذلك أن ابن عمر بايع يزيد ابن معاوية فقال عنده بالطاعة لخلافته، ثم خشى على بنيه وحشمه النكث مع أهل المدينة حين نكثوا بيعة يزيد، فجمعهم ووعظهم وأخبرهم أن النكث أعظم الغدر. وأما قول أبى برزة: (إنى أحتسبُ عند الله أنى أصبحت ساخطًا على أحياء قريش) فوجه موافقته الترجمة أن هذا قول لم يقله عند مروان حين بايعه بل بايع واتبع، ثم سخط ذلك لما بعد عنه، وكأنه أراد منه أن يترك ما نوزع فيه للآخرة ولا يقاتل عليه كما فعل عثمان فلم يقاتل من نازعه، بل ترك ذلك لمن قاتله عليه، وكما فعل الحسن بن على حين ترك القتال لمعاوية حين نازعه أمر الخلافة فسخط أبو برزة من مروان تمسكه بالخلافة والقتال عليها، فقد تبين أن قوله لأبى المنهال وابنه بخلاف ما قال لمروان حين بايع له، وأما يمينه أن الذى بالشام إن يقاتل إلا على الدنيا، فوجهه أنه كان يريد أن يأخذ بسيرة عثمان والحسن رضى الله عنهما، وأمّا يمينه على الذى بمكة، يعنى ابن الزبير، فإنه لما وثب بمكة بعد أن دخل فيما دخل فيه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 56 المسلمون جعله نكثًا منه وحرصًا على الدنيا، وهو فى هذه أقوى رأيًا منه فى الأولى، وكذلك القراء بالبصرة؛ لأنه كان رحمه الله لا يرى الفتنة فى الإسلام أصلا، فكان يرى أن يترك صاحب الحق حقه لمن نازعه فيه لأنه مأجور فى ذلك، وممدوح بالإيثار على نفسه، وكان يريد من المقاتل له أن يقتحم النار فى قيامه وتفريقه الجماعة وتشتيته الكلمة، ولا يكون سببًا لسفك الدماء واستباحة الحرم أخذًا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار) فلم ير القتال البتة. وأما حديث حذيفة وقوله: (إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم)) لأنهم كانوا يسرون قولهم فلا يتعدّى شرهم إلى غيرهم، وأما اليوم فإنهم يجهرون بالنفاق ويعلنون بالخروج على الجماعة ويورثون بينهم ويحزبونهم أحزابًا، فهم اليوم شر منهم حين لا يضرون بما يسرونه. ووجه موافقته للترجمة أن المنافقين بالجهر وإشهار السلاح على الناس هو القول بخلاف ما قالوه حين دخلوا فى بيعة من بايعوه من الأئمة؛ لأنه لا يجوز أن يتخلف عن بيعة من بايعه الجماعة ساعة من الدهر؛ لأنها ساعة جاهليّة، ولا جاهليّة فى الإسلام، وقد قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103] فالتفرق محرّم فى الإسلام وهو الخروج عن طاعة الأئمة. وأما قول أبى برزة واحتسابه سخطه على أحياء قريش عند الله، فكأنه قال: اللهم إنى لا أرضى ما تصنع قريش من التقاتل على الخلافة، فاعلم ذلك من نيتى، وأنى أسخط فعلهم واستباحتهم للدماء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 57 والأموال، فأراد أن يحتسب مما يكرهه من إنكار القتال فى الإسلام عند الله أجرًا وذخرًا، فإنه لم يقدر من التغيير عليهم إلا بالقول والنية التى بها يأجرُ الله عباده. - باب لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُغْبَطَ أَهْلُ الْقُبُورِ / 49 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِى مَكَانَهُ) . قال المؤلف: تغبيط أهل القبور وتمنى الموت عند ظهور الفتن إنما هو خوف ذهاب الدين لغلبة الباطل وأهله وظهور المعاصى والمنكر. وروى ابن المبارك عن سعيد بن عبد العزيز، عن ابن عبد ربه أن أبا الدرداء كان إذا جاءه موت الرجل على الحال الصالحة قال: هنيئًا له ليتنى بدله، فقالت له أم الدرداء: لم تقول هذا؟ فقال: إن الرجل ليصبح مؤمنًا ويمسى كافرًا، قالت: وكيف؟ قال: يسلب إيمانه وهو لا يشعر، فلأنا أغبط لهذا بالموت أغبط من هذا فى الصوم والصلاة. وقد روى عن النعمان بن بشير، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن بين يدى الساعة فتنًا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسى كافرًا، ويمسى مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع فيها أقوام دينهم بعرض من الدنيا يسير) . ومن حديث الحسن عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (بين يدى الساعة فتن يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه) . وعن ابن مسعود قال: سيأتى عليكم زمان لو وجد فيه أحدكم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 58 الموت يباع لاشتراه، وسيأتى عليكم زمان يغبط فيه الرجل بخفة الحاذ كما يغبط فيه بكثرة المال والولد. وأما من لم يخف فساد دينه وذهاب إيمانه فلا يتمنى الموت ذلك الزمان لمشابهته بأهله وحرصه فيما دخلوا فيه، بل ذلك وقت يسود فيه أهل الباطل، ويعلو فيه سفلة الناس ورذالتهم ويسعد بالدنيا لكع بن لكع. - باب تَغْيِيرِ الزَّمَانِ حَتَّى تُعْبَدَ الأوْثَانُ / 50 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِى الْخَلَصَةِ) ، وَذُو الْخَلَصَةِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِى كَانُوا يَعْبُدُونَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ. / 51 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّاتم: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ) . قال المؤلف: ذكر مسلم فى كتابه ما يبين حديث أبى هريرة قال: حدثنا أبو كامل الجحدرى قال: حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن الأسود بن العلاء، عن أبى سلمة، عن عائشة قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى فقلت: يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله: (هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى (إلى) الْمُشْرِكُونَ) [التوبة: 33] أن ذلك تام قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 59 الله، ثم يبعث الله ريحًا طيبةً فيتوفى كل من فى قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم) . قال المؤلف: هذه الأحاديث وما جانسها معناها الخصوص، وليس المراد بها أن الدين ينقطع كله فى جميع أقطار الأرض حتى لا يبقى منه شىء؛ لأنه قد ثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أن الإسلام يبقى إلى قيام الساعة إلا أنه يضعف ويعود غريبًا كما بدأ، وروى حماد بن سلمة، عن قتادة، عن مطرف، عن عمران بن حصين قال: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (لا تزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق ظاهرين حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال) وكان مطرف يقول: هم أهل الشام، فبين (صلى الله عليه وسلم) فى هذا الخبر خصوصه سائر الأخبار التى خرجت مخرج العموم، وصفة الطائفة التى على الحق مقيمة إلى قيام الساعة أنها بيت المقدس دون سائر البقاع، فبهذا تأتلف الأخبار ولا تتعارض، وقد تقدم فى كتاب العلم فى باب من يرد الله به خيرًا يفقهه فى الدين. فإن قال قائل: فما وجه ذكر حديث القحطانى الذى يسوق الناس بعصاه فى هذا الباب؟ قال المهلب: وجه ذلك أنه إذا قام رجل من قحطان ليس من فخذ النبوة ولا من رهط الشرف الذين جعل الله فيهم الخلافة فذلك من أكبر تغير الزمان وتبديل أحكام الإسلام أن يدعى الخلافة، وأن يطاع فى الدين من ليس أهل ذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 60 - باب خُرُوجِ النَّارِ وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ) . / 52 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ تُضِىءُ أَعْنَاقَ الإبِلِ بِبُصْرَى) . / 53 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يُوشِكُ الْفُرَاتُ أَنْ يَحْسِرَ عَنْ كَنْزٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَمَنْ حَضَرَهُ فَلا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا) . وَقَالَ مرة: (جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ) . / 54 - وفيه: حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ، قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : (تَصَدَّقُوا، فَسَيَأْتِى عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَمْشِى الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ، فَلا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا) . / 55 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، دَعْوَتُهُمَا وَاحِدَةٌ، وَحَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلاثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَحَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ، وَحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ، فَيَفِيضَ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَحَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ الَّذِى يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ: لا أَرَبَ لِى بِهِ، وَحَتَّى يَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِى الْبُنْيَانِ، وَحَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِى مَكَانَهُ، وَحَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ، يَعْنِى آمَنُوا، أَجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ) لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا) [الأنعام: 185] ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ، وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا، فَلا يَتَبَايَعَانِهِ، وَلا يَطْوِيَانِهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ، وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلا يَطْعَمُهُ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يُلِيطُ حَوْضَهُ فَلا يَسْقِى فِيهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلا يَطْعَمُهَا) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 61 قال المؤلف: ترجم البخارى فى باب خروج النار ولم يسنده فى هذه المواضع اكتفاء بما تقدم من إسناده فى كتاب الأنبياء، رواه عن ابن سلام، عن الفزارى، عن حميد، عن أنس عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وروى حسين المروزى، عن عبد الوهاب حدثنا عبيد بن عمر، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، عن كعب قال: (تخرج نار من قبل اليمن تحشر الناس تغدو معهم إذا غدوا، وتقيل معهم إذا قالوا، وتروح معهم إذا راحوا، فإذا سمعتم بها فاخرجوا إلى الشام) . وكل ما ذكرناه فى هذا الحديث من الأشراط فهى علامات لقيام الساعة كخروج النار ومعناها واحد، وقد جاء فى حديث أن النار آخر أشراط الساعة، رواه ابن عيينة، عن فرات القزاز، عن أبى الطفيل، عن أبى سريحة حذيفة بن أسيد قال: (أشرف علينا النبى (صلى الله عليه وسلم) من غرفة فقال: ما تذكرون؟ قلنا: نتذاكر الساعة قال: إنها لا تقوم حتى يكون قبلها عشر آيات: الدجال والدخان، والدابة وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى بن مريم، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم) . وذكر ابن أبى شيبة، حدثنا محمد بن بشر، عن أبى حيان، عن أبى زرعة، عن عبد الله ابن عمرو، قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن أول الآيات الجزء: 10 ¦ الصفحة: 62 خروجًا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضُحى، وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبًا منها. وحديث أنس أصح من هذه الأحاديث، وقد روى حماد بن سلمة عن أبى المهزم يزيد ابن سفيان، عن أبى هريرة قال: (خروج الآيات كلها فى ثمانية أشهر) أبو المهزم ضعيف، وقال أبو العالية: الآيات كلها فى ستة أشهر. وقوله: (تضئ أعناق الإبل ببصرى) فالعرب تقول: أضاءت النار وأضاءت النار غيرها. - باب ذِكْرِ الدَّجَّالِ / 56 - فيه: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: (مَا سَأَلَ أحدٌ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الدَّجَّالِ أَكْثَرَ مَا سَأَلْتُهُ، وَإِنَّهُ قَالَ لِى: (مَا يَضُرُّكَ مِنْهُ) ؟ قُلْتُ: لأنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَعَهُ جَبَلَ خُبْزٍ، وَنَهَرَ مَاءٍ، قَالَ: (هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ) . / 57 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: (أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ) . / 58 - وفيه: أَنَس، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَجِىءُ الدَّجَّالُ حَتَّى يَنْزِلَ فِى نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ، فتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ ثَلاثَ رَجَفَاتٍ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ كُلُّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ) . / 59 - وفيه: أَبُو بَكْرَة، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ، وَلَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ، عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ) . / 60 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَامَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى النَّاسِ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 63 بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: (إِنِّى لأنْذِرُكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِىٍّ إِلا وَقَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، وَلَكِنِّى سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلا لَمْ يَقُلْهُ نَبِىٌّ لِقَوْمِهِ، إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ) . / 61 - وزاد ابْن عَبَّاس، وَأَنَس، وأَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ كَافِرٌ) . / 62 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعَرِ يَنْطُفُ، أَوْ يُهَرَاقُ رَأْسُهُ مَاءً، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: ابْنُ مَرْيَمَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ، فَإِذَا رَجُلٌ جَسِيمٌ أَحْمَرُ، جَعْدُ الرَّأْسِ، أَعْوَرُ الْعَيْنِ كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، قَالُوا: هَذَا الدَّجَّالُ، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ، رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ) . / 63 - وفيه: عَائِشَةَ، سَمِعْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتَعِيذُ فِى صَلاتِهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ. / 64 - وفيه: حُذَيْفَة، وَأَبُو مَسْعُودٍ، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (الدَّجَّالِ مَعَهُ مَاءً وَنَارًا، فَنَارُهُ مَاءٌ بَارِدٌ، وَمَاؤُهُ نَارٌ) . إن قال قائل: ما معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ترجف المدينة ثلاث رجفات) وقد قال فى حديث أبى بكرة: (إنه لا يدخل المدينة رعب المسيح) ؟ قال المهلب: فالجواب: أن رجفات المدينة ليست من رعبه ولا من خوفه، وإنما ترجف المدينة لمن يتشوف إلى الدجال من المنافقين فيخرجهم أهل المدينة كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (إنها تنفى خبثها) . والدليل على أن المؤمنين فيها لا يرعبون من الدجال؛ أنه يخرج إليه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 64 منهم رجل يناظره وهو الذى يقول له الدجال: أرأيت إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون فى الأمر؟ فيقولون: لا. يعنى فيقول المنافقون الذين معه غير ذلك الرجل الصالح فيقتله ثم يحييه، فيقول ذلك الرجل: والله ما كنت قط أشد بصيرة منى اليوم، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه، فهل يدخل رعبه المدينة وأحدهم يناظره ويقارعه ويجهر له بأنه الدجال، ولا يوهن قلبه ما يراه من قدرة الله الذى أقدره على أن يقتل رجلا ثم يحييه ولا يخافه على مهجته وهو وحده لا يمتنع منه بعدد ولا عدة ولا جماعة. فإن قال قائل: فإذا سلط الدجال على قتل رجل وإحيائه فهذا أن الله قد يعطى آيات الأنبياء وقلب الأعيان أهل الكذب على الله وأشد أعدائه فرية عليه. قال الطبرى: فنقول: إنه لا يجوز أن تعطى أعلام الرسل أهل الكذب والإفك فى الحال التى لا سبيل لمن عاين ما أتى به الفريقان إلى الفصل بين المحق منهم والمبطل، فأما إذا كان لمن عاين ذلك السبيل إلى علم الصادق ممن ظهر ذلك على يده من الكاذب، فلا ينكر إعطاه الله ذلك الكذابين لعلة من العلل كالذى أعطى الدجال من ذلك فتنة لمن شاهده، ومحنة لمن عاينه ليعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. فإن قيل: وما السبب الذى يصيب به من عاين ما يظهر من ذلك على يد الدجال أنه مبطل؟ قيل: أبين الأسباب فى ذلك أنه ذو أجزاء مؤلفة، وتأليفه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 65 عليه بكذبه شاهد، وأن تأثير الصنعة فيه لمن ركب أعضاءه خلق ذليل وعبد مهين، مع آفة به لازمة من عور إحدى عينيه، يدعو الناس إلى الإقرار بأنه ربهم الذى خلقهم، فأسوأ حالات من يراه من ذوى العقول أن يعلم أنه لم يكن ليسوى خلق غيره ويعدله ويحسنه، وهو على دفع العاهات عن نفسه غير قادر. فأقل ما يجب أن يقول له من يدعوه إلى الإقرار له بالألوهية: إنك تزعم أنك خالق السموات والأرض وما فيهما وأنت أعور ناقص الصورة، فصور نفسك وعدلها على صورة من أنت فى صورته إن كنت محقًا فى ذلك، فإن زعمت أن الرب لا يحدث فى نفسه شيئًا فإنك راكب من الخطايا أرذلها، فتحول من الجماد إلى أشرف منه وأزل ما هو مكتوب بين عينيك من الكتاب الشاهد على كذبك. قال المهلب: وأما قوله فى حديث المغيرة: (إنهم يقولون أن معه جبل خبر ونهر ماءٍ. قال (صلى الله عليه وسلم) : هو أهون على الله من ذلك) . يريد والله أعلم هو أهون من أن يفتن الناس به فيملكه معايش أرزاقهم وحياة أرماقهم، فتعظم بذلك فتنتهم، بل تبقى عليه ذلة العبودية بتحويجه إلى معالجة المعاش، وقد ملكه ما لا يضر به إلا من قضى الله له بالشقاء فى أم الكتاب، وإنما يوهم الناس أن هذه نار يشير إليها ليخافه من لا بصيرة له فى دين الله فيتبعه مخافتها على نفسه، ولو أنعم النظر لرأى أنها ماء بارد وكذلك لما توهن به وهو ماء لمن لا بصيرة له ولا عنده علم بما قدمه الرسول من العلم لأمته بأن ناره ماء، وماءه نار، ومن أعطى فتنته ثم جعل له على تلك الفتنة علم بطلانها ومحالها لم تكن فتنة شاملة، ولا يفتتن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 66 بها إلا الأول لافتضاحها بأول من يلقى فيها فيجدها بخلاف ما أوهم فيها، ولولا انتقاله من بلد إلى بلد لأمنت تلك الفتنة إلا على الأول، لكنه يرد كل يوم بلدة لا يعرف أهلها ما افتضح من أمره فى غيرها فيظل يفتن، ويعصم الله العلماء منه، ومن علم علامة الرسول وثبته الله واستدل بأن من كان ذا عاهةٍ لا يكون إلهًا، فقد بان أنه أهون على الله من أن يمكنه من المعجزات تمكينًا صحيحًا، لأن إقداره على قتل الرجل وإحيائه لم يستمر له فى غيره ولا استضر به المقتول إلا ساعة ألمه، وقد لا يجد لقتله ألمًا لقدرة الله على دفع ألمه عنه، فإن آلمه آجره بذلك فى الآخرة، وإن لم يؤلمه فقد أدام له الحياة بإحيائه، ثم لا يسلط على قتل أحد ولا إحيائه. وذكر على بن معبد عن عبد الله بن عمر، وعن زيد بن أبى أنيسة، عن أشعث بن أبى الشعثاء عن أبيه، عن ابن مسعود قال: إن الدجال يرحل فى الأرض أربعين ليلة، وعن أبى مجلز قال: إذا خرج الدجال فالناس ثلاث فرق: فرقة تقاتله، وفرقة تفر منه، وفرقة تشايعه، فمن تحرز منه فى رأس جبل أربعين ليلة أتاه رزقه، وأكثر من يشايعه أصحاب العيال يقولون: إنا لنعرف ضلالته، ولكن لا نستطيع ترك عيالنا، فمن فعل ذلك كان منه. وذكر الطبرى بإسناده عن أبى أمامة الباهلى، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه حدثهم عن الدجال: (أنه يخرج بين الشام والعراق فيقول أنه نبى، ثم يثنِّى فيقول: أنا ربكم وإنه يأتى بجنة ونار، فناره جنة وجنته نار. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 67 فمن ابتلى بناره فليستعن بالله، فإنها تكون عليه بردًا وسلامًا ومن ابتلى به فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف وليتفل فى وجهه، فإنه لا يعدو ذلك، ويقتل رجلاً ثم يحييه وليس يحيى أحدًا بعده، وإن له أربعين يومًا يوم كالسنة ويوم كالشهر ويوم كجمعة ويوم كسائر الأيام، ويعدو الرجل من باب المدينة فلا يبلغ بابها الآخر حتى تغيب الشمس) . وروى الطبرى بإسناده عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ذكر عندها الدجال فقال: (إن قبل خروجه ثلاثة أعوام تمسك السماء ثلث قطرها والأرض ثلث نباتها، والعام الثانى تمسك السماء ثلثى قطرها والأرض ثلثى نباتها، والعام الثالث تمسك السماء قطرها والأرض نباتها حتى لا يبقى ذات ضرس ولا ذات ظلف إلا مات، ومن أعظم فتنته أنه يأتى الرجل فيقول له: إن أحييت لك أباك أو أخاك أو عمك تعلم أنى ربك؟ فيقول: نعم. فيمثل له شياطين عنده. ويأتى الأعرابى فيقول: إن أحييت لك إبلك عظامًا ضروعها، طوالاً أسنمتها؛ تعلم أنى ربك؟ فيقول: نعم. فيتمثل له شياطين عنده. فبكى القوم فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : إن يخرج فيكم فأنا حجيجه، وإلا فالله خليفتى على كل مؤمن. قالت أسماء: ما يكفى المؤمن يومئذ من الطعام يا رسول الله؟ قال: يكفيه ما يكفى أهل السماء التسبيح والتقديس) . وذكر ابن أبى شيبة بإسناده عن عائشة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (يخرج مع الدجال يهود أصبهان فيقتله عيسى ابن مريم بباب لد، ثم يمكث عيسى فى الأرض أربعين سنة أو قريبًا منها إمامًا عدلاً وحكمًا مقسطًا) . قال الخطابى: قال ثعلب: الطافية: العنبة التى قد خرجت عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 68 حد بنية أخواتها فعلت ونتأت وظهرت، يقال: طفا الشىء إذا علا وظهر، ومنه الطافى من السمك. - باب لا يَدْخُلُ الدَّجَّالُ الْمَدِينَةَ / 65 - فيه: أَبُو سَعِيد، حَدَّثَنِى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الدَّجَّالِ، فَقَالَ: (يَأْتِى الدَّجَّالُ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ، فَيَنْزِلُ بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِى تَلِى الْمَدِينَةَ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ، وَهُوَ خَيْرُ النَّاسِ، أَوْ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِى حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَدِيثَهُ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا، ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ، هَلْ تَشُكُّونَ فِى الأمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لا، فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يُحْيِيهِ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ فِيكَ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّى الْيَوْمَ، فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَلا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ) . / 66 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلائِكَةٌ، لا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ، وَلا الدَّجَّالُ) . قال المؤلف: قد تقدم الكلام فى حديث أبى سعيد وأبى هريرة، وفيه فضل المدينة وأنها خصت بهذه الفضيلة والله أعلم لبركة النبى (صلى الله عليه وسلم) ودعائه لها، وقد أراد الصحابة أن يرجعوا إلى المدينة عندما وقع الوباء بالشام ثقةً منهم بقول رسول الله الذى أمنهم دخول الطاعون بلده، وكذلك توقن أن الدجال لا يستطيع دخولها البتة، وفى ذلك من الفقه أن الله تعالى يوكل ملائكته بحفظ بنى آدم من الآفات والفتن والعدو إذا أراد حفظهم وقد وصف الله تعالى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 69 ذلك فى قوله: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ) [الرعد: 11] يعنى بأمر الله لهم بحفظه. وروى على بن معبد قال: ثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعى، عن إسحاق بن عبد الله، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة ليس من نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها، فينزل بالسبخة فترجف المدينة ثلاث رجفات يخرج إليه كل منافق) . والأنقاب: الطرق، واحدها نقب، ومنه قوله تعالى: (فَنَقَّبُوا فِى الْبِلاَدِ) [ق: 36] أى جعلوا فيها طرقًا ومسالك، وقال صاحب العين: النقب والنُّقب والمنقبة: الطريق فى رأس الجبل. - باب يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ / 67 - فيه: زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا فَزِعًا يَقُولُ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ، مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ) ، وَحَلَّقَ بِإِصْبَعَيْهِ الإبْهَامِ وَالَّتِى تَلِيهَا، قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: (نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخُبْثُ) . / 68 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يُفْتَحُ الرَّدْمُ، رَدْمُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، مِثْلُ هَذِهِ) ، وَعَقَدَ تِسْعِينَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 70 قال المؤلف: ذكر يحيى بن سلام، عن سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن أبى رافع، عن أبى هريرة: أن رسول الله قال: (إن يأجوج ومأجوج يخرقون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذى عليهم: ارجعوا فتخرقونه غدًا فيعيده الله كأشد ما كان إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذى عليهم: ارجعوا فستخرقونه غدًا إن شاء الله. فيغدون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيخرقونه، فيخرجون على الناس فينشفون المياه، ويتحصن الناس منهم فى حصونهم فيرمون سهامهم فترجع إليهم والدماء فيها، فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله عليهم نغفًا فى أقفائهم فيقتلهم بها) . وذكر على بن معبد، عن أشعث بن شعبة، عن أرطاة بن المنذر قال: إذا خرج يأجوج ومأجوج أوحى الله إلى عيسى ابن مريم: إنى قد أخرجت خلقًا من خلقى لا يطيقهم أحد غيرى، فمر بمن معك إلى جبل الطور ومعك من الذرارى اثنا عشر ألفًا. قال: ويأجوج ومأجوج ذرء جهنم، وهم على ثلاث أثلاث: ثلث على طور الأرز والسرس، وثلث مربع طوله وعرضه واحد وهم أشد، وثلث يفترش أحدهم أذنه يلتحف بالأخرى وهم ولد يافث ابن نوح. وعن الأوزاعى عن ابن عباس قال: الأرض ستة أجزاء فخمسة أجزاء منها يأجوج ومأجوج، وجزء فيه سائر الخلق. وعن كعب الأحبار قال: معاقل المسلمين من يأجوج ومأجوج الطور. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 71 كِتَاب الدَّعَاء - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60] وقَوْلِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ / 1 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ يَدْعُو بِهَا، وَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِى شَفَاعَةً لأمَّتِى فِى الآخِرَةِ) . / 2 - وفيه: أَنَس، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُّ نَبِىٍّ سَأَلَ سُؤْلا، أَوْ قَالَ: لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ، قَدْ دَعَا بِهَا، فَاسْتُجِيبَت، فَجَعَلْتُ دَعْوَتِى شَفَاعَةً لأمَّتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . قال المؤلف: أمر الله تعالى عباده بالدعاء وضمن لهم الإجابة فى قوله: (ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60] فإن قيل: فقد علمت تأويل من تأوّل قوله تعالى: (ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60] ادعونى بطاعتكم إياى وعبادتكم لى: أستجب لكم فى الذى التمستم منى بعبادتكم إياى. قال الطبرى: فالجواب: أن من طاعة العبد ربه دعاءه إياه ورغبته فى حاجته إليه دون ما سواه، والمخلص له العبادة المتضرع إليه فى حاجته موقن أن قضاءها بيده متعرض لنجحها منه، ومن عبادته إياه تضرعه إليه فيها، وقد روى وكيع عن سفيان، عن صالح مولى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 72 التوءمة، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (من لم يدع الله غضب الله عليه) . وروى شعبة، عن منصور، عن ذَرِّ، عن يُسَيْعٍ الحضرمى، عن النعمان بن بشير عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (الدعاء هو العبادة) وقرأ: (ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى) [غافر: 60] فسمى الدعاء عبادة، وروى الأوزاعى، عن الزهرى، عن عروة، عن عائشة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إن الله يحب الملحين فى الدعاء) . فإن ظن ظان أن قول أبى الدرداء يكفى من الدعاء مع العمل ما يكفى من الملح. وقيل لسفيان: أدع الله؟ فقال: إن ترك الذنوب هو الدعاء. مخالف لما جاء من فضل الإلحاح فى الدعاء والأمر بالدعاء والضراعة إلى الله، فقد ظن خطئًا. وذلك أن الذى جبلت عليه النفوس أن من طلب حاجةً ممن هو عليه ساخط لأمر تقدّم منه استوجب به سخطه أنه بالحرمان أولى ممن هو عنه راضٍ لطاعته له واجتنابه سخطه، فإذا علم من عبده المطيع له حاجةً إليه كفاه اليسير من الدعاء. فإن قيل: هل من علامة يعلم بها إجابة الله العبد فى دعائه؟ . قيل: قد جاء فى ذلك غير شىء، منها ما روى شهر بن حوشب: (أن أمّ الدرداء قالت له: يا شهر إن شفق المؤمن فى قلبه كسعفة أحرقتها فى النار، ثم قالت: يا شهر ألا تجد القشعريرة؟ قلت: نعم. قالت: فادع الله فإن الدعاء يستجاب عند ذلك) . وروى ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى الخير (أنه سمع أبا رهم السماعى يقول: ما يشعر به عند الدعاء والعطاس) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 73 قال المؤلف: فإن قيل: ما معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لكل نبى دعوة مستجابة) . وقد قال الله تعالى للناس كافة: (ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60] فعم كل الدعاء، وهذا وعد من الله لعباده وهو لا يخلف الميعاد، وإنما خصّ كل نبى بدعوة واحدة مستجابة، فأين فضل درجة النبوة؟ قيل: ليس الأمر كما ظننت، ولا يدل قوله تعالى: (ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60] على أن كل دعاء مستجاب لداعيه، وقد قال قتادة: إنما يستجاب من الدعاء ما وافق القدر. وليس قوله: (لكل نبى دعوة مستجابة) . مما يدل أنه لا يستجاب للأنبياء غير دعوة واحدة، وقد ثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه أجيبت دعوته فى المشركين حين دعا عليهم بسبع كسبع يوسف، ودعا على صناديد قريش المعاندين له، فقتلوا يوم بدر، وغير ذلك مما يكثر إحصاؤه مما أجيب من دعائه، بل لم يبلغنا أنه رُد من دعائه (صلى الله عليه وسلم) إلا سؤاله أن لا يجعل الله بأس أمته بينهم خاصةً، لما سبق فى أم الكتاب من كون ذلك، قال تعالى: (وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) [البقرة: 253] . ومعنى قوله: (لكل نبى دعوة مستجابة) . يريد أن لكل نبى عند الله من رفيع الدرجة وكرامة المنزلة أن جعل له أن يدعوه فيما أحبّ من الأمور ويبلغه أمنيته، فيدعو فى ذلك وهو عالم بإجابة الله له على ما ثبت عنه: (أن جبريل قال له: يا محمد، إن أردت أن يحول الله لك جبال تهامة ذهبًا فعل) . وخيَّره بين أن يكون نبيًا عبدًا وبين أن يكون نبيًا ملكًا، فاختار الآخرة على الدنيا، وليست هذه الدرجة لأحد من الناس، وإنما أمروا بالدعاء راجين الإجابة غير قاطعين عليها؛ ليقفوا تحت الرجاء والخوف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 74 وفي هذا الحديث بيان فضيلة نبينا (صلى الله عليه وسلم) على سائر الأنبياء عليهم السلام حين آثر أمته بما خصّه الله به من إجابة الدعوة بالشفاعة لهم، ولم يجعل ذلك فى خاصّة نفسه وأهل بيته فجزاه الله عن أمته أفضل الجزاء، وصلى الله عليه أطيب الصلاة، فهو كما وصفه الله: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128] . - باب فضل الاسْتِغْفَارِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) [نوح: 10، 11] ) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [آل عمران: 135] الآية. / 3 - فيه: شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ، أن رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، خَلَقْتَنِى وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَىَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِى، فَاغْفِرْ لِى، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ، قَبْلَ أَنْ يُمْسِىَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ، وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) . قال المؤلف: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) يعنى: العهد الذى أخذه الله على عباده فى أصل خلقهم حين أخرجهم من أصلاب آبائهم أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 75 ) أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) [الأعراف: 172] فأقروا له فى أصل خلقهم بالربوبية، وأذعنوا له بالوحدانية، والوعد: هو ما وعدهم تعالى أنه من مات لا يشرك منهم بالله شيئًا وأدّى ما افترض الله عليه أن يدخل الجنة، فينبغى لكل مؤمن أن يدعو الله تعالى أن يميته على ذلك العهد، وأن يتوفاه الله على الإيمان؛ لينال ما وعد تعالى من وفى بذلك اقتداءً بالنبى (صلى الله عليه وسلم) فى دعائه بذلك، ومثل ذلك سأل الأنبياء عليهم السلام الله تعالى فى دعائهم، فقال إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) : (وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) [إبراهيم: 35] وقال يوسف: (تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: 101] وقال نبينا: (وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنى إليك غير مفتون) . وأعلم أمته بقوله: (أنا على عهدك ووعدك ما استطعت) . إن أحدًا لا يقدر على الإتيان بجميع ما لله، ولا الوفاء بجميع الطاعات والشكر على النعم، إذ نعمه تعالى كثيرة ولا يحاط بها، ألا ترى قوله تعالى: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان: 20] فمن يقدر مع هذا أن يؤدى شكر النعم الظاهرة، فكيف الباطنة؟ لكن قد رفق الله بعباده فلم يكلفهم من ذلك إلا وسعهم وتجاوز عما فوق ذلك، وكان (صلى الله عليه وسلم) يمتثل هذا المعنى فى مبايعته للمؤمنين، فيقول: أبايعكم على السمع والطاعة فيما استطعتم. فإن قيل: أين لفظ الاستغفار فى هذا الدعاء، وقد سماه النبى (صلى الله عليه وسلم) سيد الاستغفار؟ قيل: الاستغفار فى لسان العرب هو طلب المغفرة من الله تعالى وسؤاله غفران الذنوب السالفة والاعتراف بها، وكل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 76 دعاء كان فى هذا المعنى فهو استغفار، مع أن فى الحديث لفظ الاستغفار وهو قوله: (فاغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) . وقال: (من قالها موقنًا بها) يعنى مخلصًا من قلبه ومصدقًا بثوابها فهو من أهل الجنة، وهذا كمعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه) . وقوله: (أبوء لك بنعمتك وأبوء بذنبى) قال صاحب الأفعال: باء بالذنب: أقرّ. 3 - باب اسْتِغْفَارِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ / 4 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (وَاللَّهِ إِنِّى لأسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِى الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً) . قال المؤلف: أولى العباد بالاجتهاد فى العبادة الأنبياء، عليهم السلام، لما حباهم الله به من معرفته، فهم دائبون فى شكر ربهم معترفون له بالتقصير لا يدلون عليه بالأعمال، مستكينون خاشعون، روى عن مكحول عن أبى هريرة قال: (ما رأيت أحدًا أكثر استغفارًا من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) . وقال مكحول: ما رأيت أكثر استغفارًا من أبى هريرة. وكان مكحول كثير الاستغفار. وقال أنس: أمرنا أن نستغفر بالأسحار سبعين مرة. وروى أبو إسحاق عن مجاهد، عن ابن عمر قال: (كنت مع النبى (صلى الله عليه وسلم) فسمعته يقول: أستغفر الله الذى لا إله إلا هو الحى القيوم وأتوب إليه مائة مرة قبل أن يقوم) وروى عن حذيفة أنه شكا إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) ذرب لسانه على أهله، فقال: أين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 77 أنت يا حذيفة من الممحاة؟ قال: وما هى؟ قال: (الاستغفار، إنى لأستغفر الله فى اليوم سبعين مرة) وقال (صلى الله عليه وسلم) لعائشة وقت الإفك: (إن كنت ألممت بذنب فاستغفرى الله وتوبى إليه) فإن التوبة من الذنب الندم والاستغفار، وقالت عائشة: (كان النبى (صلى الله عليه وسلم) قبل أن يموت يكثر من قوله سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه، فسألته عن ذلك، فقال: أخبرنى ربى أنى سأرى علامةً فى أمتى، فإذا رأيتها أكثرت من ذلك، فقد رأيتها: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ () [النصر: 1] . وقال أبو أيوب الأنصارى: ما من مسلم يقول: (أستغفر الله الذى لا إله إلا هو الحى القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات، إلا غفرت ذنوبه، وإن كانت أكثر من زبد البحر، وإن كان فر من الزحف) وكان ابن عمر كثيرًا ما يقول: الحمد لله وأستغفر الله، فقيل له فى ذلك، فقال: إنما هى نعمة فأحمد الله عليها أو خطيئة فأستغفر الله منها. وقال عمر بن عبد العزيز: رأيت أبى فى النوم كأنه فى بستان فقلت له: أى عملك وجدت أفضل؟ قال: الاستغفار. وروى أبو عثمان عن سلمان قال: إذا كان العبد يدعو الله فى الرخاء، فنزل به البلاء فدعا، قالت الملائكة: صوت معروف من امرئ ضعيف. فيشفعون له، وإذا كان لا يكثر من الدعاء فى الرخاء، فنزل به البلاء فدعا، فقالت الملائكة: صوت منكر من امرئ ضعيف، فلا يشفعون له. 4 - باب) تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا) [التحريم: 8] وقَالَ قَتَادَةُ: (تَوْبَةً نَصُوحًا (، الصَّادِقَةُ النَّاصِحَةُ. / 5 - فيه: الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، حَدَّثَنَا ابْن مَسْعُودٍ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنِ النَّبِيِّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 78 - عليه السلام - وَالآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ، فَقَالَ: بِهِ، هَكَذَا قَالَ أَبُو شِهَابٍ، بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ، فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ، وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِى، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ) . / 6 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (اللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَقَدْ أَضَلَّهُ فِى أَرْضِ فَلاةٍ) . قال صاحب العين: التوبة النصوحة: الصادقة. وقيل: إنما سمىّ الله التوبة نصوحًا؛ لأن العبد ينصح فيه نفسه ويقيها النار لقوله تعالى: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم: 6] ، وأصل قوله تعالى: (تَوْبَةً نَّصُوحًا) [التحريم: 8] توبةً منصوحًا فيها، إلا أن أخبر عنها باسم الفاعل للنصح على ما ذكره سيبويه عن الخليل فى قوله تعالى: (عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ) [الحاقة: 21] أى ذات رضا، وذكر أمثلة لهذا كثيرة عن العرب كقولهم: ليل نائم، وهم ناصب، أى: ينام فيه وينصب، فكذلك) تَوْبَةً نَّصُوحًا) [التحريم: 8] أى: ينصح فيها، والتوبة فرض من الله تعالى على كل من علم من نفسه ذنبًا صغيرًا أو كبيرًا؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا) [التحريم: 8] . وقال: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31] ، وقال تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ) [النساء: 17] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 79 فكل مُذنب فهو عند مواقعة الذنب جاهل وإن كان عالمًا، ومن تاب قبل الموت تاب من قريب، وقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (الندم توبة) . وقال: (إن العبد ليذنب الذنب فيدخل به الجنّة. قيل: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: يكون نصب عينيه تائبًا منه فارا حتى يدخل الجنة) . وقال سفيان بن عيينة: التوبةُ نعمة من الله أنعم بها على هذه الأمة دون غيرهم من الأمم، وكانت توبة بنى إسرائيل القتل. وقال الزهرى: لما قيل لهم: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) [البقرة: 54] قاموا صفين وقتل بعضهم بعضًا، حتى قيل لهم: كفوا. فكانت لهم شهادة للمقتول وتوبةً للحى، وإنما رفع الله عنهم القتل لما أعطوا المجهود فى قتل أنفسهم، فما أنعم الله على هذه الأمة نعمةً بعد الإسلام هى أفضل من التوبة. إن الرجل ليفنى عمره أو ما أفنى منه فى المعاصى والآثام، ثم يندم على ذلك ويقلع عنه ويقوم وهو حبيب الله، قال تعالى: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222] ، وقال (صلى الله عليه وسلم) : (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) . وقال ابن المبارك: حقيقة التوبة لها ست علامات: أولها: الندم على ما مضى. والثانية: العزم على أن لا تعود. والثالثة: أن تعمد إلى كل فرض ضيعته فتؤديه. والرابعة: أن تعمد إلى مظالم العباد، فتؤدّى إلى كل ذى حق حقه. والخامسة: أن تعمد إلى البدن الذى ربيتهُ بالسحت والحرام فتذيبه بالهموم والأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم، ثم تنشىء بينهما لحمًا طيبًا إن هو نشأ. والسادسة: أن تذيق البدن ألم الطاعة كما أذقته لذة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 80 المعصية. وقال ميمون ابن مهران عن ابن عباس: كم تائب يرد يوم القيامة يظن أنه تائب وليس بتائب، لأنه لم يحكم أبواب التوبة. وقال عبد الله بن سُميط: ما دام قلب العبد مصراّ على ذنبٍ واحد، فعمله معلق فى الهواء، فإن تاب من ذلك الذنب وإلا بقىّ عمله أبدًا معلقًا. وروى الأصيلى عن أبى القاسم يعقوب بن محمد بن صالح البصرى إملاءً من حفظه قال: حدثنا بكر بن أحمد بن مقبل قال: حدثنا عمران بن عبد الرحيم الأصبهانى، حدثنا خليفة، عن عبد الوهاب، عن محمد بن زياد، عن على بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيّب، عن أبى الدرداء قال: قال رسول الله: يقول الله تعالى: (إذا تاب عبدى إلىّ نَسَّيت جوارحه، ونَسَّيت البقاع، ونَسّيت حافظيه حتى لا يشهدوا عليه) . وأما الحديث الذى حدث ابن مسعود عن نفسه فقوله: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبلٍ يخاف أن يقع عليه، والفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه) . فينبغى لمن أراد أن يكون من جملة المؤمنين أن يخشى ذنوبه، ويعظم خوفه منها، ولا يأمن عقاب الله عليها فيستصغرها، فإن الله تعالى يعذّب على القليل وله الحجة البالغة فى ذلك. وأمّا فرح الله بتوبة العبد فقال أبو بكر بن فورك: الفرح فى كلام العرب بمعنى السرور، من ذلك قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا) [يونس: 22] أى سروا بها، فهذا المعنى لا يليق بالله تعالى لأنه يقتضى جواز الحاجة عليه ونيل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 81 المنفعة، والفرح بمعنى البطر والأشر ومنه قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص: 76] . والوجه الثالث من الفرح الذى يكون بمعنى الرضا من قوله تعالى: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون: 53] أى راضون، ولما كان من بُشِّر بالشىء قد رضيه، قيل: إنه قد فرح به على معنى أنه به راض، وعلى هذا تتأول الآثار؛ لأن البطر والسرور لا يليقان بالله عز وجل. 5 - باب الضَّجْعِ عَلَى الشِّقِّ الأيْمَنِ / 7 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأيْمَنِ حَتَّى يَجِىءَ الْمُؤَذِّنُ فَيُؤْذِنَهُ. هذه هيئة من الهيئات كان يفعلها (صلى الله عليه وسلم) والله أعلم للأرفق به فى الاضطجاع، أو كان يفعلها لفضل الميامن على المياسر، وهذا كله مباح ليس من باب الوجوب. 6 - باب إِذَا بَاتَ طَاهِرًا / 8 - فيه: الْبَرَاء،، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ، فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأيْمَنِ، وَقُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وجهِى إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِى إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِى إِلَيْكَ، رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ، لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَا مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِى أَنْزَلْتَ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 82 وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ) . وقد بين ابن عباس معنى المبيت على الطهارة، ذكر عبد الرزاق عن أبى بكر بن عياش قال: أخبرنى أبو يحيى أنه سمع مجاهدًا يقول: قال لى ابن عباس: لا تنامن إلا على وضوء، فإن الروح تبعث على ما قبضت عليه. وهذا معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإن مُتّ متّ على الفطرة) . وذكر عن الأعمش أنه بال، ثم تيمّم بالجدار، فقيل له فى ذلك، فقال: أخاف أن يدركنى الموت قبل أن أتوضأ. وعن الحكم بن عتيبة أنه سأله رجل: أينام الرجل على غير وضوء؟ قال: يكره ذلك وإنا لنفعله. وروى معمر عن سعيد الجريرى عن أبى السليل عن أبى توبة العجلى قال: من أوى إلى فراشه طاهرًا أو نام ذاكرًا كان فراشه مسجدًا، وكان فى صلاة أو ذكر حتى يستيقظ. وقال طاوس: من بات على طهرٍ وذكرٍ كان فراشه له مسجدًا حتى يصبح، ومثل هذا لا يدرك بالرأى وإنما يؤخذ بالتوقيف. 7 - بَاب مَا يَقُولُ إِذَا نَامَ / 9 - فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ، قَالَ: (بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا) ، وَإِذَا قَامَ قَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) . ينشرها: يخرجها. / 10 - وفيه: الْبَرَاء، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا أَرَدْتَ مَضْجَعَكَ، فَقُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِى إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِى إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 83 وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لا مَلْجَا وَلا مَنْجَا مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِى أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ، مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ) . ذكر الله مستحب عند النوم ليكون الذكر آخر فعله، وهذا معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (واجعلهن آخر ما تقول) أى لا تتكلم بعدهن بشىء من أحاديث الدنيا، وليكن هذا الذكر خاتمة عملك، ألا ترى قوله: (فإن مت مت على الفطرة) وقد تقدم حديث معمر عن الجريرى فى فضل من بات على ذكر وطهر فى الباب قبل هذا. 8 - باب وَضْعِ الْيَدِ تَحْتَ الْخَدِّ اليمنى / 11 - فيه: حُذَيْفَةَ، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ خَدِّهِ، ثُمَّ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا) ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) . يحتمل أن يكون وضع النبى (صلى الله عليه وسلم) يده تحت خدّه عند النوم تذللاً لله عز وجل واستشعارًا لحال الموت، وتمثيله لنفسه لتتأسى أمته بذلك، ولا يأمنوا هجوم الموت عليهم فى حال نومهم، ويكونوا على رقبة من مفاجأته فيتأهبوا له فى يقظتهم وجميع أحوالهم، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) عند نومه: (اللهم بك أموت وأحيا وإليك النشور) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 84 9 - باب الدُّعَاءِ إِذَا انْتَبَهَ بِاللَّيْلِ / 12 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: بِتُّ عِنْدَ مَيْمُونَةَ، فَقَامَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَأَتَى حَاجَتَهُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، فَأَتَى الْقِرْبَةَ، فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا بَيْنَ وُضُوءَيْنِ لَمْ يُكْثِرْ، وَقَدْ أَبْلَغَ، فَصَلَّى فَقُمْتُ، فَتَمَطَّيْتُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَرَى أَنِّى كُنْتُ أَتَّقِيهِ، فَتَوَضَّأْتُ، فَقَامَ يُصَلِّى، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِأُذُنِى، فَأَدَارَنِى عَنْ يَمِينِهِ، فَتَتَامَّتْ صَلاتُهُ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ اضْطَجَعَ، فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ، فَآذَنَهُ بِلالٌ بِالصَّلاةِ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَكَانَ يَقُولُ فِى دُعَائِهِ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِى قَلْبِى نُورًا، وَفِى بَصَرِى نُورًا، وَفِى سَمْعِى نُورًا، وَاجْعَلْ لِى نُورًا) . قَالَ كُرَيْبٌ: وَسَبْعٌ فِى التَّابُوتِ، فَلَقِيتُ رَجُلا مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ، فَحَدَّثَنِى بِهِنَّ، فَذَكَرَ عَصَبِى، وَلَحْمِى، وَدَمِى، وَشَعَرِى، وَبَشَرِى، وَذَكَرَ خَصْلَتَيْنِ. / 13 - وفيه: ابْن عَبَّاس: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، أَوْ لا إِلَهَ غَيْرُكَ) . قال المؤلف: كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يدعو الله عز وجل فى أوقات ليله ونهاره، وعند نومه ويقظته بنوع من الدعاء يصلح لحاله تلك ولوقته الجزء: 10 ¦ الصفحة: 85 ذلك. فمنها: أوقات كان يدعو فيها إلى ربه تعالى، ويعين له ما يدعو فيه فى أوقات الخلوة، وعند فراغ باله وعلمه بأوقات الغفلة التى ترجى فيها الإجابة، فكان يلح عند ذلك ويجتهد فى دعائه، ألا ترى سؤاله (صلى الله عليه وسلم) ربه حين انتبه من نومه أن يجعل فى قلبه نورًا، وفى بصره نورًا، وفى سمعه وجميع جوارحه؟ ومنها: أوقات كان يدعو فيها بجوامع الدعاء ويقتصر على المعانى دون تعيين وشرح، فينبغى الاقتداء بالنبى (صلى الله عليه وسلم) فى دعائه فى تلك الأوقات، والتأسى به فى كل الأحوال، وقد تقدّم حديث ابن عباس فى باب التهجد والكلام عليه. وقول كريب: وسبع فى التابوت يعنى: أنه أنسى سبع خصال من الحديث على ما يقال لمن لم يحفظ العلم؛ علمه فى التابوت، وعلمه مستودع فى الصحف، وليس كريب القائل: فلقيت رجلاً من ولد العباس فحدثنى بهنّ، وإنما قاله سلمة بن كهيل الراوى عن كريب سأل العباس عنهن حين نسيهن كريب فحفظ سلمة منهن خمسًا ونسى أيضًا خصلتين. قال المؤلف: وقد وجدت الخصلتين من رواية داود بن على بن عبد الله بن عباس عن أبيه وهما: (اللهم اجعل نورًا فى عظامى ونورًا فى قبرى) . وقوله: (فتمطيت كراهية أن يرى أنى كنت أبغيه) التمطى: التمدد، وأبغيه: أرصده، قال الخليل: يقال: بغيت الشىء أبغيه إذا نظرت إليه ورصدته، وإنما فعل ذلك ابن عباس ليُرىّ النبي - عليه السلام - أنه كان نائمًا وأنه لم يرصده؛ إذ كل أحدٍ إذا خلا في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 86 بيته يأتى من الأفعال ما يحب أن لا يطلع عليه أحد، وإنما حمل ابن عباس على ذلك الحرص على التعليم، ومعرفة حركات النبى (صلى الله عليه وسلم) فى ليله، وقد تقدّم فى كتاب الصلاة أن أباه العباس كان أوصى لابنه بذلك. وفيه: الحرص على التعليم والرفق بالعلماء، وترك التعرض إلى ما يعلم أنه يشق عليهم. ذكر الطبرى عن معقل بن يسار، عن أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل. فقلت: يا رسول الله فكيف المنجا من ذلك؟ قال: ألا أعلمك شيئًا إذا فعلته برئت من قليله وكثيره وصغيره وكبيره. قلت: بلى يا رسول الله. قال: قل: اللهم إنى أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم، تقولها ثلاث مرات) . - باب التَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ عِنْدَ الْمَنَامِ / 14 - فيه: عَلِىّ: أَنَّ فَاطِمَةَ اشَتكَتْ مَا تَلْقَى فِى يَدِهَا مِنَ الرَّحَى، فَأَتَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) تَسْأَلُهُ خَادِمًا، فَلَمْ تَجِدْهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ، قَالَ: فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْتُ أَقُومُ، فَقَالَ: (مَكَانَكِ) فَجَلَسَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِى، فَقَالَ: (أَلا أَدُلُّكُمَا عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ؟ إِذَا أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا، أَوْ أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا، فَكَبِّرَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، فَهَذَا خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ) . وَقَالَ ابْنِ سِيرِينَ: التَّسْبِيحُ أَرْبَعٌ وَثَلاثُونَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 87 وهذا نوع من الذكر عند النوم غير ما جاء فى حديث البراء، وحديث حذيفة والأحاديث الأُخر، وقد يمكن أن يكون النبي - عليه السلام - يجمع ذلك كله عند نومه، وقد يمكن أن يقتصر منها على بعضها إعلامًا منه لأمته أن ذلك معناه الحض والندب، لا الوجوب والفرض، وفى هذا الحديث حجة لمن فضل الفقر على الغنى؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) قال: (ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم) فعلمهما الذكر، ولو كان الغنى أفضل من الفقر لأعطاهما الخادم وعلمهما الذكر، فلما منعهما الخادم وقصرهما على الذكر خاصةً علم أنه (صلى الله عليه وسلم) إنما اختار لهما الأفضل عند الله، والله الموفق. - باب التَّعَوُّذِ وَالْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْمَنَامِ / 15 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ نَفَثَ فِى يَدَيْهِ، وَقَرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ، وَمَسَحَ بِهِمَا جَسَدَهُ. / 16 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ، فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ، فَإِنَّهُ لا يَدْرِى مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِى، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِى فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ) . وهذه أنواع أخر أيضًا غير ما مرّ من الأحاديث المتقدمة، وفيها استسلام لله وإقرار له بالإحياء والإماتة، وفى حديث عائشة رد قول من زعم أنه لا تجوز الرقى واستعمال العُوذ إلا عند حلول المرض ونزول ما يتعوذ بالله منه، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) نفث فى يديه وقرأ المعوذات ومسح بهما جسده، واستعاذ بذلك من شر ما يحدث عليه فى ليلته مما يتوقعه وهذا من أكبر الرقى، وفي حديث الجزء: 10 ¦ الصفحة: 88 أبي هريرة أدب عظيم علمه النبى أمته، وذلك أمره بنفض فراشه عند النوم خشية أن يأوى إليه بعض الهوام الضارّة فيؤذيه سمها، والله أعلم. - باب الدُّعَاءِ نِصْفَ اللَّيْلِ / 17 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا، عزَّ وجلَّ، كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِى فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِى فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِى فَأَغْفِرَ لَهُ) . هذا وقت شريف مرغب فيه خصّه الله تعالى بالتنزل فيه، وتفضّل على عباده بإجابة من دعا فيه، وإعطاء من سأله، إذ هو وقت خلوة وغفلة واستغراق فى النوم واستلذاذ به، ومفارقة الدعة واللذة صعب على العباد، لا سيما لأهل الرفاهية فى زمن البرد، ولأهل التعب والنصب فى زمن قصر الليل، فمن آثر القيام لمناجاة ربه والتضرع إليه فى غفران ذنوبه، وفكاك رقبته من النار وسأله التوبة فى هذا الوقت الشاق على خلوة نفسه بلذتها ومفارقة دعتها وسكنها، فذلك دليل على خلوص نيته وصحة رغبته فيما عند ربه، فضمنت له الإجابة التى هى مقرونة بالإخلاص وصدق النية فى الدعاء، إذ لا يقبل الله دعاءً من قلب غافل لاهٍ. وقد أشار النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى هذا المعنى بقوله: (والصلاة بالليل والناس نيام) . فلذلك نبّه الله عباده على الدعاء فى هذا الوقت الذى تخلو فيه النفس من خواطر الدنيا، وعُلقها ليستشعر العبد الجدّ والإخلاص لربه فتقع الإجابة منه تعالى رفقًا من الله بخلقه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 89 ورحمةً لهم فله الحمد دائمًا والشكر كثيرًا على ما ألهم إليه عباده من مصالحهم، ودعاهم إليه من منافعهم لا إله إلا هو الكريم الوهاب. فإن قيل: كيف ترجم باب الدعاء نصف الليل، وذكر فى الحديث أن التنزل فى ثلث الليل الآخر؟ . قيل: إنما أخذ ذلك من قوله تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) [المزمل: 2، 3] ، فالترجمة تقوم من دليل القرآن، والحديث يدل على أن وقت الإجابة ثلث الليل إلا أن ذكر النصف فى كتاب الله يدل على تأكيد المحافظة على وقت التنزل قبل دخوله ليأتى أول وقت الإجابة، والعبد مرتقب له مستعد للإنابة فيكون ذلك سببًا للإجابة، وينبغى ألا يمرّ وقت من الليل والنهار إلا أحدث العبد فيه دعاءً وعبادةً لله تعالى. - باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْخَلاءِ / 18 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا دَخَلَ الْخَلاءَ، قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ) . قال المؤلف: الخبث والخبائث هو الشيطان الرجيم، روى هذا عن الحسن ومجاهد، وقد جاء معنى أمره (صلى الله عليه وسلم) بالاستعاذة عند دخول الخلاء فى حديث رواه معمر عن قتادة، عن النضر بن أنس عن أنس بن مالك أن رسول الله قال: (إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا دخلها أحدكم فليقل: اللهم إنى أعوذ بك من الخبث والخبائث) . فأخبر فى هذا الحديث أن الحشوش مواطن للشياطين، فلذلك أمر بالاستعاذة عند دخولها، وروى ابن وهب عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 90 حيوة بن شريح، عن أبى عقيل أنه سمع سعيدًا المقبرى يقول: إذا دخل الرجل الكنيف لحاجته، ثم ذكر اسم الله كان سترًا بينه وبين الجن، فإذا لم يذكر الله نظر إليه الجن يسخرون ويستهزئون به. وروى عن النبى أنه قال: (إذا خرج أحدكم من الغائط فليقل: الحمد لله الذى أخرج عنى ما يؤذينى وأمسك علىّ ما ينفعنى) . - باب مَا يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ / 19 - فيه: شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ) ، وذكر الحديث (مَنْ قَالَهَا حين يُمْسِى، فَمَاتَ دخل الْجَنَّةِ، وَإن قَالَهَا حين يُصْبِحَ، فَمَاتَ من يومه دخل الْجَنَّةِ) . / 20 - وفيه: حُذَيْفَةَ، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ قَالَ: (بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا) ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ، قَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) . وَعَنْ أَبِى ذَرّ مثله. قال المؤلف: معنى ذكر الله عند الصباح ليكون مفتتح الأعمال وابتداؤها ذكر الله، وكذلك ذكر الله عند النوم ليختم عمله بذكره تعالى، فتكتب الحفظة فى أول صحيفته عملا صالحًا وتختمها بمثله، فيرجى له مغفرة ما بين ذلك من ذنوبه. وروى الطبرى من حديث الحسن عن أبى هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (يقول الله عز وجل: اذكرنى من أول النهار ساعةً، ومن آخره ساعةً أكفيك ما بينهما) . وكان الصالحون من السُّوقة يجعلون أول يومهم وآخره لأمر الآخرة، ووسطه لمعيشة الدنيا، وإنما كانوا يعملون ذلك لترغيبه (صلى الله عليه وسلم) على الدعاء طرفي النهار، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 91 وكان عمر بن الخطاب يأمر التجار فيقول: اجعلوا أوّل نهاركم لآخرتكم، وما سوى ذلك لدنياكم، وقد روى عن النبي - عليه السلام - ما يدل على هذا المعنى، قال (صلى الله عليه وسلم) : (يقول الله تعالى: يا ابن آدم لا تعجزن عن أربع ركعات أول النهار أكفيك آخره) . - باب الدُّعَاءِ فِى الصَّلاةِ / 21 - فيه: أَبُو بَكْر، أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : عَلِّمْنِى دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِى صَلاتِى، قَالَ: (قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِى مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِى إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) . / 22 - وفيه: عَائِشَةَ،) وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا) [الإسراء: 110] نْزِلَتْ فِى الدُّعَاءِ. / 23 - وفيه: ابْن مسعود، عَنْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ ذكر التشهد، إلى قوله: (ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الثَّنَاءِ مَا شَاءَ) . قال الطبرى: فى حديث أبى بكر من الفقه أن للمصلّى أن يدعو الله فى جميع صلواته بما بدا له من حاجات دنياه وآخرته، وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) علم أبا بكر مسألة ربه المغفرة لذنوبه فى صلاته، وذلك من أعظم حاجات العبد إلى ربّه، فكذلك حكم مسألته إياه سائر حاجاته. وقد روى عن أبى الدرداء أنه قال: إنى لأدعو وأنا ساجد لسبعين أخًا من إخوتى أسمّيهم بأسمائهم وأسماء آبائهم. وكان على يقول إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده: اللهم بحولك وقوتك أقوم وأقعد. وكان ابن مسعود يلبى فى سجوده. ومعنى لبيك: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 92 أجبتك يا رب إلى ما دعوتني إليه إجابةً بعد إجابة، وأقمت عندك. وقد ذكرت من قال بهذا من الفقهاء فى كتاب الصلاة. قال الطبرى: وفى حديث أبى بكر الدليل الواضح على تكذيب مقالة من زعم أنه لا يستحق اسم الإيمان إلا من كان لا خطيئة له ولا جُرم، لأن أهل الإجرام زعموا غير مؤمنين، وزعموا أن كبائر الذنوب وصغائرها كبائر، وذلك أن أبا بكر كان من الصديقين من أهل الإيمان، وقد أمره (صلى الله عليه وسلم) أن يقول: اللهم إنى ظلمت نفسى ظلمًا كثيرًا فاغفر لي) . وفيه: دليل أن الواجب على العبد أن يكون على حذر من ربّه فى كل أحواله، وإن كان من أهل الاجتهاد فى عبادته فى أقصى غاياته، إذ كان الصديق مع موضعه من الدين لم يسلم مما يحتاج إلى استغفار ربه منه. - باب الدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلاةِ / 24 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، قَالَ: (كَيْفَ ذَاكَ) ؟ قَالُوا: صَلَّوْا كَمَا صَلَّيْنَا، وَجَاهَدُوا كَمَا جَاهَدْنَا، وَأَنْفَقُوا مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، وَلَيْسَتْ لَنَا أَمْوَالٌ، قَالَ: (أَفَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَمْرٍ تُدْرِكُونَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ مَنْ جَاءَ بَعْدَكُمْ، وَلا يَأْتِى أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتُمْ بِهِ إِلا مَنْ جَاءَ بِمِثْلِهِ، تُسَبِّحُونَ فِى دُبُرِ كُلِّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 93 صَلاةٍ عَشْرًا، وَتَحْمَدُونَ عَشْرًا وَتُكَبِّرُونَ عَشْرًا) . / 25 - وفيه: الْمُغِيرَةِ، أنَّهُ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَنَّ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ إِذَا سَلَّمَ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ) . فى حديث هذا الباب الحضّ على التسبيح والتحميد فى أدبار الصلوات، وأن ذلك يوازي فى الفضل إنفاق المال فى طاعة الله لقوله: (أفلا أخبركما بما تدركون به من كان قبلكم) . وروى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (وضعت الصلوات فى خير الساعات فاجتهدوا فى الدعاء دبر الصلوات) . قال الطبري: حدثنا ابن المثني، وابن بشار، قالا: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: (إذا أقيمت الصلاة فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء) . وروى الطبري عن جعفر بن محمد قال: الدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة كفضل المكتوبة على النافلة. فإن قال قائل: فقد روى عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: قال عبد الله بن مسعود: إنما هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره. فأى الأمرين عندك أفضل، ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل، أم قراءة القرآن؟ فالجواب: أن عمرو بن سلمة سأل الأوزاعي عن ذلك، فقال له: سَلْ سعيدًا، فسأله فقال: بل القرآن. فقال الأوزاعى لسعيد: إنه ليس بشىء يعدل القرآن، ولكن إنما كان هدى من سلف يذكرون الله قبل طلوع الشمس وقبل الغروب. قال الطبرى: والذى قال الأوزاعي أقرب إلى الصّواب لما روى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 94 أنس وأبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله بعد الفجر إلى طلوع الشمس أحب إلىّ من الدنيا وما فيها، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله بعد العصر إلى أن تغيب الشمس أحبُّ إلىّ من الدنيا وما فيها) وقال عبد الله بن عمرو: وذكر الله بالغداة والعشى أفضل من حطم السيوف فى سبيل الله وإعطاء المال سحًا. وقد تقدم فى باب ما يقول إذا أصبح حديث الحسن عن أبى هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (يقول عز وجل: ابن آدم اذكرنى من أوّل النهار ساعةً وآخره ساعةً، أكفيك ما بينهما) . وترجم لحديث المغيرة باب: لا مانع لما أعطى الله فى كتاب القدر، وسيأتى الكلام هناك إن شاء الله تعالى، واحتج بحديث أبى هريرة من فضل الغنى على الفقر، وسيأتى الكلام فيه فى كتاب الرقائق إن شاء الله. - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) [التوبة: 103] وَمَنْ خَصَّ أَخَاهُ بِالدُّعَاءِ دُونَ نَفْسِهِ وَقَالَ أَبُو مُوسَى: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِى عَامِرٍ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ) . / 26 - وفيه: سَلَمَة، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَيَا عَامِرُ، لَوْ أَسْمَعْتَنَا مِنْ هُنَيْاتِكَ، فَنَزَلَ يَحْدُو لهِمْ: تَاللَّهِ لَوْلا اللَّهُ مَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 95 اهْتَدَيْنَا، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (مَنْ هَذَا السَّائِقُ) ؟ قَالُوا: عَامِرُ بْنُ الأكْوَعِ، قَالَ: (يَرْحَمُهُ اللَّهُ) . / 27 - وفيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَتَاهُ رَجُلٌ بِصَدَقَةٍ، قَالَ: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلانٍ) ، فَأَتَاهُ أَبِى، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِى أَوْفَى) . / 28 - وفيه: جَرِير، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى لا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَصَكَّ فِى صَدْرِى، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا) . / 29 - وفيه: أَنَس، قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَنَسٌ خَادِمُكَ، قَالَ: (اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ) . / 30 - وفيه: عَائِشَةَ، سَمِعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلا يَقْرَأُ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: (رَحِمَهُ اللَّهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِى كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهَن) . / 31 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، قَسَمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) قَسْمًا، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) فَغَضِبَ، وَقَالَ: (يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، لَقَدْ أُوذِىَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا، فَصَبَرَ) . قال المؤلف: فى هذه الأحاديث كلها من الفقه دعاء المسلم لأخيه دون نفسه كما ترجم، وقد جاء عن النبي - عليه السلام - أن دعاء المرء لأخيه مجاب. روى الطبرى قال: حدثنا أبو هشام الرفاعى قال: حدثنا ابن فضيل، حدثنا أبى، عن طلحة بن عبد الله بن كريز، عن أم الدرداء عن أبى الدرداء قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (ما من مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال له الملك: ولك مثل ذلك) . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (خمس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 96 دعوات مستجابات: دعوة المظلوم حتى ينتصر، ودعوة الحاج حتى يصدر، ودعوة المجاهد حتى يقفل، ودعوة المريض حتى يبرأ، ودعوة الأخ لأخيه) . روى عن بعض السلف: أنه قال: إذا دعا لأخيه فليبدأ بنفسه. قال سعيد بن يسار: ذكرت رجلاً عند ابن عمر فترحمت عليه، فلهز فى صدرى وقال لى: ابدأ بنفسك، وقال إبراهيم: كان يقال: إذا دعوت فابدأ بنفسك، فإنك لا تدرى أى دعاء يستجاب لك. - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ السَّجْعِ فِى الدُّعَاءِ / 32 - فيه: ابْن عَبَّاس، أنَّهُ قَالَ لعكرمة: حَدِّثِ النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ أَبَيْتَ فَمَرَّتَيْنِ، فَإِنْ أَكْثَرْتَ فَثَلاثَ مِرَارٍ، وَلا تُمِلَّ النَّاسَ هَذَا الْقُرْآنَ، وَلا أُلْفِيَنَّكَ تَأْتِى الْقَوْمَ، وَهُمْ فِى حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِمْ، فَتَقُصُّ عَلَيْهِمْ، فَتَقْطَعُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ، فَتُمِلُّهُمْ، وَلَكِنْ أَنْصِتْ، فَإِذَا أَمَرُوكَ، فَحَدِّثْهُمْ، وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ، وَانْظُرِ السَّجْعَ مِنَ الدُّعَاءِ، فَاجْتَنِبْهُ، فَإِنِّى عَهِدْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابَهُ لا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ. قال المؤلف: إنما نهى عن السجع فى الدعاء، والله أعلم؛ لأن طلب السجع فيه تكلف ومشقة، وذلك مانع من الخشوع وإخلاص التضرع لله تعالى وقد جاء فى الحديث: (إن الله لا يقبل من قلب غافلٍ لاهٍ) . وطالب السجع فى دعائه همته في [تزويج] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 97 الكلام وسجعه، ومن شغل فكره وكد خاطره بتكلفه، فقلبه عن الخشوع غافل لاه لقول الله تعالى: (مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ) [الأحزاب: 4] . فإن قيل: فقد وجد فى دعاء النبى (صلى الله عليه وسلم) نحو ما نهى عنه ابن عباس، وهو قوله: (اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب) . وقال فى تعويذ حسن أو حسين: (أعيذه من الهامة والسامة وكل عين لامة) . وإنما أراد مُلمّة فللمقاربة بين الألفاظ واتباع الكلمة أخواتها فى الوزن قال: (لامة) . قيل: هذا يدل أن نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن السجع إنما أراد به من يتكلف السجع فى حين دعائه، فيمنعه من الخشوع كما قدمنا، وأما إذا تكلم به طبعًا من غير مؤنة ولا تكلف، أو حفظه قبل وقت دعائه مسجوعًا فلا يدخل فى النهى عنه؛ لأنه لا فرق حينئذ بين المسجوع وغيره؛ لأنه لا يتكلف صنعته وقت الدعاء فلا يمنعه ذلك من إخلاص الدعاء والخشوع والله أعلم. وفيه من الفقه: أنه يكره الإفراط فى الأعمال الصالحة خوف الملل لها والانقطاع عنها، وكذلك كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يفعل، كان يتخول أصحابه بالموعظة فى الأيام كراهة السآمة عليهم، وقال: (اكفلوا من العمل ما تطيقون، فإن الله تعالى لا يمل حتى تملوا) . وفيه: أنه لا ينبغى أن يحدث بشىء من كان فى حديث حتى يفرغ منه. وفيه: أنه لا ينبغى نشر الحكمة والعلم ولا الحديث بهما من لا يحرص على سماعهما وتعلمهما، فمتى حدث به من يشتهيه ويحرص عليه، كان أحرى أن ينتفع به ويحسن موقعه عنده، ومتى حدث به الجزء: 10 ¦ الصفحة: 98 من لا يشتهيه لم يحسن موقعه عنده، وكان فى ذلك إذلال للعلم وحط له، والله تعالى قد رفع قدره حين جعله سببًا إلى معرفة توحيده وصفاته تعالى، والى علم دينه وما تعبَّد به خلقه. - باب لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لا مُكْرِهَ لَهُ / 33 - فيه: أَنَس، أنّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ، فَلْيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ) ، وَلا يَقُولَنَّ: (اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِى، فَإِنَّهُ لا مُسْتَكْرِهَ لَهُ) . / 34 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، مثله. قال المؤلف: فيه دليل أنه ينبغى للمؤمن أن يجتهد فى الدعاء ويكون على رجاء من الإجابة ولا يقنط من رحمه الله؛ لأنه يدعو كريمًا، فبذلك تواترت الآثار عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ، روى شعبة عن العلاء عن أبيه عن أبى هريرة عن النبي - عليه السلام - قال: (إذا دعا أحدكم فلا يقولن: اللهم إن شئت فأعطنى، ولكن ليعظم رغبته، فإن الله تعالى لا يتعاظم عليه شىء أعطاه، قال: قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدى بى، وأنا معه إذا دعاني، فإن تقرب منى شبرًا تقربت منه ذراعًا. . .) الحديث. وروى أبو عاصم عن ابن جريج، عن أبى الزبير، عن جابر، عن النبي - عليه السلام - قال: (لا يموتن أحد منكم إلا وهو حسن الظن بالله تعالى) . وقال ابن مسعود: والله الذى لا إله إلا هو ما أعطى عبد مؤمن قط شيئًا خير من حسن الظن بالله. والله الذى لا إله إلا هو لا يحسن عبد الظن إلا أعطاه الله ظنه، وذلك أن الخير فى يديه. وقال سفيان بن عيينة: لا يمنعن أحد من الدعاء ما يعلم من نفسه، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 99 فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس) قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ) [الأعراف: 14، 15] . - باب يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَعْجَلْ / 35 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يُسْتَجَابُ لأحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ، فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِى) . قال بعض العلماء: قوله: (ما لم يعجل) يعنى يسأم الدعاء ويتركه فيكون كالمان بدعائه، وأنه قد أتى من الدعاء ما كان يستحق به الإجابة، فيصير كالمبخل لربّ كريم، لا تعجزه الإجابة، ولا ينقصه العطاء، ولا تضره الذنوب. وروى ابن وهب، عن معاوية، عن ربيعة بن يزيد، عن أبى إدريس الخولانى، عن أبى هريرة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، وما لم يستعجل. قيل: يا رسول الله وما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت، فلم يستجب لى، فيستحسر عند ذلك أو يدع الدعاء) . وقال أبو هريرة: (مرةً يقول: لقد دعوت فما استجاب، أو ما أغنيت شيئًا) . وقالت عائشة فى هذا الحديث: (ما لم يعجل أو يقنط) . وقال بعضهم: إنما يعجل العبد إذا كان غرضه من الدعاء نيل ما سأل، وإذا لم ينل ما يريد ثقل عليه الدعاء، ويجب أن يكون غرض العبد من الدعاء هو الدعاء لله، والسؤال منه، والافتقار إليه أبدًا، ولا يفارق سمة العبودية وعلامة الرق، والانقياد للأمر والنهي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 100 والاستسلام لربّه تعالى بالذّلة والخشوع، فإن الله تعالى يحب الإلحاح فى الدعاء. وقال بعض السلف: لأنا أشد خشيةً أن أحرم الدعاء من أن أحرم الإجابة، وذلك أن الله تعالى يقول: (ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60] فقد أمر بالدعاء ووعد بالإجابة وهو لا يخلف الميعاد، وروى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) : (ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث، إما أن يستجاب له، وإمّا أن يدخر له، وإما أن يكفر عنه) . ففى هذا الحديث دليل أن الدعاء مجاب إما معجلاً وإما مؤخرًا. وقد روى عن قتادة أنه قال: إنما يجاب من الدعاء ما وافق القدر؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد دعا ألا يجعل الله بأس أمته بينهم فمنعها، لما سبق فى علم الله وقدره من كون الاختلاف والبأس بينهم. - بَاب رَفْعِ الأيْدِى فِى الدُّعَاءِ وَقَالَ أَبُو مُوسَى: دَعَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: رَفَعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَدَيْهِ، وَقَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ) . / 36 - وفيه: أَنَس، أَنّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ. قال الطبرى: اختلف الناس فى رفع اليدين فى الدعاء فى غير الصلاة، فكان بعضهم يختار إذا دعا الله تعالى فى حاجته أن يشير الجزء: 10 ¦ الصفحة: 101 بأصبعه السباّبة، ويقول ذلك الإخلاص ويكره رفع اليدين. ذكر من قال ذلك: روى شعبة وعبثر وخالد عن حصين، عن عمارة بن روبية: (أنه رأى بشر بن مروان رافعًا يديه على المنبر، فسبَّه وقال: لقد رأيت رسول الله لا يزيد على هذا يعنى أن يشير بالسبّابة) . وروى سعيد عن قتادة قال: رأى ابن عمر قومًا رفعوا أيديهم، فقال: من يتناول هؤلاء فوالله لو كانوا على رأس أطول جبل ما ازدادوا من الله قربًا. وكرهه جبير بن مطعم، ورأى شريح رجلاً رافعًا يديه يدعو، فقال: من تتناول بها، لا أمّ لك. وقال مسروق لقوم رفعوا أيديهم: قد رفعوها قطعها الله. وكره ابن المسيب رفع الأيدى والصّوت فى الدعاء، وكان قتادة يشير بأصبعيه ولا يرفع يديه، ورأى سعيد بن جبير رجلاً يدعو رافعًا يديه فقال: ليس فى ديننا تكفير. واعتلوا بحديث عمارة بن روبية المتقدّم. وكان بعضهم يختار أن يبسط كفيه رافعهما، ثم يختلفون فى صفة رفعهما، حذو صدره بطونهما إلى وجهه، روى ذلك عن ابن عمر، وقال ابن عباس إذا رفع يديه حذو صدره فهو الدعاء. وكان على بن أبى طالب يدعو بباطن كفيه، وعن أنس مثله، واحتجوا بما رواه صالح بن كيسان عن محمد بن كعب القرظى، عن ابن عباس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا سألتم الله تعالى فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها، وامسحوا بها وجوهكم) . وكان آخرون يختارون رفع أيديهم إلى وجوههم، روى ذلك عن ابن عمر وابن الزبير، واعتلوا بما رواه حماد بن سلمة عن بشر بن حرب قال: سمعت أبا سعيد الخدرى يقول: (وقف رسول الله بعرفة، فجعل يدعو، وجعل ظهر كفيه مما يلى وجهه ورفعهما فوق ثدييه وأسفل من منكبيه) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 102 وكان آخرون يختارون رفع أيديهم حتى يحاذوا بها وجوههم وظهورها مما يلى وجوههم، وروى يحيى بن سعيد عن القاسم قال: رأيت ابن عمرو بن العاص يرفع يديه يدعو حتى يحاذى منكبيه ظاهرهما يليانه. وعن ابن عباس قال: إذا أشار أحدكم بأصبع واحدة فهو الإخلاص، وإذا رفع يديه حذو صدره فهو الدعاء، وإذا رفعهما حتى يجاوز بهما رأسه، وظاهرهما يلى وجهه فهو الابتهال. واحتجوا بحديث أبى موسى وابن عمر وأنس: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يرفع يديه فى الدعاء حتى يرى بياض إبطيه) . قال الطبرى: والصواب أن يقال إن كل هذه الآثار المروية عن النبى (صلى الله عليه وسلم) متفقة غير مختلفة المعانى، وللعمل بكل ذلك وجه صحيح، فأمّا الدعاء بالإشارة بالأصبع الواحدة، فكما قال ابن عباس أنه الإخلاص، والدعاء بسط اليدين، والابتهال رفعهما، وقد حدثنى محمد بن خالد بن خراش قال: حدثنى مسلم عن عمر بن نبهان، عن قتادة، عن أنس قال: (رأيت النبى (صلى الله عليه وسلم) يدعو بظهر كفيه وبباطنهما) . وجائز أن يكون ذلك كان من النبى لاختلاف أحوال الدعاء كما قال ابن عباس، وجائز أن يكون إعلامًا منه بسعة الأمر فى ذلك، وأن لهم فعل أى ذلك شاءوا فى حال دعائهم، غير أن أحبّ الأمر فى ذلك إلىّ أن يكون اختلاف هيئة الداعى على قدر اختلاف حاجته، وأما الاستعاذة والاستجارة، فأحب الهيئات إلى فيهما هيئة المبتهل؛ لأنها أشبه بهيئة المستخبر، وقد قال شهر بن حوشب: المسألة ببطن الكفين، والتعوذ مثل التكبير إذا افتتح الصلاة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 103 فإن قال: فقد جعلت للداعى رفع يديه فى كل حال فما أنت قائل فيما روى يزيد بن زريع، حدثنا سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، أن أنس بن مالك حدثه: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان لا يرفع يديه فى شىء من الدعاء إلا عند الاستسقاء، فأنه كان يرفعهما حتى يرى بياض إبطيه. قيل: قد روى ابن جريج، عن مقسم، عن ابن عباس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لا ترفع الأيدى إلا فى سبعة مواطن فى بدء الصلاة، وإذا رأيت البيت، وعلى الصفا والمروة، وعشية عرفة، وبجمع، وعند الجمرتين) . وهذا مخالف لحديث سعيد بن أبى عروبة عن قتادة، وقد ثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) رفع الأيدى فى الدعاء مطلقًا من وجوه. منها: حديث أبى موسى وابن عمر وأنس من طرق أثبت من حديث سعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن أنس، وذلك أن سعيد بن أبى عروبة كان قد تغير عقله وحاله فى آخر عمره، وقد خالفه شعبة قى روايته عن قتادة، عن أنس فقال فيه: (كان رسول الله يرفع يديه حتى يُرى بياض إبطيه) . ولا شك أن شعبة أثبت من سعيد بن أبى عروبة. وحدثنا ابن المثنى قال: حدثنا ابن أبى عدى عن جعفر بن ميمون صاحب الأنماط عن أبى عثمان، عن سلمان قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إن ربكم حيى كريم يستحى من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرًا) . فإن قيل: قد روى عن عطاء وجابر وطاوس ومجاهد أنهم كرهوا رفع الأيدى فى دبر الصلاة قائمًا. قيل: يمكن أن يكون ذلك إذا لم ينزل بالمسلمين نازلة يحتاجوا معها إلى الاستعانة إلى الله تعالى بالتضرع والاستكانة، فالقول كما قال عطاء وطاوس ومجاهد، وإن نزلت بهم نازلة احتاجوا معها إلى الاستعانة إلى الله بالتضرع والاستكانة لكشفها عنهم، فرفع الأيدى عند مالك حسن وجميل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 104 - باب الدُّعَاءِ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةِ (1) / 37 - فيه: أَنَس، بَيْنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَامَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا. . . الحديث. الدعاء حسن كيفما تيسر للمؤمنين على جميع أحوالهم، ألا ترى قوله تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ) [آل عمران: 191] فمدحهم الله تعالى ولم يشترط فى ذلك حالةً دون حالة، ولذلك دعا النبى (صلى الله عليه وسلم) فى خطبته يوم الجمعة وهو غير مستقبل القبلة. - باب الدُّعَاءِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ / 38 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، خَرَجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى هَذَا الْمُصَلَّى يَسْتَسْقِى، فَدَعَا وَاسْتَسْقَى، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ. فإن قال قائل: ليس فى هذا الحديث الدعاء إلا قبل استقبال النبى (صلى الله عليه وسلم) القبلة لقوله: (فدعا ثم استقبل القبلة) فكيف ترجم له باب الدعاء مستقبل القبلة؟ قيل: إنما أشار البخارى إلى الحديث ليدل على المعنى المعروف منه، فقد جاء هذا الحديث فى كتاب الاستسقاء فى باب كيف حوّل النبى (صلى الله عليه وسلم) ظهره إلى الناس، وقال فيه: (واستقبل القبلة يدعو، ثم حول رداءه، ثم صلى ركعتين جهر فيهما) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 105 - باب دَعْوَةِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) لِخَادِمِهِ بِطُولِ الْعُمُرِ وَكَثْرَةِ مَالِهِ / 39 - فيه: أَنَس، قَالَتْ أُمِّى للنَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : خَادِمُكَ، ادْعُ اللَّهَ لَهُ، قَالَ: (اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ) . وترجم له بعد هذا باب الدعاء وكثرة المال مع البركة، وباب الدعاء بكثرة الولد مع البركة. فإن قال قائل: كيف ترجم البخارى فى هذا الحديث باب دعوة النبى (صلى الله عليه وسلم) لخادمه بطول العمر، وإنما فى الحديث (اللهم أكثر ماله وولده) . وليس فيه وطول عمره؟ قيل: يحتمل أن يكون ذلك من دليل الحديث من موضعين: أحدهما: أن دعوته (صلى الله عليه وسلم) له بكثرة الولد يدل على أن ذلك لا يكون إلا فى كثير من السنين، فدعاؤه له بكثرة الولد دعاء له بطول العمر، والثانى: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وبارك له فيما أعطيته) ، فالعمر مما أعطاه الله هذا الوجه للمهلب. فإن قيل: فما معنى دعائه له بطول العمر، وقد علم (صلى الله عليه وسلم) أن الآجال لا يزاد فيها ولا ينقص منها على ما كتب فى بطن أمّه؟ قيل: معنى ذلك والله أعلم أن الله تعالى يكتب أجل عبده إن أطاع الله واتقاه فيكون عمره مدة كذا، فإن لم يطع الله وعصاه كان أجله أقل منها. يدل على صحة ذلك قوله عز وجل فى قصة نوح حين قال لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) [نوح: 3، 4] ، يريد أجلاً قد قضى به لكم إن أطعتم، فإن عصيتم لم يؤخركم إلى ذلك الأجل، وكل قد سبق فى علم الله مقدار أجله على ما يكون من فعله، قال ابن قتيبة: ومثله ما روي أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 106 الصدقة تدفع القضاء المبرم، وأن الدعاء يدفع البلاء، وقد ثبت أنه لا راد لقضاء الله، ومعنى ذلك أن المرء قد يستحق بالذنوب قضاءً من العقوبة، فإن هو تصدّق دفع عن نفسه ما استحق من ذلك، يدل على ذلك قوله: (إن صدقة السر تطفئ غضب الرب) ألا ترى أن من غضبَ الله عليه قد تعرض لعقابه، فإذا زال ذلك الغضب بالصدقة زال العقاب، وكذلك الدعاء يرتفع إلى الله تعالى فيوافق البلاء نازلاً من السماء فيزيله ويصرفه، وكل ذلك قد جرى به القلم فى علم الله تعالى أنه إن تصدق أو دعا، صرف عنه غضب الله وبلاؤه، وفى هذا الحديث حجة لمن قال. الغنى أفضل من الفقر، وهى مسألة اختلف الناس فيها قديمًا، وسيأتى الكلام فيها فى موضعها فى كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. - باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْكَرْبِ / 40 - فيه: ابْن عَبَّاس، كَانَ النَّبِيُّ - عليه السلام - يَدْعُو عِنْدَ الْكَرْبِ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) . / 41 - وَقَالَ مرةً: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) . قال المؤلف: وقد روى هذا الحديث عن النبي - عليه السلام - علي بن أبي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 107 طالب بزيادة واختلاف فى لفظه ذكر ابن أبى شيبة من حديث أبى إسحاق عن عبد الله بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن على قال: (قال لى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن غفر الله لك مع أنه مغفور لك: لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلى العظيم، سبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين) . قال الطبرى: وكان السلف يدعون بهذا الدعاء، قال أبو أيوب: كتب إليه أبو قلابة بدعاء الكرب، وأمره أن يعلمه ابنه. فإن قال قائل: فإن دعاء الكرب إنما هو تهليل وتعظيم لله، فما معنى قول ابن عباس كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يدعو بدعاء الكرب وتسمية السلف له بذلك؟ قيل: يحتمل معنيين: أحدهما: أن يقدم هذا التهليل قبل الدعاء، ثم يدعو بعده بما أراد على ما روى حماد بن سلمة، عن يوسف بن عبد الله بن الحارث، عن أبى العالية، عن ابن عباس: (إن رسول الله كان إذا حزبه أمر قال: لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله ربّ السماوات السبع وربّ العرش الكريم، ثم يدعو) . ويبين هذا المعنى ما روى الأعمش عن النخعى قال: كان يقال: إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استجيب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء. وقد نبه على ذلك المعنى ابن مسعود فقال: إذا خشيتم من أمير ظلمًا فقولوا: اللهم ربّ السماوات السبع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 108 وربّ العرش العظيم كن لى جارًا من فلان وأشياعه من الجن والإنس وأن يفرطوا علىّ وأن يطغوا، عزّ جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك، فإنه لا يصل إليكم منه شىء تكرهونه. والمعنى الثانى: ما روى عن حسين المروزى قال: سألت ابن عيينة ما كان أكثر قول النبى (صلى الله عليه وسلم) بعرفة؟ فقال: لا إله إلا الله، سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر ولله الحمد، ثم قال لى سفيان: إنما هو ذكر وليس فيه دعاء ثم قال لى: أما علمت قول الله حيث يقول: إذا شغل عبدى ثناؤه علىّ عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين؟ قلت: نعم، حدثتنى أنت وابن مهدى بذلك عن منصور ابن المعتمر، عن مالك بن الحارث، ثم قال سفيان: أما علمت قول أميّة بن أبى الصلت حين أتى ابن جدعان يطلبه نائلة وفضله؟ قلت: لا. قال: قال أمية: أأطلب حاجتى أم قد كفانى إذا أثنى عليك المرء يومًا غناؤك إن شيمتك الحياء كفاه من تعرضك الثناء قال سفيان: هذا مخلوق حين نسب إلى أن يكتفى بالثناء عليه دون مسألته، فكيف بالخالق؟ . قال المؤلف: وحدثنى أبو بكر الرازى قال: كنت بأصبهان عند الشيخ أبى نعيم أكتب عنه الحديث، وكان هناك شيخ آخر يعرف بأبى بكر بن على، وكان عليه مدار الفتيا، فحسده بعض أهل البلد فبغَّاه عند السلطان، فأمر بسجنه، وكان ذلك فى شهر رمضان، قال أبو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 109 بكر: فرأيت النبي - عليه السلام - فى المنام وجبريل عن يمينه يحرك شفتيه لا يفتر من التسبيح، فقال لى النبي - عليه السلام -: قل لأبى بكر بن على: يدعو بدعاء الكرب الذى فى صحيح البخارى حتى يفرج الله عنه، فأصبحت فأتيت إليه وأخبرته بالرؤيا، فدعا به فما بقى إلا قليلاً حتى أخرج من السجن. ففى هذه الرؤيا شهادة النبى (صلى الله عليه وسلم) لكتاب البخارى بالصحة بحضرة جبريل (صلى الله عليه وسلم) والشيطان لا يتصور بصورة النبى فى المنام. - باب التَّعَوُّذِ مِنْ جَهْدِ الْبَلاءِ / 42 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَتَعَوَّذُ مِنْ جَهْدِ الْبَلاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأعْدَاءِ. قال المؤلف: كل ما أصاب الإنسان من شدّة المشقّة والجهد مما لا طاقة له بحمله ولا يقدر على دفعه عن نفسه فهو من جهد البلاء، وروى عن ابن عمر أنه سُئل عن جهد البلاء، فقال: قله المال وكثرة العيال. ودرك الشقاء ينقسم قسمين فيكون فى أمور الدنيا وفى أمور الآخرة، وكذلك سوء القضاء وهو عام أيضًا فى النفس والمال والأهل والخاتمة والمعاد. وشماتة الأعداء مما ينكأ القلب، ويبلغ من النفس أشد مبلغ، وهذه جوامع ينبغى للمؤمن التعوذ بالله منها كما تعوذ النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وإنما دعا بذلك (صلى الله عليه وسلم) معلمًا لأمته ما يتعوّذ بالله منه، فقد كان أمنه الله من كل سوء، وذكر عن أيوب صلى الله عليه أنه سئل عن أى حال بلائه كان أشدّ عليه؟ قال: شماتة الأعداء. أعاذنا الله من جميع ذلك بمنّه وفضله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 110 - باب الدُّعَاءِ بِالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ / 43 - فيه: خَبَّاب، أَنَّهُ اكْتَوَى سَبْعًا، قَالَ: لَوْلا أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ. / 44 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌكم الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ، فَلْيَقُلِ، اللَّهُمَّ أَحْيِنِى مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِى، وَتَوَفَّنِى إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِى) . معنى هذين الحديثين على الخصوص، وقد بين (صلى الله عليه وسلم) ذلك فى الحديث فقال: (لا يتمنين أحدكم الموت لضرّ نزل به) . فقد يكون له فى ذلك الضرّ خير لدينه ودنياه، إما تمحيص لذنوب سلفت له وطهور من سيئات، كما قال (صلى الله عليه وسلم) للشيخ الذى زاره فى مرضه وقد أصابته الحمىّ فقال (صلى الله عليه وسلم) : (لا بأس طهور إن شاء الله) . وقد يكون له فى المرض منافع، منها: أن يكون المرض سببًا إلى امتناعه من سيئات كان يعملها لو كان صحيحًا، أو بلاء يندفع عنه فى نفسه وماله، فالله أنظر لعبده المؤمن فينبغى له الرضا عن الله تعالى فى مرضه وصحته ولا يتهم قدره، ويعلم أنه أنظر له من نفسه، ولا يسأله الوفاة عند ضيق نفسه بمرضه أو تعذّر أمور دنياه عليه. وقد جاء وجه سؤال الموت فيه مباح، وهو خوف فتنة تكون سببًا لإتلاف الدين، فقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (وإذا أردت بقومٍ فتنةً فاقبضنى إليك غير مفتون) . وجه آخر وهو عند خوف المؤمن أن يضعف عن القيام بما قلده الجزء: 10 ¦ الصفحة: 111 الله كما قال عمر: اللهم كبرت سنى وضعفت قوتى وانتشرت رعيتى فاقبضنى إليك غير مضيع ولا مفرط. فخشى عمر رضى الله عنه أن يطول عمره ويزيد ضعفه، ولا يقدر على القيام بما قلده الله وألزمه القيام به من أمور رعيته، وكان سنه حين دعا بذلك ستين سنةً أو نحوها، وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز إذ سأل لنفسه الوفاة وسنّة فى الأربعين حرصًا على السلامة من التغيير، فهذان الوجهان مباح أن يسأل فيهما الموت، وقد تقدّم فى كتاب المرضى فى باب تمنى المريض الموت. - باب الدُّعَاءِ لِلصِّبْيَانِ بِالْبَرَكَةِ وَمَسْحِ رُءُوسِهِمْ وَقَالَ أَبُو مُوسَى: وُلِدَ لِى غُلامٌ فَدَعَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) له بِالْبَرَكَةِ. / 45 - وفيه: السَّائِب، ذَهَبَتْ بِى خَالَتِى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِى وَجِعٌ، فَمَسَحَ رَأْسِى، وَدَعَا لِى بِالْبَرَكَةِ. . . الحديث. / 46 - وفيه: أَبُو عُقَيْل، أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ بِهِ جَدُّهُ، عَبْدُاللَّهِ بْنُ هِشَامٍ، فَيَشْتَرِى الطَّعَامَ، فَيَلْقَاهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ عُمَرَ، فَيَقُولانِ له: أَشْرِكْنَا، فَإِنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ دَعَا لَكَ بِالْبَرَكَةِ، فَيُشْرِكُهُمْ، فَرُبَّمَا أَصَابَ الرَّاحِلَةَ كَمَا هِىَ فَيَبْعَثُ بِهَا إِلَى الْمَنْزِلِ. / 47 - وفيه: مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَهُوَ الَّذِى مَجَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى وَجْهِهِ وَهُوَ غُلامٌ مِنْ بِئْرِهِمْ. / 48 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ، فَيَدْعُو لَهُمْ. فيه: الذهاب بالصبيان إلى الصالحين وسؤالهم الدعاء لهم بالبركة، ومسح رءوسهم تفاؤلاً لهم بذلك وتبركًا بدعائهم، وفي حديث الجزء: 10 ¦ الصفحة: 112 محمود بن الربيع مداعبة الأئمة وأهل الفضل للصبيان، وأن ذلك من أخلاق الصالحين، وفى حديث أبى عقيل رغبة السلف الصالح فى الربح الحلال، وحرصهم على بركة التجارة، وأنهم كانوا يتحرّفون فى التجارات ويسعون فى طلب الرزق ليستغنوا بذلك عن الحاجة إلى الناس، ولا يكونوا عالةً ولا كلاً على غيرهم. - باب الصَّلاةِ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) / 49 - فيه: كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّى عَلَيْكَ؟ قَالَ: (قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) . / 50 - فيه: عَن أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ نحوه. اختلف العلماء فى الصلاة على النبى هل هى فرض أم لا؟ فذهب جمهور العلماء إلى أنها ليست بفرض فى الصلاة، وذكر ابن القصار عن ابن المواز أنها واجبة، قال: والمشهور عن أصحابنا أنها واجبة فى الجملة على الإنسان أن يأتى بالشهادتين مرةً فى دهره مع القدرة عليه، وشذّ الشافعي فزعم أن ذلك فرض فى الصلاة، واحتج بحديث كعب بن عجرة، رواه عن إبراهيم بن محمد عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، وفى حديثه: (وذلك فى الصلاة) . قال الطحاوي: وكان من حجة من خالفه عليه أن إبراهيم بن محمد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 113 ليس ممن يحتج بحديثه، ولو ثبت حديثه هذا لم يكن فيه دليل أن ذلك فرض؛ لأنا قد وجدنا مثل ذلك عن النبى (صلى الله عليه وسلم) من آى القرآن ومن الأمر منه أن يجعل ذلك فى الصلاة، فلم يكن مراده ذلك الفرض، وهو حديث عقبة بن عامر عن النبى (صلى الله عليه وسلم) (أنه لما نزل: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة: 74] ، قال: اجعلوها فى ركوعكم، ولما نزلت: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) [الأعلى: 1] قال: اجعلوها فى سجودكم، وكان من ترك التسبيح فى الركوع والسجود غير مفسد لصلاته، وكذلك روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه علمهم التشهد فى الصلاة، وليس منه الصلاة على النبى (صلى الله عليه وسلم) وقد تقدّم ذلك فى كتاب الصلاة فانتفى أن يكون على المصلى فرض غير ما علمه النبى (صلى الله عليه وسلم) ودل ذلك أن قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56] على الندب، لا على الفرض، ونحو هذا ذكر الطبرى، وقال: الصلاة على النبى (صلى الله عليه وسلم) ندب وفضل فى كل حال، وعلى هذا تأويل هذه الآية. 30 - باب هَلْ يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وقوله تَعَالَى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة: 103] / 50 - فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ: كَانَ إِذَا جَاء رَجُلٌ بِصَدَقَتِهِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ) ، فَأَتَاهُ أَبِى بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِى أَوْفَى) . / 52 - وفيه: أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِىُّ، أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 114 عَلَيْكَ؟ قَالَ: (قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) . قال الضحاك: صلاة الله: رحمته، وصلاة الملائكة: الدعاء، والصلاة على غير النبى (صلى الله عليه وسلم) جائزة بدليل الكتاب والسنة، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يصلى على من أتاه بصدقته، وفى حديث أبى حميد أمر بالصّلاة على أزواجه وذريته وأزواجه من غير نسبة وهذا الباب رد لقول من أنكر الصلاة على غير النبى (صلى الله عليه وسلم) . وروى ابن أبى شيبة قال: حدثنا هشيم حدثنا عثمان بن حكيم، عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما أعلم الصلاة تنبغى من أحد على أحد إلا على النبى (صلى الله عليه وسلم) والحجة فى السنة لا فيما خالفها. 31 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ آذَيْتُهُ، فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً / 53 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (اللَّهُمَّ، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ، فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . هذا الحديث يصدقه ما ذكره الله تعالى فى كتابه من صفة رسوله (صلى الله عليه وسلم) فى قوله: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128] وهو (صلى الله عليه وسلم) لا يسبّ أحدًا ولا يؤذيه ظلمًا له، وإنما يفعل من ذلك الواجب فى شريعته، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 115 وقد يدع الانتقام لنفسه، لما جبله الله عليه من العفو وكريم الخلق صلى الله عليه ومعنى هذا الحديث والله أعلم، التأنيس للمسبوب لئلا يستولى عليه الشيطان، ويقنطه ويوقع بنفسه أن سيلحقه من ضرر سبّه ما يحبط به عمله إذا سبّه (صلى الله عليه وسلم) هو دعاء على المسبوب، ودعاؤه مجاب، فسأل الله أن يجعل سبّه للمؤمنين قربة عنده يوم القيامة وصلاةً ورحمةً، ولا يجعله نقمةً ولا عذابًا. 32 - باب التَّعَوُّذِ مِنَ الْفِتَنِ / 54 - فيه:. أَنَس، سُئل النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةَ فَغَضِبَ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: (لا تَسْأَلُونِى الْيَوْمَ عَنْ شَىْءٍ إِلا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ) ، فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لافٌّ رَأْسَهُ فِى ثَوْبِهِ يَبْكِى، وَإِذَا رَجُلٌ كَانَ إِذَا لاحَى الرِّجَالَ، يُدْعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ، فَقَالَ: مَنْ أَبِى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (حُذَافَةُ) . . . وذكر الحديث إلى قول عُمر: (نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ) . وقد تقدم فى كتاب الفتن. 33 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ 55 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 116 /. 34 - باب التَّعَوُّذِ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ / 56 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ، وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ، وَعَذَابِ النَّارِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ عَنِّى خَطَايَاىَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِى مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِى وَبَيْنَ خَطَايَاىَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) . وترجم له باب الاستعاذة من فتنة الغنى، وترجم له باب الاستعاذة من فتنة الفقر، وترجم لحديث أنس باب الاستعاذة من الجبن والكسل وفيه: اللهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال) . وترجم له باب التعوذ من البخل وفيه سعد عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : إنى أعوذ بك من البخل والجبن، وأعوذ بك من الرد إلى أرذل العمر) ، وترجم له ولحديث عائشة باب الاستعاذة من أرذل العمر، وترجم لحديث أنس باب التعوذ من أرذل العمر، وفيه: (أعوذ بك من الهرم) . قال المؤلف: جميع أبواب الاستعاذة التى ترجم بها تدل آثارها على أنه ينبغى سؤال الله والرغبة إليه فى كل ما ينزل بالمرء من حاجاته، وأن يعيّن كل ما يدعو فيه، ففى ذلك إطالةُ الرغبة إلى الله تعالى والتضرع إليه وذلك طاعة الله تعالى، وكان النبى (صلى الله عليه وسلم) يتعوذ بالله من كل ذلك ويعينه باسمه، وإن كان الله قد عصمه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 117 من كل شر، ليلزم نفسه خوف الله تعالى وإعظامه، وليسُنّ ذلك لأمته ويعلمهم كيف الاستعاذة من كل شىء، وقد روى ثابت البنانى عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (ليسأل أحدكم ربه حاجاته كلها، حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع) . ليستشعر العبد الافتقار إلى ربه فى كل أمر وإن دق ولا يستحيى من سؤاله ذلك، فالتعوذ من فتنة المحيا والممات دعاء جامع لمعان كثيرة لا تُحصى وكذلك التعوذ من المأثم والمغرم، روى عن عائشة: (أن رجلاً قال للنبى (صلى الله عليه وسلم) ما أكثر ما تستعيذ من المأثم والمغرم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : إن الرجل إذا غرم، حدث فكذب، ووعد فأخلف) . وضلع الدين: هو الذى لا يجد دينه من حيث يؤديه، وهو مأخوذ من قول العرب: حمل مضلع أى: ثقيل، ودابة مضلع: لا تقوى على الحمل، عن صاحب العين، فمن كان هكذا فلا محالة أنه يؤكد ذلك عليه الكذب فى حديثه، والخلف فى وعده. قال الطبرى: فإن قال قائل: فإذا قد صح تعوّذ النبى (صلى الله عليه وسلم) من المغرم، فما أنت قائل فى ما روى جعفر بن محمد عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله مع الدائن حتى يقضى دينه، ما لم يكن فيما كره الله عز وجل) . وكان عبد الله بن جعفر يقول: اذهب فخذ لى بدين، فإنى أكره أن أبيت ليلة إلا والله معى بعد ما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . قيل: كلا الخبرين صحيح، وليس فى أحدهما دفع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 118 للآخر فأما قوله - عليه السلام -: (إن الله مع الدائن حتى يقضى دينه ما لم يكن فيما يكره الله تعالى) . فهو المستدين الذى ينوى قضاء دينه، وعنده فى الأغلب ما يقضيه فالله تعالى فى عونه على قضائه، وأما المغرم الذى استعاذ منه (صلى الله عليه وسلم) ، فإنه الدين الذى استدين على أحد ثلاثة أوجه: إما فيما يكرهه الله ولا يجد سبيلاً إلى قضائه فحق الله تعالى أن يؤديه، ومستدين فيما لا يكرهه؛ ولكنه لا وجه عنده لقضائه إن طالب به صاحبه، فهو معرض لهلاك أموال الناس ومتلف لها، ومستدين له إلى القضاء سبيل؛ غير أنه نوى ترك القضاء وعزم على جحده، فهو عاص لربه وظالم لنفسه، فكل هؤلاء فى القضاء مخلفون وفى حديثهم كاذبون. فكان معلومًا بذلك أن الحال التى كره (صلى الله عليه وسلم) الدين فيها غير الحال التى ترخص لنفسه فيها، وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) مات ودرعه رهن عند يهودى بعشرين صاعًا من شعير، وأما فتنة الغنى فيخشى منها بطر المال وما يئول من عواقب الإسراف فى إنفاقه، وبذله فيما لا ينبغى، ومنع حقوق الله فيه، ففتنة الغنى متشعبة إلى ما لا يحصى عده، وكذلك فتنة الفقر يخشى منها قلة الصبر على الإقلال والتسخط له وتزيين الشيطان للمرء حال الغنى وما يئول من عاقبة ذلك لضعف البشرية، وكذلك الاستعاذة من العجز والكسل لأنهما يمنعان العبد من أداء حقوق الله وحقوق نفسه وأهله، وتضييع النظر فى أمر معاده وأمر دنياه، وقد أمر المؤمن بالاجتهاد فى العمل والإجمال فى الطلب ولا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 119 يكون عالةً ولا عيالاً على غيره ما متّع بصحة جوارحه وعقله، وكذلك الجبن مهانة فى النفس وذلة، ولا ينبغى للمؤمن أن يكون ذليلاً بالإيمان ولزوم طاعة الله التى تؤدى إلى النعيم المقيم، فينبغى للمؤمن أن يكثر التعوّذ من ذلك والهرم هو أرذل العمر الذى ينتهى بصاحبه إلى الخوف وذهاب العقل، فيعود العالم جاهلاً ويصير إلى حال من لا تمييز له، ولا يقدر على أداء ما يلزمه من حقوق الله وحاجة نفسه، ومثل هذا خشى عمر رضى الله عنه حين قال: اللهم كبرت سنى، وضعفت قوتى، وانتشرت رعيتى فاقبضنى إليك غير مفرط ولا مضيّع. وكان سنه حينئذ فيما قال مالك ستين سنةً، وقيل: خمس وخمسين. فخشى، رضى الله عنه، مزيد ضعفه فيضيع مما قلده الله شيئًا، ومن متّعه الله بصحة لم يزده طول العمر إلا خيرًا يستكثر من الحسنات ويستعتب من السيئات، وكذلك الهم والحزن لا ينبغى للمؤمن أن يكون مهمومًا بشىء من أمور الدنيا، فإن الله تعالى قد قدّر الأمور فأحكمها وقدّر الأرزاق، فلا يجلب الهم للعبد فى الدنيا خيرًا، ولا يأتيه بما لم يقدر له، وفى طول الهم قلة رضًا بقدر الله وسخطه على ربّه. وقد كان عمر بن عبد العزيز يقول: اللهم رضنى بالقضاء، وحّبب إلىّ القدر حتى لا أحب تقديم ما أخرت ولا تأخير ما قدّمت. ومن آمن بالقدر فلا ينبغى له أن يهتم على شىء فاته من الدنيا ولا يتهم، ربّه ففيما قضى له الخيرة، وإنما ينبغى للعبد الاهتمام بأمر الآخرة ويفكر فى معاده وعرضه على ربه، وكيف ينجو من سؤاله عن الفتيل والقطمير ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا) . فهاهنا يحسن الهم والبكاء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 120 وغلبة الرجال أشد من الموت؛ لأن المغلوب يصير كالعبد لمن غلبه وقهره، وكذلك البخل استعاذ منه - عليه السلام - لقوله تعالى: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9] ، وقال - عليه السلام -: (وأى داء أدوى من البخل) . ومعنى ذلك أن البخيل يمنع حقوق الله، وحقوق الآدميين، ويمنع معروفه ورفده، ويسئ عشرة أهله وأقاربه. قال الطبرى: فإن قال قائل: قد دعا النبى (صلى الله عليه وسلم) بالمفصّلات والجوامع، وكان السلف يستحبون الدعاء إلى الله تعالى بالجوامع كنحو الرغبة فى العفو والعافية، والمعافاة فى الدنيا والآخرة اكتفاءً منهم بعلم الله بموضع حاجتهم ومبلغا. قيل: لكل نوع من ذلك حالة يختار العمل به فيها على الآخر فالجوامع تحتاج فى حال الحاجة إلى الإنجاز والاقتصاد، والمفصلات بالأسماء والصفات فى حالة الحاجة إلى إدامة الرغبة إلى من بيده مفاتيح خزائن السماوات والأرض استفتاحًا بذلك مغاليقها، وقد دعا (صلى الله عليه وسلم) بكل ذلك فى مواضعه. 35 - بَاب الدُّعَاءِ بِرَفْعِ الْوَبَاءِ وَالْوَجَعِ / 57 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحبنا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ) . / 58 - وفيه: سعد، عَادَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ شَكْوَى أَشْفَيْتُ مِنْها عَلَى الْمَوْتِ. . . وذكر الحديث. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 121 لم يذكر فى حديث سعد فى هذا الباب دعاء النبى (صلى الله عليه وسلم) له برفع الوجع، وذكر فى كتاب المرضى، فى باب دعاء العائد للمريض وقال فيه: (اللهم اشف سعدًا) . وفى دعائه (صلى الله عليه وسلم) برفع الوباء والوجع رد على من زعم أن الولى لا يكره شيئًا مما قضى الله عليه، ولا يسأله كشفه عنه، ومن فعل ذلك لم تصح له ولاية الله، ولا خفاء بسقوط هذا لأنه قال: (اللهم حّبب إلينا المدينة وانقل حماها) . فدعا بنقل الحمى عن المدينة، ومن فيها، وهو (صلى الله عليه وسلم) داخل فى تلك الدعوة، ولا توكل أحد يبلغ توكله، فلا معنى لقولهم، وقد استقصيت هذا فى كتاب الحج. 36 - بَاب الدُّعَاءِ عِنْدَ الاسْتِخَارَةِ / 59 - فيه: جَابِر، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ فِى الأمُورِ كُلِّهَا كما يعلمنا السُّورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ، إِذَا هَمَّ بِالأمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأمْرَ خَيْرٌ لِى فِى دِينِى وَمَعَاشِى وَعَاقِبَةِ أَمْرِى، أَوْ قَالَ: فِى عَاجِلِ أَمْرِى وَآجِلِهِ، فَاقْدُرْهُ لِى، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأمْرَ شَرٌّ لِى فِى دِينِى وَمَعَاشِى وَعَاقِبَةِ أَمْرِى، أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِى وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّى وَاصْرِفْنِى عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِىَ الْخَيْرَ وَرَضِّنِى بِهِ، وَيُسَمِّى حَاجَتَهُ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 122 فقه هذا الحديث أنه يجب على المؤمن رد الأمور كلها إلى الله، وصرف أزمتها والتبرؤ من الحول والقوة إليه، وينبغى له أن لا يروم شيئًا من دقيق الأمور وجليلها، حتى يستخير الله فيه ويسأله أن يحمله فيه على الخير ويصرف عنه الشر؛ إذعانًا بالافتقار إليه فى كل أمر والتزامًا لذلة العبودية له، وتبركًا باتباع سُنّة نبيّه (صلى الله عليه وسلم) فى الاستخارة، ولذلك كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن لشدة حاجتهم إلى الاستخارة فى الحالات كلها كشدّة حاجتهم إلى القراءة فى كل الصلوات، وفى هذا الحديث حجة على القدرية الذين يزعمون أن الله تعالى لا يخلق الشر، تعالى الله عما يفترون، وقد أبان النبى (صلى الله عليه وسلم) فى هذا الحديث أن الله تعالى هو المالك للشر والخالق له؛ إذ هو المدعو لصرفه عن العبد، ومحال أن يسأله العبد أن يصرف عنه ما يملكه العبد من نفسه، وما يقدر على اختراعه دون تقدير الله عليه، وسيأتى فى كتاب القدر. 37 - بَاب الْوُضُوءِ عِنْدَ الدُّعَاءِ / 60 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: (دَعَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ بِهِ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِى عَامِرٍ) ، وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ مِنَ النَّاسِ) . قال المؤلف: فيه استعمال الوضوء عند الدعاء، وعند ذكر الله، وذلك من كمال أحوال الداعى والذاكر، ومما يرجى له به الإجابة لتعظيمه لله تعالى وتنزيهه له حين لم يذكره إلا على طهارة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 123 ولهذا المعنى تيمّم النبي - عليه السلام - بالجدار عند بئر جمل حين سلم عليه الرجل، وكذلك ردّ السلام - عليه السلام - على حال تيمم، ولم يكن له سبيل إلى الوضوء بالماء، وعلى هذا مضى - عليه السلام - ومضى سلف الأمة، كانوا لا يفارقون حال الطهارة ما قدروا لكثرة ذكرهم لله تعالى وكثرة تنفلهم، وقد روى عن ابن عباس أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يبول ويتيمم، فأقول: (إن الماء قريب، فيقول: لعلىّ لا أبلغه) . وفيه حجة لمن استحب رفع اليدين فى الدعاء. 38 - بَاب الدُّعَاءِ إِذَا عَلا عَقَبَةً وقد تقدم فى كتاب الجهاد. 39 - باب الدُّعَاءِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَوْ رَجَعَ منه وقد تقدم أيضًا فى الجهاد. 40 - بَاب الدُّعَاءِ لِلْمُتَزَوِّجِ وقد تقدم فى النكاح. 41 - بَاب مَا يَقُولُ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ؟ وقد تقدم فى كتاب الوضوء 42 - بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (رَبَّنَا آتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً / 61 - فيه: أَنَس بن مالك، كَانَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) أَكْثَرُ مَا يدعو: (اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِى الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 124 اختلف المفسرون فى تأويل هذه الآية، فقال الحسن: الحسنة فى الدنيا العلم والعبادة، وفى الآخرة الجنة. وقال قتادة: فى الدنيا عافية، وفى الآخرة عافية. وقيل: الحسنة فى الدنيا المال، وفى الآخرة الجنة، عن السدى. 43 - بَاب تَكْرِيرِ الدُّعَاءِ / 62 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) طُبَّ حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ صَنَعَ الشَّىْءَ، وَمَا صَنَعَهُ، فَدَعَا رَبَّهُ، ودَعَا. . . وذكر الحديث. تكرير الدعاء عند حال الحاجة إلى إدامة الرغبة لله تعالى فى المهمات والشدائد النازلة بالعبد، وفى تكرير العبد الدعاء إظهار لموضع الفقر والحاجة إلى الله والتذلل له والخضوع، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله يحب الملحّين فى الدعاء) ، وإن (الدعاء هو العبادة) ، و (من لم يدع غضب الله عليه) . وقد تقدم فى أول كتاب الدعاء، من حديث ابن عيينة: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أوصى رجلاً، فقال: عليك بالدعاء، فإنك لا تدرى متى يستجاب لك) . 44 - بَاب الدُّعَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: قَالَ النَّبِيُّ - عليه السلام -: (اللَّهُمَّ أَعِنِّى عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ) ، وَقَالَ: (اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 125 وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: دَعَا النَّبِيُّ - عليه السلام - فِي الصَّلاةِ: (اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلانًا وَفُلانًا) ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَىْءٌ) [آل عمران: 128] . / 63 - فيه: ابْنَ أَبِى أَوْفَى، دَعَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الأحْزَابِ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الأحْزَابَ، اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ) . / 64 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَالَ: (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فِى الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنْ صَلاةِ الْعِشَاءِ قَنَتَ: اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِى يُوسُفَ) . / 65 - وفيه: أَنَس، بَعَثَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) سَرِيَّةً يُقَالُ لَهُمُ: الْقُرَّاءُ، فَأُصِيبُوا، فَمَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَجَدَ عَلَى شَىْءٍ مَا وَجَدَ عَلَيْهِمْ، فَقَنَتَ شَهْرًا فِى صَلاةِ الْفَجْرِ، وَيَقُولُ: (إِنَّ عُصَيَّةَ عَصَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) . / 66 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَتْ الْيَهُودُ يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُونَ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَغضبت عَائِشَةُ، رضى الله عنها، فَقَالَتْ: عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَهْلا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأمْرِ كُلِّهِ) ، فَقَالَتْ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا يَقُولُونَ؟ قَالَ: (أَوَلَمْ تَسْمَعِى أَنِّى أَرُدُّ ذَلِكِ عَلَيْهِمْ فَأَقُولُ: وَعَلَيْكُمْ) . / 67 - وفيه: عَلِىّ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ الْخَنْدَقِ: (مَلأ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا، كَمَا شَغَلُونَا عَنْ صَلاةِ الْوُسْطَى) . قال المؤلف: قد تقدم هذا فى كتاب الجهاد والاستسقاء، ونذكر هاهنا طرفًا من معناه، إنما كان (صلى الله عليه وسلم) يدعو على المشركين على حسب ذنوبهم وإجرامهم، فكان يبالغ فى الدعاء على من اشتدّ أذاه للمسلمين، ألا ترى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 126 أنه لما يئس من قومه قال: (اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها كسنى يوسف) . وقال مرةً: (اللهم أعنّى عليهم بسبع كسبع يوسف) . ودعا على أبى جهل بالهلاك ودعا على الأحزاب بالهزيمة والزلزلة، فأجاب الله دعاءه فيهم، ودعا على الذين قتلوا القراء شهرًا فى القنوت، ودعا على أهل الأحزاب أن يحرقهم الله فى بيوتهم وقبورهم، فبالغ فى الدعاء عليهم لشدّة إجرامهم، ونهى عائشة عن الرد على اليهود باللعنة وأمرها بالرفق فى المقارضة لهم، والرد عليهم مثل قولهم ولم يبح لها الزيادة والتصريح، فيمكن أن يكون كان ذلك منه (صلى الله عليه وسلم) على وجه التألف لهم والطمع فى إسلامهم والله أعلم. وأما قوله فى حديث ابن عمر حين لعن النبى (صلى الله عليه وسلم) المنافقين فى الصلاة فأنزل الله عز وجل: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَىْءٌ) [آل عمران: 128] فذهب بعض أهل التأويل أن هذه الآية ناسخة للعن النبى (صلى الله عليه وسلم) المنافقين فى الصلاة والدعاء عليهم، وأنه عوض من ذلك القنوت فى الصبح، رواه ابن وهب وغيره. وأكثر العلماء على أن الآية ليست ناسخة ولا منسوخة، وأن الدعاء على المشركين بالهلاك وغيره جائز لدعاء النبى (صلى الله عليه وسلم) عليهم فى هذه الآثار المتواترة الثابتة. 45 - بَاب الدُّعَاءِ لِلْمُشْرِكِينَ / 68 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنّ طُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَدِمَ عَلَى النَّبِيّ - عليه السلام - فَقَالَ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 127 يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وَأْتِ بِهِمْ) . قد تقدّم هذا الباب فى كتاب الجهاد، ونبه البخارى على معناه فى الترجمة فقال: باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم، ومر هناك. 46 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ - عليه السلام -: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ / 69 - فيه: أَبُو مُوسَى، أن النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: (رَبِّ اغْفِرْ لِى خَطِيئَتِى وَجَهْلِى وَإِسْرَافِى فِى أَمْرِى كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّى، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى خَطَايَاىَ وَعَمْدِى وَجَهْلِى وَهَزْلِى، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِى، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ) . قال الطبرى: إن قال قائل: ما وجه دعاء النبى (صلى الله عليه وسلم) الله أن يغفر له خطيئته وجهله وما تقدّم من ذنبه، وقد أعلمه الله تعالى أنه قد غفر له ذلك كله، فما وجه سؤاله ربه مغفرة ذنوبه، وهى مغفورة، وهل يجوز إن كان كذلك أن يسأل العبد ربه أن يجعله من بنى آدم، وهو منهم، وأن يجعل له يدين ورجلين وقد جعلهما له؟ فالجواب: أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يسأل ربه فى صلاته حين اقترب أجله، وبعد أن أنزل عليه: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) [النصر: 1] ناعيًا إليه نفسه فقال له: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر: 3] . وكان - عليه السلام - يقول: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 128 (إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة) . فكان هذا من فعله فى آخر عمره وبعد فتح مكة، وقد قال الله تعالى له: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) [الفتح: 2] ، باستغفارك منه، فلم يسأل النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يغفر له ذنبًا قد غفر له، وإنما غفر له ذنبًا وعده مغفرته له باستغفاره، ولذلك قال: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر: 3] . قال غير الطبرى: وقد اختلف العلماء فى الذنوب هل تجوز على الأنبياء؟ فذهب أكثر العلماء إلى أنه لا تجوز عليهم الكبائر لعصمتهم، وتجوز عليهم الصغائر. وذهبت المعتزلة إلى أنه لا تجوز عليهم الصغائر كما لا تجوز عليهم الكبائر، وتأولوا قوله تعالى: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) [الفتح: 2] ، فقالوا: إنما غفر له تعالى ما يقع منه من سهو وغفلةٍ، واجتهاد فى فعل خير لا يوافق به حقيقة ما عند ربه، فهذا هو الذى غفر له، وسمّاه: ذنبًا؛ لأن صفته صفة الذنب المنهى عنه، إلا أن ذلك تعمد، وهذا بغير قصد. هذا تأويل بعيد من الصواب، وذلك أنه لو كان السهو والغفلة ذنوبًا للأنبياء يجب عليهم الاستغفار منها؛ لكانوا أسوأ حالاً من سائر الناس غيرهم؛ لأنه قد وردت السنة المجمع عليها أنه لا يؤاخذ العباد بالخطأ والنسيان فلا يحتاجون إلى الاستغفار من ذلك، وما لم يوجب عليهم الاستغفار فلا يسمى عند العرب ذنبًا. فالنبى (صلى الله عليه وسلم) المخبر لنا بذلك عن ربه أولى بأن يدخل مع أمته فى معنى ذلك، ولا يلزمه حكم السهو والخطأ، وإنما يقع استغفاره (صلى الله عليه وسلم) كفارة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 129 للصغائر الجائزة عليه، وهى التى سأل الله غفرانها له بقوله: (اغفر لى ما قدمت وما أخرت) . وسأذكر هذه المسالة فى حديث الشفاعة فى باب قوله تعالى: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ) [ص: 75] فى كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى؛ لأن الحديث يقتضى ذلك. وفيها قول آخر يحتمل والله أعلم، أن يكون دعاؤه (صلى الله عليه وسلم) ليغفر الله له ذنبه على وجه ملازمة الخضوع لله تعالى، واستصحاب حال العبودية والاعتراف بالتقصير شكرًا لما أولاه ربه تعالى مما لا سبيل له إلى مكافأة بعمل، فكما كان يصلى (صلى الله عليه وسلم) حتى ترم قدماه، فيقال له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيقول: (أفلا أكون عبدًا شكورًا) . فكان اجتهاده فى الدعاء، والاعتراف بالذلل والتقصير، والأعواز والافتقار إلى الله تعالى شكرًا لربه، كما كان اجتهاده في الصلاة حتى ترم قدماه شكرًا لربه، إذ الدعاء لله تعالى من أعظم العبادة له، وليسُنّ ذلك لأمته (صلى الله عليه وسلم) فيستشعروا الخوف والحذر ولا يركنوا إلى الأمن، وإن كثرت أعمالهم وعبادتهم لله تعالى، وقد رأيت المحاسبى أشار إلى هذا المعنى، فقال: خوف الملائكة والأنبياء لله تعالى هو خوف إعظام لأنهم آمنون فى أنفسهم بأمان الله لهم، فخوفهم تعبد لله إجلالاً وإعظامًا. 47 - بَاب الدُّعَاءِ فِى السَّاعَةِ الَّتِى فِى يَوْمِ الْجُمُعَةِ قد تقدم فى كتاب الصلاة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 130 48 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ - عليه السلام -: (يُسْتَجَابُ لَنَا فِى الْيَهُودِ، وَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِينَا / 70 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ - عليه السلام - فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، قَالَ: (وَعَلَيْكُمْ) ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ، وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَهْلا يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ، أَوِ الْفُحْشَ) ، قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: (أَوَلَمْ تَسْمَعِى مَا قُلْتُ، رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِى فِيهِمْ، وَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِىَّ) . قال المؤلف: معنى هذا الحديث، والله أعلم، أنه (صلى الله عليه وسلم) إنما يستجاب له فى اليهود؛ لأنهم على غير طريق الحق وضالين عن الهدى، ومعاندين فى التمادى على كفرهم بعدما تبين لهم الحق بالآيات الباهرات، فلذلك يستجاب له فيهم، ولهذا المعنى لم يستجب لهم فى النبى (صلى الله عليه وسلم) لأنهم ظالمون فى دعائهم عليه، قال تعالى: (وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلاَلٍ) [الرعد: 14] ، وهذا أصل فى دعاء الظالم أنه لا يستجاب فيمن دعا عليه، وإنما يرتفع إلى الله تعالى من الدعاء ما وافق الحق وسبيل الصدّق. 49 - بَاب فَضْلِ التَّهْلِيلِ / 71 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ فِى يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِىَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ إِلا رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 131 قال المؤلف: روى جابر بن عبد الله عن النبي - عليه السلام - أنه قال: (أفضل الذكر التهليل لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله) وقال - عليه السلام -: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى: لا إله إلا الله) . وقد قيل: إنه اسم الله الأعظم، وذكر الطبرى من حديث سعيد بن أبى عروبة، عن عبد الله بن باباه المكى، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (إن الرجل إذا قال: لا إله إلا الله فهى كلمة الإخلاص التى لا يقبل الله عملاً حتى يقولها، فإذا قال: الحمد لله، فهى كلمة الشكر التى لم يشكر الله أحد حتى يقولها) . وروى عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: (من قال لا إله إلا الله، فليقل على إثرها: الحمد لله رب العالمين) . وقد روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أول من يدخل الجنة الحمادون، الذين يحمدون الله فى السراء والضراء) وقال (صلى الله عليه وسلم) : (من قال: أشهدك أن ما أصبح بى من نعمة فمنك وحدك، لا شريك لك، لك الحمد والشكر، فقد أدى شكر ذلك اليوم) وكان (صلى الله عليه وسلم) إذا أتاه أمر يكرهه قال: (الحمد لله على كل حال، وإذا رأى أمرًا يسره قال: الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات) . 50 - بَاب فَضْلِ التَّسْبِيحِ / 72 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِى يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ) . / 73 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 132 ثَقِيلَتَانِ فِى الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ) . معنى قولهم فى لغة العرب سبحان الله تنزيه الله من الأولاد والصاحبة والشركاء. وقال وهب بن منبه: ما من عبد يقول سبحان الله وبحمده، إلا قال الله تعالى: (صدق عبدى سبحانى وبحمدى، فإن سأل أعطى ما سأل، وإن سكت غفر له ما لا يحصى) . وروى عن النبي - عليه السلام - أنه قال: (صلاة الملائكة التسبيح، فأهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون: سبحان ذى الملك والملكوت، وأهل السماء الثانية قيام إلى يوم القيامة يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، وأهل السماء الثالثة قيام إلى يوم القيامة يقولون: سبحان الحى الذى لا يموت) . وروى الليث، عن ابن عجلان قال: جئت إلى القعقاع بن حكيم فى السحر أسأله فلم يجبنى، فلمّا فرغ قال: هذه الساعة يوكل الله الملائكة بالناس يقولون سبحان الملك القدوس. وروى عن ابن عباس قى قوله تعالى: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) [الكهف: 46] سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وهو قول سعيد بن المسيّب ومجاهد. فإن قيل: هل ينوب شىء عن تكرار التسبيح والتحميد؟ قيل: قد روى عن صفية قالت: (مرّ بى النبى (صلى الله عليه وسلم) وأنا أسبح بأربعة آلاف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 133 نواة، فقال: لقد قلت كلمة هى أفضل من تسبيحك. قلت: وما قلت؟ قال: قلت: سبحان الله عدد ما خلق) . وعن كريب عن ابن عباس: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) مرّ على جويرية فى مصلاها باكرًا تسبح وتذكر الله، فمضى لحاجته، فرجع إليها بعد ما ارتفع النهار، فقال لها: ما زلت فى مكانك هذا؟ قالت: نعم. فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : لقد تكلمت بكلمات لو وزنت بما قلت لرجحت، سبحان الله عدد ما خلق، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته، والحمد لله مثل ذلك) . وقال بعض الناس: هذه الفضائل التى جاءت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفر له. . .) وما شاكلها إنما هى لأهل الشرف فى الدين والكمال والطهارة من الجرائم العظام، ولا يظن أن من فعل هذا وأصرّ على ما شاء من شهواته وانتهك دين الله وحرماته أنه يلحق بالسابقين المطهرين، وينال منزلتهم فى ذلك بحكاية أحرف ليس معها تقى ولا إخلاص، ولا عمل، ما أظلمه لنفسه من يتأول دين الله على هواه. 51 - بَاب فَضْلِ ذِكْرِ اللَّهِ / 74 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الَّذِى يَذْكُرُ رَبَّهُ، وَالَّذِى لا يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الْحَىِّ وَالْمَيِّتِ) . / 75 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلائِكَةً يَطُوفُونَ فِى الطُّرُقِ، يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 134 حَاجَتِكُمْ، قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ: مَا يَقُولُ عِبَادِى؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لا، وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا، قَالَ: يَقُولُ فَمَا يَسْأَلُونِي؟ قَالَ: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لا، وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ: قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لا، وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً، قَالَ: فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ فِيهِمْ: فُلانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ) . قال المؤلف: هذا حديث شريف فى فضل ذكر الله، عز وجل، وتسبيحه وتهليله، وقد وردت فى ذلك أخبار كثيرة منها ما روى زيد بن أسلم: سمعت عبد الله بن عمر قال: قلت لأبى ذرّ: يا عمّ، أوصنى. قال: سألت رسول الله كما سألتنى، فقال: (ما من يوم وليلة إلا ولله فيه صدقة يمنّ بها على من يشاء من عباده، وما مَنّ الله على عباده بمثل أن يلهمهم ذكره) . وروى شعبة وسفيان عن أبى إسحاق عن أبى مسلم الأغر أنه شهد على أبى هريرة وأبى سعيد، أنهما شهدا على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 135 (ما من قوم يذكرون الله إلا حفّت بهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده) . وقال معاذ: ليس شىء أنجى من عذاب الله من ذكر الله. وقال ابن عباس، يرفع الحديث: (من عجز منكم عن الليل أن يكابده، وبخل بالمال أن ينفقه، وجبن عن العدو أن يجاهده، فليكثر من ذكر الله) . وروى أبو سلمة عن أبى هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (سيروا، سبق المستهترون. قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: الذين أُهتروا واستهتروا بذكر الله، يضع الذكر عنهم أثقالهم، ويأتون يوم القيامة خفافًا) . وروى أبو هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة) . وعن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (ارتعوا فى رياض الجنة. قالوا: يا رسول الله، وما رياضُ الجنّة؟ قال: مجالس الذكر، واغدوا وروحوا فى ذكر الله، واذكروهُ فى أنفسكم، من أحبّ أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله من نفسه) . وروى الأعمش عن سالم بن أبى الجعد قال: قيل لأبى الدرداء: إن رجلاً أعتق مائة نسمةً قال: إن ذلك من مال رجل لكثير، وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار، ولا يزال لسان أحدكم رطبًا من ذكر الله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 136 وعن ابن عباس قال: (سأل موسى صلوات الله عليه ربه تعالى فقال: ربّ، أى عبادك أحبّ إليك؟ قال: الذى يذكرنى ولا ينسانى) . ثم قال ابن عباس: ما جلس قوم فى بيت من بيوت الله، يذكرون الله، إلا كانوا أضيافًا لله عز وجل ما داموا فيه حتى يتصدعوا عنه، وأظلتهم الملائكة بأجنحتها ما داموا فيه. ذكر هذه الآثار كلها الطبرى فى آداب النفوس، قال المؤلف: وفقه هذا الباب أنّ معنى أمر الله تعالى العبد بذكره وترغيبه فيه؛ ليكون ذلك سببًا لمغفرته تعالى له ورحمته إياه، لقوله تعالى: (فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ) [البقرة: 152] وذكر الله للعبد رحمه له، قال ثابت البنانى: قال أبو عثمان النهدى: إنى لأعلم الساعة التى يذكرنا الله تعالى فيها. قيل: ومن أين تعلمتها؟ قال: يقول الله: (فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ) [البقرة: 152] . وقال السدى: ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله، لا يذكره مؤمن إلا ذكره الله برحمته، ولا يذكره كافر إلا ذكره الله بعذاب. وروى معناه عن ابن عباس وقيل: المعنى: اذكروا نعمتى عليكم شكرًا لها، أذكركم برحمتى والزيادة من النعم. وروى عن عمر بن الخطاب: إن الذكر ذكران: أحدهما: ذكر الله عند أوامره ونواهيه، والثانى: ذكر الله باللسان، وكلاهما فيه الأجر، إلا أن ذكر الله تعالى عند أوامره ونواهيه إذا فعل الذاكر ما أمر به، وانتهى عما نُهى عنه؛ أفضل من ذكره باللسان مع مخالفة أمره ونهيه، والفضل كله والشرف والأجر فى اجتماعهما من الإنسان، وهو ألا ينسى ذكر الله عند أمره ونهيه فينتهى، ولا ينساه من ذكره بلسانه، وسأذكر فى كتاب الرقاق فى باب من همّ بحسنة أو سيئة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 137 هل يكتب الحفظة الذكر بالقلب؟ وما للسلف فى ذلك إن شاء الله تعالى. وذكر البخارى فى كتاب الاعتصام فى باب قوله تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران: 28] حديث أبى هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا ذكرنى عبدى فى نفسه ذكرته فى نفسى، وإذا ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منهم. . .) الحديث. قال الطبرى: ومن جسيم ما يُرجى به للعبد الوصول إلى رضا ربه ذكره إياه بقلبه، فإن ذلك من شريف أعماله عنده؛ لحديث أبى هريرة. فإن قيل: فهل من أحوال العبد حال يجب عليه فيها ذكر الله فرضًا بقلبه؟ قيل: نعم هى أحوال أداء فرائضه، من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وسائر الفرائض، فإن على كل من لزمه عمل شىء من ذلك أن يكون عند دخوله فى كل ما كان من ذلك له تطاول بابتداء بأوّل وانقضاء بآخر أن يتوجّه إلى الله تعالى بعمله، ويذكره فى حال ابتدائه فيه، وما لم يكن له تطاول منه، فعليه توجهه إلى الله بقلبه فى حال عمله وذكره، ما كان مشتغلاً به، وما كان نفلاً وتطوعًا فإنه وإن لم يكن فرضًا عليه فلا ينتفع به عامله إن لم يرد به وجه الله، ولا ذكره عند ابتدائه فيه. 52 - بَاب قَوْلِ الرجل: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ / 76 - فيه: أَبُو مُوسَى، أَخَذَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى عَقَبَةٍ، أَوْ قَالَ: فِى ثَنِيَّةٍ، قَالَ: فَلَمَّا عَلا عَلَيْهَا رَجُلٌ نَادَى، فَرَفَعَ صَوْتَهُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ: وَالنَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى بَغْلَتِهِ، فَقَالَ: (فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا مُوسَى، أَوْ يَا عَبْدَاللَّهِ، أَلا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: يَلَى قَالَ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 138 قال الطبري: إن قال قائل: أى أنواع الذكر أفضل؛ فإن ذلك أنواع كثيرة، منها التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير؟ قيل: أعلى ذلك وأشرفه الكلمة التى لا يصح لأحدٍ عمل إلا بها، ولا إيمان إلا بالإقرار بها، وذلك التهليل، وهو لا إله إلا الله، على ما تقدّم فى حديث جابر فى باب فضل التهليل، روى أبو هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (الإيمان بضع وستون خصلة، أكبرها شهادة أن لا إله إلا الله وأصغرها إماطة الأذى عن الطريق) . وقال (صلى الله عليه وسلم) : (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى: لا إله إلا الله) . فإن قيل: ما معنى قول النبى (صلى الله عليه وسلم) للذى رفع صوته بلا إله إلا الله، ألا أدلك على كنز الجنة فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا إله إلا الله تغنى عن غيرها، وهى المنجية من النار؟ فالجواب: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان معلمًا لأمته، وكان لا يراهم على حالة من الخير، إلا أحبّ لهم الزيادة عليها فأحب للذى رفع صوته بكلمة الإخلاص والتوحيد أن يردفها بالتبرؤ من الحول والقوة لله تعالى وإلقاء القدرة إليه، فيكون قد جمع مع التوحيد الإيمان بالقدر. وقد جاء نحو هذا المعنى فى حديث عبد الله بن باباه المكى، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن الرجل إذا قال: لا إله إلا الله، فهى كلمة الإخلاص التى لا يقبل الله من أحدٍ عملاً حتى يقولها، فإذا قال: الحمد لله، فهى كلمة الشكر التى لم يشكر الله أحد حتى يقولها، فإذا قال: الله أكبر فهى كلمة تملأ ما بين السماء والأرض، فإذا قال: سبحان الله فهى صلاة الخلائق التي لم يدع الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 139 أحدًا حتى قرره بالصلاة والتسبيح، وإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. قال: استسلم عبدى. وروى عن سالم بن عبد الله، عن أبى أيوب الأنصارى: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ليلة أسرى به مَرّ على إبراهيم خليل الله، فقال له: مُر أمتك فليكثروا من غراس الجنة، فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة. قال له النبى (صلى الله عليه وسلم) : وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله) . ومن حديث جابر عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (أكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها تدفع تسعًا وتسعين داءً أدناها الهم) . وقال مكحول: من قالها كشف عنه سبعون بابًا من الضر، أدناها الفقر. ومعنى لا حول ولا قوة إلا بالله: لا حول عن معاصى الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بالله، قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (كذلك أخبرنى جبريل عن الله تعالى) . وروى عن علىّ بن أبى طالب تفسير آخر قال تفسيرها: إنا لا نملك مع الله شيئًا، ولا نملك من دونه شيئًا، ولا نملك إلا ما ملكنا مما هو أملك به منا. وحكى أهل اللغة أن معنى لا حول: لا حيلة، يقال: ما للرجل حيلة ولا قوة ولا احتيال ولا محتال ولا محالة ولا محال، وقوله: (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) [الرعد: 13] ، يعنى المكر والقوة والشدّة. 53 - بَاب لِلَّهِ مِائَةُ اسْمٍ غَيْرَ وَاحِدٍ / 77 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ رِوَايَةً، قَالَ: (لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مِائَةٌ إِلا وَاحِدًا، لا يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 140 قال المهلب: اختلف الناس فى الاستدلال من هذا الحديث، فذهب قوم إلى أن ظاهره يقتضى أن لا اسم لله تعالى غير التسعة والتسعين اسمًا التى نص عليها النبى (صلى الله عليه وسلم) إذ لو كان له غيرها لم يكن لتخصيص هذه العدة معنى، قالوا: والشريعة متناهية والحكمة فيها بالغة، وذهب آخرون إلى أنه يجوز أن تكون له أسماء زائدة على التسعة والتسعين، إذا لا يجوز أن تتناهى أسماء الله تعالى، لأن مدائحه وفواضله غير متناهية كما قال تعالى فى كلماته وحكمه: (وَلَوْ أَنَّمَا فِى الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) [لقمان: 27] . ومعنى ما أخبرنا به النبى من التسعة وتسعين اسمًا إنما هو معنى الشرع لنا فى الدعاء بها، وغيرها من الأسماء لم يشرع لنا الدعاء بها؛ لأن حديث النبى (صلى الله عليه وسلم) مبنى على قوله تعالى: (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف: 180] ، فكان ذكر هذا العدد إنما هو لشرع الدعاء به، وهذا القول أميلُ إلى النفوس؛ لإجماع الأمة على أن الله تعالى لا يبلغ كنهه الواصفون ولا ينتهى إلى صفاته المقرظون دليل لازم أن له أسماء غير هذه وصفات، وإلا فقد تناهت صفاته تعالى عن ذلك، وهذا قول أبى الحسن الأشعرى، وابن الطيب وجماعة من أهل العلم. قال ابن الطيب: وليس فى الحديث دليل على أن ليس لله تعالى أكثر من تسعة وتسعين اسمًا، لكن ظاهر الحديث يقتضى من أحصى تلك التسعة وتسعين اسمًا على وجه التعظيم لله دخل الجنة، وإن كان له أسماء أخر. وقال أبو الحسن بن القابسى، رحمه الله: أسماء الله وصفاته لا تعلم إلا بالتوقيف، والتوقيف كتاب الله تعالى وسنة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 141 نبيه - عليه السلام - أو اتفاق أمته، وليس للقياس فى ذلك مدخل، وما أجمعت عليه الأمة، فإنما هو عن سمع علموه من بيان الرسول. قال: ولم يذكر فى كتاب الله لأسمائه تعالى عدد مسمّى، وقد جاء حديث أبى هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) (إن لله تسعة وتسعين اسمًا) . وقد أخرج بعض الناس من كتاب الله تعالى تسعةً وتسعين اسمًا، والله أعلم بما خرج من هذا العدد إن كان كل ذلك أسماء، أو بعضها أسماء وبعضها صفات، ولا يسلم له ما نقله من ذلك. وقال الداودى: لم يثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه نص على التسعة والتسعين اسمًا. قال ابن القابسى: وقد روى مالك، عن سمى، عن القعقاع بن حكيم أن كعب الأحبار أخبره: لولا كلمات أقولهن لجعلتنى يهود حمارًا. فقيل له: ما هن؟ فقال: أعوذ بوجه الله العظيم الذى ليس شىء أعظم منه، وبكلمات الله التامات التى لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وبأسماء الله الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم؛ من شر ما خلق وذرأ وبرأ. فهذا كعب على علمه واتساعه لم يتعاط أن يحصر معرفة الأسماء فى مثل ما حصرها هذا الذى زعم أنه عرفها من القرآن، والدعاء فى هذا بدعاء كعب أولى وأسلم من التكلف، وسمعت أبا إسحاق الشيبانى يدعو بذلك كثيرًا، وسيأتى تفسير الإحصاء، والمراد بهذا الحديث فى كتاب الاعتصام فى باب قول النبى (صلى الله عليه وسلم) باسم الله الأعظم، فمنها ما رواه وكيع، عن مالك بن مغول، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه: (أن رسول الله سمع رجلاً يقول: اللهم إنى أسألك بأنى أشهد أنك لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. فقال: لقد دعا باسم الله الأعظم الذى إذا دُعى به أجاب، وإذا سئل به أعطى) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 142 ومنها حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد عن النبي - عليه السلام - قال: (اسم الله الأعظم فى هاتين الآيتين: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ () [البقرة: 163] . ومنها ما رواه على بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن مالك يقول: سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: (اسم الله الذى إذا سئل به أعطى وإذا دعى به أجاب دعوة يونس بن متى، ألم تسمع قوله: (فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء: 87، 88] ، فهو شرط الله لمن دعا بها) . قال الطبرى: قد اختلف من قبلنا فى ذلك، فقال بعضهم فى ذلك ما قال قتادة: اسم الله الأعظم: اللهم إنى أعوذ بأسمائك الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم، وأعوذ بأسمائك التى إذا دعيت بها أجبت، وإذا سئلت بها أعطيت. وقال آخرون: اسم الله الأعظم: هو الله، ألم تسمع قوله: (هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) [الحشر: 22، 23] إلى آخر السورة. وقال آخرون بأقوال مختلفة لروايات رووها عن العلماء قال الطبرى: والصواب فى كل ما روينا فى ذلك عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وعن السلف أنه صحيح. فإن قيل: وكيف يكون ذلك صحيحًا مع اختلاف ألفاظ ومعانيه؟ فالجواب: أنه لم يرو عن أحد منهم أنه قال فى شىء من ذلك قد دعا باسمه الأعظم الذى لا اسم له أعظم منه فيكون ذلك من روايتهم اختلافًا، وأسماء الله تعالى كلها عندنا عظيمة جليلة، ليس منها صغير وليس منها اسم أعظم من اسم، ومعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : لقد دعا باسمه الأعظم؛ لقد دعا باسمه العظيم، كما قال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 143 تعالى: (وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم: 27] بمعنى وهو هين عليه، وكما قال ابن أوس: لعمرك ما أدرى وإنى لأَوْجَل بمعنى إنى لوجِل، ويبين صحة ما قلناه حديث حفص ابن أخى أنس بن مالك، عن أنس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لقد دعا باسمه العظيم الذى إذا دعى به أجاب) . فقال: باسمه العظيم، إذ كان معنى ذلك ومعنى الأعظم واحدًا. وقال أبو الحسن بن القابسى: لا يجوز أن يقال فى أسماء الله وصفاته ما يُشبه المخلوقات، ولو كان فى أسماء الله اسمًا أعظم من اسم لكان غيره ومنفصلاً منه، والاسم هو المسمى على قول أهل السنة فلا يجوز أن يكون الاسمان متغايرين، ومن جعل اسمًا أعظم من اسم صار إلى قول من يقول: القرآن مخلوق. قال الطبرى: فإن قيل: فلو كان كما وصفت كل اسم من أسماء الله عظيمًا، لا شىء منها أعظم من شىء، لكان كل من دعا باسم من أسمائه مجابًا دعاؤه كما استجيب دعاء صاحب سليمان (صلى الله عليه وسلم) الذى أتاه بعرش بلقيس من مسيرة شهر قبل أن يرتدّ إلى سليمان طرفه؛ لأنه كان عنده علم من اسم الله الأعظم، وكذلك عيسى، صلوات الله عليه، به كان يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص وقد يدعو أحدنا الدهر الطويل بأسمائه فلا يستجاب له، فدل أن الأمر بخلاف ذلك. قيل: بل الأمر فى ذلك كما قلناه، ولكن أحوال الداعين تختلف، فمن داعٍ ربه تعالى لا ترد دعوته، ومن داعٍ محله محل من غضب الله عليه وعرضه للبلاء والفتنة فلا يرد كثيرًا من دعائه ليبتليه به ويبتلي به الجزء: 10 ¦ الصفحة: 144 غيره، ومن داعٍ يوافق دعاؤه محتوم قضائه ومبرم قدره، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (ما من مسلم يدعو إلا استجيب له ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، إما أن يعجل له فى الدنيا، وإما أن يدخر له فى الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء بقدر ما دعا) . ويبين ما قلناه أنا وجدنا أنه يدعو بالذى دعا به الذين عجلت لهم الإجابة فلا يجاب له، فدل إن الذى أوجب الإجابة لمن أُجيب، وترك الاستجابة لمن لم يستجب له اختلاف حال الداعين، لا الدعاء باسم من أسماء الله بعينه. وقد وقع فى هذا الحديث من رواية سفيان عن أبى الزناد: (مائة إلا واحدة) . ولا يجوز فى العربية، وقد جاء هذا الحديث فى كتاب الاعتصام: (مائة إلا واحدًا) . من رواية شعيب عن أبى الزناد، وهو الصحيح فى العربية؛ لأن الاسم مذكر، فلا يستثنى منه إلا مذكر مثله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 145 كِتَاب الرِّقَاقِ - بَاب لا عَيْشَ إِلا عَيْشُ الآخِرَةِ / 1 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ) . / 2 - وفيه: أَنَسٍ، وسَهْل، كُنَّا مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْخَنْدَقِ، وَهُوَ يَحْفِرُ، وَنَحْنُ نَنْقُلُ التُّرَابَ، وَبصر بِنَا فَقَالَ: (اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إِلا عَيْشُ الآخِرَهْ، فَاغْفِرْ لِلأنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ) قال المؤلف: قال بعض العلماء: إنما أراد (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (الصحة والفراغ نعمتان) ، تنبيه أمته على مقدار عظيم نعمة الله على عباده فى الصحة والكفاية؛ لأن المرء لا يكون فارغًا حتى يكون مكيفًا مؤنة العيش فى الدنيا، فمن أنعم الله عليه بهما فليحذر أن يغبنهما، ومما يستعان به على دفع الغبن أن يعلم العبد أن الله تعالى خلق الخلق من غير ضرورة إليهم، وبدأهم بالنعم الجليلة من غير استحقاق منهم لها، فمنّ عليهم بصحة الأجسام وسلامة العقول، وتضمن أرزاقهم وضاعف لهم الحسنات ولم يضاعف عليهم السيئات وأمرهم أن يعبدوه ويعتبروا بما ابتدأهم به من النعم الظاهرة والباطنة، ويشكروه عليها بأحرفٍ يسيرة، وجعل مدة طاعتهم فى الدنيا منقضية بانقضاء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 146 أعمارهم، وجعل جزاءهم على ذلك خلودًا دائمًا فى جنات لا انقضاء لها مع ما ذخر لمن أطاعه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فمن أنعم النظر فى هذا كان حريًا ألا يذهب عنه وقت من صحته وفراغه إلا وينفقه فى طاعة ربه، ويشكره على عظيم مواهبه والاعتراف بالتقصير عن بلوغ كنه تأدية ذلك، فمن لم يكن هكذا وغفل وسها عن التزام ما ذكرنا، ومرت أيامه عنه فى سهو ولهو وعجز عن القيام بما لزمه لربه تعالى فقد غبن أيامه، وسوف يندم حيث لا ينفعه الندم، وقد روى الترمذى من حديث ابن المبارك، عن يحيى بن عبيد الله بن موهب، عن أبيه، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (ما من أحد يموت إلا ندم، قالوا: وما ندامته يا رسول الله؟ قال: إن كان محسنًا ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا ندم ألا يكون نزع) . وأما قوله: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة) . فإنه نبه بذلك أمته على تصغير شأن الدنيا وتقليلها، وكدر لذاتها وسرعة فنائها، وما كان هكذا فلا معنى للشغل به عن العيش الدائم الذى لا كدر فى لذاته، بل فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. - بَاب مَثَلِ الدُّنْيَا فِى الآخِرَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ (إلى قوله تَعَالَى: (إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد: 20] . / 3 - فيه: سَهْل، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَوْضِعُ سَوْطٍ فِى الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 147 قال المؤلف: قد بين رسول الله منزلة الدنيا من الآخرة، بأن جعل موضع سوط من الجنة أو غدوة فى سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، وإنما أراد ثواب الغدوة أو الروحة فى الآخرة؛ لينبه أمته على هوان الدنيا عند الله تعالى وضعتها، ألا ترى أنه لم يرضها دار جزاءٍ لأوليائه ولا نقمة لأعدائه؛ بل هى كما وصفها تعالى) لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ) [الحديد: 20] الآية. وقد روى الترمذى، عن محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل ابن أبى خالد، عن قيس بن أبى حازم قال: سمعت مستورد بن شداد الفهرى يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (ما الدنيا فى الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه فى اليم فلينظر بماذا يرجع) . قال: وحدثنا قتيبة، حدثنا عبد الحميد بن سليمان، عن أبى حازم، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة) . 3 - بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (كُنْ فِى الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ / 4 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَخَذَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِمَنْكِبِى، وَقَالَ: (كُنْ فِى الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ) . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ، فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ، فَلا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. قال أبو الزناد: معنى هذا الحديث الحض على قلة المخالطة وقلة الاقتناء والزهد فى الدنيا. قال المؤلف: بيان ذلك أن الغريب قليل الانبساط إلى الناس؛ بل هو مستوحش منهم؛ إذ لا يكاد يمر بمن يعرفه فيأنس به، ويستكثر بخلطته فهو ذليل فى نفسه خائف، وكذلك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 148 عابر السبيل لا ينفذ فى سفره إلا بقوته عليه وخفته من الأثقال غير متشبث بما يمنعه من قطع سفره، معه زاد وراحلة يبلغانه إلى بغيته من قصده، وهذا يدل على إيثار الزهد فى الدنيا وأخذ البلغة منها والكفاف، فكما لا يحتاج المسافر إلى أكثر مما يبلغه إلى غاية سفره، فكذلك لا يحتاج المؤمن فى الدنيا إلى أكثر مما يبلغه المحل. وقوله: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء) حض منه على أن يجعل الموت نصب عينيه، فيستعد له بالعمل الصالح، وحض له على تقصير الأمل، وترك الميل إلى غرور الدنيا. وقوله: (خذ من صحتك لمرضك) حض على اغتنام أيام صحته فيمهد فيها لنفسه خوفًا من حلول مرض به يمنعه من العمل. وكذلك قوله: (ومن حياتك لموتك) تنبيه على اغتنام أيام حياته، ولا يمر عمره باطلاً فى سهوٍ وغفلة، لأن من مات فقد انقطع عمله وفاته أمله وحضره على تفريطه ندمه، فما أجمع هذا الحديث لمعانى الخير وأشرفه. 4 - بَاب فِى الأمَلِ وَطُولِهِ وَقوله تَعَالَى: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر: 15] . وَقَالَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ: ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلا حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلا عَمَلٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 149 / 5 - فيه: ابْن مسعود، قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ - عليه السلام - خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا فِى الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِى فِى الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِى فِى الْوَسَطِ، وَقَالَ: (هَذَا الإنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ، أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِى خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الأعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا) . / 6 - وفيه: أَنَس، خَطَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) خُطُوطًا، فَقَالَ: (هَذَا الأمَلُ، وَهَذَا أَجَلُهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ؛ إِذْ جَاءَهُ الْخَطُّ الأقْرَبُ) . قال المؤلف: مثل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى حديث ابن مسعود أمل ابن آدم وأجله وإعراض الدنيا التى لا تفارقه بالخطوط، فجعل أجله الخط المحيط، وجعل أمله وإعراضه خارجة من ذلك الخط، ومعلوم فى العقول أن ذلك الخط المحيط به الذى هو أجله؛ أقرب إليه من الخطوط الخارجة منه، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أنس: (فبينا هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب) . يريد أجله؟ وفى هذا تنبيه من النبى (صلى الله عليه وسلم) لأمته على تقصير الأمل، واستشعار الأجل خوف بغتة الأجل، ومن غيب عنه أجله فهو حرى بتوقعه وانتظاره خشية هجومه عليه فى حال غرة وغفلة، ونعوذ بالله من ذلك، فَلْيُرِضْ المؤمن نفسه على استشعار ما نُبه عليه، ويجاهد أمله وهواه ويستعين بالله على ذلك، فإن ابن آدم مجبول على الأمل كما قال (صلى الله عليه وسلم) فى الباب بعد هذا: (لا يزال قلب الكبير شابًا فى حب الدنيا وطول الأمل) . وقال الطبرى: فى قوله: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ) [الحجر: 3] ، يعنى ذرِ المشركين يا محمد يأكلوا فى هذه الدنيا ويتمتعوا من شهواتها ولذاتها إلى أجلهم الذى أجلت لهم، ويلههم الأمل عن الأخذ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 150 بطاعة الله فيها، وتزودهم لمعادهم منها بما يقربهم من ربهم. فسوف يعلمون غدًا إذا وردوا عليه، وقد هلكوا بكفرهم بالله حين يعاينون عذاب الله أنهم كانوا فى تمتعهم بلذات الدنيا فى خسار وتبابٍ) . 5 - بَاب مَنْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِى الْعُمُرِ لِقَوْلِهِ: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) [فاطر: 37] يَعْنِى الشَّيْبَ. / 7 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً) . / 8 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِى اثْنَتَيْنِ: فِى حُبِّ الدُّنْيَا، وَطُولِ الأمَلِ) . / 9 - وفيه: أَنَس، عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (يَكْبَرُ ابْنُ آدَمَ وَيَكْبَرُ مَعَهُ اثْنَانِ: حُبُّ الْمَالِ وَطُولُ الْعُمُرِ) . / 10 - وفيه: عِتْبَانَ بْنَ مَالِك، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَنْ يُوَافِىَ عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، يَبْتَغِى بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 151 / 11 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا لِعَبْدِى الْمُؤْمِنِ عِنْدِى جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلا الْجَنَّةُ) . قال المؤلف: روى عن على بن أبى طالب وابن عباس وأبى هريرة فى قوله تعالى: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) [فاطر: 37] قالوا: يعنى: ستين سنةً، وروى عن ابن عباس أيضًا أربعون سنة، وعن الحسن البصرى ومسروق مثله، وحديث أبى هريرة حجة لقول على ومن وافقه فى تأويل الآية. وقول من قال: أربعون سنة. له وجه صحيح أيضًا، والحجة له قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) [الأحقاف: 15] الآية فذكر تعالى أن من بلغ الأربعين، فقد آن له أن يعلم مقدار نعم الله عليه وعلى والديه ويشكرهما. قال مالك: أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا والعلم، ويخالطون الناس حتى يأتى لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس واشتغلوا بالعبادة حتى يأتيهم الموت. فبلوغ الأربعين نقل لابن آدم من حالة إلى حالة أرفع منها فى الاستبصار والإعذار إليه. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أعذر الله إلى أمرئ أخرّ أجله حتى بلغ ستين سنة) . أى أعذر إليه غاية الإعذار، الذى لا إعذار بعده، لأن الستين قريب من معترك العباد، وهو سن الإنابة والخشوع والاستسلام لله تعالى وترقب المنية ولقاء الله تعالى فهذا إعذار بعد إعذار فى عمر ابن آدم، لطفًا من الله لعباده حين نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم، وأعذر إليهم مرة بعد أخرى، ولم يعاقبهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 152 إلا بعد الحجج اللائحة المبكتة لهم، وإن كانوا قد فطرهم الله تعالى على حبّ الدنيا وطول الأمل، فلم يتركهم مهملين دون إعذار لهم وتنبيه، وأكبر الإعذار إلى بنى آدم بعثه الرسل إليهم، واختلف السلف فى تأويل قوله تعالى: (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) [فاطر: 37] فروى عن على ابن أبى طالب أنه محمد، عليه أفضل الصلاة والسلام، وهو قول ابن زيد وجماعة، وعن ابن عباس أنه الشيب. وحجة القول الأول أن الله تعالى بعث الرسل مبشرين ومنذرين إلى عباده قطعًا لحجتهم، وقال الله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء: 15] ولقول ابن عباس أن النذير: الشيب. وجه يصح، وذلك أن الشيب يأتى فى سن الاكتهال، وهو علامة لمفارقة سن الصبا الذى هو سن اللهو واللعب، فهو نذير أيضًا، ألا ترى قول إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) حين رأى الشيب قال: (يا رب ما هذا؟ فقال له: وقار. قال: ربى زدنى وقارًا) . فبان رفق الله بعباده المؤمنين وعظيم لطفه بهم حين أعذر إليهم ثلاث مرات: الأولى بالنبى (صلى الله عليه وسلم) والمرتان فى الأربعين وفى الستين؛ ليتم حجته عليهم، وهذا أصل لإعذار الحاكم إلى المحكوم عليهم مرةً بعد أخرى. فإن قيل: فما وجه حديث عتبان فى هذا الباب؟ قيل: له وجه صحيح المعنى، وذلك أنه لما كان بلوغ الستين غاية الإعذار إلى ابن آدم خشى البخارى، رحمه الله، أن يظن من لا يتسع فهمه أن من بلغ الستين، وهو غير تائب، أن ينفذ عليه الوعيد، فذكر قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (لن يوافى عبد يوم القيامة بكلمة الإخلاص والتوحيد يبتغى بها وجه الله؛ إلا حرمه الله على النار) . وسواء أتى بها بعد الستين أو بعد المائة لو عمرها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 153 وقد ثبت بالكتاب والسنة أن التوبة مقبولة ما لم يغرغر ابن آدم، ويعاين قبض روحه، وكذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (يقول الله تعالى: ما لعبدى المؤمن عندى جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسب إلا الجنة) . وهذا عام المعنى فى كل عمر ابن آدم؛ بلغ الستين أو زاد عليها، فهو ينظر إلى معنى حديث عتبان فى قوله: (ما لعبدى المؤمن عندى جزاء إذا قبضت صفيه إلا الجنة) دليل أن من مات له ولد واحد فاحتسبه أن له الجنة، وهو تفسير قول المحدث: (ولم نسأله عن الواحد) حين قال (صلى الله عليه وسلم) : (من مات له ثلاثة من الولد أدخله الله الجنة. قيل: واثنان يا رسول الله؟ قال: واثنان. ولم نسأله عن الواحد) ؛ إذ لا صفى أقرب إلى النفوس من الولد، وقد ذكرته فى الجنائز. 6 - بَاب مَا يُحْذَرُ مِنْ زَهَرَةِ الدُّنْيَا وَالتَّنَافُسِ فِيهَا / 12 - فيه: عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، يَأْتِى بِجِزْيَتِهَا، فَقَدِمَ بِالْمَالٍ، فَسَمِعَتِ الأنْصَارُ بِقُدُومِهِ، فَوَافَتْهُ صَلاةَ الصُّبْحِ مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، تَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ فَقَالَ: (أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ بِقُدُومِ أَبِى عُبَيْدَةَ) ؟ قَالُوا: أَجَلْ، قَالَ: (فَأَبْشِرُوا، وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ) . / 13 - وفيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، خَرَجَ النَّبِيّ - عليه السلام - يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ. . . الحديث، ثُمَّ قَالَ: (وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 154 / 14 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ أَكْثَرَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأرْضِ) ، قِيلَ: وَمَا بَرَكَاتُ الأرْضِ يَا رسُول اللَّه؟ قَالَ: (زَهْرَةُ الدُّنْيَا. . .) ، الحديث على ما جاء فى كتاب الزكاة، فى باب الصدقة على اليتامى. / 15 - وفيه: عِمْرَان، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (خَيْر القرون قَرْنِى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ، قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلا يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ) . / 16 - وفيه: خَبَّاب، قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) مَضَوْا، وَلَمْ تَنْقُصْهُمُ الدُّنْيَا بِشَىْءٍ، وَإِنَّا أَصَبْنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا لا نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلا التُّرَابَ. قال المؤلف: هذه الأحاديث تنبيه فى أن زهرة الدنيا ينبغى أن يخشى سوء عاقبتها وشر فتنتها من فتح الله عليه الدنيا، ويحذر التنافس فيها والطمأنينة إلى زخرفها الفانى؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) خشى ذلك على أمته، وحذرهم منه لعلمه أن الفتنة مقرونة بالغنى، ودَلّ حديث عمران بن حصين أن فتنة الدنيا لمن يأتى بعد القرن الثالث أشدّ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون) إلى قوله (ويظهر فيهم السمن) . فجعل (صلى الله عليه وسلم) ظهور السمن فيهم وشهادتهم بالباطل، وخيانتهم الأمانة، وتنافسهم فى الدنيا وأخذهم لها من غير وجهها كما، قال (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أبى سعيد: (ومن أخذه بغير حقه فهو كالذى يأكل ولا يشبع) . وكذلك خشى عمر بن الخطاب فتنة المال، فروى عنه أنه لما أتى بأموال كسرى بات هو وأكابر الصحابة عليه فى المسجد، فلما أصبح وأصابته الشمس التمعت تلك التيجان فبكى، فقال له عبد الرحمن بن عوف: ليس هذا حينُ بكاء، إنما هو حِينُ شكر. فقال عمر: إني الجزء: 10 ¦ الصفحة: 155 أقول: ما فتح الله هذا على قوم قط إلا سفكوا دماءهم وقطعوا أرحامهم وقال: اللهم منعت هذا رسولك إكرامًا منك له، وفتحته علىّ لتبتلينى به، اللهم اعصمنى من فتنته. فهذا كله يدل أن الغنى بلية وفتنة، ولذلك استعاذ النبى (صلى الله عليه وسلم) من شر فتنته، وقد أخبر الله تعالى بهذا المعنى فقال لرسوله: (وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه: 131] ، وقال تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن: 15] ، ولهذا آثر أكثر سلف الأمة التقلل من الدنيا وأخذ البلغة؛ إذ التعرض للفتن غرر. وقوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أبى سعيد: (وإن مما ينبت الربيع يقتل حبطًا أو يلم) فهو أبلغ الكلام فى تحذير الدنيا والركون إلى غضارتها، وذلك أن الماشية يروقها نبت الربيع فيكثر أكلها فربما تفتقت سمنًا فهلكت، فضرب النبى (صلى الله عليه وسلم) هذا المثل للمؤمن أن لا يأخذ من الدنيا إلا قدر حاجته، ولا يروقه زهرتها فتهلكه. وقال الأصمعى: والحبط: هو أن تأكل الدابة فتكثر، حتى تنتفخ بذلك بطنها وتمرض عنه. وقوله: (أو يلمُ) يعني يُدنى من الموت، وقد تقدم الكلام فى هذا الحديث فى باب الصدقة على اليتامى فى كتاب الزكاة. وأمّا قول خباب: (إن أصحاب محمد مضوا ولم تنقصهم الدنيا شيئًا) . فإنه لم يكن فى عهد النبي - عليه السلام - من الفتوحات والأموال ما كان بعده، فكان أكثر الصحابة ليس لهم إلا القوت، ولم ينالوا من طيبات العيش ما يخافون أن ينقصهم ذلك من طيبات الآخرة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 156 ألا ترى قول عمر بن الخطاب حين اشترى لحمًا بدرهم: أين تذهب هذه الآية: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا) [الأحقاف: 20] ، فدل أن التنعم فى الدنيا والاستمتاع بطيباتها تنقص كثيرًا من طيبات الآخرة. وقوله: (إنا أصبنا من الدنيا ما لا نجد له موضعًا إلا التراب) . قال أبو ذر: يعنى البنيان، ويدل على صحّة هذا التأويل أن خبّابًا قال هذا القول وهو يبنى حائطًا له، وقد تقدم فى كتاب المرضى فى باب تمنى المريض الموت، فتأمله هناك فهو بين فى حديث خباب. 7 - بَاب قَوله تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا (الآية [فاطر: 5] قَالَ مُجَاهِدٌ: (الْغَرُورُ (: الشَّيْطَانُ. / 17 - فيه: عُثْمَان، أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ مِثْلَ هَذَا الْوُضُوءِ، ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، قَالَ: وَقَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَغْتَرُّوا) . قال المؤلف: نهى الله عباده عن الاغترار بالحياة الدنيا وزخرفها الفانى، وعن الاغترار بالشيطان، وبيّن لنا تعالى عداوته لنا لئلا نلتفت إلى تسويله وتزيينه لنا الشهوات المردية، وحذرنا تعالى طاعته وأخبر أن أتباعه وحزبه من أصحاب السعير، والسعير: النار. فحق على المؤمن العاقل أن يحذر ما حذّره منه ربه عز وجل ونبيه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 157 - عليه السلام - وأن يكون مشفقًا خائفًا وجلاً، وإن واقع ذنبًا أسرع الندم عليه والتوبة منه وعزم ألا يعود إليه، وإذا أتى حسنة استقلها واستصغر عمله ولم يدل بها، ألا ترى قول عثمان: (من أتى المسجد، فركع ركعتين ثم جلس، غفر له ما تقدم من ذنبه) . وهذا لا يكون إلا من قول النبى (صلى الله عليه وسلم) ثم أتبع ذلك بقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (لا تغتروا) . ففهم عثمان رضى الله عنه من ذلك أن المؤمن ينبغى له ألا يتكل على عمله، ويستشعر الحذر والإشفاق بتجنب الاغترار، وقد قال غير مجاهد فى تفسير الغرور قال: هو أن يغتر بالله، فيعمل المعصية ويتمنى المغفرة. 8 - بَاب ذَهَابِ الصَّالِحِينَ / 18 - فيه: مِرْدَاس، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الأوَّلُ فَالأوَّلُ، وَيَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ أَوِ التَّمْرِ، لا يُبَالِيهِمُ اللَّهُ بَالَةً) . قال المؤلف: ذهاب الصالحين من أشراط الساعة، إلا إنه إذا بقى الناس فى حفالةٍ كحفالة الشعير أو التمر؛ فذلك إنذار بقيام الساعة وفناء الدنيا، وهذا الحديث معناه الترغيب فى الاقتداء بالصالحين والتحذير من مخالفة طريقهم خشية أن يكون من خالفهم ممن لا يباليه الله ولا يعبأ به. وبَالة: مصدر باليت محذوف منه الياء التى هى لام الفعل، وكان أصله (بالية) فكرهوا ياءً قبلها كسرة، لكثرة استعمال هذه اللفظة فى نفى كل ما لا يحفل به، وتقول العرب أيضًا فى مصدر باليت مبالاةً كما تقول بالة. والحفالة: سفلة الناس وأصلها فى اللغة ما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 158 تساقط من قشور التمر والشعير وغيرهما، والحثالة والحشافة مثله، وقد ذكرت هذا فى كتاب الفتن فى باب إذا بقى فى حثالة من الناس. 9 - بَاب مَا يُتَّقَى مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ وَقَوله تَعَالَى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن: 15] / 19 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَالْقَطِيفَةِ، وَالْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِىَ رَضِىَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ) . / 20 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لابْتَغَى ثَالِثًا وَلا يَمْلأ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ) . / 21 - وَفِى رواية ابْن عَبَّاس: (وَلا يَمْلأ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إِلا التُّرَابُ) . وروى مثله ابن الزبير، وَأنَس، عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَقَالَ أَنَس فِى حديثه: (وَلَنْ يَمْلأ فَاهُ إِلا التُّرَابُ) . / 22 - وفيه: أَنَس، عَنْ أُبَىٍّ، كُنَّا نَرَى هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى نَزَلَتْ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) [التكاثر: 1] . قال المؤلف: معنى الفتنة فى كلام العرب: الاختبار والابتلاء، ومنه قوله تعالى: (وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا) [طه: 40] أى اختبرناك، والفتنة: الإمالة عن القصد، ومنه قوله تعالى: (وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) [الإسراء: 73] أى ليميلونك، والفتنة أيضًا: الإحراق من قوله تعالى: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) [الذاريات: 13] أى يحرقون، هذا قول ابن الأنبارى. والاختبار الجزء: 10 ¦ الصفحة: 159 والابتلاء بجمع ذلك كله، وقد أخبر الله تعالى عن الأموال والأولاد أنها فتنة، وقال تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) [التكاثر: 1] ، وخرج لفظ الخطاب على العموم؛ لأن الله تعالى فطر العباد على حب المال والولد، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثًا) . فأخبر عن حرص العباد على الزيادة فى المال، وأنه لا غاية له يقنع بها ويقتصر عليها، ثم أتبع ذلك بقوله: (ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب) ، يعنى إذا مات وصار فى قبره ملأ جوفه التراب، وأغناه بذلك عن تراب غيره حتى يصير رميمًا. وأشار (صلى الله عليه وسلم) بهذا المثل إلى ذم الحرص على الدنيا والشره على الازدياد منها؛ ولذلك آثر أكثر السلف التقلل من الدنيا والقناعة والكفاف فرارًا من التعرض لما لا يعلم كيف النجاة من شر فتنته، واستعاذ النبى (صلى الله عليه وسلم) من شر فتنة الغنى، وقد علم كل مؤمن أن الله تعالى قد أعاذه من شر كل فتنة، وإنما دعاؤه بذلك (صلى الله عليه وسلم) تواضعًا لله وتعليمًا لأمته، وحضًا لهم على إيثار الزهد فى الدنيا. وقوله: (تعس عبد الدينار. .) إلى آخر الحديث فيه ذم مَنْ فتنه متاع الدنيا الفانى، وتعِس قيل: معناه هلك، وقيل: التعس: أن يخر على وجهه، وقد ذكرت اختلاف أهل اللغة فى تفسير هذه الكلمة فى كتاب الجهاد فى باب الحراسة فى الغزو فى سبيل الله. - بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إن هَذَا الْمَالُ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ (الآية [آل عمران: 14] . وقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إِنَّا لا نَسْتَطِيعُ إِلا أَنْ نَفْرَحَ بِمَا زَيَّنْتَهُ لَنَا، اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ أَنْ أُنْفِقَهُ فِى حَقِّهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 160 / 23 - فيه: حَكِيم، سَأَلْتُ النَّبِيَّ - عليه السلام - فَأَعْطَانِى ثلاثًا، ثُمَّ قَالَ لِى: (يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ، لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِى يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى) . قال المؤلف: هذا الباب فى معنى الذى قبله يدل على أن فتنة المال والغنى مخوفة على من فتحه الله عليه لتزيين الله تعالى له، ولشهوات الدنيا فى نفوس عباده؛ فلا سبيل لهم إلى بعضته إلا بعون الله على ذلك، ولهذا قال عمر: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا، ثم دعا الله أن يعينه على إنفاقه فى حقه، فمن أخذ المال من حقه ووضعه فى حقه فقد سلم من فتنته، وحصل على ثوابه، وهذا معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فمن أخذه بطيب نفس بورك فيه) ، وفى قوله أيضًا: (ومن أخذه بطيب نفس) تنبيه لأمته على الرضا بما قسم لهم، وفى قوله: (ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارك له فيه، وكان كالذى يأكل ولا يشبع) ذم الحرص والشره إلى الاستكثار، ألا ترى أنه شبّه فاعل ذلك بالبهائم التى تأكل ولا تشبع وهذا غاية الذم له لأن الله تعالى وصف الكفار بأنهم يأكلون كما تأكل الأنعام، يعنى: أنهم لا يشبعون كما لا تشبع الأنعام؛ لأن الأنعام لا تأكل لإقامة أرماقها، وإنما تأكل للشره والنهم. فينبغى للمؤمن العاقل الفهم عن الله تعالى وعن رسوله أن يتشبه بالسلف الصالح فى أخذ الدنيا ولا يتشبه بالبهائم التى لا تعقل، وقد فسرنا قوله: (خضرة حلوة) فى كتاب الزكاة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 161 - بَاب مَا قَدَّمَ مِنْ مَالِهِ فَهُوَ لَهُ / 24 - فيه: عَبْدُاللَّهِ، قَالَ: قَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ) ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ، قَالَ: (فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ) . قال المؤلف: هذا الحديث تنبيه للمؤمن على أن يقدم من ماله لآخرته، ولا يكون خازنًا له وممسكه عن إنفاقه فى طاعة الله، فيخيب من الانتفاع به فى يوم الحاجة إليه، وربما أنفقه وارثه فى طاعة الله فيفوز بثوابه. فإن قيل: هذا الحديث يدل على أن إنفاق المال فى وجوه البر أفضل من تركه لوارثه، وهذا يعارض قوله (صلى الله عليه وسلم) لسعد: (إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالةً يتكففون الناس) . قيل: لا تعارض بينهما، وإنما خص النبى (صلى الله عليه وسلم) سعدًا على أن يترك مالا لورثته؛ لأن سعدًا أراد أن يتصدق بماله كله فى مرضه، وكان وارثه ابنته والابنة لا طاقة لها على الكسب، فأمره (صلى الله عليه وسلم) بأن يتصدق منه بثلثه ويكون باقيه لابنته ولبيت مال المسلمين، وله أجر فى كل من يصل إليه من ماله شىء بعد موته. وحديث ابن مسعود إنما خاطب به (صلى الله عليه وسلم) أصحابه فى صحتهم ونبّه به من شحّ على ماله، ولم تسمح نفسه بإنفاقه فى وجوه البر أن ينفق منه فى ذلك؛ لئلا يحصل وارثه عليه كاملاً موفرًا، ويخيب هو من أجره، وليس فيه الأمر بصدقة المال كله فيكون معارضًا لحديث سعد، بل حديث عبد الله مجمل يفسره حديث سعد، ويدل على صحةً هذا التأويل ما ذكره أهل السير، عن ابن شهاب أن أبا لبابة قال: (يا رسول، إن من توبتى أن أهجر دار قومى التى أصبت فيها الذنب، وأنخلع من مالى صدقة إلى الله ورسوله. قال: يجزئك الثلث) فلم يأمره بصدقة ماله كله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 162 - بَاب الْمُكْثِرُونَ هُمُ الْمُقِلُّونَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا (إلى) يَعْمَلُونَ) [هود: 15] . / 25 - فيه: أَبُو ذَرّ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمُ الْمُقِلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، فَنَفَحَ فِيهِ يَمِينَهُ وَشِمَالَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَوَرَاءَهُ، وَعَمِلَ فِيهِ خَيْرًا) ، وذكر الحديث بطوله. قال المؤلف: هذا الحديث يدل على أن كثرة المال تئول بصاحبه إلى الإقلال من الحسنات يوم القيامة، إذا لم ينفقه فى طاعة الله، فإن أنفقه فى طاعة الله كان غنيًا من الحسنات يوم القيامة، وقد احتج بهذا الحديث من فضل الغنى على الفقر؛ لأنه استثنى فيه من المكثرين من نفح بالمال عن يمينه وشماله وبين يديه، وقد اختلف العلماء فى هذه المسألة، وسنذكر مذاهبهم فيها فى باب فضل الفقر بعد هذا إن شاء الله. وقوله: (نفح فيه) قال صاحب الأفعال: نفح بالعطاء: أعطى، والله نفاح بالخيرات، قال صاحبُ العين: نفح بالمال، والسيف، ونفحات المعروف: دفعه، ونفحت الدابة: رمحت بحافرها الأرض. وقوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا) [هود: 15] الآيتين، قال أهل التأويل: هذا عام فى لفظ خاص فى الكفار، بدليل قوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هود: 16] ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 163 وإنما ذكرها البخاري في هذا الباب تحذيرًا للمؤمنين من مشابهة أفعال الكافرين فى بيعهم الآخرة الباقية بزينة الدنيا الفانية، فيدخلوا فى معنى قوله تعالى: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا) [الأحقاف: 20] الآية. - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ - عليه السلام -: (مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي أُحُدٍ ذَهَبًا / 26 - فيه: أَبُو ذَرٍّ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا يَسُرُّنِى أَنَّ عِنْدِى مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، تَمْضِى عَلَىَّ ثَالِثَةٌ، وَعِنْدِى مِنْهُ دِينَارٌ، إِلا شَيْئًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ، إِلا أَنْ أَقُولَ بِهِ فِى عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ. . .) الحديث بطوله، وروى أَبُو هُرَيْرَةَ مثله مختصرًا. قال المؤلف: فى هذا الحديث أن المؤمن لا ينبغى له أن يتمنّى كثرة المال إلا بشريطة أن يسلطه الله على إنفاقه فى طاعته اقتداءً بالنبى (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك. وفيه: أن المبادرة إلى الطاعة أفضل من التوانى فيها، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يحب أن يبقى عنده من مقدار جبل أحدٍ ذهبًا، لو كان له، بعد ثلاث إلا دينار يرصده لدين. وفيه: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يكون عليه الدين لكثرة مواساته بقوته وقوت عياله، وإيثاره على نفسه أهل الحاجة، والرضا بالتقلل والصبر على خشونة العيش، وهذه سيرة الأنبياء والصالحين، وهذا كله يدل على أن فضل المال فى إنفاقه فى سبيل الله لا فى إمساكه وادّخاره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 164 - بَاب الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ وَقَوله تَعَالَى: (أَيَحْسِبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ) [المؤمنون: 55] إِلَى) عَامِلُونَ) [المؤمنون: 63] . قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: لَمْ يَعْمَلُوهَا لا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا. / 27 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ) . قال المؤلف: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليس الغنى عن كثرة العرض) يريد ليس حقيقة الغنى عن كثرة متاع الدنيا، لأن كثيرًا ممن وسع الله عليه فى المال يكون فقير النفس لا يقنع بما أعطى فهو يجتهد دائبًا فى الزيادة، ولا يبالى من أين يأتيه، فكأنه فقير من المال؛ لشدة شرهه وحرصه على الجمع، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، الذى استغنى صاحبه بالقليل وقنع به، ولم يحرص على الزيادة فيه، ولا ألحّ فى الطلب، فكأنه غنى واجد أبدًا، وغنى النفس هو باب الرضا بقضاء الله تعالى والتسليم لأمره علم أن ما عند الله خير للأبرار، وفى قضائه لأوليائه الأخيار، روى الحسن، عن أبى هريرة قال: (قال لى رسول الله: أرض بما قسم الله تكن أشكر الناس) . وقوله تعالى: (أَيَحْسِبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ) [المؤمنون: 55] ، نزلت فى الكفار، فليست بمعارضة لدعائه (صلى الله عليه وسلم) لأنس بكثرة المال والولد، وقال أهل التأويل فى معناها: أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين مجازاة لهم وخيرًا لهم، بل هو استدراج لهم، ولذلك قال تعالى: (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا) [المؤمنون: 63] ، أى فى غطاء عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 165 المعرفة أن الذى نمدهم به من مال استدراج لهم، وقال بعض أهل التأويل فى قوله تعالى: (أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ) [المؤمنون: 55] هى الخيرات: فالمعنى نسارع فيه ثم أظهر فقال: (فِى الْخَيْرَاتِ) [المؤمنون: 56] ، أى نسارع لهم به فى الخيرات. - بَاب فَضْلِ الْفَقْرِ / 28 - فيه: سَهْل، مَرَّ رَجُلٌ عَلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: (مَا رَأْيُكَ فِى هَذَا) ؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ هَذَا، وَاللَّهِ حَرِىٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا رَأْيُكَ فِى هَذَا) ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِىٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأرْضِ مِثْلَ هَذَا) . / 29 - وفيه: خَبَّاب، قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ - عليه السلام - نُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَجْرِهِ شيئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ نَمِرَةً، فَإِذَا غَطَّيْنَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ نُغَطِّىَ رَأْسَهُ وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الإذْخِرِ، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ، فَهُوَ يَهْدِبُهَا) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 166 / 30 - وفيه: عِمْرَان، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (اطَّلَعْتُ فِى الْجَنَّةِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِى النَّارِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ) . / 31 - وفيه: أنس: أَنَس، لَمْ يَأْكُلِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى خِوَانٍ حَتَّى مَاتَ، وَمَا أَكَلَ خُبْزًا مُرَقَّقًا حَتَّى مَاتَ. / 32 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَقَدْ تُوُفِّىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَمَا فِى رَفِّى مِنْ شَىْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلا شَطْرُ شَعِيرٍ فِى رَفٍّ لِى، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَىَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِىَ. قال المؤلف: فى ظاهر هذه الأحاديث فضل الفقر، كما ترجم البخارى، وقد طال تنازع الناس فى هذه المسألة، فذهب قوم إلى تفضيل الفقر، وذهب آخرون إلى تفضيل الغنى، واحتج من فضل الفقر بهذه الآثار بغيرها، فمنها أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يقول فى دعائه: (اللهم أحينى مسكينًا، وأمتنى مسكينًا، واحشرنى فى زمرة المساكين) . من حديث ثابت بن محمد العابد العوفى، عن الحارث بن النعمان الليثى، عن أنس بن مالك، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ذكره الترمذى، ومنها قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم من آمن بى وصدّق ما جئت به، فأقلل له فى المال والولد) . وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الفقراء يدخلون الجنة وأصحاب الجد محبوسون) . روى الترمذى، عن محمود بن غيلان، عن قبيصة، عن سفيان، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة سنة، نصف يوم) قال الترمذى: وهذا حديث صحيح. واحتج من فضل الغنى بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن المكثرين هم الأقلون، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا) . وبقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا حسد إلا فى اثنتين، أحدهما: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق) الحديث. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 167 وبقوله لسعد: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس) . وقال لأبى لبابة حين قال: يا رسول الله، إن توبتى أن أنخلع من مالى صدقةً إلى الله ورسوله: (أمسك عليك بعض مالك فإنه خير لك) . وقال فى معاوية: (إنه لصعلوك لا مال له) ، ولم يكن (صلى الله عليه وسلم) ليذمّ حالة فيها الفضل. وأحسن ما رأيت فى هذه المسألة ما قاله أحمد بن نصر الداودى قال: الفقر والغنى محنتان من الله تعالى وبليتان يبلو بهما أخيار عباده ليبدى صبر الصابرين وشكر الشاكرين وطغيان البطرين، وإنما أشكل ذلك على غير الراسخين، فوضع قوم الكتب فى تفضيل الغنى على الفقر، ووضع آخرون فى تفضيل الفقر، وأغفلوا الوجه الذى يجب الحض عليه والندب إليه، وأرجو لمن صحت نيته وخلصت لله طويته، وكانت لوجهه مقالته أن يجازيه الله على نيته ويعلمه، قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الكهف: 7] ، وقال تعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء: 35] ، وقال: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ) [فصلت: 51] ، وقال: (إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) [المعارج: 19 - 21] ، وقال تعالى: (فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَهَانَنِ) [الفجر: 15، 16] ، وقال: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ) [الشورى: 27] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 168 الآية، وقال: (وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ) [الزخرف: 33] الآية، وقال: (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6، 7] ، وقال: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات: 8] ، يعنى لحب المال، وقال (صلى الله عليه وسلم) : (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخاف عليكم أن تفتح الدنيا عليكم. .) الحديث. وكان (صلى الله عليه وسلم) يستعيذ من فتنة الفقر، وفتنة الغنى، فدل هذا كله أن ما فوق الكفاف محنة، لا يسلم منها إلا من عصمه الله، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (ما قل وكفى خير مما كثر وألهى) . وقال عمر ابن الخطاب لما أُوتى بأموال كسرى: (ما فتح الله هذا على قوم إلا سفكوا دماءهم وقطعوا أرحامهم. وقال: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا، اللهم إنك منعت هذا رسولك إكرامًا منك له، وفتحته على لتبتلينى به، اللهم سلطنى على هلكته فى الحق واعصمنى من فتنته) . فهذا كله يدل على فضل الكفاف، لا فضل الفقر كما خيلّ لهم، بل الفقر والغنى بليتان كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يستعيذ من فتنتهما، ويدل على هذا قوله تعالى: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) [الإسراء: 29] ، وقال: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67] ، وقال: (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا) [النساء: 5] ، وقال فى ولى اليتيم: (وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 169 بِالْمَعْرُوفِ) [النساء: 6] ، وقال: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ) [النساء: 9] ، وقال (صلى الله عليه وسلم) لأبى لبابة: (أمسك عليك بعض مالك) . وقال لسعد: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس) . وهذا من الغنى الذى لا يطغى، ولو كان كل ما زاد كان أفضل لنهاه النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يوصى بشىء، واقتصرت أيدى الناس عن الصدقات وعن الإنفاق فى سبيل الله، وقال لعمرو بن العاص: (هل لك أن أبعثك فى جيش يسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك رغبةً من المال؟ فقال: ما للمال كانت هجرتى، إنما كانت لله ولرسوله. فقال: نعم المال الصالح للرجل الصالح) . ولم يكن (صلى الله عليه وسلم) ليحض أحدًا على ما ينقص حظه عند الله، فلا يجوز أن يقال إن إحدى هاتين الخصلتين أفضل من الأخرى؛ لأنهما محنتان، وكأن قائل هذا يقول: إن ذهاب يد الإنسان أفضل عند الله من ذهاب رجله، وإن ذهاب سمعه أفضل من ذهاب بصره؛ فليس هاهنا موضع للفضل، وإنما هى محن يبلو الله بها عباده؛ ليعلم الصابرين والشاكرين من غيرهما، ولم يأت فى الحديث، فيما علمنا، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يدعو على نفسه بالفقر، ولا يدعو بذلك على أحد يريد به الخير، بل كان يدعو بالكفاف ويستعيذ بالله من شرّ فتنة الفقر وفتنة الغنى، ولم يكن يدعو بالغنى إلا بشريطة يذكرها فى دعائه. فأماّ ما روى عنه أنه كان يقول: (اللهم أحينى مسكينًا وأمتنى مسكينًا، واحشرنى فى زمرة المساكين) . فإن ثبت فى النقل فمعناه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 170 ألا يجاوز به الكفاف، أو يريد به الاستكانة إلى الله، ويدل على صحة هذا التأويل أنه ترك أموال بنى النضير وسهمه من فدك وخيبر، فغير جائز أن يظن به أن يدعو إلى الله ألا يكون بيده شىء، وهو يقدر على إزالته من يده بإنفاقه. وما روى عنه أنه قال: (اللهم من آمن بى وصدّق ما جئت به، فأقلل له من المال والولد) . فلا يصح فى النقل ولا فى الاعتبار، ولو كان إنما دعا بذلك فى المال وحده لكان محتملا أن يدعو لهم بالكفاف، وأما دعاؤه بقلة الولد فكيف يدعو أن يقل المسلمون، وما يدفعه العيان مدفوع عنه (صلى الله عليه وسلم) ، وأحاديثه لا تتناقض. كيف يذمّ معاوية، ويأمر أبا لبابة وسعدًا أن يبقيا ما ذكر من المال ويقول: إنه خير، ثم يخالف ذلك، وقد ثبت أنه دعا لأنس بن مالك وقال: (اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته) . قال أنس: فلقد أحصت ابنتى أنى قدّمت من ولد صُلبى مقدم الحجاج البصرة مائةً وبضعةً وعشرين نسمةً بدعوة رسول الله، وعاش بعد ذلك سنين وولد له) . فلم يدع له بكثرة المال إلا وقد أتبع ذلك بقوله: (وبارك له فيما أعطيته) . فإن قيل: فأى الرجلين أفضل: المبتلى بالفقر، أو المبتلى بالغنى إذا صلحت حال كل واحد منهما؟ قيل: السؤال عن هذا لا يستقيم؛ إذ قد يكون لهذا أعمال سوى تلك المحنة يفضل بها صاحبه والآخر كذلك، وقد يكون هذا الذى صلح حاله على الفقر لا يصلح حاله على الغنى، ويصلح حال الآخر على الفقر والغنى. فإن قيل: فإن كان كل واحد منهما يصلح حاله فى الأمرين، وهما فى غير ذلك من الأعمال متساويان قد أدّى الفقير ما يجب عليه فى فقره من الصبر والعفاف والرضا، وأدّى الغنى ما يجب عليه من الإنفاق والبذل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 171 والشكر والتواضع، فأى الرجلين أفضل؟ قيل: علم هذا عند الله. وأمّا قوله: (وأصحاب الجد محبوسون) . فإنما يحبس لهذا أهل التفاخر والتكاثر، وإنما من أدّى حق الله فى ماله، ولم يرد به التفاخر وأرصد باقيه لحاجته إليه، فليس أولئك بأولى منه فى السبق إلى شىء، ويدل على هذا قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا حسد إلا فى اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته فى الحق) . فبين أنه لا شىء أرفع من هاتين الحالتين، وهو المبين عن الله تعالى معنى ما أراد، ولو كان من هذه حاله مسبوقًا فى الأخرى لما حضّ النبى (صلى الله عليه وسلم) على أن يتنافس فى عمله، ولحضّ أبا لبابة على الحالة التى يسبق بها إلى الجنة، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث: (الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فالذى هى عليه وزر فرجل ربطها فخرًا ورياءً ونواءً لأهل الإسلام) . فهذا من المحبوسين للحساب، والأولان فهو كفافهما، غير أن آفات الغنى أكثر، والناجون من أهل الغنى أقل، إذ لا يكاد يسلم من آفاته إلا من عصمه الله؛ فلذلك عظمت منزلة المعصوم فيه؛ لأن الشيطان يسول فيه إما فى الأخذ بغير حقه، أو فى الوضع فى غير حقه، أو فى منعه من حقه، أو فى التجبر والطغيان من أجله، أو فى قلة الشكر عليه أو فى المنافسة فيه إلى ما لا يبلغ صفته. قال المهلب: وليس فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (يدخل فقراء أمتى الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام) تفضيل للفقر؛ لأن تقديم دخول الجنة لا تستحق به الفضيلة، ألا ترى أن النبي - عليه السلام - أفضل البشر ولا يتقدم بالدخول فى الجنّة حتى يشفع فى أمته، وكذلك صالح المؤمنين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 172 يشفعون فى قوم دونهم فى الدرجة، وإنما ينظر يوم القيامة بين الناس فيقدم الأقل حسابًا فالأقل، فلذلك قدم الفقراء، لأنهم لا علقة عليهم فى حساب الأموال، فيدخلون الجنة قبل الأغنياء، ثم يحاسب أصحاب الأموال فيدخلون الجنة، وينالون فيها من الدرجات ما قد لا يبلغه الفقراء، وكذلك ليس فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اطلعت فى الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء) . ما يوجب فضل الفقراء، وإنما معناه أن الفقراء فى الدنيا أكثر من الأغنياء، فأخبر عن ذلك كما نقول أكثر أهل الدنيا الفقراء، لا من جهة التفضيل، وإنما هو إخبار عن الحال، وليس الفقر أدخلهم الجنة، إنما أدخلهم الله الجنة بصلاحهم مع الفقر؛ أرأيت الفقير إذا لم يكن صالحًا فلا فضل له فى الفقر، وأما حديث سهل فلا يخلو أن يكون فضل الرجل الفقير على الغنى من أجل فقره أو من أجل فضله، فإن كان من أجل فضله فلا حجة فيه لمن فضل الفقر، وإن كان من أجل فقره فكان ينبغى أن يشترط فى ملء الأرض مثله لا فقير فيهم. ولا دليل فى الحديث يدل على تفضيله عليه مع جهة فقره؛ لأنا نجد الفقير إذا لم يكن صالحًا؛ فكل غنى صالح خير منه، وفى حديث خباب أن هجرتهم لم تكن لدنيا يصيبونها، ولا نعمة يستعجلونها، وإنما كانت لله؛ ليثبتهم عليها فى الآخرة بالجنة والنجاة من النار، فمن قتل منهم قبل أن يفتح الله عليهم البلاد قالوا: مرّ ولم يأخذ من أجره شيئًا فى الدنيا، وكان أجره فى الآخرة موفرًا له وكان الذى بقى منهم حتى فتح الله عليهم الدنيا، ونالوا من الطيبات؛ خشوا أن يكون عجل لهم أجر طاعتهم وهجرتهم فى الدنيا بما نالوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 173 منها من النعيم؛ إذ كانوا على نعيم الآخرة أحرص. وتركه (صلى الله عليه وسلم) الأكل على الخوان وأكل المرقق، فإنما فعل ذلك كأنه رفع الطيبات للحياة الدائمة فى الآخرة، ولم يرض أن يستعجل فى الدنيا الفانية شيئًا منها أخذًا منه بأفضل الدارين، وكان قد خيره الله بين أن يكون نبيًا عبدًا أو نبيًا ملكًا، فأختار عبدًا، فلزمه أن يفى الله بما اختاره، والمال إنما يرغب فيه مع مقارنة الدين ليستعان به على الآخرة، والنبى (صلى الله عليه وسلم) قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلم يحتج إلى المال من هذه الوجوه، وكان قد ضمن الله له رزقه بقوله: (نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه: 132] . وقول عائشة: (لقد توفى رسول الله وما فى بيتى شىء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير) هو فى معنى حديث أنس الذى قبله من الأخذ بالاقتصاد وبما يسد الجوعة، وفيه بركة النبى (صلى الله عليه وسلم) . وفيه أن الطعام المكيل يكون فناؤه معلومًا للعلم بكيله وأن الطعام غير المكيل فيه البركة؛ لأنه غير معلوم مقداره. - بَاب كَيْفَ كَانَ عَيْشُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَأَصْحَابِهِ وَتَخَلِّيهِمْ مِنَ الدُّنْيَا / 33 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (أَاللَّهِ الَّذِى لا إِلَهَ إِلا هُوَ، إِنْ كُنْتُ لأعْتَمِدُ بِكَبِدِى عَلَى الأرْضِ مِنَ الْجُوعِ، وَإِنْ كُنْتُ لأشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِى مِنَ الْجُوعِ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمِ الَّذِى يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلا لِيُشْبِعَنِى، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِى عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلا لِيُشْبِعَنِى، فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِى أَبُو الْقَاسِمِ (صلى الله عليه وسلم) فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِى، وَعَرَفَ مَا فِى نَفْسِى، وَمَا فِي وَجْهِي، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا هِرٍّ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 174 قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الْحَقْ وَمَضَى، فَتَبِعْتُهُ فَدَخَلَ، فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لِى، فَدَخَلَ، فَوَجَدَ لَبَنًا فِى قَدَحٍ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟ قَالُوا: أَهْدَاهُ لَكَ فُلانٌ أَوْ فُلانَةُ، قَالَ: أَبَا هِرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَادْعُهُمْ لِى، قَالَ: وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإسْلامِ، لا يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلا مَالٍ وَلا عَلَى أَحَدٍ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، وَأَصَابَ مِنْهَا، وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا فَسَاءَنِى ذَلِكَ، فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِى أَهْلِ الصُّفَّةِ، كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا، فَإِذَا جَاءَ، أَمَرَنِى فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ، وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِى مِنْ هَذَا اللَّبَنِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) بُدٌّ، فَأَتَيْتُهُمْ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَأَقْبَلُوا، فَاسْتَأْذَنُوا، فَأَذِنَ لَهُمْ، وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ، قَالَ: يَا أَبَا هِرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: خُذْ فَأَعْطِهِمْ، قَالَ: فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ، فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ، فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ، فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ، يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ، فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَدْ رَوِىَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ، فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ، فَنَظَرَ إِلَىَّ فَتَبَسَّمَ، فَقَالَ: أَبَا هِرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ، قُلْتُ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ، اقْعُدْ فَاشْرَبْ، فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ، فَقَالَ: اشْرَبْ فَشَرِبْتُ، فَمَا زَالَ يَقُولُ: اشْرَبْ حَتَّى قُلْتُ: لا، وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا، قَالَ: فَأَرِنِى، فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى، وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ) . / 34 - وفيه: سَعْد قَالَ: إِنِّى لأوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَأَيْتُنَا نَغْزُو، وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلا وَرَقُ الْحُبْلَةِ، وَهَذَا السَّمُرُ، وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ مَا لَهُ خِلْطٌ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِى عَلَى الإسْلامِ، خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ سَعْيِى. / 35 - وفيه: عَائِشَةَ، مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 175 / 36 - وَقَالَتْ: مَا أَكَلَ آلُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) أَكْلَتَيْنِ فِى يَوْمٍ إِلا إِحْدَاهُمَا تَمْرٌ. / 37 - وَقَالَتْ: كَانَ فِرَاشُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ أَدَمٍ وَحَشْوُهُ مِنْ لِيفٍ. / 38 - وعن: أَنَس، كنّا نأتيه وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ، قَالَ: كُلُوا فَمَا أَعْلَمُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ، وَلا رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ. / 39 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ يَأْتِى عَلَيْنَا الشَّهْرُ وَمَا نُوقِدُ فِيهِ نَارًا، إِنَّمَا هُوَ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلا أَنْ نُؤْتَى بِاللُّحَيْمِ. / 40 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا) . قال الطبري: فى اختيار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وخيار السلف من الصحابة والتابعين شظف العيش، والصبر على مرارة الفقر والفاقة ومقاساة خشونة خشن الملابس والمطاعم على خفض ذلك ودعته، وحلاوة الغنى ونعيمه ما أبان عن فضل الزهد فى الدنيا وأخذ القوت والبلغة خاصة. وكان نبينا (صلى الله عليه وسلم) يطوى الأيام، ويعصب على بطنه الحجر من الجوع؛ إيثارًا منه شظف العيش والصبر عليه، مع علمه بأنه لو سأل ربه أن يسير له جبال تهامة ذهبًا وفضة لفعل، وعلى هذه الطريقة جرى الصالحون، ألا ترى قول أبى هريرة أنه كان يشد الحجر على بطنه من الجوع، وخرج يتعرض من يمر به من الصحابة يسأله عن آى القرآن ليحمله ويطعمه. وفيه أن كتمان الحاجة أحرى بإظهارها وأشبه بأخلاق الصابرين، وإن كان جائزًا له الإخبار بباطن أمره وحاجته لمن يرجوه لكشف فاقته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 176 وهذا الحديث علم عظيم من أعلام النبوة، وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) عرف ما فى نفس أبى هريرة، ولم يعلم ذلك أبو بكر ولا عمر. وفيه شرب العدد الكثير من اللبن القليل حتى شبعوا ببركة النبوة. وفيه ما كان (صلى الله عليه وسلم) من إيثار البلغة وأخذ القوت فى كرم نفسه وأنه لم يستأثر بشىء من الدنيا دون أمته. وقوله: (اللهم ارزق آل محمد قوتًا) . فيه دليل على فضل الكفاف وأخذ البلغة من الدنيا، والزهد فيما فوق ذلك رغبةً فى توفير نعيم الآخرة، وإيثارًا لما يبقى على ما يفنى لتقتدى بذلك أمته، ويرغبوا فيما رغب فيه نبيهم (صلى الله عليه وسلم) . وروى الطبرى بإسناده عن ابن مسعود قال: حبذا المكروهان الموت والفقر، والله ما هو إلا الغنى والفقر وما أبالى بأيهما ابتليت، إن حق الله فى كل واحد منها واجب، إن كان الغنى ففيه التعطف، وإن كان الفقر ففيه الصبر، قال الطبرى: فمحنة الصابر أشد من محنة الشاكر، وإن كانا شريفى المنزلة، غير أنى أقول كما قال مطرف بن عبد الله: لأن أعافى فأشكر أحب إلىَّ من أن أبتلى فأصبر. ومن فضل قلة الأكل ما روى يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (إن أهل البيت ليقل طعمهم فتستنير بيوتهم) . وروى إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة، عن محمد بن على، عن أبيه، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من سرّه أن يكون حكيمًا فليقل طعمه، فإنه يغشى جوفه نور الحكمة) . وقال مالك ابن دينار: سمعت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 177 عبد الله الرازي يقول: كان أهل العلم بالله والقبول عنه يقولون: إن الشبع يقسى القلب، ويفتر البدن. ومن سير السلف فى تخليهم من الدنيا ما روى وكيع، عن الأعمش، عن شقيق بن سلمة عن مسروق، عن عائشة قالت: قال أبو بكر في مرضه الذى مات فيه: انظروا ما زاد فى مالى منذ دخلت فى الخلافة؛ فابعثوا به إلى الخليفة بعدى، فإنى قد كنت أستحله، وقد كنت أصيب من الودك نحوًا مما كنت أصيب من التجارة. قالت عائشة: فلما مات نظرنا فإذا عبد نوبى يحمل صبيانه وناضح كان يسنى عليه، فبعثناهما إلى عمر فأخبرنى جدى أن عمر بكى وقال: رحمة الله على أبى بكر لقد أتعب من بعده. والحُبلة والسمر: نوعان من الشجر أو النبات، عن أبى عبيد. وقد تقدم الكلام فى حديث سعد وما فيه فى كتاب الأطعمة فى باب ما كان النبى (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه يأكلون وتقدّم فيه أيضًا الكلام فى حديث عائشة وأنس وأبى هريرة مع الأحاديث المعارضة لها. - بَاب الْقَصْدِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعَمَلِ / 41 - فيه: عَائِشَةَ، سُئلت أَىُّ الْعَمَلِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَتِ: الدَّائِمُ، قَالَ: قُلْتُ: فَأَىَّ حِينٍ كَانَ يَقُومُ؟ قَالَتْ: كَانَ يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ. / 42 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَنْ يُنَجّيَ أَحَدًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 178 مِنْكُمْ عَمَلُهُ) ، قَالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (وَلا أَنَا، إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِى اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، سَدِّدُوا، وَقَارِبُوا وَاغْدُوا، وَرُوحُوا، وَشَىْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا) . / 43 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (سَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَأَنَّ أَحَبَّ الأعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ) . / 44 - وَقَالَ فِى حديث آخر: (اكْلَفُوا مِنَ العمل مَا تُطِيقُونَ) . / 45 - وَقَالَ عَلْقَمَة: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، كَيْفَ كَانَ عَمَلُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الأيَّامِ؟ قَالَتْ: لا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتَطِيعُ. / 46 - وفيه: أَنَس، صَلَّى لَنَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمًا الصَّلاةَ، ثُمَّ رَقِىَ الْمِنْبَرَ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ قِبَلَ قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: (قَدْ أُرِيتُ الآنَ مُنْذُ صَلَّيْتُ لَكُمُ الصَّلاةَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مُمَثَّلَتَيْنِ فِى قُبُلِ هَذَا الْجِدَارِ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ) ، مرتين. قال المؤلف: إنما حضّ النبى (صلى الله عليه وسلم) أمته على القصد والمداومة على العمل، وإن قلّ خشية الانقطاع عن العمل الكثير فكأنه رجوع فى فعل الطاعات، وقد ذمّ الله ذلك، ومدح من أوفى بالنذر، وقد تقدم بيان هذا المعنى فى أبواب صلاة الليل فى آخر كتاب الصلاة. فإن قال قائل: إن قول عائشة: إن النبى لم يكن يخص شيئًا من الأيام بالعمل؛ يعارضه قولها: ما رأيت رسول الله أكثر صيامًا منه فى شعبان. قيل: لا تعارض بين شىء من ذلك، وذلك أنه كان كثير الأسفار فى الجهاد، فلا يجد سبيلا إلى صيام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 179 الثلاثة الأيام من كل شهر، فيجمعها فى شعبان، ألا ترى قول عائشة: كان يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم فهذا يبين أنه كان لا يخصّ شيئًا من الزمان؛ بل كان يوقع العبادة على قدر نشاطه، وفراغه لذلك من جهاده وأسفاره، فيقل مرةً ويكثر أخرى، هذا قول المهلب، وقد قيل فى معنى كثرة: صيامه فى شعبان وجوه آخر قد ذكرتها فى باب صوم شعبان فى كتاب الصيام. فإن قيل: فما معنى ذكر حديث أنس فى هذا الباب؟ قيل: معناه أن يوجب ملازمة العمل وإدمانه ما مثل له من الجنة للرغبة، ومن النار للرهبة، فكان فى ذلك فائدتان: إحداهما: تنبيه للناس أن يتمثلوا الجنة والنار بين أعينهم إذا وقفوا بين يدى الله، كما مثلها الله لنبيه، وشغله بالفكرة فيهما عن سائر الأفكار الحادثة عن تذكير الشيطان بما يسهيه حتى لا يدرى كم صلّى، والثانية: أن يكون الخوف من النار الممثلة والرغبة فى الجنة نصب عينى المصلى فيكونا باعثين له على الصبر، والمداومة على العمل المبلغ إلى رحمة الله والنجاة من النار برحمته. فإن قال قائل: فإن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لن يدخل أحدكم عمله الجنة) يعارض قوله تعالى: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف: 72] . قيل: ليس كما توهمت، ومعنى الحديث غير معنى الآية، أخبر النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الحديث أنه لا يستحق أحد دخول الجنة بعمله، وإنما يدخلها العباد برحمة الله، وأخبر الله تعالى فى الآية أن الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، ومعلوم أن درجات العباد فيها متباينة على قدر تباين أعمالهم، فمعنى الآية فى ارتفاع الدرجات وانخفاضها والنعيم فيها، ومعنى الحديث فى الدخول فى الجنة والخلود فيها، فلا تعارض بين شيء من ذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 180 فإن قيل: فقد قال تعالى فى سورة النحل: (سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 32] ، فأخبر أن دخول الجنة بالأعمال أيضًا. فالجواب: أن قوله: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 32] كلام مجمل يبينه الحديث، وتقديره ادخلوا منازل الجنة وبيوتها بما كنتم تعملون، فالآية مفتقرة إلى بيان الحديث. وللجمع بين الحديث وبين الآيات وجه آخر هو أن يكون الحديث مفسرًا للآيات، ويكون تقديرها: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف: 72] ، و) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور: 19] ، و) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 32] مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم؛ لأن فضله تعالى ورحمته لعباده فى اقتسام المنازل فى الجنة، كما هو فى دخول الجنة لا ينفك منه، حين ألهمهم إلى ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شىء من مجازاة الله عباده من رحمته وتفضله، ألا ترى أنه تعالى جازى على الحسنة عشرًا، وجازى على السيئة واحدة، وأنه ابتدأ عباده بنعم لا تحصى، لم يتقدم لهم فيها سبب ولا فعل، منها أن خلقهم بشرًا سويا، ومنها نعمة الإسلام ونعمة العافية ونعمة تضمنه تعالى لأرزاق عباده، وأنه كتب على نفسه الرحمة، وأن رحمته سبقت غضبه، إلى ما لا يهتدى إلى معرفته من ظاهر النعم وباطنها. وقوله: (إلا أن يتغمدنى الله) قال أبو عبيد: لا أحسب يتغمدنى إلا مأخوذ من غمد السيف، لأنك إذا غمدته فقد ألبسته إياه وغشيته به. وقول عائشة: (كان عمله ديمةً) يعنى دائمًا، وأصل الديمة: المطر الدائم مع سكون، قال لبيد: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 181 باتتْ وأسبلَ واكف من ديمةٍ يروى الخمائلَ دائمًا تسجامها فأخبر أن الديمة: الدائم، فشبهت عائشة عمله (صلى الله عليه وسلم) فى دوامه مع الاقتصاد وترك الغلو بديمة المطر. - بَاب الصَّبْرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ وَقَوْلِهِ: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10] . وَقَالَ عُمَرُ: وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بِالصَّبْرِ. / 47 - فيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الأنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمْ يَسْأَلْهُ أَحَدٌ إِلا أَعْطَاهُ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: (لَهُمْ مَا يَكُونْ عِنْدِى مِنْ خَيْرٍ لا أَدَّخِرْهُ عَنْكُمْ، وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفُّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَلَنْ تُعْطَوْا عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ) . / 48 - وفيه: الْمُغِيرَة، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى حَتَّى تَرِمَ أَوْ تَنْتَفِخَ قَدَمَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: (أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا) . قال المؤلف: أرفع الصابرين منزلة عند الله من صبر عن محارم الله، وصبر على العمل بطاعة الله، ومن فعل ذلك فهو من خالص عباد الله وصفوته، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لن تعطوا عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر) وسئل الحسن عن قوله (صلى الله عليه وسلم) حين سئل عن الإيمان فقال: (الصبر والسماح) فقيل للحسن: ما الصبر والسماح؟ فقال: السماح بفرائض الله، والصبر عن محارم الله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 182 وقال الحسن: وجدت الخير فى صبر ساعةٍ. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من يستعفف يعفه الله ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستغن يغنه الله) معناه من يعفه الله يستعفف، ومن يصبره الله يتصبر، ومن يغنه الله يستغن، وهذا مثل قوله تعالى: (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) [الليل: 5، 6] الآية. يبين صحة هذا قوله تعالى: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) [التوبة: 118] ، فلولا ما سبق فى علمه أنه قضى لهم بالتوبة ما تابوا، وكذلك لولا ما سبق فى علم الله أنهم ممن يستعفف ويستغنى ويصبر ما قدروا على شىء من ذلك بفعلهم. يبين ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اعملوا فكل ميسرّ لما خلق له) وهذا حجة فى أن أفعال العباد خلق لله تعالى والصبر فى حديث المغيرة صبر على العمل بطاعة الله، لأنه كان (صلى الله عليه وسلم) يصلى بالليل حتى ترم قدماه، ويقول: (أفلا أكون عبدًا شكورًا) . قال الطبرى: وقد اختلف السلف فى حد الشكر فقال بعضهم: شكر العبد لربه على أياديه عنده رضاؤه بقضائه، وتسليمه لأمره فيما نابه من خير أو شر، ذكره الربيع بن أنس عن بعض أصحابه. وقال آخرون: الشكر لله هو الإقرار بالنعم أنها منه، وأنه المتفضل بها، وقالوا الحمد والشكر بمعنى واحد روى ذلك عن ابن عباس وابن زيد. قال الطبرى: والصّواب فى ذلك أن شكر العبد هو إقراره بأن ذلك من الله دون غيره وإقرار الحقيقة الفعل، ويصدقه العمل، فأما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 183 الإقرار الذى يكذبه العمل، فإن صاحبه لا يستحق اسم الشاكر بالإطلاق، ولكنه يقال شكر باللسان والدليل على صحة ذلك قوله تعالى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) [سبأ: 13] ، ومعلوم أنه لم يأمرهم، إذ قال لهم ذلك، بالإقرار بنعمه؛ لأنهم كانوا لا يجحدون أن يكون ذلك تفضلا منه عليهم، وإنما أمرهم بالشكر على نعمه بالطاعة له بالعمل، وكذلك قال (صلى الله عليه وسلم) حين تفطرت قدماه فى قيام الليل: (أفلا أكون عبدًا شكورًا) . فإن قال قائل: فأى المنزلتين أعلى درجةً: الصبر أو الشكر؟ قيل: كل رفيع الدرجة شريف المنزلة، وما ذو العافية والرخاء كذى الفاقة والبلاء، وفى قوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10] ، وخصوصه إياهم من الأجر على صبرهم دون سائر من ضمن له ثوابًا على عمله ما يبين عن فضل الصبر. وقد روى الأعمش، عن أبى الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (يود أهل العافية يوم القيامة أن جلودهم فى الدنيا كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب الله تعالى لأهل البلاء) وذكر ابن أبى الدنيا من حديث أم هانئ قالت: (دخل علىّ رسول الله فقال: أبشرى، فإن الله قد أنزل لأمتى الخير كله، قد أنزل) إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود: 114] ، قلت: بأبى وأمى وما الحسنات؟ قال الصلوات الخمس ودخل علىّ فقال: أبشرى فإنه قد أنزل خير لا شر بعده. قلت: بأبى وأمى ما هو؟ قال: أنزل الله) مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [الأنعام: 160] ، فقلت: يا رب زد أمتى، فأنزل الله تعالى: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ) [البقرة: 261] ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 184 فقلت: يا رب زد أمتى. فأنزل الله: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10] . - بَاب حِفْظِ اللِّسَانِ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) ، وَقول اللَّه: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18] . / 49 - فيه: سَهْلِ بْن سَعْدٍ، قَالَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ يَضْمَنْ لِى مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ) . / 50 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ) . ورواه أبو شريح، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . / 51 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ، مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِى النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغرب) . / 52 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لا يُلْقِى لَهَا بَالا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِى لَهَا بَالا، يَهْوِى بِهَا فِى جَهَنَّمَ) . قال المؤلف: ما أحق من علم أن عليه حفظةً موكلين به، يحصون عليه سقط كلامه وعثرات لسانه، أن يحزنه ويقل كلامه فيما لا يعنيه، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 185 وما أحراه بالسعى فى أن لا يرتفع عنه ما يطول عليه ندمه من قول الزور والخوض فى الباطل، وأن يجاهد نفسه فى ذلك ويستعين بالله ويستعيذ من شر لسانه، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت) يعنى من كان يؤمن بالله واليوم الآخر الإيمان التام فإنه ستبعثه قوة إيمانه على محاسبة نفسه فى الدنيا والصمت عما يعود عليه ندامةً يوم القيامة، وكان الحسن يقول: ابن آدم، نهارك ضيفك فأحسن إليه، فإنك إن أحسنت إليه ارتحل يحمدك، وإن أسأت إليه ارتحل يذمك. وقال عمر بن عبد العزيز لرباح بن عبيد: بلغنى أن الرجل ليظلم بالمظلمة، فما زال المظلوم يشتم ظالمه حتى يستوفى حقه ويفضل للظالم عليه. وروى أسد عن الحسن البصرى قال: لا يبلغ أحد حقيقة الإيمان حتى لا يعيب أحدًا بعيب هو فيه، وحتى يبتدئ بصلاح ذلك العيب من نفسه، فإنه إن فعل ذلك لم يصلح عيبًا إلا وجد فى نفسه عيبًا آخر، فينبغى له أن يصلحه، فإذا كان المرء كذلك شغله فى خاصته واجبًا، وأحب العباد إلى الله من كان كذلك. وقوله: (من ضمن لى ما بين لحييه) يعنى لسانه فلم يتكلم بما يكتبه عليه صاحب الشمال (وما بين رجليه) يعنى فرجه فلم يستعمله فيما لا يحل له (ضمنت له الجنة) . ودل بهذا الحديث أن أعظم البلاء على العبد فى الدنيا اللسان والفرج، فمن وقى شرهما فقد وقى أعظم الشر، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقى لها بالاً يزل بها فى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب) . وقال أهل العلم: هى الكلمة عند السلطان بالبغي والسعي على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 186 المسلم، فربما كانت سببًا لهلاكه، وإن لم يرد ذلك الباغى، لكنها آلت إلى هلاكه، فكتب عليه إثم ذلك، والكلمة التى يكتب الله له بها رضوانه الكلمة يريد بها وجه الله بين أهل الباطل، أو الكلمة يدفع بها مظلمة عن أخيه المسلم، ويفرج عنه بها كربةً من كرب الدنيا، فإن الله تعالى يفرج عنه كربةً من كرب الآخرة، ويرفعه بها درجات يوم القيامة. - بَاب الْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ / 53 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِى ظله: رَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ. . .) الحديث. قال المؤلف: قد تقدم الكلام فى هذا الحديث فى كتاب المحاربين فى باب فضل من ترك الفواحش، ونذكر فى هذا الباب ما روى فى البكاء من خشية الله تعالى عن الأنبياء، عليهم السلام، وعن السلف أيضًا، روى أسد بن موسى، عن عمران بن زيد، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (أيها الناس، ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون فى النار حتى تسيل دموعهم فى وجوههم كأنها جداول، ثم تنقطع الدموع وتسيل الدماء فتقرح العيون، فلو أن السفن أجرين فيها لجرت) وكان (صلى الله عليه وسلم) إذا قام إلى الصلاة سمع لجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وهذه كانت سيرة الأنبياء والصالحين كأن خوف الله أُشرب قلوبهم واستولى عليهم الوجل حتى كأنهم عاينوا الحساب، وعن يزيد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 187 الرقاشى قال: يا لهفاه سبقنى العابدون، وقطع بى نوح؛ يبكى على خطيئته، ويزيد لا يبكى على خطيئته، إنما سُمّى نوحًا لطول ما ناح على نفسه فى الدنيا. وذكر ابن المبارك عن مجاهد قال: كان طعام يحيى بن زكريا العشب، وكان يبكى من خشية الله، ما لو كان القار على عينيه لخوفه ولقد كانت الدموع اتخذت فى وجهه مجرى. وقال ابن عباس: قال النبي - عليه السلام -: (كان مما ناجى الله موسى أنه لم يتعبد العابدون بمثل البكاء من خيفتى، أما البكاءون من خيفتى فلهم الرفيق لا يشاركون فيه) . وعن وهيب بن الورد أن زكريا قال ليحيى ابنه شيئًا فقال له: يا أبة، إن جبريل أخبرنى أن بين الجنة والنار مفازة لا يقطعها إلا كل بكاء. وقال الحسن: أوحى الله إلى عيسى ابن مريم: أكحل عينيك بالبكاء إذا رأيت البطالين يضحكون. وعن وهب بن منبه عن النبي - عليه السلام - قال: (لم يزل أخى داود باكيًا على خطيئته مدة حياته كلها) ، وكان يلبس الصوف ويفترش الشعر ويصوم يومًا ويفطر يومًا، ويأكل خبز الشعير بالملح والرماد، ويمزج شرابه بالدموع، ولم يُر ضاحكًا بعد الخطيئة، ولا شاخصًا ببصره إلى السماء حياءً من ربه وهذا بعد المغفرة، وكان إذا ذكر خطيئته خر مغشيا عليه يضطرب كأنه أعجب به، فقال: وهذه خطيئة أخرى. وروى عن محمد بن كعب فى قوله تعالى: (وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 188 وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] ، قال: الزلفى: أول من يشرب من الكأس يوم القيامة داود وابنه. قال بعض الناس: أرى هذه الخاصة لشربه دموعه من خشية الله عز وجل وكان عثمان بن عفان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: قد تذكر الجنة والنار ولا تبكى وتبكى من هذا؟ قال: رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لى: (إن القبر أول منزلة من منازل الآخرة، فمن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه) . وقال أبو رجاء: رأيت مجرى الدموع من ابن عباس كالشراك البالى من البكاء. - بَاب الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ / 54 - فيه: حُذَيْفَةَ، وَأَبُو سَعِيد، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يُسِىءُ الظَّنَّ بِعَمَلِهِ، فَقَالَ لأهْلِهِ: إِذَا أَنَا مُتُّ، فَخُذُونِى، فَذَرُّونِى فِى الْبَحْرِ فِى يَوْمٍ صَائِفٍ، فَفَعَلُوا بِهِ، فَجَمَعَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِى صَنَعْتَ؟ قَالَ: مَا حَمَلَنِى إِلا مَخَافَتُكَ، فَغَفَرَ لَهُ) . / 55 - وَقَالَ أَبُو سَعِيد فِى حديثه: (إِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا، فَسَّرَهَا قَتَادَةُ، لَمْ يَدَّخِرْ، وَإِنْ يَقْدَمْ عَلَى اللَّهِ يُعَذِّبْهُ، فَانْظُرُوا، فَإِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِى حَتَّى إِذَا صِرْتُ فَحْمًا، فَاسْحَقُونِى، أَوْ قَالَ: فَاسْهَكُونِى، ثُمَّ إِذَا كَانَ رِيحٌ عَاصِفٌ، فَأَذْرُونِى فِيهَا، فَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَرَبِّي، فَفَعَلُوا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 189 فَقَالَ اللَّهُ: كُنْ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: أَىْ عَبْدِى، مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ، أَوْ فَرَقٌ مِنْكَ، فَمَا تَلافَاهُ أَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ) . قال المؤلف: ذكر البخارى فى باب ما ذكر عن بنى إسرائيل، قال حذيفة: (وكان نباشًا) . قال المؤلف: فغفر الله له بشدة مخافته، وأقرب الوسائل إلى الله خوفه وألا يأمن المؤمن مكره، قال خالد الربعى: وجدت فاتحة زبور داود: رأس الحكمة خشية الربّ. وكان السلف الصالح قد أشرب الخوف من الله قلوبهم واستقلوا أعمالهم ويخافون ألا يقبل منهم مع مجانبتهم الكبائر، فروى عن عائشة: (أنها سألت النبى (صلى الله عليه وسلم) عن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون: 60] ، قال: يا ابنة الصديّق، هم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون، ويخافون ألا يقبل منهم) . وقال مطرف بن عبد الله: كاد خوف النار يحول بينى وبين أن أسأل الله الجنة. وقال بكر، لما نظر إلى أهل عرفات: ظننت أنه قد غفر لهم لولا أنى كنت معهم. فهذه صفة العلماء بالله الخائفين له، يعدون أنفسهم من الظالمين الخاطئين، وهم أنزاه برآه مع المقصرين، وهم أكياس مجتهدون لا يدلون عليه بالأعمال فهم مروّعون خاشعون وجلون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 190 وقال عبد الله بن مسعود: وددت أنى انفلقت عن روثة لا أنتسب إلا إليها، فيقال: عبد الله بن روثة، وأن الله قد غفر لى ذنبًا واحدًا. وقال الحسن البصري: يخرج من النار رجل بعد ألف عام، وليتنى كنت ذلك الرجل، لقد شهدت أقوامًا كانوا أزهد فيما أحل لهم منكم فيما حرم عليكم، ولهم كانوا أبصر بقلوبهم منكم بأبصاركم، ولهم كانوا أشفق أن لا تقبل حسناتهم منكم ألا تؤخذوا بسيئاتكم. وقال حكيم من الحكماء: إذا أردت أن تعلم قدرك عند الله فاعلم قدر طاعة الله فى قلبك. وقال ميمون بن مهران: ما فينا خير إلا أنا نظرنا إلى قوم ركبوا الجرائم وعففنا عنها، فظننا أن فينا خيرًا وليس فينا خير. فإن قال قائل: كيف غفر لهذا الذى أوصى أهله بإحراقه وقد جهل قدرة الله على إحيائه، وذلك أنه قال: (إن يقدر على الله يعذبنى) وقال فى رواية أخرى: (فوالله لئن قدر الله علىَّ ليعذبنى) . قال الطبري: قيل: قد اختلف الناس فى تأويل هذا الحديث، فقال بعضهم: أما ما كان من عفو الله عما كان منه فى أيام صحتّه من المعاصى؛ فلندمه عليها وتوبته منها عند موته، ولذلك أمر ولده بإحراقه وذروه فى البر والبحر خشية من عقاب ربه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 191 والندم توبة، ومعنى رواية من روى: (فوالله لئن قدر الله عليه) أى ضيق عليه، كقوله: (وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) [الطلاق: 7] ، وقوله: (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) [الفجر: 16] ، لم يرد بذلك وصف بارئه بالعجز عن إعادته حيًا، ويبين ذلك قوله فى الحديث حين أحياه ربه (قال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: مخافتك يا رب) . وبالخوف والتوبة نجا من عذابه عز وجل. وقال آخرون فى معنى قوله (لئن قدر الله علىَّ) : معناه القدرة التى هى خلاف العجز، وكان عنده أنه إذا أحرق وذرى فى البر والبحر أعجز ربه عن إحيائه، قالوا: وإنما غفر له جهله بالقدرة؛ لأنه لم يكن تقدم من الله تعالى فى ذلك الزمان بأنه لا يغفر الشرك به، وليس فى العقل دليل على أن ذلك غير جائز فى حكمة الله؛ بل الدليل فيه على أنه ذو الفضل والإحسان والعفو عن أهل الآثام، وإنما نقول: لا يجوز أن يغفر الشرك بعد قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ) [النساء: 48] ، فأما جواز غفران الله ذلك لولا الخبر فى كتابه فهو كان الأولى بفضله والأشبه بإحسانه لأنه لا يضره كفر كافر، ولا ينفعه إيمان مؤمن. وقال آخرون: بل غفر له وإن كان كفرًا من قوله، من أجل أنه قاله على جهل منه بخطئه؛ فظن أن ذلك صواب. قالوا: وغيرجائز فى عدل الله وحكمته أن يسّوى بين من أخطأ وهو يقصد الصواب، وبين من تعمّد الخطأ والعناد للحق فى العقاب. وقال آخرون: إنما غفر له، وإن كان كفرًا ممن قصد قوله وهو يعقل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 192 ما يقول؛ لأنه قاله وهو لا يعقل ما يقول. وغير جائز وصف من نطق بكلمة كفر وهو لا يعلمها كفرًا بالكفر، وهذا قاله وقد غلب على فهمه من الجزع الذى كان لحقه لخوفه من عذاب الله تعالى وهذا نظير الخبر الذى روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الذى يدخل الجنة آخر من يدخلها فيقال له: (إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها) فيقول للفرح الذى يدخله: (يا رب أنت عبدى وأنا ربك مرتين) قالوا فهذا القول لو قاله على فهم منه بما يقول كان كفرًا، وإنما لم يكن منه كفرًا لأنه قاله وقد استخفه الفرح مريدًا به أن يقول: أنت ربى وأنا عبدك، فلم يكن مأخوذًا بما قال من ذلك. ويشهد لصحة هذا المعنى قوله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) [الأحزاب: 5] . قال المؤلف: وسأذكر كلام الأشعرى ومذهبه فى هذا الحديث فى كتاب الاعتصام فى باب قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ) [الفتح: 15] ، فهو حديث أكثر الناس فيه القول إن شاء الله. وقوله: (لم يبتئر خيرًا) فإن الأصمعى والكسائى كانا يقولان فيه: لم يقدم خيرًا. وقال غيرهما: معناه أنه لم يقدم لنفسه خيرًا خبأه لها، وقال: إن أصل الابتئار الإخفاء، يقال منه: بأرت الشىء وابتأرته ابتئارًا، ومنه سميت الحفرة: البؤرة، وفيه لغتان ابتأرت وابتيرت، ومصدره ابتئارًا. وقال صاحب العين: البئرة بوزن فعلة: ما ادخرت من شيء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 193 - بَاب الانْتِهَاءِ عَنِ الْمَعَاصِى / 56 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلِى وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ به كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا، فَقَالَ: رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَىَّ، وَأَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، فَالنَّجَا النَّجَاءَ، فَأَطَاعَتْهُ طَائِفَةٌ، فَأَدْلَجُوا عَلَى مَهْلِهِمْ، فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْهُ طَائِفَةٌ، فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ، فَاجْتَاحَهُمْ) . / 57 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ، وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِى تَقَعُ فِى النَّارِ، يَقَعْنَ فِيهَا، وَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ، فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا، فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا) . / 58 - وفيه: عَبْدَ اللَّه بْنَ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ) . قال المؤلف: هذه أمثال ضربها النبى (صلى الله عليه وسلم) لأمته لينبههم بها على استشعار الحذر، خوف التورّط فى محارم الله والوقوع فى معاصيه، ومثل لهم ذلك بما عاينوه وشاهدوه من أمور الدنيا؛ ليقرب ذلك من أفهامهم، ويكون أبلغ فى موعظتهم، فمثل (صلى الله عليه وسلم) اتباع الشهوات المؤدية إلى النار بوقوع الفراش فى النار؛ لأن الفراش من شأنه اتباع ضوء النار حتى يقع فيها، فكذلك متبع شهوته يئول به ذلك إلى العذاب، وشبهّ جهل راكب الشهوات بجهل الفراش؛ لأنها لا تظن أن النار تحرقها حتى تقتحم فيها. والنذير العريان: رجل من خثعم حمل عليه يوم ذى الخلصة فقطع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 194 يده ويد امرأته، فرجع إلى قومه، فضرب - عليه السلام - المثل لأمته لأنه تجردّ لإنذارهم، لما يصير إليه من اتبعه من كرامة الله، وبما يصير إليه من عصاه من نقمته وعذابه؛ تجرد من رأى من الحقيقة ما رأى النذير العريان الذى قطعت يده ويد امرأته حتى ضرب به المثل فى تحقيق الخبر. وقوله: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) يعنى المهاجر التام الهجرة من هجر المحارم، كما قال (صلى الله عليه وسلم) أن جهاد النفس أكبر من جهاد العدو. - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ - عليه السلام -: (لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلا / 59 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَنَس، عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا) . قال المؤلف: روى سنيد، عن هشيم، عن كوثر بن حكيم، عن نافع، عن ابن عمر قال: (خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى المسجد، فإذا قوم يتحدثون ويضحكون، قال: أكثروا ذكر الموت، أما والذى نفسى بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا) . وخشية الله إنما تكون على مقدار العلم به، كما قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) [فاطر: 28] ، ولما لم يعلم أحد كعلم النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يخش كخشيته، فمن نور الله قلبه وكشف الغطاء عن بصيرته، وعلم ما حباه الله من النعم، وما يجب عليه من الطاعة والشكر، وأفكر فيما يستقبل من أهوال يوم القيامة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 195 وما يلقى العباد فى تلك المواقف من الشدائد، وما يعاينوه من مساءلة الله عباده عن مثاقيل الذر، وعن الفتيل والقطمير كان حقيقًا بكثرة الحزن وطول البكاء، ولهذا قال أبو ذرّ: لو تعلمون العلم ما ساغ لكم طعام ولا شراب، ولا نمتم على الفرش، ولاجتنبتم النساء، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون وتبكون. وقال عبد الله بن عمرو: ابكوا، فإن لم تجدوا بكاءً فتباكوا، فلو تعلمون العلم لصلى أحدكم حتى ينكسر ظهره، ولبكى حتى ينقطع صوته. وقال الفضيل: بلغنى عن طلحة أنه ضحك يومًا فوثب على نفسه، وقال: فيم تضحك، إنما يضحك من قطع الصراط، ثم قال: آليت على نفسى ألا أكون ضاحكًا حتى أعلم متى تقع الواقعة، فلم ير ضاحكًا حتى صار إلى الله. وقال الحسن: يحق لمن عرف أن الموت مورده والقيامة موعده، وأن الوقوف بين يدى الله مشهده، أن يطول فى الدنيا حزنه. وقال سفيان فى قوله تعالى: (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 91] ، قال: الحزن الدائم فى القلب، وقال: إنما الحزن على قدر البصر. وقال بعضهم: الحزن والخشية هى مواريث القلوب التى تُنال بما قبلها من الأعمال، فمن رام أن يقيم فرضه تامًا فيصلى لله بكمال الصلاة، ويصوم بكمال الصيام، ويؤدى كذلك سائر الفرائض، ويقوم بالحق على نفسه وأهله ومن يسأل عنه فى مداخلته ومخالطته، ويقيم ما أمر به فى لسانه وسمعه وبصره، وجميع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 196 جوارحه حتى يدخل فى قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) [فصلت: 30] ، وجد نفسه عن ذلك عاجزًا مقصرًا، فإذا رأى ذلك بعين جلية وعلم قرب أجله وعظيم خطبه، وأن الوقوف بين يدى الله من ورائه حزن على نفسه، بتخلفه عن السابقة التى يسمعها لغيره، ووجب عليه الجد فى أمره واستجلاب معونة الله بالاعتصام به، قال تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 90] . وقال مطرف بن عبد الله: دع أعمال الشر؛ فإن فى الخير شرًا كثيرًا فلو لم تكن لنا ذنوب إلا أن الله تعالى يؤاخذنا بصحة أعمالنا وإتقانها وإحكامها وإصلاحها وصوابها لكان فى هذا شغل كثير لمن يعقل. وقد تقدم فى كتاب الإيمان فى باب خوف المؤمن أن يحبط عمله ولا يشعر ما يشبه هذا المعنى. - بَاب حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ / 60 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ) . / 61 - وفيه: ابْن مَسْعُود، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ) . / 62 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَصْدَقُ كلمة قَالَها الشَّاعِرُ: أَلا كُلُّ شَىْءٍ مَا خَلا اللَّهَ بَاطِلُ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 197 قال المؤلف: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (حجبت النار بالشهوات والجنة بالمكاره) من جوامع الكلم وبديع البلاغة فى ذم الشهوات والنهى عنها، والحض على طاعة الله، وإن كرهتها النفوس وشق عليها؛ لأنه إذا لم يكن يوم القيامة غير الجنة والنار ولم يكن بد من المصير إلى إحداهما فواجب على المؤمنين السعى فيما يدخل إلى الجنة وينقذ من النار، وإن شق ذلك عليهم؛ لأن الصبر على النار أشق، فخرج هذا الخطاب منه (صلى الله عليه وسلم) بلفظ الخبر وهو من باب النهى والأمر. وقوله: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك) فدليل واضح أن الطاعات الموصلة إلى الجنة والمعاصى المقربة من النار قد تكون فى أيسر الأشياء، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقى لها بالا؛ يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالا؛ يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه) . فينبغى للمؤمن ألا يزهد فى قليل من الخير يأتيه، ولا يستقل قليلاً من الشر يجتنيه فيحسبه هينًا، وهو عند الله عظيم، فإن المؤمن لا يعلم الحسنة التى يرحمه الله بها، ولا يعلم السيئة التى يسخط الله عليه بها، وقد قال الحسن البصرى: من تقبلت منه حسنة واحدة دخل الجنة. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أصدق كلمة قالها الشاعر: ألا كل شىء ما خلا الله باطل) فالمراد به الخصوص؛ لأن كل ما قرب من الله فليس بباطل، وإنما أراد أن كل شىء من أمور الدنيا التى لا تئول إلى طاعة الله، ولا تقرب منه فهى باطل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 198 - بَاب لِيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ / 63 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِى الْمَالِ وَالْخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ) . قال الطبرى: وهذا حديث جامع لمعانى الخير، وذلك أن العبد لا يكون بحال من عبادة ربه مجتهدًا فيها؛ إلا وجد من هو فوقه فى ذلك، فمتى طلب نفسه باللحاق بمن هو فوقه استقصر حاله التى هو عليها، فهو أبدًا فى زيادة تقربه من ربه، ولا يكون على حالةٍ خسيسةٍ من دنياه إلا وجد من أهلها من هو أخسّ منه حالا، فإذا تأمل ذلك وتفكره وتبين نعم الله عليه؛ علم أنها وصلت إليه ولم تصل إلى كثير من خلقه، فضله الله بها من غير أمر أوجب ذلك له على خالقه، ألزم نفسه من الشكر عليها أن وفق لها ما يعظم به اغتباطه فى معاده. - بَاب مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ / 64 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً) . قال المؤلف: هذا حديث شريف بينّ فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) مقدار تفضل الله على عباده بأن جعل هموم العبد بالحسنة، وإن لم يعملها حسنة، وجعل همومه بالسيئة إن لم يعملها حسنة، وإن عملها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 199 كتبت سيئة واحدة، وإن عمل الحسنة كتبت عشرًا، ولولا هذا التفضل العظيم لم يدخل أحد الجنة؛ لأن السيئات من العباد أكثر من الحسنات، فلطف الله بعباده بأن ضاعف لهم الحسنات، ولم يضاعف عليهم السيئات، وإنما جعل الهموم بالحسنة حسنةً، لأن الهموم بالخير هو فعل القلب بعقد النية على ذلك. فإن قيل: فكان ينبغى على هذا القول أن يكتب لمن همّ بالشرّ ولم يعمله سيئةً؛ لأن الهموم بالشرّ عمل من أعمال القلب للشرّ. قيل: ليس كما توهمت، ومن كفّ عن فعل الشرّ فقد نسخ اعتقاده للسيئة باعتقاد آخر نوى به الخير وعصى هواه المريد للشرّ، فذلك عمل للقلب من أعمال الخير، فجوزى على ذلك بحسنة، وهذا كقوله (صلى الله عليه وسلم) : (على كل مسلم صدقة. قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشرّ فإنه صدقة) ذكره فى كتاب الأدب فى باب كل معروف صدقة. وحديث ابن عباس معناه الخصوص لمن همّ بسيئة، فتركها لوجه الله تعالى وأما من تركها مكرهًا على تركها بأن يحال بينه وبينها، فلا تكتب له حسنة ولا يدخل فى معنى الحديث. قال الطبرى: وفى هذا الحديث تصحيح مقالة من يقول: إن الحفظة تكتب ما يهم به العبد من حسنة أو سيئة وتعلم اعتقاده لذلك، وردّ مقالة من زعم أن الحفظة، إنما تكتب ما ظهر من عمل العبد وسمع، واحتجوا بما روى ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن كثير بن الحارث، عن القاسم مولى معاوية، عن عائشة زوج النبى (صلى الله عليه وسلم) قالت: (لأن أذكر الله تعالى فى نفسى أحب إلي من أن أذكره الجزء: 10 ¦ الصفحة: 200 بلساني سبعين مرةً، وذلك لأن ملكًا لا يكتبها، وبشرًا لا يسمعها) والصواب فى ذلك ما صح به الحديث عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (من همّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبت له حسنة) والهم بالحسنة إنما هو فعل العبد بقلبه دون سائر الجوارح، كذكر الله بقلبه، فالمعنى الذى به يصل الملكان الموكلان بالعبد إلى علم ما يهم به بقلبه؛ هو المعنى الذى به يصل إلى علم ذكر ربه بقلبه، ويجوز أن يكون جعل الله لهما إلى علم ذلك سبيلاً كما جعل لكثير من أنبيائه السبيل إلى كثير من علم الغيب، وقد أخبر الله عن عيسى ابن مريم أنه قال لبنى إسرائيل: (وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ) [آل عمران: 49] ، وقد أخبر نبينا (صلى الله عليه وسلم) بكثير من علم الغيب، قالوا: فغير مستنكر أن يكون الكاتبان الموكلان بابن آدم، قد جعل لهما سبيلاً إلى علم ما فى قلوب بنى آدم من خير أو شرٍّ، فيكتبانه إذا حدث به نفسه أو عزم عليه. وقد قيل: إن ذلك بريح يظهر لهما من القلب، سئل أبو معشر عن الرجل يذكر الله بقلبه، كيف يكتب الملك؟ قال: يجد الريح. وسأذكر اختلاف السلف فى أى الذكرين أعظم ثوابًا الذكر الذى هو بالقلب أو الذكر الذى هو باللسان عند قوله (صلى الله عليه وسلم) عن الله تعالى: (وإن ذكرنى عبدى فى نفسه ذكرته فى نفسى) فى باب قوله تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران: 28] فى كتاب الاعتصام. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 201 - بَاب مَا يُتَّقَى مِنْ مُحَقرَاتِ الذُّنُوبِ / 65 - فيه: أَنَس، إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالا هِىَ أَدَقُّ فِى أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْمُوبِقَاتِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: يَعْنِى الْمُهْلِكَاتِ. قال المؤلف: إنما كانوا يعدون الصغائر من الموبقات لشدة خشيتهم لله، وإن لم تكن لهم كبائر، ألا ترى أن إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) إذا سئل الشفاعة يوم القيامة يذكر ذنبه، وأنه كذب ثلاث كذبات، وهى قوله فى زوجته: هذه أختى. وهى أخته فى الدين، وقوله: إنى سقيم. أى: سأسقم، وقوله: فعله كبيرهم هذا. يعنى الصنم، فرأى ذلك (صلى الله عليه وسلم) من الذنوب، وإن كان لقوله وجه صحيح، فلم يقنع من نفسه إلا بظاهر يطابق الباطن، وهذا غاية الخوف. والمحقرات إذا كثرت صارت كبائر بالإصرار عليها والتمادى فيها، وقد روى ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أسلم أبى عمران أنه سمع أبا أيوب يقول: إن الرجل ليعمل الحسنة فيثق بها ويغشى المحقرات، فيلقى الله يوم القيامة وقد أحاطت به خطيئته، وإن الرجل ليعمل السيئة، فما يزال منها مشفقًا حذرًا حتى يلقى الله يوم القيامة آمنًا. وذكر أسد بن موسى عن ابن مسعود قال: إياكم ومحقرات الذنوب، فإنها تجتمع حتى تهلك صاحبها، وإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد ضرب لنا مثلاً كمثل ركب نزلوا بأرض فلاة، فلم يجدوا فيها حطبًا، فانطلق كل واحدٍ منهم، فجاء بعود حتى اجتمعت أعواد، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 202 فأوقدوا نارًا أنضجت ما جعل فيها) ورواه سهل بن سعد عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وقال أبو عبد الرحمن الحبلى: مثل الذى يجتنب الكبائر ويقع فى المحقرات، كرجل لقاه سبع فاتقاه حتى نجا منه، ثم لقيه فحل إبل فاتقاه فنجا منه، فلدغته نملة فأوجعته، ثم أخرى، ثم أخرى حتى اجتمعن عليه فصرعنه، وكذلك الذى يجتنب الكبائر ويقع فى المحقرات. وقال أبو بكر الصديق: إن الله يغفر الكبائر فلا تيئسوا، ويعذب على الصغائر فلا تغتروا. - بَاب الأعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ وَمَا يُخَافُ مِنْهَا / 66 - فيه: سَهْل، نَظَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى رَجُلٍ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنْهُمْ، فَقَالَ: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا) ، فَتَبِعَهُ رَجُلٌ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جُرِحَ، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَقَالَ بِذُبَابَةِ سَيْفِهِ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا الأعْمَالُ بِالْخَوَاتِيم) . قال المؤلف: فى تغييب الله عن عباده خواتيم أعمالهم حكمة بالغة وتدبير لطيف، وذلك أنه لو علم أحد خاتمة عمله لدخل الإعجاب والكسل من علم أنه يختم له بالإيمان، ومن علم أنه يختم له بالكفر يزداد غيًا وطغيانًا وكفرًا فاستأثر الله تعالى بعلم ذلك ليكون العباد بين خوف ورجاء، فلا يعجب المطيع لله بعمله ولا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 203 ييأس العاصي من رحمته، ليقع الكل تحت الذل والخضوع لله والافتقار إليه، وقال حفص بن حميد: قلت لابن المبارك: رأيت رجلاً قتل رجلاً، فوقع فى نفسى أنى أفضل منه. فقال عبد الله: أمنك على نفسك أشد من ذنبه. قال الطبرى: ومعنى قوله: إن أمنه على نفسه أنه من الناجين عند الله من عقابه أشد من ذنب القاتل؛ لأنه لا يدرى إلى ما يئول إليه أمره وعلى من يموت، ولا يعلم أيضًا حال القاتل إلى ما يصير إليه، لعله يتوب فيموت تائبًا فيصير إلى عفو الله، وتصير أنت إلى عذابه لتغير حالك من الإيمان بالله إلى الشرك به، فالمؤمن فى حال إيمانه وإن كان عالمًا بأنه محسن فيه، غير عالم على ما هو ميت عليه، وإلى ما هو صائر إليه، فغير جائز أن يقضى لنفسه، وإن كان محسنًا بالحسنى عند الله، ولغيره وإن كان مسيئًا بالسوء، وعلى هذا مضى خيار السلف. - بَاب الْعُزْلَةُ رَاحَةٌ مِنْ خُلطاء السُّوءِ / 67 - فيه: أَبُو سَعِيد، جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: (رَجُلٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَرَجُلٌ فِى شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ وَيَدَعُ، النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ) . / 68 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَأْتِى عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، خَيْرُ مَالِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ الْغَنَمُ، يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ) . فيه: أن اعتزال الناس عند ظهور الفتن والهرب عنهم أسلم للدين من مخالطتهم، ذكر على بن معبد، عن الحسين بن واقد قال: قال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 204 النبي - عليه السلام - (إذا كانت سنة ثمانين ومائة فقد أحللت لأمتي العزبة والعزلة والترهب فى رءوس الجبال) . وذكر على بن معبد عن عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة، عن الحسن يرفعه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (يأتى على الناس زمان لا يسلم لذى دين دينه، إلا من فرّ بدينه من شاهق إلى شاهق وحجر إلى حجر، فإذا كان كذلك لم تنل المعيشة إلا بمعصية الله، فإذا كان كذلك حلت العزلة، قالوا: يا رسول الله، كيف تحل العزلة وأنت تأمرنا بالتزويج؟ قال: إذا كان كذلك كان هلاك الرجل على يدى أبويه، فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدى زوجته، فإن لم تكن له زوجة كان هلاكه على يدى ولده، فإن لم يكن له ولد كان هلاكه على يدى القرابات والجيران. قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: يعيرونه بضيق المعيشة ويكلفونه ما لا يطيق، فعند ذلك يورد نفسه الموارد التى يهلك فيها) . وقال صاحب العين: شعف الجبال: رءوسها، وكذلك شعف الأثافى، وشعفة كل شىء: أعلاه، ومواقع القطر: بطون الأودية، والشعب: ما انفرج بين جبلين، عن صاحب العين. 30 - بَاب رَفْعِ الأمَانَةِ / 69 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا ضُيِّعَتِ الأمَانَةُ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ) ، قَالَ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 205 كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (إِذَا أُسْنِدَ الأمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ) . / 70 - وفيه: حُذَيْفَة، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ، حَدَّثَنَا: (أَنَّ الأمَانَةَ نَزَلَتْ فِى جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ) . وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا، قَالَ: (يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ الأمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ، فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَىْءٌ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فَلا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّى الأمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِى بَنِى فُلانٍ رَجُلا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ، وَمَا أَظْرَفَهُ، وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ. . .) الحديث. / 71 - فيه: ابْن عُمَرَ، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّمَا النَّاسُ كَالإبِلِ الْمِائَةِ، لا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً) . قال المؤلف: حديث أبى هريرة وحذيفة من أعلام النبوة؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) ذكر فيها فساد أديان الناس وتغير أماناتهم، وقد ظهر كثير من ذلك. وقوله: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) هو كلام مجمل أحب الأعرابى السائل النبي - عليه السلام - شرحه له فقال له: (كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله) فأجابه (صلى الله عليه وسلم) بجواب عام دخل فيه تضييع الأمانة، وما كان فى معناها مما لا يجرى على طريق الحق، كاتخاذ العلماء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 206 الجهال عند موت أهل العلم، واتخاذ ولاة الجور وحكام الجور عند غلبة الباطل وأهله، وقد ذكر ابن أبى شيبة من حديث المقبرى عن أبى هريرة قال: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (سيأتى على الناس سنوات خداّعات يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه فى أمر العامة) وقد رأينا أكثر هذه العلامات وما بقى منها فغير بعيد، روى ابن عيينة عن عبد العزيز بن رفيع قال: سمعت شداد بن معقل قال: سمعت ابن مسعود يقول: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة. وروى يونس بن زيد، عن الزهرى، عن الصنابحى، عن حذيفة قال: لتنقضن عُرى الإسلام عروة عروة، ويكون أول نقضه الخشوع. وقد تقدّم معنى حديث حذيفة وما فيه من غرائب اللغة فى باب إذا بقى فى حثالة من الناس فى كتاب الفتن. وقوله: (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) يريد (صلى الله عليه وسلم) أن الناس كثير والمَرْضِّى منهم قليل، كما أن المائة من الإبل لا تكاد تصاب فيها الراحلة الواحدة وهذا الحديث إنما يراد به القرون المذمومة فى آخر الزمان، ولذلك ذكره البخارى فى رفع الأمانة، ولم يرد به (صلى الله عليه وسلم) زمن أصحابه وتابعيهم؛ لأنه قد شهد لهم بالفضل فقال: (خير القرون قرنى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجئ بعدهم قوم يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون. .) الحديث، فهؤلاء أراد بقوله: (الناس كإبل مائة) والله الموفق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 207 31 - بَاب الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ / 72 - فيه: جُنْدَب، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِى يُرَائِى اللَّهُ بِهِ) . قال المؤلف: قوله: (من سمع) معناه من سمع بعمله الناس وقصد به اتخاذ الجاه والمنزلة عندهم، ولم يرد به وجه الله، فإن الله تعالى يسمع به خلقه، أى يجعله حديثًا عند الناس الذى أراد نيل المنزلة عندهم بعمله، ولا ثواب له فى الآخرة عليه، وكذلك من راءى بعمله الناس راءى الله به، أى أطلعهم على أنه فعل ذلك لهم ولم يفعله لوجهه، فاستحق على ذلك سخط الله وأليم عقابه، وقد جاء فى الحديث عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (يقال للعبد يوم القيامة: فعلت كذا وكذا ليقال فقد قيل، اذهبوا به إلى النار) . قال الطبرى: فإن قال قائل: كيف يسلم من الرياء فى العمل الظاهر، وقد روى عن عمر وعثمان وابن مسعود وجماعة من السلف أنهم كانوا يتهجدون من الليل فى مساجدهم بحيث يعلم ذلك من فعلهم معارفهم، وكانوا يتذاكرون إظهار المحاسن من أعمالهم مع ما تواترت به الآثار أن أفضل العمل ما استّسر به صاحبه، وذلك على نوعين: فأما من كان إمامًا يقتدى به ويُستن بعمله، عالمًا بما لله عليه فى فرائضه ونوافله، قاهرًا لكيد عدوه، فسواء عليه ما ظهر من عمله وما خفى منه؛ لإخلاصه نيته لله وانقطاعه إليه بعمله، بل إظهاره ما يدعو عباد الله إلى الرغبة فى مثل حاله من أعماله السالمة أحسن إن شاء الله تعالى. وإن كان ممن لا يقتدى به، ولا يأمن من عدوه قهره، ومن هواه غلبته حتى يفسد عليه عمله؛ فإخفاؤه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 208 النوافل أسلم له، وعلى هذا كان السلف الصالح، روى حماد، عن ثابت، عن أنس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه: (سمع رجلاً يقرأ ويرفع صوته بالقرآن فقال: أواب. وسمع آخر يقرأ فقال: مرائى. فنظروا فإذا الأوّاب المقداد بن عمرو) وروى الزهرى، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة: (أن عبد الله بن حذافة صَلّى فجهر بالقراءة، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : يا ابن حذافة، لا تسمعنى وأسمع الله) . قال وهيب بن الورد: لقى عالم عالمًا هو فوقه فى العلم، فقال: يرحمك الله ما الذى أخفى من عملى؟ قال: حتى يظن بك أنك لم تعمل حسنةً قط إلا الفرائض. قال: يرحمك الله فما الذى أعلن؟ قال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وقال الحسن: لقد أدركت أقوامًا ما كان أحدهم يقدر على أن يُسر عمله فيعلنه، قد علموا أن أحرز العملين من الشيطان عمل السرّ، قال: وإن كان أحدهم ليكون عنده الزور وإنه ليصلى وما يشعر به زوره. وكان عمل الربيع بن خثيم سرًا كان يقرأ فى المصحف، ويدخل عليه الداخل فيغطيه. وقال بشر بن الحارث: لما ودع الخضر داود، عليهما السلام، قال له: ستر الله عليك بطاعته. وروى عن ابن سيرين قال: نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض صوته، وكان عمر يرفع صوته، فقيل لأبى بكر: لم تصنع هذا؟ قال: أناجى ربى وقد علم حاجتى. قيل: أحسنت. وقيل لعمر: لم تصنع هذا؟ قال: أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان. قال: أحسنت. فلما نزلت: (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) [الإسراء: 110] ، قيل لأبى بكر: ارفع شيئًا، وقيل لعمر: اخفض شيئًا. فهؤلاء الأئمة المقتدى بهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 209 32 - بَاب مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِى طَاعَةِ اللَّهِ / 73 - فيه: مُعَاذ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا رَدِيفُ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) لَيْسَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ إِلا آخِرَةُ الرَّحْلِ، فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ) ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثلاث مرات، قَالَ: (هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ) ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوهُ) ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لا يُعَذِّبَهُمْ) . قال المؤلف: جهاد المرء نفسه هو الجهاد الأكبر وحرب العدو الأضر قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى) [النازعات: 40، 41] . وروى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال لأصحابه، وقد انصرفوا من الجهاد: (أتيتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. قالوا: وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ قال: مجاهدة النفس) . وقال سفيان الثورى: ليس عدوك الذى إن قتلته كان لك به أجر، إنما عدوك نفسك التى بين جنبيك، فقاتل هواك أشد مما تقاتل عدوك. وقال أويس القرني لهرم بن حيان: ادع الله أن يصلح قلبك ونيتك فإنك لن تعالج شيئًا هو أشدّ عليك منهما، بينما قلبك مقبل إذ هو مدبر، فاغتنم إقباله قبل إدباره، والسلام عليك. وقال علي بن أبي طالب: أول ما تفقدون من دينكم جهاد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 210 أنفسكم. وقد يكون جهاد النفس منعها الشهوات المباحة توفيرًا لها فى الآخرة؛ لئلا تدخل فى معنى قوله: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا) [الأحقاف: 20] الآية، وعلى هذا جرى سلف الأمّة، وقال سالم الخواص: أوحى الله إلى داود: لا تقرب الشهوات، فإنى خلقتها لضعفاء خلقى، فإن أنت قربتها، أهون ما أصنع بك أسلبك حلاوة مناجاتى، يا داود، قل لبنى إسرائيل، لا تقربوا الشهوات، فالقلب المحجوب بالشهوات حجبت صوته عنى. قد تقدم معنى قوله: (هل تدرى ما حق الله على عباده) فى باب من أجاب بلبيك وسعديك فى كتاب الاستئذان، وسنأتى بزيادة فى بيانه فى باب قوله تعالى: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء) [هود: 7] فى كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى. 33 - بَاب التَّوَاضُعِ / 74 - فيه: أَنَس، كَانَتْ نَاقَة النَّبِىّ، لا تُسْبَقُ، فَجَاءَ أَعْرَابِىٌّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ فَسَبَقَهَا، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَالُوا: سُبِقَتِ الْعَضْبَاءُ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ لا يَرْفَعَ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا إِلا وَضَعَهُ) . / 75 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا، فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 211 الَّتِي يَمْشِى بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِى لأعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِى عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ) . قال المؤلف: فى حديث أنس بيان مكان الدنيا عند الله من الهوان والضعة، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن حقًا على الله ألا يرفع شيئًا من الدنيا إلا وضعه) فنبّه بذلك أمته (صلى الله عليه وسلم) على ترك المباهاة والفخر بمتاع الدنيا، وأن ما كان عند الله فى منزلة الضعة، فحق على كل ذى عقل الزهد فيه وقلة المنافسة فى طلبه، وترك الترفع والغبطة بنيله، لأن المتاع به قليل والحساب عليه طويل. وفى حديث أبى هريرة من معنى الباب أن التقرب إلى الله بالنوافل حتى تستحق المحبة منه تعالى لا يكون ذلك إلا بغاية التواضع والتذلل له. وفيه أن النوافل إنما يزكو ثوابها عند الله لمن حافظ على فرائضه وأداها. ورأيت لبعض الناس أن معنى قوله تعالى: (فأكون عينيه اللتين يبصر بهما وأذنيه ويديه ورجليه) قال: وجه ذلك أنه لا يحرك جارحة من جوارحه إلا فى الله ولله، فجوارحه كلها تعمل بالحق، فمن كان كذلك لم تُردّ له دعوة. وقد جاء فى فضل التواضع آثار كثيرة، روى الطبرى من حديث شعبة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (ما تواضع رجل إلا رفعه الله بها درجةً) وعن عكرمة، عن ابن عباس أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (ما من بنى آدم أحد إلا وفى رأسه سلسلتان: إحداهما فى السماء السابعة، والأخرى فى الأرض السابعة، فإذا تواضع رفعه الله بالسلسلة التى فى السماء، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 212 وإذا أراد أن يرفع رأسه وضعه الله) وقالت عائشة: إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة: التواضع. قال الطبرى: والتواضع من المحن التى امتحن الله بها عباده المؤمنين، لينظر كيف طاعتهم إياه فيها، ولما علم تعالى من مصلحة خلقه فى ذلك فى عاجل دنياهم وآجل أخراهم، فمصلحة الدنيا به لو استعمله الناس لارتفع والله أعلم الشحناء بينهم والعداوة، واستراحوا من تعب المباهاة والمفاخرة والتذوا بما قسم لهم، وكان لهم فيه صلاح ذات البين وارتفاع الحسد والشح. روى النعمان بن بشير عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (للشيطان مَضاَل وفخوخ، منها البطر بأنعم الله، والفخر بعطاء الله، والتكبر على عباد الله) . وتواضعه (صلى الله عليه وسلم) معلوم لا يحصى، ومنه أنه لما دخل مكة جعل الناس يقولون: هو هذا، هو هذا، فجعل يُحنى ظهره على الرحل ويقول: (الله أعلى وأجل) وهذه سيرة السلف المهديين. روى سفيان، عن أيوب الطائى، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: لما قدم عمر الشام عرضت له مخاضة، فنزل عن بعيره ونزع خفيه، فأمسكهما بيده، وخاض الماء ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة: لقد صنعت اليوم صنيعًا عظيمًا عند أهل الأرض. فصكّ فى صدره وقال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذّل الناس وأحقر الناس، فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تطلبون العز فى غيره يذلكم الله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 213 وروى ابن وهب بإسناده عن أبى هريرة أنه أقبل فى السوق يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة لمروان فقال: أوسع الطريق للأمير. فقيل له: تكفى، أصلحك الله. فقال: أوسع الطريق، والحزمة عليه. وعن عبد الله بن سلام أنه خرج من حائط له بحزمة حطب يحملها فقيل له: لقد كان فى ولدك وعبيدك من يكفيك هذا. قال: أردت أن أجرب قلبى هل ينكر هذا. وعن سالم بن عبد الله أنه كان يخرج إلى السوق فيشترى حوائج نفسه. وكان الربيع بن خثيم يكنس الحشّ بنفسه، فقيل له: إنك تكفى هذا. فقال: أحب أن آخذ نصيبى من المهنة. ولو تقصينا تواضعهم، رضى الله عنهم، لطال به الكتاب، وفيما ذكرناه دليل على ما تركناه إن شاء الله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 214 كِتَاب فَضَائِلِ الْقُرْآنِ - باب كَيْفَ نَزَلَ الْوَحْىُ وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُهَيْمِنُ الأمِينُ، الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ. / 1 - فيه: عَائِشَة، وَابْنُ عَبَّاس، لَبِثَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا. / 2 - وَقَالَ أَبُو عُثْمَان: أُنْبِئْتُ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَعِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ، فَجَعَلَ يَتَحَدَّثُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لأمِّ سَلَمَةَ: (مَنْ هَذَا) ؟ أَوْ كَمَا قَالَ، قَالَتْ: هَذَا دِحْيَةُ، فَلَمَّا قَامَ، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا حَسِبْتُهُ إِلا إِيَّاهُ حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يُخْبِرُ خَبَرَ جِبْرِيلَ، أَوْ كَمَا قَالَ. / 3 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنَ الأنْبِيَاءِ نَبِىٌّ إِلا أُعْطِىَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِى أُوتِيتُ وَحْيًا، أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَىَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . / 4 - وفيه: أَنَس، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَابَعَ عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) قَبْلَ وَفَاتِهِ حَتَّى تَوَفَّاهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ الْوَحْىُ، ثُمَّ تُوُفِّىَ (صلى الله عليه وسلم) بَعْدُ. / 5 - وفيه: جُنْدَب، اشْتَكَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، مَا أُرَى شَيْطَانَكَ إِلا قَدْ تَرَكَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) [الضحى: 2] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 215 قال المؤلف: معنى هذا الباب إثبات نزول الوحي على النبي - عليه السلام - وأن جبريل - عليه السلام - نزل عليه به، ومصداق هذه الأحاديث في قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ) [الشعراء: 192 - 194] . وقال أهل التفسير: الروح الأمين جبريل. وذكر أبو عبيد عن يزيد بن هارون، عن داود بن أبى هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا فى ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك فى عشرين سنة، وقرأ: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً) [الإسراء: 106] . وقال أبو عبيد: وحدثنا ابن أبى عدى، عن داود بن أبى هند قال: قلت للشعبى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِىَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة: 185] ، أما نزل عليه القرآن فى سائر السنة إلا فى شهر رمضان؟ قال: بلى، ولكن جبريل كان يعارض محمدًا بما نزل عليه فى سائر السنة فى شهر رمضان. وذكر أبو عبيد بإسناده عن جابر بن عبد الله قال: أول شىء نزل من القرآن: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ) [المدثر: 1، 2] . قال ابن عباس: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق: 1] هى أول شىء نزل على محمد. وهو قول مجاهد وزاد: (ن وَالْقَلَمِ) [القلم: 1] . وأما آخر القرآن نزولاً، فقال عثمان بن عفان: كانت براءة من آخر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 216 القرآن نزولاً، وقال البراء: آخر آية نزلت: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلاَلَةِ) [النساء: 176] . وقال ابن عباس: وآخر ما أنزل على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) آية الربا. وقال عطاء وابن شهاب آخر القرآن عهدًا بالعرش آية الربا وآية الدين) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة: 281] . واختلف فى مدة بقاء النبى بمكة، فروى أبو سلمة عن ابن عباس وعائشة فى هذا الباب: أنه (صلى الله عليه وسلم) أقام بمكة عشر سنين. وذكر البخارى فى كتاب مبعث النبى (صلى الله عليه وسلم) فى باب الهجرة، من رواية عكرمة، وعمرو بن دينار، عن ابن عباس، أنه (صلى الله عليه وسلم) أقام بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه. ولم يختلف فى مدة بقائه (صلى الله عليه وسلم) بالمدينة أنه كان عشرًا، وسيأتى فى كتاب الاعتصام الكلام فى حديث أبى هريرة إن شاء الله. - باب نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا (،) بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُبِينٍ) [الشعراء: 195] / 6 - فيه: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: فَأَمَرَ عُثْمَانُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، أَنْ يَنْسَخُوهَا فِى الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِى عَرَبِيَّةٍ مِنْ عَرَبِيَّةِ الْقُرْآنِ، فَاكْتُبُوهَا بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 217 / 7 - وفيه: يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، كَانَ يَقُولُ: لَيْتَنِى أَرَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْوَحْىُ، فَلَمَّا كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْجِعْرَانَةِ عَلَيْهِ، ثَوْبٌ قَدْ أَظَلَّ عَلَيْهِ وَمَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِى رَجُلٍ أَحْرَمَ فِى جُبَّةٍ بَعْدَ مَا تَضَمَّخَ بِطِيبٍ؟ فَنَظَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) سَاعَةً، فَجَاءَهُ الْوَحْيُ، فَأَشَارَ عُمَرُ إِلَى يَعْلَى، أَنْ تَعَالَ، فَجَاءَ يَعْلَى، فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ، فَإِذَا هُوَ مُحْمَرُّ الْوَجْهِ، يَغِطُّ كَذَلِكَ سَاعَةً، ثُمَّ سُرِّىَ عَنْهُ، فَقَالَ: (أَيْنَ الَّذِى يَسْأَلُنِى عَنِ الْعُمْرَةِ آنِفًا) ؟ فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ، فَجِىءَ بِهِ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (أَمَّا الطِّيبُ الَّذِى بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا، ثُمَّ اصْنَعْ فِى عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِى حَجِّكَ) . قال المهلب: فى حديث أنس عن عثمان بن عفان معنى الترجمة. فإن قال قائل: فما وجه حديث يعلى بن أمية فى هذا الباب؟ . قيل: معناه أن الوحى كله من قرآن وسنة نزل بلسان العرب قريش وغيرهم من طوائف العرب كلها، وأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يخاطب من الوحى كله إلا بلسان العرب، وبه تكلم النبى للسائل له عن الطيب للمحرم، وبين هذا قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم: 4] . فهذا حتم من الله تعالى لكل أمة بعث إليها رسولاً ليبين لهم ما أنزل إليهم من ربهم، فإن عزب معناه على بعض من سمعه؛ بينه الرسول له بما يفهمه المبين له، ودل قول عثمان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 218 إذا اختلفتم في عربية من عربية القرآن فاكتبوها بلسان قريش، فإنه نزل بلسانهم على تشريف قريش على سائر الناس وتخصيصهم بالفضيلة الباقية إلى الأبد حين اختار الله إثبات وحيه الذى هدى به من الضلالة بلغتهم تعبيره بلسانهم وحسبك بهذا من شرف باق. قال أبو بكر بن الطيب: ومعنى قول عثمان: فإنه نزل بلسان قريش، يريد معظمه وأكثره، ولم تقم دلالة قاطعة على أن القرآن بأسره منزل بلغة قريش فقط، وأنه لا شىء فيه من لغة غيرهم؛ فإنه قد ثبت أن فى القرآن همزًا كثيرًا وثبت أن قريشًا لا تهمز وثبت فيه كلمات وحروف هى خلاف لغة قريش، وقد قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) [الزخرف: 3] ، ولم يقل قرشيًا، وهذا يدل أنه منزل بجميع لسان العرب؛ وليس لأحد أن يقول أراد قريشًا من العرب دون غيرها، كما أنه ليس له أن يقول أراد لغة عدنان دون قحطان، أو ربيعة دون مضر؛ لأن اسم العرب يتناول جميع هذه القبائل تناولاً واحدًا. ولو ساغ لمدع أن يدعى أنه أراد قبيلة من قبائل العرب لساغ لآخر أن يقول: إن قوله أنه منزل بلسان قريش أنه أريد به قبيلة من قريش دون غيرها، ومن قال هذا فقد ظهر تخليطه. وقد قال سعيد بن المسيب: نزل القرآن بلغة هذا الحى من لدن هوازن وثقيف إلى ضربه. وقال ابن عباس: نزل القرآن بلغة قريش ولسان خزاعة، وذلك أن الدار كانت واحدة، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (أنا أفصحكم لأنى من قريش، ونشأت فى بنى سعد بن بكر) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 219 فلا يجب لذلك أن يكون القرآن منزلاً بلغة بنى سعد بن بكر؛ بل لا يمتنع أن ينزل بلغة أفصح العرب وبلغة من هو دونهم فى الفصاحة؛ إذا كانت فصاحتهم غير متفاوتة. وقد جاءت الروايات بأن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يقرأ بلغة قريش وغير لغتها. فروى ابن أبى شيبة عن الفضل بن أبى خلدة قال: سمعت أبا العالية يقول: قرئ القرآن على النبى (صلى الله عليه وسلم) من خمسة رجال فاختلفوا فى اللغة فرضى قراءتهم كلها. وكانت بنو تميم أعرب القوم، فهذا يدل أنه كان يقرأ بلغة تميم وخزاعة وأهل لغات مختلفة، قد أقر جميعها ورضيها. 3 - باب جَمْعِ الْقُرْآنِ / 8 - فيه: زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، أَرْسَلَ إِلَىَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِى اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِى، فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَإِنِّى أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنِّى أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِى حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِى لِذَلِكَ، وَرَأَيْتُ فِى ذَلِكَ الَّذِى رَأَى عُمَرُ، قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْىَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِى نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 220 أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِى خُزَيْمَةَ الأنْصَارِىِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) [التوبة: 128] حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِى بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ. / 9 - وفيه: أَنَس أنّ حُذَيْفَة قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ، وَكَانَ يُغَازِى أَهْلَ الشَّأْمِ فِى فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلافُهُمْ فِى الْقِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الأمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِى الْكِتَابِ اخْتِلافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِى إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِى الْمَصَاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِى الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِى شَىْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِى الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِى كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِى خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أنَّهُ سَمِعَ أباه زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، قَالَ: فَقَدْتُ آيَةً مِنَ الأحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 221 قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقْرَأُ بِهَا، فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأنْصَارِىِّ: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب: 23] ، فَأَلْحَقْنَاهَا فِى سُورَتِهَا فِى الْمُصْحَفِ. قال أبو بكر بن الطيب: فإن قال قائل: ما وجه نفور أبى بكر وزيد بن ثابت مع فضلهما عن جمع القرآن؟ فالجواب: أنهما لم يجدا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد بلغ فى جمعه إلى هذا الحد من الاحتياط من تجليده، وجمعه بين لوحين، فكرها أن يجمعاه جزعًا من أن يحلا أنفسهما محل من يجاوز احتياطه للدين احتياط رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فلما أنبههما عمر، وقال: هو والله خير. وخوفهما من تغير حال القرآن فى المستقبل؛ لقلة حفظته، ومصيره إلى حالة الخفاء والغموض بعد الاستفاضة والظهور، علما صواب ما أشار به وأنه خير، وأن فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليس على الوجوب، ولا تركه لما تركه على الوجوب إلا أن يكون قد بين فى شريعته أن مثل فعله لما فعله، أو تركه لمثل ما تركه لازم لنا وواجب علينا، فلما علما أنه لم يحظر جمع القرآن ولا منع منه بسنة ولا بنص آية، ولا هو مما يفسده العقل ويحيله، ولا يقتضى فساد شىء من أمر الدين ولا مخالفة رأى صواب ما أشار به عمر، وأسرعا إليه كما فعل عمر وسائر الصحابة فى رجوعهم إلى رأى أبى بكر فى قتاله أهل الردة، ورأوا ذلك صوابًا لم يشكوا فيه. وربما يشمئز الإنسان أحيانًا من فعل المباح المطلق ويسبق إلى قلبه أنه ليس مما له فعله لفرط احتياطه وتحريه، ثم تبين له بعد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 222 ذلك أنه مما له فعله، كرجل قيل له: قد سقط عنك فرض الجهاد والصيام والصلاة قائما لزمانتك وعجزك. فأنكر مفارقة العادة عند أول وهلة، فلما رجع إلى نفسه، وعلم أن الصيام يجهده والحركة والقيام يزيده فى مرضه علم جواز تركه. وقد تقدم فى كتاب الأحكام فى باب يستحب للكاتب أن يكون أمينًا عاقلاً زيادة بيان فى تصويب جمع الصديق للقرآن وأنه من أعظم فضائله. قال أبو بكر بن الطيب: فإن قيل: فما وجه جمع عثمان الناس على مصحفه، وقد سبقه أبو بكر إلى ذلك وفرغ منه؟ قيل لهم: إن عثمان لم يقصد بما صنع جمع الناس على تأليف المصحف فقط، ولا كان التشاجر الواقع فى أيامه فى إقرارهم أنه كتاب الله بأسره، وإنما اختلفوا فى القراءات، فاشتد الأمر فى ذلك بينهم وعظم اختلافهم وتشتتهم، وأظهر بعضهم إكفار بعض والبراءة منه، وتلاعن أهل الشام وأهل العراق، وكتب الناس بذلك إلى عثمان من الأمصار وناشدوه الله فى جمع الكلمة ورفع الشتات والفرقة، فجمع عثمان المهاجرين والأنصار وجلة أهل الإسلام وشاورهم فى ذلك فاتفقوا على جمع القرآن وعرضه وأخذه للناس بما صح وثبت من القراءات المشهورة عن النبي - عليه السلام -، وطرح ما سواها واستصوبوا رأيه، وكان رأيًا سديدًا موفقا، فرحمة الله عليه وعليهم. وقد ذكر أبو عبيد بإسناده عن على بن أبى طالب قال: لو وليت لفعلت فى المصاحف الذى فعل عثمان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 223 قال غيره وقوله: (حتى وجدت آخر التوبة مع أبى خزيمة الأنصارى لم أجدها مع أحد غيره) يدل على تصحيح الروايات الأخر أن الصديق أمر زيدًا ألا يثبت آية فى المصحف إلا بشاهدين يشهدان عليها. وقال أبو بكر بن الطيب: وجه طلبه للشاهدين أن إثبات القرآن حكم من أحكام الشريعة، ولا يجب إمضاء حكم فى الشريعة إلا بشاهدين عدلين. ويحتمل أن يكون أمره بطلب الشاهدين فيما لا يحفظه زيد من كلمات القرآن، وقد ورد بذلك خبر. وروى أسامة بن زيد عن القاسم بن محمد قال: قال أبو بكر لزيد بن ثابت: اقعد فمن آتاك من القرآن بما لا تحفظه ولم تقرأه بشاهدين فاقبله. ولسنا ننكر أن يكون أبو بكر أمر زيدًا بطلب الشاهدين على كل ما يؤتى به مما يحفظه ومما لا يحفظه؛ لأجل حاجته إلى إمضاء الحكم من جهة الظاهر. قال المؤلف: وأفضل ما قيل فى ذلك، ما حدثنا به عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد، قال: حدثنا على بن محمد بن لؤلؤ ببغداد، قال: حدثنا أحمد بن الصقر بن ثوبان، قال: حدثنا محمد بن عبيد بن حساب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبى قلابة، عن رجل من بنى تميم يقال له، أحسب، أنس بن مالك، قال: اختلف المعلمون فى القرآن حتى اقتتلوا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 224 فبلغ ذلك عثمان، فقال: عندى تختلفون وتكذبون به وتلحنون فيه؟ يا أصحاب محمد اجتمعوا، فاكتبوا للناس إمامًا يجمعهم، فكانوا فى المسجد فكثروا، فكانوا إذا تماروا فى الآية يقولون: إنه أقرأ رسول الله هذه الآية فلان بن فلان، وهو على رأس أميال من المدينة، فيبعث إليه فيجئ، فيقولون: كيف أقرأك رسول الله آية كذا وكذا؟ فيكتبون كما قال. رواه إسماعيل بن إسحاق، عن سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبى قلابة، قال: حدثنى من كان يكتب معهم، قال حماد: أظنه أنس بن مالك القشيرى، قال: كانوا يختلفون فى الآية، فيقولون: أقرأها رسول الله فلان بن فلان، فعسى أن يكون على ثلاث أميال من المدينة، فيرسل إليه فيجاء به. وذكر الحديث سواء وقد أشار أبو بكر بن الطيب إلى هذا المعنى غير أنه لم يذكر الرواية بذلك، وقد ذكرته فى كتاب الجهاد فى باب قوله: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب: 23] . فإن قيل: فى حديث زيد بن ثابت أنه وجد آخر سورة التوبة مع أبى خزيمة الأنصارى، وفى آخر الباب قول ابن شهاب عن خارجة بن زيد أنه سمع أباه زيد بن ثابت قال: فقدت آية من الأحزاب كنت أسمع النبى (صلى الله عليه وسلم) يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ) [الأحزاب: 23] وهذا اختلاف يوجب التضاد. قال المهلب: ولا تضاد فى هذا، وهذه غير قصة الأحزاب؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 225 لأن الآية التي في التوبة مع أبي خزيمة، وهو معروف من الأنصار وقد عرفه أنس، وقال: نحن ورثناه. والتى فى الأحزاب ليست صفة النبى (صلى الله عليه وسلم) وهذه وجدت مع خزيمة بن ثابت، وهو غير أبى خزيمة، فلا تعارض فى هذا، والقصة غير القصة لا إشكال فيها ولا التباس والسورة غير السورة، والتى فى الأحزاب سمعها زيد وخزيمة من النبى فهما شاهدان على سماعها منه، وإنما أثبتت التى فى التوبة بشهادة أبى خزيمة وحده لقيام الدليل على صحتها فى صفة النبى فهى قرينة تغنى عن طلب شاهد آخر. وفى أمر عثمان بتحريق الصحف والمصاحف حين جمع القرآن جواز تحريق الكتب التى فيها أسماء الله تعالى وأن ذلك إكرام لها، وصيانة من الوطء بالأقدام وطرحها فى ضياع من الأرض. وروى معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه أنه كان يحرق الصحف إذا اجتمعت عنده الرسائل فيها بسم الله الرحمن الرحيم، وحرق عروة بن الزبير كتب فقه كانت عنده يوم الحرة، وكره إبراهيم أن تحرق الصحف إذا كان فيها ذكر الله، وقول من حرقها أولى بالصواب. وقد قال أبو بكر بن الطيب: جائز للإمام تحريق الصحف التى فيها القرآن إذا أداه الاجتهاد إلى ذلك. وقال أبو عبيد: اللخاف: الحجارة الرقاق، والعسب: جمع عَسيب وهى جريدة من النخل، وجمعه عسبان وأعسب من كتاب العين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 226 4 - باب ذكر كَاتِبِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) / 10 - فيه: زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، قَالَ: أَرْسَلَ إِلَىَّ أَبُو بَكْرٍ الصديق، قَالَ: إِنَّكَ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْىَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَاتَّبِعِ الْقُرْآنَ، فَتَتَبَّعْتُ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ أَبِى خُزَيْمَةَ الأنْصَارِىِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) [التوبة: 128] . / 11 - وفيه: الْبَرَاء، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: (لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِى الضَّرَرِ) [النساء: 95] ،) وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ (قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (ادْعُ لِى زَيْدًا، وَلْيَجِئْ بِاللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ وَالْكَتِفِ، أَوِ الْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ، ثُمَّ قَالَ اكْتُبْ: (لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ (وَخَلْفَ ظَهْرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الأعْمَى، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا تَأْمُرُنِى؟ فَإِنِّى رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ؟ فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا: (لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (،) وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ (،) غَيْرُ أُولِى الضَّرَرِ (. قال أبو بكر بن الطيب: فيه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) سن جمع القرآن وكتابته وأمر بذلك وأملاه على كتبته، وأن أبا بكر الصديق وعمر الفاروق وزيد بن ثابت وجماعة الأمة أصابوا فى جمعه وتحصينه وإحرازه، وجروا فى كتابته على سنن الرسول وسنته، وأنهم لم يثبتوا منه شيئًا غير معروف، وما لم تقم الحجة به. قال المهلب: وفيه أن السنة للخليفة والإمام أن يتخذ كاتبًا يقيد له ما يحتاج إلى النظر فيه من أمور الرعية، ويعينه على تنفيذ أحكام الشريعة، لأن الخليفة يلزمه من الفكرة والنظر فى أمور من استرعاه الله أمرهم ما يشغله عن الكتاب وشبهه من أنواع المهن، ألا ترى قول عمر بن الخطاب: (لولا الخلافة لأذنت) يريد أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 227 الخلافة حالة شغل بأمور المسلمين عن الأذان وغيره؛ لأن هذا يوجد فيه من يقوم مقام الخليفة وينوب عنه، ولا ينوب عنه أحد فى الإمامة، وقد استدل بقوله تعالى: (لاَّ يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ) [النساء: 95] الآية. ومن قال: إن الغنى أفضل من الفقر. قال: ألا ترى قوله تعالى: (فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى) [النساء: 95] ففضيلة الجهاد وبذل المال فى إعلاء كلمة الله درجة لا يبلغها الفقير أبدًا، وقوله تعالى: (غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ) [النساء: 95] يدل أن أهل الأعذار لا حرج عليهم فيما لا سبيل لهم إلى فعله من الفرائض اللازمة للأصحاء القادرين، وفى هذا حجة للفقهاء فى قولهم: إنه لا يجوز تكليف ما لا يطاق. وهو قول جمهور الفقهاء. 5 - باب أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ / 12 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (أَقْرَأَنِى جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِى حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) . / 13 - وفيه: عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ، يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِى الصَّلاةِ، فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِى سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: إِنِّي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 228 سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ) ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِى سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ) ، ثُمَّ قَالَ: (اقْرَأْ يَا عُمَرُ) ، فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِى أَقْرَأَنِى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) . قال المؤلف: قد أكثر الناس فى تأويل هذا الحديث ولم أجد فيه قولاً يسلم من المعارضة، وأحسن ما رأيت فيه ما نقله أبو عمر عثمان بن سعيد المقرئ فى بعض كتبه، ولم يسم قائله، قال: إنى تدبرت معنى هذا الحديث وأمعنت النظر فيه بعد وقوفى على أقاويل السلف والخلف، فوجدته متعلقًا بخمسة أوجه، هى محيطة بجميع معانيه: فأولها: أن يقال: ما معنى الأحرف التى أرادها النبى (صلى الله عليه وسلم) ؟ وكيف تأويلها؟ والثانى: ما وجه إنزال القرآن على هذه السبعة الأحرف، وما المراد بذلك؟ والثالث: فى أى شىء يكون اختلاف هذه السبعة الأحرف؟ والرابع: على كم معنى تشتمل هذه السبعة الأحرف؟ والخامس: هل هذه السبعة الأحرف كلها متفرقة فى القرآن، موجودة فيه فى ختمة واحدة، حتى إذا قرأ القارئ بأى حرف من حروف أئمة القراء بالأمصار المجتمع على إمامتهم فقد قرأ بها كلها؟ أو ليست كلها متفرقة فيه وموجودة فى ختمة واحدة؟ وأنا مبين ذلك إن شاء الله. فأما معنى الأحرف التى أوردها النبى (صلى الله عليه وسلم) هاهنا فإنه يتوجه إلى وجهين: أحدهما: أن يكون أراد سبعة أوجه من اللغات بدليل قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) [الحج: 11] ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 229 فالمراد بالحرف هاهنا الوجه الذى تقع عليه العبادة. والمعنى: ومن الناس من يعبد الله على النعمة تصيبه، والخير يناله من تثمير المال، وعافية البدن، وإعطاء السؤل، ويطمئن إلى ذلك ما دامت له هذه الأمور واستقامت، فإن تغيرت حاله، وامتحنه الله بالشدة فى عيشه والضر فى بدنه ترك عبادة ربه وكفر به، فهذا عَبَد الله على وجه واحد، وذلك معنى الحرف والوجه. الثانى: أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) سمى القراءات أحرفًا على طريق السعة كنحو ما جرت عليه عادة العرب فى تسميتهم الشىء باسم ما هو منه وما قاربه وما جاوره، وتعلق به ضربًا من التعلق وتسميتهم الجملة باسم البعض منها، فسمى النبى القراءة حرفًا، وإن كان كلامًا كثيرًا من أجل أن منها حرفًا قد غير بضمة أو كسر أو قلب إلى غيره، أو أميل أو زيد فيه أو نقص منه على ما جاء فى المختلف فيه من القراءات، فنسب النبى القراءة والكلمة التامة إلى ذلك الحرف المغير، فسمى القراءة به؛ إذ كان ذلك الحرف منها على عادة العرب فى ذلك كما يسمون القصيدة قافية، إذ كانت القافية كقول الخنساء: وقافية مثل حد السنان تبقى ويهلك من قالها تعنى: قصيدة، فسميت قافية على طريق الاتساع، كما يسمون الرسالة والخطبة: كلمة، إذ كانت الكلمة منها. قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى) [الأعراف: 137] ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 230 وقيل: إنه تعالى عنى بالكلمة هاهنا قوله فى سورة القصص: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ) [القصص: 5] الآية. وقال مجاهد: قوله تعالى: (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) [الفتح: 26] ، قال: لا إله إلا الله. فخاطبهم (صلى الله عليه وسلم) بما جرى تعارفهم عليه فى خطابهم. وأما وجه إنزال القرآن على هذه السبعة الأحرف، وما أراد الله بذلك، فإنما ذلك توسعة من الله على عباده ورحمة لهم وتخفيفًا عنهم لما هم عليه من اختلاف اللغات واستصعاب مفارقة كل فريق منهم لطبعه وعادته فى الكلام إلى غيره، فخفف الله عنهم بأن أقرأهم على مألوف طبعهم وعادتهم فى كلامهم، يدل على ذلك ما روى أبو عبيدة من حديث حذيفة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (لقيت جبريل عند أحجار المرى فقلت: يا جبريل، إنى أرسلت إلى أمة أمية: الرجل والمرأة والغلام والجارية والشيخ الفانى الذى لم يقرأ كتابًا قط. قال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف) . روى حماد بن سلمة من حديث أبى بكرة (أن جبريل أتى النبى (صلى الله عليه وسلم) فقال: اقرأ القرآن على حرف. فقال ميكائيل: استزده. فقال: اقرأ على حرفين. فقال ميكائيل: استزده حتى بلغ سبعة أحرف كل كاف شاف) . ويمكن أن تكون هذه السبعة أوجه من اللغات هى أفصح اللغات، فلذلك أنزل القرآن عليها. ذكر ثابت السرقطى فى هذا المعنى: قوله: (سبعة أحرف) يريد والله أعلم على لغات شعوب من العرب سبعة أو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 231 جماهيرها كما قال الكلبي: خمسة منها لهوازن وحرفان لسائر الناس. وقال ابن عباس: نزل القرآن على سبعة أحرف صارت فى عجز هوازن منها خمسة. وقال أبو حاتم: عجز هوازن ثقيف، وبنو سعد ابن بكر، وبنو جشم، وبنو مضر، قال أبو حاتم: خص هؤلاء دون ربيعة وسائر العرب لقرب جوارهم من مولد النبي - عليه السلام - ومنزل الوحي، وإنما مضر وربيعة أخوان. قال قتادة عن سعيد بن المسيب: نزل القرآن على لغة هذا الحي من لدن هوازن وثقيف إلى ضربه. وأما فى أى شيء يكون اختلاف هذه السبعة أحرف فإنه يكون فى أوجه كثيرة منها تغير اللفظ نفسه وتحويله إلى لفظ آخر، كقوله تعالى: (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة: 4] بغير ألف، و) مالك (بألف، والسراط بالسين والصاد والزاى ومنها الإثبات والحذف كقوله تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا) [البقرة: 116] ،) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ) [آل عمران: 133] ،) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا) [التوبة: 107] بالواو وبغير واو، ومنها تبديل الأدوات كقوله تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) [الشعراء: 217] فى الشعراء بالفاء، وتوكل بالواو (فلا يخاف عقابها) بالفاء، ولا يخاف عقابها بالواو، ومنها التوحيد والجمع، كقوله تعالى: (الريح (و) الرياح (، ومنها) فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة: 67] ، و) رسالاته (و) آية للسائلين (و) آيات (. ومنها: التذكير والتأنيث كقوله تعالى: (وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) [البقرة: 48] بالياء والتاء، و (فناداه الملائكة) و) فَنَادَتْهُ) [آل عمران: 39] ، و (استهواه الشياطين) و) اسْتَهْوَتْهُ) [الأنعام: 71] ، ومنها التشديد والتخفيف كقوله تعالى: (بِمَا كَانُوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 232 يَكْذِبُونَ) [البقرة: 10] بتشديد الذال وتخفيفها، ومنها الخطاب والإخبار كقوله تعالى: (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) [البقرة: 144] و) أَفَلاَ يَعْقِلُونَ) [يس: 68] ،) وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ) [البقرة: 13] ، وشبه ذلك بالتاء على الخطاب، وبالياء على الإخبار، ومنها الإخبار عن النفس، والإخبار عن غير النفس، كقوله تعالى: (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء) [الزمر: 74] بالنون وبالياء،) وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) [يونس: 100] بالنون والياء، ومنها التقديم والتأخير كقوله تعالى: (وقتلوا وقاتلوا) ،) وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا) [آل عمران: 195] و) فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) [التوبة: 111] ، وكذلك (زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم) و) قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ) [الأنعام: 137] وشبهه. ومنها: النهى والنفى كقوله تعالى: (ولا تسل عن أصحاب الجحيم) بالجزم على النهى) وَلاَ تُسْأَلُ) [البقرة: 119] بالرفع على النفى، (ولا تشرك فى حكمه أحدًا) بالتاء والجزم على النهى) وَلاَ يُشْرِكُ) [الكهف: 26] بالياء والرفع على النفى. ومنها: الأمر والإخبار كقوله تعالى: (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة: 125] بكسر الخاء على الأمر (واتخَذوا) بالفتح على الإخبار، و (قل سبحان الله) و (قل ربى يعلم) على الأمر، وقال على الخبر، وشبهه. ومنها: تغير الإعراب وحده كقوله تعالى: (وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم) [البقرة: 240] بالنصب وبالرفع و) تِجَارَةً حَاضِرَةً) [البقرة: 282] بالرفع والنصب،) وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ) [المائدة: 6] بالنصب والجر، وما أشبهه. ومنها: تغيير الحركات اللوازم كقوله: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ) [آل عمران: 169] بكسر السين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 233 وفتحها) وَمَن يَقْنَطُ) [الحجر: 56] ، و) يَقْنَطُونَ) [الروم: 36] بكسر النون وفتحها، و) يَعْرِشُونَ) [الأعراف: 137] و) يَعْكُفُونَ) [الأعراف: 138] بكسر الراء والكاف وضمها و) الْوَلاَيَةُ) [الكهف: 44] بكسر الواو وفتحها. ومنها: التحريك والتسكين كقوله: (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) [البقرة: 168] بضم الطاء وإسكانها، و) عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ) [البقرة: 236] بفتح الدال وإسكانها. ومنها: الاتباع وتركه كقوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ) [البقرة: 174] ، و) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) [المائدة: 117] ،) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ) [الأنعام: 10] ، بالضم والكسر؛ فالضم لالتقاء الساكنين اتباعًا لضم ما بعدهن، وبالكسر للساكنين من غير اتباع، ومنها الصرف وتركه كقوله: (وَعَادٍ وَثَمُودَ) [التوبة: 70] ، و) أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ) [هود: 68] بالتنوين وتركه. ومنها: اختلاف اللغات كقوله: (جِبْرِيلَ (بكسر الجيم من غير همز، وبفتحها كذلك، وجَبرئيَل بفتح الجيم والراء مع الهمز من غير مد، وبالهمز والمد. ومنها: التصرف فى اللغات نحو الإظهار والإدغام، والمد والقصر والإمالة، والفتح وبين بين والهمز وتخفيفه بالحذف والبدل وبين بين، والإسكان والروم والإشمام عند الوقف على أواخر الكلم، والسكون على الساكن قبل الهمزة وما أشبهه، وقد ورد التوقيف عن النبى (صلى الله عليه وسلم) بهذا الضرب من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 234 الاختلاف وأذن فيه لأمته بالأخبار الثابتة، وفيما روى أبو عبيد قال: حدثنا نعيم بن حماد حدثنا بقية بن الوليد، عن حصين بن مالك قال: سمعت شيخًا يكنى أبا محمد، عن حذيفة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اقرءوا القرآن بلحن العرب وأصواتها) ولحونها وأصواتها: مذاهبها وطباعها. ووجه هذا الاختلاف فى القرآن أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يعرض القرآن على جبريل فى كل عام عرضة، فلما كان العام الذى توفى فيه عرضه عليه مرتين، فكان جبريل يأخذ عليه فى كل عرضة بوجه من هذه الوجوه والقراءات المختلفة، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (إن القرآن أنزل عليها، وإنها كلها كاف شاف) وأباح لأمته القراءة بما شاءت منها مع الإيمان بجميعها؛ إذ كانت كلها من عند الله منزلة، ومنه (صلى الله عليه وسلم) مأخوذة، ولم يلزم أمته حفظها كلها ولا القراءة بأجمعها؛ بل هى مخيرة فى القراءة بأى حرف شاءت منها كتخييرها إذا حنثت فى يمين أن تكفر إن شاءت بعتق أو بإطعام أو بكسوة، وكالمأمور فى الفدية بالصيام أو الصدقة أو النسك، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) صوب من قرأ ببعضها كما صوب قراءة هشام بن حكيم وقراءة عمر بن الخطاب حين تناكرا القراءة وأقر أنه كذلك قرئ عليه، وكذلك أنزل عليه. وأما على كم وجه يشتمل اختلاف هذه السبعة الأحرف؛ فإنه يشتمل على ثلاثة معان: أحدها: اختلاف اللفظ والمعنى واحد، نحو قوله تعالى: (الصِّرَاطَ) [الفاتحة: 6] بالصاد والسين والزاى و) عليهم (و) إليهم (بضم الهاء مع إسكان الميم، وبكسر الهاء مع ضم الميم وإسكانها وشبه ذلك. والثانى: اختلاف اللفظ، والمعنى جميعًا مع جواز أن يجتمعا فى شىء واحد، لعدم تضاد اجتماعهما فيه، نحو قوله: (ملك يوم الدين) بغير الألف، و) مالك (بالألف لأن المراد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 235 بهاتين القراءتين هو الله سبحانه، وذلك أنه مالك يوم الدين وملكه، فقد اجتمع له الوصفان جميعًا فأخبر بذلك فى القراءتين ونحو ذلك: (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة: 10] ، بتخفيف الذال وتشديدها؛ لأن المراد بهاتين القراءتين جميعًا هم المنافقون، وذلك أنهم كانوا يكذبِون فى أخبارهم ويكذبون النبي (صلى الله عليه وسلم) . والثالث: اختلاف اللفظ والمعنى جميعًا مع امتناع جواز اجتماعهما فى شىء واحد كقوله تعالى: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) [يوسف: 110] بالتشديد؛ لأن المعنى: وتيقن الرسل أن قومهم قد كذبوهم فيما أخبروهم به من أنه إن لم يؤمنوا بهم نزل العذاب بهم، فالظن فى القراءة الأولى يقين والضمير الأول للرسل، والثانى للمرسل إليهم، والظن فى القراءة الثانية شك، والضمير الأول للمرسل إليهم والثانى للرسل، ويشبه ذلك من اختلاف القراءتين اللتين لا يصح أن تجتمعا فى شىء واحد لتضاد المعنى، وكل قراءة منهما بمنزلة آية قائمة بنفسها. وأما هذه السبعة الأحرف؛ فإنه لا يمكن القراءة بها فى ختمة واحدة، فإذا قرأ القارئ برواية من رواية القراء، فإنما قرأ ببعضها لا بكلها؛ لأنا قد أوضحنا قبل أن المراد بالسبعة أحرف سبعة أوجه من اللغات كنحو اختلاف الإعراب والحركات والسكوت، والإظهار والإدغام، والمد والقصر وغير ذلك مما قدمناه. وإذا كان كذلك فمعلوم أنه من قرأ بوجه من هذه الأوجه، فإنه لا يمكنه أن يحرك الحرف ويسكنه فى حالة واحدة أو يقدمه ويؤخره، أو يظهره ويدغمه، أو يمده ويقصره، أو يفتحه ويمليه وشبه ذلك، غير أنا لا ندري أى هذه السبعة أحرف كان آخر العرض، وأن جميع هذه الأحرف قد ظهر واستفاض عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وضبطتها الأمة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 236 على اختلافها عنه، وأن معنى إضافة كل حرف إلى من أضيف إليه كأُبى وزيد وغيرهم من قبل أنه كان أضبط له وأكثر قراءة وأقرأ به، وكذلك إضافة القراءات إلى أئمة القراء بالأمصار، على معنى أن ذلك الإمام اختار القراءة بذلك الحرف، وآثره على غيره، ولزمه وأخذ عنه فلذلك أضيف إليه، وهذه إضافة اختيار لا إضافة اختراع. قال أبو جعفر الداودى: والسبع المقارئ التى يتعلمها الناس اليوم ليس كل حرف منها هو أحد السبعة التى أنزلت على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قد يكون فى حرف من هذه شىء من إحدى أولئك السبع، وشىء من الأخرى. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وهذه السبع القراءات التى بأيدى الناس إنما تفرعت من حرف واحد من السبعة التى فى الحديث وهو الحرف الذى جمع عليه عثمان المصحف ذكر ذلك ابن النحاس وغيره. 6 - باب تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ / 14 - فيه: عَائِشَةَ، جَاءَهَا عِرَاقِىٌّ، فَقَالَ: أَىُّ الْكَفَنِ خَيْرٌ؟ قَالَتْ: وَيْحَكَ، وَمَا يَضُرُّكَ؟ قَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَرِينِى مُصْحَفَكِ، قَالَتْ: لِمَ؟ قَالَ: لَعَلِّى أُوَلِّفُ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ، قَالَتْ: وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ؟ إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإسْلامِ نَزَلَ الْحَلالُ وَالْحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَىْءٍ لا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ، لَقَالُوا: لا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لا تَزْنُوا، لَقَالُوا: لا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا، لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) وَإِنِّى لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) [القمر: 46] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 237 وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلا وَأَنَا عِنْدَهُ، قَالَ: فَأَخْرَجَتْ لَهُ الْمُصْحَفَ، فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آىَ السُّوَرِ. / 15 - وفيه: ابْن مَسْعُود، قَالَ فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَمَرْيَمَ وَطه وَالأنْبِيَاءِ: إِنَّهُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الأوَلِ، وَهُنَّ مِنْ تِلادِى. / 16 - وفيه: الْبَرَاء، قَالَ: تَعَلَّمْتُ: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) [الأعلى: 1] قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) . / 17 - وفيه: ابْن مَسْعُود، قَالَ: لَقَدْ تَعَلَّمْتُ النَّظَائِرَ الَّتِى كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقْرَؤُهُنَّ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ فِى كُلِّ رَكْعَةٍ، فَسَأَلنا عَلْقَمَة، فَقَالَ: عِشْرُونَ سُورَةً مِنْ أَوَّلِ الْمُفَصَّلِ عَلَى تَأْلِيفِ ابْنِ مَسْعُودٍ آخِرُهُنَّ الْحَوَامِيمُ (حم الدُّخَانِ) ، و (َعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ) . قال أبو بكر بن الطيب: إن قال قائل: قد اختلف السلف فى ترتيب سور القرآن فمنهم من كتب فى مصحفه السور على تاريخ نزولها وقدم المكى على المدنى، ومنهم من جعل فى أول مصحفه) الْحَمْدُ للهِ) [الفاتحة: 2] ، ومنهم من جعل فى أوله) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق: 1] ، وهذا أول مصحف علىّ. وأما مصحف ابن مسعود فإن أوله (ملك يوم الدين) ، ثم البقرة ثم النساء على ترتيب يختلف. روى ذلك طلحة بن مصرف أنه قرأه على يحيى بن وثاب، وقرأ يحيى بن وثاب على علقمة، وقرأ علقمة على عبد الله، ومصحف أُبىّ كان أوله: الحمد لله ثم البقرة، ثم النساء ثم آل عمران، ثم الأنعام ثم الأعراف، ثم المائدة ثم كذلك على اختلاف شديد. قال أبو بكر: فالجواب: أنه يحتمل أن يكون ترتيب السور على ما هى عليه اليوم فى المصحف كان على وجه الاجتهاد من الصحابة، وقد قال قوم من أهل العلم: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 238 إن تأليف سور القرآن على ما هو عليه فى مصحفنا كان على توقيف من النبى (صلى الله عليه وسلم) لهم على ذلك وأمر به. وأما ما روى من اختلاف مصحف أبىّ وعلىّ وعبد الله إنما كان قبل العرض الأخير، وأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رتب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك. روى يونس عن ابن وهب قال: سمعت مالكًا يقول: إنما أُلف القرآن على ما كانوا يسمعونه من قراءة رسول الله، ومن قال هذا القول لا يقول: إن تلاوة القرآن فى الصلاة والدرس يجب أن يكون مرتبًا على حسب الترتيب الموقف عليه فى المصحف؛ بل إنما يجب تأليف سوره فى الرسم والكتابة خاصة. ولا نعلم أن أحدًا منهم قال: إن ترتيب ذلك واجب فى الصلاة، وفى قراءة القرآن ودرسه وإنه لا يحل لأحد أن يتلقن الكهف قبل البقرة، ولا الحج بعد الكهف، ألا ترى قول عائشة للذى سألها أن تريه مصحفها ليكتب مصحفًا على تأليفه: لا يضرك أيه قرأت قبل؟ وأن ما روى عن ابن مسعود وابن عمر أنهما كرها أن يقرأ القرآن منكوسًا، وقالا: ذلك منكوس القلب. فإنما عنيا بذلك من يقرأ السورة منكوسة ويبتدئ من آخرها إلى أولها؛ لأن ذلك حرام محظور، ومن الناس من يتعاطى هذا فى القرآن والشعر ليذلل لسانه بذلك، ويقتدر على الحفظ وهذا مما حظره الله ومنعه فى قراءة القرآن؛ لأنه إفسادٌ لسوره، ومخالفة لما قصد بها، ومما يدل أنه لا يجب إثبات القرآن فى المصاحف على تاريخ نزوله؛ لأنهم لو فعلوا ذلك لوجب أن يجعلوا بعض آية سورة فى سورة أخرى وأن ينقصوا ما وقفوا عليه من سياقه ترتيب السور ونظامها؛ لأنه قد صح وثبت أن الآيات كانت تنزل بالمدينة فيؤمروا بإثباتها في السورة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 239 المكية، ويقال لهم: ضعوا هذه الآية فى السورة التى يذكر فيها كذا. ألا ترى قول عائشة: وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده، يعنى بالمدينة، وقد قدمنا فى المصحف على ما نزل قبلهما من القرآن بمكة، ولو ألفوه على تاريخ النزول لوجب أن ينتقض ترتيب آيات السور، وقد كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يقرأ بالناس فى الصلاة السورة فى الركعة ثم يقرأ فى ركعة أخرى بغير السورة التى تليها، وقول ابن مسعود فى بنى إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: هى من العتاق الأول وهن من تلادى، يعنى هن مما نزل من القرآن أولاً. قال صاحب العين: العتيق القديم من كل شىء، والتلاد: ما كسب من المال قديمًا فيريد أنهن من أول ما حفظه من القرآن. وقوله: (ثاب الناس إلى الإسلام) : رجعوا إليه. قال صاحب العين: ثاب الشىء يثوب ثؤوبا رجع. ومنه قوله تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) [البقرة: 125] ، أى يرجعون إليه. 7 - باب الْقُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) / 18 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ذكر ابْن مَسْعُود، فَقَالَ: لا أَزَالُ أُحِبُّهُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ، وَمُعَاذ، وَأُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ) . / 19 - وَقَالَ فيه مسروق: خَطَبَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً، وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابى أَنِّى مِنْ أَعْلَمِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَمَا أَنَا بِخَيْرِهِمْ. قَالَ شَقِيقٌ: فَجَلَسْتُ فِى الْحِلَقِ أَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ، فَمَا سَمِعْتُ رَادًّا يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ. / 20 - وَقَالَ فيه عَلْقَمَةَ: كُنَّا بِحِمْصَ، فَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ سُورَةَ يُوسُفَ، فَقَالَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 240 رَجُلٌ: مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَحْسَنْتَ) ، وَوَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ، فَقَالَ: أَتَجْمَعُ أَنْ تُكَذِّبَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَتَشْرَبَ الْخَمْرَ؟ فَضَرَبَهُ الْحَدَّ. / 21 - وفيه: مَسْرُوق، قَالَ: قَالَ عَبْدُاللَّهِ: وَاللَّهِ الَّذِى لا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلا أَنَا أَعْلَمُ، أَيْنَ أُنْزِلَتْ؟ وَلا أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلا أَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ؟ وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنِّى بِكِتَابِ اللَّهِ تُبَلِّغُهُ الإبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ. / 22 - وفيه: أَنَس، جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ؟ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأنْصَارِ: أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ. / 23 - وَقَالَ أَنَس مرة: مَاتَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَلَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ: أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ. وَنَحْنُ وَرِثْنَاهُ. / 24 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ عُمَرُ: أُبَىٌّ أَقْرَؤُنَا، وَإِنَّا لَنَدَعُ مِنْ لَحَنِ أُبَىٍّ، وَأُبَىٌّ يَقُولُ: أَخَذْتُهُ مِنْ فِى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَلا أَتْرُكُهُ لِشَىْءٍ. قَالَ تَعَالَى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) [البقرة 106] . قال أبو بكر بن الطيب: لا تدل هذه الآثار على أن القرآن لم يحفظه فى حياة النبى (صلى الله عليه وسلم) غير عبد الله وسالم، ومعاذ وأُبىّ ابن كعب، وأنه لم يجمعه غير أربعة من الأنصار كما قال أنس بن مالك، فقد ثبت بالطرق المتواترة أنه جمع القرآن عثمان وعلىّ، وتميم الدارى وعبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وثبت أنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 241 سأل النبي في كم يقرأ القرآن؟ فقال: في شهر. فقال: إني أطيق أكثر من ذلك. .) الحديث. فجمعه عمرو بن العاص وغيره. روى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أقرأ خمس عشرة سجدة فى القرآن، منها ثلاث فى المفصل، وفى الحج سجدتان. ذكر الأسانيد بذلك أبو بكر بن الطيب فى كتاب الانتصار. فقول أنس: لم يجمع القرآن غير أربعة. قول يتعذر العلم بحقيقة ظاهره، وله وجوه من التأويل: أحدها: أنه لم يجمعه على جميع الوجوه والأحرف، والقراءات التى نزل بها إلا أولئك النفر فقط وهذا غير بعيد؛ لأنه لا يجب على سائرهم ولا على أولئك النفر أيضًا أن يجمعوا القرآن على جميع حروفه ووجوهه السبعة، والثانى: أنه لم يجمع القرآن ويأخذه تلقينًا من فىّ النبى (صلى الله عليه وسلم) غير تلك الجماعة فإن أكثرهم أخذ بعضه عنه وبعضه عن غيره، والثالث: أن يكون لم يجمع القرآن على عهد النبى من انتصب لتلقينه، وأقرأ الناس له غير تلك الطبقة المذكورة. وقد تظاهرت الروايات بأن الأئمة الأربعة جمعوا القرآن على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) لأجل سبقهم إلى الإسلام وإعظام الرسول (صلى الله عليه وسلم) لهم، وقد ثبت عن الصديق بقراءته فى المحراب بطوال السور التى لا يتهيأ حفظها إلا لأهل القدرة على الحفظ والإتقان، فروى ابن عيينة، عن الزهرى، عن أنس أن أبا بكر الصديق قرأ فى الصبح بالبقرة فقال عمر: كادت الشمس أن تطلع فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين، وقد علم أن كثيرًا من الحفاظ وأهل الدربة بالقرآن يتهيبون الصلاة بالناس بمثل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 242 هذه السور الطوال وما هو دونها، وهذا يقتضى أن أبا بكر كان حافظًا للقرآن، وقد صح الخبر أنه بنى مسجدًا بفناء داره بمكة قبل الهجرة، وأنه كان يقوم فيه بالقرآن ويكثر بكاؤه ونشيجه عند قراءته فتقف عليه نساء المشركين وولدانهم يسمعون قراءته، لولا علم النبى (صلى الله عليه وسلم) بذلك من أمره لم يقدمه لإمامة المسلمين مع قوله: يؤم القوم أقرؤهم. وكذلك تظاهرت الروايات عن عمر أنه كان يؤم الناس بالسور الطوال، وقد أمهم بسورة يوسف فى الصبح فبلغ إلى قوله: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف: 84] ، فنشج حتى سمع بكاؤه من وراء الصفوف. وقرأ مرة سورة الحج فسجد فيها سجدتين. وروى عبد الملك بن عمير عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود قال: كان عمر أعلمنا بالله وأقرأنا لكتاب الله وأفقهنا فى دين الله، ولولا أن هذه كانت حالته، وأنه من أقرأ الناس لكتاب الله لم يكن أبو بكر الصديق بالذى يضم إليه زيد بن ثابت، ويأمرهما بجمع القرآن واعتراض ما عند الناس، ويجعل زيدًا تبعًا له؛ لأنه لا يجوز أن ينصب لجمع القرآن واعتراضه من ليس بحافظ. وأما عثمان فقد اشتهر أنه كان ممن جمع القرآن على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) وأنه كان من أهل القيام به، وقد قال حين أرادوا قتله فضربوه بالسيف على يده فمدها وقال: والله إنها لأول يد خطت المفصل، وقالت نائلة زوجته: إن نقتلوه فإنه كان يحيى الليل بجميع القرآن فى ركعة. وكذلك على بن أبى طالب، قد عرفت حاله فى فضله وثاقب فهمه، وسعة علمه ومشاورة الصحابة له، وإقرارهم لفضله وتربية النبي له الجزء: 10 ¦ الصفحة: 243 وأخذه له بفضائل الأخلاق، وترغيبه (صلى الله عليه وسلم) فى تخريجه وتعليمه، وما كان يرشحه له ويثيبه عليه من أمره نحو قوله: أقضاكم علىّ، ومن البعيد أن يقول هذا فيه وليس من قراء الأمة، وقد كان يقرأ القرآن، وقرأ عليه أبو عبد الرحمن السلمى وغيره، وروى همام، عن ابن أبى نجيح، عن عطاء بن السائب أن أبا عبد الرحمن حدثه قال: ما رأيت رجلاً أقرأ للقرآن من علىّ بن أبى طالب، صلى بنا الصبح، فقرأ سورة الأنبياء فأسقط آية، فقرأ ثم رجع إلى الآية التى أسقطها فقرأها، ثم رجع إلى مكانه الذى انتهى إليه لا يتتعتع. فإذا صح ما قلناه مع ما ثبت من تقدمهم وتقدمة الرسول لهم وجب أن يكونوا حفاظًا للقرآن، وأن يكون ذلك أولى من الأخبار التى ذكر فيها أن الحفاظ كانوا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أربعة ليس منهم أحد من هؤلاء الأئمة القادة الذين هم عمدة الدين وفقهاء المسلمين. 8 - باب فَضْلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ / 25 - فيه: أَبُو سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، كُنْتُ أُصَلِّى، فَدَعَانِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمْ أُجِبْهُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى كُنْتُ أُصَلِّى، قَالَ: (أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ () [الأنفال: 24] ، ثُمَّ قَالَ: (أَلا أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِى الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ) ، فَأَخَذَ بِيَدِى، فَلَمَّا أَرَدْنَا أَنْ نَخْرُجَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ قُلْتَ: لأعَلِّمَنَّكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 244 أَعْظَمَ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ: () الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الفاتحة: 2] ، هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ) . / 26 - وفيه: أَبُو سَعِيد الْخُدْرِىِّ، كُنَّا فِى مَسِيرٍ لَنَا، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ، فَقَالَتْ: إِنَّ سَيِّدَ الْحَىِّ سَلِيمٌ، وَإِنَّ نَفَرَنَا غَيْبٌ، فَهَلْ مِنْكُمْ رَاقٍ؟ فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مَا كُنَّا نَأْبُنُهُ بِرُقْيَةٍ، فَرَقَاهُ، فَبَرَأَ فَأَمَرَ لَهُ بِثَلاثِينَ شَاةً، وَسَقَانَا لَبَنًا، فَلَمَّا رَجَعَ، قُلْنَا لَهُ: أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً أَوْ كُنْتَ تَرْقِى؟ قَالَ: لا، مَا رَقَيْتُ إِلا بِأُمِّ الْكِتَابِ، قُلْنَا: لا تُحْدِثُوا شَيْئًا حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فذَكَرْنَاهُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (وَمَا كَانَ يُدْرِيك أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِى بِسَهْمٍ) . قال المؤلف: إن قال قائل: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لأعلمنك أعظم سورة من القرآن) يدل على تفاضل القرآن، قيل له: ليس كما توهمت؛ لأنه يحتمل أن يكون معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : أعظم سورة فى القرآن، أى أعظم نفعًا للمتعبدين؛ لأن أم القرآن لا تجزئ الصلاة إلا بها، وليس ذلك لغيرها من السور، ولذلك قيل لها: السبع المثانى؛ لأنها تثنى فى كل صلاة هذا قول على بن أبى طالب، وأبى هريرة وغيرهما، ويشهد لهذا قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) . وفيه: قوله (صلى الله عليه وسلم) : هى السبع المثانى تفسير لقوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِى) [الحجر: 87] ، أن المراد بها فاتحة الكتاب، وقد روى عن السلف أقوال أخر فى تفسير السبع المثانى، فروى عن ابن عباس وابن مسعود أنها السبع الطوال؛ لأن الفرائض والقصص تثنى فيها، ويجوز أن يكون المثانى القرآن كله كما قال تعالى: (كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِىَ) [الزمر: 23] ؛ لأن الأخبار تثني فيه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 245 ومما يدل أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لأعلمنك أعظم سورة) لا يوجب تفاضل القرآن بعضه على بعض فى ذاته. قوله تعالى: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) [البقرة: 106] ، ولم يختلف أهل التأويل فى أن الله تعالى لم يرد بقوله: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا) [البقرة: 106] ، تفضيل بعض الآيات على بعض، وإنما المراد بخير منها لعباده المؤمنين التالين لها، إما بتخفيف وعفو، أو بثواب على عمل، ولو قال قائل: أيما أفضل: آية رحمة، أو آية عذاب، أو آية وعد، أو آية وعيد؟ لم يكن لهذا جواب. ومن اختار التفاضل فى القرآن فقد أوجب فيه النقص، وأسماء الله تعالى وصفاته وكلامه لا نقص فى شىء منها فيكون بعضه أفضل من بعض، وكيف يجوز أن يكون شىء من صفاته منقوصًا غير كامل وهو قادر على أن يتم المنقوص حتى يكون فى غاية الكمال، فلا يلحقه فى شىء من صفاته نقص، تعالى الله عن ذلك، وسأزيد فى بيان هذا فى فضل) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1] . ويحتمل قوله: لأعلمنك أعظم سورة وجهًا آخر، وهو أن يكون أعظم بمعنى سورة عظيمة كما قيل الله أكبر، بمعنى: كبير، وكما قيل فى اسم الله الأعظم بمعنى: عظيم، وقد تقدم الكلام فى حديث أبى سعيد الخدرى فى كتاب الإجازة فى باب ما يعطى في الرقية بفاتحة الكتاب ومعنى قوله ما يدريك أنها رقية فتأمله هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 246 وقوله: ما كنا نأبنه، قال صاحب الأفعال: أبنت الرجل بخير أو شر نسبتهما إليه. أبنه أبنًا. 9 - باب فَضْلِ الْبَقَرَةِ / 27 - فيه: أَبُو مَسْعُود، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ قَرَأَ بِالآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِى لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ) . / 28 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَكَّلَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِى آتٍ، فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لأرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . . . فَقَصَّ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: (إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِىِّ، فَإنَّهُ لن يَزَالَ عليك مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ) ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (صَدَقَكَ، وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ) . قال المؤلف: إذا كان من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه، ومن قرأ آية الكرسى كان عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح، فما ظنك بمن قرأها كلها من كفاية الله له وحرزه وحمايته من الشيطان وغيره، وعظيم ما يدخر له من ثوابها. وقد روى هذا المعنى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وروى معمر، عن يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن أبى أمامة قال: قال رسول الله: (تعلموا القرآن؛ فإنه شافع لأصحابه يوم القيامة، تعلموا البقرة وآل عمران، تعلموا الزهراوين، فإنهما تأتيان يوم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 247 القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما، وتعلموا البقرة فإن تعلمها بركة وإن فى تركها حسرة ولا تطيقها البطلة) . وقال ابن مسعود: إن الشيطان يخرج من البيت الذى يقرأ سورة البقرة فيه. - باب فَضْلِ الْكَهْفِ / 29 - فيه: الْبَرَاء، كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ، وَإِلَى جَانِبِهِ حِصَانٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ، فَجَعَلَ يَدْنُو وَيَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: (تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بِالْقُرْآنِ) . قال المؤلف: روى الثورى، عن أبى هاشم الواسطى، عن أبى مجلز، عن قيس بن عبادة عن أبى سعيد الخدرى قال: من قرأ سورة الكهف كما أنزلت ثم أدرك الدجال لم يسلط عليه، ومن قرأ آخر سورة الكهف أضاء نوره من حيث قرأها ما بينه وبين مكة. وقال قتادة: من قرأ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال. والحصان: الفحل من الخيل، والشطن: الحبل، عن صاحب العين. واختلف أهل التأويل فى تفسير السكينة، فروى عن علىّ بن أبى طالب أنه قال: هى ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 248 وروي عنه أنها ريح حجوج ولها رأسان. وقال مجاهد: السكينة لها رأس الهر وجناحان وذنب كذنب الهر. وعن ابن عباس والربيع: هى دابة مثل الهر، لعينها شعاع فإذا التقى الجمعان أخرجت يدها فنظرت إليهم فيهزم إليهم ذلك الجيش من الرعب. وعن ابن عباس والسدى: هى طست من ذهب من الجنة يغسل فيها قلوب الأنبياء. وعن أبى مالك: طست من ذهب ألقى موسى فيه التوراة والألواح والعصا , وعن وهب: السكينة: روح من الله تتكلم إذا اختلفوا فى شىء بين لهم ما يريدون. وعن الضحاك: السكينة: الرحمة. وعن عطاء: السكينة: ما تعرفون من الآيات فتستكينون إليها. وهذ اختيار الطبرى. وتنزل السكينة لسماع القرآن يدل على خلاف قول السدى أنها طست من ذهب، ويشهد لصحة قول من قال: أنها روح أو شيء فيه روح، والله أعلم. - باب فَضْلِ سُورَةِ الْفَتْحِ / 30 - فيه: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أنَّهُ كَانَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فِى بعض أسفاره ليلاَ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثلاثًا، فَقَالَ عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، نَزَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ثَلاثَ مَرَّاتٍ كُلَّ ذَلِكَ لا يُجِيبُكَ، قَالَ عُمَرُ: فَحَرَّكْتُ بَعِيرِى حَتَّى كُنْتُ أَمَامَ النَّاسِ، وَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ فِىَّ قُرْآنٌ، فَمَا فَجِئْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَىَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِىَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ) ، ثُمَّ قَرَأَ) إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) [الفتح: 1] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 249 قال الطبري: فإن قال قائل: ما معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : لهى أحب إلىّ مما طلعت عليه الشمس؟ أكان النبى يحب الدنيا الحب الذى يقارب حبه، ما أخبره الله به أنه أعطاه من الكرامة، وشرفه به من الفضيلة بقوله: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) [الفتح: 1] الآية، وقد علمت أن المخبر إنما أراد المبالغة فى الخبر عن رفعة قدر النبى عنده على غيره أنه يجمع بين رفيعين من الأشياء عنده، وعن المخبرين به فيخبرهم عن فضل مكان أحدهما على الآخر عنده، وقد علمت أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يكن للدنيا عنده من القدر ما يعدك أدنى كرامة أكرمه الله تعالى بها فما وجه قوله: هى أحب إلىّ من الدنيا مع خساسة قدر الدنيا عنده وضعة منزلتها. قيل: لذلك وجهان أحدهما: أن يكون معنى قوله: هى أحب إلىّ مما طلعت عليه الشمس، هى أحب إلىّ من كل شىء؛ لأنه لا شىء إلا الدنيا والآخرة، فأخرج الخبر عن ذكر الشىء بذكر الدنيا؛ إذ كان لا شىء سواها إلا الآخرة. والوجه الثانى: أن يكون خاطب أصحابه بذلك، على ما قد جرى من استعمال الناس بينهم فى مخاطبتهم، من قولهم إذا أراد أحدهم الخبر عن نهاية محبته للشئ: هو أحب إلىّ من الدنيا، وما أعدل به من الدنيا شيئًا، كما قال تعالى: (كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ) [العلق: 15] ، ومعنى ذلك: لنهيننه ولنذلنه؛ لأن الذين خوطبوا هذا الخطاب كان فى إذلالهم من أرادوا إذلاله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 250 السفع بالناصية، فخاطبهم بالذى كانوا يتعارفون بينهم، ومثله قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أحب إلىّ مما طلعت الشمس) . - باب فَضْلِ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1] / 31 - فيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ رَجُلا سَمِعَ رَجُلا يَقْرَأُ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1] يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ) . / 32 - وَقَالَ أَبُو سَعِيد فِى حديثه مرة: إن النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لأصْحَابِهِ: (أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِى لَيْلَةٍ) ؟ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ) . اختلف العلماء فى معنى قوله: إنها تعدل ثلث القرآن، فقال أبو الحسن بن القابسى: لعل الرجل الذى بات يردد) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1] كانت منتهى حفظه، فجاء يقلل عمله، فقال له النبى (صلى الله عليه وسلم) : إنها لتعدل ثلث القرآن ترغيبًا له فى عمل الخير وإن قل، ولله تعالى أن يجازى عبدًا على يسير بأفضل مما يجازى آخر على كثير، وقال غيره: معنى قوله: إنها تعدل ثلث القرآن أن الله جعل القرآن ثلاثة أجزاء: أحدها: القصص والعبر والأمثال، والثانى: الأمر والنهى والثواب والعقاب، والثالث: التوحيد والإخلاص، وتضمنت هذه السورة صفة توحيده تعالى وتنزيهه عن الصاحبة والوالد والولد، فجعل لقارئها من الثواب كثواب من قرأ ثلث القرآن. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 251 واحتجوا بحديث أبى الدرداء أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لأصحابه: أيعجز أحدكم أن يقرأ كل ليلة ثلث القرآن؟ قالوا: نحن أعجز. قال: إن الله جزء القرآن فجعل) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1] جزءًا من أجزاء القرآن. قال المهلب: وحكاه عن الأصيلى، وهو مذهب الأشعرى وأبى بكر بن الطيب، وابن أبى زيد والداودى، وابن القابسى وجماعة علماء السنة: أن القرآن لا يفضل بعضه على بعض؛ إذ كله كلام الله وصفته، وهو غير مخلوق، ولا يجوز التفاضل إلا فى المخلوقات؛ لأن المفضول ناقص عن درجة الفاضل وصفات الله تعالى لا نقص فيها؛ ولذلك لم يجز فيها التفاضل وقد قال إسحاق بن منصور: سألت إسحاق بن راهويه عن هذا الحديث فقال لى: معناه: أن الله جعل لكلامه فضلاً على سائر الكلام، ثم فضل بعض كلامه على بعض بأن جعل لبعضه ثوابًا أضعاف ما جعل لبعض تحريضًا منه (صلى الله عليه وسلم) على تعليمه وكثرة قراءته، وليس معناه: أنه لو قرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (ثلاث مرات، كان كأنه قرأ القرآن كله، ولو قرأها أكثر من مائتى مرة. - باب الْمُعَوِّذَاتِ / 33 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا. / 34 - وَقَالَتْ أَيْضًا: كَانَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا، فَقَرَأَ فِيهِمَا: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (وَالمعوذات، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 252 يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاثَ. وقد تقدم حديث عائشة فى كتاب الطب فى باب الرقى بالمعوذات. ودل فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى رقية نفسه عند شكواه وعند نومه متعوذًا بهما على عظيم البركة فى الرقى بهما، والتعوذ بالله من كل ما يخشى فى النوم، وقد روى عبد الرزاق، عن الثورى، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس بن أبى حازم، عن عقبة بن عامر قال: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : أنزل علىّ آيات لم أسمع بمثلهن: المعوذتين. وقال عقبة فى حديثه مرة أخرى: قال لى النبى (صلى الله عليه وسلم) : (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1] و) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) [الفلق: 1] ، و) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) [الناس: 1] تعوذ بهن، فإنه لم يتعوذ بمثلهن قط. وقد تقدم فى كتاب المرضى فى باب النفث فى الرقية من كره النفث من العلماء فى الرقية ومن أجازه. - باب نُزُولِ السَّكِينَةِ وَالْمَلائِكَةِ عِنْدَ القِرَاءَةِ / 35 - وفيه: مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أن أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، بَيْنَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ؛ إِذْ جَالَتِ الْفَرَسُ، فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ، ثُمَّ قَرَأَ، فَجَالَتِ الْفَرَسُ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَكَانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا، فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ) ، قَالَ: فَأَشْفَقْتُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْ تَطَأَ يَحْيَى، وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِى، فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِى إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ، فَخَرَجَتْ حَتَّى لا أَرَاهَا، قَالَ: (وَتَدْرِى مَا ذَاكَ) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: (تِلْكَ الْمَلائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لأصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا لا تَتَوَارَى مِنْهُمْ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 253 في هذا الحديث أن أسيد بن حضير رأى مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (تلك الملائكة تنزلت للقرآن) ، وقال (صلى الله عليه وسلم) فى حديث البراء فى سورة الكهف: (تلك السكينة نزلت للقرآن) . فمرة أخبر (صلى الله عليه وسلم) عن نزول السكينة، ومرة أخرى عن نزول الملائكة، فدل على أن السكينة كانت فى تلك الظلة وأنها تنزل أبدًا مع الملائكة، والله أعلم، ولذلك ترجم البخارى باب نزول السكينة والملائكة عند القراءة. وفى هذا الحديث أن الملائكة تحب أن تسمع القرآن من بنى آدم لا سيما قراءة المحسنين منهم، وكان أسيد بن حضير حسن الصوت بالقرآن ودل قوله (صلى الله عليه وسلم) لأسيد: لو قرأت لأصبحت تنظر الناس إليها لا تتوارى منهم على حرص الملائكة على سماع كتاب الله من بنى آدم. وقد جاء فى الحديث أن البيت الذى يقرأ فيه القرآن يضئ لأهل السماء كما يضئ النجم لأهل الأرض وتحضره الملائكة، وهذا كله ترغيب فى حفظ القرآن، وقيام الليل به، وتحسين قراءته. وفيه جواز رؤية بنى آدم للملائكة إذا تصورت فى صورة يمكن للآدميين رؤيتها، كما كان جبريل (صلى الله عليه وسلم) يظهر للنبى (صلى الله عليه وسلم) فى صورة رجل فيكلمه، وكثيرًا ما كان يأتيه فى صورة دحية الكلبى وقد تقدم فى باب الكهف تفسير السكينة بما أغنى عن إعادته. وقوله: (لو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم) حجة لمن قال: إن السكينة روح أو شىء فيه روح؛ لأنه لا يصح حب استماع القرآن إلا لمن يعقل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 254 15 - باب مَنْ قَالَ: لَمْ يَتْرُكِ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ / 36 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّهُ سُئل: هل تَرَكَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ شَىْءٍ؟ قَالَ: مَا تَرَكَ إِلا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ. ومُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ مثله. - باب الْوَصاةِ بِكِتَابِ اللَّهِ / 37 - فيه: طَلْحَةُ، أَنَّهُ سَأَل عَبْدَاللَّهِ بْنَ أَبِى أَوْفَى: آوْصَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَقَالَ: لا، قُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَ عَلَى النَّاسِ الْوَصِيَّةُ؟ أُمِرُوا بِهَا وَلَمْ يُوصِ، قَالَ: (أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ) . هذان البابان يردان قول من زعم أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أوصى إلى أحد، وأن على بن أبى طالب الوصى، وكذلك قال على بن أبى طالب حين سئل عن ذلك فقال: ما عندنا إلا كتاب الله وما فى هذه الصحيفة، الصحيفة مقرونة بسيفه، فيها العقل وفكاك الأسير، ولا يقتل مؤمن بكافر، وقد تقدم ذلك فى غير موضع. - باب فَضْلِ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلامِ / 38 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالأتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَالَّذِى لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلا رِيحَ لَهَا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 255 وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ، طَعْمُهَا مُرٌّ وَلا رِيحَ لَهَا) . / 39 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِيما خَلا مِنَ الأمَمِ كمثل مَا بَيْنَ صَلاةِ الْعَصْرِ وَمَغْرِبِ الشَّمْسِ، وَمَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالا، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِى إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِى مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى الْعَصْرِ، عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى، ثُمَّ أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ بِقِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، قَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلا، وَأَقَلُّ عَطَاءً، قَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فَذَاكَ فَضْلِى أُوتِيهِ مَنْ شِئْتُ) . قال المؤلف: وجه ذكر البخارى لهذين الحديثين فى هذا الباب هو أنه لما كان ما جمع طيب الريح وطيب المطعم أفضل المأكولات، وشبه النبى المؤمن الذى يقرأ القرآن بالأترجة التى جمعت طيب الريح وطيب المطعم؛ دل ذلك أن القرآن أفضل الكلام، ودل هذا الحديث على مثل القرآن وحامله والعامل به والتارك له، وكذلك حديث ابن عمر، لما كان المسلمون أكثر أجرًا من أهل التوراة وأهل الإنجيل دل ذلك على فضل القرآن على التوراة والإنجيل؛ لأن المسلمين إنما استحقوا هذه الفضيلة بالقرآن الذى فضلهم الله به، وجعل فيه للحسنة عشر أمثالها وللسيئة واحدة، وتفضل عليهم بأن أعطاهم على تلاوته لكل حرف عشر حسنات كما قال ابن مسعود، وقد أسنده عن النبى أيضًا، وقد وردت آثار كثيرة فى فضائل القرآن والترغيب فى قراءته. روى سفيان عن عاصم، عن زر عن عبد الله بن عمرو، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتقِ ورتل كما كنت ترتل فى الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 256 وقالت عائشة: جعلت درج الجنة على عدد آى القرآن، فمن قرأ ثلث القرآن كان على الثلث من درج الجنة، ومن قرأ نصفه كان على النصف من درج الجنة، ومن قرأ القرآن كله كان فى عاليه لم يكن فوقه أحد إلا نبى أو صديق أو شهيد. وروى أبو قبيل: عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إن القرآن والصيام يشفعان يوم القيامة لصاحبهما، فيقول الصيام: يا رب، إنى منعته الطعام والشراب فشفعنى فيه، ويقول القرآن: يا رب، إنى منعته النوم بالليل فشفعنى فيه فيشفعان فيه) . وروى أبو نعيم، عن بشير بن المهاجر، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: كنت جالسًا عند النبى (صلى الله عليه وسلم) فسمعته يقول: إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاب فيقول: هل تعرفنى؟ فيقول: ما أعرفك. فيقول: أنا صاحبك القرآن الذى أظمأتك فى الهواجر وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك من وراء كل تجارة، فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين لا تقوم لهما الدنيا، فيقولان: بما كسينا هذا؟ فيقال لهما: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال: اقرأ واصعد فى درج الجنة وغرفها، فهو فى صعود ما دام يقرأ هذا كان أو ترتيلاً. وقال ابن عباس: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 257 - باب مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) [العنكبوت: 51] . / 40 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ لِشَىْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِىِّ أَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ) . وَقَالَ صَاحِبٌ لَهُ: يُرِيدُ: يَجْهَرُ بِهِ. / 41 - وَقَالَ مرة: مَا أَذِنَ لنَّبِىّ مَا أَذِنَ اللَّه لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ. قَالَ سُفْيَانُ: تَفْسِيرُهُ يَسْتَغْنِى بِهِ. وذكر فى كتاب الاعتصام حديث أبى هريرة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) . وزاد غيره: (يجهر به) . وذكره فى باب قوله تعالى: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) [الملك: 13] . واختلف الناس فى معنى التغنى بالقرآن؛ ففسره ابن عيينة على أن المراد بالاستغناء، الذى هو ضد الافتقار، ورواه عن سعد ابن أبى وقاص، ذكر الحميدى، عن سفيان، حدثنا ابن جريج، عن ابن أبى مليكة، عن عبد الله بن أبى نهيك قال: لقينى سعد بن أبى وقاص فى السوق فقال: أتجار كبسة، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) . وهكذا فسره وكيع، ومن تأول هذا التأويل كره قراءة القرآن بالألحان والترجيع. روى ذلك عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب، والحسن، وابن سيرين، وسعيد بن جبير والنخعى، وقال النخعى: كانوا يكرهون القراءة بتطريب، وكانوا إذا قرأوا القرآن قرأوه حدرًا ترتيلاً بحزن، وهو قول مالك: روى ابن القاسم عنه أنه سئل عن الإلحان فى الصلاة فقال: لا يعجبنى، وأعظم القول فيه، وقال: إنما هو غناء يتغنون به ليأخذوا عليه الدراهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 258 وقد روي عن ابن عيينة وجه آخر، ذكره إسحاق بن راهويه قال: كان ابن عيينة يقول: معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما أذن الله لشىء ما أذن لنبى أن يتغنى بالقرآن) . يريد يستغنى به عما سواه من الأحاديث. وقالت طائفة: معنى التغنى بالقرآن: تحسين الصوت به والترجيع بقرائته، والتغنى بما شاء من الأصوات واللحون وهو معنى قوله: وقال صاحب له يريد: يجهر به. قال الخطابى: والعرب تقول: سمعت فلانا يغنى بهذا الحديث، أى يجهر به، ويصرح لا يكنى. وقال أبو عاصم: أخذ بيدى ابن جريج ووقفنى على أشعب الطماع وقال: عن ابن أخى، ما بلغ من طمعكم؟ قال: ما زفت امرأة بالمدينة إلا كشحت بيتى رجاء أن تهدى إلىّ. يقول أخبر ابن أخى بذلك مجاهدًا غير مساتر ومنه قول ذى الرمة: أحب المكان القفر من أجل أننى بها أتغنى باسمها غير معجم أى أجهر بالصوت بذكرها، لا أكنى عنها حذار كاشح أو خوف رقيب. قال المؤلف: ذكر عمر بن شيبة قال: ذكرت لأبى عاصم النبيل تأويل ابن عيينة فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : يتغنى بالقرآن: يستغنى به. فقال: لم يصنع ابن عيينة شيئًا، حدثنا ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير قال: كانت لداود نبى الله معزفة يتغنى عليها وتبكى ويبكى. وقال ابن عباس: إنه كان يقرأ الزبور بسبعين لحنًا، يلون فيهن، ويقرأ قراءة يطرب منها المحموم، فإذا أراد أن يبكى نفسه لم تبق دابة فى بر أو بحر إلا أنصتن يسمعن ويبكين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 259 ومن الحجة لهذا القول أيضًا حديث ابن معقل فى وصف قراءة رسول الله وفيه (ثلاث مرات) وهذا غاية الترجيع ذكره البخارى فى كتاب الاعتصام وسئل الشافعى عن تأويل ابن عيينة فقال: نحن أعلم بهذا، لو أراد (صلى الله عليه وسلم) الاستغناء لقال: من لم يستغن بالقرآن. ولكن لما قال (صلى الله عليه وسلم) : يتغن بالقرآن. علمنا أنه أراد به التغنى، وكذلك فسر ابن أبى مليكة التغنى أنه تحسين الصوت به، وهو قول ابن المبارك والنضر بن شميل. وممن أجاز الإلحان فى القراءة: ذكر الطبرى عن عمر بن الخطاب أنه كان يقول لأبى موسى ذكرنا ربنا، فيقرأ أبو موسى ويتلاحن. وقال مرة: من استطاع أن يغني بالقرآن غناء أبي موسى فليفعل. وكان عقبة بن عامر من أحسن الناس صوتًا بالقرآن. فقال له عمر: اعرض علىّ سورة كذا، فقرأ عليه فبكى عمر وقال: ما كنت أظن أنها نزلت. وأجازه ابن عباس وابن مسعود، وروى عن عطاء بن أبى رباح، واحتج بحديث عبيد بن عمير، وكان عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد يتتبع الصوت الحسن فى المساجد فى شهر رمضان. وذكر الطحاوى عن أبى حنيفة وأصحابه أنهم كانوا يسمعون القرآن بالألحان، وقال محمد بن عبد الحكم: رأيت أبى والشافعى ويوسف بن عمير يسمعون القرآن بالألحان. واحتج الطبرى لهذا القول، وقال: الدليل على أن معنى الحديث: تحسين الصوت والغناء المعقول الذى هو تحزين القارئ سامع قراءته، كما الغناء بالشعر هو الغناء المعقول الذى يطرب السامع؛ ما روى سفيان عن الزهرى عن أبى سلمة عن أبى هريرة أن النبي - عليه السلام - قال: (ما أذن الله لشىء ما أذن لنبي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 260 حسن الترنم بالقرآن) ، ومعقول عند ذوى الحجا أن الترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه المترنم وطرب به. وروى فى هذا الحديث: ما أذن الله لشىء ما أذن لنبى حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به، رواه يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبى سلمة عن أبى هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . قال الطبرى: وهذا الحديث أبين البيان أن ذلك كما قلنا، ولو كان كما قال ابن عيينة لم يكن كذلك، وحسن الصوت والجهر به معنى. والمعروف فى كلام العرب أن التغنى إنما هو الغناء الذى هو حسن الصوت بالترجيع، وقال الشاعر: تغن بالشعر أما كنت قائله إن الغناء لهذا الشعر مضمار قال: وأما ادعاء الزاعم أن تغنيت بمعنى استغنيت فاش فى كلام العرب وأشعارها، فلا نعلم أحدًا من أهل العلم بكلام العرب قاله، وأما احتجاجه ليصح قوله بقول الأعشى: وكنت امرءًا زمنًا بالعراق عفيف المناح طويل التغن وزعم أنه أراد بقوله: طويل التغن: طويل الاستغناء، أى الغنى، فإنه غلط، وإنما عنى الأعشى بالتغنى فى هذا الموضع الإقامة من قول العرب: غنى فلان بمكان كذا إذا أقام به، ومنه قوله تعالى: (كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا) [الأعراف: 92] ، وأما استشهاده بقوله: كلانا غنى عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشد تغانيا فإنه إغفال منه، وذلك أن التغانى تفاعل من نفسين، إذا استغنى كل واحد منهما عن صاحبه كما يقال: تضارب الرجلان إذا ضرب كل واحد منهما صاحبه، وتشاتما وتقاتلا، ومن قال هذا القول فى فعل اثنين لم يجز أن يقول مثله فى فعل الواحد، وغير جائز الجزء: 10 ¦ الصفحة: 261 أن يقال: تغاني زيد وتضارب عمرو، وكذلك غير جائز أن يقال: تغنى زيد بمعنى استغنى، إلا أن يريد قائله أنه أظهر الاستغناء وهو به غير مستغن كما يقال: تجلد فلان إذا أظهر الجلد من نفسه، وهو غير جليد، وتشجع وهو غير شجاع، وتكرم وهو غير كريم، فإن وجه موجه الغنى بالقرآن إلى هذا المعنى على بعده عن مفهوم كلام العرب كانت المصيبة فى خطابه فى ذلك أعظم؛ لأنه لا يوجب ذلك من تأويله أن يكون الله تعالى لم يأذن لنبيه أن يستغنى بالقرآن، وإنما أذن له أن يظهر للناس من نفسه خلاف ما هو به من الخلال، وهذا لا يخفى فساده. قال: ومما بين فساد تأويل ابن عيينة أيضًا ألا يستغنى عن الناس بالقرآن. من المحال أن يوصف أحد بأنه يؤذن له فيه أو لا يؤذن إلا أن يكون الإذن عند ابن عيينة بمعنى الإذن الذى هو إطلاق وإباحة، فإن كان كذلك فهو غلط من وجهين: أحدهما: من اللغة، والثانى: من إحالة المعنى عن وجهه، فأما اللغة فإن الإذن مصدر قوله أذن فلان لكلام فلان، فهو يأذن له إذا استمع له وأنصت، كما قال تعالى: (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) [الانشقاق: 2] ، بمعنى سمعت لربها وحق لها ذلك، كما قال عدى بن يزيد: إن همى فى سماع وأذن يمعنى: فى سماع واستماع. فمعنى قوله: ما أذن الله لشىء إنما هو ما استمع الله إلى شىء من كلام الناس إلى نبى يتغنى بالقرآن. وأما الإحالة فى المعنى فلأن الاستغناء بالقرآن عن الناس غير جائز وصفه بأنه مسموع ومأذون له. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 262 قال المؤلف: وقد رفع الإشكال فى هذه المسألة أيضًا ما رواه ابن أبى شيبة قال: حدثنا يزيد بن الحباب قال: حدثنا موسى بن على بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (تعلموا القرآن وتغنوا به واكتبوه، فوالذى نفسى بيده لهو أشد تقصيًا من المخاض من العقل) . وذكر أهل التأويل فى قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) [العنكبوت: 51] أن هذه الآية نزلت فى قوم أتوا النبى بكتاب فيه خبر من أخبار الأمم. فالمراد بالآية الاستغناء بالقرآن عن علم أخبار الأمم على ما ذكره إسحاق بن راهويه عن ابن عيينة، وليس المراد بالآية الاستغناء الذى هو ضد الفقر واتباع البخارى الترجمة بهذه الآية يدل أن هذا كان مذهبه فى الحديث، والله أعلم. وسيأتى شىء من هذا المعنى فى آخر كتاب الاعتصام فى باب ذكر النبى (صلى الله عليه وسلم) وروايته عن ربه عز وجل، وفى باب قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (الماهر بالقرآن مع الكرام البررة، إن شاء الله، عز وجل) . - باب اغْتِبَاطِ صَاحِبِ الْقُرْآنِ / 42 - فيه: ابْن عُمَرَ، سَمِعْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا حَسَدَ إِلا عَلَى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ، وَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَرَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالا، فَهُوَ يَتَصَدَّقُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) . / 43 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا حَسَدَ إِلا فِى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ عَلَّمَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 263 اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَسَمِعَهُ جَارٌ لَهُ، فَقَالَ: لَيْتَنِى أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ فُلانٌ، فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا، فَهُوَ يُهْلِكُهُ فِى الْحَقِّ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَيْتَنِى أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ فُلانٌ، فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ) . قال المؤلف: ذكر أبو عبيد بإسناده عن عبد الله بن عمر بن العاص قال: من جمع القرآن فقد حمل أمرًا عظيمًا، وقد استدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه، فلا ينبغى لصاحب القرآن أن يرفث فيمن يرفث ولا يجهل فيمن يجهل، وفى جوفه كلام الله. وقال سفيان بن عيينة: من أعطى القرآن فمد عينيه إلى شىء ما صغر القرآن فقد خالف القرآن، ألم يسمع قوله عز وجل: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِى وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [الحجر: 87] الآية. قال: يعنى القرآن، وقوله عز وجل: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا) [السجدة: 16] الآية. قال: هو القرآن. قال أبو عبيد: ومن ذلك قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (ما أنفق عبد من نفقة أفضل من نفقة فى قول) . ومنه قول شريح لرجل سمعه يتكلم فقال له: أمسك عليك نفقتك. وفى حديث ابن عمر وأبى هريرة: أن حامل القرآن ينبغى له القيام به آناء الليل والنهار، ومن فعل ذلك فهو الذى يحسد على فعله فيه، وكذلك من آتاه الله مالاً وتصدق به آناء الليل والنهار، فهو المحسود عليه، ومن لم يتصدق به وشح عليه فلا ينبغى حسده عليه لما يجتنى من سوء عاقبته وحسابه عليه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 264 - باب خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ / 44 - فيه: عُثْمَان، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ) . قَالَ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ وَذَاكَ الَّذِى أَقْعَدَنِى مَقْعَدِى هَذَا. وَقَالَ مرة: (إِنَّ أَفْضَلَكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ) . / 45 - وفيه: سَهْل بْنِ سَعْد، أن امْرَأَةٌ قَالَ: (أَتَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَتْ: إِنِّى قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) . . . الحديث، فَقَالَ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا. . . إلى قوله: (قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) . قال المؤلف: حديث عثمان يدل أن قراءة القرآن أفضل أعمال البر كلها؛ لأنه لما كان من تعلم القرآن أو علمه أفضل الناس وخيرهم دل ذلك على ما قلناه؛ لأنه إنما وجبت له الخيرية والفضل من أجل القرآن، وكان له فضل التعليم جاريًا ما دام كل من علمه تاليًا. وحديث سهل إنما ذكره فى هذا الباب؛ لأنه زوجه المرآة لحرمة القرآن. ومما روى فى فضل تعلم القرآن وحمله ما ذكره أبو عبيد من حديث عقبة بن عامر قال: خرج علينا رسول الله ونحن فى الصفة، فقال: (أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو العقيق فيأخذ ناقتين كوماوين زهراوين فى غير إثم ولا قطيعة رحم. قلنا: كلنا يا رسول الله نحب ذلك قال: فلأن بعد يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين ومن ثلاث ومن أعدادهن من الإبل. وذكر عن كعب الأحبار أن فى التوراة أن الفتى إذا تعلم القرآن وهو حديث السن وعمل به وحرص عليه وتابعه؛ خلطه الله بلحمه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 265 ودمه وكتبه عنده من السفرة الكرام البررة، وإذا تعلم الرجل القرآن وقد دخل فى السن وحرص عليه، وهو فى ذلك يتابعه وينفلت منه كتب له أجره مرتين. وروى عن الأعمش قال: مر أعرابى بعبد الله بن مسعود وهو يقرئ قومًا القرآن فقال: ما يصنع هؤلاء؟ فقال ابن مسعود: يقتسمون ميراث محمد (صلى الله عليه وسلم) . وقال عبد الله بن عمرو: عليكم بالقرآن، فتعلموه وعلموه أبنائكم، فإنكم عنه تسألون، وبه تجزون، وكفى به واعظًا لمن عقل. وقال ابن مسعود: لا يسأل أحد عن نفسه غير القرآن، فإن كان يحب القرآن فإنه يحب الله ورسوله، وعن أنس عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إن لله أهلين من الناس. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: هم أهل القرآن، أهل الله وخاصته) . - باب الْقِرَاءَةِ عَلى ظَهْرِ قَلبه / 46 - فيه: سَهْل بْنِ سَعْدٍ، وذكر حديث الموهوبة، وَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) للرجل (مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) ؟ قَالَ: مَعِى سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، عَدَّهَا، قَالَ: (أَتَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) . قال المؤلف: هذا الحديث يدل على خلاف ما تأوله الشافعى فى إنكاح النبى (صلى الله عليه وسلم) الرجل بما معه من القرآن، أنه إنما زوجه إياها بأجرة تعليمها. وقوله فى هذا الحديث: أتقرؤهن عن ظهر قلبك؟ قال: نعم. فزوجه لذلك. فدل أنه (صلى الله عليه وسلم) إنما زوجها منه لحرمه استظهاره الجزء: 10 ¦ الصفحة: 266 للقرآن. وقد روى عن النبي - عليه السلام - تعظيم حامل القرآن وإجلاله وتقديمه. ذكر أبو عبيد من حديث طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إن من تعظيم جلال الله إكرام ثلاثة: الإمام المقسط، وذى الشيبة المسلم، وحامل القرآن) . وكان (صلى الله عليه وسلم) يأمر يوم أحد بدفن الرجلين والثلاثة فى قبر واحد، ويقول: قدموا أكثرهم قرآنًا. وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه أمر بالقراءة فى المصحف نظرًا من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (أعطوا أعينكم حظها من العبادة، قالوا: يا رسول الله، وما حظها من العبادة؟ قال: النظر فى المصحف والتفكر فيه، والاعتبار عند عجائبه) . وقال يزيد بن أبى حبيب: من قرأ القرآن فى المصحف خفف عن والديه العذاب وإن كانا كافرين. وعن عبد الله بن حسان قال: اجتمع اثنا عشر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على أن من أفضل العبادة قراءة القرآن نظرًا، وقال أسد بن وداعة: ليس من العبادة شىء أشد على الشيطان من قراءة القرآن نظرًا. وقال وكيع: قال الثورى: سمعنا أن تلاوة القرآن فى الصلاة أفضل من تلاوته فى غير الصلاة، وتلاوة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الصدقة، والصدقة أفضل من الصوم، والقراءة فى المصحف أفضل من القراءة ظاهرًا؛ لأنها رياء. هذه الآثار من رواية ابن وضاح. - باب اسْتِذْكَارِ الْقُرْآنِ وَتَعَاهُدِهِ / 47 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الإبِلِ الْمُعَقَّلَةِ، إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 267 / 48 - وفيه: ابْن مسعود، عن النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ من عقلها) . أَبُو مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ: (تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ) . قال المؤلف: إنما شبه (صلى الله عليه وسلم) صاحب القرآن بصاحب الإبل المعلقة إن عاهد عليها أمسكها وأنه يتفصى من صدور الرجال؛ لقوله تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل: 5] ، فوصفه تعالى بالثقل، ولولا ما أعان على حفظه ما حفظوه، فقال: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة: 17] ، وقال: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) [القمر: 17] ، فبتيسير الله وعونه لهم عليه بقى فى صدورهم، فهذان الحديثان يفسران آيات التنزيل؛ فكأنه قال تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة: 17] ،) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) [القمر: 17] ، إذا تعوهد وقرئ أبدًا وتذكر. وقوله: أشد تفصيًا، أى تفلتًا، قال صاحب العين: فصى اللحم عن العظم إذا انفسخ، والإنسان يتفصى من الشىء إذا تخلص منه، والاسم الفصية. - باب الْقِرَاءَةِ عَلَى الدَّابَّةِ / 49 - فيه: ابْنَ مُغَفَّل، رَأَيْتُ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَى رَاحِلَتِهِ سُورَةَ الْفَتْحِ. إنما أراد بهذا الباب والله أعلم ليدل أن القراءة على الدابة سنة موجودة، وأصل هذه السنة فى كتاب الله تعالى، وهو قوله: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 268 ) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) [الزخرف: 13] . - باب تَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ الْقُرْآنَ / 50 - فيه: ابْن جُبَيْر، قَالَ: إِنَّ الَّذِى تَدْعُونَهُ الْمُفَصَّلَ هُوَ الْمُحْكَمُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاس: تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنَا ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، وَقَدْ قَرَأْتُ الْمُحْكَمَ. قيل لَهُ: وَمَا الْمُحْكَمُ؟ قَالَ: الْمُفَصَّلُ. ذكر ابن أبى زيد قال: روى أن تعليم القرآن الصبيان يطفئ غضب الرب، وإنما سمى المفصل لكثرة السور والفصول فيه، عن ابن عباس. وقيل: إنما سمى بالمحكم أيضًا؛ لأن أكثره لا نسخ فيه. واختلف فى سن ابن عباس حين مات النبي (صلى الله عليه وسلم) فروى أبو بشير، عن سعيد بن جبير فى هذا الباب ما تقدم. وقال أبو إسحاق عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: قبض النبى (صلى الله عليه وسلم) وأنا ختين. وروي شعبة، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: توفي النبي (صلى الله عليه وسلم) وأنا ابن خمس عشرة سنة. وذكر الزبير والواقدى أن ابن عباس ولد فى الشعب، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، وكان ابن ثلاث عشرة سنة حين توفي النبي (صلى الله عليه وسلم) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 269 - باب نِسْيَانِ الْقُرْآنِ وَهَلْ يَقُولُ نَسِيتُ آيَةَ كَذَا وَكَذَا؟ وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى) [الأعلى: 6] / 51 - فيه: عَائِشَةَ، سَمِعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلا يَقْرَأُ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: (يَرْحَمُهُ اللَّهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِى كَذَا وَكَذَا آيَةً مِنْ سُورَةِ كَذَا) . / 52 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا لأحَدِهِمْ، يَقُولُ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ هُوَ نُسِّىَ) . قال المؤلف: قد نطق القرآن بإضافة النسيان إلى العبد فى قوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى) [الأعلى: 6] وشهد ذلك بصدق حديث عائشة أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: (يرحمه الله، لقد أذكرنى كذا وكذا آية أسقطتهن من سورة كذا) . فأضاف الإسقاط إلى نفسه، والإسقاط هو النسيان بعينه. وحديث عبد الله خلاف هذا، وهو قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما لأحدهم يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل هو نسى) . فاستحب (صلى الله عليه وسلم) أن يضيف النسيان إلى خالقه الذى هو الله تعالى وقد جاء فى القرآن عن موسى (صلى الله عليه وسلم) أنه أضاف النسيان مرة إلى نفسه ومرة إلى الشيطان فقال: (فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) [الكهف: 63] . وقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إنى لأنسى أو أنسى) ، يعنى إنى لأنسى أنا أو ينسينى ربى، فنسب النسيان مرة إلى نفسه، ومرة إلى الله تعالى هذا على قول من لم يجعل قوله: إنى لأنسى أو أنسى شكا من المحدث فى أى الكلمتين قال. وهو قول عيسى بن دينار، وليس فى شىء من ذلك اختلاف ولا تضاد فى المعنى، لأن لكل إضافة منها معنى صحيحًا فى كلام العرب، فمن أضاف النسيان إلى الله فلأنه خالقه وخالق الأفعال كلها، ومن نسبه إلى نفسه فلأن النسيان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 270 فعل منه مضاف إليه من جهة الاكتساب والتصرف، ومن نسبه إلى الشيطان فهو بمعنى الوسوسة فى الصدور وحديث الأنفس بما جعل الله للشيطان من السلطان على هذه الوسوسة، فلكل إضافة منها وجه صحيح، وإنما أراد (صلى الله عليه وسلم) بقوله والله أعلم: (ما لأحدهم يقول نسيت آية كذا وكذا؛ بل هو نسى) أن يجرى على ألسن العباد نسبة الأفعال إلى بارئها وخالقها، وهو الله؛ ففى ذلك إقرار له بالعبودية واستسلام لقدرته، وهو أولى من نسبة الأفعال إلى مكتسبها فإن نسبها إلى مكتسبها فجائز بدليل الكتاب والسنة. - باب مَنْ لَمْ يَرَ بَأْسًا أَنْ يَقُولَ: سُورَةُ الْبَقَرَةِ / 53 - فيه: أَبُو مَسْعُود الأنْصَارِىِّ، قال (صلى الله عليه وسلم) : (الآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَ بِهِمَا كَفَتَاهُ) . / 54 - وفيه: عُمَرَ، أَنَّهُ سَمع هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ، يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ. . . الحديث. / 55 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) سَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: (يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِى كَذَا وَكَذَا آيَةً، أَسْقَطْتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا) . فى هذه الأحاديث رد قول من يقول أنه لا يجوز أن يقول سورة البقرة، ولا سورة آل عمران، وزعم أن الصواب فى ذلك أن يقال: السورة التى يذكر فيها البقرة ويذكر فيها آل عمران، وهو قول يروى عن بعض السلف. وقالوا: إذا قال سورة البقرة وسورة آل عمران فقد أضاف السورة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 271 إلى البقرة، والبقرة لا سورة لها، وقد تقدم فى كتاب الحج فى باب يكبر مع كل حصاة. - باب التَّرْتِيلِ فِى الْقِرَاءةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) [المزمل: 4] ، وَقَوْلِهِ: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ونزلناه تنزيلا) [الإسراء: 106] ، وَمَا يُكْرَهُ أَنْ يُهَذَّ كَهَذِّ الشِّعْرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (فَرَقْنَاهُ (فَصَّلْنَاهُ. / 56 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، أن رَجُلاً قَالَ: قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ الْبَارِحَةَ، فَقَالَ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، إِنَّا قَدْ سَمِعْنَا الْقِرَاءَةَ، وَإِنِّى لأحْفَظُ الْقُرَنَاءَ الَّتِى كَانَ يَقْرَأُ بِهِنَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ثَمَانِىَ عَشْرَةَ سُورَةً مِنَ الْمُفَصَّلِ وَسُورَتَيْنِ مِنْ آلِ حم. / 57 - وفيه: ابْن عَبَّاس، فِى قَوْلِهِ تَعَالَى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) [القيامة: 16] ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْوَحْىِ، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ، فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ، وَكَانَ يُعْرَفُ مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ (الحديث. قال المؤلف: ذكر أبو عبيد عن مجاهد فى قوله تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) [المزمل: 4] ، قال: ترسل ترسلاً. وقال أبو حمزة: قلت لابن عباس: إنى سريع القرآءة، وإنى أقرأ القرآن فى ثلاث، فقال: لأن أقرأ البقرة فى ليلة فأتدبرها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 272 وأرتلها خير من أن أقرأ كما تقول. وقال مرة: خير من أجمع القرآن هذرمة، وأكثر العلماء يستحبون الترتيل فى القراءة ليتدبره القارئ ويتفهم معانيه. روى علقمة عن ابن مسعود قال: لا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة. وذكر أبو عبيد أن رجلاً سأل مجاهداَ عن رجل قرأ البقرة وآل عمران، ورجل قرأ البقرة قيامهما واحد وركوعهما واحد وسجودهما واحد، أيهما أفضل؟ قال: الذى قرأ البقرة. وقرأ: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) [الإسراء: 106] . الآية. وقال الشعبى: إذا قرأتم القرآن فاقرءوه قراءة تسمعه آذانكم، وتفهمه قلوبكم، فإن الأذنين عدل بين اللسان والقلب، فإذا مررتم بذكر الله فاذكروا الله، وإذا مررتم بذكر النار فاستعيذوا بالله منها، وإذا مررتم بذكر الجنة فاسألوها الله. وفيها قول آخر؛ روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك فى الهذ قى القراءة قال: من الناس من إذا هذ أخف عليه وإذا رتل أخطأ، ومن الناس من لا يحسن الهذ، والناس فى هذا على قدر حالاتهم وما يخف عليهم، وكل واسع. وقد روى عن جماعة من السلف أنهم كانوا يختمون القرآن فى ركعة، وهذا لا يتمكن إلا بالهذ، والحجة لهذا القول حديث أبى هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (خفف على داود القرآن، فكان يأمر بدوابه فتسرح فيقرأ القرآن قبل أن تسرح) ، وهذا لا يتم إلا بالهذ وسرعة القراءة، والمراد بالقرآن فى هذا الحديث الزبور. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 273 ذكره البخاري في كتاب الأنبياء وداود (صلى الله عليه وسلم) ممن أنزل الله فيه: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام: 90] ، وإنما ذكر النبى (صلى الله عليه وسلم) هذا الفعل من داود (صلى الله عليه وسلم) على وجه الفضيلة له والإعجاب بفعله، ولو ذكره على غير ذلك لنسخه ولأمر بمخالفته، فدل على إباحة فعله والله أعلم، وسأذكر من كان يقرأ القرآن فى ركعة بعد هذا فى باب: فى كم يقرأ القرآن، إن شاء الله. - باب مَدِّ الْقِرَاءَةِ / 58 - فيه: أَنَس أنَّهُ سُئل عن قِرَاءَةُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: كَانَ يمد مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (يَمُدُّ بِبِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ. وذكر أبو عبيد عن الليث عن ابن أبى مليكة، عن يعلى بن مالك عن أم سلمة أنها نعتت قراءة رسول الله قراءة مفسرة حرفًا حرفًا. وقالت أم سلمة أيضًا: كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يقطع قراءته، وإنما كان يفعل ذلك والله أعلم لأمر الله له بالترتيل، وأن يقرأه على مكث، وألا يحرك به لسانه ليعجل به، فامتثل أمر ربه تعالى فكان يقرؤه على مهل ليبين لأمته كيف يقرءون، وكيف يمكنهم تدبر القرآن وفهمه. وذكر أبو عبيد عن إبراهيم قال: قرأ علقمة على عبد الله فكأنه عجل؛ فقال عبد الله: فداك أبى وأمى، رتل قراءته، زين القرآن. وكان علقمة حسن الصوت بالقرآن. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 274 - باب التَّرْجِيعِ / 59 - فيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ أَوْ جَمَلِهِ، وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ قِرَاءَةً لَيِّنَةً يَقْرَأُ، وَيُرَجِّعُ. فذكر البخارى هذا الحديث فى آخر كتاب الاعتصام، وزاد فيه: ثم قرأ معاوية قراءة لينة ورجع، ثم قال: لولا أنى أخشى أن يجتمع الناس عليكم لرجعت كما رجع ابن مغفل، يعنى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فقلت لمعاوية: كيف كان ترجيعه قال: آاثلاث مرات. وفى هذا الحديث من الفقه إجازة قراءة القرآن بالترجيع والإلحان؛ لقوله فى وصف قراءته (صلى الله عليه وسلم) : آاثلاثًا، وهذا غاية الترجيع، وقد تقدم فى باب: من لم يتغن بالقرآن. 30 - باب حُسْنِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ / 60 - فيه: أَبُو مُوسَى، أن النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ لَهُ: (لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ) . وروى ابن شهاب عن أبى سلمة قال: كان عمر إذا رأى أبا موسى قال: ذكرنا ربنا يا أبا موسى. فيقرأ عنده. وقال أبو عثمان النهدى: كان أبو موسى يصلى بنا فلو قلت: إنى لم أسمع صوت صنج قط ولا صوت بربط ولا شيئًا قط أحسن من صوته. قال أبو عبيد: ومحمل الأحاديث التى جاءت فى حسن الصوت إنما هو على طريق الحزن والتخويف والتشويق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 275 يبين ذلك حديث أبى موسى أن أزواج النبى سمعوا قراءته فأخبر بذلك فقال: لو علمت لشوقت تشويقًا وحبرت تحبيرًا، فهذا وجهه، لا الألحان المطربة الملهية. روى سفيان، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: سئل رسول الله، أى الناس أحسن صوتًا بالقرآن؟ قال: الذى إذا سمعته رأيته يخشى الله. وعن ابن أبى مليكة عن عبد الرحمن بن السائب قال: قدم علينا سعد بعد ما كف بصره فأتيته مسلمًا فانتسبنى فانتسبت له، فقال: مرحبًا بابن أخى، بلغنى أنك حسن الصوت بالقرآن، وسمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: إن هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا. وذكر أبو عبيد بإسناده قال: كنا على سطح، ومعنا رجل من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال المحدث: ولا أعلمه إلا عيسى الغفارى، فرأى الناس يخرجون فى الطاعون يفرون فقال: يا طاعون، خذنى إليك، فقيل: أتتمنى الموت وقد نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك؟ قال: إنى أبادر خصالاً، سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يتخوفهن على أمته: بيع الحكم، والاستخفاف بالدم، وقطيعة الرحم، وقوم يتخذون القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بأفقههم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم به غناء، وقال أبو سليمان الخطابى: قوله: آل داود، فإنه أراد داود نفسه لأنا لا نعلم أحدًا من آله أعطى من حسن الصوت ما أعطى داود قال غيره: والآل عند العرب: الشخص. قال أبو سليمان: وسئل أبو عبيدة معمر بن المثنى عن رجل أوصى لآل فلان، ألفلان نفسه المسمى من هذا شىء؟ قال: نعم. قال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 276 تعالى: (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر: 46] ، ففرعون أولهم وأنشد: ولا تبك ميتا بعد ميت أحبه علىّ وعباس وآل أبى بكر يريد أبا بكر نفسه، وقال ابن عون: كان الحسن إذا صلى على النبى قال: اللهم اجعل صلواتك على آل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. يريد بآل محمد نفسه؛ لأن الأمر من الله بالصلاة إنما يتوجه إليه بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ) [الأحزاب: 56] الآية. وقد يكون آل الرجل أهل بيته الأدنين، وقال زيد بن أرقم: آل محمد آل عباس وآل عقيل، وآل جعفر وآل على. وقال أبو عبيد فى قوله تعالى: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [البقرة: 49] ، قال: هم أهل دينه قال: ولا يجوز ذلك إلا فى الرئيس الذى الباقون له تبع، وكذلك آل محمد إنما هم أمته وأهل دينه قال: فإذا جاوزت هذا فآل الرجل: أهل بيته خاصة. وقال بعض الناس: قول أبى عبيدة خطأ عند الفقهاء لم يقل به أحد منهم. 31 - باب مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَ الْقُرْآنَ مِنْ غَيْرِهِ / 61 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قال لِى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اقْرَأْ عَلَىَّ الْقُرْآنَ) ، قُلْتُ: آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: (إِنِّى أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِى) . معنى استماعه القرآن من غيره والله أعلم ليكون عرض القرآن سنة، ويحتمل أن يكون كى يتدبره ويفهمه، وذلك أن المستمع أقوى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 277 على التدبر، ونفسه أخلى وأنشط من نفس القارئ؛ لأنه فى شغل بالقراءة وأحكامها. فإن قيل: فقد يجوز أن يكون سماعه (صلى الله عليه وسلم) للقرآن من غيره كما قلت، فما وجه قراءته (صلى الله عليه وسلم) القرآن على أبى، وقد ذكره البخارى فى فضائل الصحابة فى فضائل أبىّ. قيل: يحتمل أن يكون وجه ذلك ليتلقنه أبى من فيه (صلى الله عليه وسلم) ، فلا يتخالجه شك فى اختلاف القراءات بعده، وذلك أنه خاف عليه الفتنة فى هذا الباب؛ لأنه لا يجوز أن يكون أحد أقرأ للقرآن من النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ولا أوعى له وأعلم به؛ لأنه نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربى مبين، قاله الخطابى، وقال أبو بكر بن الطيب نحوه، قال: قرأ النبى على أبىّ وهو أعلم بالقرآن منه وأحفظ؛ ليأخذ أبىّ نمط قراءته وسنته ويحتذى حذوه. وقد روى هذا التأويل عن أبىّ وابنه. 32 - باب قَوْلِ الْمُقْرِئِ لِلْقَارِئِ حَسْبُكَ / 62 - فيه: عَبْدِ اللَّه، قال لِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اقْرَأْ عَلَىَّ) ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: (نَعَمْ) ، فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الآيَةِ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا) [النساء: 41] قَالَ: (حَسْبُكَ الآنَ) ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. قال المؤلف: فى جواز قطع القراءة على القارئ إذا حدث على المقرئ عذر أو شغل بال؛ لأن القراءة على نشاط المقرئ أولى ليتدبر معانى القرآن ويتفهم عجائبه، ويحتمل أن يكون أمره (صلى الله عليه وسلم) بقطع القراءة تنبيهًا له على الموعظة والاعتبار فى قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) [النساء: 41] الآية. ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) بكى عندها، وبكاؤه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 278 إشارة منه إلى معنى الوعظ؛ لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بتصديقه، والإيمان به وسؤاله الشفاعة لهم ليريحهم من طول الموقف وأهواله، وهذا أمر يحق له طول البكاء والحزن. 33 - باب فِى كَمْ يُقْرَأُ الْقُرْآنُ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل: 20] . / 63 - فيه: سُفْيَانُ، قَالَ لِى ابْنُ شُبْرُمَةَ: نَظَرْتُ كَمْ يَكْفِى الرَّجُلَ مِنَ الْقُرْآنِ؟ فَلَمْ أَجِدْ سُورَةً أَقَلَّ مِنْ ثَلاثِ آيَاتٍ، فَقُلْتُ: لا يَنْبَغِى لأحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ أَقَلَّ مِنْ ثَلاثِ آيَاتٍ. / 64 - وفيه: ابْن مَسْعُود، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ قَرَأَ بِالآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِى لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ) . / 65 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: أَنْكَحَنِى أَبِى امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ، فَكَانَ يَتَعَاهَدُ كَنَّتَهُ، فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا، فَتَقُولُ: نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا، وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أَتَيْنَاهُ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ذَكَرَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (الْقَنِى بِهِ) ، فَلَقِيتُهُ بَعْدُ، فَقَالَ: (كَيْفَ تَصُومُ) ؟ قَالَ: كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: (وَكَيْفَ تَخْتِمُ) ؟ قَالَ: كُلَّ لَيْلَةٍ، قَالَ: (صُمْ من كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةً، وَاقْرَأِ الْقُرْآنَ فِى كُلِّ شَهْرٍ) ، قَالَ: قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ، قَالَ: (اقْرَأْ فِى كُلِّ سَبْعِة لَيَالٍ مَرَّةً) ، فَلَيْتَنِى قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . . . الحديث. قال البخارى: قال بعضهم: فى ثلاث أو فى خمس أو فى سبع وأكثرهم على سبع، وقال (صلى الله عليه وسلم) لعبد الله بن عمرو: اقرأه فى سبع ولا تزد على ذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 279 قال المؤلف: ذكر أهل التفسير فى تأويل قوله تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل: 20] ، قالوا: ثلاث آيات فصاعدا. ويقال: أقصر سورة فى القرآن كما قال ابن شبرمة. قوله (صلى الله عليه وسلم) : من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه. نص فى أن قارئ الآيتين داخل فى معنى قوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل: 20] ، وفى حديث عبد الله بن عمرو أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمره أن يقرأ فى سبع ليال، وكان جماعة من السلف يأخذون بهذا الحديث. روى ذلك عن عثمان بن عفان وابن مسعود وتميم الدارى، وعن إبراهيم النخعى مثله. وذكر أبو عبيد عن زيد بن ثابت أنه سئل عن قراءة القرآن فى سبع فقال: حسن، ولأن أقرأه فى عشرين أو فى النصف أحب إلىّ من أن أقرأه فى سبع، وسلنى لم ذلك؟ أردده واقف عليه، وكان أبى بن كعب يختمه فى ثمان، وكان الأسود يختم القرآن فى ست، وكان علقمة يختمه فى خمس، وروى الطيب بن سليمان، عن عمرة، عن عائشة أن رسول الله كان لا يختم القرآن فى أقل من ثلاث. وعن قتادة عن يزيد بن عبد الله الشخير عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله: (لا يفقه من قرأه فى أقل من ثلاث) . وروى عن معاذ بن جبل: وكانت طائفة تقرأ القرآن كله فى ليلة أو ركعة. روى ذلك عن عثمان بن عفان وتميم الدارى، وعن علقمة وسعيد بن جبير أنهما قرأا القرآن فى ليلة بمكة، وكان ثابت البنانى يختم القرآن فى كل يوم وليلة من شهر رمضان، وكان سليمان يختم القرآن فى ليلة ثلاث مرات، ذكر ذلك كله أبو عبيد وقال: الذى أختار من ذلك ألا يقرأ القرآن فى أقل من ثلاث، لما روى عن النبى وأصحابه من الكراهة لذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 280 34 - باب الْبُكَاءِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ / 66 - فيه: ابْن مسعود، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قال: (اقْرَأْ عَلَىَّ) ، قُلْتُ: أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ، حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا) [النساء: 41] قَالَ لِى: (كُفَّ، أَوْ أَمْسِكْ) فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَذْرِفَانِ. قال المؤلف: البكاء عند قراءة القرآن حسن، قد فعله النبي (صلى الله عليه وسلم) وكبار الصحابة، وإنما بكى (صلى الله عليه وسلم) عند هذا لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة، وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بتصديقه والإيمان به، وسؤاله الشفاعة لهم ليريحهم من طول الموقف وأهواله، وهذا أمر يحق له طول البكاء والحزن. ذكر أبو عبيد عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن أبيه قال: انتهيت إلى رسول الله وهو يصلى ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء. وعن الأعمش عن أبى صالح قال: لما قدم أهل اليمن فى زمن أبى بكر سمعوا القرآن فجعلوا يبكون قال أبو بكر: هكذا كنا ثم قست القلوب. وقال الحسن: قرأ عمر بن الخطاب: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِن دَافِعٍ) [الطور: 7، 8] فربا ربوة عيد منها عشرين يومًا. وقال عبيد بن عمير: صلى بنا عمر صلاة الفجر فقرأ سورة يوسف حتى إذا بلغ: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف: 84] بكى حتى انقطع فركع. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 281 وفي حديث آخر لما قرأ: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللهِ) [يوسف: 86] ، بكى حتى سمع نشيجه من وراء الصفوف. وعن ابن المبارك، عن مسعر، عن عبد الأعلى التيمى قال: من أوتى من العلم ما لا يبكيه، فليس بخليق أن يكون أوتى علمًا ينفعه؛ لأن الله تعالى نعت العلماء فقال: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا) [الإسراء: 107] الآيتين. وقرأ عبد الرحمن بن أبى ليلى سورة مريم؛ فلما انتهى إلى قوله: (خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) [مريم: 58] ، فسجد بها، فلما رفع رأسه قال: هذه السجدة فأين البكاء؟ وكره السلف الصعق والغشى عند قراءة القرآن. ذكر أبو عبيد بإسناده عن أبى حازم قال: مر ابن عمر برجل من أهل العراق ساقط والناس حوله، فقال: ما هذا؟ فقالوا: إذا قرئ عليه القرآن أو سمع الله يذكر خر من خشية الله، فقال ابن عمر: والله إنا لنخشى الله وما نسقط. وعن عكرمة قال: سئلت أسماء: هل كان أحد من السلف يغشى عليه من القراءة؟ فقالت: لا، ولكنهم كانوا يبكون. وقال هشام بن حسان: سئلت عائشة عمن يصعق عند قراءة القرآن فقالت: القرآن أكرم من أن تنزف عنه عقول الرجال، ولكنه كما قال الله: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر: 23] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 282 وسُئل ابن سيرين عن ذلك فقال: ميعاد بيننا وبينه أن يجلس على حائط ثم يقرأ عليه القرآن كله، فإن وقع فهو كما قال. 35 - باب مَنْ رَاءَى بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوْ تَأَكَّلَ بِهِ، أَوْ فَخَرَ بِهِ / 67 - فيه: عَلِىّ، قَالَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَأْتِى فِى آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الأسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأحْلامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . / 68 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ مَعَ صَلاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَنْظُرُ فِى النَّصْلِ فَلا يَرَى شَيْئًا وَيَنْظُرُ فِى الْقِدْحِ فَلا يَرَى شَيْئًا، وَيَنْظُرُ فِى الرِّيشِ فَلا يَرَى شَيْئًا، وَيَتَمَارَى فِى الْفُوقِ) . / 69 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْمُؤْمِنُ الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ. . .) ، الحديث إلى قوله: (وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ) . قال المؤلف: قوله: يقرءون القرآن، لا يجاوز حناجرهم. يعنى: لا يرتفع إلى الله، ولا يؤجرون عليه لعدم خلوص النية بقراءته لله تعالى ولذلك شبه قراءة المنافق لما كانت رياء وسمعة بطعم الريحانة المر الذى لا يلتذ به آكله، كما لا يلتذ المنافق والمرائى بأجر قراءته وثوابها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 283 وقال حذيفة: أقرأ الناس بالقرآن منافق يقرؤه، لا يترك منه ألفًا ولا واوًا، لا يجاوز ترقوته، وقال ابن مسعود: أعربوا القرآن، فإنه يأتى عربى فسيأتى قوم يتقفونه ليسوا بخياركم. وروى أبو عبيد من حديث أبى سعيد الخدرى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: تعلموا القرآن واسألوا الله به قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاثة نفر: رجل يباهى به، ورجل يستأكل به الناس، ورجل يقرأ لله. وذكر أيضًا عن زادان قال: من قرأ القرآن ليستأكل به الناس، جاء يوم القيامة ووجهه عظم ليس عليه لحم. وقال ابن مسعود: سيجئ على الناس زمان يسئل فيه بالقرآن، فإذا سألوكم فلا تعطوهم. وقوله: (ينظر فى النصل) فالنصل: حديدة السهم. والقدح: عوده والفرق منه: موضع الوتر. وجمعه أفواق وفوق وقفًا. 36 - باب اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ / 70 - وفيه: جُنْدَب، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ) . / 71 - وفيه: عَبْدِاللَّه، أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلا يَقْرَأُ آيَةً سَمِعَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقْرَأُ خِلافَهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (كِلاكُمَا مُحْسِنٌ، فَاقْرَآ أَكْبَرُ عِلْمِى) ، قَالَ: (فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَأهلِكهم اللَّه) . قال المؤلف: قوله: اقرءوا ما ائتلفت قلوبكم. فيه الحض الجزء: 10 ¦ الصفحة: 284 على الألفة والتحذير من الفرقة فى الدين، فكأنه قال: اقرءوا القرآن والزموا الائتلاف على ما دل عليه وقاد إليه، فإذا اختلفتم فقوموا عنه، أى فإذا عرض عارض شبهة توجب المنازعة الداعية إلى الفرقة فقوموا عنه: أى فاتركوا تلك الشبهة الداعية إلى الفرقة، وارجعوا إلى المحكم الموجب للألفة، وقوموا للاختلاف وعما أدى إليه، وقاد إليه لا أنه أمر بترك قراءة القرآن باختلاف القراءات التى أباحها لهم لأنه قال لابن مسعود والرجل الذى أنكر عليه مخالفته له فى القراء: كلاكما محسن، فدل أنه لم ينهه عما جعله فيه محسنًا، وإنما نهاه عن الاختلاف المؤدى إلى الهلاك بالفرقة فى الدين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 285 كِتَاب التَّمَنِّى - بَاب مَنْ يتمنى الشَّهَادَةَ / 1 - فيه أبو هريرة: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوْلا أَنَّ رِجَالا يَكْرَهُونَ أَنْ يَتَخَلَّفُوا بَعْدِى، وَلا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ مَا تَخَلَّفْتُ، لَوَدِدْتُ أَنِّى أُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ) . فيه من الفقه: جواز تمنى الخير وأفعال البر والرغبة فيها، وإن علم أنه لا ينالها حرصًا على الوصول إلى أعلى درجات الطاعة. وفيه: فضل الشهادة على سائر أعمال البر لأنه (صلى الله عليه وسلم) تمناها دون غيرها، وذلك لرفيع درجتها، وكرامة أهلها لأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وذلك والله أعلم لسماحة أنفسهم ببذل مهجتهم فى مرضاة الله وإعزاز دينه، ومحاربة من حاده وعاداه، فجازاهم بأن عوضهم من فقد حياة الدنيا الفانية الحياة الدائمة فى الدار الباقية، فكانت المجازاة من حسن الطاعة. - باب تَمَنِّى الْخَيْرِ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ - عليه السلام -: (لَوْ كَانَ لِى أُحُدٌ ذَهَبًا / 2 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ كَانَ لِى أُحُدٌ ذَهَبًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 286 ، لأحْبَبْتُ أَنْ لا يَأْتِىَ عَلَىَّ ثَلاثٌ وَعِنْدِى مِنْهُ دِينَارٌ، لَيْسَ شَىْءٌ أَرْصُدُهُ فِى دَيْنٍ عَلَىَّ أَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهُ) . فى هذا الحديث من الفقه جواز تمنى الخير وأفعال البر لأنه (صلى الله عليه وسلم) تمنى لو كان له مثل أحد ذهبًا لأحب أن ينفقه فى طاعة الله قبل أن يأتى عليه ثلاث ليال. وقد تمنى الصالحون ما يمكن كونه وما لا يمكن حرصًا منهم على الخير، فتمنى بنو الزبير منازل من الدنيا لتنفذ أموالهم فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. روى أن عبد الله وعروة وصعبًا بنى الزبير بن العوام اجتمعوا عند الكعبة، فقال عبد الله: أحب أن لا أموت حتى أكون خليفة. وقال مصعب: أحب أن ألى العراقين: الكوفة والبصرة، وأتزوج سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة. وقال عروة: لكننى أسأل الله الجنة، فصار عبد الله ومصعب إلى تمنيا، وترون أن عروة صار إلى الجنة إن شاء الله، وما تمنوه مما لا سبيل إلى كونه تصغيرًا لأنفسهم وتحقيرًا لأعمالهم، فتمنوا أنهم لم يخلقوا وأنهم أقل الموجودات. روى عن أبى بكر الصديق أنه قال: وددت أنى خضرة تأكلنى الدواب. وتناول عمر بن الخطاب تبنة من الأرض فقال: ليتنى كنت هذه، ليتنى لم أك شيئًا، ليت أمى لم تلدنى، ليتنى كنت نسيًا منسيًا. وقرأ عمر: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) [الإنسان: 1] ، فقال: يا ليتها تمت. وقال عمران بن حصين: وددت أنى رماد على أكمة تسفينى الرياح فى يوم عاصف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 287 وقال أبو ذر: وددت أن الله خلقنى شجرة تقضم. ومرت عائشة بشجرة فقالت: يا ليتنى كنت ورقة من هذه الشجرة. وقال أبو عبيدة: وددت أنى كبش فيذبحنى أهلى فيأكلون لحمى ويحسون مرقى. وإنما حملهم على ذلك شدة الخوف من مسائلة الله والعرض عليه، وعلى قدر العلم بالله يكون الخشية منه، ولذلك قال الفضيل: من مقت نفسه فى الله أمنه الله من مقته. 3 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْىَ، وَلَحَلَلْتُ مَعَ النَّاسِ حِينَ حَلُّوا وذكره من حديث جابر أيضًا. قوله: (لو استقبلت من أمرى ما استدبرت) أى لو علمت أن أصحابى يأتون من العمرة فى أشهر الحج ما أحرمت بالحج مفردًا، ولأحرمت بالعمرة فلو أحرمت بالعمرة لم يكرهها أحد منهم، وللانت نفوسهم لفعلى لها واختيارى فى نفسى، فكرهوها حين أمرهم بها؛ لكونهم على خلاف فعل نبيهم؛ مع أنهم كانوا فى الجاهلية يكرهون العمرة فى أشهر الحج فتمنى (صلى الله عليه وسلم) موافقة أصحابه وكره ما ظهر منهم من الإشفاق لمخالفتهم له، ففى هذا من الفقه أن الإمام والعالم ينبغى له أن يسلك سبيل الجمهور وألا يخالف الناس فى سيرته وطريقته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 288 4 - باب قَول النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْتَ كَذَا وَكَذَا / 3 - فيه: عَائِشَة، قَالَتْ: أَرِقَ النَّبِىُّ - عليه السلام - ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَالَ: (لَيْتَ رَجُلا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِى يَحْرُسُنِى اللَّيْلَةَ) ؛ فأتى سَعْد: فحرسه. وَقَالَ بِلالٌ: أَلا لَيْتَ شِعْرِى هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِوَادٍ وَحَوْلِى إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ فَأَخْبَرْت عَائِشَة النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) . قال المؤلف: فيه أباحة تمنى ما ينتفع به فى الدنيا، ويمكن أن يكون هذا الحديث قبل أن ينزل عليه: (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة: 67] ، فلما علم ذلك لم يحتج إلى حارس بعد، ويمكن أن يفعله (صلى الله عليه وسلم) بعد نزول الآية عليه ليستن به الأمراء، ولا يضيعوا حرس أنفسهم فى أوقات الغرة والغفلة، والله أعلم. 5 - باب تَمَنِّى الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ / 4 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَحَاسُدَ إِلا فِى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، يَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ هَذَا لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا يُنْفِقُهُ فِى حَقِّهِ، فَيَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ) . هذا من الحسد الحلال، والحاسد فيه مشكور؛ لأنه إنما حسده على العمل بالقرآن والعلم، وحسد صاحب المال على نفقته له فى حقه فلم يقع الحسد على شيء من أمور الدنيا، وإنما وقع على ما يرضى الله ويقرب منه، فلذلك كان تمنيه حسنًا، وكذلك تمنى سائر أبواب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 289 الخير إنما يجوز منه ما كان فى معنى هذا الحديث إذا خلصت النية فى ذلك لله، وخلص ذلك من البغى والحسد. 6 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّمَنِّى قول اللَّه تَعَالَى: (وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) [النساء: 32] / 5 - فيه: أَنَس: لَوْلا أَنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لا تَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَتَمَنَّيْتُ) . / 6 - فيه: خباب مثله. / 7 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ) . قال المهلب: بين الله تعالى فى هذه الآية ما لا يجوز تمنيه، وذلك ما كان من عرض الدنيا وأشباهه. قال الطبرى: وقيل: إن هذه الآية نزلت فى نساء تمنين منازل الرجال، وأن يكون لهن ما لهم فنهى الله تعالى عن الأمانى الباطلة؛ إذ كانت الأمانى الباطلة تورث أهلها الحسد والبغى بغير الحق. وقال ابن عباس فى هذه الآية: لا يتمنى الرجل يقول: ليت لى مال فلان وأهله، فنهى الله عن ذلك وأمر عباده أن يسألوه من فضله. وسئل الحسن البصرى فقيل له: الرجل يرى الدار فتعجبه والدابة فتعجبه فيقول: ليت لي مثل هذه الدار، ليت لى مثل هذه الدابة. قال الحسن: لا يصلح هذا. قيل له: فيقول: ليت لى مثل هذه الدار. فقال: ولا هذا. قيل له: إنا كنا لا نرى بأسًا بقوله: ليت لي مثل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 290 هذا. فقال الحسن: ألا ترى قوله عز وجل: (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) [العنكبوت: 62] أتدرى ما يقدر له؟ ينظر إن كان خيرًا أن يبسطه له بسطه، وإن كان خيرًا أن يمسكه عنه أمسكه، فينطلق إلى شىء نظر الله فيه أنه خير لك فأمسكه عنك فتسأله إياه، فلعلك لو أعطيت ذلك كان فيه هلكة فى دينك ودنياك، ولكن إذا سألت فقل: اللهم إنى أسألك من فضلك، فإن أعطاك أعطاك خيارًا، وإن أمسك عنك أمسك خيارًا. ومعنى نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن تمنى الموت، فإن الله قد قدر الآجال فمتمنى الموت غير راضٍ بقدر الله ولا مسلم لقضائه، وقد بين النبى (صلى الله عليه وسلم) ما للمحسن والمسئ فى أن لا يتمنى الموت، وذلك ازدياد المحسن من الخير ورجوع المسئ عن الشر، وذلك نظر من الله للعبد وإحسان منه إليه خير له من تمنيه الموت، وقد تقدم فى كتاب المرضى حيث يجوز تمنى الموت، وحيث لا يجوز، والأحاديث المعارضة فى ذلك وبيان معانيها فى باب تمنى الموت. 7 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ: لَوْلا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا / 8 - فيه: الْبَرَاء، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ يَوْمَ الأحْزَابِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ، يَقُولُ: (لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا، نَحْنُ وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا) . لولا عند العرب يمتنع بها الشىء لوجود غيره يقول: لولا زيد ما صرت إليك: أى كان مصيرى إليك من أجل زيد، وكذلك قوله: (لولا الله ما اهتدينا) . أى كان هدانا من أجل هداية الله لنا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 291 فوجود الهدى منع وقوع الضلال، وذلك كله من فعل الله بعباده فلا يفعل العبد الطاعة ولا يجتنب المعصية إلا بقدر الله وقضائه على العبد. 8 - باب كَرَاهَةِ التَمَنِّى لِقَاءِ الْعَدُوِّ / 9 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِى أَوْفَى، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ) . قد تقدم هذا الباب فى كتاب الجهاد، وجملة معناه: النهى عن تمنى المكروهات والتصدى للمحذورات، ولذلك سأل السلف العافية من الفتن والمحن؛ لأن الناس مختلفون فى الصبر على البلاء. 9 - باب مَا يَجُوزُ مِنَ اللَّوْ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً) [هود: 80] / 10 - فيه: ابْن عَبَّاس، ذكر الْمُتَلاعِنَيْنِ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: أَهِىَ الَّتِى قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا امْرَأَةً مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ؟) قَالَ: لا، تِلْكَ امْرَأَةٌ أَعْلَنَتْ. / 11 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَعْتَمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْعِشَاءِ، فَخَرَجَ عُمَرُ، فَقَالَ الصَّلاةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَقَدَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، يَقُولُ: (لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِى لأمَرْتُهُمْ بِالصَّلاةِ هَذِهِ السَّاعَةَ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 292 / 12 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِى لأمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ) . / 13 - وفيه: أَنَس، وَاصَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) آخِرَ الشَّهْرِ، وَوَاصَلَ أُنَاسٌ مِنَ النَّاسِ، فَبَلَغَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (لَوْ مُدَّ بِىَ الشَّهْرُ لَوَاصَلْتُ وِصَالا يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ) . وَقَالَ مرة: (لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ، كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ) . / 14 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ، فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِى الْبَيْتِ، وَأَنْ أَلْصِقْ بَابَهُ فِى الأرْضِ) . / 15 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْلا الْهِجْرَةُ؛ لَكُنْتُ امْرًَا مِنَ الأنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا، وَسَلَكَتِ الأنْصَارُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِىَ الأنْصَارِ أَوْ شِعْبَ الأنْصَارِ) . / 16 - وعن عبد الله بن زيد، مثله. (لو) : تدل عند العرب على امتناع الشىء لامتناع غيره كقوله: لو جاءنى زيد لأكرمتك. معناه: أنى امتنعت من كرامتك لامتناع زيد من المجئ. وقوله: (لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً) [هود: 80] جواب لو محذوف كأنه قال: لحلت بينكم وبين ما جئتم له من الفساد، وحذفه أبلغ؛ لأنه يحصر النفى بضروب المنع. فإن قيل: لم قال: (أو آوى إلى ركن شديد) مع أنه يأوى إلى الله؟ فالجواب: أنه إنما أراد العدة من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 293 الرجال، وإلا فله ركن وثيق مع معونة الله ونصره، وتضمنت الآية البيان عما يوجبه حال المحق إذا رأى منكرًا لا يمكنه إزالته مع التحسر على قوة أو معين على دفعه لحرصه على طاعة ربه، وجزعه من معصيته، فامتنع من الانتقام من قومه لامتناع من يعينه على ذلك. وقوله: (لو كنت راجعًا بغير بينة) : امتنع من رجم المرأة لامتناع وجود البينة، وكذلك امتنع من معاقبتهم بالوصال لامتناع امتداد الشهر، ومثله: لو سلك الناس واديًا لسلكت وادى الأنصار. قال المهلب: وإنما قال ذلك للأنصار تأنيسًا لهم ليغبطهم بحالهم، وأنها مرضية عنده وعند ربهم، لكنه أعلمهم بأنه امتنع من أن يساويهم فى حالهم لوجود الهجرة التى لا يمكنه تركها، وسائر ما فى الباب من الأحاديث؛ فإنها بلفظ لولا التى تدل على امتناع الشىء لوجود غيره كقوله: (لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة) ، و (لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة) فامتنع من أمرهم بذلك لوجود المشقة بهم عند امتثالهم أمره. وقوله: (لولا أن قومك حديث عهدهم بالكفر فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر فى البيت) . فامتنع (صلى الله عليه وسلم) من هدم البيت وبنيانه على قواعد إبراهيم من أجل الإنكار الحاصل لذلك. قال الطبرى: فإن قال قائل: فقد روى ابن عيينة عن ابن عجلان عن الأعرج عن أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شىء فلا تقل: لو أنى فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو مفتاح الجزء: 10 ¦ الصفحة: 294 الشيطان) . فنهى عن لو فى هذا الحديث، وهذا معارض لما جاء من إباحة لو فى كتاب الله، وفى الأحاديث المروية فى ذلك. قيل له: لا تعارض بين شىء من ذلك، ولكل وجه ومعنى غير معنى صاحبه؛ فأما نهيه عن اللو فى حديث ابن عجلان فمعناه: لا تقل أنى لو فعلت كذا لكان كذا على القضاء والحتم، فإنه كائن لا محالة، فأنت غير مضمر فى نفسك شرط مشيئة الله، هذا الذى نهى عنه؛ لأنه قد سبق فى علم الله كل ما يناله المرء. قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا) [الحديد: 22] . فأما إذا كان قائله ممن يوقن بأن الشرط إذا وجد لم يكن المشروط إلا بمشيئة الله وإرادته، فذلك هو الصحيح من القول، وقد قال أبو بكر الصديق للنبى (صلى الله عليه وسلم) وهو فى الغار: لو أن أحدهم رفع قدمه أبصرنا. فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، ولم ينكر ذلك عليه صلى الله عليه؛ إذا كان عالما بمخرج كلامه، وأنه إنما قال ذلك على ما جرت به العادة، واستعمله الناس علة ما الأغلب كونه عند وقوع السبب الذى ذكره، وإن كان قد كان جائزًا أن يرفع جميع المشركين الذين كانوا فوق الغار أقدامهم ثم ينظروا فيحجب الله أبصارهم عن رسوله، وعن صاحبه فلا يراهما منهم أحد، وكان جائز أن يحدث الله عمىً فى أبصارهم، فلا يبصرونهما، مع أسباب غير ذلك كثيرة، وأن أبا بكر لم يقل ذلك إلا على إيمان منه بأنهم لو رفعوا أقدامهم لم يبصروا رسول الله إلا أن يشاء الله ذلك، فهذا مفسرًا لحديث ابن عجلان وناف للتعارض فى ذلك، والله الموفق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 295 كِتَاب الْقَدَرِ - باب فِى الْقَدَرِ / 1 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعٍ، بِرِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَشَقِىٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَاللَّهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ، أَوِ الرَّجُلَ، يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ بَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا، (وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذِرَاعٍ، أَوْ ذِرَاعَيْنِ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا) . / 2 - وفيه: أَنَس، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا، فَيَقُولُ: أَىْ رَبِّ، نُطْفَةٌ، أَىْ رَبِّ، عَلَقَةٌ، أَىْ رَبِّ، مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِىَ خَلْقَهَا، قَالَ: أَىْ رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَشَقِىٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الأجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِى بَطْنِ أُمِّهِ) . قال المهلب: فى هذا الحديث رد لقول القدرية واعتقادهم أن العبد يخلق أفعاله كلها من الطاعات والمعاصى، وقالوا: إن الله منزه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 296 عن أن يخلق المعاصي والزنا والكفر وشبهه، فبان فى هذا الحديث تكذيب قولهم، بما أخبر (صلى الله عليه وسلم) أنه يكتب فى بطن أمه شقى أو سعيد مع تعريف الله العبد أن سبيل الشقاء هو العمل بالمعاصى والكفر، فكيف يجوز أن يعمل بما أعلمه الله أنه يعذبه عليه، ويشقيه به، مع قدرة العبد على اختياره لنفسه، وخلقه لأعماله دون الله، تعالى الله أن يكون معه خالق غيره. ثم قطع القدرية بقوله: فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، فلو كان الأمر إلى اختياره أتراه كان يختار خسارة عمله طول عمره بالخير، ثم يخلق لنفسه عملاً من الشر والكفر، فيدخل به النار؟ وهل السابق له إلا فعل ربه وخلقه له، وخلق عمله للشئ كسبًا له فاكتسبه العبد لشهوة نفسه الأمارة بالسوء مستلذًا بذلك العمل الذى أقدره الله عليه بقدرة خلقها له بحضرة الشيطان المغوى لنفسه الأمارة له مع الشيطان بالسوء فاستحق العقاب على ذلك. فانقطعت حجة العبد بالنذارة، وانقطعت حجة القدرية بسابق كتاب الله على العبد العارف بما آل أمره، باكتسابه للعمل القبيح، لخلق الله له قدرة على عمله بحضرة عدويه: نفسه وشيطانه، ولذلك نسب الشر إلى الشيطان لتزيينه له، ونسب الخير إلى الله لخلقه لعبده، وإقداره للعبد عليه بحضرة الملك المسدد له، الدافع لشيطانه عنه بعزة الله وعصمته. هذا هو أصل الكلام على القدرية ثم يلزم القدرية أن يكون العبد شريكًا لله فى خلقه بأن يكون العبد يخلق أفعاله والله قد أبى من ذلك بقوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ) [الزمر: 62] ، وقوله: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) [فاطر: 3] ، فخالفوا النص الجزء: 10 ¦ الصفحة: 297 وأوجبوا للعبد من القدرة على خلق أعماله ما أوجبه الله لنفسه تعالى من الانفراد بالخلق، ولذلك سميت القدرية: مجوس هذه الأمة لقولها بخالقين مثل ما قالته المجوس من اعتبارها لأرباب من الشمس والقمر والنور، والنار والظلمة، كل على اختياره، وقد نص الله سبحانه وتعالى على إبطال قول القدرية لعلمه بضلالتهم ليهدى بذلك أهل سنته فقال: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات: 96] . وقوله: يجمع فى بطن أمه: قد فسره ابن مسعود، سئل الأعمش عن قوله: يجمع فى بطن أمه قال: حدثنى خيثمة قال: قال عبد الله: إن النطفة إذا رفعت فى الرحم، فأراد الله أن يخلق منها بشرًا طارت فى بشر المرأة تحت كل ظفر وشعر، ثم تمكث أربعين ليلة ثم تصير دمًا فى الرحم فذلك جمعها. - بَاب جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ قوله تَعَالَى: (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) [الجاثية: 23] وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ لِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاقٍ) . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 61] سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ. / 3 - فيه: عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُعْرَفُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: (نَعَمْ) ، قَالَ: فَلِمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: (كُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَوْ لِمَا يُسِّرَ لَهُ) . قال المهلب: غرض البخارى فى هذا الباب غرضه المتقدم من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 298 إدحاض حجة القدرية بهذه النصوص من كلام رسوله، فأخبر أنه قد فرغ من الحكم على كل نفس، وكتب القلم ما يصير إليه العبد من خير أو شر فى أم الكتاب، وجف مداده على المقدور من علم الله. فأضله الله على علم به، ومعرفة بما كان يصير إليه أمره لو أهمله ألا يسمعه قد بين ذلك فى كتابه حيث يقول: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [النجم: 32] . فعرفنا أنه كان بنا عالمًا حين خلق آدم من طينة الأرض المختلفة وأحاط علمًا بما يقع من تلك الطينة لكل شخص من أشخاص ولده إلى يوم القيامة، المتناسلين من صلب إلى صلب فى أعداد لا يحيط بها إلا محيصها، وعلم ما قسمه من تلك الطينة من طيب أو خبيث، وعلم ما يعمل كل واحد من الطاعة والمعصية ليشاهد أعماله بنفسه، وكفى بنفسه شهيدًا عليه، وتشهد له عليه ملائكته وما عاينه من خلقه، فتنقطع حجته، وتحقق عقوبته ولذلك قال لأبى هريرة حين أراد أن يختصى خشية الزنا على نفسه: (قد جف القلم بما أنت لاق) . فاختص على ذلك أبو ذر، فعرفه أنه لا يعدو ما جرى به القلم عليه من خير أو شر، فإنه لابد عامله ومكتسبه، فنهاه عن الاختصاء بهذا القول الذى ظاهره التخيير، ومعنى النهى والتبكيت لمن أراد الهروب عن القدر والتعريف له أن إن فعل، فإنه أيضًا من القدر المقدور عليه فيما جف به القلم عليه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 299 وقد سئل الحسن البصرى عن القدر فقال: إن الله خلق الخلق للابتلاء، لم يطيعوه بإكراه منه، ولم يعصوه بغلبة، ولم يهملهم من المملكة؛ بل كان المالك لما ملكهم فيه، والقادر لما قدره عليهم، فإن تأثم العباد بطاعة الله لم يكن الله صادًا عنها، ولا مبطئا؛ بل يزيدهم هدى إلى هداهم، وتقوى إلى تقواهم، وإن تأثم العباد بمعصية الله كان القادر على صرفهم؛ إن شاء فعل وإن شاء خلى بينهم وبين المعصية فيكسبونها، فمن بعد الإعذار والإنذار لله الحجة البالغة، لا يسئل عما يفعل وهم يسألون، فلو شاء لهداكم أجمعين. وقال المهلب: فى حديث عمران حجة لأهل السنة على المجبرة من أهل القدر وذلك قوله: (اعملوا، فكل ميسر لما خلق له) . ولم يقل: فكل مجبر على ما خلق له، وإنما أراد لما خلق له من عمله للخير أو للشر. وقيل: إنما أراد بقوله: لما خلق له الإنسان من جنة أو نار، فقد أخبر أنه ميسر لأعمالها ومختار لا مجبر؛ لأن الخبر لا يكون باختيار، وإنما هو بإكراه. 3 - باب اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ / 4 - فيه: ابْن عَبَّاس، سُئِلَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ أَوْلادِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ) . / 5 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، مثله. وقَالَ عن النَّبِىّ - عليه السلام -: (مَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 300 مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ، كَمَا تُنْتِجُونَ الْبَهِيمَةَ. . .) إلى قوله: (أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ؟ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ) . قال المؤلف: غرضه فى هذا الباب الرد على الجهمية فى قولهم: إن الله لا يعلم أفعال العباد حتى يعملوها. فرد النبى (صلى الله عليه وسلم) ذلك من قولهم، وأخبر فى هذا الحديث أن الله تعالى يعلم ما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون، ومصداق هذا الحديث فى قوله تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام: 28] ، وقال فى آية أخرى: (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَّسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ) [الأنفال: 23] ، فإذا ثبت بهاتين الآيتين المصدقتين لحديثه (صلى الله عليه وسلم) أنه يعلم ما لا يكون لو كان كيف كان يكون، فأحرى أن يعلم ما يكون، وما قدره وقضاه فى كونه. وهذا يقوى ما يذهب إليه أهل السنة أن القدر هو علم الله وغيبه الذى استأثر به فلم يطلع عليه ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلاً. وروى روح بن عبادة عن حبيب بن الشهيد عن محمد بن سيرين قال: ما ينكر هؤلاء، يعنى القدرية، أن يكون الله علم علمًا فجعله كتابًا. وقد قيل: إن بعض الأنبياء كان يسأل الله عن القضاء والقدر، فمحى من النبوة. وروى ابن عباس عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إذا ذكر القدر فأمسكوا) . وقال بلال بن أبى بردة لمحمد بن واسع: ما تقول فى القضاء والقدر؟ فقال: أيها الأمير، إن الله لا يسأل عباده يوم القيامة عن قضائه وقدره، وإنما يسألهم عن أعمالهم. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصرى: إن الله لا يطالب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 301 خلقه بما قضى عليهم، ولكن يطالبهم بما نهاهم عنه، وأمرهم به، فطالب نفسك من حيث يطالبك ربك. وسئل أعرابى عن القدر، فقال: الناظر فى قدر الله كالناظر فى عين الشمس يعرف ضوءها، ولا يقف على حدودها. وقوله: (كما تنتجون الناقة) . قال أبو عبيد: يقال: تنتجت الناقة إذا أعنتها على النتاج. 4 - بَاب) وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا) [الأحزاب: 38] / 6 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا؛ لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا وَلْتَنْكِحْ، فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا) . / 7 - وفيه: أُسَامَةَ، أتى إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ، أَنَّ ابْنَهَا يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا: (لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلِلَّهِ مَا أَعْطَى، فكُلٌّ بِأَجَلٍ، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ) . / 8 - وفيه: أَبُو سَعِيد، بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ إذ جَاءَه رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَالَ: كَيْفَ تَرَى فِى الْعَزْلِ؟ فَقَالَ لَيْس بِنَسَمَةٌ كَتَبَ اللَّهُ أَنْ تَخْرُجَ إِلا هِىَ كَائِنَةٌ) . / 9 - وفيه: حُذَيْفَةَ، خَطَبَنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) خُطْبَةً مَا تَرَكَ فِيهَا شَيْئًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلا ذَكَرَهُ، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ، إِنْ كُنْتُ لأرَى الشَّىْءَ قَدْ نَسِيتُ فَأَعْرِفُ مَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ إِذَا غَابَ عَنْهُ فَرَآهُ فَعَرَفَهُ. / 10 - وفيه: عَلِىّ، كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَمَعَهُ عُودٌ يَنْكُتُ فِى الأرْضِ، فَقَالَ: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، أَوْ مِنَ الْجَنَّةِ) ، قَالَ رَجُلٌ مِنَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 302 الْقَوْمِ: أَفلا نَتَّكِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (لا اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَّا خُلِقَ لَهُ) ، ثُمَّ قَرَأَ) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (الآيَة [الليل: 5] . وقال المهلب: غرضه فى هذا الباب أن يبين أن جميع مخلوقات الله من المكونات بأمره بكلمة كن من حيوان أو غيره، أو حركات العباد واختلاف إرادتهم وأعمالهم بمعاص أو طاعات؛ كل مقدر بالأزمان والأوقات، لا مزيد فى شىء منها، ولا نقصان عنها، ولا تأخير لشىء منها عن وقته، ولا تقديم قبل وقته، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تسأل المرأة طلاق أختها) لتصرف حظها إلى نفسها، ولتنكح، فإنها لا تنال من الرزق إلا ما قدر لها، كانت له زوجة أخرى أو لم تكن. وقوله: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) . فيه دليل على إبطال قول أهل الجبر؛ لأن التيسير غير الجبر، واليسرى العمل بالطاعة، والعسرى العمل بالمعصية. قال الطبرى: فى حديث علىّ أن الله لم يزل عالمًا بمن يطيعه فيدخله الجنة، وبمن يعصيه فيدخله النار، ولم يكن استحقاق من يستحق الجنة منهم بعلمه السابق فيهم، ولا استحقاقه النار لعلمه السابق فيهم، ولا اضطر أحدًا منهم علمه السابق إلى طاعة أو معصية، ولكنه تعالى نفذ علمه فيهم قبل أن يخلقهم، وما هم عاملون وإلى ما هم صائرون، إذ كان لا تخفى عليه خافية قبل أن يخلقهم، ولا بعد ما خلقهم، ولذلك وصف أهل الجنة فقال: (ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ) [الواقعة: 13، 14] ، إلى قوله: (وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 303 اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الواقعة: 22 - 24] ، وقال تعالى: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17] . وكذلك قال فى أهل النار: (ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) [فصلت: 28] ، فأخبر أنه أثاب أهل طاعته جنته بطاعته، وجازى أهل معصيته النار بمعصيتهم إياه، ولم يخبرنا أنه أدخل من أدخل منهم النار والجنة لسابق علمه فيهم، ولكنه سبق فى علمه أن هذا من أهل السعادة والجنة وأنه يعمل بطاعته. وفى هذا أنه من أهل الشقاء وأنه يعمل بعمل أهل النار فيدخلها بمعصيته؛ فلذلك أمر تعالى ونهى؛ ليطيعه المطيع منهم فيستوجب بطاعته الجنة ويستحق العقاب منهم بمعصيته العاصى فيدخل بها النار، ولتتم حجة الله على خلقه. فإن قال قائل: فما معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) إن كان الأمر كما وصف من أن الذى سبق لأهل السعادة والشقاء لم يضطر واحدًا من الفريقين إلى الذى كان يعمل ويمهد لنفسه فى الدنيا ولم يجبره على ذلك؟ قيل: هو أن كل فريق من هذين مسهل له العمل الذى اختاره لنفسه، مزين ذلك له كما قال تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ) [الحجرات: 7] الآية. وأما أهل الشقاء، فإنه زين لهم سوء أعمالهم لإيثارهم لها على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 304 الهدى كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) [النمل: 4] ، وكما قال تعالى: (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا) [فاطر: 8] ، وهذا يصحح ما قلناه من أن علم الله النافذ فى خلقه بما هم به عاملون، وكتابه الذى كتبه قبل خلقه إياهم بأعمالهم لم يضطر أحدًا منهم إلى عمله ذلك؛ بل هو أن المضطر إلى الشىء لا شك أنه مكره عليه، لا محب له؛ بل هو له كاره ومنه هارب، والكافر يقاتل دون كفره أهل الإيمان، والفاسق يناصب دون فسقه الأبرار؛ محاماة من هذا عن كفره الذى اختاره على الإيمان، وإيثارًا من هذا لفسقه على الطاعة، وكذلك المؤمن يبذل مهجته دون إيمانه، ويؤثر العناء والنصب دون ملاذه وشهواته حبًا لما هو له مختار من طاعة ربه على معاصيه، وأنى يكون مضطرًا إلى ما يعمله من كانت هذه صفاته؟ فبان أن معنى قوله: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) هو أن كل فريقى السعادة والشقاوة مسهل له العمل الذى اختاره، مزين ذلك له. 5 - باب الْعَمَلُ بِالْخَوَاتِيمِ / 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، شَهِدْنَا مَعَ النَّبِيّ - عليه السلام - خَيْبَرَ، فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ يَدَّعِى الإسْلامَ: (هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ) ، فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ، قَاتَلَ الرَّجُلُ مِنْ أَشَدِّ الْقِتَالِ، وَكَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحُ، فَقَالَ النَّبِيُّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 305 - عليه السلام -: (أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ) ، فَكَادَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَرْتَابُ، فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ وَجَدَ الرَّجُلُ أَلَمَ الْجِرَاحِ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى كِنَانَتِهِ، فَانْتَزَعَ مِنْهَا سَهْمًا، فَانْتَحَرَ بِهَا، فَاشْتَدَّ رِجَالٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: صدق اللَّهُ حَدِيثَكَ، قَدِ انْتَحَرَ فُلانٌ، وَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (قُمْ يَا بِلالُ، فَأَذِّنْ: لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا مُؤْمِنٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ) . / 12 - وروى: سَهْل، عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّمَا الأعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ) . قال المهلب: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنما الأعمال بالخواتيم) هو حكم الله فى عباده فى الخير والشر، فيغفر الكفر وأعماله بكلمة الحق يقولها العبد قبل الموت قبل المعاينة لملائكة العذاب، وكذلك يحبط عمل المؤمن إذا ختم له بالكفر. ثم كذلك هذا الحكم موجود فى الشرع كله كقوله: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة، ومن أدرك ركعةً من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح) فكذلك فى العصر فجعله مدركًا لفضل الوقت بإدراك الخاتمة، وإن كان لم يدرك منه إلا أقله، وكذلك من أدرك ليلة عرفة الوقوف بها قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، وتم له ما فاته من مقدماته، كما عهد الذى لم يعمل خيرًا قط أن يحرق ويذرى فكانت خاتمة سوء عمله خشية أدركته لربه، تلافاه الله بها فغفر له سوء عمله طول عمره، هذا فعل من لا تضره الذنوب، ولا تنفعه العبادة، وإنما تنفع وتضر المكتسب لها الدائم عليها إلى أن يموت. وفى قوله: (العمل بالخواتيم) حجة قاطعة على أهل القدر في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 306 قولهم: إن الإنسان يملك أمر نفسه، ويختار لها الخير والشر، فمهما اتهموا اختيار الإنسان لأعماله الشهوانية واللذيذة عنده، فلا يتهمونه باختيار القتل لنفسه الذى هو أوجع الآلام، وأن الذى طيب عنده ذلك غير اختياره، والذى يسره له دون جبر عليه، ولا مغالب له هو قدر الله السابق فى عمله، والحتم من حكمه. 6 - باب إِلْقَاءِ النَّذْرِ الْعَبْدَ إِلَى الْقَدَرِ / 13 - فيه: ابْن عُمَرَ، نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ: (إِنَّهُ لا يَرُدُّ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ) . / 14 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَأْتِى ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَىْءٍ لَمْ يَكُنْ قَدْ قَدَّرْتُهُ، وَلَكِنْ يُلْقِيهِ، الْقَدَرُ وَقَدْ قَدَّرْتُهُ لَهُ، وَلَكِنْ أَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ) . قال المهلب: هذا أبين شىء فى القدر وأنه شىء قد فرغ الله منه وأحكمه، لا أنه شىء يختاره العبد، فإذا أراد أن يستخرج به من البخيل شيئًا ينفعه به فى آخرته أو دنياه سبب له شيئًا مخيفًا أو مطمعًا فيحمله ذلك الخوف أو الطمع على أن ينذر لله نذرًا من عتق أو صدقة أو صيام، إن صرف الله عنه ذلك الخوف أو أتاه بذلك المطموع فيه، فلا يكون إلا ما قد قضى الله فى أم الكتاب، لا يحيله النذر الذى نذره عما قدره، وقد استخرج به منه ما لم يسمح به الجزء: 10 ¦ الصفحة: 307 لولا المخوف الذى هرب منه، أو المطموع الذى حرص عليه حتى طابت نفسه بما لم تكن تطيب قبل ذلك. ونهيه (صلى الله عليه وسلم) عن النذر، وهو من أعمال الخير أبلغ زاجر عن توهم العبد أنه يدفع عن نفسه ضرًا أو يجلب إليها نفعًا، أو يختار لها ما يشاء، ومتى اعتقد ذلك فقد جعل نفسه مشاركًا لله فى خلقه ومجوزًا عليه ما لم يقدره، تعالى الله عما يقولون. ودل هذا أن اعتقاد القلب لما لا يجب اعتقاده أعظم فى الإثم من أن يكفر بالصدقة والصلاة والصوم والحج، وسائر أعمال الجوارح التى ينذرها؛ لأن نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن هذا النذر، وإن كان خيرًا ظاهرًا يدل على أنه حابط من الفعل حين توهم به الخروج عما قدره الله تعالى فإن سلم من هذا الظن واعترف أن نذره لا يرد عنه شيئًا قد قدره الله عليه وأن الله تسبب له بما أخافه به استخراج صدقة هو شحيح بمثلها، فإنه مأجور بنذره ولم يكن حيئذ نذره منهيًا عنه، ولذلك والله أعلم عرف الله نبيه بهذا الحديث ليعرف أمته بما يجب أن يعتقدوا فى النذر فلا يحبط عملهم به. 7 - باب لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ / 15 - فيه: أَبُو مُوسَى، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى غَزَاةٍ، فَجَعَلْنَا لا نَصْعَدُ شَرَفًا، وَلا نَهْبِطُ وَاديًا، إِلا رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا بِالتَّكْبِيرِ، قَالَ: فَدَنَا مِنَّا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا) ، ثُمَّ قَالَ: (يَا عَبْدَاللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً هِىَ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 308 هذا باب جليل فى الرد على القدرية، وذلك أن معنى لا حول ولا قوة إلا بالله: لا حول للعبد، ولا قوة له إلا بالله أى: بخلق الله له الحول والقوة، التى هى القدرة على فعله للطاعة والمعصية. قال المهلب: فأخبر (صلى الله عليه وسلم) أن البارئ خالق لحول العبد وقدرته على مقدوره، وإذا كان خالقًا للقدرة، فلا شك أنه خالق للشىء المقدور، فيكون المقدور كسبًا للعبد خلقًا لله تعالى بدليل قوله تعالى: (خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ) [الأنعام: 102] ، وقوله تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر: 49] ، وقال محمد بن كعب القرظى: نزلت هذه الآية يعنى الأخيرة تعبيرًا لأهل القدر. والدليل على أن أفعالهم خلق لله أن أيديهم التى هى عندهم خالقة لأعمال الشر من التعدى والظلم وفروجهم التى هى خالقة للزنا قد توجد عاطلة عن الأعمال، عاجزة عنها، ألا ترى أن من الناس من يريد الزنا وهو يشتهيه بعضو لا آفة فيه، فلا يقدر عليه عند إرادته للزنا، ولو كان العبد خالقًا لأعماله لما عجزت أعضاؤه عند إرادته ومستحكم شهوته؛ فثبت أن القدرة ليست لها، وأنها لمقدر يقدرها إذ شاء، ويعطلها إذا شاء، لا إله إلا هو. وإنما أمرهم (صلى الله عليه وسلم) بالربع على أنفسهم على جهة الرفق بهم، وقد بينا هذا المعنى فى باب: ما يكره من رفع الصوت بالتكبير فى كتاب الجهاد، وعرفهم أن ما يعلنون به من التكبير ويجتهدون فيه من الجهاد هو من فضل الله عليهم إذ لا حول لهم ولا قوة في شيء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 309 منه إلا بالله الذى أقدرهم عليه، وحببه إليهم، وإن كان فيه إتلاف نفوسهم؛ رغبة فى جزيل الأجر وعظيم الثواب. وفيه: أن التكبير يسمى دعاء؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا) فجعل قولهم: الله أكبر دعاء لله تعالى من أجل أنهم كانوا يريدون به إسماعه الشهادة له بالحق. 8 - باب الْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ عَاصِمٌ: مَانِعٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: (سَدًّا) [الكهف: 94] عَنِ الْحَقِّ، يَتَرَدَّدُونَ فِى الضَّلالَةِ،) دَسَّاهَا) [الشمس: 10] أَغْوَاهَا. / 16 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلا لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ، وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ، وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمه اللَّهُ) . قال المهلب: عرض البخارى فى هذا الباب إثبات الأمور لله، فهو الذى يعصم من نزعات الشيطان، ومن شر كل وسواس خناس من الجنة والناس، وليس من خليفة ولا أمير إلا والناس حوله رجلان: رجل يريد الدنيا والاستكثار منها، فهو يأمره بالشر ويحضه عليه ليجد به السبيل إلى انطلاق اليد على المحظورات ومخالفة الشرع، ويوهمه أنه إن لم يقتل ويغضب ويخف الناس لم يتم له شىء، ولم يرض بسياسة الله لعباده ببسط العدل وبخمد الأيدى، وأن فى ذلك صلاحًا لعباد والبلاد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 310 ولا يخلو سلطان أن يكون فى بطانته رجل يحضه على الخير، ويأمره به لتقوم به الحجة عليه من الله فى القيامة، وهم الأقل، والمعصوم من الأمراء من عصمه لا من عصمته نفسه الأمارة بالسوء بشهادة الله عليها الخالق لها، ومن أصدق من الله حديثًا. 9 - بَاب) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [الأنبياء: 95] وقوله: (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود: 36] ،) وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا) [نوح: 27] . قَالَ ابْن عَبَّاسٍ: (وَحِرْمٌ (بِالْحَبَشِيَّةِ: وَجَبَ. / 17 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ، مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِى، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ، أَوْ يُكَذِّبُهُ) . قال المهلب: معنى قوله تعالى: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [الأنبياء: 95] ، أى وجب عليهم أنهم لا يتوبون، وحرام وحرم معناها واحد، والتقدير: وحرام على قرية أردنا إهلاكها التوبة من كفرهم، وهذا كقوله تعالى: (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود: 36] ، أى قد نفذ علم الله فى قوم نوح أنه لا يؤمن منهم إلا من قد آمن، ولذلك قال نوح: (رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) [نوح: 26] ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 311 إذ قد أعلمتني أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن، فأهلكهم لعلمه أنهم لا يرجعون إلى الإيمان، وموافقة الترجمة للحديث هو قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا) فأخبر أن الزنا ودواعيه كل ذلك مقدر على العبد غير خارج من سابق قدره. وقوله: (أدرك ذلك لا محالة) إدراكه له من أجل أن الله كتبه عليه، وإنما سمى النظر والمنطق ومنى النفس وشهوتها زنا لما كانت دواعى إلى الزنا، والسبب قد يسمى باسم المسبب مجازًا واتساعًا لما بينهما من التعلق، غير أن زنا العين وزنا اللسان وتمنى النفس غير مؤاخذ به من اجتنب الزنا بفرجه؛ لأنه كذب زنا جوارحه بترك الزنا بفرجه، فاستخف زنا عينه ولسانه وقلبه؛ لأن ذلك من اللمم الذى يغفر باجتناب الكبائر، وزنا الفرج من أكبر الكبائر، فمن فعله فقد صدق زنا عينه ولسانه وقلبه؛ فيؤاخذ بإثم ذلك كله. وفى قوله: (النفس تمنى وتشتهى) دليل على أن فعل العبد ما نهاه الله عنه، مع تقدم تقديره تعالى وسابق علمه بفعله له باختيار منه أو إيثار، وليس بمجبر عليه ولا مضطر إلى فعله، وعلى هذا علق الثواب والعقاب، فسقط قول جهم بالإجبار بنص قوله (صلى الله عليه وسلم) : (والنفس تمنى وتشتهى) لأن المجبر مكره مضطر، وهو بخلاف المتمنى والمشتهى، واللمم صغار الذنوب وهى مغفورة باجتناب الكبائر، وقد تقدم فى كتاب الأدب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 312 - باب قوله تَعَالَى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) [الإسراء: 60] / 18 - فيه: ابْن عَبَّاس، قِى هذه الآية هِىَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) [الإسراء: 60] ؟ هِىَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. قال المهلب: معنى ذكر هذا الحديث فى كتاب القدر هو ما ختم الله على الناس المكذبين لرؤياه من المشركين حين جعلها فتنة لهم فى تكذيب النبى الصادق فكانت زيادة فى طغيانهم، وكذلك جعل الشجرة الملعونة فى القرآن فتنة فقالوا: كيف يكون فى النار شجرة؟ النار تحرق الشجر اليابس والأخضر، فجعل ذلك فتنة تزيد فى ضلالهم، فلا يؤمنوا على ما سبق فى علمه. قال غيره: وقوله: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) [الإسراء: 60] يقتضى خلق الله للكفر به، ودواعى الكفر هى الفتنة، وذلك عدل منه تعالى. وهذا مثل قوله تعالى: (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم: 27] ، فهذا عام فى فعله كفر الكافرين، وإيمان المؤمنين ودواعى الإيمان والكفر خلافًا لمن زعم أن الله غير خالق أعمال العباد. وقوله: (الشجرة الملعونة يعنى: الملعون آكلها، وهم الكفار، كما قال تعالى: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ) [الدخان: 43، 44] ، وقال تعالى: (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ) [الصافات: 64] ، فأخبر أنها تنبت فى النار، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 313 وأما قول الكفار: كيف يكون فى النار شجرة، والنار تأكل الشجر، فإن هذه الشجرة التى أخبر الله أنها فى أصل الجحيم هى مخلوقة من جوهر لا تأكله النار كسلاسل النار وأغلالها وعقاربها وحياتها، وليس شىء من ذلك من جنس ما فى الدنيا مما لا يبقى على النار، وإنما خلقت من جنس لا تأكله النار، وكما خلق الله فى البحار من الحيوان ما لا يهلك فى الماء، وخلق فى الخل دودًا يعيش فيه ولا يهلكه، على أن الخل يفت الحجارة ويهرى الأجسام، ولم يكن ذلك إلا لموافقة ذلك الدود لجنس الخل وموافقة حيوان البحر جنس الماء، فكذلك ما خلق فى النار من الشجر والحيوان موافق لجنس النار، والله تعالى قادر أن يجعل النار بردًا وسلامًا، وأن يجعل الماء نارًا؛ لأنه على كل شىء قدير، فما أنكره الكفار من خلق الشجر فى النار عناد بين، وضلال واضح، أعاذنا الله من الضلال برحمته. - باب محاجة آدَمُ مُوسَى / 19 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا، خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ، قَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى، اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلامِهِ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِى عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَىَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِى بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، قاله ثَلاثًا) . قال المؤلف: معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (احتج آدم وموسى) : أى التقت أرواحهما فى السماء، فوقع هذا الحجاج بينهما، وقد جاءت الرواية بذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 314 روى الطبرى، عن يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله: (إن موسى قال: يا رب، أبونا آدم الذى أخرجنا ونفسه من الجنة. فأراه الله آدم فقال: أنت آدم؟ قال: نعم. قال: أنت الذى نفخ الله فيك من روحه، وعلمك الأسماء كلها، وأمر ملائكته أن يسجدوا لك، فما حملك أن أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ قال: ومن أنت؟ قال: أنا موسى. قال: أنت نبى بنى إسرائيل الذى كلمك الله من وراء حجاب، لم يجعل بينك وبينه رسولاً؟ قال: نعم. قال: فما وجدت فى كتاب الله أن ذلك كائن قبل أن أخلق؟ قال: نعم. .) وذكر الحديث. قال المهلب وغيره: (فحج آدم موسى) أى: غلبه بالحجة. قال الليث بن سعد: وإنما صحت الحجة فى هذه القصة لآدم على موسى؛ من أجل أن الله قد غفر لآدم خطيئته، وتاب عليه، فلم يكن لموسى أن يعير بخطيئة قد غفرها الله له، ولذلك قال له آدم: أنت موسى الذى آتاك الله التوراة، وفيها علم كل شىء فوجدت فيها أن الله قد قدّر علىّ المعصية، وقدر علىّ التوبة منها، وأسقط بذلك اللوم عنى، أتلومنى أنت، والله لا يلومنى. وبمثل هذا احتج ابن عمر على الذى قال له: إن عثمان فرّ يوم أحد، فقال ابن عمر: ما على عثمان ذنب؛ لأن الله تعالى قد عفا عنه بقوله: (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) [آل عمران: 155] ، وأما من عمل الخطايا ولم تأته المغفرة، فإن العلماء مجمعون أنه لا يجوز له أن يحتج بمثل حجة آدم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 315 فيقول: أتلومني على أن قتلت أو زنيت أو سرقت، وقد قدر الله علىّ ذلك. والأمة مجمعة على جواز حمد المحسن على إحسانه، ولوم المسئ على إساءته وتعديد ذنوبه عليه. فإن قال قائل: فإن القدرية احتجت بقول موسى: أنت آدم، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فنسب التخييب والإخراج إليه، قالوا: هذا يدل أن العباد يخلقون أفعالهم طاعتها ومعصيتها، ولو كانت خلقًا لله لم يصح أن يأمرهم ولا ينهاهم، قال: وكذلك احتجت الجهمية على صحة الجبر بقول آدم: أتلومني على أمر قدر عليّ. فالجواب: أنه ليس فى قول موسى دليل قاطع على اعتقاد القول بالقدر، وأن العبد خالق لأفعاله دون ربه كما زعمت القدرية؛ لأنه ليس فى قوله: (أنت آدم، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة) . أكثر من إضافة التخييب والإخراج إليه، وإضافة ذلك إليه لا يقتضى كونه خالقًا لهما؛ إذ يصح فى اللغة إضافة الفعل إلى من يقع منه على سبيل الخلق، وإلى من يقع منه على سبيل الاكتساب، وإذا احتملت إضافة التخييب والإخراج الوجهين جميعًا لم يقبض بظاهره على أحد الاحتمالين دون الآخر إلا بدليل قاطع، وقد قام الدليل الواضح على استحالة اختراع المخلوق أفعاله دون إقدار الله له على ذلك بقوله تعالى: (خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ) [الأنعام: 102] ، وبقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات: 96] ، وليس يجوز أن يريد تعالى بهذا الحجارة؛ لأن الحجارة أجسام، والأجسام لا يجوز أن يعملها العباد فدل أنه تعالى خالق أعمالهم وقوله تعالى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 316 ) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ) [الشورى: 29] ، واجتماعهم فعل لهم، وقد أخبر أنه تعالى خلقهم، وقد ثبت أنه تعالى قادر على جميع أجناس الحركات التى يحدثها العباد بدلالة أنه أقدرهم عليها، وما أقدرهم عليه فهو عليه أقدر، كما أنه ما أعلمهم إياه فهو به أعلم، فثبت أن الله خالق للأفعال، والعبد مكتسب لها، كما تقول: إن الله منفرد بخلق الولد، والوالد منفرد بكون الولد له لا شركة فيه لغيره. فنسبة الأفعال إلى الله تعالى من جهة خلقه لها، ونسبتها إلى العباد من جهة اكتسابهم لها، هذا مذهب أهل السنة والحق، وهو مذهب موسى (صلى الله عليه وسلم) من قوله: (إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء) [الأعراف: 155] ، فأضاف موسى الهداية والإضلال إلى الله تعالى، ولا تصح هذه الإضافة إلا على سبيل خلقه لها دون من وجدت منه، وأما قول الجهمية: إن الله أجبر العباد على أفعالهم، وهم مكرهون على الطاعة والمعصية. واحتجوا بقول آدم: أتلومنى على أمر قد قدر على قبل أن أخلق. فلا حجة لهم فيه أيضًا؛ لأن الموجود بالاعتبار والمشاهدة خلاف قولهم، وذلك أن العباد لا يأتون الذنوب إلا مشتهين لها، راغبين فيها، والإجبار عند أهل اللغة: هو اضطرار المرء إلى الفعل وإدخاله فيه غير راغب فيه ولا محب له كالمحسوب على وجهه، والمرتعش من الحمى، والفالج. وأهل الجبر معتقدون لوم من وقعت منه معصية الله وتأنيبه عليها أشد التأنيب، ومدح من وقعت منه الطاعة وإثباته عليها، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 317 وإذا كان هذا اعتقادهم؛ فاحتجاجهم بتأنيب آدم موسى على لومه له على أمر قد قدره عليه، وكرهه عليه فاسد متناقض على مذهبهم، ومحاجة آدم موسى هى أنه ذاكره ما قد عرفه ووقف عليه فى التوراة من توبة الله على آدم من خطيئته وإسقاطه اللوم عليها؛ فوجب على موسى ترك لومه وعتابه على ما كان منه. وقد ثبت أن جعفر بن محمد الصادق قيل له: قد أجبر الله العباد؟ قال: الله أعدل من ذلك. قيل: هل فوض إليهم؟ قال: الله أغير من ذلك، لو أجبرهم ما عذبهم، ولو فرض إليهم ما كان للأمر والنهى معنى. قلت: فكيف تقول إذًا؟ قال: منزلة بين منزلتين هى أبعد مما بين السماء والأرض؛ ولله فى ذلك سرّ لا تعلمونه. واحتجت أيضًا طائفة من القدرية المجبرة غير الجهمية بهذا الحديث، فقالت: إن كان صحيحًا قول آدم لموسى: أتلومنى على أمر قدره الله على قبل أن أخلق؛ فلا لوم على كافر فى كفره، ولا فاسق فى فسقه، ولا يجوز أن يجور عليهم ويعذبهم على ما اضطرهم إليه. قال الطبرى: فالجواب أنه ليس معنى قوله: أتلومنى على أمر كتبه الله علىّ قبل أن أخلق، كما توهمته، وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه، وقد عاقبه الله على خطيئته تلك بإخراجه من الجنة، ولو لم يكن ملومًا لكان وكنا فى الجنة كما أسكنه الله؛ ولكنه جل جلاله أخرجه منها لخطيئته تلك عقوبةً عليها، ولم يعاقبه على ما قضى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 318 عليه؛ لأنه لو عاقبه عليه لما كان يسكنه الجنة حين أسكنه إياها، وذلك أن القضاء عليه بذلك قد كان مضى قبل أن يخلقه؛ فإنما استحق العقوبة على فعله، لا على ما قضى عليه؛ وبمثل هذا أقر موسى لآدم بصحة حجته، ولم يقل له كما زعمت القدرية: ليس الأمر كما تزعم؛ لأن الله لو قضى عليك ذلك قبل أن يخلقك لم يعاقبك، ولكن لما كان من دين الله الذى أخذ بالإقرار به عهود أنبيائه ومواثيقهم أنه لا شىء كان فيما مضى ولا فيما يحدث إلا قد مضى به قضاؤه؛ فإنه غير معاقبهم على قضائه، ولكن على طاعتهم ومعاصيهم، وكان ذلك معلومًا عند الأنبياء والرسل، أقر موسى لآدم صلى الله عليهما بأن الذى احتج به عليه له حجة؛ وحقق صحة ذلك نبينا (صلى الله عليه وسلم) بقوله: فحج آدم موسى. قال غير الطبرى: وفى حديث أبى هريرة حجة لما يقوله أهل السنة: أن الجنة التى أهبط منها أبونا آدم (صلى الله عليه وسلم) هى جنة الخلد، ورد قول من زعم أنها لم تكن جنة الخلد، قالوا: وإنما كانت جنة بأرض عدن، واحتجوا على بدعتهم فقالوا: أن الله خلق الجنة لا لغو فيها ولا تأثيم، وقد لغا فيها إبليس حين كذب لآدم، وأثم فى كذبه، وأنه لا يسمع أهلها لغوًا ولا كذبًا، وأنه لا يخرج منها أهلها، وقد أخرج منها آدم وحواء بمعصيتهم، قالوا: وكيف يجوز على آدم مع مكانه من الله وكمال عقله أن يطلب شجرة الخلد، وهو فى دار الخلود والملك الذى لا يبلى؟ وأيضًا فإن جنة الخلد دار القدس: قدست عن الخطايا والمعاصى كلها تطهيرًا لها؛ فيقال لهم: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 319 الدليل على إبطال قولكم قول موسى لآدم: أنت الذى أشقيت ذريتك وأخرجتهم من الجنة، فأدخل الألف واللام ليدل على أنها الجنة المعروفة؛ جنة الخلد التى وعد الله المؤمنين بها، التى لا عوض لها فى الدنيا فلم ينكر ذلك آدم عليه من قوله، ولو كانت غير جنة الخلد لرد آدم على موسى، وقال: إنى أخرجتهم من دار فناء وشقاء وزوال وعرى إلى مثلها، فلما سكت آدم على ما قرره موسى؛ صح أن الدار التى أخرجهم الله منها بخلاف الدار التى أخرجوا إليها فى جميع الأحوال، ويقال لهم فيما احتجوا به: إن الله خلق الجنة لا لغو فيها ولا تأثيم، ولا كذب، ولا يخرج منها أهلها هذا كله بما جعله الله فيها بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة، وقد أخبر: أن آدم إن عصاه فيما نهاه عنه أخرجه عنها، ولا يمتنع أن تكون دار الخلد فى وقت لمن أراد تخليده فيها، وقد يخرج منها من قضى عليه الفناء. وقد أجمع أهل التأويل على أن الملائكة يدخلون الجنة على أهل الجنة ويخرجون منها، وأنها كانت بيد إبليس مفاتيحها ثم انتزعت منه بعد المعصية، وقد دخلها النبى (صلى الله عليه وسلم) ليلة الإسراء، ثم خرج منها وأخبر بما رأى فيها، وأنها هى جنة الخلد حقًا، وقولهم كيف يجوز على آدم فى كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو فى دار الخلد؛ فيرد عليهم،، ويقال لهم: كيف يجوز على آدم فى كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد فى دار الفناء؛ هذا لا يجوز على من له أدنى مسكة من عقل، وأما عقولهم: إن الجنة دار القدس وقد طهرها الله من الخطايا؛ فهو جهل منهم، وذلك أن الله سبحانه أمر بنى إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة وهى بالشام، وأجمع أهل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 320 الشرائع على أن الله قدسها، وقد شاهدوا فيها المعاصى، والكفر، والكذب، ولم يكن تقديسها مما يمنع فيها المعاصى فكذلك دار الخلد، وأهل السنة مجمعون على أن جنة الخلد هى التى أهبط منها آدم، فلا معنى لقول من خالفهم، قاله بعض شيوخنا. - باب لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى اللَّهُ / 20 - فيه: الْمُغِيرَة، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ خَلْفَ الصَّلاةِ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ) . قال المؤلف: المراد بهذا الحديث إثبات خلق الله تعالى جميع أعمال العباد؛ لأن قوله: (لا مانع لما أعطيت) يقتضى نفى جميع المانعين سواه، وكذلك قوله: (ولا معطى لما منعت) يقتضى نفى جميع المعطين سواه، وأنه لا معطى ولا مانع على الحقيقة بفعل المنع والعطاء سواه، وإذا كان كذلك ثبت أن من أعطى أو منع من المخلوقين فإعطاؤه ومنعه خلق لله وكسب للعبد، والله تعالى هو المعطى وهو المانع لذلك، حقيقة من حيث كان مخترعًا خالقًا للإعطاء والمنع، والعبد مكتسب لهما بقدرة محدثة، فبان أنه إنما نفى مانعًا ومعطيًا مخترعًا للمنع والإعطاء ويخلقهما. قال الطبرى: وقوله: (لا ينفع ذا الجد منك الجدَ) ، بفتح الجيم فى الحرفين جميعًا يقول: لا ينفع ذا الحظ فى الدنيا من المال والولد منك حظه فى الآخرة؛ لأنه إنما ينفع فى الآخرة عند الله العمل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 321 الصالح لا المال والبنون، كما قال تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الكهف: 46] الآية. وحكى عن أبى عمرو الشيبانى أنه كان يقول: إنما هو الجِد، بكسر الجيم فى الحرفين جميعًا، بمعنى: ولا ينفع ذا الاجتهاد فى العمل منك اجتهاده. قال الطبرى: وهذا خلاف ما يعرفه أهل النقل والرواة لهذا الحديث، ولا نعلم أحدًا قال ذلك غيره مع بُعد تأويله من الصحة. - باب نَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنْ دَرَكِ الشَّقَاءِ وَسُوءِ الْقَضَاءِ وَقَالَ تَعَالَى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) [الفلق: 1] . / 21 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأعْدَاءِ) . قال المؤلف: المستفاد من قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) [الفلق: 1] إلى آخر السورة، خلق الله تعالى لشر ما خلق، ولشر غاسق، ولشر النفاثات، ولشر حاسد؛ لأنه لو كان هذا الشر كله خلقًا لمن أضافه إليه من الغاسق والنفاثات والحاسد، مخترعًا لا كسبًا؛ لم يكن لأمر الله تعالى لنبيه ولعباده بالتعوذ به من شر ذلك كله معنى، وإنما يصح التعوذ به عز وجل مما هو قادر عليه دون من أضافه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 322 إليه، فتعبدنا تعالى بسؤاله دفع شر خلقه عنا؛ لأنه إذا كان قادرًا على فعل ما أضافه إلى من ذكر فى السورة كان قادرًا على فعل ضده وتعبدنا بسؤاله تعالى فعل ضد ما أمرنا بالاستعاذة منه، فبان أن الخير والشر بهذا النص خلق الله تعالى. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء) ، فإنما أمرنا بالتعوذ به تعالى من أن ينزل بنا فعلاً من أفعاله سبق علينا نزوله بنا لما يقتضيه من الشدة والمشقة، وذلك بلاء وشقاء وسوء قضاء وشماتة أعداء، فالشقاء يكون فى دين ودنيا، وإذا كان فى الدنيا كان تضييقًا فى العيش، وتقتيرًا فى الرزق، وذلك فعل الله وإن كان فى الدين فذلك كفر أو معاصٍ، وذلك فعل الله أيضًا، وكذلك سوء القضاء عام فى جميع ما قضاه تعالى من أمر الدين والدنيا، وشماتة الأعداء، وإن كانت مضافة إليهم إضافة الفعل إلى فاعله فى الظاهر، فإنما ذلك على سبيل إضافة الكسب إلى مكتسبه، لا على سبيل الاختراع، إذ لا يصح فى المخلوق اختراع عين، فبان أن جميع ما أمرنا بالتعوذ منه به خلق الله بدليل قوله: (خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ) [الأنعام: 102] . - باب يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ / 22 - فيه: ابْن عُمَرَ، كَثِيرًا مَا كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَحْلِفُ: (لا، وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ) . / 23 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبيىُّ (صلى الله عليه وسلم) لابْنِ صَيَّادٍ: (اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ) ، قَالَ عُمَرُ: ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، قَالَ: (دَعْهُ إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلا تُطِيقُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ، فَلا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 323 وقوله تعالى: (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) [الأنفال: 24] ، يقتضى النص منه تعالى على خلقه الكفر والإيمان بأن يحول بين قلب الكافر والإيمان الذى أمره به، فلا يكتسبه إذ لم يقدره عليه؛ بل أقدره على ضده وهو الكفر، ويحول بين المؤمن وبين الكفر الذى نهاه عنه بأن لم يقدر عليه؛ أقدره على الإيمان الذى هو به ملتبس وإذا خلق تعالى لهما القدرة على ما هما مكتسبان له مختاران لاكتسابه، فلا شك أنه خالق لكفرهما وإيمانهما؛ لأن خلقه لكفر أحدهما، وإيمان الآخر من جنس خلق قدرتيهما عليهما، ومحال كونه قادرًا على شىء غير قادر على خلافه أو ضده أو مثله، فبان أنه خالق بهذا النص لجميع كسب العباد، خيرها وشرها، وهذا معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا ومقلب القلوب) لأن معنى ذلك تقليبه قلب عبده عن إيثار الإيمان إلى إيثار الكفر، وعن إيثار الكفر إلى إيثار الإيمان، وكان فعل الله ذلك عدلاً فيمن أضله وخذله؛ لأنه لم يمنعهم حقًا وجب عليه فتزول صفة العدل، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ما وجب لهم وأضلهم؛ لأنهم ملك من ملكه خلقهم على إرادته، لا على إرادتهم، فكان ما خلق فيهم من قوة الهداية والتوفيق على وجه الفضل، وقد بين هذا المعنى إياس بن معاوية؛ ذكر الآجرى بإسناده عن حبيب بن الشهيد قال: (جاءوا برجل يتكلم فى القدر إلى إياس بن معاوية فقال له إياس: ما تقول؟ قال: أقول إن الله أمر العباد ونهاهم فإن الله لا يظلمهم شيئًا. فقال له إياس: أخبرنى عن الظلم، تعرفه أو لا تعرفه. قال: بل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 324 أعرفه. قال: ما الظلم؟ قال: أن يأخذ الرجل ما ليس له. قال: فمن أخذ ما له ظلم؟ قال: لا. قال إياس: فإن لله تعالى كل شىء. وقال عمران بن حصين لأبى الأسود الدؤلى: لو عذب الله أهل السموات والأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته أوسع لهم، ولو أنفقت مثل أُحد ذهبًا ما تقبل منك حتى تؤمن بالقدر خيره وشره. وروى مثل ذلك عن ابن مسعود، وأبى بن كعب، وسعد بن أبى وقاص، وزيد بن ثابت، وقال زيد: سمعته من رسول الله إلا أنه قال: (ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم) . وموافقة الحديث للترجمة قول النبى (صلى الله عليه وسلم) لعمر: (إن يكن هو فلا تطيقه، وإن لم يكن هو فلا خير لك فى قتله) يعنى إنه إن كان الدجال قد سبق فى علم الله خروجه وإضلاله للناس، فلن يقدرك خالقك على قتل من سبق فى عمله أنه يخرج ويضل الناس؛ إذ لو أقدرك على ذلك لكان فيه انقلاب علمه، والله تعالى منزه عن ذلك. - باب) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) [التوبة: 51] قَالَ مُجَاهِدٌ: (بِفَاتِنِينَ (: بِمُضِلِّينَ إِلا مَنْ كَتَبَ اللَّهُ أَنَّهُ يَصْلَى الْجَحِيمَ،) قَدَّرَ فَهَدَى) [الأعلى: 3] : قَدَّرَ الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ، وَهَدَى الأنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا. / 24 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا سَأَلَتْ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الطَّاعُونِ، فَقَالَ: (كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، مَا مِنْ عَبْدٍ يَكُونُ فِي بَلَدٍة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 325 يَكُونُ فِيهِ، وَيَمْكُثُ فِيهِ لا يَخْرُجُ مِنَ الْبَلَدِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لا يُصِيبُهُ إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، إِلا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ) . معنى هذا الباب أن الله أعلم عباده أن ما يصيبهم فى الدنيا من الشدائد والمحن والضيق والخصب والجدب، أن ذلك كله فعل الله يفعل من ذلك ما يشاء بعباده ويبتليهم بالخير والشر، وذلك كله مكتوب فى اللوح المحفوظ، ولا خلاف فى هذا بين جماعة الأمة من قدرى وسُنى، وإنما اختلفوا فى أفعال العباد الواقعة منهم على ما تقدم وهذه الآية إنما جاءت فيما أصاب العباد من أفعال الله التى اختص باختراعها دون خلقة، ولم يقدرهم على كسبها دون ما أصابوه مكتسبين له مختارين. - باب) وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) [الأعراف: 43] و) لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [الزمر: 57] / 25 - فيه: الْبَرَاء، رَأَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَهُوَ يَقُولُ: (وَاللَّهِ لَوْلا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا، وَلا صُمْنَا وَلا صَلَّيْنَا) . فى هاتين الآيتين وفى الحديث نص أن الله تعالى انفرد بخلق الهدى والضلال، وإنما قدر العباد على اكتساب ما أراد منهم اكتسابهم له من إيمان أو كفر، وأن ذلك ليس بخلق للعباد كما زعمت القدرية. وروى أن على بن أبى طالب لقى رجلاً من القدرية فقال له: خالفتم الله وخالفتم الملائكة، وخالفتم أهل الجنة وخالفتم أهل النار، وخالفتم الأنبياء وخالفتم الشيطان، فأما خلافكم الله فقوله: (إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء) [القصص: 56] ، وأما خلافكم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 326 الملائكة فقولهم: (لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا) [البقرة: 32] ، وأما خلافكم الأنبياء، فقول نوح: (وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ) [هود: 34] ، وأما خلافكم أهل الجنة، فقولهم: (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ) [الأعراب: 43] ، وأما خلافكم لأهل النار، فقولهم: (رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ) [المؤمنون: 106] ، وأما خلافكم الشيطان، فقول إبليس: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِى) [الحجر: 39] . وذكر الآجرى بإسناده عن على بن أبى طالب أن رجلاً أتاه فقال: أخبرنى عن القدر، فقال: طريق مظلم فلا تسلكه. قال: أخبرنى عن القدر. قال: بحر عميق فلا تلجه، قال: أخبرنى عن القدر، قال: سر الله فلا تكلفه، ثم ولى الرجل غير بعيد، ثم رجع فقال لعلى: فى المشيئة الأولى أقوم وأقعد، وأقبض وأبسط فقال له على: إنى سائلك عن ثلاث خصال ولن يجعل الله لك مخرجًا، قال: أخبرنى أخلقك الله لما شاء أم لما شئت؟ قال: بل لما شاء، قال: أخبرنى أتجئ يوم القيامة كما يشاء أو كما شئت؟ قال: بل كما يشاء. قال: أخبرنى أجعلك الله كما شاء أو كما شئت؟ قال: بل كما شاء. قال: فليس لك من المشيئة شىء. وقال محمد بن كعب القرظى: لقد سمى الله المكذبين بالقدر باسم نسبهم إليه فى القرآن فقال: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر: 47 - 49] فهم المجرمون. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 327 كِتَاب الاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ / 1 - فيه: طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ لِعُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَنَّ عَلَيْنَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) [المائدة: 3] لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّى لأعْلَمُ أَىَّ يَوْمٍ نَزَلَتْ: هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ: يَوْمَ عَرَفَةَ، فِى يَوْمِ جُمُعَةٍ. / 2 - وفيه: أَنَس، سَمِعَ عُمَرَ الْغَدَ حِينَ بَايَعَ الْمُسْلِمُونَ أَبَا بَكْرٍ، وَاسْتَوَى عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، تَشَهَّدَ قَبْلَ أَبِى بَكْرٍ، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَاخْتَارَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) الَّذِى عِنْدَهُ عَلَى الَّذِى عِنْدَكُمْ، وَهَذَا الْكِتَابُ الَّذِى هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَكُمْ، ن فَخُذُوا بِهِ تَهْتَدُوا، وَإِنَّمَا هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ. / 3 - وفيه: ابْن عَبَّاس، ضَمَّنِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَيْهِ وَقَالَ: (اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ) . / 4 - وفيه: أَبُو بَرْزَةَ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُغْنِيكُمْ بِالإسْلامِ وَبِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) . / 5 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُبَايِعُهُ، وَأُقِرُّ لَكَ: بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِيمَا اسْتَطَعْتُ. لا عصمة لأحد إلا فى كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) أو فى إجماع العلماء على معنى فى أحدهما. والسنة تنقسم قسمين: منها واجبة، ومنها غير واجبة، فأما الواجبة فما كان تفسيرًا من النبى (صلى الله عليه وسلم) لفرض الله، وكل ما أمر به النبى أو نهى عنه أو فعله فهو سنة، ما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 328 لم يكن خاصًا له، وأما غير الواجب من سنته (صلى الله عليه وسلم) فما كان من فعله تطوعًا ولا يحرج أحد فى تركه كقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول) . وكقوله: (لا تتخذوا الضيعة فترغبوا فى الدنيا) . وأكثر أصحابه كان لهم ضياع، فدل أنه أدب منه نستعين به على دفع الرغبة فى الدنيا، ومثل ذلك مما أمر به تأديبًا لأمته بأكرم الأخلاق من غير أن يوجب ذلك عليهم، ومثل ذلك ما فعله فى خاصة نفسه من أمر الدنيا كاتخاذه لنعله قبالين، ولبسه النعال السبتية، وصبغه إزاره بالورس، وحبه القرع، وإعجابه الطيب، وحبه من الشاة الذراع، ونومه على الشق الأيمن، وسرعته فى المشى، وخروجه فى السفر يوم الخميس، وقدومه فى الضحى وشبه ذلك، فلم يسنه لأمته، ولا دعاهم إليه ومن تشبه به (صلى الله عليه وسلم) حبًا له كان أقرب إلى ربه كفعل ابن عمر فى ذلك. - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ / 6 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِى أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأرْضِ، فَوُضِعَتْ فِلا يَدِى) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنْتُمْ تَلْغَثُونَهَا، أَوْ تَرْغَثُونَهَا، أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا. / 7 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنَ الأنْبِيَاءِ نَبِىٌّ إِلا أُعْطِىَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ أُومِنَ، أَوْ آمَنَ، عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِى أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَىَّ، فَأَرْجُو أَنِّى أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 329 الْقِيَامَةِ) . أى: صدق بتلك الآيات لإعجازها لمن شهدها، كقلب العصا حية، وفلق البحر لموسى وكإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى، وكان الذى أعطيت أنا وحيًا أوحاه الله إلىّ فكان آية باقية دعى إلى الإتيان بمثله أهل التعاطى له، ومن نزل بلسانهم، فعجزوا عنه ثم بقى آية ماثلة للعقول إلى من يأتى إلى يوم القيامة، يرون إعجاز الناس عنه رأى العين، والآيات التى أوتيها غيره من الأنبياء قبله رئى إعجازها فى زمانهم، ثم لم تصحبهم إلا مدة حياتهم، وانقطعت بوفاتهم، وكان القرآن باقيًا بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) يتحدى الناس إلى الإتيان بمثله، ويعجزهم على مرور الأعصار فكان آية باقية لكل من أتى، فلذلك رجا أن يكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة، مع أن الله تعالى قد ضمن هذه الآية ألا يدخلها الباطل إلى أن تقوم الساعة بقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9] ، وضمن نبينا (صلى الله عليه وسلم) بقاء شريعته وإن ضيع بعضها قوم بقوله: (لا تزال طائفة من أمتى على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتى أمر الله وهم على ذلك) . وقوله: وأنتم تلغثونها أو ترغثونها. شك فى أى الكلمتين قال النبى (صلى الله عليه وسلم) فأما لغث باللام فلم أجده فيما تصفحت من اللغة، وأما رغث بالراء فهو معروف عندهم يقال: رغثت كل أنثى ولدها وأرغثته أرضعته فهى رغوث. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 330 3 - باب الاقْتِدَاءِ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان: 74] وَقَالَ: أَيِمَّةً نَقْتَدِى بِمَنْ قَبْلَنَا، وَيَقْتَدِى بِنَا مَنْ بَعْدَنَا. وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: ثَلاثٌ أُحِبُّهُنَّ لِنَفْسِى وَلإخْوَانِى: هَذِهِ السُّنَّةُ، أَنْ يَتَعَلَّمُوهَا، وَيَسْأَلُوا عَنْهَا، وَالْقُرْآنُ أَنْ يَتَفَهَّمُوهُ وَيَسْأَلُوا عَنْهُ، وَيَدَعُوا النَّاسَ إِلا مِنْ خَيْرٍ. / 8 - فيه: أَبُو وَائِل، قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى شَيْبَةَ فِى هَذَا الْمَسْجِدِ، قَالَ: جَلَسَ إِلَىَّ عُمَرُ فِى مَجْلِسِكَ هَذَا، فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلا بَيْضَاءَ إِلا قَسَمْتُهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، قُلْتُ: مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ، قَالَ: لِمَ؟ قُلْتُ: لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاكَ، قَالَ: هُمَا الْمَرْءَانِ يُقْتَدَى بِهِمَا. / 9 - وفيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَنَّ الأمَانَةَ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ فِى جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، فَقَرَءُوا الْقُرْآنَ، وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ) . / 10 - وفيه: عَبْدُاللَّهِ: إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْىِ هَدْىُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) ، وَشَرَّ الأمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَ) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) [الأنعام: 134] . / 11 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ) . / 12 - وفيه: جَابِر، قَالَ: جَاءَتْ مَلائِكَةٌ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ نَائِمٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ، وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 331 فَقَالُوا: إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلا، فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلا، فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا، وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً، وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِىَ دَخَلَ الدَّارَ، وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِىَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا لَهُ: يَفْقَهْهَا، َقَالُوا: فَالدَّارُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِى مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم) ، فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم) فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ. / 13 - وفيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ، اسْتَقِيمُوا، فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلالا بَعِيدًا. / 14 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا، فَقَالَ: يَا قَوْمِ إِنِّى رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَىَّ، وَإِنِّى أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، فَالنَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِى فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِى وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ) . / 15 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، لَمَّا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِى عِقَالا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ. / 16 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أن عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ قَالَ لعُمر: وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 332 الْجَزْلَ، وَمَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ بِهِ، فَقَالَ الْحُرُّ بن قيس: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199] وَهَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ، فَوَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ. / 17 - وفيه: أسماء فى حديث الخسوف: قَالَ النَّبِي - عليه السَّلام -: (فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ، فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ فَأَجَبْنَاهُ فَآمَنَّا، واتبعنا) الحديث. / 18 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (فدَعُونِى مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَىْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) . قال المؤلف: أمر الله عباده باتباع نبيه والاقتداء بسنته فقال: (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِىِّ الأُمِّىِّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الأعراف: 158] ، وقال: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِىَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف: 157] ، وتوعد من خالف سبيله ورغب عن سنته فقال: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63] ، وهذه الآيات مصدقة لأحاديث هذا الباب. وأما قول عمر: (لقد هممت ألا أدع فيها صفراء ولا بيضاء) يعنى: ذهبًا ولا فضة، أراد أن يقسم المال الذى يجمع بمكة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 333 وفضل عن نفقتها ومؤنتها ويضعه فى مصالح المسلمين، فلما ذكره شيبة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) وأبا بكر بعده لم يعرضا له؛ لم يسعه خلافهما، ورأى أن الاقتداء بهما واجب، فربما تهدم البيت أو خلق بعض آلاته فصرف ذلك المال فيه، ولو صرف ذلك المال فى منافع المسلمين لكان كأنه قد خرج من وجهه الذى سبل فيه. قال المهلب: وأما الأمانة التى فى حديث حذيفة، فإنها الإيمان وجميع شرائعه، والتنزه عن الخيانة وشبهها. والجذر: أصل الشىء، فدل ذلك أن الإيمان مفروض على القلب ولابد من النية فى كل عمل ما يذهب إليه الجمهور. وقوله: (نزلت فى جذر قلوب الرجال) يعنى: بعض الرجال الذين ختم الله لهم بالإيمان، وأما من لم يقدر له به فليس بداخل فى معنى ذلك، ألا ترى قوله: (ونزل القرآن ثم قرءوا من القرآن وعلموا من السنة) يعنى المؤمنين خاصة المذكورين فى أول الحديث. وقوله: (جاءت الملائكة، فقال بعضهم: العين نائمة والقلب يقظان) يدل أن رؤيا الأنبياء وحى لثبات القلب، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (إن عينى تنامان ولا ينام القلب) وفيه دليل أن الفهم والمعرفة فى القلب. وقول الملك: (أولوها له) . يدل أن الرؤيا على ما عبرت فى النوم. ومعنى قول الحر (فما جاوزها عمر وكان وقافًا عند كتاب الله) . فهو معنى الترجمة، والإعراض عن الجهل إن صح أنه جهل مرغب فيه مندوب إليه، وأما إذا كان الجفاء على السلطان تعمدًا أو استخفافًا بحقه فله تغييره والتشديد فيه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 334 واستعمال عمر لهذه الآية يدل على أنها غير منسوخة، وهو قول مجاهد وقتادة، وروى هشام بن عروة عن أبيه، وعن عبد الله ابن الزبير قالا: نزلت هذه الآية فى أخذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم وما لا يجهدهم. فعلى هذا القول هى محكمة وهذا لفظه لفظ الأمر، وهو تأديب من الله لنبيه، وفيه تأديب لأمته، فهو تعليم للمعاشرة الجميلة والأخذ بالفضل، وقد روى عن ابن عباس فى قوله: (خُذِ الْعَفْوَ) [الأعراف: 199] ، يعنى الفضل من أموال الناس، ثم نسخ ذلك وهو قول الضحاك والسدى. وفيها قول ثالث عن ابن زيد قال: أمر الله نبيه بالعفو عن المشركين وترك الغلظة عليهم، قبل أن يفرض عليه قتالهم ثم نسخت بالقتال. فأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشىء فائتوا منه ما استطعتم) فقد احتج به من قال: إن الأمر موضوع على الندب دون الإيجاب، قالوا: ألا تراه (صلى الله عليه وسلم) علق الأمر بمشيئتنا واستطاعتنا، وألزمنا الاتنهاء عما نهى عنه، فوجب حمل النهى على الوجوب دون الأمر. قال أبو بكر بن الطيب: والتعلق بهذا غير صحيح ومعنى قوله: (فائتوا منه ما استطعتم) إذا كنتم مستطيعين، وقد يأمر بالفعل الذى يستطيعه على طريق الوجوب كما يأمر به على وجه الندب، ولا يدل على أنه ليس بواجب قال الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16] ، ولم يرد به ندبنا إلى التقوى دون إيجابه، ومعنى الآية والخبر: أن اتقوه إذا كنتم سالمين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 335 غير عجزة قادرين، ولم يرد أنه لا يؤمر إلا من قد وجدت قدرته على الفعل كما تقول القدرية. وقال المهلب: من احتج بهذا الحديث أن النواهى أوجب من الأوامر فهو خطأ؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم ينه بهذا الحديث عن المحرمات التى نهى الله عنها فى كتابه بأن حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وإنما أراد فإذا نهيتكم عما هو مباح لكم أن تأتوه، فإنما نهيتكم رفقًا بكم، كنهيه عن الوصال إبقاءً عليهم، وكنهيه عبد الله بن عمرو عن صيام الدهر وقيام الليل كله، وكنهيه عن إضاعة المال؛ لئلا يكون سببًا لهلاكهم، وكنهيه عن كسب الحجام وعسب الفحل تنزهًا واعتلاءً عن الأعمال الوضيعة. وأما الأمر الذى أمرهم أن يأتوا منه ما استطاعوا، فهو الأمر من التواصى بالخير، والصدقات وصلة الرحم، وغير ذلك مما سنه، وليس بفرض ولذلك قال لهم: فائتوا ما استطعتم أى: لم آمركم بذلك أمر إلزام ولا أمر حتم أن تبلغوا غاياته لكن ما استطعتم من ذلك؛ لأن الله تعالى عفا عما لا يستطاع. وعلى هذا المعنى خرج معنى الحديث منه (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن أصحابه كانوا يكثرون سؤاله عن أعماله من الطاعات يحرصون على فعلها فكان ينهاهم عن التشديد ويأمرهم بالرفق؛ خشية الانقطاع وسأتقصى مذاهب العلماء فى الأمر والنهى فى باب النهى على التحريم إلا ما يعرف إباحته بعد هذا إن شاء الله تعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 336 4 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ وَتَكَلُّفِ مَا لا يَعْنِي وَقوله اللَّه: (لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة: 101] / 19 - فيه: سَعْد، قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ) . / 20 - وفيه: زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) اتَّخَذَ حُجْرَةً فِى الْمَسْجِدِ مِنْ حَصِيرٍ، فَصَلَّى فِيهَا لَيَالِىَ حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ، ثُمَّ فَقَدُوا صَوْتَهُ لَيْلَةً، فَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ نَامَ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَتَنَحْنَحُ؛ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: (مَا زَالَ بِكُمِ الَّذِى رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ، فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِى بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلاةِ الْمَرْءِ فِى بَيْتِهِ إِلا الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ) . / 21 - وفيه: أَبُو مُوسَى، سُئِلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ غَضِبَ، وَقَالَ: (سَلُونِى) ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبِى؟ قَالَ: (أَبُوكَ حُذَافَةُ) ، ثُمَّ قَامَ آخَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبِى؟ فَقَالَ: (أَبُوكَ، سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ) ، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا بِوَجْهِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْغَضَبِ، قَالَ: إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ. / 22 - وذكر قصة حذافة من رواية أَنَس وفيه: فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَيْنَ مَدْخَلِى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (النَّارُ) ، فَقَامَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ، فَقَالَ: مَنْ أَبِى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (أَبُوكَ حُذَافَةُ) ، فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) رَسُولا، فَسَكَتَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عند ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَىَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِلا عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ. . .) الحديث. وَقَالَ أَنَس، لما قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَبُوكَ فُلانٌ) ، نَزَلَتْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة: 101] الآيَةَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 337 / 23 - وفيه: الْمُغِيرَةِ، أنّ النَّبيّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ. . . الحديث. / 24 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَأَلون حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟) . / 25 - وفيه: ابْن مَسْعُود، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مَرَّ عليه نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَلُوهُ، عَنِ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تَسْأَلُوهُ لا يُسْمِعُكُمْ فيه مَا تَكْرَهُونَ. . . الحديث. قال ابن عون: سألت نافعًا عن قوله تعالى: (لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة: 101] ، فقال: لم تزل كثرة السؤال منذ قط تكره. وقال الحسن البصرى: فى هذه الآية سألوا النبى (صلى الله عليه وسلم) عن أمور الجاهلية التى عفا الله عنها، ولا وجه للسؤال عما عفا الله عنه، وقيل: كان الرجل الذى سأل النبى (صلى الله عليه وسلم) عن أبيه يتنازعه رجلان فأخبره النبى (صلى الله عليه وسلم) بأبيه منهما، وأعلم (صلى الله عليه وسلم) أن السؤال عن مثل هذا لا ينبغى، وأنه إذا ظهر فيه الجواب ساء ذلك السائل، وأدّى ذلك إلى فضيحته لا سيما وقت سؤال النبى ونزول الآيات فى ذلك. وقد تقدم فى كتاب الفتن كراهية أم حذافة لسؤاله النبى (صلى الله عليه وسلم) عن أبيه وما قالت له فى ذلك. فلسؤالهم له (صلى الله عليه وسلم) عما لا ينبغى وتعنيته (صلى الله عليه وسلم) للذى قال له: أين مدخلى يا رسول الله؟ قال: النار؛ لأن تعنيته (صلى الله عليه وسلم) يوجب النار، وقد أمر الله المسلمين بتعزيزه وتوقيره وألا يرفع الصوت فوق صوته، وتوعد على ذلك بحبوط العمل بقوله تعالى: (أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 338 تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] ، ألا ترى فهم عمر لهذا الأمر وتلافيه له؛ بأن برك على ركبتيه، وقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيا وقال مرة: إنا نتوب إلى الله. فسكت (صلى الله عليه وسلم) وسكن غضبه، ورضى قول عمر حين ذب عن نبيه ونبّه على التوبة مما فيه إغضابه أن يؤدى إلى غضب الله، وقد ذكرنا شيئًا من هذا المعنى فى كتاب الفتن فى باب التعوذ من الفتن الدليل على صواب فعل عمر قول النبى (صلى الله عليه وسلم) بعد ذلك: (أولى والذى نفسى بيده) يعنى: أولى لمن عنَّت نبيه فى المسألة وأغضبه، ومعنى أولى عند العرب التهدد والوعيد. وقال المهلب: يقال للرجل: إذا أفلت من عظيمة: أولى لك. أى: كدت تهلك ثم أَفْلَتَّ، ويروى عن ابن الحنفية أنه كان يقول: إذا مات ميت فى جواره: أولى لى، كدت والله أن أكون السواد المخترم. قال المهلب: وأصل النهى عن كثرة السؤال والتنطع فى المسائل مبين فى كتاب الله تعالى فى بقرة بنى إسرائيل أمرهم الله بذبح بقرة فلو ذبحوا أى بقرة كانت لكانوا مؤتمرين غير عاصين، فلما سألوا ما هى وما لونها؟ قيل لهم: لا فارض ولا بكر. ضيق عليهم وقد كان ذلك مباحٌ، وكذلك ضيق عليهم فى لونها فقيل لهم: صفراء. فمنعوا من سائر الألوان، وقد كان ذلك مباحًا لهم، ثم لما قالوا: إن البقر تشابه علينا، قيل لهم: لا ذلول حرّاثه ولا ساقية للحرث أى معلمة لاستحراج الماء وقد كان ذلك مباحًا لهم، فعز عليهم وجود هذه الصفة المضيق عليهم فيها حتى أمرهم أن يشتروها بأضعاف ثمنها عقوبة بسؤالهم عما لو يكن لهم به حاجة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 339 وقوله تعالى: (لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة: 101] يحذر مما نزل بهؤلاء القوم ثم وعد أنه إن سألوا عنها حين نزول القرآن ضيق عليهم، وقد قال بعض أصحابنا: إنه بقيت منه بقية مكروهة وهو أن التنطع فى المسألة والبحث عن حقيقتها يلزم منها أن يأتى بذلك الشرع على الحقيقة التى انكشفت له فى البحث وذلك مثل أن يسأل عن سلع الأسواق الممكن فيها الغصب والنهب هل له شراء ذلك فى سوق المسلمين، وهو يمكن فيه ذلك المكروه أم لا؟ فيفتى بأن له أن يبتاع ذلك، ثم إن تنطع، فقال: إن قام الدليل على السلعة أنها من نهب أو غصب هل لى أن أشتريها؟ فيفتى بأن لا يشتريها فهذا الذى بقى من كراهة السؤال والتنطع حتى الآن فى النسخ الذى كان يمكن حين نزول القرآن والتضيق المشروع. وقد سئل مالك عن قيل وقال وكثرة السؤال؟ فقال: لا أدرى أهو ما أنهاكم عنه من كثرة المسائل، فقد كره رسول الله المسائل وعابها، أو هو مسألة الناس أموالهم. وكان زيد ابن ثابت وأبى بن كعب وجماعة من السلف يكرهون السؤال فى العلم عما لم ينزل، ويقولون: إذا نزلت النازلة وفق المسئول عنها، ويرون الكلام فيما لم ينزل من التكلف. وقال مالك: أدركت أهل هذا البلد وما عند أحدهم علم غير الكتاب والسنة، فإدا نزلت النازلة جمع الأمير لها من حضر من العلماء، فما اتفقوا عليه أنفذه، وأنتم تكثرون المسائل وقد كرها رسول الله. فإن قيل: فإذا ثبت النهى عن كثرة السؤال والبحث فى هذه الأحاديث، فقد جاء فى كتاب الله ما يعارض ذلك، وهو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 340 الأمر بسؤال العلماء والبحث عن العلم؛ بقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل: 43] . فالجواب عنه: أن الذى أمر الله عباده بالسؤال عنه هو ما ثبت وتقرر وجوبه مما يجب عليهم العمل به، والذى جاء فيه النهى هو ما لم يتعبد الله عباده به، ولم يذكره فى كتابه، وقد سئل ابن عباس عن قوله تعالى: (لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ) [المائدة: 101] الآية قال: ما لم يذكر فى القرآن فهو مما عفا الله عنه، ألا ترى أن الله لم يجب اليهود عن سؤالهم عن الروح لما لم يكن مما لهم به الحاجة إلى علمه، وكان من علم الله الذى لم يطلع عليه أحدًا فقال لنبيه (صلى الله عليه وسلم) : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء: 85] ، فنسبهم تعالى فى سؤالهم عما لم ينبغى لهم السؤال عنه إلى قلة العلم، وقال مالك: قيل وقال هو هذه الأخبار والأراجيف فى رأيى، أعطى فلان كذا ومنع كذا بقوله: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) [التوبة: 65] ، فهؤلاء يخوضون، رواه عنه أشهب فى جامع المستخرجة. وأما قول بعض اليهود حين سألوه عن الروح: لا تسألوه يسمعكم ما تكرهون. فإنما قال ذلك لعلمه أنهم كانوا معنتين والمعنت من عقوبته أن يخاطب بما يكره. وأما قول (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أنس: (لن يبرح الناس يسألون: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 341 هذا الله خالق كل شىء فمن خلق الله؟) هذا من السؤال الذى لا يحل وقد جاء هذا الحديث بزيادة فيه من حديث أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (لا يزال الشيطان يأتى أحدكم فيقول: من خلق كذا من خلق كذا، حتى يقول: من خلق الله، فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل: آمنت بالله) . وفى حديث آخر: فذلك (صريح الإيمان) . رواه أبو داود حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا سهيل، عن أبيه، عن أبى هريرة (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) جاءه ناس من أصحابه فقالوا: يا رسول الله، نجد فى أنفسنا الشىء يعظم أن نتكلم به ما نحب أن لنا الدنيا وأنا تكلمنا به، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أو قد وجدتموه، ذلك صريح الإيمان) . وقد ذكر ابن أبى شيبة من حديث الأعمش، عن ذر، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس قال: (جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: إنى أحدث نفسى بالأمر لأن أكون حممة أحب إلى من أن أتكلم به. فقال له رسول الله: الحمد لله الذى رده إلى الوسواس) . فإن قيل: كيف سمّى هذه الخطرة الفاسدة من خطرات الشيطان على القلب صريح الإيمان؟ قال الخطابى: يريد أن صريح الإيمان هو الذى يعظم ما تجدونه فى صدوركم ويمنعكم من قول ما يلقيه الشيطان فى قلوبكم ولولاه لم يتعاظموه، ولم ينكروه ولم يرد أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان، وكيف تكون إيمانًا وهى من قبل الشيطان وكيده، ألا تراه (صلى الله عليه وسلم) حين سئل عن هذا قال: (الحمد لله الذى رد كيده إلى الوسوسة) . وفيه وجه آخر، قال المهلب: قوله: (صريح الإيمان) يعنى: الانقطاع فى إخراج الأمر إلى ما لا نهاية له فلابد عند ذلك من إيجاب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 342 خالق لا خالق له، لأن المفكر يجد المخلوقات كلها لها خالق بأثر الصنعة فيها والحدث الجارى عليها والله تعالى بخلاف هذه الصفة لمباينته صفات المخلوقين، فوجب أن يكون خالق الكل، فهذا هو صريح الإيمان، لا البحث الذى هو من كيد الشيطان المؤدى إلى هذا الانقطاع ليحير العقول، فنبه (صلى الله عليه وسلم) على موضع كيده وتحييره. قال غيره: فإن وسوس الشيطان فقال: ما المانع أن يخلق الخالق نفسه. قيل له: هذه وسوسة ينقض بعضها بعضا؛ لأن بقولك يخلق قد أوجبت وجوده تعالى، وبقولك نفسه قد أوجبت عدمه، والجمع بين كونه موجودًا ومعدومًا معًا تناقض فاسد؛ لأن من شرط الفاعل تقدم وجوده على وجود فعله فيستحيل كون نفسه فعلاً له؛ لاستحالة أن يقال إن النفس تخلق النفس التى هى هو وهذا بين فى حل هذه الشُبه وهو صريح الإيمان. وقال غيره: إن سأل سائل عن حديث سعد وزيد بن ثابت، فقال: فى هذين الحديثين دلالة على أن الله تعالى يفعل شيئًا من أجل شىء وسببه، وهذا يؤدى إلى قول القدرية. فالجواب: أنه قد ثبت أن الله على كل شىء قدير، وأنه بكل شىء عليم، وأنه لا يكون من أفعاله التى انفرد بالقدرة عليها ولا تدخل تحت قدرة العباد، ولا تكون من مقدورات العباد التى هى كسب لهم وخلق لله إلا والله مريد لجميع ذلك، فسواء كان أمرًا بذلك عباده أو ناهيًا لهم عنه، فغير جائز أن يقال أنه فعل فعلاً من أفعاله بسبب من الأسباب أو من أجل داع يدعوه إلى فعله؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 343 لأن السبب والداعى فعل من أفعاله، والقول أنه فاعل بسبب يقضى إلى تعجيزه لحاجته إلى ما لا يصح وقوعه من فعله إلا بوقوع غيره تعالى الله عن ذلك، فإذا فسد ذلك وجب حمل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن أعظم المسلمين جُرمًا من سأل عن شىء لم يحرم فحرم من أجله) . على غير ظاهره وصرفه إلى أن الله تعالى فاعل بسؤال السائل الذى نهاه عنه، ومقدر أن يحرم الشىء المسئول عنه إذا وقع السؤال فيه، كل ذلك قد سبق به القضاء والقدر لا أن السؤال موجه للتحريم وعلة له. وكذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما زال بكم الذى رأيت من صنيعكم) يعنى: من كثرة مطالبتكم بالخروج إلى الصلاة حتى خشيت أن تكتب عليكم عقابًا لكم على كثرة ملازمتكم لى فى مداومة الصلاة بكم، لا أن ملازمتهم له موجبة لكتاب الله عليهم الصلاة؛ لما ذكرناه من أن الملازمة والكتب فعلان لله تعالى غير جائز وقوع أحدهما شرطًا فى وقوع الآخر، ولو وقعت الملازمة ووقع كتاب الصلاة عليهم لكان ذلك مما قد سبق به القضاء والقدر فى علم الله. وإنما نهاهم، عليه السلام، عن مثل هذا وشبهه تنبيهًا لهم على ترك الغلو فى العبادة وركوب القصد فيها؛ خشية الانقطاع والعجز عن الإتيان بما طلبوه من الشدة فى ذلك، ألا ترى قوله تعالى فيمن فعل مثل ذلك: (قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ) [المائدة: 102] ، ففرضت عليهم، فعجزوا عنها فأصبحوا بها كافرين وكان (صلى الله عليه وسلم) رءوفًا بالمؤمنين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 344 رفيقًا بهم، وقد تقدم مثل حديث زيد من رواية عائشة فى أبواب قيام الليل فى كتاب الصلاة، وذكرنا فى توجيهه ما لم يذكر فى هذا الباب فتأمله هناك. فإن قيل: فإذا حمل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شىء لم يحرم فحرم من أجله) على غير ظاهره ما وجه ذلك وإثم الجرم به؟ . قيل: هو على ما تقرر علمه من نسبة اللوم والمكروه إلى من تعلق بسبب من فعل ما يلام عليه، وإن قل تحذيرًا من موافقته له فعظم جرم فاعل ذلك لكثرة الكارهين لفعله. وعرض الحائط: وسطه، وكذلك عرض البحر وعرض النهر وسطهما، واعترضت عرضه نحوت نحوه عن صاحب العين. 5 - باب الاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) / 26 - فيه: ابْن عُمَر، اتَّخَذَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَنَبَذَهُ) ، وَقَالَ: (إِنِّى لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا) ، فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ. قال أبو تمام المالكى، وأبو بكر بن الطيب: ما كان من أفعال الرسول بيانًا لمجمل كالصلاة، والصيام، والحج، وما دعا إلى فعله كقوله: (خذوا عنى مناسككم، وصلوا كما رأيتمونى أصلى) . فلا خلاف بين العلماء أنها على الوجوب، واختلفوا فيما كان منها واقعًا موقع القرب لا على وجه البيان والامتثال لتمثيل أمر لزمه، فقال مالك وأكثر أهل العراق: إنها على الوجوب، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 345 إلا أن يمنع من ذلك دليل، وهو قول ابن سريج وابن خيران من أصحاب الشافعى، وقال بعض أصحاب الشافعى: إنها على الندب وإن المتأسى به فيها مندوب إليه أن يقوم دليل على وجوبها، وقال كثير من أهل الحجاز والعراق وأصحاب الشافعى: إنها على الوقف إلا أن يقوم دليل على كونها ندبًا أو إباحة أو محظورة. قال أبو بكر بن الطيب: وبهذا نقول. واحتج لذلك بأنه لما كانت القربة الواقعة محتملة لكونها فرضًا ونفلاً لم يجز أن يكون الفعل منه دليلاً على أننا متعبدون مثله، ولا على كونه واجبًا علينا دون كونه نفلاً؛ لأن فعله مقصور عليه دون متعدٍ إلى غيره، وأمره لنا ونهيه متعديان إلى الغير والغرض فيهما امتثالهما فافترقا. وحجة من قال: إنها على الوجوب. أن النبى (صلى الله عليه وسلم) خلع خاتمه، فخلعوا خواتيمهم وأنه خلع نعليه فى الصلاة، فخلعوا نعالهم، وأنه أمرهم عام الحديبية بالتحلل فوقفوا، فشكا ذلك إلى أم سلمة فقالت له: اخرج إليهم واذبح واحلق. ففعل ذلك، فذبحوا وحلقوا اتباعًا لفعله، فعلم أن الفعل أكد عندهم من القول، وقال لأم سلمة حين سألتها المرأة عن القبلة للصائم: (ألا أخبرتيها أنى أقبّل وأنا صائم) . وقال للرجل مثل ذلك، فقال: إنك لست مثلنا. فقال: (إنى لأرجو أن أكون أتقاكم لله) . فدل هذا على أن الأسوة واقعة إلا ما منع منه الدليل، ويدل على ذلك أنه لما نهاهم عن الوصال قالوا: إنك تواصل. قال: (إنى لست مثلكم، إنى أطعم وأسقى) . فلولا أن لهم الاقتداء به لقال لهم: وما فى مواصلتى ما يبيح لكم فعل ذلك، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 346 وأفعالي مخصوصة بي، فلم يقل لهم ذلك، ولكن بين لهم المعنى فى اختصاصه بالمواصلة، وهو أن الله يطعمه ويسقيه، وأنهم بخلافه فى ذلك، وكذلك خص الله الموهوبة أنها خالصة له من دون أمته، ولولا ذلك لكانت مباحًا لهم. 6 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ وَالتَّنَازُعِ وَالْغُلُوِّ فِى الدِّينِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ (الآية [النساء: 171] / 27 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُوَاصِلُوا، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: إِنِّى لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّى أَبِيتُ يُطْعِمُنِى رَبِّى وَيَسْقِينِى. . .) الحديث، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلالَ، فَقَالَ: (لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلالُ لَزِدْتُكُمْ، كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ) . / 28 - وفيه: عَلِىّ، أنه خطب وَعَلَيْهِ سَيْفٌ وفِيهِ صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا مِنْ كِتَابٍ يُقْرَأُ إِلا كِتَابُ اللَّهِ وَمَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. . . وذكر الحديث. / 29 - وفيه: عَائِشَة، صَنَعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) شَيْئًا تَرَخَّصَ فِيهِ، وَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّىْءِ، أَصْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّى أَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً) . / 30 - وفيه: ابْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ، كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، لَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَفْدُ بَنِى تَمِيمٍ أَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالأقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ التَّمِيمِىِّ الْحَنْظَلِىِّ أَخِى بَنِى مُجَاشِعٍ، وَأَشَارَ الآخَرُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 347 بِغَيْرِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ: إِنَّمَا أَرَدْتَ خِلافِى، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتُ خِلافَكَ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَنَزَلَتْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ (الآية [الحجرات: 2] ، فَكَانَ عُمَرُ إِذَا حَدَّثَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ كَأَخِى السِّرَارِ لاَ يُسْمِعْهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ. / 31 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ فِى مَرَضِهِ: (مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فليُصَلّ بِالنَّاسِ) ، إلى قوله: (إِنَّكُنَّ لأنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ. . .) الحديث. / 32 - وفيه: حديث مالك بن أوس، أن العباس وعليًا جاءا إلى عمر يطلبان ميراثهما من النَّبِىّ، عليه السَّلام، وتنازعهما فِى ذلك مَعَ عُمر. . . الحديث بطوله. قال المهلب فى قوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ) [النساء: 171] : الغلو مجاوزة الحد. فهذا يدل أن البحث عن أسباب الربوبية من نزغات الشيطان، ومما يؤدى إلى الخروج عن الحق؛ لأن هؤلاء غلوا فى الفكرة حتى آل بهم الأمر أن جعلوا الآلهة ثلاثة، وأما الذين غلوا فى صيام فهو اتباعهم للوصال بعد أن نهاهم النبى (صلى الله عليه وسلم) فعاقبهم بأن زادهم مما تعمقوا به. وقول على: (ما عندنا إلا كتاب الله، وما فى هذه الصحيفة) فإنه أراد به تبكيت من تنطع وجاء بغير ما فى كتاب الله وغير ما فى سنة رسول الله فهو مذموم. وحديث القبلة للصائم الذى تنزه قوم عنها ورخص فيها النبى (صلى الله عليه وسلم) فذمهم بتعمقهم ومخالفته - عليه السلام -. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 348 وقصة بني تميم لما آل التنازع بين أبي بكر وعمر إلى المخاشنة فى التفاضل بين الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، ورمى بعضهم بعضًا بالمناواة والقصد إلى المخالفة والفرقة، كذلك ينبغى أن تذم كل حالة تخرج صاجبها إلى افتراق الكلمة واستشعار العداوة. وقوله: (مروا أبا بكر يصلى بالناس) . ذم عائشة لتعمقها فى المعانى التى خشيتها من مقام أبيها فى مقام رسول الله مما روى عنها أنها قصدته بذلك، وذكرتها فى كتاب الصلاة، وذم حفصة أيضًا؛ لأنها أدخلتها فى المعارضة للنبى (صلى الله عليه وسلم) ، وكذلك كراهية رسول الله مسائل اللعان وعيبه لها وهو نص فى هذا الباب؛ لأنه خشى أن ينزل من القرآن ما يكون تضييقًا، فنزل فيه اللعان وهو وعيد عظيم وسبب إلى عذاب الآخرة لمن أراد الله إنفاذه عليه. وحديث العباس وعلى خشى أن يئول ما ذم من تنازعهما إلى انقطاع الرحم التى بينهما بالمخاصمة فى هذا المال الموقوف لا سيما بعدما نص عليه حديث رسول الله، فلم ينتهيا عن طلب هذا الوقف ليلياه كما كان يليه الخليفة من توزيعه حيث يحب، وانفرادهما بالحكم وقد تقدم الكلام فى معناه فى كتاب فرض الخمس من كتاب الجهاد والحمد لله كثيرًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 349 7 - باب إِثْمِ مَنْ آوَى مُحْدِثًا رَوَاهُ عَلِىٌّ، عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) . / 33 - فيه: أَنَس، حَرَّم النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) الْمَدِينَةَ؟ فقَالَ: لا يُقْطَعُ شَجَرُهَا، وَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. وَقَالَ مُوسَى بْنُ أَنَسٍ، عن أبيه: أَوْ آوَى مُحْدِثًا. فى هذا الحديث فضل عظيم للمدينة، وذلك تغليظ الوعيد بلعنة الله والملائكة والناس أجمعين لمن أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا، وفى حديث على: (لا يقبل منه صرف ولا عدل) . ذكره فى آخر كتاب الحج، ودل الحديث على أنه من آوى أهل المعاصى والبدع أنه شريك فى الأثم، وليس يدل الحديث على أن من أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فى غير المدينة أنه غير متوعد ولا ملوم على ذلك؛ لتقدم العلم بأن من رضى فعل قوم وعملهم أنه منهم، وإن كان بعيدًا عنهم. فهذا الحديث نص فى تحذير فعل شىء من المنكر فى المدينة وهو دليل فى التحذير من إحداث مثل ذلك فى غيرها، وإنما خصت المدينة بالذكر فى هذا الحديث؛ لأن اللعنة على من أحدث فيها حدثًا أشد والوعيد له آكد؛ لانتهاكه ما حذر عنه، وإقدامه على مخالفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيما كان يلزمه من تعظيم شأن المدينة التى شرفها الله بأنها منزل وحيه وموطن نبيه (صلى الله عليه وسلم) ، ومنها انتشر الدين فى أقطار الأرض فكان لها بذلك فضل مزيّة على سائر البلاد، وقد تقدم اختلاف العلماء فيما يجوز قطعه من شجر المدينة، وما يجوز من الصيد فى حرمها فى آخر كتاب الحج. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 350 8 - باب مَا يُذْكَرُ مِنْ ذَمِّ الرَّأْىِ وَتَكَلُّفِ الْقِيَاسِ وقوله تَعَالَى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء: 36] / 34 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ لا يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاكُمُوهُ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ، يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ) . / 35 - وفيه: أَبُو وَائِل، شهدت صفين، فسمعت سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، لَقَدْ رَأَيْتُنِى يَوْمَ أَبِى جَنْدَلٍ، وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَيْهِ لَرَدَدْتُهُ، وَمَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا إِلَى أَمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلا أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ غَيْرَ هَذَا الأمْرِ، قَالَ: وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ: شَهِدْتُ صِفِّينَ، وَبِئْسَتْ صِفُّونَ. قال الطبرى: روى مبارك بن فضالة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر قال: يا أيها الناس اتهموا الرأى على الدين. كقول سهل سواء. قال المهلب: وغيره: إذا كان الرأى والقياس على أصل من كتاب الله وسنة رسول الله أو إجماع الأمة فهو محمود، وهو الاجتهاد والاستنباط الذى أباحه الله للعلماء، وأما الرأى المذموم والقياس المتكلف المنهى عنه، فهو ما لم يكن على هذه الأصول؛ لأن ذلك ظن ونزع من الشيطان، والدليل على صحة هذا قوله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء: 36] . قال ابن عباس: لا تقل ما ليس لك به علم. وقال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 351 تسمع، وعلمت ولم تعلم. وأصل القفو العضه والبهت، فنهى الله عباده عن قول ما لا علم لهم به، فإنه سائل السمع والبصر والفؤاد عما قال صاحبها فتشهد عليه جوارحه بالحق، ومثل هذا قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله يقبض العلم بقبض العلماء فيبقى ناس جهال فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون) . ألا ترى أنه وصفهم بالجهل، فلذلك جعلهم ضالين هو خلاف الذين قال فيهم: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83] ، وأمر بالرجوع إلى قولهم. قال الطبرى: فإن قيل: فإن قول سهل بن حنيف، وعمر بن الخطاب: اتهموا الرأى. ويرد قول من استعمل الرأى فى الدين، وأنه لا يجوز شىء من الرأى والقياس لأنهم أخطئوا يوم أبى جندل فى مخالفتهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى صلحه المشركين، ورده لأبى جندل لأبيه وهو يستغيث، وكان قد عذب فى الله، وهم يظنون أنهم محسنون فى مخالفة رسول الله. قيل: وجه قولهما: اتهموا الرأى الذى هو خلاف لرأى رسول الله وأمره على الدين، الذى هو نظير آرائنا التى كنا خالفنا بها رسول الله يوم أبى جندل، فإن ذلك خطأ، فأما الاجتهاد والاستنباط من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة فذلك هو الحق الواجب والفرض اللازم لأهل العلم، وبنحو هذا جاءت الأخبار عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وعن جماعة الصحابة والتابعين، روى ابن عمر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لما انصرف من الأحزاب قال: (لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة فأبطأ ناس فتخوفوا فوت الصلاة، فصلوا، وقال آخرون: لا نصلى إلا حيث أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وإن فاتنا العصر، فما عنف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 352 رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحد الفريقين) . وهذا الخبر نظير خبر سهيل بن حنيف، ومن حرص يوم أبى جندل على القتال اجتهادًا منهم ورسول الله يرى ترك قتالهم فى أنه لم يؤثمهم كما لم يؤثم أحد الفريقين: لا الذين صلوا قبل وصولهم إلى بنى قريظة؛ لأن معنى ذلك كان عندهم ما لم يخشوا فوت وقتها، وكذلك لم يؤثم أيضًا الذين لم يصلوا حتى فاتهم وقتها إلى أن صاروا إلى بنى قريظة؛ لأن معنى أمره (صلى الله عليه وسلم) بذلك كان عندهم لا يصلوها إلا فى بنى قريظة، وإن فاتكم وقتها، فعذر كل واحد منهم لهذه العلة، وروى سفيان، عن الشيبانى عن الشعبى، عن شريح (أنه كتب إلى عمر بن الخطاب يسأله، فكتب إليه: أن اقض بما فى كتاب الله، فإن لم يكن فى كتاب الله ففى سنة رسول الله، فإن لم يكن فيما قضى الصالحون، فإن لم يكن فإن شئت تقدم وإن شئت تأخر، ولا أرى التأخر إلا خيرًا لك، والسلام) . وروى هشيم، حدثنا سيار، عن الشعبى قال: (لما بعث عمر شريحًا على قضاء الكوفة قال: انظر ما تبين لك فى كتاب الله ولا تسأل عنه أحدًا، وما لم يتبين لك فى كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول الله وما لم يتبين لك فى السنة فاجتهد رأيك فقد أنبأت هذه الأخبار عن عمر أن معنى قوله: اتهموا الرأى على الدين. أنه الرأى الذى وصفنا؛ لأنه محال أن يقول: اتهموا واستعملوه، لأن النهى عن الشىء والأمر به فى حالة واحدة ينقض بعضه بعضًا، ولا يجوز أن يظن ذلك بعمر ونظرائه، ويزيد ذلك بيانًا روى مجاهد، عن الشعبي، عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 353 عمرو بن حريث قال: قال عمر بن الخطاب: (إياكم وأصحاب الرأى فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأى، فضلوا وأضلوا) . فقد بين هذا القول من عمر أنه أمر باتهام الرأى فيما خالف أحكام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وسنته، وذلك أنه قال: (إنهم أعداء السنن أعيتهم أن يحفظوها) . وأخبر أنه لما أعياهم حفظ سنن رسول الله قالوا بآرائهم وخالفوها، جهلا منهم بأحكام رسول الله وسننه وذلك هو الجرأة على الله بما لم يأذن به فى دينه، والتقدم بين يدى رسول الله، فأما اجتهاد الرأى فى استنباط الحق من كتاب الله وسنة رسوله فذلك الذى أوجب الله على العلماء فرضًا، وعمل به المسلمون بمحضر من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فلم يعنفهم ولا نهاهم عنه؛ إذ كان هو الحق عنده والدين، واقتفى أثرهم فيه الخلف من بعدهم، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس، وروى أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال ابن مسعود: (ومن عرض له منكم قضاء بما فى كتاب الله، فإن جاء أمرًا ليس فى كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه (صلى الله عليه وسلم) ، فإن جاءه أمر ليس فى سنة نبيه فليقض بما قضى به الصالحون، فإن جاءه ما ليس فى ذلك، فليجتهد رأيه، ولا يقل: إنى أرى وإنى أخاف فإن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك) . وقد تقدم حديث سهل فى أخر كتاب الجهاد ومر فيه من معناه ما لم أذكره هنا خوف التكرار. وقول أبى وائل: (وبئست الصفون) . سمى المكان بالجمع المسلم كما سمى الرجل يزيدين أو عمرين فيجريه فى حال التسمية به مجراه في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 354 حال الجمع، وما كان من الواحد عن بناء الجمع فإعرابه كإعراب الجمع كقولك دخلت فلسطين وهذه فلسطون وأتيت قنسرين وهذه قنسرون، وأنشد المبرد: وشاهدنا الحل والياسمون والمستعاب بقضائها ومن هذا قول الله تعالى: (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ) [المطففين: 18، 19] ، فيه مذهب آخر كقولك: هذه السلحين، ومررت بالسلحين، ورأيت السلحين. 9 - باب مَا كَانَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، يُسْأَلُ فمَّا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيْهِ الْوَحْىُ فَيَقُولُ: (لا أَدْرِى) ، أَوْ لَمْ يُجِبْ حَتَّى يُنْزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْىُ، وَلَمْ يَقُلْ بِرَأْىٍ وَلا بِقِيَاسٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى) بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) [النساء: 105] وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سُئِلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الرُّوحِ، فَسَكَتَ حَتَّى نَزَلَتِ الآيَةُ. / 36 - فيه: جَابِر، مَرِضْتُ، فَجَاءَنِى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَعُودُنِى وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ، فَأَتَانِى وَقَدْ أُغْمِىَ عَلَىَّ، فَتَوَضَّأَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَىَّ فَأَفَقْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَقْضِى فِى مَالِى؟ قَالَ: فَمَا أَجَابَنِى بِشَىْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمواريث. قال المهلب: هذا الباب ليس على العموم فى أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه قد علم أمته كيفية القياس والاستنباط فى مسائل لها أصول ومعانى فى كتاب الله ومشروع سنته؛ ليريهم كيف يصنعون فيما عدموا فيه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 355 النصوص؛ إذ قد علم أن الله تعالى لابد أن يكمل له الدين. والقياس: هو تشبيه ما لا حكم فيه بما حكم فى المعنى فشبه (صلى الله عليه وسلم) الحمر بالخيل، فقال: ما أنزل على فيها شىء غير هذه الآية الفاذة الجامعة: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7، 8] ، وشبه دين الله بدين العباد فى اللزوم، وقال للتى أخبرته أن أباها لم يحج: (أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟ فالله أحق بالقضاء) وهذا هو نفس القياس عند العرب، وعند العلماء بمعانى الكلام. وأما سكوت النبى حتى نزل عليه الوحى، فإنما سكت فى أشياء معضلة ليست لها أصول فى الشريعة فلابد فيها من إطلاع الوحى، ونحن الآن قد فرغت لنا الشرائع واكتمل لنا الدين، وإنما ننظر ونقيس على موضاعاتها فيما أعضل من النوازل. وقد اختلف العلماء: هل يجوز للأنبياء الاجتهاد؟ فقالت طائفة: لا يجوز لهم ذلك ولا يحكمون إلا بوحى منه. وقال آخرون: يجوز أن يحكموا بما يجرى مجرى من منام وشبهه. قال أبو التمام المالكى: ولا أعلم فيه نصًا لمالك، والأشبه عندى جوازه لوجود ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . والاجتهاد علو درجة وكمال فضيلة والأنبياء أحق الناس به؛ بل لا يجوز أن يمتنعوا منها لما فيها من جزيل الثواب، وقال تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِى الأَبْصَارِ) [الحشر: 2] ، والأنبياء أفضل أولى الأبصار وأعلمهم، وقد ثبت عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه اجتهد فى أمر الحروب وتنفيذ الجيوش، وقدر الإعطاء للمؤلفة قلوبهم وأمر بنصب العريش يوم بدر فى موضع، فقال له الحباب بن المنذر: أبوحى نصبته هنا أم برأيك؟ فقال: بل برأيى. قال: الصواب نصبه بموضع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 356 كذا. فسماه النبي (صلى الله عليه وسلم) : ذا الرأيين. فعمل برأيه ولم ينتظر الوحى وحكم بالمفاداة والمن على الأسرى يوم بدر بعد المشورة، وقال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ) [آل عمران: 159] ، ولا تكون المشورة إلا فيما لا نص فيه. وروى أنه (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يضمن لقوم من الأعراب ثلث ثمر المدينة، فقال له سعد بن المعاذ: والله يا رسول الله كنا كفارًا فما طمع أحد أن يأخذ من ثمارنا شيئًا، فلما أعزنا الله بك نعطيهم ثلث ثمارنا فعمل بذلك رسول الله، وقد ذكر الله فى كتابه قصة داود وسليمان حين اجتهدا فى الحكم فى الحرث، ولا يجوز أن يختلفا مع ما فيه من نص موجود. - باب تَعْلِيمِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أُمَّتَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ لَيْسَ بِرَأْىٍ وَلا تَمْثِيلٍ / 37 - فيه: َبُو سَعِيد، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ، فَاجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ يَوْمًا، نَأْتِيكَ فِيهِ، تُعَلِّمُنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ: اجْتَمِعْنَ فِى يَوْمِ كَذَا وَكَذَا فِى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَاجْتَمَعْنَ، فَأَتَاهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: (مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلاثَةً إِلا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ) ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوِ اثْنَيْنِ؟ فَأَعَادَتْهَا مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: (وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ) . قال المهلب: فيه من الفقه أن العالم إذا أمكنه أن يحدث بالنصوص عن الله ورسوله فلا يحدث بنظره ولا قياسه، هذا معنى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 357 الترجمة؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) حدثهم حديثًا عن الله لا يبلغه قياس ولا نظر، وإنما هو توقيف ووحى، وكذلك ما حدثهم به من سنته فهو عن الله أيضًا؛ لقوله تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى) [النجم: 3] ، وقال (صلى الله عليه وسلم) : (أوتيت الكتاب ومثله معه) قال أهل العلم: أراد بذلك السنة التى أوتى. وفيه سؤال الطلاب العالم أن يجعل لهم يومًا يسمعون فيه عليه العلم، وإجابة العالم إلى ذلك، وجواز الإعلام بذلك المجلس للاجتماع فيه، وترجم له فى كتاب العلم هل يجعل للنساء يومًا على حده فى العلم. - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ يُقَاتِلُونَ) ، وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ / 38 - فيه: الْمُغِيرَة، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ) . / 39 - وفيه: مُعَاوِيَة، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الأمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، أَوْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى) . قال المؤلف: إن قيل: إن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق) لفظه لفظ الخصوص فى بعض الناس دون بعض، وقال فى حديث معاوية: (لن يزال أمر هذه الأمة مستقيمًا حتى تقوم الساعة) . فعم الأمة وهذا معارض للحديث الأول، مع ما يقوّى ذلك مما رواه محمد بن بشار قال: ثنا ابن أبى عدى، عن حميد، عن أنس قال: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 358 (لا تقوم الساعة حتى لا يقال فى الأرض الله الله) وما رواه شعبة عن على بن الأقمر، عن أبى الأحوص، عن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس) وهذه أخبار معارضة لحديث معاوية. قال الطبرى: ولا معارضة بين شىء منها، بل بعضها يدل على صحة بعض، ولكن بعضها خرج على العموم، والمراد به الخصوص، فقوله: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال فى الأرض الله) ، و (لا تقوم إلا على شرار الناس) يعنى: فى موضع كذا، فإن به طائفة من أمتى لا يضرهم من خالفهم وهم الذين عنى بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لن يزال أمر هذه الأمة مستقيمًا) يريد: فى موضع دون موضع. فإن قيل: وما الدليل على ذلك؟ قيل: هو أنه لا يجوز، وأن يكون فى الخبر ناسخ ولا منسوخ، وإذا ورد منه القولان من أن أمته طائفة على الحق، وأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق بالأسانيد الصحاح، وكان غير جائز أن توصف الطائفة التى على الحق بأنها شرار الناس، وأنها لا توحد الله، على أن الموصوفين بأنهم شرار الناس غير هؤلاء الموصوفين بأنهم على الحق، وقد بين ذلك أبو أمامة فى حديثه حدثنا أحمد بن الفرح الحمصى قال: ثنا ضمرة بن ربيعة، عن يحيى بن أبى عمرو الشيبانى، عن عمرو بن عبد الله الحمصى، عن أبى أمامة الباهلى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق، لعدوّهم قاهرين، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك. قيل: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس) . فثبت أنه ليس أحد هذه الأخبار معارضًا لصاحبه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 359 - باب قوله تَعَالَى: (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا) [الأنعام: 65] / 40 - فيه: جَابِر، لَمَّا نَزَلَت عَلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ (، قَالَ: (أَعُوذُ بِوَجْهِكَ)) أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ (، قَالَ: (أَعُوذُ بِوَجْهِكَ) ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) [الأنعام: 65] ، قَالَ: (هَاتَانِ أَهْوَنُ أَوْ أَيْسَرُ) . ذكر المفسرون فى قوله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ (، قالوا: يحصبكم بالحجارة، أو يغرقكم بالطوفان الذى غرق به قوم نوح) أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ (، الخسف الذى نال قارون ومن خسف به، وقيل: الريح) أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا (يعنى: يخلط أمركم فيجعلكم مختلفى الأهواء، يقال: لبست عليكم الأمر ألبسته إذا لم أبينه، ومعنى شيعًا أى: فرقًا، لا نكون شيعة واحدة.) وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) [الأنعام: 65] ، يعنى بالحرب والقتل، ويروى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) سأل ربه عز وجل أن لا يستأصل أمته بعذاب، ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فأجابه عز وجل فى صرف العذاب ولم يجبه فى أن لا يذيق بعضهم بأس بعض وأن لا تختلف؛ فلذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (هاتان أهون وأيسر) أى: الاختلاف والفتنة أيسر من الاستئصال والانتقام بعذاب الله، وإن كانت الفتنة من عذاب الله لكن هى أخف؛ لأنها كفارة للمؤمنين، أعاذنا الله من عذابه ونقمه. - باب مَنْ شَبَّهَ أَصْلا مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ فَبَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهُمَا لِيُفْهِمَ السَّائِلَ / 41 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِى وَلَدَتْ غُلامًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 360 أَسْوَدَ، وَإِنِّى أَنْكَرْتُهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَمَا أَلْوَانُهَا) ؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: (هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ) ؟ قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ: (فَأَنَّى تُرَى ذَلِكَ جَاءَهَا) ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِرْقٌ نَزَعَهَا، قَالَ: (وَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ) ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِى الانْتِفَاءِ مِنْهُ. / 42 - وفيه: بْن عَبَّاس، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّى نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَحُجَّ، أَفَأَحُجَّ عَنْهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، حُجِّى عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ) ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ: (اقْضُوا اللَّهَ الَّذِى لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ) . قال المؤلف: قوله: من شبه أصلا معلومًا بأصل مبين، فبين ليفهم السائل. هذا هو القياس بعينه والقياس فى لغة العرب: التشبيه والتمثيل، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) شبه له ما أنكر من لون الغلام بما عرف فى نتاج الإبل فقال له: (هل لك من إبل؟) إلى قوله: (لعل عرقًا نزعه) فأبان له (صلى الله عليه وسلم) بما يعرف أن الإبل الحمر تنتج الأورق أن كذلك المرأة البيضاء تلد الأسود، وكذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) للمرأة التى سألته الحج عن أمها فقال لها: (أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق بالوفاء) . فشبه لها (صلى الله عليه وسلم) دين الله بما يعرف من دين العباد، غير أنه قال لها: (فدين الله أحق) . وهذا كله هو عين القياس وبهذين الحديثين احتج المزنى على من أنكر القياس، قال أبو تمام المالكى: اجتمعت الصحابة على القياس، فمن ذلك أنهم أجمعوا على قياس الذهب على ورق فى الزكاة. وقال أبو بكر الصديق: أقيلونى بيعتى. فقال على: والله لا نقيلك، رضيك رسول الله لديننا، فلا نرضاك لدنيانا؟ فقياس الإمامة على الصلاة، وقياس الصديق الزكاة على الصلاة، وقال: والله لا أفرق بين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 361 ما جمع الله. وصرح على بالقياس فى شارب الخمر بمحضر الصحابة، وقال: إنه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى، فحده حد القاذف. وكذلك لما قال له الخوارج: لم حكمت؟ قال: قد أمر الله تعالى بالحكمين فى الشقاق الواقع بين الزوجين فما بين المسلمين أعظم. وهذا ابن عباس يقول: ألا اعتبروا، الأصابع بالأسنان اختلفت منافعها واستوت أورشها، وقال: ألا يتقى الله زيد، يجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أبا الأب أبًا، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبى موسى الأشعرى يعلمه القضاء فقال له: اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك. واختلف على وزيد فى قياس الجد على الإخوة، فقاسه علىّ بسبيل انشعبت منه شعبة ثم انشعبت من الشعبة شعبتان، وقاس ذلك زيد بشجرة انشعب منها غصن، وانشعب من الغصن غصنان. وقال ابن عمر: وقت النبى (صلى الله عليه وسلم) لأهل نجد قرنًا ولم يوقت لأهل العراق، فقال عمر: قيسوا من نحو العراق كنحو قرن. قال ابن عمر: فقاس الناس من ذات عرق. ولو ذكرنا كل ما قاسه الصحابة لكثر به الكتاب غير أنه موجود فى الكتب لمن ألهمه الله رشده، وقد قيل للنخعى: هذا الذى تفتى به أشيئًا سمعته؟ قال: سمعت بعضه فقست ما لم أسمع على ما سمعت. وربما قال: إنى لأعرف بالشىء الواحد مائة شىء. قال المزنى: فوجدنا بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) أئمة الدين فهموا عن الله تعالى ما أنزل إليهم وعن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما أوجب عليهم، ثم الفقهاء إلى اليوم هلم جرا، استعملوا المقاييس والنظائر فى أمر دينهم، فإذا ورد عليهم ما لم ينص عليه نظروا، فإن وجدوه مشبهًا لما سبق الحكم فيه من النبى (صلى الله عليه وسلم) أجروا حكمه عليه، وإن كان مخالفًا له الجزء: 10 ¦ الصفحة: 362 فرقوا بينه وبينه، فكيف يجوز لأحد إنكار القياس؟ ولا ينكر ذلك إلا من أعمى الله قلبه وحبب إليه مخالفة الجماعة. قال المؤلف: وإنما أنكر القياس: النظام، وطائفة من المعتزلة، واقتدى بهم فى ذلك من ينسب إلى الفقه داود بن على، والجماعة هم الحجة ولا يلتفت إلى من شذ عنها. - باب اجْتِهَادِ الْقُضَاةِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة: 44] وَمَدَحَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) صَاحِبَ الْحِكْمَةِ حِينَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا لا يَتَكَلَّفُ مِنْ قِبَل نفسه، وَمُشَاوَرَةِ الْخُلَفَاءِ وَسُؤَالِهِمْ أَهْلَ الْعِلْمِ. / 43 - فيه: عَبْدِاللَّه، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا حَسَدَ إِلا فِى اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِى الْحَقِّ، وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا) . / 44 - وفيه: الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: (سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ إِمْلاصِ الْمَرْأَةِ، هِىَ الَّتِى يُضْرَبُ بَطْنُهَا، فَتُلْقِى جَنِينًا، فَقَالَ: أَيُّكُمْ سَمِعَ مِنَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِيهِ شَيْئًا؟ فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْتُ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ) ، فَقَالَ: لا تَبْرَحْ حَتَّى تَجِيئَنِى بِالْمَخْرَجِ فِيمَا قُلْتَ، فَخَرَجْتُ فَوَجَدْتُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، فَجِئْتُ بِهِ فَشَهِدَ مَعِى أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ) . الاجتهاد فرض واجب على العلماء عند نزول الحادثة، والواجب على الحاكم أو العالم إذا كان من أهل الاجتهاد أن يلتمس حكم الحادثة فى الكتاب أو السنة، ألا ترى أن عمر ابن الخطاب لما احتاج إلى أن يقضى فى إملاص المرأة سأل الصحابة من عنده علم من النبي (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك؟ فأخبره المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 363 بحكم النبي (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك، فحكم به ولم يسغ له الحكم فى ذلك باجتهاده إلا بعد طلب النصوص من السنة، فإذا عدم النص رجع إلى الإجماع، فإن لم يجده نظر هل يصح حمل حكم الحادثة على بعض الأحكام المتقررة لعلة تجمع بينهما، فإن وجد ذلك لزمه القياس عليها إذا لم تعارضها علة أخرى. ولا فرق بين أن يجعل العلة مما هو من باب الحادثة أو غيره؛ لأن الأصول كلها يجب القياس عليها إذا صحت العلة، فإن لم يجد العلة استدل بشواهد الأصول وغلبة الأشباه إذا كان ممن يرى ذلك، فإن لم يتوجه له وجه من بعض هذه الطرق وجب أن يقر الأمر فى النازلة على حكم العقل، ويعلم أنه لا حكم لله فيها شرعيًا زائدًا على العقل. هذا قول ابن الطيب. قال غيره: وهذا هو الاستنباط الذى أمر الله عباده بالرجوع إلى العلماء فيه بقوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83] ، والاستنباط هو الاستخراج، ولا يكون إلا فى القياس؛ لأن النص ظاهر جلى وليس يجوز أن يقال: إن عدم النص على الحادثة من كتاب الله أو سنة رسوله. يوجب حكم لله فيها لقوله تعالى: (مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىْءٍ) [الأنعام: 38] ، إذ لو خلا بعض الحوادث أن تكون لا حكم لله فيها بطل إخباره إيانا بقوله: (مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىْءٍ) [الأنعام: 38] ، وفى علمنا أن النصوص لم تحط بجميع الحوادث دلالة أن الله تعالى قد أبان لنا حكمها بغير جهة النص، وهو القياس على علة النص، ولو لم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 364 يتعبدنا الله إلا بما نص عليه فقط لمنع عباده الاستنباط الذى أباحه لهم، والاعتبار فى كتابه الذى دعاهم إليه، ولو نص على كل ما يحدث إلى قيام الساعة لطال الخطاب، وبعُد إدراك فهمه على المكلفين، بل كانت بنية الخلق تعجز عن حفظه، فالحكمة فيما فعل من وجوب الاجتهاد والاستنباط والحكم للأشياء بأشباهها ونظائرها فى المعنى، وهذا هو القياس الذى نفاه أهل الجهالة القائلون بالظاهر المنكرون للمعانى والعلل ويلزمهم التناقض فى نفيهم القياس؛ لأن أصلهم الذى بنوا عليه مذهبهم أنه لا يجوز إثبات فرض فى دين الله إلا بإجماع من الأمة، والاجتهاد والقياس فرض على العلماء عند عدم النصوص فيلزمهم أن يأتوا بإجماع من الأمة على إنكار القياس، وحينئذ يصح قولهم، ولا سبيل لهم إلى ذلك. - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ / 45 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِى بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا، شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَفَارِسَ وَالرُّومِ، فَقَالَ: وَمَنِ النَّاسُ إِلا أُولَئِكَ) . / 46 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا شِبْرًا، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَالَ: فَمَنْ؟) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 365 قال المهلب: قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) . بفتح السين هو أولى من ضمها؛ لأنه لا يستعمل الشبر والذراع إلا فى السنن وهو الطريق فأخبر (صلى الله عليه وسلم) أن أمته قبل قيام الساعة يتبعون المحدثات من الأمور، والبدع والأهواء المضلة كما اتبعتها الأمم من فارس والروم حتى يتغير الدين عند كثير من الناس، وقد أنذر (صلى الله عليه وسلم) فى كثير من حديثه أن الآخر شر، وأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق، وأن الدين إنما يبقى قائمًا عند خاصة من المسلمين لا يخافون العداوات، ويحتسبون أنفسهم على الله فى القول بالحق، والقيام بالمنهج القويم فى دين الله وفى رواية الأصيلى: (بما أخذ القرون) . وللنسفى وابن السكن: (بأخذ القرون) . وقال ثعلب: أخَذَ أَخْذ الجهة: إذا قصد نحوها. - باب إِثْمِ مَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ أَوْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ (الآيَةَ [النحل: 25] / 47 - فيه: عَبْدِاللَّه، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ، الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: مِنْ دَمِهَا لأنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ) . قال المهلب: فيه الأخذ بالمآل، والحديث على معنى الوعيد. وهذا الباب والذى قبله فى معنى التحذير من الضلال واجتناب البدع ومحدثات الأمور فى الدين، والنهى عن مخالفة سبيل المؤمنين المتبعين لسنة الله وسنة رسوله التى فيها النجاة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 366 - باب مَا ذَكَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَحَضَّ عَلَى اتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْحَرَمَانِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ، وَمَا كَانَ بِهَا مِنْ مَشَاهِدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ، وَمُصَلَّى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَالْمِنْبَرِ وَالْقَبْرِ / 48 - فيه: جَابِر، أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الإسْلامِ. . . الحديث. فَقَالَ: أَقِلْنِى بَيْعَتِى. . . الحديث. فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِى خَبَثَهَا، وَيَنْصَعُ طِيبُهَا) . / 49 - وفيه: ابْن عَبَّاس، كُنْتُ أُقْرِئُ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ، فَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بِمِنًى: لَوْ شَهِدْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَاهُ رَجُلٌ قَالَ: إِنَّ فُلانًا يَقُولُ: لَوْ مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَبَايَعْنَا فُلانًا، فَقَالَ عُمَرُ: لأقُومَنَّ الْعَشِيَّةَ، فَأُحَذِّرَ هَؤُلاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ، قُلْتُ: لا تَفْعَلْ، فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ يَغْلِبُونَ عَلَى مَجْلِسِكَ، فَأَخَافُ أَنْ لا يُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَيُطِيرُ بِهَا كُلُّ مُطِيرٍ، فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ، فَتَخْلُصَ بِأَصْحَابِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ، فَيَحْفَظُوا مَقَالَتَكَ، وَيُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا. . . الحديث. / 50 - وفيه: مُحَمَّد، كُنَّا عِنْدَ أَبِى هُرَيْرَةَ، وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَشَّقَانِ مِنْ كَتَّانٍ فَتَمَخَّطَ، فَقَالَ: بَخْ بَخْ أَبُو هُرَيْرَةَ، يَتَمَخَّطُ فِى الْكَتَّانِ، لَقَدْ رَأَيْتُنِى وَإِنِّى لأخِرُّ فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَحُجْرَةِ عَائِشَةَ مَغْشِيًّا عَلَيه، فَيَجِىءُ الْجَائِى فَيَضَعْ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِى، وَيُرَى أَنِّى مَجْنُونٌ، وَمَا بِى مِنْ جُنُونٍ مَا بِى إِلا الْجُوعُ. / 51 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قيل له: أَشَهِدْتَ الْعِيدَ مَعَ النَّبِيِّ - عليه السلام -؟ قَالَ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 367 نَعَمْ، وَلَوْلا مَنْزِلَتِى مِنْهُ مِنَ الصِّغَرِ مَا شَهِدْتُهُ، فَأَتَى الْعَلَمَ الَّذِى عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ، فَصَلَّى، وَخَطَبَ. . . الحديث. / 52 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَأْتِى قُبَاءً رَاكِبًا وَمَاشِيًا. / 53 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ادْفِنِّى مَعَ صَوَاحِبِى، وَلا تَدْفِنِّى مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْبَيْتِ، فَإِنِّى أَكْرَهُ أَنْ أُزَكَّى. / 54 - وفيه: أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى عَائِشَةَ: ائْذَنِى لِى أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَىَّ، فَقَالَتْ: إِى وَاللَّهِ، قَالَ: وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهَا مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَتْ: لا وَاللَّهِ، لا أُوثِرُهُمْ بِأَحَدٍ أَبَدًا. / 55 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يُصَلِّى الْعَصْرَ، فَيَأْتِى الْعَوَالِىَ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ. وَقَالَ يُونُسَ: وَبُعْدُ الْعَوَالِىَ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلاثَةٌ. / 56 - وفيه: السَّائِب، كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمُ الْيَوْمَ، وَقَدْ زِيدَ فِيهِ. / 57 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِى مِكْيَالِهِمْ، وَبَارِكْ لَهُمْ فِى صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ) ، يَعْنِى أَهْلَ الْمَدِينَةِ. / 58 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ حَيْثُ تُوضَعُ الْجَنَائِزُ عِنْدَ الْمَسْجِدِ. / 59 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ، فَقَالَ: (هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّى أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا) . / 60 - وفيه: سَهْلٍ، أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ جِدَارِ الْمَسْجِدِ مِمَّا يَلِى الْقِبْلَةَ وَبَيْنَ الْمِنْبَرِ مَمَرُّ الشَّاةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 368 / 61 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي) . / 62 - وفيه: ابْن عُمَرَ، سَابَقَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ الْخَيْلِ، فَأُرْسِلَتِ الَّتِى ضُمِّرَتْ مِنْهَا، وَأَمَدُهَا إِلَى الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَالَّتِى لَمْ تُضَمَّرْ أَمَدُهَا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِى زُرَيْقٍ. / 63 - وفيه: ابْن عُمَرَ، سَمِعْتُ عُمَرَ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . / 64 - وفيه: أن السَّائِبُ، سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ خَطَبَنَا عَلَى مِنْبَرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . / 65 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ يُوضَعُ لِى وَلِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) هَذَا الْمِرْكَنُ، فَنَشْرَعُ فِيهِ جَمِيعًا. / 66 - وفيه: أَنَس، حَالَفَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ الأنْصَارِ وَقُرَيْشٍ فِى دَارِى الَّتِى بِالْمَدِينَةِ، وَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِى سُلَيْمٍ. / 67 - وفيه: أَبُو بُرْدَةَ، قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَلَقِيَنِى عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلامٍ، فَقَالَ لِى: انْطَلِقْ إِلَى الْمَنْزِلِ، فَأَسْقِيَكَ فِى قَدَحٍ شَرِبَ فِيهِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَتُصَلِّى فِى مَسْجِدٍ صَلَّى فِيهِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَسَقَانِى سَوِيقًا، وَأَطْعَمَنِى تَمْرًا، وَصَلَّيْتُ فِى مَسْجِدِهِ. / 68 - وفيه: عُمَرَ، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (أَتَانِى اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّى، وَهُوَ بِالْعَقِيقِ، أَنْ صَلِّ فِى هَذَا الْوَادِى الْمُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ) . وروى (عُمْرَةٌ فِى حَجَّةٍ) . / 69 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أُرِىَ وَهُوَ فِى مُعَرَّسِهِ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 369 / 70 - وفيه: ابْن عُمَرَ، وَقَّتَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) قَرْنًا لأهْلِ نَجْدٍ، وَالْجُحْفَةَ لأهْلِ الشَّأْمِ، وَذَا الْحُلَيْفَةِ لأهْلِ الْمَدِينَةِ، وَبَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (وَلأهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ، وَذُكِرَ له الْعِرَاقُ؟ فَقَالَ: (لَمْ يَكُنْ عِرَاقٌ يَوْمَئِذٍ) . قال المهلب: غرضه فى هذا الباب تفضيل المدينة بما خصها الله به من معالم الدين، وأنها دار الوحى ومهبط الملائكة بالهدى والرحمة، وبقعة شرفها الله بسكنى رسوله وجعل فيه قبره ومنبره وبينهما روضة من رياض الجنة، وجعلها كالكير تنفى خبث الفضة وتخلص من بقى فيها من أن يشوبهم ميل عن الحق، ألا ترى قول ابن عوف لعمر بن الخطاب: إنها دار الهجرة والسنة، وإن أهلها أصحاب النبى الذين خصهم الله بفهم العلم وقوة التمييز والمعرفة بإنزال الأمور منازلها. وأما حديث أبى هريرة فإنما ذكر وقوعه بين المنبر وحجرة عائشة الذّين هما من معالم الدين وروضة من رياض الجنة، إعلامًا منه بصبره على الجوع فى طلب العلم، ولزوم النبى (صلى الله عليه وسلم) حتى حفظ من العلم ما كان حجة على الآفاق ببركة صبره على المدينة. فأما قول ابن عباس: شهدت العيد ولولا مكانى من الصغر ما شهدته. فمعناه: أن صغير أهل المدينة وكبيرهم ونسائهم وخدمهم ضبطوا العلم والسنن معاينة منهم فى مواطن العمل من شارعها المبين عن الله تعالى وليس لغيرهم هذه المنزلة. وأما إتيان النبى (صلى الله عليه وسلم) قُباء فمعناه: معاينة النبى ماشيًا وراكبًا فى قصده مسجد قباء، وهو معلم من معالم الفضل ومشهد من مشاهده (صلى الله عليه وسلم) وليس ذلك لغير المدينة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 370 وأما حديث عائشة وأمرها أن تدفن مع صواحبها كراهة أن تزكى بالدفن فى بيتها مع النبى (صلى الله عليه وسلم) وصاحبيه؛ لئلا يظن أحد أنها أفضل الصحابة بعد النبى وصاحبيه، ألا تسمع قول مالك للرشيد حين سأله عن منزلة أبى بكر وعمر من النبى فى حياته، فقال له: منزلتهما منه فى حياته كمنزلتهما منه بعد مماته. فزكاهما بالقرب منه فى البقعة المباركة والتربة التى خلق الله منها خير البرية، وأعاده فيها بعد مماته. فقام لمالك الدليل من دفنهما معه على أنهما أفضل الصحابة لاختصاصهما بذلك. وقد احتج الأبهرى على أن المدينة أفضل من مكة، فإن النبى (صلى الله عليه وسلم) مخلوق من تربة المدينة، وهو أفضل البشر؛ فكانت تربته أفضل الترب. قال المهلب: وأما حديث أنس أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يصلى العصر فيأتى العوالى والشمس مرتفعة فمعناه: أن بين العوالى ومسجد المدينة للماشى معلم من معالم ما بين الصلاتين يستغنى الماشى فيها يوم الغيم عن معرفة الشمس، وذلك معدوم فى سائر الأرض، فإذا كانت مقادير الزمان معينة بالمدينة لمكان بادٍ للعيان ينقله العلماء إلى أهل الآفاق ليتمثلوه فى أقاصى البلدان، فكيف يساويهم أهل بلدة غيرها، وكذلك دعاؤه لهم بالبركة فى مكيالهم خصهم من بركة دعوته ما اضطر أهل الآفاق إلى القصد إلى المدينة فى ذلك المعيار المدعو له بالبركة، ليمتثلوه ويجعلوه سنة فى معاشهم وما فرض الله عليهم فى عيالهم، وظهرت البركة لأهل كل بلدة فى ذلك المكيال. وأما رجمه اليهوديين عند موضع الجنائز، فإن الموضع قد صار علمًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 371 لإقامة الحدود وللصلاة على الجنائز خارج المسجد، وبه قال مالك فهمًا من الحديث. وأما قوله: (هذا جبل يحبنا ونحبه) فمحبته للجبل توجب له بركة ترغب فى مجاورته لها، وعلى هذا التأويل تكون محبته للجبل ومحبة الجبل له حقيقة لا مجازًا بأن يحدث الله فى الجبل محبة، ويكون ذلك من آيات نبوته، وقيل فيه وجه آخر: أن قوله: (هذا جبل يحبنا ونحبه) . هو على المجاز يريد أهل الجبل كقوله: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ) [يوسف: 82] ، يريد أهل القرية. وأما مقدار ممر الشاة بين الجدار والمنبر، فذلك معلم للناس وسنة ممتثلة فى موضع المنابر ليدخل إليها من ذلك الموضع فينقض من القبر وينظف. وأما ذكر مدى ما بين الحفياء وثنية الوداع، فمسافة ذلك سنة ممتثلة ميدانًا لخيل الله المضمرة. وأما خطبة عمر، وعثمان على منبر النبى (صلى الله عليه وسلم) فإن ذلك سنة ممتثلة، فإن الخطبة تكون على المنابر لا بجانبها ليوصل الموعظة إلى أسماع الناس إذا أشرف عليهم، وكذلك مركن الماء الذى كانت تشرع فيه عائشة مع النبى (صلى الله عليه وسلم) للغسل، ومقدار ما يكفيها من الماء سنة، ولا يوجد ذلك المركن إلا بالمدينة، وكذلك موضع مخالفته (صلى الله عليه وسلم) بين قريش والأنصار بالمدينة معروف ثبتت ببقائه جواز المحالفة فى الإسلام على أمر الدين والتعاضد فيه على المخالفين، وقد ذكر فى كتاب الأدب ما يجوز من الحلف في الإسلام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 372 وما لا يجوز، في باب الإخاء والحلف، فتأمله فيه، وكذلك قدحه (صلى الله عليه وسلم) ومكان صلاته لا يوجد فى غير المدينة، وكذلك وادى العقيق المبارك يوحى الله إلى رسوله وأن الله أنزل فيه بركة إحلال الاعتمار فى أشهر الحج، وكان محرمًا قبل ذلك على الأمم، وأمره بالصلاة فيه لبركته، وليس ذلك مأمورًا به إلا فى هذا الوادى الذى يقصده أهل الآفاق للصلاة فيه والتبرك به. وكذلك توقيت النبى (صلى الله عليه وسلم) المواقيت لأهل الآفاق معالم للحج وللعمرة رفقًا من الله بعباده وتيسيرًا عليهم مشقة الإحرام من كل فج عميق، فهذه بركة من الله فى الحجاز موقوفة للعباد وليست فى غيره من البلاد، وفى جعل الله بطحاء العقيق المباركة مهلا للنبى (صلى الله عليه وسلم) ولأهل المدينة، وهى آخر جزائر المدينة، على رأس عشرة أيام من مكة وغيرها من المواقيت على رأس ثلاثة أيام من مكة فضل كبير ولأهل المدينة؛ لحمله تعالى عليهم من مشقة الإحرام أكثر مما حمل على غيرهم، وذلك لعلمه بتبصرهم على العبادة واحتباسهم لتحملها. وكذلك صبرهم على لأواء المدينة وشدتها حرصًا على البقاء فى منزل الوحى ومثبت الدين؛ ليكون الناس فى موازنهم إلى يوم القيامة كما صاروا فى موازنهم بإدخالهم أولا فى الدين؛ لما وضع فيهم من القوة والشجاعة التى تعاطوا بها مقارعة أهل الدنيا، وضمنوا عن أنفسهم نصرة نبى الهدى فوفى الله بضمانهم على أعدائهم، وتمت كلمة ربك ودينه بهم فكانوا أفضل الناس؛ لقربهم من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعلمهم بأحوالهم وأحكامه وآدابه وسيره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 373 ووجب لمن كان على مذاهب أهل المدينة حيث كان من أهل الأرض نصيب وافر من بركة المدينة واستحقوا أن يكونوا من أهلها لاتباعهم سنن رسوله الثابتة عندهم من علمائهم والمتبعين لهم بإحسان قال تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [التوبة: 100] ، والمرء مع من أحب. ووجب أيضًا أن يكون لأهل مكة من ذلك نصيب؛ لأن عندهم معالم فريضة الحج كلها، وقد عاينوا من صلاته وأقواله (صلى الله عليه وسلم) فى المرات التى دخلها ما صاروا به عالمين، ولهم من بركة ذلك نصيب وافر وحظ جزيل، وقد اختلف أهل العلم فيما هم فيه أهل المدينة حجة على غيرهم من الأمصار، فكان الأبهرى يقول: أهل المدينة حجة على غيرهم من طريق الاستنباط، ثم رجع فقال: قولهم من طريق النقل أولى من طريق غيرهم، وهم وغيرهم سواء فى الاجتهاد. وهذا قول الشافعى. وذهب أبو بكر بن الطيب إلى أن قولهم أولى من طريق الاجتهاد والنقل جميعًا. وذهب أصحاب أبى حنيفة إلى أنهم ليسوا حجة على غيرهم لا من طريق النقل، ولا من طريق الاجتهاد، واحتج من قال: هم أولى بالاجتهاد من غيرهم بأنهم شاهدوا التنزيل وأقاويل النبى (صلى الله عليه وسلم) وعرفوا معانى خطابه وفحوى كلامه، فلذلك هم أولى من غيرهم بالاستنباط. واحتج أصحاب الشافعى فقالوا: من قال هذا القول فقد قال بالتقليد وقد أخذ علينا النظر فى أقاويل الصحابة والترجيح فى اختلافهم، فإذا قام لنا الدليل على أحد القولين وجب المصير إليه، وإذا صح هذا بطل التقليد، وإنما هم أولى من غيرهم من طريق النقل لصحة عدالتهم ومعاينتهم التنزيل ومشاهدتهم للعمل فأما الاستنباط فالناس فيه كلهم سواء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 374 وقوله بخ بخ: كلمة تقال عند الإعجاب بالتخفيف والتثقيل. والمركن: شبيه تور من خزف يستعمل للماء. - باب قَوله تَعَالَى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَىْءٌ) [آل عمران: 128] / 71 - فيه: ابْن عُمَرَ، سَمِعَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ فِى صَلاةِ الْفَجْرِ وَرَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَالَ: (اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، فِى الأخِيرَةِ) ، ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلانًا وَفُلانًا) ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَىْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ () [آل عمران: 128] . قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَىْءٌ) [آل عمران: 128] ، يعنى ليس لك من أمر خلقى شىء، وإنما أمرهم والقضاء فيهم بيدى دون غيرى فيهم، وأقضى الذى أشاء من التوبة على من كفر بى وعصانى أو العذاب: إما فى عاجل الدنيا بالقتل والنقم، وإما فى الآجل بما أعددت لأهل الكفر بى. ففى هذا من الفقه أن الأمور المقدرة لا تغير عما أحكمت عليه؛ لقوله: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ) [ق: 29] ، وقوله: (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء (فإنما هو فى النسخ أى: ينسخ مما أمر به ما يشاء،) وَيُثْبِتُ (أى: ويبقى من أمره ما يشاء. وعن ابن عباس، وقتادة، وغيرهما. وقيل: (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء (مما يكتبه الحفظة على العباد مما لم يكن خيرًا أو شراَ كل يوم اثنين وخميس، ويثبت ما سوى ذلك. وعن ابن عباس أيضًا: (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ (أى من آتى أجله محى، ومن لم يمض أجله أُثبت، وعن الحسن.) وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [الرعد: 39] ، يعنى أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 375 والدعاء جائز من جميع الأمم، لكن ما ختم الله به من الأقدار على ضربين: منه ما قدر وقضى، وإذا دعى وتضرع إليه صرف البلاء، وضرب آخر: وهو الذى فى هذا الحديث الذى ختم بإمضائه، وقال لنبيه: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَىْءٌ) [آل عمران: 128] فى الدعاء على هؤلاء؛ لأن منهم من قد قضيت له بالتوبة، ومنهم من قد قضيت عليه بالعقاب فلابد منه لكن لانفراد الله بالمشيئة، وتعذر علم ذلك على العقول جاز الدعاء لله تعالى إذ الدعوة من أوصاف العبودية، فعلى العبد التزامها، ومن صفة العبودية الضراعة والمسكنة، ومن صفة الملك الرأفة والرحمة، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يقولن أحدكم: اللهم ارحمنى إن شئت، وليعزم المسألة، فإنه لا مكره له) إذ كان السائل إنما يسأل الله من حيث له أن يفعل لا من حيث له ترك الفعل، وهذا الباب وإن كان متعلقًا بباب القدر فله مدخل فى كتاب الاعتصام لدعاء النبى (صلى الله عليه وسلم) لهم إلى الإيمان الذى الاعتصام به يمنعهم القتل ويحقن الدم. - باب قَول اللَّه تَعَالَى: (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلا (وَقَوْلِهِ: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ (الآية [العنكبوت: 46] / 72 - فيه: عَلِىّ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ ابِنْة النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ لَهُمْ: (أَلا تُصَلُّونَ) ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 376 أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ شَيْئًا، وَهُوَ مُدْبِرٌ، يَضْرِبُ فَخِذَهُ، وَيَقُولُ: (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلا) [الكهف: 54] . / 73 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ) ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا، بَيْتَ الْمِدْرَاسِ، فَنَادَاهُمْ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا مَعْشَرَ الْيَهُودَ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا) ، قالها ثلاثًا، فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَ: (ذَلِكَ أُرِيدُ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا) ، قَالَهَا ثلاثًا، فَقَالَ: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الأرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَنِّى أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأرْضِ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلا فَاعْلَمُوا أَنَّمَا الأرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) . قال المهلب: الجدال موضوعه فى اللغة المدافعة، فمنه مكروه، ومنه حسن، فما كان منه تثبيتًا للحقائق وتثبيتًا للسنن والفرائض، فهو الحسن وما كان منه على معنى الاعتذار والمدافعات للحقائق فهو المذموم. وأما قول على فهو من باب المدافعة، فاحتج عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) بقوله تعالى: (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلا) [الكهف: 54] . وقال غيره: وجه هذه الآية فى كتاب الاعتصام أن النبى (صلى الله عليه وسلم) عرض على على وفاطمة الصلاة فاحتج عليه على بقوله: إنما أنفسنا بيد الله. فلم يكن له أن يدفع ما دعاه النبى إليه بقوله هذا بل كان الواجب عليه قبول ما دعاه إليه، وهذا هو نفس الاعتصام بسنته (صلى الله عليه وسلم) ؛ فلأجل تركه الاعتصام بقبول ما دعاه إليه من الصلاة قال تعالى: (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلا) [الكهف: 54] ، ولا حجة لأحد فى ترك أمر الله، وأمر رسوله بمثل ما احتج به على. وأما حديث أبى هريرة، فموضع الترجمة منه أن اليهود لما بلغهم النبي (صلى الله عليه وسلم) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 377 ما لزمهم العمل به والإيمان بموجبه قالوا له: قد بلغت يا أبا القاسم. رادين لأمره فى عرضه عليهم الإيمان، فبالغ فى تبليغهم، وقال: ذلك أريد. ومن روى (ذلك أريد) بمعنى: أريد بذلك بيانًا بتكرير التبليغ، وهذه مجادلة من النبى (صلى الله عليه وسلم) لأهل الكتاب بالتى هى أحسن. وقد اختلف العلماء فى تأويل هذه الآية، فقالت طائفة: هى محكمة، ويجوز مجادلة أهل الكتاب بالتى هى أحسن على معنى الدعاء لهم إلى الله والتنبيه على حججه وآياته رجاء إجابتهم إلى الإيمان وقوله تعالى: (إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [البقرة: 150] ، معناه: إلا الذين نصبوا للمؤمنين الحرب، فجادلوهم بالسيف حتى يُسلموا أو يعطوا الجزية. هذا قول مجاهد، وسعيد بن جبير. وقال ابن زيد: معناه: ولا تجادلوا أهل الكتاب. يعنى: إذا أسلموا وأخبروكم بما كان فى كتبهم. إلا بالتى هى أحسن: فى المخاطبة، إلا الذين ظلموا: بإقامتهم على الكفر فخاطبوهم بالشر، وقال: وهى محكمة. وقال قتادة: هى منسوخة بآية القتال. - باب قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا (وَمَا أَمَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ . / 74 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ، هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ، فَيَقُولُ: مَنْ يشهد لك؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَقَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (فَيُجَاءُ بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ) ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 378 ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143] أى عَدْلا، إلى قوله: (شَهِيدًا) [البقرة: 143] . (معنى هذا الباب) الاعتصام بالجماعة، ألا ترى قوله: (لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) [البقرة: 143] ، ولا يجوز أن يكونوا شهداء غير مقبولى القول، ولما كان الرسول واجبًا اتباعه وجب اتباع قولهم؛ لأن الله جمع بينه وبينهم فى قبول قولهم وزكاهم وأحسن الثناء عليهم بقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143] يعنى عدلاً. والاعتصام بالجماعة كالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ؛ لقيام الدليل على توثيق الله ورسوله صحة الإجماع وتحذيرهما من مفارقته بقوله تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى) [النساء: 115] الآية، وقوله: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110] الآية. وهاتان الآيتان قاطعتان على أن الأمة لا تجتمع على ضلال، وقد أخبر الرسول بذلك فهمًا من كتاب الله فقال: (لا تجتمع أمتى على ضلال) ولا يجوز أن يكون أراد جميعها من عصره إلى قيام الساعة؛ لأن ذلك لا يفيد شيئًا؛ إذ الحكم لا يعرف إلا بعد انقراض جميعها، فعلم أنه أراد أهل الحل والعقد من كل عصر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 379 - باب إِذَا اجْتَهَدَ الْعَامِلُ أَوِ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ خِلافَ الرَّسُولِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَحُكْمُهُ مَرْدُودٌ، لِقَوله (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ / 75 - فيه: أَبُو سَعِيد، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الأنْصَارِيَّ، إِلَى خَيْبَرَ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ، فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا) ؟ قَالَ: لا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَشْتَرِى الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنَ الْجَمْعِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ مِثْلا بِمِثْلٍ أَوْ بِيعُوا هَذَا، وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا، وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ) . قد تقدم هذا الباب فى كتاب الأحكام وفى كتاب الاعتصام ومعناه أن الواجب على من حكم بغير السنة جهلا وغلطًا، ثم تبين له أن سنة الرسول خلاف حكمه فإن الواجب عليه الرجوع إلى حكم السنة وترك ما خالفها امتثالا لأمره تعالى بوجوب طاعته وطاعة رسوله ألا يحكم بخلاف سنته، وهذا هو نفس الاعتصام بالسنة، وقد تقدم فيه، وأن الرسول أمر برد هذا البيع فى البيوع. وقوله: (وكذلك الميزان) معناه: وكذلك ما يوزن أن يباع مثلا بمثل مثل ما يكال. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 380 - باب أَجْرِ الْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ / 76 - فيه: عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) . قال ابن المنذر: وإنما يكون الأجر للحاكم المخطئ إذا كان عالمًا بالاجتهاد والسنن، وأما من لم يعلم ذلك فلا يدخل فى معنى الحديث، يدل على ذلك ما رواه الأعمش، عن سعيد ابن عبيدة، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (القضاة ثلاثة: قاضيان فى النار، وقاض فى الجنة، فقاض قضى بغير الحق وهو يعلم، فذلك فى النار، وقاض قضى وهو لا يعلم فأهلك حقوق الناس فذلك فى النار، وقاض قضى بالحق، فذلك فى الجنة) . قال ابن المنذر: إنما يؤجر على اجتهاده فى طلب الصواب لا على الخطأ، ومما يؤيد هذا قوله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ) [الأنبياء: 78] الآية. قال الحسن: أثنى على سليمان ولم يذم داود. وذكر أبو التمام المالكى أن مذهب مالك أن الحق فى واحد من أقاويل المجتهدين، وليس ذلك فى جميع أقاويل المتخلفين وبه قال أكثر الفقهاء. قال: وحكى ابن القاسم أنه سأل مالكًا عن اختلاف الصحابة، فقال: مخطئ ومصيب وليس الحق فى جميع أقاويلهم. قال أبو بكر ابن الطيب: اختلفت الروايات عن أئمة الفتوى فى هذا الباب كمالك وأبى حنيفة والشافعى: فأما مالك، فالمروى عنه منعه المهدى من حمله الناس على العمل والفتيا بما فى الموطأ، وقال له: دع الناس يجتهدون وظاهر هذا إيجابه على كل مجتهد القول بما يؤديه الاجتهاد إليه، ولو رأى أن الحق فى قوله فقط، أو قطع عليه لكان الواجب عليه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 381 المشورة على السلطان بالعمل به، ويبعد أن يعتقد مالك أن كل مجتهد مأمور بالحكم والفتيا باجتهاده، وإن كان مخطئًا فى ذلك، وذكر عن أبى حنيفة والشافعى القولين جميعًا. واحتج من قال: إن الحق فى واحد من أقاويل المجتهدين بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) . قالوا: وهذا نص على أن فى المجتهدين وفى الحاكمين مخطئًا ومصيبًا، قالوا: والقول بأن كل مجتهد مصيب يؤدى إلى كون الشىء حلالا حرامًا وواجبًا ندبًا ويلزم الحاكم اعتقاد كونه حلالا إذا رأى ذلك بعض أهل الاجتهاد، وحرامًا إذا رأى ذلك غيره، وأن تكون الزوجة محللة محرمة، والمال ملك الإنسان وغير ملك له إذا اختلف فى ذلك أهل الاجتهاد. واحتج كل من قال: كل مجتهد مصيب، فقالوا: اتفق الكل من الفقهاء على أن فرض كل عالم الحكم والفتيا بما أداه الاجتهاد إليه، وما هو الحق عنده وفى غالب ظنه، وأنه حرام عليه أن يفتى ويحكم بقول مخالفه، ولو كان فى الأقاويل المختلف فيها ما هو خطأ وخلاف دين الله لم يجز أن تجمع الأمة على أن فرض القائل به؛ لأن إجماعها على ذلك إجماع على خطأ، وقد نهى الله عنه وشرع خلافه. ولو جاز أن يكون أحدهما مخطئًا لأدى ذلك إلى أن الله تعالى أمر أحدهما بإصابة عين الباطل، وفى هذا القولُ بأن الله أمر بالباطل، وإذا فسد هذا مع كونه مأمورًا بالاجتهاد وجب كونه بفتياه ممتثلا أمر ربه وطائعًا له ومصيبًا عند الله، فثبت أن الحق مع كل واحد منهما بدليل قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء) [الأعراف: 28] ، ومع قيام الدليل على أن طاعة البارى إنما كانت طاعة لأمره بها كما أن المعصية كانت معصية لنهيه عنها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 382 وقد أجاب الشافعي عن هذا الحديث فى الرسالة بنحو هذا فقال: لو كان فى الاجتهاد خطأ وصواب فى الحقيقة لم يجز أن يثاب على أحدهما أكثر من الآخر؛ لأن الثواب لا يجوز فيما لا يسوغ ولا فى الخطأ الموضوع إثمه عنا. وقال ابن الطيب: هذا الخبر يدل على أن كل مجتهد مصيب أولى وأقرب؛ لأن المخطئ لحكم الله والحاكم بغيره مع الأمر له به لا يجوز أن يكون مأجورًا على الحكم بالخطأ بل أقصى حالاته أن يكون إثمه موضوعًا عنه فأما أن يكون بمخالفة حكم الله مأجورًا فإنه باطل باتفاق، والنبى (صلى الله عليه وسلم) قد جعله مأجورًا، فدل ذلك على أن هذا ليس بخطأ فى شىء من الأحكام وجب عليه ولزمه الحكم به. ويحتمل أن يكون معناه إذا اجتهد فى البحث والطلب للنص فأصابه وحكم بموجبه فله أجران: أحدهما على البحث والطلب، والآخر على الحكم بموجبه، وأراد بقوله: (إن حكم فأخطأ) أى: أخطأ الخبر، بأن لم يبلغه مع الاجتهاد فى طلبه، ثم حكم باجتهاده المخالف لحكم النص كان مخطئًا للنص ومصيبه لا محالة فى الحكم؛ لأن الحكم بالاجتهاد عند ذلك هو فرضه. ولهذا كان يقول عمر عندما كان يبلغه الخبر: لولا هذا لقضينا فيه برأينا، ولم يقل له أحد من الصحابة: لو قضيت فيه برأيك ولم يبلغك الخبر لكنت بذلك عاصيًا، ولم أردت أن تقضى بالرأى وهذا الخبر كان موجودًا، فدل إمساك الكل عن ذلك أن فرض الحاكم والمجتهد الحكم والفتيا برأيه، وإن خالف موجب الخبر، فإذا بلغه تغيرَ عند ذلك فرضُه ولزمه الحكم بموجبه. ولا نقول: إن كل مجتهد مصيب إلا فى الفروع ومسائل الاجتهاد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 383 التي يجوز للعامى فيها التقليد، وأما القول بوجوب الصلوات الخمس والصيام والحج وكل فرض يثبت العمل به بالتواتر والاتفاق فأصل من أصول الدين الذى يحرم خلافه كالتوحيد والنبوة وما يتصل بها. - باب الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ أَحْكَامَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَتْ ظَاهِرَةً، وَمَا كَانَ يَغِيبُ بَعْضُهُمْ مِنْ مَشَاهِدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَأُمُورِ الإسْلامِ / 77 - فيه: أَبُو مُوسَى أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ، فَوَجَدَهُ مَشْغُولا، فَقَالَ عُمَرُ: أَلَمْ أَسْمَعْ صَوْتَ عَبْدِاللَّهِ بْنِ قَيْسٍ؟ ائْذَنُوا لَهُ، فَدُعِىَ لَهُ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا نُؤْمَرُ بِهَذَا، قَالَ: فَأْتِنِى عَلَى هَذَا بِبَيِّنَةٍ، أَوْ لأفْعَلَنَّ بِكَ، فَانْطَلَقَ إِلَى مَجْلِسٍ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَالُوا: لا يَشْهَدُ إِلا أَصَاغِرُنَا، فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ، فَقَالَ: قَدْ كُنَّا نُؤْمَرُ بِهَذَا، فَقَالَ عُمَرُ: خَفِىَ عَلَىَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَلْهَانِى الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ. / 78 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ، إِنِّى كُنْتُ امْرًَا مِسْكِينًا أَلْزَمُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى مِلْءِ بَطْنِى، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ، وَكَانَتِ الأنْصَارُ يَشْغَلُهُمُ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، فَشَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ذَاتَ يَوْمٍ، وَقَالَ: (مَنْ يَبْسُطْ رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِىَ مَقَالَتِى، ثُمَّ يَقْبِضْهُ، فَلَنْ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّى) ، فَبَسَطْتُ بُرْدَةً، كَانَتْ عَلَىَّ، فَوَالَّذِى بَعَثَهُ بِالْحَقِّ، مَا نَسِيتُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ. هذا الباب يرد به على الرافضة وقوم من الخوارج زعموا بأن أحكام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 384 النبي وسننه منقولة عنه نقل تواتر، وأنه لا سبيل إلى العمل بما لم ينقل نقل تواتر، وقولهم فى غاية الجهل بالسنن وطرقها، فقد صحت الآثار أن أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) أخذ بعضهم السنن من بعض ورجع بعضهم إلى ما رواه غيره عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وانعقد الإجماع على القول بالعمل بأخبار الآحاد، وبطل قول من خرج عن ذلك من أهل البدع، هذا أبو بكر الصديق على مكانه لم يعلم النص فى الجدة حتى أخبره محمد بن مسلمة والمغيرة بالنص فيها، فرجع إليه، وأخذ عمر بن الخطاب بما رواه عبد الرحمن بن عوف فى حديث الوباء، فرجع إليه، وكذلك أخذ أيضًا عمر بما رواه أبو موسى فى دية الأصابع، فرجع إليه وأخذ أيضًا عمر بما رواه المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة فى دية الجنين، ورجع عمر إلى أبى موسى وأبى سعيد فى الاستئذان، وابن عمر يحكى عن رافع بن خديج النهى عن المخابرة فرجع إليه، والصحابة ترجع إلى قول عائشة: (إذا التقى الختانان وجب الغسل) وأيضًا ترجع إليها فى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يصبح جنبًا من جماع غير احتلام ثم يصوم. وأبو موسى يرجع إلى حديث ابن مسعود فى ابنة وابنة ابن وأخت وهذا الباب أكثر من أن يحصى. - باب مَنْ رَأَى تَرْكَ النَّكِيرِ مِنَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) حُجَّةً لا مِنْ غَيْرِه / 79 - فيه: ابْن الْمُنْكَدِرِ، رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ، يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ الصَّائِدِ الدَّجَّالُ، قُلْتُ: تَحْلِفُ بِاللَّهِ؟ قَالَ: إِنِّى سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 385 قال المؤلف: ترك النكير من النبى (صلى الله عليه وسلم) حجة وسنة يلزم أمته العمل بها لا خلاف بين العلماء فى ذلك؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لا يجوز أن يرى أحدًا من أمته يقول قولا أو يفعل فعلا محظورًا فيقره عليه لأن الله تعالى فرض عليه النهى عن المنكر، فإذا كان كذلك علم أنه لا يرى أحدًا عمل شيئًا فيقره عليه إلا وهو مباح له، وثبت أن إقرار النبى (صلى الله عليه وسلم) عمر على حلفه أن ابن صياد الدجال إثبات أنه الدجال، وكذلك فهم جابر بن عبد الله من يمين عمر. فإن اعترض بما روى من قول عمر للنبي: دعنى أضرب عنقه. فقال: (إن يكن هو فلن تسلط عليه، وإن لم يكن هو فلا خير لك فى قتله) فهذا يدل على شكه (صلى الله عليه وسلم) فيه، وترك القطع عليه أنه الدجال. قيل: عن هذا جوابان: أحدهما أنه يمكن أن يكون هذا الشك منه (صلى الله عليه وسلم) كان متقدمًا ليمين عمر أنه الدجال، ثم أعلمه الله أنه الدجال فلذلك ترك إنكار يمينه عليه لتيقنه بصحة ما حلف عليه. الوجه الآخر: أن الكلام وإن خرج مخرج الشك فقد يجوز أن يراد به التيقن والقطع كقوله: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر: 65] ، وقد علم تعالى أنه لا يقع منه الشرك، وإنما خرج منه هذا (صلى الله عليه وسلم) على المتعارف عند العرب فى تخاطبها. قال الشاعر: أيا ظبية الوعساء بين جلاجل بين النقا آأنت أم أم سالم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 386 فأخرج كلامه مخرج الشك مع كونه غير شاك فى أنها ليست بأم سالم، وكذلك خرج كلامه (صلى الله عليه وسلم) مخرج الشك لطفًا منه بعمر فى صرفه عن عزمه على قتله، وقد ذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، عن سالم، عن ابن عمر قال: لقيت ابن صياد يومًا ومعه رجل من اليهود، فإذا عينه قد طفت وهى خارجة مثل عين الجمل، فلما رأيتها قلت: أنشدك الله يا ابن صياد، متى طفت عينك؟ قال: لا أدرى والرحم. فقلت: كذبت، لا تدرى وهى فى رأسك؟ قال: فمسحها ونخر ثلاثًا فزعم اليهودي أني ضربت بيدي على صدره وقلت له: أخسأ فلن تعدو قدرك، فذكرت ذلك لحفصة فقالت: اجتنب هذا الرجل، فإنا نتحدث أن الدجال يخرج عند غضبة يغضبها. فإن قيل: هذا كله يدل على الشك فى أمره. قيل: إن وقع الشك فى أنه الدجال الذى يقتله عيسى ابن مريم (صلى الله عليه وسلم) ، فلم يقع الشك فى أنه أحد الدجالين الذين أنذر بهم النبي (صلى الله عليه وسلم) من قوله: (إن بين يدى الساعة دجالين كذابين أزيد من ثلاثين) فلذلك لم ينكر على عمر يمينه والله أعلم؛ لأن الصحابة قد اختلفوا فى مسائل: فمنهم من أنكر على مخالفة قوله، ومنهم من سكت عن إنكار ما خالف اجتهاده ومذهبه، فلم يكن سكوت من سكت رضا بقول مخالفه، إذ قد يجوز أن يكون الساكت لم يبين له وجه الصواب فى المسألة وأخرها إلى وقت آخر ينظر فيها، وقد يجوز أن يكون سكوته ليبين خلافها فى وقت آخر إذا كان ذلك أصلح فى المسألة. فإن اعترض أن سكوت البكر حجة عليها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 387 قيل: ليس هذا بمفسد لما تقدم؛ لأن من شرط كون سكوتها حجة عليها تقديم الإعلام لها بذلك؛ فسكوتها بعد الإعلام أنه لازم لها رضا منها وإقرار. - باب الأحْكَامِ الَّتِى تُعْرَفُ بِالدَّلائِلِ وَكَيْفَ مَعْنَى الدِّلالَةِ وَتَفْسِيرُهَا؟ وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَمْرَ الْخَيْلِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ سُئِلَ عَنِ الْحُمُرِ، فَدَلَّهُمْ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) [الزلزلة: 7] ، وَسُئِلَ عَنِ الضَّبِّ، فَقَالَ: (لا آكُلُهُ، وَلا أُحَرِّمُهُ) ، وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) الضَّبُّ، فَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ. / 80 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْخَيْلُ لِثَلاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ. . .) ، الحديث وَسُئِلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْحُمُرِ، فَقَالَ: (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىَّ فِيهَا إِلا هَذِهِ الآيَةَ الْفَاذَّةَ الْجَامِعَةَ: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ () . / 81 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْحَيْضِ، كَيْفَ تَغْتَسِلُ مِنْهُ؟ قَالَ: (تَأْخُذِينَ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً، فَتَوَضَّئِينَ بِهَا) ، قَالَتْ: كَيْفَ أَتَوَضَّأُ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (تَوَضَّئِى) ، قَالَتْ: كَيْفَ أَتَوَضَّأُ بِهَا؟ قَالَ: (تَوَضَّئِينَ بِهَا) ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَرَفْتُ الَّذِى يُرِيدُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَجَذَبْتُهَا إِلَىَّ فَعَلَّمْتُهَا. / 82 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ أُمَّ حُفَيْدٍ أَهْدَتْ إِلَى النَّبِىِّ - عليه السلام - سَمْنًا وَأَقِطًا وَأَضُبًّا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 388 فَدَعَا بِهِنَّ النَّبيُِّ - عليه السلام - فَأُكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ، فَتَرَكَهُنَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) كَالْمُتَقَذِّرِ لَهُ، وَلَوْ كُنَّ حَرَامًا مَا أُكِل عَلَى مَائِدَتِهِ، وَلا أَمَرَ بِأَكْلِه) . / 83 - وفيه: جَابِر، قَالَ النَّبِيُّ - عليه السلام -: (مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلا، فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ فِى بَيْتِهِ) ، وَإِنَّهُ أُتِىَ بِبَدْرٍ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: يَعْنِى طَبَقًا، فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ عَنْهَا، فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ، فَقَالَ: (قَرِّبُوهَا) ، فَقَرَّبُوهَا إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قَالَ: (كُلْ، فَإِنِّى أُنَاجِى مَنْ لا تُنَاجِى) . وعَنِ ابْنِ وَهْبٍ: بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ. / 84 - وفيه: جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ، أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيّ - عليه السلام - وَكَلَّمَتْهُ بِشَىْءٍ فَأَمَرَهَا بِأَمْرٍ، فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ أَجِدْكَ؟ قَالَ: (إِنْ لَمْ تَجِدِينِى فَأْتِى أَبَا بَكْرٍ) . زَادَ الْحُمَيْدِىُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، كَأَنَّهَا تَعْنِى الْمَوْتَ. قال المهلب وغيره: هذا كله بيِّن فى جواز القياس والاستدلال وموضع الاستدلال على أن فى الحمر أجرًا قوله تعالى: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) [الزلزلة: 7] ، فحمل (صلى الله عليه وسلم) الآية على عمومها استدلالا بها. وأما استدلال ابن عباس أن الضب حلال على مائدته (صلى الله عليه وسلم) بحضرته، ولم ينكره ولا منع منه بقوله: (ولا أحرمه) . فيحتمل أن يكون استدلالا لا نصًا لاحتمال قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ولا أحرمه) الندب إلى ترك أكله، فلما أكل بحضرته استدل ابن عباس بذلك على أنه لم يحرمه ولا ندب إلى تركه، ويحتمل أن يكون نصًا؛ لأن قوله: (ولا أحرمه) فلا يتضمن الندب إلى ترك أكله فيكون نصًا في تحليله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 389 وأما حديث الحائض فهو استدلال صحيح؛ لأن السائلة لم تفهم غرض النبي (صلى الله عليه وسلم) حين أعرض عن ذكر موضع الأذى والدم حياء منه (صلى الله عليه وسلم) ولم تدر أن التتبع لأثر الدم بالحرقة سمى توضؤًا ففهمت ذلك عائشة من إعراضه فهو استدلال صحيح. وأما حديث جابر فى الثوم والبصل فهو نص منه (صلى الله عليه وسلم) على جواز أكله بقوله: (كل، فإنى أناجى من لا تناجى) . وأما حديث المرأة فهو استدلال صحيح استدل النبى بظاهر قولها: فإن لم أجدك. أنها أرادت الموت، فأمرها بإتيان أبى بكر. قيل له: قد يمكن أنه اقترن بسؤالها إن لم أجدك؟ حالة من الأحوال، وإن لم يكن نقلها دلته (صلى الله عليه وسلم) على مرادها، فوكلها إلى أبى بكر، وفى هذا دليل على استخلاف أبى بكر، وقد أمر الله عباده بالاستدلال والاستنباط من نصوص الكتاب والسنة وفرض ذلك على العلماء القائمين به. - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَىْءٍ / 85 - فيه: عَبْدِالرَّحْمَنِ، سَمِعَ مُعَاوِيَةَ، يُحَدِّثُ رَهْطًا مِنْ قُرَيْشٍ بِالْمَدِينَةِ، وَذَكَرَ كَعْبَ الأحْبَارِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ مِنْ أَصْدَقِ هَؤُلاءِ الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كُنَّا مَعَ ذَلِكَ لَنَبْلُو عَلَيْهِ الْكَذِبَ. / 86 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لأهْلِ الإسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُصَدِّقُوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 390 أَهْلَ الْكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ،) وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ) [العنكبوت: 46] الآيَةَ) . / 87 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَىْءٍ وَكِتَابُكُمِ الَّذِى أُنْزِلَ عَلَى رسوله (صلى الله عليه وسلم) أَحْدَثُ، تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَغَيَّرُوهُ، وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمُ الْكِتَابَ، وَقَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا، أَلا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ؟ لا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلا يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِى أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ. قال المهلب: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تسألوا أهل الكتاب عن شئ) إنما هو فى الشرائع لا تسألوهم عن شرعهم فيما لا نعرفه من شرعنا لنعمل به؛ لأن شرعنا مكتف وما لا نص فيه عندنا ففى النظر والاستدلال ما يقوم الشرع منه. وأما سؤالهم عن الأخبار المصدقة لشرعنا، وما جاء به نبينا (صلى الله عليه وسلم) من الأخبار عن الأمم السالفة فلم ننه عنه. فإن قيل: فقد أمر الله رسوله بسؤال أهل الكتاب فقال تعالى: (فَإِن كُنتَ فِى شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ) [يونس: 94] . قيل: ليس هذا بمفسد لما تقدم من النهى عن سؤالهم؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يكن شاكًا ولا مرتابًا، وقال أهل التأويل: الخطاب للنبى (صلى الله عليه وسلم) والمراد به غيره من الشكاك كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء) [الطلاق: 1] ، وتقديره: إن كنت أيها السامع فى شك مما أنزلنا على نبينا. كقولهم: إن كنت ابنى فبرنى. وهو يعلم أنه ابنه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 391 فإن قيل: فإذا كان المراد بالخطاب غير النبى (صلى الله عليه وسلم) فكيف يجوز سؤال الذين يقرءون الكتاب مع جحدهم النبوة؟ ففيه قولان: أحدهما: سل من آمن من أهل الكتاب كابن سلام، وكعب الأخبار. عن ابن عباس والضحاك، ومجاهد وابن زيد. الثانى: سلهم عن صفة النبى (صلى الله عليه وسلم) المبشر به فى كتبهم، ثم انظر ما يوافق تلك الصفة. - بَاب النَهْىِ عَلَى التَّحْرِيمِ إِلا مَا تُعْرَفُ إِبَاحَتُهُ وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ نَحْوَ قَوْلِهِ: حِينَ أَحَلُّوا: أَصِيبُوا مِنَ النِّسَاءِ وَقَالَ جَابِرٌ: وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ، وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَازَةِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا. / 88 - فيه: جَابِر، أَهْلَلْنَا أَصْحَابَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْحَجِّ خَالِصًا لَيْسَ مَعَهُ عُمْرَةٌ، فَقَدِمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) صُبْحَ رَابِعَةٍ مَضَتْ مِنْ ذِى الْحِجَّةِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ نَحِلَّ، وَقَالَ: (أَحِلُّوا وَأَصِيبُوا مِنَ النِّسَاءِ) ، قَالَ جَابِرٌ: وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّا نَقُولُ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلا خَمْسٌ أَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ إِلَى نِسَائِنَا، فَنَأْتِى عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا الْمَذْىَ، قَالَ: وَيَقُولُ جَابِرٌ بِيَدِهِ هَكَذَا وَحَرَّكَهَا، فَقَامَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّى أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَصْدَقُكُمْ وَأَبَرُّكُمْ، وَلَوْلا هَدْيِى لَحَلَلْتُ كَمَا تَحِلُّونَ، فَحِلُّوا فَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ) ، فَحَلَلْنَا، وَسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. / 89 - وفيه: عَبْدُاللَّهِ الْمُزَنِىُّ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (صَلُّوا قَبْلَ صَلاةِ الْمَغْرِبِ) قَالَ فِى الثَّالِثَةِ: (لِمَنْ شَاءَ) ، كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 392 / 90 - وفيه: جُنْدَب، قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (اقْرَءُوا الْقُرْآنَ، مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ، فَقُومُوا عَنْهُ) . / 91 - وفيه: ابْن عَبَّاس، لَمَّا حُضِرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ وَفِى الْبَيْتِ رِجَالٌ منهِمْ عُمَرُ ابْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: (هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ) ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب: إِنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) غَلَبَهُ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ، فَحَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ، وَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغَطَ وَالاخْتِلافَ عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (قُومُوا عَنِّى) . قَالَ عُبَيْدُاللَّهِ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنِ اخْتِلافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ. اختلف العلماء فى هذا الباب فذكر ابن الباقلانى، عن الشافعى أن النهى عنده على التحريم والإيجاب وقاله كثير من الناس، قال الجمهور من أصحاب مالك وأبى حنيفة والشافعى وجميع أهل الظاهر: النهى عن الشىء يدل على فساد المنهى عنه. قال المؤلف: وهذا يدل على أنه عندهم على التحريم والإيجاب، وكذلك الأمر عند الدهماء من الفقهاء وغيرهم موضوع لإيجاب المأمور وحتمه إلا أن يقوم الدليل على أنه ندب، وحكى أبو تمام عن مالك أن الأمر عنده على الوجوب، وإلى هذا ذهب البخارى فى هذا الباب إلى أن النهى والأمر على الوجوب إلا ما قام الدليل على خلاف ذلك فيه، وذهبت الأشعرية إلى أن النهى لا يقتضى التحريم؛ بل يتوقف فيه إلى أن يرد الدليل. قال ابن الطيب: وقال هذا فريق من الفقهاء. قال: وقال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 393 كثير من أصحاب الشافعي: إن الأمر موضوع للندب إلى الفعل فإن اقترن به ما يدل على كراهية تركه من ذم أو عقاب كان واجبًا، وقال به كثير من الفقهاء، واستشهد عليه الشافعى بقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوْا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) [البقرة: 282] ، وأمثاله مما ورد الأمر به على سبيل الندب. قال ابن الطيب: وقد دل بعض كلامه على أن مذهبه الوقف. وقال أبو الحسن الأشعرى وكثير من الفقهاء والمتكلمين: إنه محتمل للأمرين. قال ابن الطيب: وهذا الذى نقول به. قال غيره: والحجة للجماعة أن النهى على التحريم أنه موجب اللغة ومقتضاها، فإن من فعل ما نهى عنه استحق اسم العصيان؛ لأنه لا ينهى إلا عن قبيح قبل النهى، وعما هو له كاره، وقد فهمت الأمة تحريم الزنا، ونكاح المحرمات، والجمع بين الأختين، وتحريم بيع الغرر، وبيع ما لم يقبض بمجرد نهى الله تعالى ونهى رسوله عن ذلك لا شىء سواه. قال أبو التمام: وأما الحجة لوجوب الأمر فإن الله تعالى أطلق أوامره فى كتابه ولم يقرنها بقرينة، وكذلك فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فعلم أن إطلاق الأمر يقتضى وجوبه، ولو افتقر إلى قرينة لقرنت به. والعرب لا تعرف القرائن، وإنما هو شىء أحدثه متأخرو المتكلمين فلا يجوز أن يقال: إن لفظ الأمر لا تأثير له فى اللغة وأنه يحتاج إلى قرينة، وقد قال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63] ، فوجب بهذا الوعيد حمل الأمر على الوجوب. وحجة الذين قالوا بالوقف وطلب الدليل على المراد بالأمر أن الأمر قد يرد على معان، فالواجب أن ينظر فإن وجد ما يدل على غير الواجب حمل عليه، وإلا فظاهره الوجوب؛ لأن قول القائل: افعل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 394 لا يفهم منه لاتفعل ولا افعل إن شئت، إلا أن يصله بما يعقل به التخيير، فإذا عدم ذلك وجب تنفيذ الأمر، واحتجوا على وجوب طلب الدليل والقرينة على المراد بالأمر، فقالوا: اتفق الجميع على جنس الاستفهام عن معنى الأمر غذا ورد هل هو على الوجوب أو الندب؟ ولو لم يصلح استعماله فيه لقبح الاستفهام عنه؛ لأنه لا يحسن أن يستفهم هل أريد باللفظ ما لا يصلح إجراؤه عليه إذا لا يصلح إذا قال القائل: رأيت إنسانًا. أن يقال له: هل رأيت إنسانًا أو حمارًا. وحسن أن يقال له: أذكرًا رأيت أم أنثى لصلاح وقوعه عليهما. وقد ثبت قبح الاستفهام مع القرائن الدالة بالمحتمل من اللفظ، وإنما يسوغ الاستفهام مع التباس الحال وعدم القرائن الكاشفة عن المراد. قال المؤلف: وما ذكر البخارى فى هذا الباب من الآثار يبطل هذا القول؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) حين أمرهم بالحل وإصابة النساء بين لهم أن أمره إياهم بإصابة النساء ليس على العزم، ولولا بيانه ذلك لكانت إصابتهم للنساء واجبة عليهم وكذلك بين لهم (صلى الله عليه وسلم) بنهيه النساء عن اتباع الجنائز أنه لم يكن نهى عزم ولا تحريم، ولولا بيانه ذلك لفهم من النهى بمجرده التحريم، وكذلك بين لهم بالقيام عن القراءة عند الاختلاف ليس على الوجوب؛ لأنه أمرهم بالائتلاف على ما دل عليه القرآن وحذرهم الفرقة. فإذا حدثت شبهة توجب المنازعة فيه أمرهم بالقيام عن الاختلاف ولم يأمرهم بترك قراءة القرآن إذا اختلفوا فى تأويله لإجماع الأمة على قراءة القرآن لمن فهمه ولمن لم يفهمه، فدل أن قوله: (قوموا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 395 عنه) على وجه الندب لا على وجه التحريم للقراءة عند الاختلاف. وكذلك رآى عمر فى ترك كتاب رسول الله لهم حين غلبه الوجع من أجل تقدم العلم عنده وعند جماعة المؤمنين أن الدين قد أكمله الله، وأن الأمة قد اكتفت بذلك، فلا يجوز أن يتوهم أن هناك شيئًا بقى على النبى تبليغه فلم يبلغه لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة: 67] ، وبقوله: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ) [الذاريات: 54] ، وقد أنبأنا الله أنه أكمل به الدين فقال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة: 3] . وإذا ثبت هذا بأن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (هلموا اكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده) محمول على ما أشار به عمر بأنه قول من قد غلبه الوجع وشغل بنفسه، واكتفى بما أخبر الله تعالى به من إكمال الدين، وبأن بهذا مقدار علم عمر وتبريزه على ابن عباس فكل أمر لله تعالى وللرسول لم يكن واجبًا على العباد قد جاء معه من بيان النبى (صلى الله عليه وسلم) بتصريح أو بدليل ما فهم به أنه على غير اللزوم. وقد فهم الصحابة ذلك من فحوى خطابه (صلى الله عليه وسلم) وكل أمر عرى عن دليل يخرجه عن الوجوب، وجب حمله على الوجوب؛ إذ لو كان مراد الله به غير الوجوب لبينه النبى (صلى الله عليه وسلم) لأمته، فوجب أن يكون ما عرى من بيانه (صلى الله عليه وسلم) أنه على غير الوجوب غير مفتقر إلى طلب دليل أو قرينة أن المراد به الوجوب؛ لقيام لفظ الأمر بنفسه، وكذلك ما عرى من نهيه (صلى الله عليه وسلم) من دليل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 396 يخرجه عن التحريم وجب حمله على التحريم كحكم الأمر سواء، على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء. ووقع فى بعض الأمهات فى هذا الباب النهى عن التحريم وهو غلط من الناسخ والصواب فيه باب النهى على التحريم يعنى أن النهى محمول على التحريم إلا ما علمت إباحته على حديث أم عطية. - باب قَوله تَعَالَى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) [الشورى: 38] ) وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمْرِ ( وَأَنَّ الْمُشَاوَرَةَ قَبْلَ الْعَزْمِ وَالتَّبَيُّنِ، لِقَوْلِهِ: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [آل عمران: 159] فَإِذَا عَزَمَ الرَّسُولُ (صلى الله عليه وسلم) لَمْ يَكُنْ لِبَشَرٍ التَّقَدُّمُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَشَاوَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فِى الْمُقَامِ وَالْخُرُوجِ، فَرَأَوْا لَهُ الْخُرُوجَ، فَلَمَّا لَبِسَ لأمَتَهُ وَعَزَمَ، قَالُوا: أَقِمْ، فَلَمْ يَمِلْ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْعَزْمِ، وَقَالَ: لا يَنْبَغِى لِنَبِىٍّ يَلْبَسُ لأمَتَهُ، فَيَضَعُهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ، وَشَاوَرَ عَلِيًّا وَأُسَامَةَ فِيمَا رَمَى بِهِ أَهْلُ الإفْكِ عَائِشَةَ، فَسَمِعَ مِنْهُمَا حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَجَلَدَ الرَّامِينَ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى تَنَازُعِهِمْ، وَلَكِنْ حَكَمَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ. وَكَانَتِ الأئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتَشِيرُونَ الأمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِى الأمُورِ الْمُبَاحَةِ؛ لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا، فَإِذَا وَضَحَ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ لَمْ يَتَعَدَّوْهُ إِلَى غَيْرِهِ؛ اقْتِدَاءً بِالنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . وَرَأَى أَبُو بَكْرٍ قِتَالَ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ، فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لأقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ تَابَعَهُ بَعْدُ عُمَرُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ أَبُو بَكْرٍ إِلَى مَشُورَةٍ؛ إِذْ كَانَ عِنْدَهُ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، وَأَرَادُوا تَبْدِيلَ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ، وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَشُورَةِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 397 عُمَرَ كُهُولا كَانُوا، أَوْ شُبَّانًا، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ. / 92 - فيه: عَائِشَةَ، حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإفْكِ مَا قَالُوا، وَدَعَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلِيًا، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْىُ يَسْأَلُهُمَا، وَيَسْتَشِيرُهُمَا فِى فِرَاقِ أَهْلِهِ، فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ بِالَّذِى يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، وَأَمَّا عَلِىٌّ فَقَالَ: لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَسَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ. . . الحديث. اختلف أهل التأويل فى المعنى الذى أمر الله نبيه أن يشاور أصحابه، فقالت طائفة: أمر الله أن يشاورهم فى مكائد الحروب وعند لقاء العدو تطييبًا لنفوسهم وتألفًا لهم على دينهم وليروا أنه يسمع منهم ويستعين بهم، وإن كان الله قد أغناه عن رأيهم بوحيه. روى هذا عن قتادة والربيع وابن إسحاق. وقال آخرون: إنما أمر بمشورتهم فيما لم يأته فيه وحى، ليبين لهم صواب الرأى. روى ذلك عن الحسن البصرى والضحاك قالا: ما أمر الله نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما فى المشورة من الفضل. قال الحسن: وما شاور قوم إلا هدوا لأرشد أمورهم. وقال آخرون: إنما أمره الله بمشاورة أصحابه مع غناه عنهم بتدبيره تعالى له وسياسته إياه؛ ليستن به من بعده ويقتدوا به فيما ينزل بهم من النوازل. قال سفيان الثورى: وقد سن رسول الله الاستشارة فى غير موضع، استشار أبا بكر وعمر فى أسارى بدر، واستشار أصحابه فى يوم الحديبية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 398 وأما قوله تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [آل عمران: 159] قال قتادة: أمر الله نبيه إذا عزم على أمر أن يمضى فيه ويتوكل على الله. قال المهلب: وامتثل هذا النبى (صلى الله عليه وسلم) فقال: (لا ينبغى لنبى لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله) أى: ليس ينبغى له إذا عزم أن ينصرف؛ لأنه نقض التوكل الذى شرط الله مع العزيمة، فلبسه لأمته دال على العزيمة، وفى أخذ النبى (صلى الله عليه وسلم) بما أمره الله من الرأى بعد المشورة حجة لمن قال من الفقهاء أن الأنبياء يجوز لهم الاجتهاد فيما لا وحى عندهم فيه. وقد تقدم بيان ذلك قبل هذا. وفيه من الفقه: أن للمستشير والحاكم أن يعزم من الحكم على غير ما قال به مشاوره إذا كان من أ (صلى الله عليه وسلم) ل الرسوخ فى العلم، وأن يأخذ بما يراه كما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى مسألة عائشة فإنه شاور عليًا وأسامة، فأشار عليه أسامة بإمساكها، وأشار عليه على بفراقها، فلم يأخذ بقول أحدهما وتركها عند أهلها حتى نزل القرآن فأخذ به، وكذلك فعل أبو بكر الصديق فإنه شاور أصحابه فى مقاتلة من منع الزكاة، وأخذ بخلاف ما أشاروا به عليه من ترك قتالهم لما كان عنده متضحًا من قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إلا بحقها) وفهمه هذه النكتة مع ما يعضدها من قوله: (من غير دينه فاقتلوه) . وأما قول البخارى: فكان الأمة بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) يستشيرون الأمناء من أهل العلم، فبذلك تواصى العلماء والحكماء. قال سفيان الثورى: ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة ومن يخشى الله، فإذا أشار أحد برأى سأله: من أين قاله؟ فإن اختلفوا أخذ بأشبههم قولا بالكتاب والسنة، ولا يحكم بشىء حتى يتبين له حجة يجب الحكم بها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 399 وقول البخاري: فإذا وضح الكتاب والسنة يعنى: إن وجد فيهما نص لم يتعدوه، وإن لم يوجد نص وسعهم الاجتهاد. وقال الشافعى: وإنما يؤمر الحاكم بالمشورة؛ لأن المشير ينبهه لما يغفل عنه ويدله من الأخبار على ما يجهله، فأما أن يقلد مشيرًا فلم يجعل الله هذا لأحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وقال أبو الحسن بن القابسى: قوله: فجلد الرامين لها. لم يأت فيه بإسناد وذكره غير مسندًا وقوله: فسمع منهما. يعنى: فسمع قول على وأسامة على اختلافهما فيه. وقوله: لم يلتفت إلى تنازعهم. يعنى: عليًا وأسامة، وأراد: تنازعهما. وأظن الألف سقطت من الكتّاب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 400 كِتَاب التَّوْحِيدِ والرد على الجهمية وغيرهم - باب مَا جَاءَ فِى دُعَاءِ النَّبِيِّ - عليه السلام - أُمَّتَهُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ / 1 - فيه: ابْن عَبَّاس، أن النَّبِىّ، عليه السَّلام، بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فقَالَ لَهُ: (إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى، فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا صَلَّوْا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِى أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ، فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ، فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ، فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ) . / 2 - وفيه: مُعَاذ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ) ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، أَتَدْرِى مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: أَنْ لا يُعَذِّبَهُمْ) . / 3 - وفيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ رَجُلا سَمِعَ رَجُلا يَقْرَأُ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد) [الإخلاص: 1] يُرَدِّدُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 401 / 4 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - عليه السلام - بَعَثَ رَجُلاً عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لأصْحَابِهِ فِى صَلاتِهِمْ، فَيَخْتِمُ: بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَجَعُوا، ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (سَلُوهُ لأىِّ شَىْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ) ؟ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لأنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - عليه السلام -: (أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ) . قال المؤلف: أمر الله تعالى نبيه بدعاء العباد إلى دينه وتوحيده ففعل ما ألزمه من ذلك، فبلغ ما أمره بتبليغه وأنزل عليه: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ) [الذاريات: 54] ، ووجه ذكر حديث قل هو الله أحد فى هذا الباب؛ لأنها سورة تشتمل على توحيد الله وصفاته الواجبة له وعلى نفى ما يستحيل عليه من أنه لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد وتضمنت ترجمة هذا الباب أن الله واحد وأنه ليس بجسم؛ لأن الجسم ليس بشىء واحد بل هو أشياء كثيرة مؤلفة، ففى نفس الترجمة الرد على الجهمية فى قولها أنه تعالى جسم. والدليل على استحالة كونه جسمًا أن الجسم موضوع فى اللغة للمؤلف المجتمع، وذلك محال عليه تعالى؛ لأنه لو كان كذلك لم ينفك من الأعراض المتعاقبة عليه الدالة بتعاقبها عليه على حدثها لفناء بعضها عند مجئ أضدادها، وما لم ينفك من المحدثات فمحدث مثلها، وقد قام الدليل على قدمه تعالى، فبطل كونه جسمًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 402 - باب قَوله تَعَالَى: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى) [الإسراء: 110] / 5 - فيه: جَرِير، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لا يَرْحَمُ النَّاسَ) . / 6 - وفيه: أُسَامَة، جَاءَ النَّبِىِّ، النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ يَدْعُوهُ إِلَى ابْنِهَا فِى الْمَوْتِ، فَقَالَ: (ارْجِعْ إِلَيْهَا، فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَىْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ) ، فَأَعَادَتِ الرَّسُولَ أَنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَدُفِعَ الصَّبِىُّ إِلَيْهِ، وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ، كَأَنَّهَا فِى شَنٍّ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ. فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا؟ قَالَ: (هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِى قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) . غرضه فى هذا الباب إثبات الرحمة وهى صفة من صفات ذاته لا من صفات أفعاله، والرحمن وصف به نفسه تعالى وهو متضمن لمعنى الرحمة كتضمن وصفه لنفسه بأنه عالم وقادر وحى وسميع وبصير ومتكلم ومريد للعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة، التى جميعها صفات ذاته لا صفات أفعاله، لقيام الدليل على أنه تعالى لم يزل ولا يزال حيًا عالمًا قادرًا سميعًا بصيرًا متكلمًا مريدًا، ومن صفات ذاته الغضب والسخط، والمراد برحمته تعالى إرادته لنفع من سبق فى علمه أنه ينفعه ويثنيه على أعماله، فسماها رحمة، والمراد بغضبه وسخطه إرادته لإضرار من سبق فى علمه إضراره وعقابه على ذنوبه فسماها غضبًا وسخطًا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 403 ووصف نفسه بأنه راحم ورحيم ورحمن وغاضب وساخط بمعنى أنه مريد لما تقدم ذكره. وإنما لم يعرف بعض العرب الرحمن من أسماء الله تعالى لأن أسماءه كلها واجب استعمالها ودعاؤه بها سواء؛ لكون كل اسم منها راجعًا إلى ذات واحدة، وهو البارى تعالى وإن دل كل واحد منها على صفة من صفاته تعالى يختص الاسم بالدلالة عليها، وأما الرحمة التى جعلها الله فى قلوب عباده يتراحمون بها فهى من صفات أفعاله، ألا تراه (صلى الله عليه وسلم) قد وصفها بأن الله خلقها فى قلوب عباده، وجعله لها فى القلوب خلق منه تعالى لها فيها، وهذه الرحمة رقة على المرحوم، والله تعالى أن يوصف بذلك. 3 - باب قَول تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: 58] / 7 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ) . قال المؤلف: تضمن هذا الباب صفتين لله تعالى: صفة فعل، وصفة ذات. فصفة الفعل ما تضمنه اسمه الذى أجراه تعالى عليه وهو قوله تعالى: (الرَّزَّاقُ (والصفة الرزق، والرزق فعل من أفعاله لقيام الدليل على استحالة كونه تعالى فيما لم يزل رازقًا، إذ رازق يقتضى مرزوقًا، والبارى تعالى مذ كان ولا مرزوق، فمحال كونه فاعلا للرزق فيما لم يزل، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 404 فثبت أن ما لم يكن ثم كان محدث مخلوق، فرزقه إذًا صفة من صفات أفعاله، وأما وصفه بأنه الرزاق فلم يزل البارى واصفًا لنفسه بأنه الرزاق، ومعنى ذلك أنه سيرزق إذا خلق المرزوقين، وأما صفة الذات فالقوة، والقوة والقدرة اسمان مترادفان على معنى واحد، والبارى تعالى لم يزل قادرًا قويًا ذا قدرة وقوة، وإذا كان معنى القوة معنى القدرة، فالقدرة لم تزل موجودة قائمة به موجبة له حكم القادرين. وقوله تعالى: (الْمَتِينُ (: الثابت الصحيح الوجود، ومعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما أحد أصبر على أذىً سمعه من الله ترك المعاجلة بالنقمة والعقوبة، لا أن الصبر منه معناه كمعناه منا، كما أن رحمته تعالى لمن يرحمه ليس معناها معنى الرحمة منا؛ لأن الرحمة منا رقة وميل طبع إلى نفع المرحوم، والله عز وجل يتعالى عن وصفه بالرقة وميل الطبع؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) ليس بذى طبع وإنما ذلك من صفات المحدثين. وقوله: (على أذى سمعه) معناه: أذى لرسله وأنبيائه والصالحين من عباده لاستحالة تعلق أذى المخلوقين به تعالى؛ لأن الأذى من صفات النقص التى لا تليق بالله إذ الذى يلحقه العجز والتقصير على الانتصار ويصبر جبرًا هو الذى يلحقه الأذى على الحقيقة، والله تعالى لا يصبر خبرًا وإنما يصبر تفضلا، والكناية فى الأذى راجعة إلى الله والمراد بها أنبياؤه ورسله؛ لأنهم جاءوا بالتوحيد لله تعالى ونفى الصاحبة والولد عنه، فتكذيب الكفار لهم فى إضافة الولد له تعالى أذى لهم ورد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 405 لما جاءوا به، فلذلك جاز أن يضاف الأذى فى ذلك إلى الله تعالى إنكارًا لمقالتهم وتعظيمًا لها؛ إذ فى تكذيبهم للرسل فى ذلك إلحاد فى صفاته تعالى، ونحوه قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب: 57] ، تأويله الذين يؤذون أولياء الله وأولياء رسوله، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه فى الإعراب، والمحذوف مراد، نحو قوله: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف: 82] ، يعنى أهل القرية. وقد تضمن هذا الباب الرد على من أنكر أن لله صفة ذات هى قدرة وقوة لاعتقادهم أنه قادر بنفسه لا بقدرة، والله تعالى قد نص على أن له قدرة بخلاف ما تعتقد القدرية من أنه قوى بنفسه لا بقوة. وفيه: رد على المجسمة القائسين للغائب على الشاهد قالوا: كما لم نجد قويا ولا ذا قوة فيما بيننا إلا جسمًا كذلك الغائب حكمه حكم الشاهد، فيقال لهم: إن كنتم على الشاهد تقولون وعليه تعتمدون فى قياس الغائب عليه، فكذلك لم تجدوا جسمًا إلا ذا أبعاض وأجزاء مؤلفة، فيصح عليه الموت والحياة والعلم والجهل والقدرة والعجز، فاقضوا على أن الغائب حكمه حكم هذا فإن مروا عليه ألحدوا وأبطلوا الحدوث والمحدث، وإن أبوه نقضوا استدلالهم ولا انفكاك لهم من أحد الأمرين. ومن هذه الجهة دخل على المعتزلة الخطأ فى قياسهم صفات الله على صفات المخلوقين، والله تعالى لا يشبه المخلوقين؛ لأنه الخالق ولا خالق له وقد أعلمنا الله تعالى بالحكم فى ذلك فقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ) [الشورى: 11] ، فكيف يشبه الخالق بالمخلوق، ومن ليس كمثله شىء كمن له مثل من الأشياء المخلوقة؟ وهذا ما لا يخفى فساده وإبطاله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 406 4 - باب قَوله تَعَالَى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا) [الجن: 26] وَ) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ (و) أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ () وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ () إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ (قَالَ يَحْيَى: الظَّاهِرُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ عِلْمًا، وَالْبَاطِنُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ عِلْمًا. / 8 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهَا إِلا اللَّهُ: لا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأرْحَامُ إِلا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَا فِى غَدٍ إِلا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِى الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلا اللَّهُ، وَلا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلا اللَّهُ) . / 9 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) رَأَى رَبَّهُ، فَقَدْ كَذَبَ، وَهُوَ يَقُولُ: (لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ) [الأنعام: 103] وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَقَدْ كَذَبَ، وَهُوَ يَقُولُ: (لا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ (. غرضه فى هذا الباب إثبات علم الله تعالى صفة لذاته؛ إذ العلم حقيقة فى كون العالم عالمًا، إذ من المحال كون العالم عالمًا ولا علم له، وكذلك سائر أوصافه المقتضية للصفات التى هى حقيقة فى ثبات الأوصاف المجرأة عليه تعالى من كونه حيًا وقادرًا وما شابه ذلك خلافًا لما تقوله القدرية من أنه عالم قادر حى بنفسه لا بقدرة ولا بعلم ولا بحياة، ثم إذا ثبت كون علمه قديمًا وجب تعلقه بكل معلوم على حقيقته، وقد نص البارى تعالى على إثبات الجزء: 10 ¦ الصفحة: 407 علمه بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان: 34] ، وبقوله تعالى: (أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ) [النساء: 166] ، وبقوله: (وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ) [فاطر: 11] ، وبقوله: (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) [فصلت: 47] ، فمن دفع علم البارى تعالى الذى هو حقيقة فى كونه عالمًا، وزعم أنه عالم بنفسه لا بعلم فقد رد نصه تعالى على إثبات العلم الذى هو حقيقة فى كونه عالمًا ولا خلاف بين رد نصه على أنه ذو علم وبين نصه على أنه عالم، فالنافى لعلمه كالنافى لكونه عالمًا، واجتمعت الأمة على أن من نفى كونه عالمًا فهو كافر، فينبغى أن يكون من نفى كونه ذا علم كافرًا؛ إذ من نفى أحد الأمرين كمن نفى الآخر، والقول فى العلم بهذا كاف من القول به فى جميع صفاته، وتضمن هذا الباب الرد على هشام بن الحكم ومن قال بقوله من أن علمه تعالى محدث وأنه لا يعلم الشىء قبل وجوده. وقد نبه الله تعالى على خلاف هذا بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان: 34] الآية، وجميع الآيات الواردة بذلك، وأخبرنا النبى (صلى الله عليه وسلم) بمثل ذلك فى حديث ابن عمر وعائشة فلا يلتفت إلى من رد نصوص الكتاب والسنة. 5 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (السَّلامُ الْمُؤْمِنُ المهيمن ( / 10 - فيه: عَبْدُاللَّهِ، قَالَ: كُنَّا نُصَلِّى خَلْفَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَنَقُولُ: السَّلامُ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلامُ، وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ. . .) الحديث. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 408 غرضه في هذا الباب إثبات اسمًا من أسماء الله، فالسلام اسم من أسمائه، ومعناه: السالم من النقائص والآفات الدالة على حدث من وجدت به متضمن لمعنى السلامة من ذلك كله، وقوله تعالى: (وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ) [يونس: 25] ، مختلف فى تأويله فقيل: معناه: والله يدعو إلى دار السلامة، يعنى: الجنة؛ لأنه لا آفة فيها ولا كدر فالسلام على هذا والسلامة بمعنى، كاللذاذ واللذاذة، والرضاع والرضاعة وقيل: السلام اسم لله تعالى قال قتادة: الله السلام وداره الجنة. فأما المؤمن فهو على وجهين: أحدهما: أن يكون صفة ذات، وهو أن يكون متضمنًا لكلام الله الذى هو تصديقه لنفسه فى أخباره ولرسله فى صحة دعواهم الرسالة عليه، وتصديقه هو قوله، وقوله صفة من صفات ذاته لم يزل موجودًا به حقيقة فى كونه قائلا متكلمًا مؤمنًا مصدقًا. والوجه الثانى: أن يكون متضمنًا صفة فعل هى أمانة رسله وأوليائه المؤمنين به من عقابه وأليم عذابه من قولك: آمنت فلانًا من كذا، وأمنته منه، كأكرمت وكرمت، وأنزلت ونزلت، ومنه قوله تعالى: (وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [قريش: 4] . وأما المهيمن: فهو راجع إلى معنى الحفظ والرعاية، وذلك صفة فعل له تعالى، وأما منعه (صلى الله عليه وسلم) من القول السلام على الله. فقد بين (صلى الله عليه وسلم) معنى ذلك بقوله: (إن الله هو السلام) ويستحيل أن يقال السلام على الله؛ لاستحالة القول الله على الله، وعلى قول من جعل السلام بمعنى السلامة يستحيل أيضًا أن يدعو له الجزء: 10 ¦ الصفحة: 409 بالسلامة. وقوله: قولوا: التحيات لله. . . إلى آخر الحديث فهو صرف منه (صلى الله عليه وسلم) لهم بما يستحيل الكلام به إلى ما يحسن، ويجمل لما فى ذلك من الإقرار لله بملك كل شىء، وشرع ما شرعه لعباده مما أوجبه عليهم من الصلوات المفروضة، وندبه إليهم من النوافل والتقرب إليه بالدعاء والكلام الطيب الذى وصف تعالى أنه يصعد إليه بقوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر: 10] . والتحية فى كلام العرب الملك. قال الشاعر: ولكل ما نال الفتى قد نلته إلا التحية يعنى: الملك. فمعنى قوله: التحيات لله: الملك لله. 6 - بَاب قَوله تَعَالَى: (مَلِكِ النَّاسِ) [الناس: 2] / 11 - فيه: ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام. / 12 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَقْبِضُ اللَّهُ الأرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِى السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأرْضِ) ؟ . قوله تعالى: (مَلِكِ النَّاسِ (هو داخل فى معنى ما أمرهم به النبى (صلى الله عليه وسلم) من قولهم: التحيات لله. يريد: الملك لله، وكأنه (صلى الله عليه وسلم) إنما أمرهم بذلك من حيث أمره الله بالاعتراف بذلك بقوله تعالى: (قُلْ (يا محمد: (أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ (ووصفه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 410 تعالى لنفسه أنه ملك الناس على وجهين: أحدهما: أن يكون راجعًا إلى صفة ذاته وهو القدرة؛ لأن الملك بمعنى القدرة. والثانى: أن يكون راجعًا إلى صفة فعل وذلك بمعنى: القهر والصرف لهم عما يريدونه إلى ما أراده تعالى، فتكون أفعال العباد ملكًا له تعالى لا قدرة لهم عليها. وفيه إثبات اليمين لله صفة من صفات ذاته ليست بجارحة خلافًا لما تعتقده الجسمية فى ذلك لاستحالة جواز وصفه بالجوارح والأبعاض، واستحالة كونه جسمًا، وقد تقدم القول فى حل شبههم فى ذلك. 7 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ () سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافات: 180] ) وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ (وَمَنْ حَلَفَ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (تَقُولُ جَهَنَّمُ: قَطْ، قَطْ، وَعِزَّتِكَ) . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِى عَنِ النَّارِ، لا وَعِزَّتِكَ، لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا) . وَقَالَ أَيُّوبُ: وَعِزَّتِكَ لا غِنَى بِى عَنْ بَرَكَتِكَ. / 13 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ - عليه السلام -: (أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ الَّذِي لا تَمُوتُ، وَالإنْسُ وَالْجِنُّ يَمُوتُونَ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 411 / 14 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يُلْقَى فِى النَّار) وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) [ق: 30] حَتَّى يَضَعَ فِيهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدَمَهُ، فَيَنْزَوِى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، فتَقُولُ: قَدْ قَدْ، بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ، وَلا تَزَالُ الْجَنَّةُ تَفْضُلُ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا، فَيُسْكِنَهُمْ أفَضْلَ الْجَنَّةِ) . قال المؤلف: فالكلام فى هذا الباب على معنى العزيز الحكيم والعزة والحكمة والقدم. أحدهما: أن تكون صفة ذات بمعنى القدرة والعظمة. والثانى: أن تكون صفة فعل بمعنى القهر لمخلوقاته والغلبة لهم، ولهذا صح إضافته تعالى اسمه إليها فقال: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ) [الصافات: 180] ، والمربوب مخلوق لا محالة. والحكيم متضمن لمعنى الحكمة، وهو على وجهين أيضًا: صفة ذات تكون بمعنى العلم، والعلم من صفات ذاته. والثانى: أن تكون بمعنى الإحكام للفعل والإتقان له، وذلك من صفات الفعل وإحكام الله لمخلوقاته فعل من أفعاله، وليس إحكامه لها شيئًا يزيد على ذواتها؛ بل إحكامه لها جعلها نفسًا وذاتًا ما ذهب إليه أهل السنة إن خلق الشىء وإحكامه هو نفس الشىء، وإلا أدّى القول بأن الإحكام والخلق غير المحكم المخلوق إلى التسلسل إلى ما لا نهاية له، والخروج إلى ما لا نهاية له إلى الوجود مستحيل، فبان الفرق بين الحالف بعزة الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 412 التي هي صفة ذاته، وبين من حلف بعزة الله التي هي صفة فعله أنه حانث فى حلفه بصفة الذات دون صفة الفعل؛ بل هو منهى عن الحلف بصفة الفعل كقول الحالف: وحق السماء وحق زيد؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من كان حالفًا فليحلف بالله) وقد تضمن كتاب الله العزة التى هى بمعنى القوة، وهو قوله: (فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) [يس: 14] ، أى قوينا والعزة التى هى الغلبة والقهر وهو قوله: (وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ) [ص: 23] ، أى غلبنى وقهرنى. وأما القدم فلفظ مشترك يصلح استعماله فى الجارحة وفيما ليس بجارحة فيستحيل وصفه تعالى بالقدم الذى هو الجارحة؛ لأن وصفه بذلك يوجب كونه جسمًا والجسم مؤلف حامل للصفات وأضدادها غير متوهم خلوه منها، وقد بان أن المتضادات لا يصح وجودها معًا، وإذا استحال هذا ثبت وجودها على طريق التعاقب، وعدم بعضها عند مجئ بعض وذلك دليل على حدوثها، وما لا يصح خلوه من الحوادث فواجب كونه محدثًا، فثبت أن المراد بالقدم فى هذا الحديث خلق من خلقه تقدم علمه أنه لا تملأ جهنم إلا به. وقال النضر بن شميل: القدم هاهنا: هم الكفار الذين سبق فى علم الله أنهم من أهل النار وأنه تملأ النار بهم حتى ينزوى بعضها إلى بعض من الملئ لتضايق أهلها فتقول: قط قط، أى امتلأت. ومنه قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ) [يونس: 2] ، أى سابقة صدق. وقال ابن الأعرابى: القدم: هو التقدم فى الشرف والفضل. وقد قد، وقط قط، بمعنى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 413 حسبي أي: كفاني، ويقال: قدني، وقطني بمعنى ذلك، واختلفت الرواية فى قوله: فيسكنهم أفضل الجنة، وروى فضل الجنة، فمن روى فضل الجنة فهو أحسن يعنى: ما فضل منها وبقى. ومن روى أفضل الجنة فمعناه: فاضل الجنة. وفضل وفاضل الجنة عائدان إلى معنى واحد، وليس بمعنى أفضل من كذا الذى هو بمعنى المفاضلة قال تعالى: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم: 27] ، على أحد التأويلين. قال الشاعر: لعمرك لا أدرى وإنى لأوجل يريد: لوجل. 8 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ ( / 15 - فيه: ابْن عَبَّاس، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَدْعُو مِنَ اللَّيْلِ: (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَمَنْ فِيهِنَّ، لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، قَوْلُكَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ، وَأَسْرَرْتُ، وَأَعْلَنْتُ أَنْتَ إِلَهِى لا إِلَهَ لِى غَيْرُكَ) . وَقَالَ سُفْيَان مرة: أَنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ. قوله تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ) [الأنعام: 73] ، كقوله: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 414 خالق السموات والأرض بالحق أى: أبدعهما وأنشأهما بالحق. وقوله: (رب السموات والأرض) كقوله: خالق السموات والأرض، وأما قوله: (أنت الحق) . فعلى معنيين: يكون اسمًا راجعًا إلى ذاته فقط لقوله (صلى الله عليه وسلم) : أنت الحق. أى: أنت الموجود الثابت حقًا الذى لا يصح عليك تغيير ولا زوال. والمعنى الثانى: يكون الحق راجعًا إلى صفة ذاته؛ لقوله: خلق السموات والأرض بالحق أى قال لها: كونى فكانت. وقوله صفة من صفات ذاته عند أهل الحق والسنة على ما يأتى بيانه بعد هذا إن شاء الله. وأما قوله: (أنت نور السموات والأرض) وقوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) [النور: 35] ، فواجب صرفه عن ظاهره لقيام الدليل على أنه لا يجوز أن يوصف بأنه نور، والمعنى: أنت منور السموات والأرض بأن خلقتهما دلالة لعبادك على وجودك وربوبيتك بما فيهما من دلائل الحدث المفتقرة إلى محدث فكأنه نور السموات والأرض بالدلائل عليه منهما وجعل فى قلوب الخلائق نورًا يهتدون به إليه، وقال ابن عباس: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) [النور: 35] ، أى هاديهن، وعنه أيضًا مدبرهما، ومدبر ما فيهما وتقديره: الله نور السموات والأرض. وأما قيم السموات والأرض، فالكلام فيه من وجهين: أحدهما: أن يكون بمعنى العالم بمعلوماته، فتكون صفة ذات. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 415 والوجه الثاني: أن يكون بمعنى الحفظ لمخلوقاته، والرزق للحى منها، فتكون صفة فعل. 9 - باب قوله تَعَالَى: (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء: 58] وَقَالَتْ عَائِشَةَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَسِعَ سَمْعُهُ الأصْوَاتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا (الآية [المجادلة: 1] . / 16 - فيه: أَبُو مُوسَى، كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى سَفَرٍ، فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا، فَقَالَ: (ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا. . .) الحديث. / 17 - وفيه: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، قَالَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : عَلِّمْنِى دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِى صَلاتِى، قَالَ: (قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِى مِنْ عِنْدِكَ مَغْفِرَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) . / 18 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ جِبْرِيلَ نَادَانِى، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ) . غرضه فى هذا الباب أن يرد على من يقول: إن معنى سميع بصير. معنى عليم لا غير؛ لأن كونه كذلك يوجب مساواته تعالى للأعمى والأصم الذى يعلم أن السماء خضراء ولا يراها، وأن فى العالم أصواتًا ولا يسمعها ولا شك أن من سمع الصوت وعلمه ورأى خضرة السماء وعلمها أدخل فى صفات الكمال ممن انفرد بإحدى هاتين الصفتين، وإذا استحال كونه أحدنا ممن لا آفة به أكمل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 416 صفة من خالقه وجب كونه تعالى سميعًا بصيرًا مفيدًا أمرًا زائدًا على ما يفيده كونه عليما. ثم نرجع إلى ما تضمنه كونه سميعًا بصيرًا، فنقول: هما منضمنتان لسمع وبصر بهما كان سميعًا بصيرًا كما تضمن كونه عالمًا علمًا لأجله كان عالمًا وكما أنه لا خلاف بين إثباته عالمًا وبين إثباته ذا علم، فإن من نفى أحد الأمرين كمن نفى الآخر، وهذا مذهب أهل السنة والحق. ومعنى قول عائشة: (الحمد لله الذى وسع سمعه الأصوات) . أدرك سمعه الأصوات، لا أنه اتسع سمعه لها؛ لأن الموصوف بالسعة يصح وصفه بالضيق بدلا منه والوصفان جميعًا من صفات الأجسام، وإذا استحال وصفه بما يؤدى إلى القول بكونه جسمًا، وجب صرف قولها عن ظاهره إلى ما اقتضى صحته الدليل، ومعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا) . نفى الآفة المانعة من السمع، ونفى الجهل المانع من العلم وفى هذا القول منه (صلى الله عليه وسلم) دليل على أنه لم يزل سميعًا بصيرًا عالمًا، ولا تصح أضداد هذه الصفات عليه. وقوله: قريبًا. إخبار عن كونه عالمًا بجميع المعلومات لا يعزب عنه شىء، ولم يرد بوصفه بالقرب قرب المسافة؛ لأن الله تعالى لا يصح وصفه بالحلول فى الأماكن؛ لأن ذلك من صفات الأجسام والدليل على ذلك قوله تعالى: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ) [المجادلة: 7] الآية معناه: إلا هو عالم بهم وبجميع أحوالهم ما يسرُّونه وما يظهرونه، ومعنى حديث أبى بكر فى هذا الباب هو أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 417 دعاءه الله بما علمه النبي - عليه السلام - يقتضى اعتقاد كونه تعالى سميعا لدعائه ومجازيًا له عليه. - باب قَوله تَعَالَى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ) [الأنعام: 65] / 19 - فيه: جَابِر، قَالَ: كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ الاسْتِخَارَةَ فِى الأمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: (إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ، وَلا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ، وَلا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ. . .) . القادر والقدرة من صفات الذات، وقد تقدم فى باب قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: 58] ، أن القوة والقدرة بمعنى واحد، وكذلك القادر والقوى بمعنى واحد، وذكر الأشعرى أن القدرة والقوة والاستطاعة معناها واحد، لكن لم يشتق لله تعالى من الاستطاعة اسم، ولا يجوز أن يوصف بأنه مستطيع لعدم التوقيف بذلك، وإن كان قد جاء القرآن بالاستطاعة فقال: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) [المائدة: 112] ، فإنما هو خبر عنهم ولا يقتضى إثباته صفة له تعالى فدل على ذلك أمران: تأنيبه لهم عقيب هذا، وقراءة من قرأ: (هل تستطيع ربك) بمعنى: هل تسطيع ربك، وقد أخطئوا فى الأمرين جميعًا لاقتراحهم على نبيهم وخالقه ما لم يأذن لهم فيه ربهم تعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 418 - بَاب مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ وَقَوله تَعَالَى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ) [الأنعام: 110] / 20 - فيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَكْثَرُ مَا يَحْلِفُ: لا، وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ) . قد تقدم الكلام فى هذا الحديث فى كتاب القدر، ومر فيه أن تقليبه لقلوب عباده صرفه لها من إيمان إلى كفر، ومن كفر إلى إيمان وذلك كله مقدور لله تعالى وفعل له، بخلاف قول القدرية. - باب قول النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ اسْمٍ إِلا وَاحِدًامَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (ذُو الْجَلالِ) [الرحمن: 27] ذو الْعَظَمَةِ) الْبَرُّ (اللَّطِيفُ. / 21 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) .) أَحْصَيْنَاهُ (حَفِظْنَاهُ. الإحصاه فى اللغة على وجهين: أحدهما بمعنى: الإحاطة بعلم عدد الشىء وقدره، ومنه قوله تعالى: (وَأَحْصَى كُلَّ شَىْءٍ عَدَدًا) [الجن: 28] وهذا قول الخليل. والثانى: بمعنى: الإطاقة له، كقوله تعالى: (عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ) [المزمل: 20] ، أى لن تطيقوه. وقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (استقيموا ولن تحصوا) أى: لن تطيقوا العمل بكل ما لله عليكم، والمعنى فى ذلك كله متقارب، وقد يجوز أن يكون المعنى: من أحصاها عددًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 419 وحفظًا وعلمًا بما يمكن علمه من معانيها المستفاد منها علم الصفات التى تفيدها؛ لأن تحت وصفنا له بعالم إثبات علم له تعالى لم يزل موصوفًا به لا كالعلوم، وتحت وصفنا له بقادر إثبات قدرة لم يزل موصوفًا بها لا كقدرة المخلوقين، وكذلك القول فى الحياة وسائر صفاته، وفيه وجه آخر يحتمل أن يكون الإحصاء المراد فى هذا الحديث والله أعلم العمل بالأسماء والتعبد لمن سمى بها. فإن قال قائل: كيف وجه إحصائها عملا؟ قيل له: وجه ذلك أن ما كان من أسماء الله تعالى مما يجب على المؤمن الاقتداء بالله تعالى فيه كالرحيم والكريم والعفو والغفور والشكور والتواب وشبهها، فإن الله تعالى يحب أن يرى على عبده حلاها ويرضى له معناها، والاقتداء به تعالى فيها. فهذا العمل بهذا النوع من الأسماء وما كان منها مما لا يليق بالعبد معانيها كالله والأحد والقدوس والجبار والمتعال والمتكبر والعظيم والعزيز والقوى وشبهها، فإنه يجب على العبد الإقرار بها والتذلل لها والإشفاق منها، وما كان بمعنى الوعيد كشديد العقاب، وعزيز ذى انتقام وسريع الحساب وشبهها، فإنه يجب على العبد الوقوف عند أمره واجتناب نهيه. واستشعار خشية الله تعالى من أجلها خوف وعيده، وشديد عقابه هذا وجه إحصائها عملا فهذا يدخل الجنة إن شاء الله، وأخبرنى بعض أهل العلم عن أبى محمد الأصيلى أنه أشار إلى هذا المعنى غير الجزء: 10 ¦ الصفحة: 420 أنه لم يشرحه فقال: الإحصاء لأسمائه تعالى هو العمل بها لا عدّها وحفظها فقط؛ لأنه قد يعدها المنافق والكافر وذلك غير نافع له. قال المؤلف: والدليل على أن حقيقة الإحصاء والحفظ فى الشريعة إنما هو العمل قوله (صلى الله عليه وسلم) فى وصف الخوارج: (يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية) فبين أن من قرأ القرآن ولم يعمل به لم ترفع قراءته إلى الله، ولا جازت حنجرته، فلم يكتب له أجرها وخاب من ثوابها كما قال تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10] ، يعنى أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله تعالى. وكما قال ابن مسعود لرجل: إنك فى زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع فيه حروفه، وسيأتى على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه تحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده. فذم من حفظ الحروف وضيع العمل ولم يقف عند الحدود، ومدح من عمل بمعانى القرآن وإن لم يحفظ الحروف، فدل هذا على أن الحفظ والإحصاء المندوب إليه هو العمل. ويوضح هذا أيضًا ما كتب به عمر بن الخطاب إلى عماله: إن أهم أموركم عندى الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها دينه. ولم يرد عمر بحفظها إلا المبالغة فى إتقان العمل بها من إتمام ركوعها وسجودها وإكمال حدودها لا حفظ أحكامها وتضييع العمل بها، والله الموفق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 421 - باب السُّؤَالِ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَالاسْتِعَاذَةِ بِهَا / 22 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ فِرَاشَهُ فَلْيَنْفُضْهُ بِصَنِفَةِ ثَوْبِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَلْيَقُلْ: بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِى، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِى، فَاغْفِرْ لَهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ) . / 23 - وفيه: حُذَيْفَةَ، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ، قَالَ: (اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَحْيَا وَأَمُوتُ) ، وَإِذَا أَصْبَحَ، قَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) . / 24 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِىَ أَهْلَهُ، فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِى ذَلِكَ لَمْ يَضُرُّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا) . / 25 - وفيه: عَدِىّ، سَأَلْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقُلْتُ: أُرْسِلُ كِلابِى الْمُعَلَّمَةَ؟ قَالَ: (إِذَا أَرْسَلْتَ كِلابَكَ الْمُعَلَّمَةَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ، فَأَمْسَكْنَ فَكُلْ. . .) الحديث. / 26 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَاهُنَا أَقْوَامًا حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِشِرْكٍ، يَأْتُونَا بِلُحْمَانٍ، لا نَدْرِى أيَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ لا؟ قَالَ: (اذْكُرُوا أَنْتُمُ اسْمَ اللَّهِ، وَكُلُوا) . / 27 - وفيه: أَنَس، ضَحَّى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِكَبْشَيْنِ يُسَمِّى وَيُكَبِّرُ. / 28 - وفيه: جُنْدَب، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ يَوْمَ النَّحْرِ: (مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّىَ، فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 422 / 29 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ) . غرضه فى هذا الباب أن يثبت أن الاسم هو المسمى فى الله على ما ذهب إليه أهل السنة، وموضع الاستدلال منه قوله (صلى الله عليه وسلم) : (باسمك ربى وضعت جنبى، وبك أرفعه) وقوله فى حديث حذيفة: (باسمك أحيا وأموت) ومعناه: بإقدارك إياى على وضع جنبى وضعته، وبإقدارك إياى على رفعه أرفعه، وبإحيائك أحيا وبإماتتك أموت، فحذف (صلى الله عليه وسلم) باسمك ربى وضعت جنبى، ثم قال: وبك أرفعه، فذكر الاسم مرة، ولم يذكره أخرى، فدل أن معنى قوله: باسمك. معنى قوله: بك؛ إذ لو كان ذكره للاسم يفيد غير ما يفيد ترك ذكره لتخالف المعنيان، ولوجب أن يكون اسمه غيره وذلك محال؛ لأن ذلك يؤدى إلى أن يكون قوله (صلى الله عليه وسلم) : باسمك وضعت جنبى كقوله: بغيرك وضعت جنبى. وقوله: وباسمك أحيا وأموت: بغيرك أحيا وأموت. وهذا كفر بالله تعالى. ويكون قوله: وبك أرفعه، وقوله: الحمد لله الذى أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور يراد به الله فيكون بعض الدعاء لله وصرف الأمر فيه إليه، ويكون بعض الدعاء وصرف الأمر فيه إلى غير الله، وهذا كفر صريح لا يخفى، ومما يدل على أن اسم الله هو قوله سبحانه: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة: 74] أى سبح ربك العظيم ونزهه باسمائه الحسنى، ولو كان اسمه غيره لكان الله أمر نبيه بتنزيه معنى هو غير الله وهذا مستحيل، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ) [الرحمن: 78] فى قراءة من قرأ) ذو ( الجزء: 10 ¦ الصفحة: 423 وذو وصف الاسم لا شك فيه فإذا قد وصف الاسم بالجلال والإكرام، وهذا خلاف قول القدرية التى تزعم كون كلامه محدثًا، وأنه تعالى لم يزل غير ذى اسم ولا صفة حتى خلق الخلق وخلق كلامه فسماه خلقه بأسماء محدثة وسمى نفسه بمثلها، وهذا بين الفساد بما قدمناه أنه تعالى لا يجوز أن يأمر نبيه بتنزيه غيره. فإن قال قائل: فإن قلتم: إن اسم الله هو هو فما معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن لله تسعة وتسعين اسمًا) وكيف تكون الذات الواحدة تسعة وتسعون شيئًا؟ قالوا: وهذا كفر ممن قال به، فبان من هذا الحديث أن اسمه غيره. فالجواب: أنه لو كان اسمه غيره لم يأمر نبيه بتنزيه مخلوق غيره على ما قدمناه، ونرجع إلى تأويل الحديث فنقول: إن المراد بقوله: تسعة وتسعين اسمًا التسمية؛ لأنه فى نفسه واحد والاسم يكون بمعنيين يكون بمعنى المسمى، ويكون بمعنى التسمية التى هى كلامه فالذى بمعنى المسمى يقال فيه: هو المسمى، والذى بمعنى التسمية لا يقال فيه: هو المسمى، ولا هو غيره، وإنما لم نقل فيه أيضًا: هو غيره؛ لأن تسميته لنفسه كلام له ولا يقال فى كلامه أنه غيره. ومعنى الترجمة معنى قوله تعالى: (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف: 180] ، فأمر بدعائه بها ووصفه لها بالحسنى يقتضى نفى تضمن كل اسم منها نقيض ما يوصف أنه حسن، ونقيض الحسن قبيح الجزء: 10 ¦ الصفحة: 424 لا يجوز على الله، ومعنى هذا أن عالمًا من أسمائه يقتضى علمًا ينفى نقيضه من الجهل وقادرًا يقتضى قدرة تنفى نقيضها من العجز، وحيا يقتضى حياة تنفى ضدها من الموت، وكذلك سائر صفاته كلها ففائدة، كل واحدة منها خلاف فائدة الأخرى، فأمر تعالى عباده بالدعاء بأسمائه كلها لما يتضمن كل اسم منها ويخصه من الفائدة ليجتمع للعباد الداعين له بجميعها فوائد عظيمة، ويكون معبودًا بكل معنى. - باب مَا يُذْكَرُ فِى الذَّاتِ وَالنُّعُوتِ وَأَسَامِى اللَّهِ وَقَالَ خُبَيْبٌ: وَذَلِكَ فِى ذَاتِ الإلَهِ، فَذَكَرَ الذَّاتَ بِاسْمِهِ. / 30 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَعَثَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَشَرَةً، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأنْصَارِىُّ، فَأَخْبَرَنِى عُبَيْدُاللَّهِ بْنُ عِيَاضٍ، أَنَّ ابْنَةَ الْحَارِثِ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا، اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ، قَالَ خُبَيْبٌ: مَا أُبَالِى حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا وَذَلِكَ فِى ذَاتِ الإلَهِ وَإِنْ يَشَأْ عَلَى أَىِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ فَقَتَلَهُ ابْنُ الْحَارِثِ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ يَوْمَ أُصِيبُوا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 425 اعلم أن أسماء الله تعالى على ثلاث أضرب: ضرب منها يرجع إلى ذاته ووجوده فقط لا إلى معنى يزيد على ذلك كقولنا: شىء وموجود وذات نفس. والضرب الثانى: يرجع إلى إثبات معان قائمة به تعالى هى صفات له كقولنا: حى وقادر وعالم ومريد، يرجع ذلك كله إلى حياة وقدرة وعلم وإرادة؛ لأجلها كان حيا قادرًا عالمًا مريدًا. والضرب الثالث: يرجع إلى صفات من صفات أفعاله كقولنا: خالق ورزاق ومحيى ومميت، يرجع بذلك إلى خلق ورزق وحياة وموت، وذلك كله فعل له تعالى. فأما إثباته ذاتًا وشيئًا ونفسًا فطريقه السمع، وقد سمع النبى (صلى الله عليه وسلم) قول خبيب (وذلك فى ذات الإله) فلم ينكره، فصار طريق العلم به التوقيف من الرسول (صلى الله عليه وسلم) وذاته هو هى، ومعنى قوله فى ذات الإله: أى فى دين الله وطاعته، فجميع هذه الأضرب الثلاثة أسماء لله فى الحقيقة كان منها ما يتضمن صفة ترجع إلى ذاته أو إلى فعل من أفعاله أم لا، فكل صفة اسم لله تعالى وليس كل اسم صفة. ومذهب أهل السنة أنه محال أن يقال فى صفات ذاته أن كل واحدة منها غير الأخرى، كما استحال القول عندهم بأنها غيره تعالى؛ لأن حد الغيرين ما جاز وجود أحدهما مع عدم الآخر، ولما لم يجز على شىء من صفاته عدم إحداهما مع وجود سائرها استحال وصفها بالتغاير كما استحال وصفه بأنه غيرها؛ لقيام الدليل على استحالة وجوده تعالى مع عدم صفاته، التى هى حياته وعلمه وقدرته وسائر وجود بعضها مع عدم سائرها كالرزق والإحياء والإماتة، وسائر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 426 صفات أفعاله التى تتضمنها أسماء له أطلقها تعالى على نفسه كرازق وخالق ومحيى ومميت وبديع، وما شاكل ذلك، فهذه كلها أسماء له تعالى سمى نفسه بها، وتسميته: قوله، وقوله ليس غيره كسائر صفات ذاته، ومتضمن هذه الأسماء متغاير على ما ذكرنا وغير له تعالى لقيام الدليل على وجوده فى أزله مع عدم جميع أفعاله. - باب قَوله تَعَالَى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) [آل عمران: 28] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ( / 31 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ) . / 32 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِى كِتَابِهِ، وَهُوَ يَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ وَضْعٌ عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِى تَغْلِبُ غَضَبِى) . / 33 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (يَقُولُ اللَّهُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِى، فَإِنْ ذَكَرَنِى فِى نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِى نَفْسِى، وَإِنْ ذَكَرَنِى فِى مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِى مَلإ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِى يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) . قوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران: 28] ، وقوله: (وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ) [المائدة: 116] ، وما ذكر فى الأحاديث من ذكر النفس، فالمراد به إثبات نفس لله، والنفس لفظة تحتمل معانٍ، والمراد بنفسه تعالى ذاته، فنفسه ليس بأمر يزيد عليه، فوجب أن تكون نفسه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 427 هي هو، وهذا إجماع، وللنفس وجوه أخر لا حاجة بنا إلى ذكرها؛ إذ الغرض من الترجمة خلاف ذلك. أما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما أحد أغير من الله) . فليس هذا موضع الكلام فيه، وسيأتى. وأما قوله: (وضع عنده) فعند فى ظاهر اللغة تقتضى أنها للموضع، والله يتعالى عن الحلول فى المواضع؛ لأن ذلك من صفات الأجسام إذ الحالّ فى موضع لا يكون بالحلول فيه بأولى منه بالحلول فى غيره إلا لأمر يخصه حلوله فيه، والحلول فيه عرض من الأعراض يفنى بمجىء حلول آخر يحل به فى غير ذلك المكان. والحلول محدث والحوادث لا تليق به تعالى، لدلالتها على حدث من قامت به فوجب صرف (عند) عن ظاهرها إلى ما يليق به تعالى، وهو أنه أراد (صلى الله عليه وسلم) إثبات علمه بإثابة من سبق علمه أنه عامل بطاعته، وعقاب من سبق علمه بأنه عامل بمعصيته. (وعند) وإن كان وضعها فى اللغة للمكان فقد يتوسع فيها فتجعل لغير المكان كقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أنا عند ظن عبدى بى) ولا مكان هناك. وأما قوله: (إن رحمتي تغلب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 428 غضبي) . فقد تقدم أن رحمته تعالى إرادته لإثابة المطيعين له وغضبه لعقاب العاصين له، وإذا كان ذلك كذلك كان معنى قوله: (إن رحمتى تغلب غضبى) إن إرادتى ثواب الطائعين لى هى إرادتى ألا أعذبهم. وهو معنى قوله تعالى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185] ، فإرادته بهم اليسر هى إرادته ألا يريد بهم العسر، وما كان ما أراد من ذلك بهم، ولم يكن ما لم يرده فعبر (صلى الله عليه وسلم) عن هذا المعنى بقوله: (إن رحمتى تغب غضبى) وتسبق غضبى، فظاهر قوله يفيد أن رحمته وغضبه معنيان أحدهما غالب للآخر وسابق له، وإذا ثبت أن إرادته واحدة وصفة من صفات ذاته، وأن رحمته وغضبه ليستا بمعنى أكثر من إرادته التى هى متعلقة بكل ما يصح لأكونه مرادًا وجب صرف كلامه عن ظاهره؛ لأن إجراء الكلام على ظاهره يقتضى حدث إرادته لو كانت له إرادات كثيرة متغايرة. وقوله: (فى ملأ خير منهم) هذا نص من النبى (صلى الله عليه وسلم) أن الملائكة أفضل من بنى آدم، وهو مذهب جمهور أهل العلم وعلى هذا شواهد من كتاب الله منها قوله تعالى: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) [الأعراف: 20] ، ولا شك أن الخلود أفضل من الفناء فكذلك الملائكة أفضل من بنى آدم وإلا فلا يصح معنى الكلام. وأما وصفه تعالى بأنه يتقرب إلى عبده ووصفه بالتقرب إليه ووصفه بإتيانه هرولة، فإن التقرب والإتيان والمشى والهرولة محتملة للحقيقة والمجاز، وحملها على الحقيقة يقتضى قطع المسافات وتواتى الأجسام، وذلك لا يليق بالله تعالى فاستحال حملها على الحقيقة، ووجب حملها على المجاز؛ لشهرة ذلك فى كلام العرب، فوجب أن يكون وصف العبد بالتقرب إليه شبرًا وذراعًا وإتيانه ومشيه معناه: التقرب إليه بطاعته وأداء مفترضاته، ويكون تقربه تعالى من عبده قوله تعالى: (أتيته هرولة) أى: أتاه ثوابى مسرعًا. قال الطبرى: وإنما مثل القليل من الطاعة بالشبر من الدنو منه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 429 والضعف من الكرامة والثواب بالذراع، فجعل ذلك دليلا على مبلغ كرامته لمن أكرم عليه مجاوز حده إلى ما بينه عز وجل. فإن قيل: فما معنى قوله: (إذا ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى؟) قيل: معنى ذلك: وإذا ذكرنى بقلبه مخفيًا ذلك عن خلقى ذكرته برحمتى وثوابى مخفيًا ذلك عن خلقى حتى لا يطلع عليه أحد منهم، وإذا ذكرنى فى ملأ من عبادى، ذكرته فى ملأ من خلقى أكثر منهم وأطيب. قال الطبرى: فإن قيل: أى الذكرين أعظم ثوابًا الذكر الذى هو بالقلب، أو الذكر الذى هو باللسان؟ قيل: قد اختلف السلف فى ذلك، فروى عن عائشة أنها قالت: لأن أذكر الله فى نفسى أحب إلىَّ أن أذكره بلسانى سبعين مرة. وقال آخرون: ذكر الله باللسان أفضل. روى عن أبى عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: ما دام قلب الرجل يذكر الله تعالى فهو فى صلاة، وإن كان فى السوق، وإن تحرك بذلك اللسان والشفتان فهو أعظم. قال الطبرى: والصواب عندى أن إخفاء النوافل أفضل من ظهورها لمن لم يكن إمامًا يقتدى به، وإن كان فى محفل اجتمع أهله لغير ذكر الله أو فى سوق وذلك أنه أسلم له من الرياء، وقد روينا من حديث سعد بن أبى وقاص عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (خير الرزق ما يكفى، وخير الذكر الخفى) ولمن كان بالخلاء أن يذكر الله بقلبه ولسانه؛ لأن شغل جارحتين بما يرضى الله تعالى أفضل من شغل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 430 جارحة واحدة، وكذلك شغل ثلاث جوارح أفضل من شغل جارحتين، وكلما زاد فهو أفضل إن شاء الله تعالى. - باب قَوله تَعَالَى: (كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ) [القصص: 88] / 34 - فيه: جَابِر، لَمَّا نَزَلَتْ على النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ) [الأنعام: 65] ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَعُوذُ بِوَجْهِكَ) ، فَقَالَ: (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ (، قَالَ عليه السّلام: (أَعُوذُ بِوَجْهِكَ) ، قَالَ: (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا (، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (هَذَا أَيْسَرُ) . استدلاله من هذه الآية والحديث على أن لله تعالى وجهًا هو صفة ذاته لا يقال: هو هو، ولا هو غيره بخلاف قول المعتزلة، ومحال أن يقال: هو جارحة كالذى نعلمه من الوجوه، كما لا يقال: هو تعالى فاعل وحى وعالم، كالفاعلين والأحياء والعلماء الذين نشاهدهم، وإذا استحال قياسه على المشاهدين فالحكم له بحكمهم مع مشاركتهم له فى التسمية كذلك يستحيل الحكم لوجهه الذى هو صفة ذاته بحكم الوجوه التى نشاهدها، وإنما لم يجز أن يقال: إن وجهه جارحة لاستحالة وصفه بالجوارح لما فيها من أثر الصنعة، ولم يقل فى وجهه أنه هو لاستحالة كونه تعالى وجهًا، وقد أجمعت الأمة على أنه لا يقال: يا وجه، اغفر لى، ولم يجز أن يكون وجهه غيره؛ لاستحالة مفارقته له بزمان أو مكان أو عدم أو وجود، فثبت أن له وجهًا لا كالوجوه؛ لأنه ليس كمثله شىء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 431 - باب قَوله تَعَالَى: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى) [طه: 39] يعنِى: تُغَذَّى، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا (/ 35 - فيه: ابْن عُمَرَ، ذُكِرَ الدَّجَّالُ عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عَيْنِهِ، وَإِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى) . / 36 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِىٍّ إِلا أَنْذَرَ قَوْمَهُ الأعْوَرَ الْكَذَّابَ، إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ) . استدلاله من هذه الآية والحديث على أن لله صفة سماها عينًا ليست هو ولا غيره، وليست كالجوارح المعقولة بيننا؛ لقيام الدليل على استحالة وصفه بأنه ذو جوارح وأعضاء. خلافًا لما تقوله المجسمة من أنه جسمٌ لا كالأجسام، واستدلوا على ذلك بهذه الآيات كما استدلوا بالآيات المتضمنة لمعنى الوجه واليدين، ووصفه لنفسه بالإتيان والمجئ والهرولة فى حديث الرسول، وذلك كله باطل وكفر من متأوله؛ لقيام الدليل على تساوى الأجسام فى دلائل الحدث القائمة بها واستحالة كونه من جنس المحدثات، إذْ المحدث إنما كان محدثًا من حيث هو متعلق بمحدث أحدثه، وجعله بالوجود أولى منه بالعدم. فإن قالوا: الدليل على صحة ما نذهب إليه من أنه تعالى جسم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله ليس بأعور، وإشارته إلى عينه بيده، وأن المسيح الدجال أعور عينه اليمنى) ففى إشارته إلى عينه بيمينه تنبيه منه على أن عينه كسائر الأعين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 432 قلنا: تقدم فى دليلنا استحالة كونه جسمًا؛ لاستحالة كونه محدثًا، وإذا صح ذلك وجب صرف قوله (صلى الله عليه وسلم) وإشارته إلى عينه إلى معنى يليق به تعالى وهو نفى النقائص والعور منه، وأنه ليس كمن لا يرى ولا يبصر، بل هو منتف عنه جميع النقائص والآفات التى هى أضداد السمع والبصر وسائر صفات ذاته التى يستحيل وصفه بأضدادها؛ إذ الموصوف بها تارة وأضدادها أخرى محدث مربوب، لدلالة قيام الحوادث به على محدثه. - باب قَوله تَعَالَى: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ) [الحشر: 24] / 37 - فيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّهُمْ أَصَابُوا سَبَايَا فِى غَزْوَةِ بَنِى الْمُصْطَلِقِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَسْتَمْتِعُوا بِهِنَّ، وَلا يَحْمِلْنَ، فَسَأَلُوا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْعَزْلِ، فَقَالَ: (مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لا تَفْعَلُوا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ مَنْ هُوَ خَالِقٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . وَقَالَ أَبُو سَعِيد مرة، عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إِلا اللَّهُ خَالِقُهَا) . الكلام فى معنى قوله تعالى: (الْخَالِقُ (من وجهين: أحدهما أن يكون بمعنى المبدع والمنشىء لأعيان المخلوقات، وهذا معنى لا يشاركه فيه أحد من خلقه، لم يزل الله مسميًا لنفسه خالقًا ورازقًا على معنى أنه سيخلق وسيرزق، لا على معنى أنه خلق الخلق فى أزله لاستحالة قدم الخلق. والثانى: أن يكون الخلق بمعنى التصوير، وهذا أمر يصح مشاركة الخلق فيه له، فالخلق المذكور فى هذا الباب بمعنى الإبداع والاختراع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 433 لأعيان السموات والأرض، والخلق بمعنى التصوير فى قوله تعالى: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) [المائدة: 110] ، أى تصور لا تخترع ومنه قول الشاعر: ولأنت تفرى ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفرى - باب قَوله تَعَالَى: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ) [ص: 75] / 38 - فيه: أَنَس، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (يَجْمَعُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ، أَمَا تَرَى النَّاسَ؟ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَىْءٍ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكَ وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِى أَصَابَهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا، فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الأرْضِ، فَيَأْتُونَ نُوحًا، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِى أَصَابَ، وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطَايَاهُ الَّتِى أَصَابَهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى، عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا، فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِى أَصَابَ، وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَكَلِمَتَهُ وَرُوحَهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) ، عَبْدًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِى، فَأَنْطَلِقُ، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى، فَيُؤْذَنُ لِى عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّى وَقَعْتُ لَهُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 434 اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِى، ثُمَّ يُقَالُ لِى: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّى بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِى حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّى وَقَعْتُ، سَاجِدًا، فَيَدَعُنِى مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِى، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، ن وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّى، بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا رَبِّى، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِى حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّى وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِى مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِى، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، قُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّى بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا، ثُمَّ أَشْفَعْ، فَيَحُدُّ لِى حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا بَقِىَ فِى النَّارِ إِلا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَكَانَ فِى قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَكَانَ فِى قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَكَانَ فِى قَلْبِهِ مَا يَزِنُ مِنَ الْخَيْرِ ذَرَّةً) . / 39 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَدُ اللَّهِ مَلأى، لا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِى يَدِهِ، وَقَالَ: عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الأخْرَى الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ) . / 40 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِيّ، عليه السَّلام: (إِنَّ اللَّه يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأرْضَين، فَإِنَّهُ لَم يغض مَا فِى يده، وَقَالَ: عرشه عَلى الْماء وَبِيَدِهِ الأخْرَى الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ) . / 41 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (إِنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأرْضَين، وَتَكُونُ السَّمَوَاتُ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ) . / 42 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (يَقْبِضُ اللَّهُ الأرْضَ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 435 / 43 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، أَنَّ يَهُودِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، ُ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْخَلائِقَ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَرَأَ: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام: 92] . وَقَالَ مرة: فَضَحِكَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لَهُ. استدلاله من قوله تعالى: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ) [ص: 75] ، وسائر أحاديث الباب على إثبات يدين الله هما صفتان من صفات ذاته ليستا بجارحتين بخلاف قول المجثمة المثبتة أنهما جارحتان وخلاف قول القدرية النفاة لصفات ذاته، ثم إذا لم يجز أن يقال: إنهما جارحتان لم يجز أن يقال: إنهما قدرتان، ولا إنهما نعمتان؛ لأنهما لو كانتا قدرتين لفسد ذلك من وجهين: أحدهما: أن الأمة أجمعت من بين نافٍ لصفات ذاته، وبين مثبت لها أن لها تعالى ليس له قدرتان بل له قدرة واحدة فى قول المثبتة، ولا قدرة له فى قول النافية لصفاته؛ لأنهم يعتقدون كونه قادرًا لنفسه لا بقدرة والوجه الآخر أن الله تعالى قال لإبليس: (مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ) [ص: 75] ، قال إبليس مجيبًا له: أنا خير منه. فأخبر بالعلة التى من أجلها لم يسجد، وأخبره تعالى بالعلة التى لها أوجب عليه السجود، وهو أن خلقه بيديه، فلو كانت اليد القدرة التى خلق آدم بها وبها خلق إبليس لم يكن لاحتجاجه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 436 تعالى عليه بأن خلقه بما يوجب عليه السجود معنى؛ إذ إبليس مشارك لآدم فيما خلقه به تعالى من قدرته، ولم يعجز إبليس بأن يقول له: أى رب، وأى فضل له علىّ وأنا خلقتنى بقدرتك كما خلقته؟ ولم يعدل إبليس عن هذا الجواب إلى أن يقول: أنا خير منه؛ لأنه خلقه من نار وخلق آدم من طين، فعدول إبليس عن هذا الاحتجاج مع وضوحه دليل على أن آدم خصه الله تعالى من خلقه بيديه بما لم يخص به إبليس. وكيف يسوغ للقدرية القول بأن اليد هنا القدرة مع نفيهم للقدرة؟ وظاهر الآية مع هذا يقتضى يدين، فينبغى على الظاهر إثبات قدرتين، وذلك خلاف لأمة. ولا يجوز أن يكون المراد باليدين نعمتين لاستحالة خلق المخلوق بمخلوق مثله؛ لأن النعم مخلوقة كلها وإذا استحال كونهما جارحتين، وكونهما نعمتين، وكونهما قدرتين ثبت أنهما يدان صفتان لا كالأيدى والجوارح المعروفة عندنا، اختص آدم بأن خلقه بهما من بين سائر خلقه تكريمًا له وتشريفًا. وفى هذا الحديث دليل على إثبات شفاعة النبى (صلى الله عليه وسلم) لأهل الكبائر من أمته خلافًا لقول من أنكرها من المعتزلة والقدرية والخوارج، وهذا الحديث فى غاية الصحة والقوة تلقاه المسلمون بالقبول إلى أن حدث أهل العناد والرد لسنن الرسول، وفى كتاب الله تعالى ما يدل على صحة الشفاعة قوله تعالى إخبارًا عن الكفار؛ إذ قيل لهم: (مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) [المدثر: 42 - 47] ، فأخبروا عن أنفسهم بالعلل التى من أجلها سلكوا فى سقر، ثم قال تعالى: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر: 48] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 437 زجرًا لأمثالهم من الكافرين وترغيبًا للمؤمنين فى الإيمان لتحصل لهم به شفاعة الشافعين، وهذا دليل قاطع على ثبوت الشفاعة. فإن عارض الشفاعة معارض بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من قتل نفسه بحديدة عذب بها فى نار جهنم خالدًا، ومن تحسى سمًا. .) الحديث. قيل له: يمكن الجمع بين هذا الحديث، وحديث الشفاعة بوجوه صحاح: فيجوز أن يكون فيمن قتل نفسه وأنفذ الله عليه الوعيد بأن خلده فى النار مدة أكثر من مدة من خرج بالشفاعة، ثم خرج من النار بعد ذلك مدة بشفاعة النبى (صلى الله عليه وسلم) بما فى قلبه من الإيمان المنافى للكفر؛ لأن الخلود الأبدى الدائم إنما يكون فى الكفار الجاحدين وما جاء فى كتاب الله من ذكر الخلود للمؤمنين كقوله تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا) [النساء: 93] ، فإنما يراد بالتخليد تطويل المدة عليه فى العذاب ولا يقتضى التأبيد كما يقتضى خلود الكافرين، ويحتمل أن يكون تأويل الحديث من قتل نفسه على وجه الاستحلال والردة فجزاؤه ما ذكر فى الحديث؛ لأن فاعل ذلك كافر لا محالة، ويشهد لهذا ما قاله قبيصة فى البخارى فى تأويل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فسحقًا سحقًا) . قال: هو من المرتدين. وقد سلمت طائفة من المعتزلة شفاعة الرسول على الأمة لها ولشهادة ظواهر كتاب الله لها، فقالوا: تجوز شفاعته (صلى الله عليه وسلم) للتائب من الكبائر، ولمن أتى صغيرة مع اجتنابه الكبائر أو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 438 مؤمن لا ذنب له لتائب، وهذا كله فاسد على أصولهم لاعتقادهم أن الله يستحيل منه تعذيب التائب من كبيرته أو فاعل الصغائر إذا اجتنب الكبائر، أو تأخير ما استحق الذى لا ذنب له من الثواب؛ لأنه لو عذب من ذكرنا وأخر ثواب الآخر ولم يوف التائب والمجتنب للكبائر مع فعله الصغائر ثوابه على أعماله، لكان ذلك خارجًا عن الحكمة وظالمًا، وذلك من صفات المخلوقين. وإذا كان هذا أصلهم، فإثباتهم الشفاعة على هذا الوجه لا معنى له فبطل قولهم ولزمهم الشفاعة على الوجه الذى تقول به أهل السنة والحق، وهذا بين والحمد لله. وذكر الأنبياء (صلى الله عليه وسلم) فى حديث الشفاعة لخطاياهم، فإن الناس اختلفوا هل يجوز وقوع الذنوب منهم؟ فأجمعت الأمة على أنهم معصومون فى الرسالة، وأنه لا تقع منهم الكبائر، واختلفوا فى جواز الصغائر عليهم فأطبقت المعتزلة والخوارج على أنه لا يجوز وقوعها منهم، وزعموا أن الرسل لا يجوز أن تقع منهم ما ينفر الناس عنهم وأنهم معصومون من ذلك. وهذا باطل لقيام الدليل مع التنزيل وحديث الرسول: (أنه ليس كل ذنب كفرًا) . وقولهم: إن البارى تجب عليه عصمة الأنبياء، عليهم السلام، من الذنوب فلا ينفر الناس عنهم بمواقعهم لها هو فاسد بخلاف القرآن له، وذلك أن الله تعالى قد أنزل كتابه وفيه متشابه مع سابق علمه أنه سيكون ذلك سببًا لكفر قوم، فقال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) [آل عمران: 7] ، وقال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 439 تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ) [النحل: 101] فكان التبديل الذى هو النسخ سببًا لكفرهم كما كان إنزاله متشابهًا سببًا لكفرهم، وقال أهل السنة: جائز وقوع الصغائر من الأنبياء، واحتجوا بقوله تعالى مخاطبًا لرسوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) [الفتح: 2] فأضاف إليه الذنب، وقد ذكر الله فى كتابه ذنوب الأنبياء فقال تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) [طه: 121] ، وقال نوح لربه: (إِنَّ ابُنِى مِنْ أَهْلِى) [هود: 45] ، فسأله أن ينجيه، وقد كان تقدم إليه تعالى فقال: (وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ) [هود: 37] ، وقال إبراهيم: (وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء: 82] ، وفى كتاب الله تعالى من ذكر خطايا الأنبياء ما لا خفاء به، وقد تقدم الاحتجاج فى هذه المسألة فى كتاب الدعاء فى باب قول النبى: (أللهم اغفر لى ما تقدم وتأخر) ما لم أذكره هاهنا. فإن قال قائل: ما معنى قول آدم: ولكن ائتوا نوحًا؛ فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. وقد تقدم آدم قبله؟ فالجواب: أن آدم لم يكن رسولا؛ لأن الرسول يقتضى مرسلا إليه فى وقت الإرسال وهو أهبط إلى الأرض وليس فيها أحد. فإن قيل: لما تناسل منه ولده وجب أن يكون رسولا إليهم؟ قيل: إنما أهبط (صلى الله عليه وسلم) إلى الأرض وقد علمه الله أمر دينه وما يلزمه من طاعة ربه فلما حدث ولده بعده حملهم على دينه، وما هو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 440 عليه من شريعة ربه، كما أن الواحد منا إذا ولد له ولد يحمله على سنته وطريقته، ولا يستحق بذلك أن يسمى رسولا، وإنما سمى نوح رسولا؛ لأنه بعث إلى قوم كفار ليدعهم إلى الإيمان. وأما حديث الإصبع فإنه لما لم تصح أن تكون جارحة لما قدمنا من إبطال التجسيم فتأويله ما قال أبو الحسن الأشعرى: من أن هذا وشبهه مما أثبته الرسول لله ووصفه به راجع إلى أنه صفة ذات لا يجوز تحديدها ولا تكييفها. وقال أبو بكر بن فورك: يجوز أن يكون الإصبع خلقًا لله يخلقه يحمله ما حملت الإصبع، ويحتمل أن يكون المراد بالإصبع: إذا أراد الإخبار عن جريان قدرته عليه فذكر معظم المخلوقات، وأخبر عن قدرة الله على جميعها معظمًا لشأن الرب تعالى فى قدرته وسلطانه، فضحك رسول الله كالمتعجب منه أنه يستعظم ذلك فى قدرته، وأنه ليسير فى جنب ما يقدر عليه، ولذلك قرأ عليه قوله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام: 91] ، أى ليس قدره فى القدرة على ما يخلق على الحد الذى ينتهى إليه الوهم ويحيط به الحد والحصر؛ لأنه تعالى يقدر على إمساك جميع مخلوقاته على غير شىء كما هى اليوم، لقوله تعالى: (رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) [الرعد: 2] . وقوله: (لا يغيضها) أى: لا ينقصها. وقال أبو زيد: غاض ثمن السلعة أى: نقص، ومنه قوله تعالى: (وَغِيضَ الْمَاء) [هود: 44] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 441 وقوله: سحاء. يقال: سح المطر والدمع وغيرهما سحوحًا وسحا: انصب وسال. - بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا أحد أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ / 44 - فيه: الْمُغِيرَةِ، قَالَ: قَالَ سَعْد: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلا مَعَ امْرَأَتِى لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، وَاللَّهِ لأنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّى، وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ، وَلا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللَّهُ الْجَنَّةَ) . وَقَالَ عُبَيْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِالْمَلِكِ: (لا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ) . اختلفت ألفاظ هذا الحديث فروى ابن مسعود، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (لا أحد أغير من الله) ذكره فى آخر كتاب النكاح، وفى رواية عبيد الله، ورواية ابن مسعود مبينة أن لفظ الشخص موضوع موضع أحد على أنه من باب المستثنى من غير جنسه وصفته كقوله تعالى: (مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ) [النساء: 157] ، وليس الظن من نوع العلم بوجه، وأجمعت الأمة على أن الله لا يجوز أن يوصف بأنه شخص؛ لأن التوقيف لم يرد به، وقد منعت المجسمة من إطلاق الشخص عليه مع قولهم: إنه جسم. وأحد لفظ موضوع للأشتراك بين الله تعالى وبين خلقه، وقد نص الله على تسمية نفسه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 442 فقال: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1] ، وقد تقدم فى كتاب النكاح فى باب الغيرة، معنى الغيرة من الله أنها معنى: الزجر عن الفواحش والتحريم لها، ومعنى الحديث: أن الأشخاص الموصوفة بالغيرة لا تبلغ غيرتها غيرة الله وإن لم يكن شخصًا. وقوله: (لا أحد أحب إليه المدحة من الله) فالمحبة من الله تعالى للمدحة: إرادته من عباده طاعته وتنزيهه والثناء عليه؛ ليجازيهم على ذلك. وقوله: (لا أحد أحب إليه العذر من الله) فمعناه ما ذكر فى قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) [الشورى: 25] ، فالعذر فى هذا الحديث: التوبة والإنابة. - باب قوله: (قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ) [الأنعام: 19] فَسَمَّى اللَّهُ نَفْسَهُ شَيْئًا، وَسَمَّى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، الْقُرْآنَ شَيْئًا، وَهُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَقَالَ: (كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ) [القصص: 88] . / 45 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِرَجُلٍ: (أَمَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَىْءٌ) ؟ قَالَ: نَعَمْ سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا، لِسُوَرٍ سَمَّاهَا. قال عبد العزيز صاحب كتاب الحيدة: إنما سمى الله نفسه شيئًا إثباتًا للوجود ونفيًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 443 للعدم، وكذلك أجرى على كلامه ما أجراه على نفسه فلم يتسم بالشئ ولم يجعل الشىء من أسمائه، ولكنه دل على نفسه أنه شىء أكبر الأشياء، إثباتًا للوجود ونفيًا للعدم، وتكذيبًا للزنادقة والدهرية ومن أنكر ربوبيته من سائر الأمم فقال لنبيه (صلى الله عليه وسلم) : (قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ) [الأنعام: 19] ، فدل على نفسه أنه شىء لا كالأشياء لعلمه السابق أن جهمًا وبشرًا ومن وافقهما سيلحدون فى أسمائه ويشبهون على خلقه ويدخلونه وكلامه فى الأشياء المخلوقة فقال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ) [الشورى: 11] ، فأخرج نفسه وكلامه وصفاته عن الأشياء المخلوقة بهذا الخبر تكذيبًا لمن ألحد فى كتابه، وشبهه بخلقه. ثم عدد أسماءه فى كتابه فلم يتسم بالشىء، ولم يجعله من أسمائه فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لله تسعة وتسعون اسمًا) ثم ذكر كلامه كما ذكر نفسه ودل عليه بما دل على نفسه ليعلم الخلق أنه صفة من صفات ذاته فقال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَىْءٍ) [الأنعام: 91] ، فذم الله اليهود حين نفت أن تكون التوراة شيئًا، وقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ) [الأنعام: 93] ، فدل أن الوحى شىء بالمعنى، والذم لمن جحد أن كلامه شىء، فكل صفة من صفاته باسم الشىء، وإنما أظهره باسم الهدى والنور والكتاب، ولم يقل من أنزل الشىء الذى جاء به موسى. قال غيره: وتسمية الله نفسه بشىء، يرد قول من زعم من أهل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 444 البدع لا يجوز أن يسمى الله بشىء وهو قول الناشىء ونظراته، وقولهم خلاف ما نص الله عليه فى كتابه وهو القائل: شىء إثبات موجود، ولا شىء نفى. فبان أن المعدوم ليس بشىء خلافًا لقول المعتزلة من أن المعدمات أشياء وأعيان على ما تكون عليه فى الوجود، وهذا قول يقتضى بقائله إلى قدم العالم ونفى الحدث والمحدث؛ لأن المعدومات إذا كانت على ما تكون عليه فى الوجود أعيانًا لم تكن لقدرة الله على خلقها وحدثها تعلق، وهذا كفر ممن قال به. - باب) وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) [هود: 7] ) وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [التوبة: 129] قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: (اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) [البقرة: 29] : ارْتَفَعَ،) فَسَوَّاهُنَّ (. خَلَقَهُنَّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (اسْتَوَى (عَلا عَلَى الْعَرْشِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (الْمَجِيدُ (الْكَرِيمُ، وَ) الْوَدُودُ) [البروج: 14] الْحَبِيبُ، يُقَالُ: (حَمِيدٌ مَجِيدٌ) [هود: 73] كَأَنَّهُ فَعِيلٌ مِنْ مَاجِدٍ مَحْمُودٌ مِنْ حَمِدَ. / 46 - فيه: عِمْرَان، قَالَ: إِنِّى عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ بَنِى تَمِيمٍ، فَقَالَ: (اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِى تَمِيمٍ) ، قَالُوا: بَشَّرْتَنَا، فَأَعْطِنَا، فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: (اقْبَلُوا الْبُشْرَى، يَا أَهْلَ الْيَمَنِ) ، إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ، قَالُوا: قَبِلْنَا جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِى الدِّينِ، وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الأمْرِ مَا كَانَ؟ قَالَ: (كَانَ اللَّهُ، وَلَمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 445 يَكُنْ شَىْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ، وَكَتَبَ فِى الذِّكْرِ كُلَّ شَىْءٍ) . / 47 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَمِينَ اللَّهِ مَلأى. . .) الحديث (وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ. . .) الحديث. / 48 - وفيه: أَنَس، جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو، فَجَعَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (اتَّقِ اللَّهَ، وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) ، وَكَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) تَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ، وَزَوَّجَنِى اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ. / 49 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِى سَبَقَتْ غَضَبِى) . / 50 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، هَاجَرَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ جَلَسَ فِى أَرْضِهِ الَّتِى وُلِدَ فِيهَا) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلا نُنَبِّئُ النَّاسَ بِذَلِكَ، قَالَ: (إِنَّ فِى الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِى سَبِيلِهِ، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ) . / 51 - وفيه: أَبُو ذَرّ، دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَالنَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) جَالِسٌ، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، قَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ تَدْرِى أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ) ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (إِنَّهَا تَذْهَبُ تَسْتَأْذِنُ فِى السُّجُودِ، يُؤْذَنُ لَهَا، وَكَأَنَّهَا قَدْ قِيلَ لَهَا: ارْجِعِى مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا) ، ثُمَّ قَرَأَ: (ذَلِكَ مُسْتَقَرٌّ لَهَا (فِى قِرَاءةِ عَبْدِاللَّهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 446 / 52 - وفيه: زَيْد، أَرْسَلَ إِلَىَّ أَبُو بَكْرٍ، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ خُزَيْمَةَ، أَوْ أَبِى خُزَيْمَةَ الأنْصَارِىِّ، لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة: 128] حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةٌ، يعنِى) وَهُو رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (. / 53 - وفيه: ابْن عَبَّاس، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَلِيمُ الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ، وَرَبُّ الأرْضِ، رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) . / 54 - وفيه: أَبُو سَعِيد، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (النَّاسُ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ) . / 55 - وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ) . غرضه فى هذا الباب إثبات حديث العرش بدليل قوله تعالى: (وَهُو رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [التوبة: 129] ، وبدليل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش) فوصفه تعالى بأنه مربوب كسائر المخلوقات ووصفه (صلى الله عليه وسلم) بأنه ذو أبعاض وأجزاء منها ما سمى قائمة، والمتبعض والمتجزئ لا محالة جسم، والجسم مخلوق، لقيام دلائل الحدث به من التأليف خلافًا لما تقوله الفلاسفة أن العرش هو الصانع الخالق. وأما الاستواء فاختلف الناس فى معناه: فقالت المعتزلة: إنه بمعنى الاستيلاء والقهر والغلبة، واحتجوا بقول الشاعر: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 447 قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق بمعنى: قهر وغلب، ثم اختلف من سواهم فى العبارة عن الاستواء. فقال أبو العالية: استوى: ارتفع. وقال مجاهد: استوى: علا. وقال غيرهما: استوى: استقر. فأما قول من جعل الاستواء بمعنى القهر والاستيلاء فقول فاسد؛ لأن الله تعالى لم يزل قاهرًا غالبًا مستوليًا. وقوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى (يقتضى استفتاح هذا الوصف واستحقاقه بعد أن لم يكن، كما أن المذكور فى البيت إنما حصل له هذا الوصف بعد أن لم يكن، وتشبيههم أحد الاستواءين بالآخر غير صحيح، ومؤد إلى أنه تعالى كان مغالبًا فى ملكه، وهذا منتف عن الله؛ لأن الله تعالى هو الغالب لجميع خلقه، وأما من قال تأويله: استقر. فقول فاسد أيضًا؛ لأن الاستقرار من صفات الأجسام، وأما قول من قال: تأويله: ارتفع. فنقول مرغوب عنه لما فى ظاهره من إيهام الانتقال من سفل إلى علو، وذلك لا يليق بالله، وأما قول من قال: علا. فهو صحيح وهو مذهب أهل السنة والحق. فإن قيل: ما ألزمته فى ارتفع مثله يلزم فى علا. قيل: الفرق بينهما أن الله وصف نفسه بالعلو بقوله: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [يونس: 18] ، فوصف نفسه بالتعالى والتعالى من صفات الذات، ولم يصف نفسه بالارتفاع. وقال غيره: الاستواء ينصرف فى لسان العرب إلى ثلاثة أوجه: فالوجه الأول: قوله تعالى فى ركوب الأنعام: (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 448 اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) [الزخرف: 13] ، فهذا الاستواء بمعنى الحلول، وهو منتف عن الله تعالى لأن الحلول يدل على التحديد والتناهى، فبطل أن يكون حلاً على العرش لهذا الوجه. والوجه الثانى: الاستواء بمعنى الملك للشىء والقدرة عليه كما قال بعض الأعراب، وسئل عن الاستواء فقال: خضع له ما فى السموات وما فى الأرض، ودان له كل شىء وذل، كما نقول للملك إذا دانت له البلاد بالطاعة: قد استوت له البلاد. والوجه الثالث: الاستواء بمعنى التمام للشىء والفراغ منه كقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ) [الأحقاف: 15] ، فالاستواء فى هذا الموضع: التمام، كقوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5] ، أراد التمام للخلق كله، وإنما قصد بذكر العرش؛ لأنه أعظم الأشياء، ولا يدل قوله تعالى: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء) [هود: 7] أنه حال عليه، وإنما أخبر عن العرش خاصة أنه على الماء ولم يخبر عن نفسه أنه جعله للحلول، لأن هذا كان يكون حاجة منه إليه، وإنما جعله ليعبد به ملائكته فقال تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) [غافر: 7] الآية. وكذلك تعبد الخلق بحج بيته الحرام ولم يسمه بيته، بمعنى أنه سكنه وإنما سماه بيته بأنه الخالق له والمالك، وكذلك العرش سماه عرشه؛ لأنه مالكه والله تعالى ليس لأوليته حد ولا منتهى، وقد كان فى أزليته وحده ولا عرش معه سبحانه وتعالى، ثم اختلف أهل السنة: هل الاستواء صفة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 449 ذات أو صفة فعل؟ فمن قال هو بمعنى علا جعله صفة ذات، وأن الله تعالى لم يزل مستويًا بمعنى أنه لم يزل عاليًا. ومن قال: إنه صفة فعل قال: إن الله تعالى فعل فعلاً سماه استواء على عرشه لا أن ذلك الفعل قائم بذاته تعالى لاستحالة قيام الحوادث به. وأما قول بنى تميم للنبى (صلى الله عليه وسلم) : (بشرتنا فأعطنا) فإنما قالوه جريًا على عاداتهم فى أن البشرى إنما كانت تستعمل فى فوائد الدنيا. قال المهلب: وفى حديث عمران أن السؤال عن مبادئ الأشياء والبحث عنها جائز فى الشريعة وجائز للعالم أن يجيب السائل عنها بما انتهى إليه علمه فيها إذا كان تثبيتًا للإيمان وأما إن خشى من السائل إيهام شك أو تقصير فهم، فلا يجيب فيه ولينهه عن ذلك، ويزجره. وقول عمران: (وددت أن ناقتى ذهبت) ، ولم أقم فيه دليل على جواز إضاعة المال فى طلب العلم بل فى مسألة منه. قال غيره: وأما قوله: (يمين الله ملأى) ففيه إثبات اليمين صفة ذات الله تعالى لا صفة فعل، وليست بجارحة لما تقدم قبل هذا. وقوله: (ملأى) ليس حلول المال فيها؛ لأن ذلك من صفات الأجسام وإنما هو إخبار منه (صلى الله عليه وسلم) عن أن ما يقدر عليه من النعم وإرزاق عباده لا غاية له ولا نفاذ، لقيام الديل على تعلق وجوب قدرته بما لا نهاية له من مقدوراته؛ لأنه لو تعلقت قدرته متناهية لكان ذلك نقصًا لا يليق به. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 450 وأما قوله: (فإن حقًا على الله أن يدخله الجنة) ففيه تعلق للمعتزلة والقدرية القائلين بأن واجب عليه الوفاء لعبده الطائع بأجر عمله، وأنه لو أخره عنه فى الآخرة كان ظلمًا له. هذا متقرر عندهم فى العقول، قالوا: وجاءت السنة بتأكيد ما فى العقول من ذلك. وقولهم فاسد، ومذهب أهل السنة أن لله تعالى أن يعذب الطائعين من عباده وينعم على الكافرين، غير أن الله تعالى أخبرنا فى كتابه وعلى لسان رسوله أنه لا يعذب إلا من كفر به، ومن وافاه بكبيرة ممن شاء لله تعذيبه عليها. فمعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن حقًا على الله أن يدخلها الجنة) . ليس على أن معنى ذلك واجب عليه؛ لأن واجبًا يقتضى موجبًا له عليه والله تعالى ليس فوقه آمر ولا ناه يوجب عليه ما يلزمه المطالبة به، وإنما معناه: إنجاز ما وعد به من فعل ما ذكر فى الحديث؛ لأن وعده تعالى عبده على فعل تقدم إعلامه قبل فعله، ووعده خبر ولا يصح منه تعالى إخلاف عبده ما وعده لقيام الدليل على أن الصدق من صفات ذاته، فعبر (صلى الله عليه وسلم) فى هذا المعنى بقوله: (فإن حقا على الله أن يدخله الجنة) بمعنى: أنه يستحيل عليه إخلاف ما وعد عبده على عمله. وأما استئذان الشمس فى السجود، فالاستئذان قول لها، والله على كل شىء قدير، فيمكن أن يخلق الله فيها حياة توجد القول عندها فتقبل الأمر والنهى؛ لأن الله قادر على إحياء الجماد والموت، وأعلم (صلى الله عليه وسلم) أن طلوعها من مغربها شرط من أشراط الساعة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 451 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) [المعارج: 4] وَقَوْلِهِ: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر: 10] وَقَالَ ابْن عَبَّاس: بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ لأخِيهِ: اعْلَمْ لِى عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِى يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (الْعَمَلُ الصَّالِحُ (يَرْفَعُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ، يُقَالُ: (ذِى الْمَعَارِجِ (: الْمَلائِكَةُ تَعْرُجُ إِلَى اللَّهِ. / 56 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِى صَلاةِ الْعَصْرِ، وَصَلاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ، كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِى؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ) . / 57 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلا الطَّيِّبُ. . .) الحديث. / 58 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَدْعُو بِهِنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) . / 59 - وفيه: أَبُو سَعِيد، بَعَثَ عَلِىٌّ إِلَى النَّبِيِّ - عليه السلام - من الْيَمَن بِذُهَيْبَةٍ فِى تُرْبَتِهَا، فَقَسَمَهَا بَيْنَ أربعة، فَتَغَيَّظَتْ قُرَيْشٌ وَالأنْصَارُ، وَقَالُوا: يُعْطِيهِ صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ، وَيَدَعُنَا، قَالَ: إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الْجَبِينِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اتَّقِ اللَّهَ، فَقَالَ: (فَمَنْ يُطِيعُ اللَّهَ إِذَا عَصَيْتُهُ، فَيَأْمَنُنِى عَلَى أَهْلِ الأرْضِ، وَلا تَأْمَنُونِي. . .) الحديث. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 452 / 60 - وفيه: أَبُو ذَرّ، سَأَلْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) [يس: 38] قَالَ: (مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ) . غرضه فى هذا الباب رد شبهة الجهمية المجسمة فى تعلقها بظاهر قوله: (ذِى الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) [المعارج: 3، 4] ، وقوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر: 10] ، وما تضمنته أحاديث الباب من هذا المعنى، وقد تقدم الكلام فى الرد عليهم وهو أن الدلائل الواضحة قد قامت على أن البارى تعالى ليس بجسم ولا محتاجًا إلى مكان يحله ويستقر فيه؛ لأنه تعالى قد كان ولا مكان وهو على ما كان، ثم خلق المكان فمحال كونه غنيا عن المكان قبل خلقه إياه، ثم يحتاج إليه بعد خلقه له هذا مستحيل، فلا حجة لهم فى قوله: (ذِى الْمَعَارِجِ (لأنه إنما أضاف المعارج إليه إضافة فعل، وقد كان لا فعل له موجود، وقد قال ابن عباس فى قوله: (ذِى الْمَعَارِجِ (هو بمعنى: العلو والرفعة، وكذلك لا شبهة لهم فى قوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر: 10] ، لأن صعود الكلم إلى الله تعالى لا يقتضى كونه فى جهة العلو لأن البارى تعالى لا تحويه جهة؛ إذ كان موجودًا ولا جهة، وإذا صح ذلك وجب صرف هذا عن ظاهره وإجراؤه على المجاز؛ لبطلان إجرائه على الحقيقة، فوجب أن يكون تأويل قوله: (ذِى الْمَعَارِجِ (رفعته واعتلاؤه على خليقته وتنزيهه عن الكون فى جهة؛ لأن فى ذلك ما يوجب كونه جسمًا تعالى الله عن ذلك، وأما وصف الكلام بالصعود إليه فمجاز أيضًا واتساع؛ لأن الكلم عرض والعرض لا يصح أن يفعل؛ لأن من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 453 شرط الفاعل كونه حيًا قادرًا عالمًا مريدًا، فوجب صرف الصعود المضاف إلى الكلم إلى الملائكة الصاعدين به. - بَاب قَول تَعَالَى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 22، 23] / 61 - فيه: جَرِير، كُنَّا عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لا تُضَامُونَ فِى رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاةٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَافْعَلُوا) . وَقَالَ جَرِير مرة: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا) . / 62 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ النَّبِىّ - عليه السلام -: (هَلْ تُضَارُّونَ فِى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ) . قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ قَالَ: (فَهَلْ تُضَارُّونَ فِى الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ) ؟ قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ، الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأمَّةُ فِيهَا شَافِعُوهَا، أَوْ مُنَافِقُوهَا، شَكَّ إِبْرَاهِيمُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا، حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَنَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِى صُورَتِهِ الَّتِى يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَتْبَعُونَهُ وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَىْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِى أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُهَا، وَلا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلا الرُّسُلُ، وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ، سَلِّمْ، وَفِى جَهَنَّمَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 454 كَلالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمُ السَّعْدَانَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ لا يَعْلَمُ مَا قَدْرُ عِظَمِهَا إِلا اللَّهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمُ الْمُوبَقُ بَقِىَ بِعَمَلِهِ، أَوِ الْمُوثَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمُ الْمُخَرْدَلُ، أَوِ الْمُجَازَى، أَوْ نَحْوُهُ، ثُمَّ يَتَجَلَّى حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَمَرَ الْمَلائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْحَمَهُ مِمَّنْ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَيَعْرِفُونَهُمْ فِى النَّارِ بِأَثَرِ السُّجُودِ، تَأْكُلُ النَّارُ ابْنَ آدَمَ إِلا أَثَرَ السُّجُودِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ، أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتُحِشُوا، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ تَحْتَهُ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِى حَمِيلِ السَّيْلِ، ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَيَبْقَى رَجُلٌ مِنْهُمْ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ هُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَىْ رَبِّ، اصْرِفْ وَجْهِى عَنِ النَّارِ، فَإِنَّهُ قَدْ قَشَبَنِى رِيحُهَا، وَأَحْرَقَنِى ذَكَاؤُهَا، فَيَدْعُو اللَّهَ بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ هَلْ عَسَيْتَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ: ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَنِى غَيْرَهُ، فَيَقُولُ: لا وَعِزَّتِكَ، لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، وَيُعْطِى رَبَّهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ مَا شَاءَ، فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْجَنَّةِ، وَرَآهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَىْ رَبِّ، قَدِّمْنِى إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ، لَهُ: أَلَسْتَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ أَنْ لا تَسْأَلَنِى غَيْرَ الَّذِى أُعْطِيتَ أَبَدًا، وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، مَا أَغْدَرَكَ، فَيَقُولُ: أَىْ رَبِّ، وَيَدْعُو اللَّهَ حَتَّى يَقُولَ: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لا وَعِزَّتِكَ، لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، وَيُعْطِى مَا شَاءَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا قَامَ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 455 انْفَهَقَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، فَرَأَى مَا فِيهَا مِنَ الْحَبْرَةِ وَالسُّرُورِ، فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَىْ رَبِّ، أَدْخِلْنِى الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: أَلَسْتَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ: أَنْ لا تَسْأَلَ غَيْرَ مَا أُعْطِيتَ؟ فَيَقُولُ: وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، مَا أَغْدَرَكَ، فَيَقُولُ: أَىْ رَبِّ، لا أَكُونَنَّ أَشْقَى خَلْقِكَ، فَلا يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ اللَّهُ مِنْهُ، فَإِذَا ضَحِكَ مِنْهُ، قَالَ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَإِذَا دَخَلَهَا، قَالَ اللَّهُ لَهُ: تَمَنَّهْ، فَسَأَلَ رَبَّهُ وَتَمَنَّى حَتَّى إِنَّ اللَّهَ لَيُذَكِّرُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا حَتَّى انْقَطَعَتْ بِهِ الأمَانِىُّ، قَالَ اللَّهُ: ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ) . مَعَهُ قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ، مَعَ أَبِى هُرَيْرَةَ لا يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِهِ شَيْئًا حَتَّى إِذَا حَدَّثَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ، يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا حَفِظْتُ إِلا قَوْلَهُ ذَلِكَ: لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ، أَشْهَدُ أَنِّى حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَوْلَهُ: ذَلِكَ، لَكَ وَعَشَرَةُ، أَمْثَالِهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولا الْجَنَّةَ. / 63 - وفيه: ابْن عَبَّاس، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا تَهَجَّدَ مِنَ اللَّيْلِ، قَالَ: (اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ) ، إلى قوله: (أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقُّ. . .) الحديث. / 64 - وفيه: عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، وَلا حِجَابٌ يَحْجُبُهُ) . / 65 - وفيه: أَبُو سَعِيد، مثل حديث أبى هريرة الطويل، إلى قوله: فِيَذْهَبْ أَصْحَابُ كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ، حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، وَغُبَّرَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأَنَّهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 456 سَرَابٌ، فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ: فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِى جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّصَارَى: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِى جَهَنَّمَ، حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا يَحْبِسُكُمْ: وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ، فَيَقُولُونَ: فَارَقْنَاهُمْ، وَنَحْنُ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ الْيَوْمَ، وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى: لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا، قَالَ: فَيَأْتِيهِمُ الْجَبَّارُ فِى صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِى رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَلا يُكَلِّمُهُ إِلا الأنْبِيَاءُ، فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ؟ فَيَقُولُونَ: السَّاقُ، فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ، فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ، فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَىْ جَهَنَّمَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْجَسْرُ؟ قَالَ: مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ، وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ تَكُونُ بِنَجْدٍ، يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ، الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ وَمَكْدُوسٌ فِى نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ، يُسْحَبُ سَحْبًا، فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ لِى مُنَاشَدَةً فِى الْحَقِّ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ، وَإِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا فِى إِخْوَانِهِمْ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، وَيُحَرِّمُ اللَّهُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 457 غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ وَإِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِى فَاقْرَءُوا: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا) [النساء: 40] فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالْمَلائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَيَقُولُ الْجَبَّارُ: بَقِيَتْ شَفَاعَتِى فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ أَقْوَامًا قَدِ امْتُحِشُوا، فَيُلْقَوْنَ فِى نَهَرٍ، بِأَفْوَاهِ الْجَنَّةِ، يُقَالُ لَهُ: مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ فِى حَافَتَيْهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِى حَمِيلِ السَّيْلِ قَدْ رَأَيْتُمُوهَا إِلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ وَإِلَى جَانِبِ الشَّجَرَةِ، فَمَا كَانَ إِلَى الشَّمْسِ مِنْهَا كَانَ أَخْضَرَ، وَمَا كَانَ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ كَانَ أَبْيَضَ، فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ اللُّؤْلُؤُ، فَيُجْعَلُ فِى رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِيمُ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ، أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلَهُ مَعَهُ) . / 66 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يُحشر النَّاس يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُهِمُّوا بِذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ. . .) فذكر حديث الشفاعة، (فَيَأْتُونِى، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى فِى دَارِهِ، فَيُؤْذَنُ لِى عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا. . .) ، الحديث، (فأَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِى حَدًّا، فَأُخْرِجُهُمْ، وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، فلا يَبْقَى فِى النَّارِ إِلا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، أَىْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ) ، ثُمَّ تَلا: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 458 ) عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) [الإسراء: 79] ، قَالَ: وَهَذَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي وُعِدَهُ نَبِيُّكُمْ. / 67 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِيّ - عليه السلام - أَرْسَلَ إِلَى الأنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِى قُبَّةٍ، وَقَالَ لَهُمُ: (اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنِّى عَلَى الْحَوْضِ) . / 68 - وفيه: أَبُو مُوسَى قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ كذلك، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلا رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِى جَنَّةِ عَدْنٍ) . / 69 - وفيه: عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ لَقِىَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، ثُمَّ قَرَأَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ (الآيَةَ [آل عمران: 77] ) . / 70 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ، لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى، وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ؛ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ، فَيَقُولُ اللَّهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِى، كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ) . / 71 - وفيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (إن الزَّمَانُ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ) ، الحديث (وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 459 قال المؤلف: استدل البخارى بقوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 22، 23] ، وبأحاديث هذا الباب على أن المؤمنين يرون ربهم فى جنات النعيم وهذا باب اختلف الناس فيه، فذهب أهل السنة وجمهور الأمة إلى جواز رؤية الله تعالى فى الآخرة، ومنعت من ذلك الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة واستدلوا على ذلك بأن الرؤية توجب كون المرئى محدثًا وحالا فى مكان فى شبه أخر نقض بعضها مغن عن نقض سائرها وزعموا أن قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (بمعنى منتظرة. فيقال لهم: هذا جهل بموضع اللغة؛ لأن النظر فى كلام العرب ينقسم أربعة أقسام: يكون بمعنى الانتظار، ويكون بمعنى التفكر والاعتبار، ويكون بمعنى التعطف والرحمة، ويكون بمعنى الرؤية للأبصار؛ فخطأ كونه فى الآية بمعنى الانتظار من وجهين: أحدهما أنه قد عدى إلى مفعوله (بإلى) وهو إذا كان بمعنى الانتظار لا يتعدى بها، وإنما يتعدى بنفسه قال تعالى: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ) [الزخرف: 66] فعداه بنفسه لما كان بمعنى ينتظرون. قال الشاعر: فإنكما إن تنظرانى ساعة من الدهر تنفعنى أرى أم جندب بمعنى: تنتظرانى. والوجه الثانى: أن حمله على معنى الانتظار لا يخلو إما أن يراد به منتظرة ربها أو منتظرة ثوابه، وعلى أى الوجهين حُمل فهو خطأ؛ لأن المنتظر لما ينتظره فى تنغيص وتكدير، والله تعالى قد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 460 وصف أهل الجنة بغير ذلك وأن لهم فيها ما يشاءون. فبطل كون النظر فى الآية بمعنى الاعتبار والتفكر؛ لأن الآخرة ليست بدار اعتبار وتفكر؛ إذ ليست بدار محنة وعبادة؛ ولأن ذاته تعالى ليست مما يعتبر بها؛ فبطل قولهم. ويبطل كون النظر فى الآية بمعنى التعطف والرحمة؛ لأن ذاته تعالى ليست مما يتعطف عليها وترحم. فإذا بطلت هذه الأقسام الثلاثة؛ صح القسم الرابع وهو النظر إلى ربها بمعنى الرؤية بالأبصار له تعالى، وهو ما ذهب إليه جمهور المسلمين قبل حدوث القائلين بهذه الضلالة، وشهدت له السنن الثابتة من الطرق المختلفة. وما احتج به من نفى الرؤية من أنها توجب كون المرئى محدثًا فهو فاسد؛ لقيام الدلائل على أن الله تعالى موجود وأن الرؤية منزلتها فى تعلقها بالمرئى منزلة العلم فى تعلقه بالمعلوم، فكما أن العلم المتعلق بالموجود لا يختص بموجود دون موجود، ولا توجب تعلقه به حدثه كذلك للرؤية فى تعلقها بالمرئى لا يوجب حدثه. واحتج نفاة الرؤية بقوله تعالى: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) [الأنعام: 103] ، وبقوله تعالى لموسى: (لَن تَرَانِى) [الأعراف: 143] فى جوابه سؤاله الرؤية، وهذا لا تعلق لهم فيه؛ لأن قوله: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ (وقوله: (لَن تَرَانِى (لفظ عام، وقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 22، 23] ، خاص، والخاص يقضى على العام ويبينه، فمعنى الآية لا تدركه الأبصار فى الدنيا؛ لأنه تعالى قد أشار إلى أن المراد بقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (الآخرة؛ لقوله: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 461 يومئذ، وكذلك يكون معنى قوله لموسى: (لَن تَرَانِى (فى الدنيا، ولأنه قد ثبت أن نفى الشىء لا يقتضى إحالته؛ بل قد يتناول المستحيل وجوده والجائز وجوده، فلا تعلق لهم بالآيتين مع ما يشهد لصحة الرؤية لله تعالى من الأحاديث الثابتة التى تلقاها المسلمون بالقبول من عصر الصحابة والتابعين، رضى الله عنهم أجمعين إلى حدوث المارقين المنكرين للرؤية. وأما وصفه (صلى الله عليه وسلم) لله تعالى بالإتيان بقوله: (فيأتيهم الله) . فليس على معنى الإتيان المعهود فيما بيننا الذى هو انتقال وحركة؛ لاستحالة وصفه بما توصف به الأجسام، فوجب حمله على أنه يفعل فعلا يسميه إتيانًا وصف تعالى به نفسه، ويحتمل أن يكون الإتيان المعهود فيما بيننا خلقه تعالى لغيره من ملائكة فأضافه إلى نفسه كما يقول القائل: قطع الأمير اللص، وهو لم يل ذلك بنفسه إنما أمر به. وأما وصفه تعالى بالصورة فى قوله: فيأتيهم الله فى صورته. ففيه إيهام للمجسمة أنه تعالى ذو صورة، ولا حجة لهم فيه؛ لأن الصورة هاهنا يحتمل أن تكون بمعنى العلامة وضعها الله تعالى دليلا لهم على معرفته والتفرقة بينه وبين مخلوقاته، فسمى الدليل والعلامة صورة مجازًا كما تقول العرب: صورة حديثك كيت وكيت، وصورة أمرك كذا وكذا، والحديث والأمر لا صورة لهما، وإنما يريدون حقيقة حديثك وأمرك كذا وكذا. قال المهلب: وأما قوله: (فإذا رأينا ربنا عرفناه) فإنما ذلك أن الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 462 تعالى يبعث إليهم ملكًا ليفتنهم ويختبرهم فى اعتقاد صفات ربهم الذى ليس كمثله شىء فإذا قال لهم الملك: أنا ربكم، رأوا عليه دليل الخلقة التى تشبه المخلوقات فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاءنا عرفناه. أى أنك لست ربنا، فيأتيهم الله فى صورته التى يعرفون أى يظهر إليهم فى ملك لا ينبغى لغيره وعظمة لا تشبه شيئًا من مخلوقاته، فيعرفون أن ذلك الجلال والعظمة لا تكون لغيره، فيقولون: أنت ربنا لا يشبهك شىء. فالصورة يعبر بها عن حقيقة الشئ. وأما قوله: (فيقال: هل بينكم وبينه آية تعرفونها؟ فيقولون: الساق) فهذا يدل والله أعلم أن الله عرف المؤمنين على ألسنة الرسل يوم القيامة أو على ألسنة الملائكة المتلقين لهم بالبشرى أن الله قد جعل علامة تجلبه لكم الساق وعرفهم أنه سيبتلى المكذبين بأن يرسل إليهم من يقول: أنا ربكم. فتنة لهم ويدل على ذلك قوله تعالى: (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ) [إبراهيم: 27] ، فى سؤال القبر، وفى هذا الموطن، وقال ابن عباس فى قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ) [القلم: 42] عن شدة الأمر، وروى عن عمر بن الخطاب فى قوله تعالى: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) [القيامة: 29] أى: أعمال الدنيا بمحاسبة الآخرة. وذلك أمر عظيم، والعرب تقول: قامت الحرب على ساق. إذا كانت شديدة فيظهر الله على الخلائق هذه الشدة التى لا يكون مثلها من مخلوق ليبكت بها الكافرين، وينزع عنهم قدرتهم التى كانوا يدعونها، فيعلمون حينئذ أنه الحق، فيذهبون إلى السجود مع المؤمنين لما يرون من العظمة والشدة فلا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 463 يستطيعون؛ فيثبت الله المؤمنين فيسجدون له، وذكر ابن فورك قال: روى أبو موسى الأشعرى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ (قال: عن نور عظيم قال: ومعنى ذلك ما يتجدد للمؤمنين عند رؤية الله تعالى من الفوائد والألطاف، ويظهر لهم من فضل سرائرهم التى لم يطلع عليها غيره تعالى. قال المهلب: هذا يدل على أن كشف الساق للكافرين نقمة وعذاب، وللمؤمنين نور ورحمة ونعمة، والضحك منه تعالى بخلاف ما هو فينا وهو بمعنى إظهاره لعباده لطائف وكرامة لم تكن تظهر لهم قبل ذلك، والضحك المعهود فيما بيننا هو إظهار الضاحك لمن شاهده ما لم يكن يظهر له منه قبل من كشره عن أسنانه. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا) هذا استدل به من أجاز تكليف عباده ما لا يطيقون، واحتجوا على ذلك بأن الله تعالى قد كلف أبا لهب الإيمان به مع إعلامه تعالى له أنه لا يؤمن، وأنه يموت على الكفر الذى له يصلى نارًا ذات لهب. ومنع الفقهاء من ذلك، وقالوا: لا يجوز أن يكلف الله عباده ما لا يطيقون واحتجوا بقوله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286] ، قالوا: وقدا أخبر فلا يجوز أن يقع بخلاف خبره، وقالوا: ليس فى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 464 قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ) [القلم: 42] حجة لمن خالفنا؛ لأنهم إنما يدعون إلى السجود تبكيتًا لهم؛ إذ أدخلوا أنفسهم بزعمهم فى جملة المؤمنين الساجدين فى الدنيا وعلم الله منهم الرياء فى سجودهم، فدعوا فى الآخرة إلى السجود كما دعى المؤمنون المحقون؛ فتعذر السجود عليهم وعادت ظهورهم طبقًا واحدًا، وأظهر الله عليهم نفاقهم؛ فأخزاهم وأوقع الحجة عليهم، فلا حجة فى هذه الآية لهم، ومثل هذا من التبكيت قوله تعالى للكفار: (ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ) [الحديد: 13] ، وليس فى هذا شىء من تكليف ما لا يطاق، وإنما هو خزى وتوبيخ. ومثله قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من كذب فى حلمه كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بعاقدهما) فهذه عقوبة وليس من تكليف ما لا يطاق. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون) ففيه حجة لأهل السنة فى إثباتهم الشفاعة، وقد تقدم. وقوله: (فأستأذن على ربى فى داره) فداره جنته، ولا تعلق فيه للمجسمة أنه تعالى فى مكان؛ لأن قوله: (فى داره) يحتمل أن تكون هذه الإضافة لله إضافة إلى نفسه تعالى من أفعاله، ويحتمل أن يكون قوله فى داره. راجعًا إلى النبى تأويله: فأستأذن على ربى وأنا فى داره. فالظرف والمكان هاهنا للنبى (صلى الله عليه وسلم) لا لله تعالى لقيام الدليل على استحالة حلوله فى المواضع. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 465 وقوله: (حتى تلقوا الله ورسوله فإنى على الحوض) ففيه إثبات الحوض له (صلى الله عليه وسلم) خلافًا لمنكريه من المعتزلة وغيرهم ممن يدفع أخبار الآحاد، وجمهور الأمة على خلافهم مؤمنون بالحوض على ما ثبت فى السنن الصحاح. وقوله: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان) ففيه إثبات الرؤية لله تعالى وإثبات كلامه لعباده. ورفع الحجاب بينه تعالى وبين خلقه هو تجليه لهم، وليس ذلك بمعنى الظهور والخروج من سواتر وحجب حائلة بينه وبين عباده؛ لأن ذلك من أوصاف الأجسام وهو مستحيل على الله، وإنما رفع الحجاب بمعنى إزالته الآفات من أبصار خلقه المانعة لهم من رؤيته؛ فيرونه لارتفاعها عنهم بخلق ضدها فيهم، وهو الرؤية، وبخلاف هذا وصف الله الكفار فقال: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) [المطففين: 15] ، فالحاجب هنا الآفة المانعة من رؤيته التى لو فعل تعالى ضدها فيهم لرأوه، وهى التى فعل فى المؤمنين. وقوله فى الحديث الآخر: (وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه فى جنة عدن) فلا تعلق فيه للمجسمة فى إثبات الجسم والمكان لما تقدم من استحالة كونه جسمًا أو حالا فى مكان؛ فوجب أن يكون تأويل الرداء مصروفًا إلى أن المراد به الآفة المانعة لهم من رؤيته الموجودة بأبصارهم، وذلك فعل من أفعاله تعالى يفعله فى محل رؤيتهم له بدلا من فعله الرؤية، فلا يرونه ما دام ذلك المانع لهم من رؤيته وسماه رداء مجازًا واتساعًا؛ إذ منزلته في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 466 المنع من رؤيته منزلة الرداء وسائر ما يحتجب به والله تعالى لا يليق به الحجب والستار؛ إذ ذاك من صفات الأجسام. وقوله: (على وجهه) المراد به: أن الآفة المانعة لهم من رؤية وجهه تعالى التى هى صفة من صفات ذاته كأنها على وجهه؛ لكونها فى أبصارهم ومانعة لهم من رؤيته، فعبر عن هذا المعنى بهذا اللفظ، والمراد به غير ظاهره؛ إذ يستحيل كون وجهه محجوبًا برداء أو غيره من الحجب؛ إذ ذاك من صفات الأجسام. وقوله: (فى جنة عدن) ليس بمكان له تعالى، وإنما هو راجع إلى القوم كأنه قال: وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم وهم فى جنة عدن إلا المانع المخلوق فى محل رؤيتهم له من رؤيته فلا حجة لهم فيه. وقوله فى حديث أبى سعيد: (ونحن أحوج منا إليه اليوم) . لا يخرج معناه إلا أن يكون بمعنى محتاجين، وهذا موجود فى القرآن قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ) [النحل: 125] ، بمعنى عالم، فسقط على هذا التأويل شيئًا من تقدير الكلام، ومعناه: فارقناهم: يريد من لم يعبد الله. ونحن أحوج ما كنا إليه: يعنون الله. وقوله: (فما أنتم بأشد لى مناشدة فى الحق قد تبين لكم من المؤمن يومئذ للجبار، فإذا راوا أنهم قد نجوا فى إخوانهم) يريد أن المؤمنين إذا نجوا من الصراط يناشدون الله فى إخوانهم ويشفعون فيهم فيقول الله عز وجل: (اذهبوا فمن وجدتم فى قلبه مثقال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 467 نصف دينار. . إلى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا من النار) وفى هذا إثبات شفاعة المؤمنين بعضهم لبعض. وقوله: (فى جهنم كلاليب) جمع كلوب، وهو الذى يتناول به الحداد الحديد من النار، والخطاطيف جمع خطاف، والخطاف حديدة معوجة الطرف يجذب بها الأشياء، قال النابغة: خطاطيف حجن فى حبال متينة والحسك: معروف، وهو شىء مضرس ذو شوك ينشب به كل ما مر به. وقوله: (فمنهم الموبق بعمله) يعنى: الهالك بذنوبه. يقال: أوبقت فلانًا ذنوبه أى: أهلكته. وقوله: (ومنهم المخردل) قال صاحب العين: خردلت اللحم: فصلته، وخردلت الطعام: أكلت خياره. وقال غيره: خردلته: صرعته، وهذا الوجه يوافق معنى الحديث، والجردلة بالجيم، الإشراف على السقوط والهلكة. وقوله: (امتحشوا) قال صاحب العين: المحش: إحراق الجلد، وامتحش الجلد احترق، وألسنة المحوش: اليابسة. وقال صاحب الأفعال: محشت النار الشىء محشًا: أحرقته لغة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 468 والمعروف أمحشته، وكان أبو زيد ينكر محشته، وقعد يومًا إلى أبى حنيفة فسمعه يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (يخرج من النار قوم قد محشتهم النار) . فقال أبو زيد: ليس كذلك الحديث، يرحمك الله، إنما هو: (أمحشتهم النار) فقال أبو جنيفة: من أى موضع أنت؟ قال أبو زيد: من البصرة. قال أبو حنيفة: أبالبصرة مثلك؟ قال أبو زيد: إنى لمن أخس أهلها. فقال أبو حنيفة: طوبى لبلد أنت أخس أهلها. والحبة: بزور البقل، وقد ذكرته فى كتاب الإيمان فى باب تفاضل أهل الإيمان فى الأعمال وقال أبو عبيد: وأما الحبة فكل ما ينبت له حب فاسم الحب منه الحبة. وقال الفراء: الحبة بزور البقل. وقال أبو عمرو: الحبة نبت ينبت فى الحشيش صغار. وقال الكسائى: الحبة حب الرياحين وواحد الحبة حبة. وأما الحنطة ونحوها فهو الحب لا غير. وقال الأصمعى: الحميل ما حمله السيل من كل شىء وكل محمول فهو حميل كما يقال للمقتول قتيل. وقوله: (قشبنى ريحها) تقول العرب: قشبت الشئ: قذرته وقشبت الشىء، بكسر الشين، قشبًا قذر صاحب الأفعال. وقال ابن قتيبة: قشبنى ريحها من القشب والقشب: السم كأنه قال: سمنى ريحها، ويقال لكل مسموم قشيب. وقال الخطابى: قشبه الدخان إذا مل خياشيمه وأخذ يكظمه وإن كانت ريحه طيبة، وأصل القشب خلط السم بالطعام يقال: قشبه إذا سمه وقشبتنا الدنيا فصار حبها كالسم الضار، ثم قيل على هذا قشبه الدخان والريح الذكية إذا بلغت منه الكظم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 469 وقوله: انفهقت يعنى: اتسعت وفهق الغدير فهقًا إذا امتلأ ومنه التفيهق فى القول، وهو كثرة الكلام. وغبرات: بقايا وكذلك غبر الشىء بقيته؛ وقوله: الجسر مدحضة مزلة. يقال دحضت رجله دحضًا زلفت، والدحض ما يكون عنه الزلق، ودحضت الشمس عن كبد السماء: زالت، ودحضت حجته: بطلت، والمزلة: موضع الزلل، فزلت القدم: سقطت، وقوله: مكدوس فى نار جهنم. قال صاحب العين: التكدس فى سير الدواب: ركوب بعضها بعضًا، والكدس ما يجمع من طعام وغيره، وأفواه الجنة: أبوابها واحدها فوهة، وفى كتاب العين الفوهة: فم النهر وفم الزقاق. - بَاب قَوله تَعَالَى: (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف: 56] / 72 - فيه: أُسَامَة، كَانَ ابْنٌ لِبَعْضِ بَنَاتِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَقْضِى، إلى قوله: (فَبَكَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ سَعْدُ: أَتَبْكِى؟ فَقَالَ: (إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) . / 73 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (اخْتَصَمَتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ إِلَى رَبّهِمَا، فَقَالَتِ الْجَنَّةُ: يَا رَبِّ، مَا لَهَا لا يَدْخُلُهَا إِلا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ، وَقَالَتِ النَّارُ: يَعْنِى أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِى، وَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِى، أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا، قَالَ: فَأَمَّا الْجَنَّةُ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ، فَيُلْقَوْنَ فِيهَا فَ) تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) [ق: 30] ثَلاثًا، حَتَّى يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ، فَتَمْتَلِئُ، وَيُرَدُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَتَقُولُ: قَطْ، قَطْ، قَطْ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 470 / 74 - وفيه: أَنَس، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيُصِيبَنَّ أَقْوَامًا سَفْعٌ مِنَ النَّارِ بِذُنُوبٍ أَصَابُوهَا عُقُوبَةً، ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، يُقَالُ لَهُمُ: الْجَهَنَّمِيُّونَ) . قال المؤلف: الرحمة تنقسم قسمين: تكون صفة ذات لله، وتكون صفة فعل، فصفة الذات مرجوع بها إلى إرادته تعالى إثابة الطائعين من عباده، وقوله تعالى: (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف: 56] ، يحتمل الرحمة هاهنا أن تكون صفة ذات ترجع إلى إرادته إثابة المحسنين كما قلنا وإرادته صفة ذاته. ومثله قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) معناه إنما يريد إثابة الرحماء لعباده من خلقه، ويحتمل أن تكون صفة فعل فيكون المعنى أن نعمة الله على عباده ورزقه لهم ونزول المطر وشبهه قريب من المحسنين، فسمى ذلك رحمة لهم لكونه بقدرته وعن إرادته مجازًا واتساعًا؛ لأن من عادة العرب تسمية الشىء باسم سببه وما يتعلق به ضربًا من التعلق، وعلى هذا المعنى سمى الله الجنة رحمةً فقال: (أنت رحمتى) فسماها مع كونها فعلاً من أفعاله رحمةً؛ إذ كانت حادثةً بقدرته وإرادته تنعيم الطائعين من عباده. قال المهلب: وأما اختصام الجنة والنار فيجوز أن يكون حقيقةً، ويجوز أن يكون مجازًا، فكونه حقيقةً يخلق الله فيهما حياةً وفهمًا وكلامًا لقيام الدليل على كونه تعالى قادرًا على ذلك، وكونه مجازًا واتساعًا فهو على ما تقوله العرب من نسبة الأفعال إلى ما لا يجوز وقوعها منه فى تلك الحال كقولهم: امتلأ الحوض وقال قطنى. والحوض لا يقول، وإنما ذلك عبارة عن امتلائه، وأنه لو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 471 كان ممن يقول لقال ذلك، وقولهم: قالت الضفدع، وعلى هذين التأويلين يحمل قوله تعالى: (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) [ق: 30] ، واختصام الجنة والنار هو افتخار بعضهما على بعض بمن يسكنهما، فالنار تتكبر بمن يلقى فيها من المتكبرين وتظن أنها آثر بذلك عند الله من الجنّة وسقط قول النار من هذا الحديث فى جميع النسخ، وهو محفوظ فى الحديث: (وقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين) رواه ابن وهب، عن مالك، عن أبى الزناد، عن الأعرج، عن أبى هريرة من رواية الدارقطنى، وتظن الجنة ضد ذلك لقولها: (ما لى لا يدخلنى إلا ضعفاء الناس وسقطهم) فكأنها أشفقت من إيضاع المنزلة عند الرب تعالى. فحكم تعالى للجنة بأنها رحمته لا يسكنها إلا الرحماء من عباده، وحكم للنار بأنها عذابه يصيب بها من يشاء من المتكبرين، وأنه ليس لإحديهما فضل من طريق من يسكنها الله تعالى من خلقه، إذ هما اللتان للرحمة والعذاب، ولكن قد قضى لهما بالملء من خلقه. وقوله: (وينشىء للنار خلقًا) يريد من قد شاء أن يلقى فيها ممن قد سبق له الشقاء ممن عصاه وكفر به، قاله المهلب. وقال غيره: ينشىء الله لها خلقًا لم يكن فى الدنيا، قال: وفيه حجة لأهل السنة فى قولهم إن لله أن يعذب من لم يكن يكلفه عبادته فى الدنيا ولا يخرجه إليها لقوله: (وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاء) [إبراهيم: 27] بخلاف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 472 من يقول إن الله لو عذّب من لم يكلفه لكان ظالمًا، وهذا الحديث حجة عليهم. وقوله: (حتى يضع فيها قدمه) قد تقدم فى باب قوله: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [إبراهيم: 4] من كتاب التوحيد. - بَاب قَوله تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا (الآية [فاطر: 41] / 75 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْن مسعود، جَاءَ حَبْرٌ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ يَضَعُ السَّمَاءَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ وَالأنْهَارَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَقُولُ بِيَدِهِ أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام: 91] . وقد تقدّم تفسير هذا الحديث فى باب قوله تعالى: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ) [ص: 75] ، قال المهلب: فإن قيل: ما وجه حديث الحبر فى هذا الباب مع قوله: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا) [فاطر: 41] ، وظاهر الآية وعمومها يقتضى أن السموات والأرض ممسكة بغير آلة يعتمد عليها، وقد ذكر الحبر للنبى (صلى الله عليه وسلم) أن الله يمسك السموات على إصبع والأرض على إصبع، فدل أن حديث الحبر وتفسيره الإمساك بالأصابع هذا لبيان المجمل من الإمساك فى الآية؟ قيل له: ليس كما توهمت، وتفسير النبى ورده على الحبر، وقوله: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام: 91] هو رد لما توهمه الحبر من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 473 الأصابع أى أن الله أجل مما قدرت، وذلك أن اليهود تعتقد التجسيم، فنفى النبى (صلى الله عليه وسلم) ذلك عنه بقوله: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ (. فإن قيل: فإن تصديق النبى للحبر وتعجبه من قوله يدل أنه لم ينكر قوله كل الإنكار، ولو لم يكن لقوله بذكر الأصابع وجه لأعلن بإبطاله. فالجواب: أنه لو كانت السموات وغيرها مفتقرة إلى الأصابع لكانت الأصابع مفتقرة إلى أمثالها تعتمد عليها، وأمثال أمثالها إلى مثلها، ثم كذلك إلى ما لا نهاية له، وهذا فاسد، وقد تقدم قول الأشعرى وابن فورك وأن الإصبع يجوز أن تكون صفة ذات لله تعالى ويجوز أن تكون صفة خلق له من بعض ملائكته كلفهم حمل الخلائق وتعبدّهم بذلك من غير حاجة إليهم فى حملها، بل البارى ممسكهم وممسك ما يحملونه بقدرته تعالى، ويصدق هذا التأويل قوله: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) [الحاقة: 17] . - بَاب مَا جَاءَ فِى خلق السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَغَيْرِهَما مِنَ الْمخلوقات وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ تَعَالَى وَأَمْرُهُ، فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَقَوله، وَهُوَ الْخَالِقُ الْمُكَوِّنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ، وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ، فَهُوَ مَفْعُولٌ مُكَوَّنٌ مَخْلُوقٌ. / 76 - فيه: ابْن عَبَّاس، بِتُّ فِى بَيْتِ مَيْمُونَةَ لَيْلَةً، وَالنَّبِيُّ - عليه السلام - عِنْدَهَا؛ لأنْظُرَ كَيْفَ صَلاةُ النَّبِىّ - عليه السلام - فَتَحَدَّثَ النَّبِيّ - عليه السلام - مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً، ثُمَّ رَقَدَ، فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ أَوْ بَعْضُهُ، قَعَدَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَرَأَ: (إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ) [آل عمران: 190] إِلَى قَوْلِهِ: (لأولِى الألْبَابِ (الحديث. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 474 غرضه فى هذا الباب أن يعرفك أن السموات والأرض وما بينهما كل ذلك مخلوق دلائل الحدث بها من الآيات المشاهدات، من انتظام الحكمة واتصال المعيشة للخلق فيهما، وقام برهان العقل على ألا خالق غير الله وبطل قول من يقول: إن الطبائع خالقة العالم، وأن الأفلاك السبعة هى الفاعلة، وأن النور والظلمة خالقان، وقول من زعم أن العرش هو الخالق. وفسدت جميع هذه الأقوال لقيام الدليل على حدوث ذلك كله وافتقاره إلى محدث لاستحالة وجود محدث لا محدث له، كاستحالة وجود مضروب لا ضارب له، وكتاب الله شاهد بصحة هذا، وهو قوله تعالى: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) [فاطر: 3] ، فنفى خالقًا سواه، وقال تعالى: (أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) [الرعد: 16] ، وقال عقيب ذلك: (فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) [الرعد: 16] ، ثم قال لنبيه: (قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) [الرعد: 16] ، ودلّ على ذلك أيضًا بقوله تعالى: (إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِى الألْبَابِ) [آل عمران: 190] . فاستدل بآيات السموات والأرض على قدرة الله ووحدانيته فوجب أن يكون الخلاق العليم بجميع صفاته من الخلق والأمر والفعل والسمع والبصر والتكوين للمخلوقات كلها خالقًا غير مخلوق الذات والصفات، وأن القرآن صفة له غير مخلوق، ووجب أن يكون الخالق مخالفًا لسائر المخلوقات، ووجه خلافه لها انتفاء قيام الحوادث عنه الدالة على حدث من تقوم به، ولزم أن يكون ما سواه من مخلوقاته التى كانت عن قوله وأمره وفعله وتكوينه مخلوقات له، هذا موجب العقل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 475 - بَاب قَوله: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ) [النحل: 40] / 77 - فيه: الْمُغِيرَة، سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَقُولُ: (لا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِى قَوْمٌ ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ) . وَقَالَ مرة: (لا تَزَالُ مِنْ أُمَّتِى أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، مَا يَضُرُّهُمْ مَنْ كَذَّبَهُمْ، وَلا مَنْ خَالَفَهُمْ) . وَقَالَ مُعَاوِيَة: وَهُمْ بِالشَّأْمِ. / 78 - وفيه: ابْن عَبَّاس، وَقَفَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى مُسَيْلِمَةَ فِى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: (لَوْ سَأَلْتَنِى هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا، وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ، وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ) . / 79 - وفيه: ابْن مَسْعُود، بَيْنَما أَنَا أَمْشِى مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فَمَرَرْنَا عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فسَألُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَأَنَزل عليه: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى) [الإسراء: 85] الآية. غرضه فى هذا الباب الرد على المعتزلة فى قولهم: إن أمر الله الذى هو كلامه مخلوق، فأراد البخارى أن يعرفك أن الأمر هو قوله للشىء إذا أراده كن فيكون بأمره له وأن أمره وقوله فى معنى واحد، وذلك غير مخلوق وأنه سبحانه يقول كن على الحقيقة، وأن الأمر غير الخلق لقوله تعالى: (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) [الأعراف: 54] ، ففصل بينهما بالواو وهو قول جميع أهل السنة، وزعمت المعتزلة أن وصفه نفسه بالأمر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 476 وبالقول فى هذه الآية مجاز واتساع على نحو ما تقول العرب: قال الحائط فمال وامتلأ الحوض، وقال قطنى. وقولهم فاسد؛ لأنه عدول عن ظاهر الآية وحملها على غير حقيقتها، وإنما وجب حمل الآية على ظاهرها وحقيقتها لثبات كونه حيًا، والحى لا يستحيل أن يكون متكلمًا. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (حتى يأتيهم أمر الله) يعنى أمر الله بالساعة. وقوله: (لن تعدو أمر الله فيك) أى ما قدر فيك من الشقاء أو السعادة. وقوله: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى) [الإسراء: 85] أى من أمره المتقدّم بما سبق فى علمه من القضاء المحتوم الذى أمر به الملك أن يكتبه فى بطن أمه قبل نفخ الروح فيه. - بَاب فِى الْمَشِيئَةِ وَالإرَادَةِ وقوله تَعَالَى: (تُؤْتِى الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) [آل عمران: 26] ،) وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رب العالمين) [الإنسان: 30] ،) وَلا تَقُولَنَّ لِشَىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) [الكهف: 23] ) إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ) [القصص: 56] . قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ: نَزَلَتْ فِى أَبِى طَالِبٍ. معنى هذا الباب: إثبات المشيئة والإرادة لله تعالى وأن مشيئته وإرادته ورحمته وغضبه وسخطه وكراهيته كل ذلك بمعنىً واحد أسماء مترادفة هى راجعة كلها إلى معنى الإرادة، كما يسمى الشىء الواحد بأسماء كثيرة، وإرادته تعالى هى صفة من صفات ذاته خلافًا لمن يقول من المعتزلة أنها مخلوقة من أوصاف أفعاله، وقولهم فاسد لأنهم إذا أثبتوه تعالى مريدًا، وزعموا أن إرادته محدثة لم تخل من أن يحدثها في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 477 نفسه أو فى غيره، أو لا فى نفسه ولا فى غيره، وهذا الذى ذهبوا إليه، فيستحيل إحداثه لها فى نفسه؛ لأنه لو أحدثها فى نفسه لم يخل منها ومن ضدها على سبيل التعاقب، ولا يجوز تعاقب الحوادث على الله تعالى لقيام الدليل على قدمه قبلها، ويستحيل أن يحدثها فى غيره؛ لأنه لو أحدثها فى غيره لوجب أن يكون ذلك الغير مريدًا بها دونه، فبطل كونه مريدًا بإرادة أحدثها فى غيره كما يبطل كونه عالمًا بعلم يحدثه فيه، أو قادرًا بقدرة يحدثها فيه؛ لأن قياس ذلك كله واحد، ومن شرط المريد وحقيقته أن تكون الإرادة موجودةً فيه دون من سواه، ويستحيل إحداثه لها إلا فى نفسه ولا فى غيره؛ لأن ذلك يوجب قيامها بنفسها واحتمالها للصفات وأضدادها، ولو صح ذلك لم تكن إرادته له أولى أن تكون لغيره، وإذا فسدت هذه الأقسام الثلاث وجب أن الإرادة قديمةً قائمةً به تعالى لأجل قيامها به وصح كونه مريدًا، ووجب تعلقها بكل ما يصحّ كونه مرادًا له، وهذه المسألة مبنية على صحة القول بكونه تعالى خالقًا لأفعال العباد، وأنهم لا يفعلون إلا ما يشاء، وقد دلّ الله على ذلك بقوله تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ) [الإنسان: 30] ، وما تلاه من الآيات، وبقوله: (وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (فنصّ الله تعالى على أنه لو شاء أن لا يقتتلوا لما اقتتلوا، فدل أنه تعالى شاء ما شاءوه من اقتتالهم، وأنه لو لم يشأ اقتتالهم لم يشاءوه ولا كان موجودًا، ثم أكد ذلك بقوله: (وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (يدل أنه فعل اقتتالهم الواقع منهم لكونه شائيًا له، وإذا كان شائيًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 478 لاقتتالهم وفاعلا له، ووجب كونه شائيًا لمشيئتهم وفاعلا لها، فثبت بهذه الآية أنه لا كسب للعباد طاعة ومعصية إلا وهو فعل له ومراد له تعالى، وإن لم يرده منهم لم يصح وقوعه، وما أراده منهم فواجب قول القدرية أنه مريد للطاعة من عباده، وغير مريد للمعصية وقد بان فساد هذا من قولهم أن أفعال العباد خلق لله فى هذا الباب وغيره. 30 - باب: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185] / 80 - فيه: أَنَس، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ فَاعْزِمُوا فِى الدُّعَاءِ، وَلا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِى، فَإِنَّ اللَّهَ لا مُسْتَكْرِهَ لَهُ) . / 81 - وفيه: عَلِىّ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ ابِنْته، فَقَالَ لَهُمْ: (أَلا تُصَلُّونَ) ؟ قَالَ عَلِىٌّ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا. . . الحديث. / 82 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ خَامَةِ الزَّرْعِ يَفِىءُ وَرَقُهُ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ تُكَفِّئُهَا فَإِذَا سَكَنَتِ اعْتَدَلَتْ، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يُكَفَّأُ بِالْبَلاءِ، وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الأرْزَةِ، صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً حَتَّى يَقْصِمَهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ) . / 83 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 479 مِنَ الأمَمِ، كَمَا بَيْنَ صَلاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. . .) وذكر الحديث إلى قوله: (فَذَلِكَ فَضْلِى أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ) . / 84 - وفيه: عُبَادَة، قَالَ: (بَايَعْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى رَهْطٍ، فَقَالَ: (أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ، وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلا تَعْصُونِى فِى مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَأُخِذَ بِهِ فِى الدُّنْيَا، فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ وَطَهُورٌ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ) . / 85 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ لَهُ سِتُّونَ امْرَأَةً، فَقَالَ: لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى نِسَائِى، فَلْتَحْمِلْنَ كُلُّ امْرَأَةٍ، وَلْتَلِدْنَ فَارِسًا، يُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَطَافَ عَلَى نِسَائِهِ، فَمَا وَلَدَتْ مِنْهُنَّ إِلا امْرَأَةٌ وَلَدَتْ شِقَّ غُلامٍ) ، قَالَ نَبِىُّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (ولَوْ اسْتَثْنَى لَحَمَلَتْ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ، فَوَلَدَتْ فَارِسًا يُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) . / 86 - وفيه: أَبُو قَتَادَةَ، حِينَ نَامُوا عَنِ الصَّلاةِ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ، وَرَدَّهَا حِينَ شَاءَ. . .) الحديث. / 87 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ. . . وذكر الحديث إلى قول النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُخَيِّرُونِى عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 480 الْعَرْشِ، فَلا أَدْرِى أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِى، أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ) . / 88 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (الْمَدِينَةُ يَأْتِيهَا الدَّجَّالُ، فَيَجِدُ الْمَلائِكَةَ يَحْرُسُونَهَا، فَلا يَقْرَبُهَا الدَّجَّالُ، وَلا الطَّاعُونُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) . / 89 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ، فَأُرِيدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَخْتَبِىَ دَعْوَتِى شَفَاعَةً لأمَّتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . / 90 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِى عَلَى قَلِيبٍ، فَنَزَعْتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَنْزِعَ. . .) الحديث. / 91 - وفيه: أَبُو مُوسَى، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ، أَوْ صَاحِبُ الْحَاجَةِ، قَالَ: (اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا، ولَيَقْضِى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نبيه مَا شَاءَ) . / 92 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أن أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ حدثه بحديث الخضر. . . إلى قوله: (فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ) [الكهف: 63] الحديث. / 93 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (نَنْزِلُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِى كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ) ، يُرِيدُ الْمُحَصَّبَ. / 94 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ ابْنِ عُمَرَ، حَاصَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَهْلَ الطَّائِفِ، فَلَمْ يَفْتَحْهَا، فَقَالَ: (إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. . .) ، وذكر الحديث. معنى هذا الباب كمعنى الذى قبله فى إثبات الإرادة لله تعالى والمشيئة، وأن العباد لا يريدون شيئًا إلا وقد سبقت إرادة الله له، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 481 وأنه خالق لأعمالهم: طاعة كانت أو معصية، وأما تعلقهم بقوله تعالى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185] فى أنه لا يرد المعصية فليس على العموم؛ وإنما هو خاص فيمن ذكر، ولم يكلفه ما لا يطيق. مثل هذا للمؤمنين المفترض عليهم الصيام، ومن هداه الله إلى دينه فقد يسره وأراد به اليسر، فكان المعنى: يريد الله بكم اليسر الذى هو التخيير بين صومكم فى السفر، وإفطاركم فيه بشرط قضاء ما أفطرتموه من أيام أخر، ولا يريد بكم العسر، الذى هو إلزامكم الصوم فى السفر على كل حال؛ فبان من نفس الآية أن الله رفع هذا العسر عنا ولم يرد وقوعه بنا، إذ لم يلزمنا الصيام فى السفر على كل حال، ورحمةً منه ورأفةً بنا؛ فسقط تعلقهم بالآية، وكذلك تأويل قوله تعالى: (وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر: 7] هو على الخصوص فى المؤمنين الذين أراد منهم الإيمان، فكان ما أراده من ذلك، ولم يرد منهم الكفر فلم يكن، فلا تعلق لهم فى هذه الآية أيضًا. فإن قيل: قد تقدم من قولكم أن الله تعالى خالق لأعمال العباد، فما وجه إضافة فتى موسى نسيان الحوت إلى نفسه مرةً، وإلى الشيطان أخرى. فالجواب: أن فتى موسى نبى وخادم نبى، وقد تقدم من قول موسى أن أفعاله مخلوقة لله تعالى: (إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء) [الأعراف: 155] ، فثبت أن إضافة النسيان إلى نفسه لأجل قيامه به، لا أنه مخترع له، والعرب تضيف الفعل إلى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 482 من وجد منه، وإن لم يكن مخترعًا له، وقد نطق بذلك القرآن فى مواضع كثيرة، وكذلك إضافته النسيان إلى الشيطان، فليس على معنى أن الشيطان فاعل لنسيانه، وإنما تأويله أنه وسوس إلىّ حتى نسيت الحوت؛ لأن فتى موسى إذ لم يمكنه أن يفعل نسيانه القائم به كان الشيطان أبعد من أن يفعل فيه نسيانًا، وكانت إضافته إليه على سبيل المجاز والاتساع. قال المهلب: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يقولن أحدكم، إن شئت فاعطنى) فمعناه والله أعلم أن سؤاله الله على شرط المشيئة يوهم أن إعطاءه تعالى يمكن على غير مشيئته، وليس بعد المشيئة وجه إلا الإكراه؛ والله لا مكره له كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، والعبارة الموهمة فى صفات الله غير جائزة عند أهل السنة؛ لما فى ذلك من الزيغ بأقل توهم يقع فى نفس السامع لنلك العبارة ثم إن حقيقة السؤال من الله تعالى، هو أن يكون السائل محتاجًا إلى ما سأل، محققًا فى سؤاله، ومتى طلب بشرط لم يحقق الطلب؛ فلذلك أمره بالعزم فى طلب الحاجة. وأما قول على: (إن أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا) ففيه: أن إرادة العبد للعمل ولتركه لا يكون إلا عن إرادة الله ومشيئته، بخلاف قول القدرية أن للإنسان إرادةً ومشيئةً دون إرادة الله، وقد تقدم أن ذلك كله من عمل العبد مخلوق لله، مراد له على حسب ما أراد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 483 من طاعة أو معصية، ومعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (المؤمن كخامة الزرع) فى هذا الباب: أن المؤمن يألم فى الدنيا بما يبتليه الله به من المراض التى يمتحنه بها، فييسره للصبر عليها والرضا بحكم ربه واختياره له؛ ليفرح بثواب ذلك فى الآخرة، والكافر كلما صح فى الدنيا وسلم من آفاتها كان موته أشد عذابًا عليه، وأعظم ألمًا فى مفارقة الدنيا، فثبت أن الله تعالى قد أراد بالمؤمن بكل عسر يسرًا، وأراد بكل ما آتاه الكافر من اليسر عسرًا، وقد تقدم فى أول كتاب المرضى. وقوله: (فذلك فضلى أوتيه من أشاء) فذلك بين فى أن الإرادة هى المشيئة على ما تقدم بيانه؛ إذ الفضل عطاء من له أن يتفضل به، وله ألا يتفضل، وليس من كان عليه حق فأداه أو فعل ما عليه فعله يسمى متفضلاً، وإنما هو من باب الأداء والوفاء بحق ما لزمه. وقوله: (فلو قال إن شاء الله لقاتلوا فرسانًا أجمعون) فوجهه أنه لما نسى أن يرد الأمر لله الخالق العليم، ويجعل المشيئة إليه كما شرط فى كتابه، إذ يقول: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) [الإنسان: 30] ،) وَلا تَقُولَنَّ لِشَىْءٍ) [الكهف: 23] . فأشبه قوله: (لأطوفن الليلة) قول من جعل لنفسه الحول والقوة؛ فحرمه الله تعالى مراده وما أمله. وأما قوله للأعرابى: (لا بأس عليك طهور إن شاء الله) فإنما أراد تأنيسه من مرضه بأن الله يكفر ذنوبه، ويقيله، ويؤخر وفاته فوقع الاستثناء على ما رجا له من الإقالة والفرج؛ لأن المرض معلوم أنه كفارة للذنوب، وإن كان الاستثناء قد يكون بمعنى رد المشيئة إلى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 484 الله تعالى، وفى جواب الأعرابي ما يدل على ما قلناه، وهو قوله: حمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور. أى ليس كما رجوت من الإقالة. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فنعم إذًا) دليل على أن قوله: (لا بأس عليك) ، أنه على طريق الرجاء لا على طريق الخبر عن الغيب، وكذلك قوله: (إن الله قبض أرواحنا حين شاء، وردها حين شاء) . وحديث عبادة، وحديث أبى هريرة فى قصة موسى (صلى الله عليه وسلم) ، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا أدرى أكان فيمن صعق، فأفاق قبلى، أو ممن استثنى الله) ، فيها كلها إثبات المشيئة لله تعالى، وفيه فضيلة موسى؛ لأن الأمة أجمعت على أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أفضل البشر، فإن كان لم يصعق موسى حين صعق الناس، ففيه من الفقه أن المفضول قد يكون فيه فضيلة خاصة لا تكون فى الفاضل. واستثناء النبى (صلى الله عليه وسلم) فى دخول الدجال والطاعون المدينة، هو من باب التأدب لا على الشك الذى لا يجوز على الله تعالى ووجه التحريض على سكنى المدينة لأمته؛ ليحترسوا بها من الفتنة فى الدين؛ لأن المدينة أصل دينه فلم يسلط الله على سكانها المعتصمين بها فتنة الدجال، ولا الطاعون لاعتصام سكانها بها من الفتنة الكبرى، وهى الكفر المستأصل عقوبته، فكذلك لا يستأصلهم بالموت بالطاعون الذى كان من عقوبات بنى إسرائيل. وأما قوله فى الصديق (أنه نزع من البئر ما شاء الله أن ينزع) ، فهذا استثناء صحيح، وأن حركات العباد لا تكون إلا عن مشيئة الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 485 وإرادته، وكذلك قوله: ويقضى الله على لسان رسوله ما شاء، أى أن الإنسان لا يتكلم إلا بمشيئة الله المحرك للسانه، والمقلب لقلبه، وكذلك قوله: (إنا قافلون غدا إن شاء الله) . فاستثنى فيما يستقبل من الأفعال، كما أمره الله برد الحول والقوة إليه فى قوله: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) [الكهف: 23] . 31 - بَاب قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ) [الصافات: 171] / 95 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ، كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِى سَبَقَتْ غَضَبِى) . / 96 - وفيه: ابْن مَسْعُود، حَدَّثَنَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: (أَنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ. . .) إلى قوله: (ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ، فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ. . .) الحديث، (فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى لا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا. . .) الحديث. / 97 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (يَا جِبْرِيلُ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا، فَنَزَلَتْ: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم: 64] الآيَةِ. / 98 - وفيه: كُنْتُ أَمْشِى مَعَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) فَمَرَّ بِنفر مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 486 بَعْضُهُمْ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تَسْأَلُوهُ، فَسَأَلُوهُ فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى الْعَسِيبِ، وَأَنَا خَلْفَهُ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقَالَ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ (إلى) قَلِيلاً) [الإسراء: 85] . / 99 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِى سَبِيلِهِ لا يُخْرِجُهُ إِلا الْجِهَادُ فِى سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ، بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ. . .) الحديث. / 100 - وفيه: أَبُو مُوسَى، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، فَأَىُّ ذَلِكَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) . قال المهلب: الكلمة السابقة: هى كلمة الله بالقضاء المتقدم منه قبل أن يخلق خلقه فى أم الكتاب؛ الذى جرى به القلم للمرسلين إنهم لهم المنصورون فى الدنيا والآخرة، وقد تقدم فى كتاب القدر، ومعنى هذا الباب إثبات الله متكلما وذا كلام، خلافًا لمن يقول من المعتزلة: أنه غير متكلم فيما مضى، وكذلك هو فيما بقى. وهذا كفر قد نص الله على إبطاله بقوله: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا) [الصافات: 171] فى آيات أخر، وقد نص النبى (صلى الله عليه وسلم) على بيان هذا المعنى فى أحاديث هذا الباب، فقال: (كتب عنده فوق عرشه) ، وقال: ثم يبعث الله إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات يوحيها الله إلى الملك، فيكتبها فى أم الكتاب، وقال: فيسبق عليه الكتاب بالقضاء المتقدم فى سابق علمه، والكتاب يقتضي كلامًا مكتوبًا، ودل ذلك على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 487 أنه لم يزل عالمًا بما سيكون قبل كونه، خلافًا لمن يقول: لا يعلم الأشياء قبل كونها، ووجه مشاكلة حديث ابن عباس للترجمة، هو أن الذى يتنزل به جبريل هو كلام الله ووحيه، وكذلك قوله فى حديث ابن مسعود) قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى) [الإسراء: 85] يريد أن الروح خلق من خلقه تعالى، خلقه بقوله: كن وكن: كلامه الذى هو أمره الذى لم يزل ولا يزال. وقوله: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء: 85] فيه دليل على أنه لا تبلغ حقيقة العلم بالمخلوقات فضلا عن العلم بالخالق سبحانه، وأن من العلم ما يلزم التسليم فيه لله تعالى ويجب الإيمان بمشكله، وأن الراسخين فى العلم لا يعلمون تأويل المتشابه كما يزعم المتكلمون، إذ قد أعلمنا الله أن السؤال عن الروح ابتغاء ما لم يؤته من العلم، مع أنه وصف قلوب المتبعين ما تشابه منه بالزيغ وابتغاء الفتنة، ووصف الراسخين فى العلم بالإيمان به، وأن كله من عند ربهم، مستعيذين من الزيغ الذى وسم الله به من اتبع تأويل المتشابه منه، داعين إلى الله لا يزيغ قلوبهم بابتغاء تأويله، بعد إذ هداهم إلى الإيمان به. وأما قوله: (كتب عنده: إن رحمتى سبقت غضبى) فهو والله أعلم كتابه فى أم الكتاب الذى قضى به وخطه القلم، فكان من رحمته تلك أن ابتدأ خلقه بالنعمة بإخراجهم من العدم إلى الوجود، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 488 وبسط لهم من رحمته فى قلوب الأبوين على الأبناء، من الصبر على تربيتهم، ومباشرة أقذارهم ما إذا تدبره متدبر أيقن أن ذلك من رحمته تعالى، ومن رحمته السابقة أنه يرزق الكفار وينعمهم، ويدفع عنهم الآلام ثم ربما أدخلهم الإسلام رحمة منه لهم، وقد بلغوا من التمرد عليه والخلع لربوبيته غايات تغضبه، فتغلب رحمته ويدخلهم جنته، ومن لم يتب عليه حتى توفاه فقد رحمه مدة عمره بتراخى عقوبته عنه، وقد كان له ألا يمهله بالعقوبة ساعة كفره به ومعصيته له، لكنه أمهله رحمةً له، ومع هذا فإن رحمة الله السابقة أكثر من أن يحيط بها الوصف. 32 - بَاب قَوله تَعَالَى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّى (إلى قوله: (مَدَدًا) [الكهف: 109] وقوله: (وَلَوْ أَنَّ مَا فِى الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) [لقمان: 27] / 101 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِى سَبِيلِهِ لا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلا الْجِهَادُ فِى سَبِيلِهِ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ، أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ) . قال مجاهد: (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا (للقلم يستمد منه للكتاب) لِّكَلِمَاتِ رَبِّى) [الكهف: 109] ، أى لعلم ربى. وقال قتادة: لنفد ماء البحر قبل أن ينفد كلام ربى وحكمه. ومعنى هذا الباب إثبات الكلام لله صفةً لذاته، وأنه لم يزل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 489 متكلمًا ولا يزال، كمعنى الباب الذى قبله، وإن كان قد وصف كلامه تعالى بأنه كلمات فإنه شىء واحد لا يتجزأ ولا يقسم، وكذلك يعبر عنه بعبارات مختلفة: تارةً عربيةً، وتارةً سريانيةً، وبجميع الألسنة التى أنزلها الله على أنبيائه، وجعلها عبارةً عن كلامه القديم الذى لا يشبه كلام المخلوقين، ولو كانت كلماته مخلوقة لنفدت كما تنفد البحار والأشجار وجميع المحدثات، فكما لا يحاط بوصفه تعالى، كذلك لا يحاط بكلماته وجميع صفاته. 33 - بَاب قَوله تَعَالَى: (وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ (الآية) قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ) [سبأ: 23] وَلَمْ يَقُلْ مَاذَا خَلَقَ رَبُّكُمْ وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: (مَنْ ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ) [البقرة: 255] وَقَالَ مَسْرُوقٌ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْىِ، سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ شَيْئًا، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَسَكَنَ الصَّوْتُ عَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ، وَنَادَوْا: (مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ) [سبأ: 23] . وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ، فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ) . / 102 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا قَضَى اللَّهُ الأمْرَ فِى السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ الْمَلائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا، لِقَوْلِهِ: كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 490 / 103 - قال على بن المدينى، وَقَالَ غَيْرُهُ: صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ، فَإِذَا) فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ) [سبأ: 23] . وَقَالَ عكرمة مرةً عن أبى هريرة يرفعه: أنه قرأ: فُزِّغَ. / 104 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَىْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ) . / 105 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَقُولُ اللَّهُ: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، فَيُنَادَى بِصَوْتٍ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ) . / 106 - وفيه: عَائِشَةَ، مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِى الْجَنَّةِ. قال المهلب: استدل البخارى بقوله تعالى: (مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ) [سبأ: 23] . ولم يقل: ماذا خلق ربكم. على أن قوله تعالى قائم بذاته، صفة من صفاته، لم يزل موجودًا ولا يزال، وأنه لا يشبه كلام المخلوقين، وليس بذى حروف، خلافًا للمعتزلة التى نفت كلام الله تعالى، وقالت: إن كلامه كناية عن الفعل والتكوين، قالوا: وهذا سائغ فى كلام العرب، ألا ترى أن الرجل يعبر عن حركته بيده فيقول: قلت بيدى هكذا، وهم يريدون حركت يدى، ويحتجون بأنه كلام لا يعقل منا إلا بأعضاء ولسان، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 491 والباري تعالى لا يجوز أن يكون له أعضاء وآلات الكلام؛ إذ ليس بجسم. فرد البخارى عليهم بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا قضى الله الأمر فى السماء، فزعت الملائكة وضربت بأجنحتها فكان لها صوت، كأنه سلسلة على صفوان خضعانًا) لقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ) [سبأ: 23] ، أى أذهب الفزع عن قلوبهم، قالوا للذى فوقهم: ماذا قال ربكم؟ فدل ذلك على أنهم سمعوا قولا لم يفهموا معناه من أجل فزعهم، فقالوا: ماذا قال ربكم؟ ولم يقولوا: ماذا خلق ربكم، وأكد ذلك بما حكاه عن الملائكة أيضًا؟) قَالُوا الْحَقَّ) [سبأ: 23] ، والحق إحدى صفتى القول الذى لا يجوز على الله غيره؛ لأنه لا يجوز على كلامه الباطل. ولو كان القول منه خلقًا وفعلا لقالوا حين سألوا ماذا قال، أخلق خلقًا كذا، إنسانًا، أو جبلا، أو شيئًا من المخلوقات، فلما وصفوا قوله بما يوصف به الكلام من الحق، لم يجز أن يكون القول بمعنى الخلق والتكوين، وكذلك قوله لآدم: يا آدم، وهو كلام مسموع، ولو كان بمعنى الخلق والتكوين ما أجاب بلبيك وسعديك، التى هى جواب المسموعات، وكذلك قول عائشة: (ولقد أمره ربه أن يبشرها) هو كلام، وقول مسموع من الله تعالى ولو كان خلقًا لما فهم منه عن ربه له بالبشرى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 492 34 - بَاب كَلامِ الرَّبِّ مَعَ جِبْرِيلَ وَنِدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَلائِكَةَ وَقَالَ مَعْمَرٌ: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) [النمل: 6] أَىْ يُلْقَى عَلَيْكَ، وَتَلَقَّاهُ أَنْتَ: أَىْ تَأْخُذُهُ عَنْهُمْ، وَمِثْلُهُ: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) [البقرة: 37] . / 107 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلانًا، فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِى جِبْرِيلُ فِى السَّمَاءِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِى أَهْلِ الأرْضِ) . / 108 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِى صَلاةِ الْعَصْرِ وَصَلاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ، كَيْفَ تَرَكْتُمْ. . .) الحديث. / 109 - وفيه: أَبُو ذَرّ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَتَانِى جِبْرِيلُ، فَبَشَّرَنِى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى) . هذا باب كالباب الذى قبله فى إثبات كلام الله وإسماعه إياه جبريل والملائكة، فيسمعون عند ذلك الكلام القديم القائم بذاته الذى لا يشبه كلام المخلوقين، إذ ليس بحرف ولا تقطيع نغم وليس من شرطه أن يكون بلسان وشفتين وآلات، وحقيقته أن يكون مسموعًا مفهومًا، ولا يليق بالبارى تعالى أن يستعين فى كلامه بالجوارح والأدوات، فمن قال: لم أشاهد كلامًا إلا بأدوات، لزمه التشبيه؛ إذ حكم على الله بحكم المخلوقين، وخالف قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 493 35 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) [النساء: 166] قَالَ مُجَاهِدٌ: (يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ) [الطلاق: 12] بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالأرْضِ السَّابِعَةِ. / 110 - فيه: الْبَرَاء، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا فُلانُ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَقُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِى إِلَيْكَ. . . إلى قوله: (آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِى أَنْزَلْتَ. . .) الحديث. / 111 - وفيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَوْمَ الأحْزَابِ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ: سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الأحْزَابَ، وَزَلْزِلْ بِهِمْ) . / 112 - وفيه: ابْن عَبَّاس،) وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) [الإسراء: 110] أُنْزِلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُتَوَارٍ بِمَكَّةَ، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ، سَمِعَه الْمُشْرِكُونَ، فَسَبُّوا الْقُرْآنَ، وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ (يَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ،) وَلا تُخَافِتْ بِهَا (عَنْ أَصْحَابِكَ، فَلا تُسْمِعُهُمْ،) وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (أَسْمِعْهُمْ، وَلا تَجْهَرْ حَتَّى يَأْخُذُوا عَنْكَ الْقُرْآنَ. ولا تعلق للقدرية فى قوله تعالى: (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) [النساء: 166] أن القرآن مخلوق؛ لأن كلامه قديم قائم بذاته، ولا يجوز أن تكون صفة ذات القديم إلا قديمة، فالمراد بالإنزال إفهام عباده المكلفين معانى كتابه وفرائضه التى افترضها عليهم، وليس إنزاله كإنزال الأجسام المخلوقة التى يجوز عليها الحركة والانتقال من مكان إلى مكان؛ لأن القرآن ليس بجسم ولا مخلوق، والأفعال التى يعبر بها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 494 عن الأجسام كالحركة والانتقال من الأمكنة تستحيل على الله وعلى كلامه وجميع صفاته. قال المهلب: وفى حديث البراء الرد على القدرية الذين يزعمون أن لهم قدرة على الخير والشر استحقوا عليها الثواب والعقاب لأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) من آوى إلى فراشه بالتبرؤ عند نومه من الحول والقوة والاستسلام لقدرة الله التى إليه بها النوم، فلم يستطع دفعه، فلو كان يملك لنفسه نفعًا أو ضرًا لدفع عن نفسه النوم الذى هو موت إن أمسك الله نفسه فيه مات أبدًا، وإن أرسلها بعد موته ساعة أو ساعات جدد لها حياة. وكيف يملك الإنسان لنفسه قدرة، وقد أمره نبيه (صلى الله عليه وسلم) أن يتبرأ من جميع وجوهها فى هذا الحديث، ثم عرفك أن هذه الفطرة التى فطر الله الناس عليها يجب أن تكون آخر ما يقوله المرء الذى حضره أول الموت فيموت على الفطرة التى عليها خلقه، وإن أحياه أصاب بتبرئه إليه خيرًا يريد أجرًا فى الآخرة وخيرًا من رزق وكفاية وحفظ فى الدنيا. وفى حديث ابن أبى أوفى جواز الدعاء بالسجع، إذا لم يكن متكلفًا مصنوعًا تفكره، وشغل بال بتهيئته فيضعف بذلك نية الداعى فلذلك كره السجع فى الدعاء، وأما إذا تكلم به طبعًا فهو حسن وقد أشرنا إلى هذا المعنى فى كتاب الدعاء. وفى حديث ابن عباس أن قطع الذرائع التى تنقص البارى تعالى وتنقص كتابه واجب وإن كان المراد بها الخير لمنعه من رفع الصوت بالقرآن لئلا يسمعه من يسبه ومن أنزله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 495 36 - بَاب قوله تَعَالَى) يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ) [الفتح: 15] ) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) [الطارق: 13] حَقٌّ) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) [الطارق: 14] بِاللَّعِبِ. / 113 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُؤْذِينِى ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِى الأمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) . / 114 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: الصَّوْمُ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِى. . .) الحديث. / 115 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيْهِ رِجْلُ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحْثِى فِى ثَوْبِهِ، فَنَادَى رَبُّهُ: يَا أَيُّوبُ. . .) . / 116 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ اللَّه تَعَالَى: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ) . / 117 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: (هَذِهِ خَدِيجَةُ، أَتَتْكَ بِإِنَاءٍ فِيهِ طَعَامٌ، أَوْ شَرَابٌ، فَأَقْرِئْهَا مِنْ رَبِّهَا السَّلامَ، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، لا صَخَبَ فِيهِ وَلا نَصَبَ) . / 118 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِى الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ. . .) الحديث. / 119 - وفيه: ابْن عَبَّاس، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا تَهَجَّدَ مِنَ اللَّيْلِ، قَالَ: (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَلَكَ أَنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ. . .) ، الحديث. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 496 / 120 - وفيه: عَائِشَةَ، فِى حديث الإِفْكِ: وَلَشَأْنِى فِى نَفْسِى كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِىَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى. . .) الحديث. / 121 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَقُولُ اللَّهُ: إِذَا أَرَادَ عَبْدِى أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَلا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا. . .) الحديث. / 122 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَمَّا فَرَغَ اللَّه من الخلق قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَ: مَهْ، قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ، فَقَالَ: أَلا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ. . .) الحديث. / 123 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا أَحَبَّ عَبْدِى لِقَائِى أَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ، وَإِذَا كَرِهَ لِقَائِى كَرِهْتُ لِقَاءَهُ) . / 124 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى) . / 125 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ رَجُلٌ لأهله، لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، احرقونى، فَقَالَ لهُ: لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ، فَغَفَرَ لَهُ) . / 126 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ، فَقَالَ رَبُّهُ، جل ثناءه: عَلِمَ عَبْدِى أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِهِ، غَفَرْتُ لِعَبْدِى. . .) الحديث. قال المهلب: غرضه فى هذا الباب كغرضه فى الأبواب التى قبله، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 497 ومعنى قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ) [الفتح: 15] ، هو أن المنافقين تخلفوا عن الخروج مع النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى غزوة تبوك، واعتذروا فأعلم الله إفكهم فيه، فأمر الله رسوله أن يقرأ عليهم قوله تعالى: (فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِىَ عَدُوًّا) [التوبة: 83] فأعلمهم بذلك وقطع أطماعهم من الخروج معه. فلما رأوا الفتوحات قد تهيأت للنبى (صلى الله عليه وسلم) أرادوا الخروج معه رغبة منهم فى المغانم، فأنزل الله على: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ) [الفتح: 15] ، أى أمره لرسوله بأن لا يخرجوا معه بأن يخرجوا معه. فقطع الله أطماعهم من ذلك مدة أيامه (صلى الله عليه وسلم) ؛ لقوله: (لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا) [التوبة: 83] ، ثم قال آمرًا لرسوله (صلى الله عليه وسلم) : (قل للمخلفين من الأعراب (يعنى: المريدين تبديل كلام الله: (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ) [الفتح: 16] ، يعنى توليتم عن إجابته (صلى الله عليه وسلم) حين دعاهم إلى الخروج معه فى سورة براءة) يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [الفتح: 16] ، والداعى لهم غيره (صلى الله عليه وسلم) ممن يقوم بأمره من خلفائه، فقيل: الداعى لهم بعده أبو بكر دعاهم لقتال أهل الردة، وقيل: الداعى عمر، دعاهم لقتال المشركين. وسائر الأحاديث فيها إثبات كلامه، وقد مر القول على أنه صفة قائمة به لا يصح مفارقتها له، وأنه لم يزل متكلمًا، ولا يزال كذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 498 وأما قوله: (يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر) قد تقدم فى باب قوله: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: 58] ، أن الأذى لا يلحق بالله، وإنما يلحق من تتعاقب عليه الحوادث، ويلحقه العجز والتقصير عن الانتصار، والله تعالى منزه عن ذلك، فوجب أن يرجع الأذى المضاف إليه تعالى إلى أنبيائه ورسله، والمعنى يؤذى ابن آدم أنبيائى ورسلى بسب الدهر؛ لأن ذلك ذريعة إلى سب خالق الدهر، ومصرف أقضيته وحوادثه. وقوله: (وأنا الدهر) أى: أفعل ما يجرى به الدهر من السراء والضراء، ألا ترى قوله تعالى: (بيدى الأمر أقلب الليل والنهار) فالأيام والليالى ظروف للحوادث، فإذا سببتم الدهر وهو لا يفعل شيئًا فقد وقع السب على الله. وقد بينت هذا الحديث بأكثر من هذا فى كتاب الأدب فى باب: لا تسبوا الدهر. قال المهلب: وأما قوله تعالى: (أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) فهو كقوله تعالى: (وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل: 8] مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا توهمه قلب بشر. هو على الحقيقة ما لا يعلمه بشر ممن له الأذن والقلب والبصر، فتخصيصه قلب بشر بأن لا يعلمه، يدل والله أعلم أنه يجوز أن يخطر على قلوب الملائكة، ألا ترى أنه إذا أفردنا بالمخاطبة بقوله: (وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (فدل على جواز أن يعلمه غيرنا. وقوله فى حديث أبى هريرة: (لما فرغ الله من الخلق قامت الرحم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 499 فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. فقال تعالى: ألا ترضين. . .) الحديث. فلا تعلق فيه لمن يقول: بحدث كلامه تعالى من أجل أن الفاء فى قوله فقال: توجب فى الظاهر كون قوله تعالى عقيب قول الرحم، وذلك مقتضٍ للحدث لقيام الدليل على أن الله لم يزل قائلا متكلمًا قبل أن يخلق خلقه بما لا أول له من الأزمان، وإذا كان ذلك كذلك وجب حمل قوله تعالى على معنى إفهامه تعالى إياها معنى كلامه الذى لم يزل به متكلمًا وقائلاً، وعلى هذا المعنى يحمل نحو هذا اللفظ إذا أتى فى الحديث. وقد يحتمل أن يكون يأمر ملكًا من ملائكته بأن يقول للرحم هذا القول عنه تعالى، وأضاف إليه، إذ كان قول الملك عن أمره تعالى له، ويدل على صحة هذا التأويل رواية من روى فى حديث الشفاعة: (فأستأذن على ربى وأخر له ساجدًا فيقال: يا محمد، ارفع رأسك. .) بترك إسناد القول إلى الله تعالى جاءت هذه الرواية فى الباب بعد هذا. وقوله للرحم: مه، فمعنى مه فى لسان العرب: الزجر والردع. فمحال توجه ذلك إلى الله، فوجب توجهه إلى من عاذت الرحم بالله تعالى من قطعه إياها. وقوله: (أنا عند ظن عبدى بى) لا يتوجه إلا إلى المؤمنين خاصة أى: أنا عند ظن عبدى المؤمن بى، وفى القرآن آيات تشهد أن عباده المؤمنين وإن أسرفوا على أنفسهم أنه عند ظنهم به من المغفرة والرحمة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 500 وإن أبطأت حينًا وتراخت وقتًا لإنفاذ ما حتم به، على من سبق عليه إنفاذ الوعيد تحلة القسم؛ لأنه قد كان له أن يعذب واحد أبدًا كإبليس، فهو عند ظن عبده، وإن عاقبه برهة فإن كان ظنه به ألا يعذبه برهة، ولا تحلة فإنه كذلك يجده كما ظن إن شاء الله فهو أهل التقوى وأهل المغفرة. وأما حديث الذى لم يعمل خيرًا قط، ففيه دليل على أن الإنسان لا يدخل الجنة بعمله ما لم يتغمده الله برحمته كما قال (صلى الله عليه وسلم) . وفيه أن الإنسان يدخل الجنة بحسن نيته فى وصيته لقوله: خشيتك يا رب. وفيه أن من جهل بعض الصفات فليس بكافر خلافًا لبعض المتكلمين؛ لأن الجهل بها هو العلم؛ إذ لا تبلغ كنه صفاته تعالى، فالجاهل بها هو المؤمن حقيقة ولهذا قال بعض السلف: عليكم بدين العذارى، أفترى العذارى يعلمن حقيقة صفات الله تعالى. وللأشعرى فى تأويل هذا الحديث قولان: كان قوله الأول: من جهل القدرة أو صفة من صفات الله تعالى فليس بمؤمن. وقوله فى هذا الحديث: (لئن قدر الله على) لا يرجع إلى القدرة وإنما يرجع إلى معنى التقدير الذى هو بمعنى التضييق كما قال تعالى فى قصة يونس: (فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ) [الأنبياء: 87] ، أى لن نضيق عليه، ثم رجع عن هذا القول وقال: لا يخرج المؤمن من الإيمان بجهله بصفة من صفات الله تعالى قدرة كانت أو سائر صفات ذاته تعالى إذا لم يعتقد فى ذلك اعتقادًا يقطع أنه الصواب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 501 والدين المشروع، ألا ترى أن الرجل قال: لئن قدر الله عليه ليعذبنه فأخرج ذلك مخرج الظن دون القطع على أنه تعالى غير قادر على جمعه وإحيائه إخراج خائف من عذاب ربه ذاهل العقل. يدل على ذلك قوله مجيبًا لربه لما قال له: لم فعلت؟ قال: من خشيتك. وأنت أعلم. فأخبر بالعلة التى لها فعل ما فعل، ويدل على صحة هذا القول من روى قوله: لعلى أضل الله. و (لعل) فى كلام العرب موضوعة لتوقع مخوف لا يقطع على كونه، ولا على انتفائه، ومعنى قوله: لعلى أضل على الله وحذف حرف الجر، وذلك مشهور فى اللغة كما قال الشاعر: استغفر الله ذنبًا والمعنى من ذنب. ومن كان خائفًا عند حضور أجله فجدير أن تختلف أحواله لفرط خوفه، وينطق بما لا يعتقد، ومن كان هكذا فغير جائز إخراجه من الإيمان الثابت له؛ إذ لم يعتقد ما قاله دينًا وشرعًا، وإنما يكفر من اعتقده تعالى على خلاف ما هو به، وقطع على أن ذلك هو الحق، ولو كفر من جهل بعض صفات الله لكفر عامة الناس؛ إذ لا يكاد نجد منهم من يعلم أحكام صفات ذاته، ولو اعترضت جميع العامة وكثيرًا من الخاصة وسألتهم: هل لله تعالى قدرة أو علم أو سمع أو بصر أو إرادة، وهل قدرته متعلقة بجميع ما يصح كونه معلومًا لما عرفوا حقيقة ذلك؟ فلو حكم بالكفر على من جهل صفة من صفات الله تعالى لوجب الحكم به على جميع العامة، وأكثر الخاصة وهذا محال. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 502 والدليل على صحة قولنا حديث السوداء، وأن الرسول قال لها: (أين الله؟) فقالت: فى السماء. فقال: من أنا؟ فقالت: أنت رسول الله. فقال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة) . فحكم لها بالإيمان، ولم يسألها عن صفات الله وأسمائه، ولو كان علم ذلك شرطًا فى الإيمان لسألها عنه كما سألها عن أنه رسول الله، وكذلك سؤال أصحاب رسول الله، عمر بن الخطاب وغيره، رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن القدر، فقالوا: يا رسول الله، أرأيت ما نعمل لأمر مستأنف أم لأمر قد سبق؟ فقال: (بل لأمر قد سبق، قال: ففيم يعمل العاملون؟ قال: اعملوا، فكل ميسر لما خلق له) وأعلمهم أن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، ومعلوم أنهم كانوا قبل سؤاله مؤمنين، ولا يسع مسلمًا أن يقول غير ذلك فيهم، ولو كان لا يسعهم جهل القدرة وقدم العلم لعلمهم ذلك مع شهادة التوحيد، ولجعله عمودًا سادسًا للإسلام، وهذا بين. وأما حديث أبى هريرة فى الرجل الذى واقع الذنب مرة بعد مرة ثم استغفر ربه فغفر له، ففيه دليل على أن المصر فى مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له مغلبًا لخشيته التى جاء بها وهى اعتقاده، وأن له ربا خالقا يعذبه ويغفر له واستغفاره إياه على ذلك، يدل على ذلك قوله: (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [الأنعام: 160] ، ولا حسنة أعظم من توحيد الله والإقرار بوجوده والتضرع إليه فى المغفرة. فإن قيل: فإن استغفاره ربه توبة منه، ولم يكن مصرًا قيل له: ليس الاستغفار أكثر من طلب غفرانه، وقد يطلب الغفران المصر والنائب، ولا دليل فى الحديث على أنه قد كان تاب مما سأل الغفران الجزء: 10 ¦ الصفحة: 503 منه؛ لأن التوبة الرجوع من الذنب والعزم، على ألا يعود إلى مثله والاستغفار لا يفهم منه ذلك، وبالله والتوفيق. 37 - بَاب كَلامِ الرَّبِّ تَعَالَى مَعَ الأنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ / 127 - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، شُفِّعْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ خَرْدَلَةٌ، فَيَدْخُلُونَ، ثُمَّ أَقُولُ: أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ أَدْنَى شَىْءٍ. / 128 - وَقَالَ أَنَس مرة عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَمَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِى بَعْضٍ، فَيَأْتُونَ آدَمَ. . .) إلى قوله: (فَيَأْتُونِى، فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى، فَيُؤْذَنُ لِى، وَيُلْهِمُنِى مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا، لا تَحْضُرُنِى الآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ: يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِى، أُمَّتِى، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ، فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ. . .) وذكر الحديث إلى قوله: (أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ) ، إلى قوله: (فَمَرَرْنَا بِالْحَسَنِ، وَهُوَ مُتَوَارٍ فِى مَنْزِلِ أَبِى خَلِيفَةَ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا سَعِيدٍ، جِئْنَاكَ مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ أَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ، فَلَمْ نَرَ مِثْلَ مَا حَدَّثَنَا فِى الشَّفَاعَةِ، قَالَ: هِيهْ، فَحَدَّثْنَاهُ بِالْحَدِيثِ فَقَالَ: لَقَدْ حَدَّثَا، وَهُوَ جَمِيعٌ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً أَنَّهُ قَالَ: (ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا. . .) إلى قوله: (فَيَقُولُ وَعِزَّتِى وَجَلالِى وَكِبْرِيَائِى وَعَظَمَتِى لأخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 504 / 129 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولا الْجَنَّةَ وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنَ النَّارِ، رَجُلٌ يَخْرُجُ حَبْوًا، فَيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: رَبِّ، الْجَنَّةُ مَلأى، فَيَقُولُ لَهُ ذَلِكَ ثَلاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يُعِيدُ عَلَيْهِ: الْجَنَّةُ مَلأى، فَيَقُولُ: إِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا عَشْرَ مِرَات) . / 130 - وفيه: عَدِىِّ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ) . / 131 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الْيَهُودِ، إلى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (إِنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، جَعَلَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ. . .) الحديث (ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ. . .) الحديث. / 132 - وفيه: ابْن عُمَرَ، سَأَلَه رجُل: كَيْفَ سَمِعْتَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ فِى النَّجْوَى؟ قَالَ: (يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيُقَرِّرُهُ، فَيَقُولُ: نَعَمْ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّى سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِى الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ) . قال المهلب: قد تقدم إثبات كلام الله مع الملائكة المشاهدة له وأثبت فى هذا الباب كلامه تعالى مع النبيين يوم القيامة بخلاف ما حرمهم إياه فى الدنيا بحجابه الأبصار عن رؤيته فيها، فيرفع فى الآخرة ذلك الحجاب عن أبصارهم، ويكلمهم على حال المشاهدة كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (ليس بينه وبينهم ترجمان) وجميع أحاديث الباب فيها كلام الله مع عباده، ففى حديث الشفاعة قوله تعالى لمحمد: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 505 (أخرج من النار من فى قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان) إلى قوله: (وعزتى وجلالى وكبريائى لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله) فهذا كلامه للنبى (صلى الله عليه وسلم) بدليل قوله: (فأستأذن على ربى) وفى بعض طرق الحديث (فإذا رأيته أخر له ساجدًا) وكذلك قوله فى حديث آخر من يدخل الجنة. قوله تعالى: (ادخل الجنة. فيقول: رب الجنة ملأى) إلى قوله: (لك مثل الدنيا عشر مرات) فأثبت بذلك كلامه تعالى مع غير الأنبياء مشافهة، ونظرهم إليه، وكذلك حديث النجوى: يدنيه الله فى رحمته وكرامته ويقول: سترتها عليك فى الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم على الانفراد عن الناس. وقد تقصيت الكلام فى النجوى فى باب: ستر المؤمن على نفسه فى كتاب الأدب فى موضعه. وقوله: (هيه) : هى كلمة استزادة للكلام. عن صاحب العين. وقوله: (ثم يهزهن) . قال صاحب العين: الهزهزة: تحريك اليد. 38 - بَاب قَوْل اللَّه تَعَالَى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) [النساء: 146] / 133 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، قَالَ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ، الَّذِى أَخْرَجْتَ ذُرِّيَّتَكَ مِنَ الْجَنَّةِ، قَالَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالاتِهِ وَكَلامِهِ. . .) الحديث. / 134 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (يُجْمَعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا، فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا. . .) . / 135 - وفيه: أَنَس، قَالَ: لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِالنَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ، جَاءَهُ ثَلاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَهُوَ نَائِمٌ فِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 506 أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَقَالَ: أَوْسَطُهُمْ هُوَ خَيْرُهُمْ، فَقَالَ آخِرُهُمْ: خُذُوا خَيْرَهُمْ، فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى، فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ، وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الأنْبِيَاءُ، عليهم السَّلام، تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ، فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ، فَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ فَتَوَلاهُ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ، فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ، فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ حَتَّى أَنْقَى جَوْفَهُ، ثُمَّ أُتِىَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تَوْرٌ مِنْ ذَهَبٍ مَحْشُوًّا َحِكْمَةً وَإِيمَانًا فَحَشَا بِهِ صَدْرَهُ وَلَغَادِيدَهُ، يَعْنِى عُرُوقَ حَلْقِهِ، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَضَرَبَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا، فَنَادَاهُ أَهْلُ السَّمَاءِ. . .) ، فذكر حديث المعراج: (فذكر فِى السَّمَاءِ الدُّنْيَا آدَمَ، وَإِدْرِيسَ فِى الثَّانِيَةِ، وَهَارُونَ فِى الرَّابِعَةِ، وَآخَرَ فِى لَمْ أَحْفَظِ اسْمَهُ، وَإِبْرَاهِيمَ فِى السَّادِسَةِ، وَمُوسَى فِى السَّابِعَةِ، بِتَفْضِيلِ كَلامِ اللَّهِ، فَقَالَ مُوسَى: رَبِّ لَمْ أَظُنَّ أَنْ يُرْفَعَ عَلَىَّ أَحَدٌ، ثُمَّ عَلا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لا يَعْلَمُهُ إِلا اللَّهُ حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَدَنَا لِلْجَبَّارِ رَبِّ الْعِزَّةِ، فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ خَمْسِينَ صَلاةً، فَقَالَ لهُ مُوسَى: ارْجِعْ ربك. فراجع ربه حَتَّى خفف عنه إلى خَمْسِ صَلَوَاتٍ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : يَا مُوسَى، قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّى مِمَّا اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ، قَالَ: فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللَّهِ، قَالَ: وَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِى مَسْجِدِ الْحَرَامِ) . قال المؤلف: بوب البخارى لحديث أنس فى كتاب الأنبياء باب: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 507 كان النبي (صلى الله عليه وسلم) تنام عينه ولا ينام قلبه. وبوب له فى تفسير القرآن باب: قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ) [الإسراء: 60] . استدل البخارى على إثبات كلام الله، وإثباته متكلمًا بقوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) [النساء: 164] ، وأجمع أهل السنة على أن الله كلم موسى بلا واسطة ولا ترجمان، وأفهمه معانى كلامه، وأسمعه إياها؛ إذ الكلام مما يصح سماعه. فإن قال قائل من المعتزلة أو غيرهم: فإذا سمع موسى كلام الله بلا واسطة ولا ترجمان، فلا يخلو أن يكون من جنس الكلام المسموع المعهود فيما بيننا أو لا يكون من جنسه، فإن كان من جنسه فقد وجب أن يكون محدثًا ككلام المحدثين، وإن لم يكن من جنسه فكيف السبيل إلى إسماعه إياه وفهمه معانيه؟ فالجواب: أنه لو لزم من حيث سمعه منه تعالى وفهم معانيه أن يكون كسائر كلام المحدثين قياسًا عليه للزم أن يكون بكونه فاعلا وقادرًا وعالمًا وحيًا ومريدًا، وسائر صفاته من جنس جميع الموصوفين بهذه الصفات فيما بيننا. فإن قالوا: نعم، خرجوا من التوحيد، وإن أبوه نقضوا دليلهم واعتمادهم على قياس الغائب على حكم الشاهد. ثم يقال لهم: لو وجب أن يكون كلامه من جنس كلام المخلوقين من حيث اشترك كلامه تعالى وكلامهم فى إدراكهما بالأسماع لوجب إذا كان البارى تعالى موجودًا وشيئًا أن يكون من جنس الموجودات وسائر الأشياء المشاهدة لنا، فإن لم يجب هذا لم يجب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 508 ما عرضوا به، وقد ثبت أنه تعالى قادر على أن يعلمنا اضطرارًا كل شىء يصح أن يعلمناه استدلالاً ونظرًا، وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يكون تعالى قادرًا على أن يعلم موسى معانى كلامه الذى لا يشبه كلام المخلوقين الخارج عن كونه حروفًا منظمة وأصواتًا مقطعة اضرارًا أو ينصب له دليلا إذا نظر فيه أدّاه إلى العلم بمعانى كلامه، فإذا كان قادرًا على الوجهين جميعًا زالت شبهة المعتزلة. قال المهلب: فى إفهام الله تعالى موسى من كلامه ما لا عهد له بمثله بتنوير قلبه له وشرحه له وشرحه لقبوله لا يخلو أن يكون ما أفهم الله سليمان من كلام الطير ومنطقها هو مثل كلام سليمان أو لا يشبه كلامه، فإن كان يشبه كلام سليمان ومن جنسه فلا وجه لاختصاص سليمان وداود بتعليمه دون بنى جنسه، ولا معنى لفخره (صلى الله عليه وسلم) بالخاصة وامتداحه بقوله: (عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ (إلى قوله: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) [النمل: 16] ، أو يكون منطق الطير الذى فهمه سليمان غير منطق سليمان والطير وبنى جنسهن فقد أفهمه الله ما لم يفهمه غيره من كلام الهدهد وكلام النملة التى تبسم ضاحكًا من قولها لفهمه عنها ما لم يفهمه غيره منها. وإنما ذكر حديث أبى هريرة فى حديث الشفاعة مختصرًا لما فى الحديث الطويل من قول إبراهيم (ولكن ائتوا موسى عبدًا آتاه الله التوراة، وكلمه تكليمًا) وكذلك فى حديث أنس فى الإسراء (فوجد موسى فى السماء السابعة بتفضيل كلامه عز وجل) وهذا يدل على أن الله تعالى لم يكلم من الأنبياء غير موسى - عليه السلام - الجزء: 10 ¦ الصفحة: 509 بخلاف ما زعم الأشعريون، ذكروا عن ابن عباس وابن مسعود أن الله كلم محمدًا (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) [النجم: 10] ، وأنه رأى ربه تعالى، وقد دفعت هذا عائشة وأعظمت فرية من افترى فيه على الله تعالى. وأما قول موسى إذ علا جبريل بمحمد: (يا رب، لم أظن أنك ترفع على أحدًا. موسى أن الله لم يكلم أحدًا من البشر فى الدنيا غيره؛ إذ بذلك استحق أن يرفع إلى السماء السابعة، وفهم من قوله تعالى: (إِنِّى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِى وَبِكَلاَمِى) [الأعراف: 144] أنه أراد البشر كلهم. ولم يعلم والله أعلم أن الله تعالى فضل محمدًا عليه بما أعطاه الله من الوسيلة والدعوة المقبولة منه شفاعة لأمته ولسائر الأنبياء من شدة موقفهم يوم الحشر حين أحجم الأنبياء عن الوسيلة إلى ربهم لشدة غضبه، وفضله بالإسعاف بالمقام المحمود الذى وعده فى كتابه، فبهذا رفع الله محمدًا على موسى. وأما قوله: (فدنا الجبار رب العزة) فهو دنو محبة ورحمة وفضيلة لا دنو مسافة ونقلة لاستحالة النقلة والحركة على البارى إذ لا يجوز أن تحويه الأمكنة. وقوله: (حتى كان قاب قوسين أو أدنى) فهو جبريل الذى تولى، فكان من الله أو من أمره على مقدار ذلك. عن الحسن) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) [النجم: 10] ، إلى جبريل ما أوحى، وكتب القلم وحتى سمع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 510 محمد صريفه فى كتابه، وبلغ جبريل محمدًا، وهو عند سدرة المنتهى، قيل: إليها منتهى أرواح الشهداء) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) [النجم: 11] . قال ابن عباس: رأى محمد ربه بقلبه. وعن ابن مسعود وعائشة: رأى جبريل وهو قول قتادة. وقال الحسن: ما رأى من مقدور الله وملكوته. وقوله: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى) [النجم: 12] ، هو محمد رأى جبريل (صلى الله عليه وسلم) فى صورته التى خلقه الله عليها له ستمائة جناح رفرفًا أخضر سد ما بين الخافقين، ولم يره قط فى صورته التى هو عليها إلا مرتين، وإنما كان يراه فى صورة كان يتشكل عليها من صور الآدميين وأكثرها صورة دحية الكلبى. وفى قوله: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (دليل على أن العيان أكبر أسباب العلم فلا يتمارى فيه ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (ليس الخبر كالمعاينة) ورأيت لبعض الناس فى لقاء النبى (صلى الله عليه وسلم) للأنبياء فى السموات دون عليين، والأنبياء مقرهم فى ساحة الجنة ورياضها تحت العرش، ومن دونهم من المقربين هناك فما وجه لقائه لآدم فى السماء الدنيا، ولإدريس فى السماء الثانية، وهارون فى الرابعة، وآخر فى الخامسة، وإبراهيم فى السادسة، وموسى فى السابعة؟ قال: فوجهه أنهم تلقوه (صلى الله عليه وسلم) كما يتلقى القادم يسابق الناس إليه على قدر سرورهم بلقائه. وقد روى عن أنس فى رتبة الأنبياء فى السموات خلاف حديث البخارى، روى ابن وهب، عن يعقوب بن عبد الرحمن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 511 الزهري، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة بن أبى وقاص، عن أنس بن مالك فذكر حديث الإسراء (فوجد آدم فى السماء الدنيا، وفى السماء الثانية عيسى ويحيى بن زكريا ابنا الخالة، وفى الثالثة يوسف، وفى السماء الرابعة إدريس، وفى الخامسة هارون، وفى السادسة موسى، وفى السابعة إبراهيم) . وأما قوله: (فاستيقظ وهو فى المسجد الحرام) فإن أهل العلم اختلفوا فى صفة مسرى النبى، فقالت طائفة: أسرى الله بجسده ونفسه، وروى ذلك عن ابن عباس والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة، وإبراهيم ومسروق ومجاهد وعكرمة. وقالت طائفة ممن قال: أسرى بجسده أنه صلى بالأنبياء ببيت المقدس ثم عرج به إلى السماء فأوحى الله إليه، وفرض عليه الصلاة، ثم رجع إلى المسجد الحرام من ليلته فصلى به صلاة الصبح، روى ذلك الطبرى فى حديث الإسراء عن أنس: ذكر من حديث أبي سعيد الخدرى أنه صلى (صلى الله عليه وسلم) فى بيت المقدس، ولم يذكر أنه صلى خلفه أحد، وقالت طائفة: أسرى برسول الله بجسمه ونفسه غير أنه لم يدخل بيت المقدس، ولم يصل فيه، ولم ينزل عن البراق حتى رجع إلى مكة. روى ذلك عن حذيفة قال فى قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى) [الإسراء: 1] ، قال: لم يصل فيه النبي - عليه السلام -، ولو صلى فيه لكتب عليكم الصلاة فيه كما كتب عليكم الصلاة عند الكعبة. وقال آخرون: أسرى بروحه ولم يسر بجسده، روى ذلك عن عائشة ومعاوية بن أبى سفيان والحسن البصري، وذكر ابن فورك عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 512 الحسن قال: عرج بروح النبي - عليه السلام - وجسده فى الأرض، وهو اختيار محمد بن إسحاق صاحب السير. ومن حجة أهل المقالة الأولى ما روى عن ابن عباس فى قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ) [الإسراء: 60] ، قال: هى رؤيا عين أريها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليلة أسرى به إلى بيت المقدس، وليست رؤيا منام، رواه ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قالوا: ولو أسرى بروحه دون جسده، وكان الإسراء فى المنام لما أنكرت قريش ذلك من قوله (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنهم كانوا لا ينكرون الرؤيا؟ ولا ينكرون أحدًا يرى فى المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو على مسيرة شهر أو أقل. ومن حجة الذين قالوا: أسرى بروحه دون جسده قول أنس فى حديث الإسراء، قال حين أسرى به: (جاءه ثلاثة نفر وهو نائم فى المسجد الحرام. .) وذكر الحديث إلى قوله: (حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء عليهم السلام تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم) فذكر النوم فى أول الحديث، وقال فى آخره: (فاستيقظ وهو فى المسجد الحرام) وهذا بين لا إشكال فيه، وإلى هذا ذهب البخارى، ولذلك ترجم له فى كتاب الأنبياء وتفسير القرآن ما ذكرته فى صدر هذا الباب. قال ابن إسحاق: وأخبرنى بعض آل أبي بكر الصديق أن عائشة كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولكن أسرى بروحه. قال ابن إسحاق: وحدثنى يعقوب بن عيينة بن المغيرة أن معاوية بن أبي سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: كانت رؤيا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 513 من الله صادقة. قال ابن إسحاق: فلم ينكر ذلك من قولهما لقول الحسن البصرى: إن هذه الآية نزلت فى ذلك يعنى: قول الله عز وجل: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ) [الإسراء: 60] ولقول الله عز وجل عن إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) إذ قال لابنه: (يَا بُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ) [الصافات: 102] ، ثم مضى على ذلك فعرف أن الوحى من الله عز وجل يأتى الأنبياء أيقاظًا ونيامًا. قال ابن إسحاق: وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (تنام عينى، وقلبى يقظان) فالله أعلم أى ذلك كان قد جاءه، وعاين فيه ما عاين من أمر الله تعالى على أى حاليه كان نائمًا أو يقظان كل ذلك حق وصدق. وذكر ابن فورك فى مشكل القرآن قال: كان النبى (صلى الله عليه وسلم) ليلة الإسراء فى بيت أم هانئ بنت أبى طالب. فالله أعلم. واحتج أهل هذه المقالة فقالوا: ما اعتل به من قال: إن الإسراء لو كان فى المنام لما أنكرته قريش؛ لأنهم كانوا لا ينكرون الرؤيا فلا حجة فيه؛ لأن قريشًا كانت تكذب العيان، وترد شهادة الله التى هى أكبر شهادة عليهم بذلك؛ إذ قال عنهم حين انشق القمر: (وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ) [القمر: 2] ، فأخبر عنهم أنهم يكذبون ما يرون عيانا، وكذلك قال عنهم: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ) [الحجر: 14، 15] ، وقال تعالى عنهم أنهم قالوا: (لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا) [الإسراء: 90] ، إلى قوله: (أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاء) [الإسراء: 93] ، ثم قالوا بعدما تمنوه: (وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا) [الإسراء: 93] ، وقال تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا) [الأنعام: 109] ، إلى قوله: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 514 ) وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام: 109] الآية، فأخبر تعالى أنه يكيد عقولهم وأبصارهم حتى ينكروا العيان القاطع للارتياب. ومثله قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ) [الأنعام: 111] ، وإنما كان إنكار قريش لقوله: (أسرى بى الليلة إلى بيت المقدس) حرصًا منهم على التشنيع عليه، وإثارة اسم الكذب عليه عند العامة المستهواة بمثل هذا التشنيع فلم يسألوه فى اليقظة كان ذلك الإسراء أو فى النوم وأقبلوا على التقريع له، وتعظيم قوله، وهذا غير معدوم من تشنيعهم، ألا ترى تكذيبهم قبل وقعة بدر لرؤيا عاتكة بنت عبد المطلب، عمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، إذ قالت: رأيت كأن صخرة وقعت من أبى قبيس فانفلقت فما تركت دارًا بمكة إلا دخلت فيها منها فلقة. فلما رأوا قبح تأويلها عليهم قالوا: يا بنى عبد المطلب، ما أهل بيت فى العرب أكذب منكم، أما كفاكم أن تدعوا النبوة فى رجالكم حتى جعلتم منكم نبية: فشنعوا رؤياها، وأخبروا عنها بالنفى طمعًا فى إثارة العامة عليهم، فكذلك كان قولهم فى مسراه (صلى الله عليه وسلم) . وفسر فى الحديث اللغاديد: عروق الحلق. وأهل اللغة يقولون: اللغاديد هى كالزوائد من لحم يكون فى باطن الأذنين من داخل، واحدها لغدود وبعض العرب تسميها: الألغاد، واحدها: لغد. ذكره ثابت فى خلق الإنسان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 515 39 - بَاب كَلامِ اللَّه تَعَالَى مَعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ / 136 - فيه: أَبُو سَعِيد،، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لأهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِى يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لا نَرْضَى يَا رَبِّ، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَلا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ، وَأَىُّ شَىْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِى، فَلا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا) . / 137 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ: (أَنَّ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِى الزَّرْعِ، فَقَالَ لَهُ: أَوَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّى أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، فَأَسْرَعَ وَبَذَرَ، فَتَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ وَتَكْوِيرُهُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَم، َ فَإِنَّهُ لا يُشْبِعُكَ شَىْءٌ. . .) الحديث. قال المهلب: قد تقدم إثبات كلام الله مع الأنبياء ومع الملائكة، وفى هذا الباب إثبات كلامه مع أهل الجنة بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك) فإن قال قائل من القدرية: إن فى هذا الحديث ما يدل على وهنه وسقوطه، وهو قوله: (أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده أبدًا) لأن فيه ما يوهم أن له أن يسخط على من صار فى الجنة، وقد نطق القرآن بخلاف ذلك قال تعالى: (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) [آل عمران: 185] ، وقال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام: 82] ، وأنهم خالدون في الجنة أبدًا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 516 فكيف يحل عليهم رضوانه، وقد أوجبه لأهل الجنة بقوله: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [البينة: 8] ، فيقال له: لما ثبت أن الله تفضل بخلق العباد، وأخرجهم من العدم إلى الوجود، وأنعم عليهم بخلق الحياة وإدامة الصحة والالتذاذ بنعمه، وكان له تعالى ألا يخرجهم ويبقيهم على العدم، ثم لما خلقهم كان له ألا يخلقهم أحياءً ملتذين، وألا يديم لهم الصحة. فكان تعالى فى مجازاة المحسنين وإنجاز ما وعدهم من إحسانه متفضلا عليهم، ولم يجب تعالى عليه لأحد شىء يلزمه، إذ ليس فوقه تعالى من شرع له شرعًا، ولا ألزمه حكمًا، وللمتفضل أن يتفضل وألا يتفضل، كما له أن يتعبد عباده بلا جزاء ولا شكور، تسخيرًا كسائر المخلوقات، وله أن يجازى مدة بمدة، ومدة العمل فى الدنيا متناهية فيقطع ما تفضل به من المجازاة على ما تفضل به عليهم من العمل والمعونة. وعلموا أن آدم - عليه السلام - كلف فى الجنة اجتناب أكل الشجرة، فجاز عليه التكليف والمعصية، لم يأمنوا ما لله تعالى فى خلقه مثل ذلك من ابتداء التكليف وجواز المعصية، فزاد الله سرورهم بأن أمنهم ما كان له أن يفعله فيهم، ورفعه عنهم بالرضوان عليهم وإسقاط التكليف لهم وعصمهم من جواز المعصية عليهم، فلو عبد الله العبد ألف سنة بعد تقدم أمره إليه بذلك لما وجب له عليه جزاء على عبادة. وكيف يجب له ثواب وأقل نعمة من نعمه تستغرق جميع أعماله التى تقرب بها إليه، فحلول رضوانه عليهم أنعم لنفوسهم من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 517 كل ما خولهم فى جناته تعالى، فسقط اعتراضهم، وصح معنى الحديث. وأدخل حديث الزارع فى الجنة لتكلم الله له. وقوله: (دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شىء) فإن ظن من لم ينعم النظر أن قوله: لا يشبعك شىء. معارض لقوله: (إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا) [طه: 118] ، فليس كما ظن؛ لأن نفى الشبع لا يوجب الجوع؛ لأن بينهما واسطة الكفاية والشبع بعده، وأكل أهل الجنة لا عن جوع أصلاً لنفى الله تعالى الجوع منهم، واختلف فى الشبع فيها، والصواب: ألا شبع؛ لأنه لو كان فيها طول الأكل المستلذ منها مدة الشبع، وإنما أراد بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يشبعك شىء) ذم ترك القناعة بما كان فيه، وطلب الزيادة عليه، أى لا تشبع عينك ولا نفسك بشىء، والله الموفق. 40 - بَاب ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالأمْرِ وَذِكْرِ الْعِبَادِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالرِّسَالَةِ وَالإبْلاغِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ) [البقرة: 152] ) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ (الآية إلى قوله: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [المائدة: 27] غُمَّةٌ: هَمٌّ وَضِيقٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: اقْضُوا إِلَىَّ مَا فِى أَنْفُسِكُمْ، يُقَالُ: افْرُقِ: اقْضِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ) [التوبة: 6] إِنْسَانٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 518 يَأْتِيهِ، فَيَسْتَمِعُ مَا يَقُولُ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَأْتِيَهُ، فَيَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ وَحَتَّى يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ حَيْثُ جَاءَهُ النَّبَأُ الْعَظِيمُ الْقُرْآنُ،) صَوَابًا (حَقًّا فِى الدُّنْيَا وَعَمَلٌ بِهِ. معنى قوله باب ذكر الله بالأمر: أى ذكر الله لعباده يكون مع أمره لهم بعبادته، والتزام طاعته، ويكون مع رحمته لهم، وإنعامه عليهم إذا أطاعوه، وبعذابه إذا عصوه. قال ابن عباس فى قوله: (فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ) [البقرة: 152] : إذا ذكر الله العبد وهو على طاعته؛ ذكره برحمته، وإذا ذكره وهو على معصيته؛ ذكره بلعنته. وقال سعيد بن جبير: اذكرونى بالطاعة أذكركم بالمغفرة. قال المهلب: ذكر العباد بالدعاء والتضرع فى الغفران، والتفضل عليهم بالرزق والهداية، وقوله: والرسالة والإبلاغ معناه: وذكر الله الأنبياء بالرسالة والإبلاغ بما أرسلهم به إلى عباده بما يأمرهم به من عبادته وينهاهم، وقوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ (، فهذا ذكر الله لرسوله نوح بما بلغ من أمره، وتذكيره قومه بآيات الله، وكذلك فرض على كل نبى تبليغ كتابه وشريعته، ولذلك ذكر قوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ) [التوبة: 6] الذى أمر بتلاوته عليهم، وإنبائهم به. وقال مجاهد: النبأ العظيم: القرآن، سمى نبأ لأنه منبا به، وهو متلو للنبى (صلى الله عليه وسلم) ولهذا ذكر فى الباب هذه الآية من أجل أمر الله تعالى محمدًا (صلى الله عليه وسلم) إجارة المشرك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 519 حتى يسمع الذكر، وقوله صوابًا حقًا، يريد قوله عز وجل: (لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) [النبأ: 38] ، يريد وقال حقًا فى الدنيا، وعمل به فذلك الذى يؤذن له فى الكلام بين يدى الله تعالى بالشفاعة لمن أذن له، وكان يصلح أن يذكر فى هذا الباب قوله (صلى الله عليه وسلم) عن ربه تعالى: (من ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى، ومن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منه) أى من ذكرنى فى نفسه متضرعًا داعيًا؛ ذكرته فى نفسى مجيبًا مشفقًا، فإن ذكرنى فى ملأ من الناس بالدعاء والتضرع ذكرته فى ملأ من الملائكة، الذين هم أفضل من ملأ الناس، بالمغفرة والرحمة والهداية، يفسره قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث التنزل: (هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه) هذا ذكر الله للعباد بالنعم والإجابة لدعائهم. 41 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا) [البقرة: 22] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) [الفرقان: 68] وقوله: (وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ (الآية [الزمر: 65] وَقَالَ عِكْرِمَةُ: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف: 106] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 520 يسألهم من خلقهم وخلق السموات والأرض، فيقولون: الله، وذلك إيمانهم، وهم يعبدون غيره. وَمَا ذُكِرَ فِى خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَكْسَابِهِمْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وأسروا قولكم أو اجهروا به (الآية، وقوله: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات: 96] ، وقوله: (وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) [الفرقان: 2] . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (مَا تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ إِلا بِالْحَقِّ) [الحجر: 8] بِالرِّسَالَةِ وَالْعَذَابِ،) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ) [الأحزاب: 8] الْمُبَلِّغِينَ الْمُؤَدِّينَ مِنَ الرُّسُلِ،) وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (عِنْدَنَا) وَالَّذِى جَاءَ بِالصِّدْقِ) [الزمر: 33] الْقُرْآنُ) وَصَدَّقَ بِهِ (الْمُؤْمِنُ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: هَذَا الَّذِى أَعْطَيْتَنِى عَمِلْتُ بِمَا فِيهِ. / 138 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، سَأَلْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَىُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: (أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ) ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: (ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خشية أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ) ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: (ثُمَّ أَنْ تُزَانِىَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ) . قال المهلب: غرضه فى هذا الباب إثبات الأفعال كلها لله تعالى كانت من المخلوقين، خيرًا أو شرًا، فهى لله خلق وللعباد كسب، ولا ينسب منها شىء إلى غير الله تعالى فيكون شريكًا له، وندًا مساويًا له فى نسبة الفعل إليه، ونبه الله عباده على ذلك بقوله: (فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 22] أنه الخالق لكم ولأفعالكم وأرزاقكم، ردًا على من زعم من القدرية أنه يخلق أفعاله، فمن علم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 521 أن الله خلق كل شىء فقدره تقديرًا، فلا ينسب شيئًا من الخلق إلى غيره، فلهذا ذكر هذه الآيات فى نفى الأنداد والآلهة المدعوة معه، فمنها ما حذر به المؤمنين، ومنها ما وبخ به الكافرين الضالين، ثم أثنى على المؤمنين فى قوله: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) [الفرقان: 68] ، يريد كما يدعو عبدة الأوثان لترزقهم، وتعافيهم، وهى لا تملك لهم ضرًا ولا نفعًا. وقوله: (أى الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك) معناه: رزقك بدليل قوله: (ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك) كيف تقتله وقد خلق رزقه، فلا يأكل من رزقك شيئًا، فمن خلقك وخلقه، ورزقك ورزقه، أحق بالعبادة من الند الذى اتخذت معه شريكًا، ثم أن تزانى حليلة جارك، وقد خلق لك زوجة فتقطع بالزنا الرحم والنسب، وتقاطع الرحام سبب إلى قطع الرحمة من الله، والتراحم بين الناس، ألا ترى غضب القبائل لبنى عمها من أجل الرحم، وأن الغدر وخسيس الفعل منسوب إلى أولاد الزنا، لانقطاع أرحامهم. 42 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ (الآية [فصلت: 22] / 139 - فيه: عَبْدِاللَّه بْن مسعود، اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِىٌّ، أَوْ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِىٌّ، كَثِيرَةٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ، قَلِيلَةٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ قَالَ الآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا، وَلا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا، وَقَالَ الآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 522 فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ (الآيَةَ. غرضه فى هذا الباب إثبات السمع لله تعالى والعلم بنيات الكلام له فى هذه الآية ومن سائر الآيات فى الأبواب المتقدمة، وإذا ثبت أنه سميع فواجب كونه سامعًا بسمع، كما أنه لما ثبت كونه عالمًا وجب كونه عالمًا بعلم خلافًا لمن أنكر صفات الله من المعتزلة، وقالوا: معنى وصفه بأنه سامع للمسموعات: بمعنى وصفه بأنه عالم بالمعلومات ولا سمع له، ولا هو سامع حقيقة، وهذه شناعة ورد لظواهر كتاب الله وسنن رسوله، وموجب كون المخلوق أكمل أوصافًا من الخالق؛ لأن السامع هنا يسمع الشىء ويعلمه حقيقة، وكذلك البصير منا يرى الشىء ويعلمه حقيقةً، فلو كان البارى سامعًا لما يسمعه، ويعلمه بمعنى أنه عالم فقط؛ لكنا أكمل وصفًا منه تعالى من حيث أدركنا الشىء من جهة السمع والعلم، وأدركه هو من جهة العلم فقط، ومن أدرك الشىء من وجهين أولى يكون بصفة الكمال من مدركه من وجه واحد، وهذا يوجب عليهم أن يكون خالقهم بصفة الصم الذى يعلم الشىء ولا يسمعه، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. وفى حديث الثقفى والقرشيين من الفقه: إثبات القياس الصحيح، وإبطال القياس الفاسد، ألا ترى أن الذى قال: (يسمع إن جهرنا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 523 ولا يسمع إن أخفينا) قد أخطأ فى قياسه؛ لأنه شبه الله تعالى بخلقه الذين يسمعون الجهر، ولا يسمعون السر، والذى قال: (إن كان يسمع إن جهرنا، فإنه يسمع إن أخفينا) أصاب فى قياسه حين لم يشبه الله بالمخلوقين، ونزهه عن مماثلتهم. فإن قيل: فإن كان أصاب فى قياسه، فكيف جعله النبى (صلى الله عليه وسلم) من جملة الذين شهد لهم بقلة الفقة. قيل له: لما لم يعتقد حقيقة ما قال:، وشك فيه، ولم يقطع على سمع الله تعالى بقوله: إن كان يسمع، لم يحكم له النبى (صلى الله عليه وسلم) بالفقه، وسوى بينهم فى أنه قليل فقه قلوبهم. 43 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ) [الرحمن: 29] وَ) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) [الأنبياء: 2] وَقَوْلِهِ: (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) [الطلاق: 1] وَأَنَّ حَدَثَهُ لا يُشْبِهُ حَدَثَ الْمَخْلُوقِينَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11] . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لا تَكَلَّمُوا فِى الصَّلاةِ) . / 140 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ كُتُبِهِمْ وَعِنْدَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ أَقْرَبُ الْكُتُبِ عَهْدًا بِاللَّهِ، تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ. / 141 - وَقَالَ مرة: كِتَابُكُمِ الَّذِى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّكُمْ أَحْدَثُ الأخْبَارِ بِاللَّهِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 524 غرضه في هذا الباب الفرق بين وصف كلام الله بأنه مخلوق، وبين وصفه بأنه محدث، فأحال وصفه بالخلق، وأجاز وصفه بالحدث، اعتمادًا على قوله تعالى: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) [الأنبياء: 2] ، وهذا القول لبعض المعتزلة ولبعض أهل الظاهر، وهو خطأ فى القول؛ لأن الذكر الموصوف فى الآية بالإحداث، ليس هو نفس كلامه تعالى؛ لقيام الدليل على أن محدثًا، ومخلوقًا، ومنشئًا، ومخترعًا: ألفاظ مترادفة على معنى واحد. فإذا لم يجز وصف كلامه تعالى القائم بذاته بأنه مخلوق، لم يجز وصفه بأنه محدث، وإذا كان ذلك كذلك كان الذكر الموصوف فى الآية بأنه محدث راجعًا إلى أنه الرسول (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه قد سماه الله تعالى فى آية أخرى ذكرًا، فقال تعالى: (قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَّسُولاً) [الطلاق: 10، 11] ، فسماه ذكرًا فى هذه الآية، فيكون المعنى ما يأتيهم ذكر من ربهم، بمعنى: ما يأتيهم رسول. ويحتمل أن يكون الذكر فى الآية هو وعظ الرسول، وتحذيره إياهم من معاصى الله، فسمى وعظه ذكرًا، وأضافه إليه، إذ هو فاعل له، ومقدر رسوله على اكتسابه. وقال بعض المتكلمين فى هذه الآية: يحتمل أن يرجع الإحداث إلى الإتيان، لا إلى الذكر القديم؛ لأن نزول القرآن على النبى كان شيئًا بعد شىء، فكان يحدث نزوله حينًا بعد حين، ألا ترى أن العالم يعلم ما لا يعلمه الجاهل، فإذا علمه الجاهل حدث عنده العلم، ولم يكن إحداثه عند المتعلم إحداث عين العلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 525 44 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ) [القيامة: 16] وَفِعْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْوَحْىُ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا مَعَ عَبْدِى حَيْثُمَا ذَكَرَنِى، وَتَحَرَّكَتْ بِى شَفَتَاهُ) . / 142 - فيه: ابْن عَبَّاس، فِى قَوْلِهِ تَعَالَى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ (، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ لِى ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكَ كَمَا كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (قَالَ: جَمْعُهُ فِى صَدْرِكَ، ثُمَّ تَقْرَؤُهُ،) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) [القيامة: 18] قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ (صلى الله عليه وسلم) اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) كَمَا أَقْرَأَهُ. قال المهلب: غرضه فى هذا الباب، أن يعرفك أن وعاء القلب لما يسمعه من القرآن، وأن قراءة الإنسان وتحريك شفتيه ولسانه، عمل له وكسب يؤجر عليه، فكان (صلى الله عليه وسلم) يحرك به لسانه عند قراءة جبريل عليه مبادرةً ألا يفلت منه ما سمع، فنهاه الله عن ذلك، ورفع عنه الكلفة والمشقة التى كانت تناله فى ذلك، مع ضمانه تعالى تسهيل الحفظ على نبيه، وجمعه له فى صدره، وأمره أن يقرأه إذا فرغ جبريل من قراءته، وهو معنى قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) [القيامة: 18] . وقيل معنى قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (، أي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 526 اعمل بما فيه، فأما إضافته فعل القراءة إليه بقوله: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ (والقارئ لكلامه تعالى على محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو جبريل دونه تعالى فهذه إضافة فعل فعله فى غيره، كما تقول: قتل الأمير اللص وصلبه، وهو لم يل ذلك بنفسه، إنما أمر من فعله. ففيه بيان لما يشكل من كل فعل ينسب إلى الله تعالى، مما لا يليق به فعله من الإتيان، والنزول، والمجئ، أن ذلك الفعل إنما هو منتسب إلى الملك المرسل به، كقوله: (وَجَاء رَبُّكَ) [الفجر: 22] ، والمجئ مستحيل عليه لاستحالة الحركة، وإنما معناه: وجاء أمر ربك ورسول ربك، فكما استحالت عليه الحركة والانتقال، كذلك استحالت عليه القراءة المعلومة منا لأنها محاولة حركة أعضاء وآلات، والله يتعالى عن ذلك، وعن شبه الخليقة فى قول أو عمل. وأما قوله: (أنا مع عبدى ما ذكرنى وتحركت بى شفتاه) فمعناه: أنا مع عبدى زمان لى أى: أنا معه بالحفظ والكلاءة، لا على أنه معه بذاته حيث حلَّ العبد وتقلب، ومعنى قوله: (وتحركت بى شفتاه) : تحركت باسمى وذكره لى وبسائر أسمائه تعالى الدالة عليه، لا أن شفتيه ولسانه تتحرك بذاته تعالى، إذ محال حلوله فى الأماكن، ووجوده فى الأفواه، وتعاقب الحركات عليه. 45 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ (إلى) الْخَبِيرُ) [الملك: 13] ) يَتَخَافَتُونَ (: يَتَسَارُّونَ / 143 - فيه: ابْن عَبَّاس، فِى قَوْلِهِ: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 527 بِهَا (نَزَلَتْ وَالنَّبِيّ - عليه السلام - مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ، وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ (أَىْ بِقِرَاءَتِكَ، فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ، فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ) وَلا تُخَافِتْ بِهَا (عَنْ أَصْحَابِكَ فَلا تُسْمِعُهُمْ) وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) [الإسراء: 110] . / 144 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ) . وَزَادَ غَيْرُهُ: (يَجْهَرُ بِهِ) . معنى هذا الباب إثبات العلم لله تعالى صفة بذاتية؛ لاستواء علمه من القول والجهر، وقد بينه تعالى فى آية أخرى، فقال: (سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ) [الرعد: 10] ، وفيه دليل أن اكتساب العباد من القول والفعل خلق لله تعالى ألا ترى قوله: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [الملك: 13] ، ثم قال عقيب ذلك: (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14] ، فدل أنه ممتدح بكونه عالمًا بما أسروه من قولهم وجهروا به، وأنه خالق لذلك منهم. فإن قال قائل من القدرية الذين يزعمون أن أفعال العباد ليست خلقًا لله تعالى: قوله: (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ (غير راجع بالخلق إلى القول، وإنما هو راجع إلى القائلين، فليس فى الآية بدليل لكم على كونه تعالى خالقًا لقول القائلين. قيل له: هذا تأويل فاسد؛ لأن الله تعالى أخرج هذا الكلام مخرج التمدح الجزء: 10 ¦ الصفحة: 528 منه بعلمه ما أسروه من قولهم وجهروا به، وخلقه لذلك مع خلقه خلقه، دليلا على كونه عالمًا به. فلو كان غير خالق له، وممتدحًا بكونه عالمًا بقوله، وخالقًا لهم دون قولهم؛ لم يكن فى الآية دليل على صحة كونه عالمًا بقولهم، كما ليس فى عمل العامل ظرفًا من الظروف دليل على علمه ما أودعه غيره فيه. والله تعالى قد جعل خلقه دليلا على كونه عالمًا بقولهم؛ فيجب رجوع خلقه تعالى إلى قولهم؛ ليصح له التمدح بالأمرين، وليكون أحدهما دليلا على الآخر، وإذا كان ذلك كذلك، ولا أحد من الأمة يفرق بين القول وسائر الأفعال، وقد دلت الآية على كون الأقوال خلقًا له تعالى؛ وجب كون سائر أفعال العباد خلقًا له. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) فقد تقدم فى فضائل القرآن، وتلخيص معناه: الحض على تحسين الصوت به، والغناء الذى أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يقرأ القرآن به، وهو الجهر بالصوت وإخراج تلاوته من حدود مساق الإخبار والمحادثة؛ حتى يتميز التالى له من المتحدث تعظيمًا له فى النفوس وتحبيبًا إليها. فإن قال قائل: فإن كان معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) ما ذكرت من تحسين الصوت به، أفعندك من لم يحسن صوته بالقرآن فليس من النبي (صلى الله عليه وسلم) ؟ . قيل: معناه لم يستن بنا فى تحسين الصوت بالقرآن؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان يحسن صوته به، ويرجع فى تلاوته على ما حكاه ابن مغفل، على ما يأتى بعد، فمن لم يفعل مثل ذلك فليس بمتبع لسنته (صلى الله عليه وسلم) ، ولا مقتديًا به فى تلاوته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 529 46 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ - عليه السلام -: (رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ يَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ هَذَا فَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ) فَبَيَّنَ أَنَّ قِيَامَهُ بِالْكِتَابِ هُوَ فِعْلُهُ، وَقَالَ: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) [الروم: 22] وَقَالَ تَعَالَى: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج: 77] . / 145 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا حَسد إِلا فِى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ هَذَا لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِى حَقِّهِ، فَيَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ) . هذا الباب مستغنى عن الكلام فيه لبيانه ووضوح معناه لمن تأمله من ذوى الألباب. 47 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (الآية [المائدة: 67] وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: مِنَ اللَّهِ الرِّسَالَةُ وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ: وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ) [الجن: 28] ، وَقَالَ: (أُبْلِغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّى (. وَقَالَ فِى قصة كَعْب حِينَ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِىِّ - عليه السلام -: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 530 ) وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) [التوبة: 105] ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِذَا أَعْجَبَكَ حُسْنُ عَمَلِ امْرِئٍ، فَقُلْ) اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ أَحَدٌ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: (ذَلِكَ الْكِتَابُ (هَذَا الْقُرْآنُ،) هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة: 2] بَيَانٌ وَدِلالَةٌ، كَقَوْلِهِ: (ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ (هَذَا حُكْمُ اللَّهِ،) لا رَيْبَ فيه (لا شَكَّ،) تِلْكَ آيَاتُ (يَعْنِى هَذِهِ أَعْلامُ الْقُرْآنِ وَمِثْلُهُ،) حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس: 22] ، يَعْنِى بِكُمْ. وَقَالَ أَنَسٌ: بَعَثَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) خَالَهُ حَرَامًا إِلَى قَوْمِهِ، وَقَالَ: أَتُؤْمِنُونِى أُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُمْ. / 146 - فيه: الْمُغِيرَةُ، أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا (صلى الله عليه وسلم) عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ. وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْىِ فَلا تُصَدِّقْهُ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (الآية [المائدة: 67] . / 147 - وفيه: عَبْدُاللَّهِ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: (أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ. . .) الحديث، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهَا: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ (الآيَةَ [الفرقان: 68] . قال المهلب: هذا الباب كالذى قبله، وهو فى معناه وتبليغ الرسول فعل من أفعاله. وقول الزهرى: من الله الرسالة، وعلى رسوله البلاغ يبين هذا، وأنه قول أئمة الدين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 531 وقوله: (فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ) [التوبة: 105] ، يعنى: تلاوتهم وجميع أعمالهم، ومعنى قوله: (بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [المائدة: 67] ، يريد بلغه جهارًا وعلانيةً، فإن لم تفعل فما بلغت كل التبليغ. وقول عائشة: (إذا أعجبك حسن عمل امرئ) : تلاوته من عمله. وقوله: (ولا يستخفنك أحد) أى لا يستخفنك بعمله، فتظن به الخير، لكن حتى تراه عاملا على ما شرع الله، ورسوله على ما سن، والمؤمنون على ما عملوا. وقول معمر فى قوله تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ (ففسر ذلك بهذا وذلك مما يخبر به عن الغائب، وهذا إشارة إلى الحاضر، والكتاب حاضر، ومعنى ذلك أنه لما ابتدأ جبريل بتلاوة القرآن لمحمد، عليهما السلام، كفت حضرة التلاوة عن أن يقول هذا الذى يسمع، هو ذلك الكتاب لا ريب فيه، فاستغنى بأحد الضميرين عن الآخر. وقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس: 22] فلما جاز أن يخبر عنهم بضميرين مختلفين، ضمير المخاطبة والحضرة، وضمير الخبر عن الغيبة، فلذلك أخبر بضمير الغائب بقوله: (ذَلِكَ (، وهو يريد هذا الحاضر، وهذا مذهب مشهور للعرب، سمته أصحاب المعانى: الالتفاف، وهو انصراف المتكلم عن معنى يكون فيه إلى معنى آخر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 532 وقوله تعالى: (كُنْتُمْ (ثم قال: (بِهِمْ (يدل أنه خاطب الكل، ثم أخبر عن الراكبين للفلك خاصة إذا قد يركبها الأقل من الناس، لكن لجواز أن يركبها كل واحد من المخاطبين خاطبهم بضمير الكل، ولأن لا يركبها إلا الأقل أخبر عن ذلك الأقل بقوله: (بِهِمْ (. 48 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إن كنتم صادقين) [آل عمران: 93] وَقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (أُعْطِىَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ، فَعَمِلُوا بِهَا، وَأُعْطِىَ أَهْلُ الإنْجِيلِ الإنْجِيلَ، فَعَمِلُوا بِهِ، وَأُعْطِيتُمُ الْقُرْآنَ، فَعَمِلْتُمْ بِهِ) . وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) [البقرة: 121] يَتَّبِعُونَهُ وَيَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ، يُقَالُ) يُتْلَى (يُقْرَأُ، حَسَنُ التِّلاوَةِ: حَسَنُ الْقِرَاءَةِ لِلْقُرْآنِ،) لا يَمَسُّهُ (لا يَجِدُ طَعْمَهُ وَنَفْعَهُ إِلا مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ، وَلا يَحْمِلُهُ بِحَقِّهِ إِلا الْمُوقِنُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا) [الجمعة: 5] . وَسَمَّى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الإيمَانَ وَالإسْلامَ وَالصَّلاةَ عَمَلا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِبِلالٍ: (أَخْبِرْنِى أَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِى الإسْلامِ) ، قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلا أَرْجَى عِنْدِى أَنِّى لَمْ أَتَطَهَّرْ إِلا صَلَّيْتُ، وَسُئِلَ أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ الْجِهَادُ، ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ) . / 148 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَنْ سَلَفَ مِنَ الأمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، أُوتِىَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ، فَعَمِلُوا بِهَا حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ، ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا، قِيرَاطًا ثُمَّ أُوتِىَ أَهْلُ الإنْجِيلِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 533 الإنْجِيلَ، فَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى صُلِّيَتِ الْعَصْرُ، ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا، قِيرَاطًا ثُمَّ أُوتِيتُمُ الْقُرْآنَ، فَعَمِلْتُمْ بِهِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ. . .) ، الحديث فَأُعْطِيتُمْ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: هَؤُلاءِ أَقَلُّ مِنَّا عَمَلا وَأَكْثَرُ أَجْرًا، قَالَ اللَّهُ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فَهُوَ فَضْلِى أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ) . وَسَمَّى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الصَّلاةَ عَمَلا، وَقَالَ: (لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) . / 149 - وفيه: ابْن مَسْعُود، أَنَّ رَجُلا سَأَلَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَىُّ الأعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (الصَّلاةُ لِوَقْتِهَا، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) . قال المهلب: معنى هذا الباب كالذى قبله، أن كل ما يكسبه الإنسان مما يؤمر به من صلاة أو حج أو جهاد وسائر الشرائع عمل له يجازى على فعله، ويعاقب على تركه؛ إن أنفذ الله عليه الوعيد. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) حين سُئل أى العمل أفضل، فقال: (الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، والجهاد) فقرن حق الوالدين بحق الله عز وجل على عباده بواو العطف، وليس هذا بمخالف للحديث الآخر (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) سُئل أى العمل أفضل، فقال: إيمان بالله، ثم الجهاد، ثم حج مبرور) ولم يذكر بر الوالدين، وإنما يفتى السائل بحسب ما يعلم من حاله، أو ما يتقى عليه من فتنة الشيطان. فلذلك اختلف ترتيب أفضل الأعمال، مع أنه قد يكون العمل فى وقت أوكد وأفضل منه فى وقت آخر، كالجهاد الذى يتأكد مرةً، ويتراخى مرةً، ألا تراه أمر وفد عبد القيس بأمر فصل باشتراطهم ذلك منه، فلم يرتب لهم الأعمال، ولا ذكر لهم الجهاد ولا بر الوالدين، وإنما ذكر لهم أداء الخمس مما يغنمون، وذكر لهم الانتباذ فى المزفت فيما نهاهم عنه، وفى المنهيات ما هو أوكد منه مرارًا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 534 50 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (ضجورًا) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) [المعارج: 19، 20، 21] / 150 - فيه: عَمْرُو بْن تَغْلِبَ، قَالَ: أَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) مَالٌ فَأَعْطَى قَوْمًا، وَمَنَعَ آخَرِينَ، فَبَلَغَهُ أَنَّهُمْ عَتَبُوا، فَقَالَ: (إِنِّى أُعْطِى الرَّجُلَ: وَأَدَعُ الرَّجُلَ، وَالَّذِى أَدَعُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنِ الَّذِى أُعْطِى، أُعْطِى أَقْوَامًا لِمَا فِى قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِى قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغِنَى وَالْخَيْرِ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ) ، فَقَالَ عَمْرٌو: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِى بِكَلِمَةِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) حُمْرَ النَّعَمِ. قال المهلب: معنى هذا الباب إثبات خلق الله للإنسان بأخلاقه التى خلقه عليها من الهلع، والمنع، والإعطاء، والصبر على الشدة، واحتسابه ذلك على الله عز وجل وفسر هلوعًا بقول من قال: ضجورًا؛ لأن الإنسان إذا مسه الشر ضجر به، ولم يصبر محتسبًا، ويلزم من آمن بالقدر خيره وشره، وعلم أن الذى أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، الصبر على كل شدة تنزل به. ألا ترى أن الله تعالى قد استثنى المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون، لا يضجرون بتكررها عليهم، ولا يملون؛ لأنهم محتسبون لها، ومكتسبون بها التجارة الرابحة فى الدنيا والآخرة، وكذلك لا يمنعون حقوق الله فى أموالهم، فعرفك بما خلق الله عليه أهل الجنة من حسن الأخلاق، وما استثنى به العارفين المحتسبين بالصبر على الصلاة والصدقة. فقد أفهمك أن من اّدعى لنفسه قدرةً وحولا بالإمساك والشح والضجر من الإملاق والفقر، وقلة الصبر لقدر الله الجارى عليه بما سبق فى عمله ليس بقادر ولا عابد لله على حقيقة ما يلزمه، فمن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 535 ادّعى أن له قدرة على نفع نفسه، أو دفع الضر عنها، فقد ادّعى أن فيه صفة الإلهية من القدرة. وفى حديث عمرو بن تغلب دليل أن أرزاق العباد ليست من الله تعالى على قدر الاستحقاق بالدرجة والرفعة عنده، ولا عند السلطان فى الدنيا، وإنما هى على وجه المصلحة، والسياسة لنفوس العباد الأمارة بالسوء، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يعطى أقوامًا؛ ليداوى ما بقلوبهم من جزع، وكذلك المنع، هو على وجه الثقة بتميزه بما قسم الله له لمنعه (صلى الله عليه وسلم) أهل البصائر واليقين. قال غيره: وفيه من الفقه أن البشر فاضلهم ومفضولهم، قد جبلوا على حب العطاء، وبغض المنع، والإسراع إلى إنكار ذلك قبل الفكرة فى عاقبته، وهل لفاعل ذلك مخرج؟ وفيه أن المنع قد لا يكون مذمومًا، ويكون أفضل للممنوع لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (وأَكِلُ أقوامًا إلى ما جعل فى قلوبهم من الغنى والخير) . وهذه المنزلة التى شهد لهم بها النبى (صلى الله عليه وسلم) أفضل من العطاء الذى هو عرض الدنيا، ألا ترى أن عمرو بن تغلب اغتبط بذلك بعد جزعه منه، وقال: (ما أحب أن لى ذلك حمر النعم) وفيه استئلاف من يخشى منه، والاعتذار إلى من ظن ظنًا والأمر بخلاف ظنه، وهذا موضع كان يحتمل التأنيب للظان، واللوم له لكنه (صلى الله عليه وسلم) رءوف رحيم كما وصفه الله. 51 - بَاب ذِكْرِ النَّبِيِّ - عليه السلام - وَرِوَايَتِهِ عَنْ رَبِّهِ / 151 - فيه: أَنَس، عَنِ النَّبِيِّ - عليه السلام - يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ، قَالَ: (إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 536 إلي شبراً، تقربت إِليه ذِرَاعًا. . .) الحديث. / 152 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ، قَالَ: (لِكُلِّ عَمَلٍ كَفَّارَةٌ، وَالصَّوْمُ لِى. . .) الحديث. / 153 - وفيه: ابْن عَبَّاس، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِيمَا يَرْوى عَنْ رَبِّهِ، قَالَ: (لا يَنْبَغِى لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى) . / 154 - وفيه: ابْن مُغَفَّل، رَأَيْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ، قَالَ: فَرَجَّعَ فِيهَا، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ مُعَاوِيَةُ يَحْكِى قِرَاءَةَ ابْنِ مُغَفَّلٍ، وَقَالَ: لَوْلا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْكُمْ لَرَجَّعْتُ كَمَا رَجَّعَ ابْنُ مُغَفَّلٍ، يَحْكِى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ لِمُعَاوِيَةَ: كَيْفَ كَانَ تَرْجِيعُهُ؟ قَالَ: آآ آثَلاثَ مَرَّاتٍ. قال المهلب: معنى هذا الباب أن النبى (صلى الله عليه وسلم) روى عن ربه السنة، كما روى عنه القرآن، وهذا مبين فى كتاب الله فى قوله: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى) [النجم: 3، 4] ، ومعنى حديث ابن مغفل فى هذا الباب التنبيه على أن القرآن، بالترجيع، والألحان الملذة للقلوب بحسن الصوت المنشود لا المكفوف عن مداه الخارج عن مساق المحادثة، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يبالغ فى تزيين قراءته لسورة الفتح التى كان وعده الله فيها بفتح مكة، فأنجزه له ليستمل قلوب المشركين العتاة على الله، بفهم ما يتلوه من إنجاز وعد الله له فيهم، بإلذاذ أسماعهم بحسن الصوت المرجَّع فيه بنغم، ثلاث فى المدة الفارغة من التفصيل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 537 وقول معاوية: (لولا أن يجتمع الناس إلى، لرجعت كما رجع ابن مغفل، يحكى عن النبى) يدل أن القراءة بالترجيع والألحان تجمع نفوس الناس إلى الإصغاء والتفهم، ويستميلها ذلك حتى لا تكاد تصبر عن استماع المشوب بلذة الحكمة المفهومة منه، وقد تقدم فى كتاب فضائل القرآن، فى باب من لم يتغن بالقرآن، اختلاف أهل العلم فى التغنى. 52 - بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وكُتُبِ اللَّهِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [آل عمران: 93] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَنِى أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، أَنَّ هِرَقْلَ دَعَا تَرْجُمَانَهُ، ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَرَأَهُ: (بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ، وَ) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ (الآيَةَ) ، [آل عمران: 64] . / 155 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لأهْلِ الإسْلامِ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ (الآيَةَ) [البقرة: 136] . / 156 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أن النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أُتِىَ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ: (فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (فَقَالُوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 538 لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَرْضَوْنَ: يَا أَعْوَرُ، اقْرَأْ، فَقَرَأَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْضِعٍ مِنْهَا فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْها، قَالَ: (ارْفَعْ يَدَكَ) ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهِ آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ. . . الحديث. تفسير كتب الله بالعربية جائز وقد كان وهب بن منبه وغيره يترجمون كتب الله، إلا أنه لا يقطع على صحتها؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تصدقوا أهل الكتاب فيما يفسرونه من التوراة بالعربية) لثبوت كتمانهم لبعض الكتاب وتحريفهم له. واحتج أبو حنيفة بحديث هرقل، وأنه دعا ترجمانه، وترجم له كتاب النبى بلسانه حتى فهمه، فأجاز قراءة القرآن بالفارسية، وقال: إن الصلاة تصح بذلك. وخالفه سائر الفقهاء، وقالوا: لا تصح الصلاة بها. وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان يحسن العربية فلا تجزئه الصلاة، وإن كان لا يحسن أجزأه. ومن حجة أبى حنيفة أن المقروء يسمى قرآنًا، وإن كان بلغة أخرى إذا بين المعنى، ولم يغادر شيئًا، وإن أتى بما لا ينبئ عنه اللفظ، نحو الشكر مكان الحمد لم يجز، واستدلوا بأن الله تعالى حكى قول الأنبياء بلسانهم، بلسان عربى فى القرآن، كقول نوح: (يَا بُنَىَّ ارْكَب مَّعَنَا) [هود: 42] ، وأن نوحًا قال هذا بلسانه، قالوا: فكذلك يجوز أن يحكى القرآن بلسانهم، وقال تعالى: (وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ) [الأنعام: 19] ، فأنذر به سائر الناس، والإنذار إنما يكون بما يفهمونه من لسانهم، فيقرأ أهل كل لغة بلسانهم؛ حتى يقع لهم الإنذار به، وإذا فسر لهم بلسانهم فقد بلغهم، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 539 وسمى ذلك قرآنًا، وكذلك الإيمان يصح أن يقع بالعربية وبالفارسية، وحجة من لم يجز قراءة القرآن بالفارسية قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) [يوسف: 2] ، فأخبر تعالى أنه أنزله عربيًا فبطل أن يكون القرآن الأعجمى منزلا، ويقال لهم: أخبرونا إذا قرأ فاتحة الكتاب بالفارسية، هل تسمى فاتحة الكتاب أو تفسير فاتحة الكتاب، فإن قالوا: تفسير فاتحة الكتاب. قيل لهم: قد قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، ولم يقل بتفسير فاتحة الكتاب. ألا ترى أنه لو قرأ تفسيرها بالعربية فى الصلاة لم يجز، فتفسيرها بالفارسية أولى ألا يجوز. وقولهم: إن الله حكى قول الأنبياء، عليهم السلام، الذى بلسانهم بلسان عربى فى القرآن، كقوله نوح: (يَا بُنَىَّ ارْكَب مَّعَنَا) [هود: 42] وأن نوحًا قال هذا بلسانه، فكذلك يجوز أن يحكى القرآن بلسانهم. فالجواب أنا نقول: أنهم ما نطقوا بما حكى عنهم إلا كما فى القرآن، ولو قلنا ما ذكروه لم يلزمنا نحن أن نحكى القرآن بلغة أخرى؛ لأنه يجوز أن يحكى الله تعالى قولهم بلسان العرب، ثم يتعبدنا نحن بتلاوته على ما أنزله فلا يجوز أن نتعداه، وما يحتجون به أنه فى الصحف الأولى، وما يحتجون به من قوله: (وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ) [الأنعام: 19] فأنذر به على لسان كل أمة، فالجواب أن العرب إذا حصل عندها أن ذلك معجز، وهم أهل الفصاحة كانت العجم أتباعًا لهم، كما كانت العامة أتباعًا للسحرة فى زمن موسى، وأتباعًا للطب فى زمن عيسى، فقد يمكن العجم أن يتعلموه بلسان العرب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 540 وأما قولهم: إن الإيمان يصح أن يقال بالفارسية، فالجواب أن الإيمان يقع بالاعتقاد دون اللفظ؛ ولهذا جاز اللفظ بالشهادتين بكل لغة؛ لأن المقصود سقط المعجز، الذى هو النظم والتأليف. فإن قيل: أنتم تجوزونه بالفارسية إذا لم يقدر على العربية؛ فينبغى ألا يفترق الحكم. قيل: إنما أجزناه للضرورة، وليس ما جاز مع الضرورة يجوز مع القدرة، ولو كان كذلك لجاز التيمم مع وجود الماء، ولجاز ترك الصلاة مع القدرة؛ لأنه يسقط مع العذر. 53 - بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَزَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ / 157 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال: (مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَىْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِىٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ) . / 158 - وفيه: عَائِشَةَ، حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإفْكِ مَا قَالُوا، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ فِى شَأْنِى وَحْيًا يُتْلَى، وَلَشَأْنِى فِى نَفْسِى كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِىَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ (الْعَشْرَ الآيَاتِ. / 159 - فيه: الْبَرَاء، سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقْرَأُ فِى الْعِشَاءِ ب) التِّينِ وَالزَّيْتُونِ (فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا، أَوْ قِرَاءَةً مِنْهُ. / 160 - وفيه: ابْن عَبَّاس، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مُتَوَارِيًا بِمَكَّةَ، وَكَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 541 بالقرآن فَإِذَا سَمِعَه الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ، وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا (. / 161 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ لابْن أَبِى صَعْصَعَة: إِنِّى أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِى غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ، فَأَذَّنْتَ لِلصَّلاةِ، فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلا إِنْسٌ وَلا شَىْءٌ إِلا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، سَمِعْتُهُ مِنْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) . / 162 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَرَأْسُهُ فِى حَجْرِى، وَأَنَا حَائِضٌ. قال المهلب: المهارة بالقرآن: جودة التلاوة له بجودة الحفظ، فلا يتلعثم فى قراءته، ولا يتغير لسانه بتشكك فى حرف أو قصة مختلفة النص، وتكون قراءته سمحة بتيسير الله له كما يسره على الملائكة الكرام البررة، فهو معها فى مثل حالها من الحفظ، وتيسير التلاوة، وفى درجة الأجر إن شاء الله، فيكون بالمهارة عند كريمًا برًا، وكأن البخارى أشار بهذه الترجمة وما ضمنها من الأحاديث فى حسن الصوت، إلى أن الماهر بالقرآن هو الحافظ له مع حسن الصوت به، ألا تراه أدخل بأثر ذكر الماهر قوله (صلى الله عليه وسلم) (زينوا القرآن بأصواتكم) فأحال (صلى الله عليه وسلم) على الأصوات التى تتزين بها التلاوة فى الأسماع، لا الأصوات التى تمجها الأسماع لإنكارها، وجفائها على حاسة السمع، وتألمها بقرع الصوت المنكر وقد قال تعالى: (إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان: 19] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 542 لجهارته والله أعلم وشدة قرعه للسمع، وفى اتباعه أيضًا لهذا المعنى بقوله: (ما أذن الله لشىء ما أذن لنبى حسن الصوت بالقرآن) ما يقوى قولنا ويشهد له، وقد تقدم فى فضائل القرآن، ونزيده هاهنا وضوحًا، فنقول: إن الجهر المراد فى قوله: (يجهر به) هو إخراج الحروف فى التلاوة عن مساق المحادثة بالأخبار، بإلذاذ أسماعهم بحسن الصوت وترجيعه لا الجهر المنهى عنه الجافى على السامع، كما قال عز وجل للنبى (صلى الله عليه وسلم) : (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) [الإسراء: 110] ، وكما قال تعالى فى النبى: (وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) [الحجرات: 2] ، وقوله: (أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ) [الحجرات: 2] ، دليل أن رفع الصوت على المتكلم بأكثر من صوته من الأذى له، والأذى خطيئة. ويدل على أن المقاومة فى مقدار المتكلمين معافاة من الخطأ، إلا فى النبى (صلى الله عليه وسلم) وحده، فمنع الله من مقاومته فى الآية، توقيرًا له وإعظامًا، وقد روى لفظ الترجمة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) من حديث قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعيد بن هشام، عن عائشة قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (الذى يقرأ القرآن وهو به ماهر مع السفرة الكرام البررة، والذى يقرأ القرآن وهو يشتد عليه فله أجران) . وتأويل قوله: (أجران) والله أعلم تفسيره حديث ابن مسعود: (من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، فيضاعف الأجر لمن يشتد عليه حفظ القرآن فيعطى بكل حرف عشرون حسنة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 543 ولأجر الماهر أضعاف هذا إلى ما لا يعلم مقداره؛ لأنه مساوٍ للسفرة الكرام البررة، وهم الملائكة) وفى هذا تفضيل الملائكة على بنى آدم، وقد تقدم. وكذلك لم يسند البخارى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (زينوا القرآن بأصواتكم) ورواه شعبة ومنصور، عن طلحة بن مصرف، عن عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء بن عازب، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وقوله: (زينوا القرآن بأصواتكم) تفسير قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) لأن تزيينه بالصوت لا يكون إلا بصوت يطرب سامعيه ويلتذون بسماعه وهو التغنى الذى أشار إليه النبى، وهو الجهر الذى قيل فى الحديث، يجهر به بتحسين الصوت الملين للقلوب من القسوة إلى الخشوع، وهذا التزيين الذى أمر به (صلى الله عليه وسلم) أمته. وإلى هذا أشار أبو عبيد فقال: مجمل الأحاديث التى جاءت فى حسن الصوت بالقرآن، إنما هو من طريق التخزين والتخويف والتشويق، وقال: إنما نهى أيوب شعبة أن يحدث بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (زينوا القرآن بأصواتكم) لئلا يتأول الناس فيه الرخصة من رسول الله فى هذه الألحان المبتدعة. وفسر أبو سليمان الخطابى الحديث بتفسير آخر، قال: معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (زينوا القرآن بأصواتكم) أى زينوا أصواتكم بالقرآن على مذهبهم فى قلب الكلام، وهو كثير فى كلامهم، يقال: عرضت الناقة على الحوض: أى عرضت الحوض على الناقة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 544 وإنما تأولنا الحديث على هذا المعنى؛ لأنه لا يجوز على القرآن وهو كلام الخالق أن يزينه صوت مخلوق. وقال شعبة: نهانى أيوب أن أحدث بهذا الحديث. وهكذا رواه سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (زينوا أصواتكم بالقرآن) والمعنى: أشغلوا أصواتكم بالقرآن، والهجوا بقراءته، واتخذوا شعارًا. ولم يرد تطريب الصوت به والتزيين له، إذ ليس ذلك فى وسع كل أحد، لعل من الناس من يريد التزيين له، فيفضى ذلك به إلى التهجين، وهذا معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) إنما هو أن يلهج بتلاوته كما يلهج الناس بالغناء والطرب عليه. وهكذا فسره أبو سعيد بن الأعرابى، سأله عنه إبراهيم ابن فراس فقال: كانت العرب تتغنى بالركبانى، وهو النشيد بالتمطيط والمد، إذا ركبت الإبل، وإذا جلست فى الأفنية، وعلى أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب النبى أن يكون القرآن هجيرهم، مكان التغنى بالركبانى. قال المؤلف: والقول الأول هو الذى عليه الفقهاء، وعليه تدل الآثار، وما اعتل به الخطابى من أن كلام الله لا يجوز أن يزينه صوت مخلوق، فقد نقضه بقوله: (وليس التزيين فى وسع كل أحد، لعل من الناس من يريد التزيين فيقع فى التهجين) فقد نفى عنه التزيين وأثبت له التهجين، وهذا خلف من القول. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 545 ولو كان المعنى زينوا أصواتكم بالقرآن كما زعم هذا القائل؛ لدخل فى الخطاب من كان قبيح الصوت وحسنه، ولم يكن للحسن الصوت فضل على غيره؛ ولا عرف للحديث معنى، ولما ثبت أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لأبى موسى الأشعرى، حين سمع قراءته وحسن صوته: (لقد أوتى هذا مزمارًا من مزامير آل داود) . وثبت أن عقبة بن عامر كان حسن الصوت بالقرآن، فقال له عمر ابن الخطاب: اقرأ سورة كذا، فقرأها عليه، فبكى عمر وقال: ما كنت أظن أنها نزلت. فدل ذلك أن التزيين للقرآن إنما هو تحسين الصوت به ليعظم موقعه من القلوب، وتستميل مواعظه النفوس، ولا ينكر أن يكون القرآن يزين صوت من أدمن قراءته، وآثره على حديث الناس، غير أن جلالة موقعه من القلوب، والتذاذ السامعين به لا يكون إلا مع تحسين الصوت به. وقوله فى حديث أبى سعيد: (ارفع صوتك بالنداء) ففيه دليل أن رفع الصوت وتحسينه بذكر الله فى القرآن وغيره من أفعال البر؛ لأن ذلك تعظيم أمر الله، والإعلان بشريعته، وذلك يزيد فى التخشع، وترقيق النفوس. قال المهلب: وأما حديث عائشة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يقرأ القرآن ورأسه فى حجرها وهى حائض، ففيه معنى ما ترجم به من معنى المهارة بالقرآن؛ لأنه كان قد يسرّ الله عليه قراءته حتى كان يقرأه على كل أحواله لا يحتاج أن يتهيأ له بقعود، ولا بإحضار حفظه؛ لاستحكامه فيه، فلا يخاف عليه توقفًا؛ فلذلك كان يقرؤه راكبًا وماشيًا وقاعدًا وقائمًا ولا يتأهب لقوة حفظه ومهارته - عليه السلام -، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 546 ومنه أن المؤمن لا ينجس كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، وأن وصف المؤمن بالنجاسة إنما هو إخبار عن حال مباشرة الصلاة، ونقض غسله ووضوئه، ألا ترى سماع عائشة قراءة الرسول وهى حائض، والسماع عمل من أعمال المؤمنين مدخور لهم به الحسنات ورفع الدرجات. 54 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل: 20] / 163 - فيه: عُمَرَ، سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِى الصَّلاةِ، فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَبْتُهُ بِرِدَائِهِ. . . فذكر الحديث إلى قوله: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) . وقد تقدم فى فضائل القرآن. قال المهلب: ومعنى قوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل: 20] ، ما تيسر على القلب حفظه من آياته، وعلى اللسان من لغاته، وإعراب حركاته، كما فسره النبى فى هذا الحديث. ونذكر فى هذا الموضع ما لم يمض فى فضائل القرآن إن قال قائل: إذا ثبت أن القرآن أنزل على سبعة أحرف فكيف ساغ للقراء تكثير الروايات وقراءتهم بسبعين رواية وبأزيد من مائة؟ قال المهلب: فالجواب: أن عثمان لما أمر بكتابة المصاحف التى بعث بها إلى البلدان أخذ كل إمام من أئمة القراء في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 547 كل أفق نسخته، فما انفك له من سوادها وحروف مدادها مما وافق قراءته التى كان يقرأ لم يمكنه مفارقته لقيامه من سواد الحفظة، وأنه كان عنده فيه رواية إلى أحد من الصحابة، مع أنه لم تكن النسخ التى بعث بها عثمان مضبوطة بشكل لا يمكن تعديه، ولا تحقيق هجاء يعين معانيه؛ إذ كانوا يسمحون فى الهجاء بإسقاط الألف من كلمة لعلمهم بها استخفافًا لكثرة تكرر هذا كألف العالمين والمساكين، وكل ألف هى فى المصحف ملحقة بالحمرة. وقال يزيد الرقاشى: كان فى المصحف كانوا: كنوا، وقالوا: قلوا، فزدنا فيها ألفًا، يريد جماعة القراء حين جمعهم الحجاج، وكذلك ما زادوا فى الخط وقد كان فى المصحف: (ماء غير يسن) فردها الحجاج مع جماعة القراء) آسن (وفى الزخرف: (معايشهم) فردها) معيشتهم (. فكل تأول من ذلك الخط ما وافق قراءته كيفما كان من طريق الشكل وحركات الحروف مما يبدل المعنى، وقد يجوز أن يكون ذلك من وهل الأقلام، ويدل على ذلك استجلاب الحجاج مصحف أهل المدينة ورد مصاحف البصرة والكوفة إليه وإبقاء ما لا يغير معنى، وما له وجه جائز من وجوه ذلك المعنى وصار خط مصحف أهل المدينة سُنّة متبعة لا يجوز فيها التغيير؛ لأنها القراءة المنقولة سمعًا، وأن الستة المتروكة قطعًا لذريعة الاختلاف ما وافق منها المنفك من سواد الخط لأهل الأمصار فتواطئوا عليها جوز الجزء: 10 ¦ الصفحة: 548 لهم تأويلهم فيه بما وافق روايتهم عن صحابى لخشية التحزب الذى منه هربوا، ولكثرة من اتبع القراء فى تلك الأمصار من العامة غير المأمونة عند منازعتها، فهذا وجه تجويز العلماء أن يقرأ بخلاف أهل المدينة وبروايات كثيرة. وأما ما ذكر من قراءة ابن مسعود فهذا تبديل كلمة بأخرى كقوله: (صَيْحَةً وَاحِدَةً) [يس: 29] ، قرأها هو: (زقية واحدة) و) بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ) [الصافات: 46] قرأها: (صفراء) فهذا تبديل اللفظ والمعنى، ولذلك أجمعت الأمة على ترك القراءة بها، ولو سمح فى تبديل السواد لما بقى منه إلا الأقل، لكن الله حفظه علينا من تحكم المتأولين وتسلط أيدى الكاتبين على تبديل حرف بحرام إلى حلال، وحلال بحرام، وكلمة عذاب برحمة، ورحمة بعذاب، ونهى بأمر، وأمر بنهى، وإنما هو ذلك مما هو جائز فى كلام العرب من نصب وخفض ورفع مما لا يحيل معنى ولا حرج فيه. وقد روى البغوى: حديث محمد بن زياد، حدثنا ابن شهاب الخياط، حدثنا داود بن أبى هند، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: (جلس ناس من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) على بابه، فقال بعضهم: إن الله قال فى آية كذا كذا، وقال بعضهم: لم يقل كذا. فخرج رسول الله كأنما فقئ فى وجهه حب الرمان وقال: أبهذا أمرتم؟ إنما ضلت الأمم فى مثل هذا، انظروا ما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 549 أمرتم به فاعلموا به، وما نهيتم عنه فانتهوا) فدل هذا أنه لم يك فى السبع الذى نزل بها القرآن ما يحيل الأمر والنهى عن مواضعه، ولا يحيل الصفات عن مواضعها؛ لأنها مأمور باعتقادها ومنهى عن قياسها على المعانى؛ لأنه تعالى برئ من الأشياء والأنداد، وبقيت حركات الإعراب مستعملة لما انفك من سواد الخط فى المجتمع عليه، وعلى هذا استقر أمر القراءات عند العلماء. 55 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر: 32] وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) . مُهَيَّأٌ / 164 - فيه: عِمْرَان، قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِيمَا يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: (كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) . وروى على معناه عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وقد تقدم فى كتاب القدر. وتيسير القرآن للذكر هو تسهيله على اللسان، ومسارعته إلى القراءة حتى أنه ربما سبق اللسان إليه فى القراءة فيجاوز الحرف إلى ما بعده، ويحذف الكلمة حرصًا على ما بعدها. وقوله: (فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) [القمر: 15] ، أى: متفكر ومتدبر لما يقرأ ومستيقظ لما يسمع، يأمرهم أن يعتبروا، ويحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بمن هلك من الأمم قبلهم، وأصله: مذتكر، مفتعل من الذكر، أدغمت الذال فى التاء، ثم قلبت دالا، وأدغمت الذال فى الدال؛ لأنها أشبه بالدال من التاء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 550 56 - بَاب قَوْله تَعَالَى) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [البروج: 21، 22] ) وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِى رق منشور ( قَالَ قَتَادَةُ: (يَسْطُرُونَ) [القلم: 1] يَخُطُّونَ) فِى أُمِّ الْكِتَابِ (الزخرف: 4 جُمْلَةِ الْكِتَابِ، وَأَصْلِهِ) مَا يَلْفِظُ) [ق: 18] مَا يَتَكَلَّمُ مِنْ شَىْءٍ إِلا كُتِبَ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكْتَبُ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ،) يُحَرِّفُونَ (: يُزِيلُونَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُزِيلُ لَفْظَ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَهُ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، دِرَاسَتُهُمْ: تِلاوَتُهُمْ،) وَاعِيَةٌ (حَافِظَةٌ) وَتَعِيَهَا (تَحْفَظُهَا،) وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ) [الأنعام: 19] يَعْنِى أَهْلَ مَكَّةَ،) وَمَنْ بَلَغَ (هَذَا الْقُرْآنُ، فَهُوَ لَهُ نَذِيرٌ. / 165 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا عِنْدَهُ: غَلَبَتْ، أَوْ قَالَ: سَبَقَتْ رَحْمَتِى غَضَبِى، وَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) . وَقَالَ مرة عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ: إِنَّ رَحْمَتِى سَبَقَتْ غَضَبِى، وَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) . قال أهل التفسير: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ) [البروج: 21] ، أى كريم على الله تعالى) فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ) [البروج: 22] ، وهو أم الكتاب عند الله. وقرأ نافع: (محفوظ) بالرفع من نعت (قرآن) المعنى: بل هو قرآن مجيد محفوظ فى لوح. وقرأه غيره: (محفوظٍ) بالخفض من نعت اللوح، واختلف أهل التأويل فى قوله: (وَالطُّورِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 551 وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِى رَقٍّ مَّنشُورٍ) [الطور: 1 - 3] ، قال الحسن: هو القرآن فى أيدى السفرة. وقال الزجاج: الكتاب هاهنا ما أثبت على بنى آدم من أعمالهم. قال المهلب: وما ذكره النبى (صلى الله عليه وسلم) من سبق رحمة الله لغضبه فهو ظاهر؛ لأن من غَضب الله عليه من خلقه لم يخيبه فى الدنيا من رحمته ورأفته، بأن رزقه ونعمه وخوله مدة عمره أو وقتًا من دهره، ومكنه من آماله وملاذه، وهو لا يستحق بكفره ومعاندته غير أليم العذاب، فكيف رحمته بمن آمن به واعترف بذنوبه، ورجا غفرانه، ودعاه تضرعًا وخفية. وقد قال بعض المتكلمين: إن رحمته تعالى لم تنقطع عن أهل النار المخلدين الكفار، إذ من قدرته أن يخلق لهم عذابًا يكون عذاب النار لأهلها رحمة وتخفيفًا بالإضافة إلى ذلك العذاب. 57 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات: 96] ) إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر: 49] وَيُقَالُ لِلْمُصَوِّرِينَ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ،) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ (الآية [الأعراف: 54] . وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: بَيَّنَ اللَّهُ الْخَلْقَ مِنَ الأمْرِ؛ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ) [الأعراف: 54] وَسَمَّى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الإيمَانَ عَمَلا. قَالَ أَبُو ذَرّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ: سُئِلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَىُّ الأعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ، وَجِهَادٌ فِى سَبِيلِهِ، وَقَالَ: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17] ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 552 وَقَالَ: وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) مُرْنَا بِجُمَلٍ مِنَ الأمْرِ إِنْ عَمِلْنَا بِهَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ، فَأَمَرَهُمْ بِالإيمَانِ وَالشَّهَادَةِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَمَلاً. / 166 - فيه: أَبُو مُوسَى، أَتَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فِى نَفَرٍ مِنَ الأشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ، قَالَ: (وَاللَّهِ لا أَحْمِلُكُمْ. . .) وذكر الحديث إلى قوله: (لَسْتُ أَنَا أَحْمِلُكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ. . .) إلى آخره. / 167 - وفيه: ابْن عَبَّاس، (قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِالْقَيْسِ عَلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: مُرْنَا بِعُمَلٍ مِنَ الأمْرِ، إِنْ عَمِلْنَا بِها دَخَلْنَا الْجَنَّةَ، وَنَدْعُو إِلَيْهَا مَنْ وَرَاءَنَا، قَالَ: (آمُرُكُمْ بِالإيمَانِ بِاللَّهِ، شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ. . .) ، الحديث. / 168 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ) . / 169 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (قَالَ اللَّهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِى، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، وَلِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً) . قال المهلب: غرضه فى هذا الباب إثبات أفعال العباد وأقوالهم خلقًا لله تعالى كسائر الأبواب المتقدمة، واحتج بقوله: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات: 96] ، ثم فصل بين الأمر بقوله للشئ: كن، وبين خلقه قطعًا للمعتزلة القائلين بأن الأمر هو الخلق، وأنه إذا قال للشئ: كن. معناه أنه كونه نفيًا منهم للكلام عن الله خلافًا لقوله: (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) [النساء: 164] ، وقد تقدم بيان الرد عليهم فى باب: المشيئة والإرادة ثم زاد في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 553 بيان الأمر فقال: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) [الأعراف: 54] ، فجعل الأمر غير خلقه لها، وغير تسخيرها الذى هو عن أمره، ثم ذكر قول ابن عيينة أنه فصل بين الخلق والأمر وجعلهما شيئين بإدخال حرف العطف بينهما، والأمر منه تعالى قول، وقوله صفة من صفاته غير مخلوق. ثم بين لك أن قول الإنسان بالإيمان وغيره قد سماه رسول الله عملا حين سئل: أى العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله. والإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، وكذلك أمره وفد عبد القيس حين سألوه أن يدلهم على ما إن عملوه دخلوا الجنة فأمرهم بالإيمان بالقلب، والشهادة باللسان، وسائر أعمال الجوارح. فثبت أن كلام ابن آدم بالإيمان وغيره عمل من أعماله وفعل له، وأن كلام الله المنزل بكلمة الإيمان غير مخلوق، ثم بين لك أن أعمالنا كلها مخلوقة لله تعالى خلافًا للقدرية الذين يزعمون أنها غير مخلوقة له تعالى بقوله فى حديث أبى موسى لست أنا حملتكم على الإبل بعد أن حلف لهم أن ما عندى ما أحملكم عليه، وإنما الله هو الذى حملكم عليها، ويسرها لكم فأثبت ذلك كله فعلا لله تعالى، وهذا بين لا إشكال فيه. وقوله فى حديث عائشة: يقال للمصورين: أحيوا ما خلقتم) فإنما نسب خلقها إليهم توبيخًا لهم وتقريعًا لهم فى مضاهاتهم الله عز وجل فى خلقه فبكتهم بأن قال لهم: فإذ قد شابهتم بما صورتم مخلوقات الرب، فأحيوا ما خلقتم كما أحيا هو تعالى ما خلق فينقطعون بهذه المطالبة حين لا يستطيعون نفخ الروح في ذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 554 ومثل هذا قوله فى حديث أبى هريرة: قال الله تعالى: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقى) يريد يصور صورة تشبه خلقى فسمى فعل الإنسان فى تصوير مثالها خلقًا له توبيخًا له على تشبهه بالله فيما صور فأحكم وأتقن على غير مثال احتذاه ولا من شىء قديم ابتداه، بل أنشأ من معدوم، وابتدع من غير معلوم، وأنتم صورتم من خشب موجود وحجر غير مفقود على شبه معهود مضاهين له، وموهمين الأغمار أنكم خلقتم كخلقه، فاخلقوا أقل مخلوقاته وأحقرها الذرة المتعدية فى أدق من الشعر، وأنفذ منكم بغير آله فى نحت الحجر فتتخذه مسكنًا وتدخر فيه قوتها نظرًا فى معاشها، أو اخلقوا حبة من هذه الأقوات التى خلقها الله لعباده، ثم يخرج منها زرعًا لا يشبهها نباته، ثم يطلع منها بقدرته من جنسها بعد أن أعدم شخصها عددًا من غير نوع نباتها الأخضر قدرة بالغة لمعتبر، وإعجازًا لجميع البشر. 58 - بَاب قِرَاءَةِ الْفَاجِرِ وَالْمُنَافِقِ وَأَصْوَاتُهُمْ وَتِلاوَتُهُمْ لا تُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ / 170 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالأتْرُجَّةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الَّذِى لا يَقْرَأُ القُرْآنَ كَالتَّمْرَةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلا رِيحَ لَهَا، وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِى لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ، طَعْمُهَا مُرٌّ وَلا رِيحَ لَهَا) . / 171 - وفيه: عَائِشَةَ، سَأَلَ أُنَاسٌ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْكُهَّانِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 555 فَقَالَ: (إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَىْءٍ) ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ بِالشَّىْءِ يَكُونُ حَقًّا، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ - عليه السلام -: (تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ، يَخْطَفُهَا الْجِنِّىُّ، فَيُقَرْقِرُهَا فِى أُذُنِ وَلِيِّهِ، كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ فَيَخْلِطُونَ، فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ) . / 172 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ، عليه السَّلام: (يَخْرُجُ نَاسٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لا يَعُودُونَ فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ إِلَى فُوقِهِ، قِيلَ: مَا سِيمَاهُمْ؟ قَالَ: سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ، أَوْ قَالَ: التَّسْبِيدُ) . معنى هذا الباب أن قراءة الفاجر والمنافق لا ترتفع إلى الله ولا تزكو عنده، وإنما يزكو عنده ويرتفع إليه من الأعمال ما أريد به وجهه، وكان عن نية وقربة إليه تعالى، ألا ترى أنه شبه الفاجر الذى يقرأ القرآن بالريحانة، ريحها طيب وطعمها مر حين لم ينتفع ببركة القرآن، ولم يفز بحلاوة أجره فلم يجاوز الطيب حلوقهم من موضع الصوت، ولا بلغ إلى قلوبهم ذلك الطيب؛ لأن طعم قلوبهم مر وهو النفاق المستسر كما استسر طعم الريحانة فى عودها مع ظهور رائحتها وهؤلاء هم الذين يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. وأما قوله: (ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه) فهذا الحديث أخرجهم من الإسلام، وهو بخلاف الحديث الذى قال فيه عليه الصلاة السلام: (ويتمارى فى الفوق) لأن ذلك التمارى أبقاهم فى الإسلام. وهذا الحديث أخرجهم من الإسلام؛ لأن السهم لا يعود إلى فوقه بنفسه أبدًا، فيمكن أن يكون هذا الحديث فى قوم عرفهم النبي - عليه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 556 السلام - بالوحي أنهم يمرقون قبل التوبة، وقد خرجوا ببدعتهم وسوء تأويلهم إلى الكفر، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) وسمهم بسيما خصَّهم بها من غيرهم وهو التسبيد أو التحليق، كما وسمهم بالرجل السود الذى إحدى يديه مثل ثدى المرأة، وهم الذين قتل على بالنهروان حين قالوا: إنك ربنا، فاغتاظ عليهم وأمر بحرقهم بالنار فزادهم الشيطان فتنة فقالوا: الآن أيقنا أنك ربنا؛ إذ لا يعذب بالنار إلا الله فثبت بذلك كفرهم، وقد قال بعض العلماء: إن من وسمه النبى (صلى الله عليه وسلم) بتحليق أو غيره أنه لا يستتاب إذا وجدت فيه السيما، ألا ترى أن عليًا، رضى الله عنه، لم ينقل عنه أنه استتاب أحدًا منهم. وقد روى على عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن فى قتلهم أجر لمن قتلهم، وقال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) . وأما حديث الكهان فإنما ذكره فى هذا الباب لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليسوا بشئ) وإن كان فى كلامهم شىء من الحق والصدق فإنهم يفسدون تلك الكلمة من الصدق بمائة كذبة أو أكثر، فلم ينتفعوا بتلك الكلمة من الصدق لغلبة الكذب عليهم، كما لم ينتفع المنافق بقراءته لفساد عقد قلبه. وأما قوله: (فيقرقرها فى أذن وليه كقرقرة الدجاجة) أى يضعها فى الأذن بصوت شبيه بقرقرة الدجاجة. قال الأصمعى: قرقر البعر قرقرة إذا صفا ورجع. وقد روى: كقرقرة الزجاجة، وكلا الروايتين صواب، ويدل على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 557 صحة الرواية بالزجاجة رواية من روى: كما تقر القارورة؛ لأن القرقرة قد تكون فى الزجاجة عند وضع الأشياء فيها كما تقرقر الدجاجة أيضًا، وكما تكون القراقر فى البطن، ووقع فى كتاب بدء الخلق: فيقرها فى أذن وليه كما تقر القارورة، والمعنى فيه: أن الشياطين تقرأ الكلمة فى أذن الكاهن كما يقر الشىء فى القارورة، وهذا على الاتساع كقوله تعالى: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) [سبأ: 33] ، والمعنى: بل مكرهم فى الليل والنهار لأن القارورة لا تقر، وإنما يقر فيها كما لا يكون المكر لليل والنهار وإنما يكون فيهما. قال صاحب الأفعال: قررت الماء فى السقاء: صببته فيه، وأقررته وقررت الخبر فى أذنه أقره قرًا: أودعته فيها. وعن أبى زيد: أقره، بكسر القاف. وقال الأصمعى: يقال: قر ذلك فى أذنه يقر قرًا إذا صار فى أذنه فيكون معناه أنه يقر الكلمة فى أذن الكاهن من غير صوت، وفى حديث القرقرة أنه يضعها بصوت، فدل اختلاف لفظ الحديثين أنه مرة يضعها فى أذن الكاهن بصوت، ومرة بغير صوت. وقوله: (سيماهم التحليق أو التسبيد) شك من المحدث فى أى اللفظين قال (صلى الله عليه وسلم) ، ومعناهما متقارب. قال صاحب العين: سبد رأسه: استأصل شعره. والتسبيد أن ينبت شعره بعد أيام. 59 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) [الأنبياء: 47] وَأَنَّ أَعْمَالَ بَنِى آدَمَ وَقَوْلَهُمْ تُوزَنُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْقُسْطَاسُ: الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ، وَيُقَالُ: الْقِسْطُ مَصْدَرُ الْمُقْسِطِ، وَهُوَ الْعَادِلُ، وَأَمَّا الْقَاسِطُ فَهُوَ الْجَائِرُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 558 / 173 - قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِى الْمِيزَانِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ) . قال الزجاج: القسط: العدل، المعنى: ونضع الموازين ذوات القسط، وقسط مثل عدل مصدر يوصف به، يقال: ميزان قسط، وميزانان قسط وموازين قسط. وأجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان، وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفتان وتمثل الأعمال بما يوزن، وخالف ذلك المعتزلة وأنكروا الميزان وقالوا: الميزان عبارة عن العدل. وهو خلاف لنص كتاب الله، وقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: فأخبر الله تعالى أنه يضع الموازين لتوزن أعمال العباد بها، فيريهم أعمالهم ممثلة فى الميزان لأعين العاملين؛ ليكونوا على أنفسهم شاهدين قطعًا لحججهم وإبلاغًا فى إنصافهم عن أعمالهم الحسنة، وتبكيتًا لمن قال: إن الله لا يعلم كثيرًا مما يعملون، وتقصيًا عليهم لأعمالهم المخالفة لما شرع لهم، وبرهانًا على عدله على جميعهم، وأنه لا يظلم مثقال حبة من خردل حتى يعترف كل بما قد نسيه من عمله، ويميز ما عساه قد احتقره من فعله. ويقال له عند اعترافه: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا. وقوله: ثقيلتان يدل أن تسبيح الله وتقديسه من أفضل النوافل، وأعظم الذخائر عنده تعالى، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (حبيبتان إلى الرحمن) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 559 وقول البخاري: ويقال: القسط مصدر المقسط فإنما أراد المصدر المحذوف الزوائد، كالقدر مصدر قدرت إذا حذفت زوائده، قال الشاعر: وإن تهلك فذلك كان قدرى بمعنى: تقديرى محذوف زوائده، ورده إلى الأصل، ومثله كثير، وإنما تحذف العرب زوائد المصادر لترد الكلام إلى أصله، ويدل عليه. ومصدر المقسط: الجارى على فعله الإقساط. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 560