الكتاب: مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن لابن الجوزي المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ) قدم له وحققه وفهرسه: د/ مصطفى محمد حسين الذهبي الناشر: دار الحديث، القاهرة الطبعة: الأولى، 1415 هـ - 1995 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن ط دار الحديث ابن الجوزي الكتاب: مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن لابن الجوزي المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ) قدم له وحققه وفهرسه: د/ مصطفى محمد حسين الذهبي الناشر: دار الحديث، القاهرة الطبعة: الأولى، 1415 هـ - 1995 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بَابُ فَرْضِ الْحَجِّ ثَبَتَ وُجُوبُ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] ، وَالْحَجُّ فِي كَلامِ الْعَرَبِ: الْقَصْدُ، وَفِيهِ لُغَتَانِ: فَتْحُ الْحَاءِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الأَكْثَرِينَ، وَكَسْرُهَا، وَهِيَ: قِرَاءَةُ حَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] قَالَ النَّحْوِيُّونَ: مَنْ بَدَلٌ مِنَ النَّاسِ، وَهَذَا بَدَلُ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ زَيْدًا رَأْسَهُ. وَالسَّبِيلُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرِيقُ، وَتُذَكَّرُ السَّبِيلُ وَتُؤَنَّثُ، وَكَذَلِكَ الطَّرِيقُ، وَالْمُوسَى، وَالذِّرَاعُ، وَالشَّوْقُ، وَالْعَانِقُ، وَالْعُنُقُ، وَالْخَمْرُ، وَالسُّلْطَانُ، وَالْقَلْبُ فِي حُرُوفٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَسٍ، وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ سُئِلَ: مَا السَّبِيلُ؟ فَقَالَ: «مَنْ وَجَدَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ» . أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، أَنْبَأَنَا الْقَطِيعِيُّ، أَنْبَانَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، أَنْبَأَنَا مَنْصُورُ بْنُ زَاذَانَ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ابْنِ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَسَكَتَ، فَقَالُوا: أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالُوا: أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ قَالَ: " لا وَلَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ "، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] . إِلَى آخِرِ الْآيَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 بَابُ بَيَانِ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْحَجُّ الْحَجُّ يَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: شَرَائِطَ، وَأَرْكَانٍ، وَوَاجِبَاتٍ، وَمَسْنُونَاتٍ، وَهَيْئَاتٍ. فَأَمَّا الشَّرَائِطُ: فَقَدِ اشْتُرِطَ فِي مَحَلِّ الْوُجُوبِ وُجُودُ خَمْسَةِ شَرَائِطَ: الْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالإِسْلامُ، وَالزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ. وَأَمَّا شَرَائِطُ الأَدَاءِ عَلَى الْعُمُومِ فَثَلاثَةٌ: الْأَوَّلُ: تَخْلِيَةُ الطَّرِيقِ، وَهُوَ أَنْ لا يَكُونَ مَانِعٌ يَمْنَعُ مِمَّا يُخَافُ مِنْهُ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُمَكَّنَ الأَدَاءُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مُتَّسِعًا لِلْفِعْلِ وَالْمُسَافَرَةِ إِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ. وَاشْتُرِطَ فِي حَقِّ الضَّرِيرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ قَائِدٌ يُلائِمُهُ. وَاشْتُرِطَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ: الْمَحْرَمُ، وَالْمَحْرَمُ الزَّوْجُ أَوْ مَنْ لا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا مِنَ الْمُنَاسِبِينَ. وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْمَحْرَمِ، هَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الأَدَاءِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْأَرْكَانُ فَفِيهَا ثَلاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَدَ: إِحْدَاهُنَّ: أَنَّهَا أَرْبَعَةٌ: الْإِحْرَامُ، وَالْوُقُوفُ، وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَالسَّعْيُ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا ثَلاثَةٌ، وَالسَّعْيُ سُنَّةٌ إِذَا تَرَكَهُ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: عَلَيْهِ بِتَرْكِهِ دَمٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمَا رُكْنَانِ: الْوُقُوفُ وَالطَّوَافُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَنْ وَقَفَ وَزَارَ الْبَيْتَ: عَلَيْهِ دَمٌ وَحَجَّتُهُ صَحِيحَةٌ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْوَاجِبَاتُ فَسَبْعَةٌ: الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ إِلَى اللَّيْلِ، وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ إِلَى بَعْدِ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَالْمَبِيتُ بِمِنًى فِي لَيَالِي مِنًى إِلا لأَهْلِ السِّقَايَةِ وَالرِّعَاءِ وَالرَّمْيِ وَالْحَلاقِ، وَطَوَافُ الْوَدَاعِ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْمَسْنُونَاتُ فَهِيَ: الاغْتِسَالُ، وَصَلاةُ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ عَقْدِ الْإِحْرَامِ، وَطَوَافُ الْقُدُومِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي عَرَفَاتٍ مَا لَمْ يَكُنْ بَدَأَ بِالْوُقُوفِ نَهَارًا؛ لَأَنَّهُ مُخَيَّرٌ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الْوُقُوفِ بَيْنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ وَبَيْنَ إِفْرَادِ اللَّيْلِ، فَإِنْ أَخَلَّ بِذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ. وَالتَّلْبِيَةُ، وَرَكْعَتَا الطَّوَافِ، وَاسْتِلامُ الرُّكْنَيْنِ، وَالتَّقْبِيلُ، وَالْمَبِيتُ بِمِنًى لَيْلَةَ عَرَفَةَ إِنْ كَانَ خَارِجًا إِلَى عَرَفَاتٍ وَمِنْ مَكَّةَ إِلَى غَدَاةِ عَرَفَةَ، وَسَائِرُ الأَذْكَارِ فِي الْحَجِّ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْهَيْئَاتُ: فَرَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ لِلرِّجَالِ، وَالدُّخُولُ إِلَى مَكَّةَ مِنْ أَعْلاهَا وَإِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، وَالاضْطِبَاعُ فِي الطَّوَافِ، وَالسَّعْيُ وَالإِسْرَاعُ فِي مَوْضِعِ الإِسْرَاعِ، وَالْمَشْيُ فِي مَوْضِعِ الْمَشْيِ، وَالْعُلُوُّ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى يُشَاهِدَ الْبَيْتَ، وَشِدَّةُ السَّعْيِ عِنْدَ تَحَسُّرِهِ، وَالْوُقُوفُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَعِنْدَ الْجَمَرَاتِ. فَصْلٌ فَمَنْ تَرَكَ رُكْنًا لَمْ يَتِمَّ نُسُكُهُ إِلا بِهِ، وَمَنْ تَرَكَ وَاجِبًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَمَنْ تَرَكَ سُنَّةً أَوْ هَيْئَةً فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ. فَصْلٌ وَإِذَا تَكَامَلَتِ الشُّرُوطُ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَجَبَ الْبَدَاءُ إِلَى الْحَجِّ، وَهَذَا قَوْلُ: الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالدَّاوُدِيَّةِ، وَابْنِ حَنْبَلٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ عَلَى التَّرَاخِي. وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ: هَلِ الأَمْرُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ أَمْ لا؟ فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يَقْتَضِي الْفَوْرَ خِلافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَلَنَا أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ يُنْتَخَبُ مِنْهَا هَاهُنَا ثَلاثَةٌ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 أَحَدُهَا: مِنَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] . وَلَوْ كَانَ الأَمْرُ عَلَى التَّرَاخِي لَمَا حَسُنَ الْبَدَاءُ إِلَيْهِ بِالْعِتَابِ. وَالثَّانِي: مِنَ النَّقْلِ، وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ وَهُوَ فِي الصَّلاةِ فَلَمْ يُجِبْ، فَعَاتَبَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] . وَالَثَّالِثُ: مِنَ اللُّغَةِ، وَهُوَ أَنَّ مُقْتَضَى الأَمْرِ إِنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ أَصْلِ اللُّغَةِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: قُمْ، فَتَوَقَّفَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنَّهُ يَحْسُنُ لَوْمُهُ وَعِقَابُهُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ» . وَقَدِ احْتَجَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ الْحَجَّ فُرِضَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَأَخَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَنَةِ عَشْرٍ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ لَمَا أَخَّرَهُ. وَقَدْ أَجَابَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَ نَبِيَّهُ حَتَّى يَحُجَّ، فَكَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنَ الإِدْرَاكِ، وَهَذَا عُذْرٌ يَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى نَقْلٍ وَلا يَجِدُونَ فِي ذَلِكَ نَقْلا، وَإِنَّمَا أَقَامُوا الاحْتِمَالَ مَقَامَ النَّقْلِ، فَلَيْسَ هَذَا الْجَوَابُ مُرْتَضًى لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَخَّرَهُ لِعُذْرٍ، وَقَدْ كَانَتْ لَهُ خَمْسَةُ أَعْذَارٍ: أَحَدُهَا: الْفَقْرُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وَالثَّانِي: الْخَوْفُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلِهَذَا كَانَ يُحْرَسُ إِلَى أَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] . وَالثَّالِثُ: الْخَوْفُ عَلَى الْمَدِينَةِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ رَأَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْجِهَادِ أَوْلَى. وَالْخَامِسُ: اسْتِيلاءُ الْكُفَّارِ عَلَى مَكَّةَ وَإِظْهَارُهُمُ الشِّرْكَ هُنَاكَ، وَمَا كَانَ يُمْكِنُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا قَوِيَ الإِسْلامُ وَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَأَمَرَ عَلِيًّا فَنَادَى أَنْ لا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، حَجَّ لِزَوَالِ الْعُذْرِ، فَتَأْخِيرُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، فَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ، فَلا تُؤَثِّرُ فِي الْأَمْرِ الصَّرِيحِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 بَابُ ذَمِّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَتَرَكَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّقَّا، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ عُمَرَ بْنِ شَمَّةَ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ زَاذَانَ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَرُوبَةَ الْحَرَّانِيُّ، أَنْبَأَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنْبَأَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا شَرِيكٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ لَمْ يَحْبِسْهُ مَرَضٌ، أَوْ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ، أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» أَخْبَرَنَا الْكَرْخِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَامِرٍ الْأَزْدِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الْغُورَجِيُّ، قَالا: أَنْبَأَنَا الْجَرَّاحِيُّ، أَنْبَأَنَا الْمَحْبُوبِيُّ، أَنْبَأَنَا التِّرْمِذِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا عَاصِمُ بْنُ الْحَسَنِ، أَنْبَأَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ مَهْدِيٍّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ الْمِصْرِيُّ، أَنْبَأَنَا بَكْرُ بْنُ قُتَيْبَةَ، أَنْبَأَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالا: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «مَنْ كَانَ ذَا مَيْسَرَةٍ فَمَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» . وَبِهِ قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَامِرٍ، أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ رُومِيٍّ، قَالَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: " رَجُلٌ مَاتَ وَهُوَ مُوسِرٌ لَمْ يَحُجَّ، قَالَ: هُوَ فِي النَّارِ. وَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ "، وَسَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ، فَقَالَ: مَاتَ عَاصِيًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 بَابُ ذِكْرِ الْعَاجِزِ عَنِ الْحَجِّ وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بَعْدَ الْعَجْزِ، إِمَّا لِزَمَنٍ أَوْ مَرَضٍ لا يُرْجَى زَوَالُهُ، بِكِبَرٍ فِي السِّنِّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَسْتَخْلِفُ، وَتَقَعُ الْحَجَّةُ مُجَزِئَةً عَنْهُ وَإِنْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ الَّذِي كَانَ لا يُرْجَى زَوَالُهُ. وَكَذَلِكَ إِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَمَاتَ وَجَبَ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَيَبْدَأُ بِالاسْتِخْلافِ مِنْ حَيْثُ أَدْرَكَهُ الْوُجُوبُ إِنْ كَانَ مِنْ دُوَيْرَتِهِ فَمِنْ هُنَاكَ، وَإِنْ كَانَ قَطَعَ بَعْضَ الْمَسَافَةِ فَمِنْ حَيْثُ انْتَهَى سَعْيُهُ. وَعِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، أَنَّهُ إِذَا حَجَّ النَّائِبُ عَنْ هَذَا الْمَعْذُورِ وَقَعَ الْحَجُّ عَنِ الْمُسْتَنِيبِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقَعُ الْحَجُّ عَنِ الْحَاجِّ تَطَوُّعًا، وَلا يَقَعُ عَنِ الْمُسْتَنِيبِ إِلا ثَوَابُ النَّفَقَةِ. وَيَدُّلُ عَلَى مَذْهَبِنَا مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ عَلَيْهِ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ وَهُوَ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَحُجِّي عَنْهُ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 بَابُ فَضْلِ الْحَجِّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] ، إِلَى قَوْلهِ: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28] . قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هِيَ منَافِعُ الْآخِرَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَنَافِعُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16] : إِنَّهُ طَرِيقُ مَكَّةَ، وَالْمَعْنَى أَصُدُّهُمْ عَنِ الْحَجِّ. أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي سُمَيٌّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ، وَالْعُمْرَتَانِ، أَوِ الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ يُكَفَّرُ مَا بَيْنَهُمَا» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ سِيَاوُوشَ، أَنْبَأَنَا أَبُو حَامِدٍ، أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبَّاسٍ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، أَنْبَأَنَا الْعَبَاسُ بْنُ الْوَلِيدِ النَّرْسِيُّ، أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَأَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ النَّقُورِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ مَرْدَكٍ، أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 عَمْرٍو، أَنْبَأَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، كِلاهُمَا عَنِ الْمَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَاكِمُ، وَيَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ، قَالا: أَنْبَأَنَا ابْنُ النَّقُورِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ حُبَابَةَ، أَنْبَأَنَا الْبَغَوِيُّ، أَنْبَأَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، أَنْبَأَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ الْجَرِيرِيُّ، عَنْ حَيَّانَ بْنِ عُمَيْرٍ الْجَرِيرِيِّ، أَنْبَأَنَا مَاعِزٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، ثُمَّ أُرْعِدَتْ فَخِذُ السَّائِلِ، ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: «ثُمَّ عَمَلٌ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ إِلا كَمِثْلِهِ، حَجَّةٌ بَارَّةٌ، حَجَّةٌ بَارَّةٌ» أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ الزَّوْزَنِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ، أَنْبَأَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ النَّسَّابِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ صَاعِدٍ، أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ، أَنْبَأَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ، أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عِنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «ثُمَّ الْحَجُّ الْمَبْرُورُ» ، أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: «لَكِنَّ الْجِهَادَ أَفْضَلُ حَجٌّ مَبْرُورٌ» . وَفِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللُّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنَّهُ قَالَ: «حَجٌّ مَبْرُورٌ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بِرُّ الْحَجِّ؟ قَالَ: «إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَإِفْشَاءُ السَّلامِ» . وَسُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَا الْحَجُّ الْمَبْرُورُ؟ قَالَ: أَنْ يَرْجِعَ زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا، رَاغِبًا فِي الْآخِرَةِ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنَّهُ قَالَ: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَا لِحَجٍّ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ» . وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ مُتَابَعَةَ مَا بَيْنَهُمَا تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ وَالرِّزْقِ، وَتَنْفِي الذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 الْحَدِيدِ» . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «دَعْوَةُ الْحَاجِّ لا تُرَدُّ حِينَ يَرْجِعُ» . وَفِي حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ أَرَادَ دُنْيَا وَآخِرَةً فَلْيَؤُمَّ هَذَا الْبَيْتَ، مَا أَتَاهُ عَبْدٌ يَسْأَلُ اللَّهَ دُنْيَا إِلا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْهَا، وَلا آخِرَةً إِلا ادُّخِرَ لَهُ مِنْهَا وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ، إِنْ سَأَلُوا أُعْطُوا، وَإِنْ أَنْفَقُوا أُخْلِفَ عَلَيْهِمْ، وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ، مَا أَهَلَّ مُهِلٌّ وَلا كَبَّرَ مُكَبِّرٌ عَلَى شَرَفٍ إِلا أَهَلَّ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَكَبَّرَ بِتَهْلِيلِهِ وَتَكْبِيرِهِ، حَتَّى يَبْلُغَ مُنْقَطَعَ التُّرَابِ» قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْفَتْحِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ رَوْحٍ، أَنْبَأَنَا حَمَّادُ بْنُ الْمُؤَمَّلِ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَهْمِ، أَنْبَأَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَاءَ هَذَا الْبَيْتَ حَاجًّا فَطَافَ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 أُسْبُوعًا، ثُمَّ أَتَى مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ فَصَلَّى عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ فَشَرِبَ مِنْ مَائِهَا، أَخْرَجَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَجُلا مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلَهُ عَنِ الْحَجِّ، فَقَالَ: «لَكَ بِكُلِّ خُطْوَةٍ تَخْطُوهَا رَاحِلَتُكَ حَسَنَةٌ، وَتُحَطُّ عَنْكَ بِهَا سَيِّئَةٌ، وَتُرْفَعُ لَكَ بِهَا دَرَجَةٌ» . أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ السَّمْنَانِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو طَاهِرِ بْنُ مَهْدِيٍّ، أَنْبَأَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو أُمَيَّةَ، أَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، أَنْبَأَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيَهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «النَّفَقَةُ فِي الْحَجِّ تُضَاعَفُ كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الدِّرْهَمُ بِسَبْعِ مِائَةٍ» أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْغَنَائِمِ بْنُ النَّرْسِيِّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنْبَأَنَا زَيْدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَاجِبٍ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَمَذَانِيُّ، أَنْبَأَنَا عُمَرُ بْنُ الْحَسَنِ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَامِلٍ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْعُكَّاشِيُّ، أَنْبَأَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ مَكْحُولٍ، وَغَيْرِهِ، أَنَّهُمْ سَمِعُوا أَبَا أُمَامَةَ، وَوَاثِلَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَقُولانِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَرْبَعَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَوْنُهُمْ: الْغَازِي، وَالْمُتَزَوِّجُ، وَالْمُكَاتِبُ، وَالْحَاجُّ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وَقَالَ أَبُو الشَّعْثَاءِ: نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِ الْبِرِّ، فَإِذَا الصَّلاةُ تُجْهِدُ الْبَدَنَ دُونَ الْمَالِ، وَالصِّيَامُ كَذَلِكَ، وَالْحَجُّ يُجْهِدُهُمَا، فَرَأَيْتُهُ أَفْضَلَ. وَكَانَ أَبُو الشَّعْثَاءِ لا يُمَاكِسُ فِي الْكِرَاءِ إِلَى مَكَّةَ، وَلا فِي الرَّقَبَةِ يَشْتَرِيهَا لِلْعِتْقِ، وَلا فِي الْأُضْحِيَةِ، وَقَالَ: لا يُمَاكَسُ فِي شَيْءٍ يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَصْلٌ وَاعْلَمْ أَنَّ التَّكْلِيفَ عَلَى ثَلاثَةِ أَقْسَامٍ: تَكْلِيفٌ يَتَعَلَّقُ بِعَقْدِ الْقَلْبِ، وَتَكْلِيفٌ يَتَعَلَّقُ بِالْبَدَنِ، وَتَكْلِيفٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ، وَلَيْسَ فِي التَّكْلِيفِ قِسْمٌ رَابِعٌ. فَالصَّلاةُ وَالصَّوْمُ يَجْمَعَانِ سَبَبَيْنِ مِنْ هَذِهِ الثَّلاثَةِ، عَقْدُ الْقَلْبِ وَفِعْلُ الْبَدَنِ، وَالزَّكَاةُ تَجْمَعُ سَبَبَيْنِ، عَقْدُ الْقَلْبِ وَإِخْرَاجُ الْمَالِ، وَالْحَجُّ يَجْمَعُ الْأَرْكَانَ الثَّلاثَةَ، فَبَانَ فَضْلُهُ، ثُمَّ إنْهَاكُهُ لِلْبَدَنِ أَشَدُّ، وَإِجْهَادُهُ لِلْمَالِ أَكْثَرُ، وَيَجْمَعُ مُفَارَقَةَ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ، وَالْمَأْلُوفَاتِ وَاللَّذَّاتِ، وَلِقَاءَ الشَّدَائِدِ، وَهُوَ زِيَارَةُ الْحَقِّ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ هُوَ حُضُورُ الْبِقَاعِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي سَيَأْتِي ذِكْرُ فَضْلِهَا، وَيَتَضَمَّنُ الدُّخُولَ فِي جُمْلَةِ الْمُخْلِصِينَ، وَالاخْتِلاطَ بِالْأَبْدَالِ وَالصَّالِحِينَ، وَالانْغِمَاسَ فِي دُعَاءِ الْمَقْبُولِينَ. أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ظَفَرٍ، أَنْبَأَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ الصُّوفِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ دَاوُدَ الدَّيْنَوْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ اللُّؤْلُؤي، وَكَانَ خَيِّرًا فَاضِلا، قَالَ: كُنْتُ فِي البَحْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 فَانْكَسَرَتِ الْمَرْكَبُ وَغَرِقَ كُلُّ مَا فِيهِ، وَكَانَ فِي وِطَائِي لُؤْلُؤٌ قِيمَتُهُ أَرْبَعَةُ آلافِ دِينَارٍ. وَقَرُبَتْ أَيَّامُ الْحَجِّ وَخِفْتُ الْفَوَاتَ، فَلَمَّا سَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِرُوحِي وَنَجَاتِي مِنَ الْغَرَقِ مَشَيْتُ، فَقَالَ لِي جَمَاعَةٌ كَانُوا فِي الْمَرْكَبِ: لَوْ وَقَفْتَ عَسَى يَجِيءُ مَنْ يُخْرِجُ شَيْئًا فَيُخْرِجُ لَكَ مِنْ رَحْلِكَ شَيْئًا، فَقُلْتُ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ مَا مَرَّ مِنِّي، وَكَانَ فِي وِطَائِي شَيْءٌ قِيمَتُهُ أَرْبَعَةُ آلافِ دِينَارٍ، وَمَا كُنْتُ بِالَّذِي أُوثِرُهُ عَلَى وَقْفَةٍ بِعَرَفَةَ. فَقَالُوا: وَمَا الَّذِي وَرَّثَكَ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا رَجُلٌ مُولَعٌ بِالْحَجِّ، أَطْلُبُ الرِّبْحَ وَالثَّوَابَ، حَجَجْتُ فِي بَعْضِ السِّنِينَ وَعَطِشْتُ عَطَشًا شَدِيدًا، فَأَجْلَسْتُ عَدِيلِي فِي وَسَطِ الْمَحْمَلِ، وَنَزَلْتُ أَطْلُبُ الْمَاءَ وَالنَّاسُ عَطِشُوا، فَلَمْ أَزَلْ أَسْأَلُ رَجُلا رَجُلا وَمَحْمَلا مَحْمَلا: مَعَكُمْ مَاءٌ؟ وَإِذَا النَّاسُ شَرْعٌ وَاحِدٌ، حَتَّى صِرْتُ فِي سَاقَةِ الْقَافِلَةِ بِمِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ، فَمَرَرْتُ بِمَصْنَعٍ مُصَهْرَجٍ، فَإِذَا رَجُلٌ فَقِيرٌ جَالِسٌ فِي أَرْضِ الْمَصْنَعِ وَقَدْ غَرَزَ عَصَاهُ فِي أَرْضِ الْمَصْنَعِ، وَالْمَاءُ يَنْبُعُ مِنْ مَوْضِعِ الْعَصَا وَهُوَ يَشْرَبُ، فَنَزَلْتُ إِلَيْهِ، وَشَرِبْتُ حَتَّى رَوِيتُ، وَجِئْتُ إِلَى الْقَافِلَةِ وَالنَّاسُ قَدْ نَزَلُوا، فَأَخْرَجْتُ قِرْبَةً وَمَضَيْتُ فَمَلَأْتُهَا، فَرَآنِيَ النَّاسُ، فَتَبَادَرُوا بِالْقِرَبِ، فَرَوَوْا عَنْ آخِرِهِمْ، فَلَمَّا رَوِيَ النَّاسُ وَسَارَتِ الْقَافِلَةُ جِئْتُ لِأَنْظُرَ وَإِذَا الْبِرْكَةُ مَلْأَى يَلْتَطِمُ مَوَاجُهَا، فَمَوْسِمٌ يَحْضُرُهُ مِثْلُ هَؤُلاءِ، يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِمَنْ حَضَرَ الْمَوْقِفَ وَلِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، أُوثِرُ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ آلافِ دِينَارٍ؟ لا وَاللَّهِ وَلا الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا، وَتَرَكَ اللُّؤْلُؤَ وَجَمِيعَ قُمَاشِهِ قَالَ الشَّيْخُ فَبَلَغَنِي أَنَّ قِيمَةَ مَا كَانَ غَرِقَ لَهُ خَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 بَابُ سَبَبِ تَوَقَانِ النَّفْسِ إِلَى مَكَّةَ التَّائِقُونَ إِلَى مَكَّةَ عَلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: مَنْ تَكُونُ وَطَنًا لَهُ فَيَخْرُجُ عَنْهَا فَيَتُوقُ إِلَى وَطَنِهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ. وَالثَّانِي: مَنْ يَذُوقُ فِي تَرَدُّدِهِ إِلَيْهَا حَلاوَةَ رِبْحِ الدُّنْيَا، فَذَاكَ تَتُوقُ نَفْسُهُ إِلَى رِبْحِهِ لا إِلَيْهَا، لَكِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا تَاقَ إِلَيْهَا. وَالثَّالِثُ: مَنْ يَكُونُ مَحْصُورًا فِي بَلَدِهِ فَيُحِبُّ النُّزْهَةَ وَالْفُرْجَةَ وَيَرَى مَا يَطْلُبُهُ فِي طَرِيقِهَا، فَيَنْسَى شِدَّةً يَلْقَاهَا لِلَّذَّةِ الَّتِي يَطْلُبُهَا، وَتُبَهْرِجُ نَفْسُهُ عَلَيْهِ: إِنِّي أُحِبُّ الْحَجَّ، وَإِنَّمَا يُحِبُّ الرِّحْلَةَ. وَالرَّابِعُ: مَنْ تُبْطِنُ نَفْسُهُ الرِّيَاءَ وَتُخْفِيهِ عَنْهُ حَتَّى لا يَكَادَ يُحِسُّ بِهِ، وَذَلِكَ حُبُّهَا لِقَوْلِ النَّاسِ: قَدْ حَجَّ فُلانٌ، ولِتَلَقُّبِهِ وَتَسَمِّيهِ بِالْحَاجِّ، فَهُوَ يَتُوقُ إِلَى ذَلِكَ، وَتُبَهْرِجُ عَلَيْهِ بِحُبِّ الْحَجِّ، وَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ الْغُرُورِ فَيَجِبُ الْحَذَرُ مِنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ رَجُلا جَاءَهُ، فَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَحُجَّ. قَالَ: كَمْ مَعَكَ؟ قَالَ: أَلْفَا دِرْهَمٍ. قَالَ: أَحَجَجْتَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَأَنَا أَدُلُّكَ عَلَى أَفْضَلَ مِنَ الْحَجِّ، اقْضِ دَيْنَ مَدِينٍ، فَرِّجْ عَنْ مَكْرُوبٍ. فَسَكَتَ. فَقَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: مَا تَمِيلُ نَفْسِي إِلا إِلَى الْحَجِّ. فَقَالَ: إِنَّمَا تُرِيدُ أَنْ تَرْكَبَ وَتَجِيءَ، وَيُقَالَ: قَدْ حَجَّ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: مَنْ يَعْلَمُ فَضْلَ الْحَجِّ، فَيَتُوقُ إِلَى ثَوَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ فِي تِلْكَ الْأَمَاكِنَ يَزِيدُ عَلَى غَيْرِهَا، وَهَذَا هُوَ الْمُؤْمِنُ. وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: تَوَقَانٌ عَامٌّ، لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِلا أَنَّ فِيهِ شَائِبَةً مِنَ الْقِسْمِ الْخَامِسِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الْمُؤْمِنِ، وَهُوَ أَنَّ أَقْوَامًا يَتُوقُونَ وَيَجِدُونَ قَلَقًا لا يَبْعَثُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَقْسَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَيْسَ الْمَكَانُ مُسْتَلَذًّا فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 نَفْسِهِ فَيُوجِبُ ذَلِكَ الْقَلَقَ، فَهَذَا السِّرُّ الْغَامِضُ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى كَشْفٍ. وَلِهَذَا التَّوَقَانِ ثَلاثَةُ أَسْبَابٍ: أَحَدُهَا: دُعَاءُ الْخَلِيلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، حِينَ قَالَ: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: تَحِنُّ إِلَيْهِمْ، قَالَ: وَأَرَادَ حُبَّ سُكْنَى مَكَّةَ، وَلَوْ قَالَ: اجْعَلْ أَفْئِدَةَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ؛ لَحَجَّهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، لَكِنَّهُ قَالَ: {مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 37] . وَالثَّانِي: أَنَهُ قَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْظُرُ إِلَى الْكَعْبَةِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَتَحِنُّ الْقُلُوبُ إِلَيْهَا» . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ تُنْسَخُ فِيهَا الْآجَالُ، وَيُكْتَبُ فِيهَا الْحَاجُّ» . وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخَذَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ بِأَرْضِ نَعْمَانَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، أَنْبَأنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، أَنْبَأَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ يَعْنِي: ابْنَ حَازِمٍ، عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " أَخَذَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ، يَعْنِي: عَرَفَةَ، فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قَبْلا، قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى ". وَهَذَا الْحَدِيثُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَكَانَ أَوَّلُ وَطَنٍ، وَالنَّفْسُ أَبَدًا تُنَازِعُ إِلَى الْوَطَنِ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ هَذَا شَيْءٌ لا تَتَخَايَلُهُ النَّفْسُ، فَكَيْفَ تَشْتَاقُ إِلَيْهِ؟ لِأَنَّ النَّفْسَ قَدْ كَانَتْ فِي أَحْوَالٍ وَتَقَلُّبٍ فَنَسِيَتْ، كَمَا أَنَّ الَإِنْسَانَ قَدْ يَمِيلُ إِلَى شَخْصٍ وَلا يَدْرِي، ثُمَّ يَظْهَرُ بَيْنَهُمَا تَشَاكُلٌ أَوْجَبَ ذَلِكَ وَمُنَاسَبَةٌ، ثُمَّ لَيْسَ نِسْيَانُ النَّفْسِ لِذَلِكَ الْعَهْدِ بِأَعْجَبَ مِنْ نِسْيَانِهَا لِلْعَهْدِ، وَالْأَوْطَانُ أَبَدًا مَحْبُوبَةٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا سَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ تَذَكَّرَ مَكَّةَ فِي طَرِيقِهِ، فَاشْتَاقَ إِلَيْهَا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ: " أَتَشْتَاقُ إِلَى بَلَدِكَ وَمَوْلِدِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] ". أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأَنَا أَبِي، أَنْبَأَنَا يُونُسُ، أَنْبَأَنَا حَمَّادٌ يَعْنِي: ابْنَ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهِيَ وَبِيئَةٌ فَمَرِضَ أَبُو بَكْرٍ فَكَانَ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى، يَقُولُ: كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ ... وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ قَالَتْ: وَكَانَ بِلالٌ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى، يَقُولُ: أَلا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلٌ؟ وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مِجَنَّةٍ ... وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ؟ اللَّهُمَّ الْعَنْ عُتْبَةَ، وَشَيْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ مَكَّةَ. فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَقُوا، قَالَ: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ صَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ» . قَالَتْ: فَكَانَ الْمَوْلُودُ يُولَدُ بِالْجُحْفَةِ فَمَا يَبْلُغُ الْحُلُمَ حَتَّى تَصْرَعَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 الْحُمَّى. أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو طَاهِرِ بْنُ أَبِي الصَّقْرِ، أَنْبَأَنَا مَكِّيُّ بْنُ أَبِي نَظِيفٍ، أَنْبَأَنَا طَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ زَيْدٍ، أَنْبَأَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ، أَنَّ أُصَيْلا الْهُذَلِيَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، فَقَالَ: «يَا أُصَيْلُ، كَيْفَ تَرَكْتَ مَكَّةَ؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: تَرَكْتُهَا وَقَدِ ابْيَضَّتْ بَطْحَاؤُهَا وَاخْضَرَّتْ مِسَلاتُهَا، يَعْنِي: شِعَابَهَا، وَأَمْشَرَ سَلَمُهَا، وَالْإِمْشَارُ: ثَمَرٌ لَهُ حُمْرَةٌ، وَأَعْذَقَ إِذْخِرُهَا، وَالْإِعْذَاقُ: اجْتِمَاعُ أُصُولِهِ، وَأَحْجَنَ ثُمَامُهَا، وَالْإِحْجَانُ: تَعَقُّفُهُ. فَقَالَ: «يَا أُصَيْلُ! دَعِ الْقُلُوبَ تَقِرُّ، لا تُشَوِّقْهُمْ إِلَى مَكَّةَ» وَمِمَّا يُؤَكِّدُ دَلِيلَ حُبِّ الْوَطَنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} [النساء: 66] . فَسَوَّى بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْأَوْطَانِ. وَأَوْصَى الْإِسْكَنْدَرُ إِذَا مَاتَ أَنْ يُحْمَلَ إِلَى بَلَدِهِ حُبًّا لِوَطَنِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وَاعْتَلَّ اسْفِنْدِيَارْدُ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا تَشْتَهِي؟ فَقَالَ: شَمَّةً مِنْ تُرْبَةِ بَلْخٍ، وَشَرْبَةً مِنْ مَاءِ وَادِيهَا. وَاعْتَلَّ سَابُورُ ذُو الْأَكْتَافِ بِالرُّومِ، وَكَانَ مَأْسُورًا بِهَا، وَكَانَتْ بِنْتُ مَلِكِهِمْ قَدْ عَشِقَتْهُ، فَقَالَتْ لَهُ: مَا تَشْتَهِي؟ فَقَالَ: شَرْبَةً مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ، وَشَمِيمًا مِنْ تُرَابِ إِصْطَخَرَ، فَغَابَتْ عَنْهُ أَيَّامًا ثُمَّ أَتَتْهُ بِمَاءٍ مِنَ الْفُرَاتِ، وَقَبْضَةٍ مِنْ شَاطِئِهِ، وَقَالَتْ: هَذَا مِنْ دِجْلَةَ وَهَذِهِ تُرْبَةُ أَرْضِكَ، فَشَرِبَ بِالْوَهَمِ، وَاشْتَمَّ مِنْ تِلْكَ التُّرْبَةِ، فَنَقِهَ مِنْ عِلَّتِهِ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا سَافَرَتْ حَمَلَتْ مَعَهَا مِنْ تُرْبَةِ بَلَدِهَا تَسْتَشْفِي بِهِ عِنْدَ مَرَضٍ يَعْرِضُ. وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي ضُبَيَّةَ: نَسِيرُ عَلَى عِلْمٍ بِكُنْهِ مَسِيرِنَا ... وَعِدَّةِ زَادٍ فِي بَقَايَا الْمَزَاوِدِ ونَحْمِلُ فِي الأَسْفَارِ مِنَّا قُبَيْضَةً ... مِنَ الْبَلَدِ النَائِي لِحُبِّ الْمَوَالِدِ ولَمَّا حُمِلَتْ نَائِلَةُ بِنْتُ الْفَرَافِصَةِ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَرِهَتْ فِرَاقَ أَهْلِهَا، فَقَالَتْ لِأَخِيهَا ضَبٍّ: أَلَسْتَ تَرَى بِاللَّهِ يَا ضَبُّ أَنَّنِي ... مُوَافِقَةٌ نَحْوَ الْمَدِينَةِ أَرْكَبَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 أَمَا كَانَ فِي أَوْلادِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ... لَكَ الْوَيْلُ مَا يُغْنِي الْخِبَاءَ الْمُحْجِبَا أَبَى اللَّهُ إِلا أَنْ تَمُوتِي غَرِيبَةً ... بِيَثْرِبَ لا تَلْقَيْنَ أُمًّا وَلا أَبَا وَقَالَتِ الْحُكَمَاءُ: أَرْضُ الرَّجُلِ ظِئْرُهُ، وَدَارُهُ مَهْدُهُ، وَالْغَرِيبُ كَالْفَرَسِ الَّذِي زَايَلَ أَرْضَهُ، فَهُوَ ذَاوٍ لا يَنْمَى، وَذَابِلٌ لا يَنْضُرُ. وَفِطْرَةُ الرَّجُلِ مَعْجُونَةٌ بِحُبِّ الْوَطَنِ، ثُمَّ إِنَّ الْإِبِلَ تَحِنُّ إِلَى أَوْطَانِهَا، وَالطَّيْرُ إِلَى أَوْكَارِهَا. وَكَانَ بَعْضُ الْمُلُوكِ قَدِ انْتَقَلَ عَنْ وَطَنِهِ، فَنَزَلَ دِيَارًا أَعْمَرَ مِنْ دِيَارِهِ وَأَخْصَبَ، وَدَانَتْ لَهُ الْمَمَالِكُ، ثُمَّ كَانَ إِذَا ذَكَرَ الْوَطَنَ يَحِنُّ حَنِينَ الْإِبِلِ إِلَى الْأَوْطَانِ. وَأَنْشَدُوا فِي هَذَا الْمَعْنَى: مَا مِنْ غَرِيبٍ وَإِنْ أَبْدَى تَجَلُّدَهُ ... إِلا تَذَكَّرَ بَعْدَ الْغُرْبَةِ الْوَطَنَا وَمَا يَزَالُ حَمَامٌ بِاللِّوَا ... غَرِدٌ يُهَيِّجُ مِنِّي فُؤَادًا طَالَمَا سَكَنَا وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَشْعَارِهِمْ، فَمِنْهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِذَا مَا ذَكَرْتُ النَّفَرَ فَاضَتْ مَدَامِعِي ... وَأَضْحَى فُؤَادِي نَهْبَةً لِلْهَمَاهِمْ حَنِينًا إِلَى أَرْضٍ بِهَا اخْضَرَّ شَارِبِي ... وَحُلَّتْ بِهَا عَنِّي عُقُودُ التَّمَائِمِ وَقَالَ آخَرُ: يَقَرُّ بِعَيْنَيَّ أَنْ أَرَى فِي مَكَانَةٍ ... ذَرَى عَطَفَاتِ الْآرِجِ الْمُتَعَاوِدِ وَأَنْ أَرِدَ الْمَاءَ الَّذِي عَنْ شِمَالِهِ ... طَرُوقًا إِذَا مَلَّ السُّرَى كُلُّ وَاحِدٍ وَأُلْصِقُ أَحْشَائِي بِبُرْدِ تُرَابِهِ ... وَإِنْ كَانَ مَمْزُوجًا بِسُمِّ الْأَسَاوِدِ وَأَنْشَدَ أَبُو النَّصْرِ الْأَسَدِيُّ: أَحَبُّ بِلادِ اللَّهِ مَا بَيْنَ صَارَةَ ... إِلَى قِفْوَانَ أَنْ يَسِحَّ سَحَابُهَا بِلادٌ بِهَا نِيطَتْ عَلَيَّ تَمَائِي ... وَأَوَّلُ أَرْضٍ مَسَّ جِلْدِي تُرَابُهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وَقَالَ الطَّائِيُّ: كَمْ مَنْزَلٍ فِي الْأَرضِ يَأْلَفُهُ الْفَتَى ... وَحَنِينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنْزِلِ نَقِّلْ فُؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْهَوَى ... مَا الْحُبُّ إِلا لِلْحَبِيبِ الَأَوَّلِ وَقَالَ آخَرٌ: أَقُولُ لِصَاحِبِي وَالْعِيسُ تَحْدُو ... بِنَا بَيْنَ الْمَنِيفَةِ فَالضِّمَارِ تَزَوَّدْ مِنْ شَمِيمِ عَرَارِ نَجْدٍ ... وَرِيَّا رَوْضِهِ غِبَّ الْقِطَارِ وَعَيْشُكَ إِذَ يَحِلُّ الْقَوْمُ نَجْدًا ... وَأَنْتَ عَلَى زَمَانِكَ غَيْرُ زَارِي شُهُورٌ انْقَضَيْنَ وَمَا شَعُرْنَا ... بِإِنْصَافٍ لَهُنَّ وَلا سِرَارِ وَالْعَرَارُ: نَبْتٌ طَيِّبُ الرِّيحِ. وَالْقِطَارُ: مِنَ الْقَطْرُ، وَهُوَ الْمَطَرُ. وَالزَّارِي: الْغَائِبُ. وَفِي السِّرَارِ لُغَتَانِ: يُقَالُ: هُوَ سِرَارُ الشَّهْرِ وَسِرَارُهُ، وَالسِّرَارُ: الْلَيْلَةُ الَّتِي يُسْتَسَرُّ فِيهَا الْقَمَرُ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ فَلا يُرَى وَرُبَّمَا اسْتَسَرَّ لَيْلَتَيْنِ. وَلابْنِ الرُّومِيِّ: وَحَبَّبَ أَوْطَانَ الرِّجَالِ إلَيْهِمْ ... مَآرِبُ قَضَاهَا الشَّبَابُ هُنَالِكَا إِذَا ذَكَرُوا أَوْطَانَهُمْ ذَكَّرَتْهُمْ ... عُهُودُ الصِّبَا فِيهَا فَحَنُّوا لِذَلِكَا وَهَذَا الْجَوَابُ فِيهِ غُمُوضٌ يَحْتَاجُ إِلَى ذِي ذَوْقٍ، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى بَعْضِ مَا يَكْشِفُهُ فِي أَوَّلِهِ، وَأَعْلَمْتُ أَنَّ لِلنَّفْسِ عِلْمًا قَدْ تَنَاسَتْهُ، فَهِيَ تَنْزِعُ بِالطَّبْعِ إِلَى حُبِّ الْوَطَنِ الْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ تَعْرِفْ أَنَّهُ كَانَ، وَيَقْوَى شَوْقُهَا إِلَيْهِ بِقَدْرٍ حَظِّهَا الْأَوَّلِ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ زَادَ شَوْقُ الْقَوِيِّ الْإِيمَانِ عَلَى مَنْ ضَعُفَ إِيمَانُهُ، فَكَأَنَّ الْإِيمَانَ ذَكَّرَهُ مَا هُنَاكَ، كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: لا يَذْكُرُ الرَّمْلَ إِلا حِنٌّ مُغْتِرِبٌ ... لَهُ بِذِي الرَّمْلِ أَوْطَارٌ وَأَوْطَانُ تَهْفُو إِلَى الْبَانِ مِنْ قَلْبِي نَوَازِعُهُ ... وَمَا بِيَ الْبَانُ بَلْ مَنْ دَارُهُ الْبَانُ أَسُدُّ سَمْعِيَ إِذَا غَنَّى الْحَمَامُ بِهِ ... أَنْ لا يُهَيِّجَ سِرَّ الْوَجْدِ إِعْلانُ وَرُبَّ دَارٍ أَوَّلِيهَا مُجَانَبَةٍ ... وَلِي إِلَى الدَّارِ إِطْرَابٌ وَأَشْجَانُ إِذَا تَلَفَّتُّ فِي أَطْلالِهَا ابْتَدَرَتْ ... لِلْقَلْبِ وَالْعَيْنِ أَمْوَاهٌ وَنِيرَانُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وَقَالَ أَيْضًا: وَأَسْتَشْرِفُ الْأَعْلامَ حَتَّى يَدُلَّنِي ... عَلَى طِيبِهَا مُرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ وَمَا أَنْسُمُ الْأَرْوَاحَ إِلا لِأَنَّهَا ... تَمُرُّ عَلَى تِلْكَ الرُّبَى وَالْمَعَالِمِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْتُهُ قَالَ ذُو النُّونِ، وَقَدْ سُئِلَ: أَيْنَ أَنْتَ مِنْ قَوْلِهِ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] ؟ فَقَالَ: كَأَنَّهُ الْآنَ فِي أُذُنِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 بَابُ التَّهَيُّؤِ لِلْحَجِّ يَنْبَغِي لِمَنْ عَزَمَ عَلَى الْحَجِّ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَظَالِمِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ، وَيَنْزِعَ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَقِّ، لِيَسْتَقْبِلَ الزِّيَارَةَ نَظِيفًا عَنْ قَاذُورَاتِ الْخَطَايَا. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا الْبَرْمَكِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَنْبَانَا أَبُو ذَرٍّ البَصْرِيُّ، أَنْبَأَنَا إِسْحَاقُ بْنُ وَهَبٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَدُّ دَانِقٍ مِنْ حَرَامٍ يَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ سَبْعِينَ حَجَّةً» أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خَيْرُونَ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمُفِيدُ، أَنْبَأَنَا أَبُو بِشْرٍ الدُّولابِيُّ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بُنِ السَّكَنِ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارَثِ، أَنْبَأَنَا دُجَيْنُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا حَجَّ الرَّجُلُ بِمَالٍ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لا لَبَّيْكَ وَلا سَعْدَيْكَ، هَذَا مَرْدُودٌ عَلَيْكَ " أَخْبَرَنَا عَالِيًا ظَفَرُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا أَبُو مُطِيعٍ الْمِصْرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا دُجَيْنُ بْنُ ثَابِتٍ، أَنْبَأَنَا أَسْلَمُ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ حَجَّ بِمَالٍ حَرَامٍ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لا لَبَّيْكَ وَلا سَعْدَيْكَ، وَحَجُّكَ مَرْدُودٌ عَلَيْكَ " فَصْلٌ وَيُصَلِّي صَلاةَ الاسْتِخَارَةِ أَخْبَرَنَا بِهَا أَبُو الْقَاسِمِ الْكَاتِبُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ الْمُذْهِبِ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: " إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخْيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ، وَأنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ هَذَا الْأَمْرَ، وَتُسَمِّيهِ بِاسْمِهِ، خَيْرًا لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ ثُمَّ بَارِكَ لِي فِيهِ، اللَّهُمَّ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُهُ شَرًّا لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُصَحِّحَ قَصْدَهُ لِلْحَجِّ، وَإِنْ أَرَادَ التِّجَارَةَ فَلْيَكُنْ ضِمْنًا وَتَبَعًا، وَلا تَكُونُ هِيَ الْمَقْصُودَ الْأَكْبَرَ فَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَوَيْهِ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ السَّرْخَسِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جُمَيْعٍ، أَنْبَأَنَا مُغِيثُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَلْخِيُّ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَخْلَدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْدَلُسِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ جَعْفَرٍ يَعْنِي: ابْنَ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَحُجُّ أَغْنِيَاءُ أُمَّتِي لِلنُّزْهَةِ، وَأَوْسَاطُهُمْ لِلتِّجَارَةِ، وَقُرَّاؤُهُمْ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَفُقَرَاؤُهُمْ لِلمَسْأَلَةِ» فَصْلٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْوَدَائِعِ، وَأَنْ يَلْتَمِسَ رَفِيقًا صَالِحًا، فَإِنَّ الرَّفِيقَ الصَّالِحَ تُفِيدُ رُؤْيَتُهُ وَتَعُودُ بَرَكَتُهُ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَنْبَأنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيطِيُّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ دُوَسْتَ، أَنْبَأَنَا ابْنُ صَفْوَانٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنِي مُخَوَّلٌ، قَالَ: جَاءَنِي بَهِيمٌ، يَعْنِي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الْعِجْلِيَّ، فَقَالَ لِي: أَتَعْلَمُ لِي رَجُلا مِنْ جِيرَانِكَ أَوْ إِخْوَانِكَ يُرِيدُ الْحَجَّ تَرْضَاهُ وَيُرَافِقُنِي؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَذَهَبْتُ بِهِ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْحَيِّ لَهُ صَلاحٌ وَدِينٌ فَجَمَعْتُ بَيْنَهُمَا، وَتَوَاطَآ عَلَى الْمُرَافَقَةِ. ثُمَّ انْطَلَقَ بَهِيمٌ إِلَى أَهْلِهِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ أَتَانِيَ الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا هَذَا أُحِبُّ أَنْ تَزْوِيَ عَنِّي صَاحِبَكَ وَتَطْلُبَ رَفِيقًا غَيْرِي. فَقُلْتُ: لِمَ؟ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ بِالْكُوفَةِ لَهُ نَظِيرًا فِي حُسْنِ الْخُلُقِ وَالاحْتِمَالِ. فَقَالَ: وَيْحَكَ! حُدِّثْتُ أَنَّهُ طَوِيلُ الْبُكَاءِ لا يَكَادُ يَفْتُرُ، فَهَذَا يُنَغِّصُ عَلَيْنَا الْعَيْشَ. فَقُلْتُ: وَيْحَكَ! إِنَّمَا يَكُونُ الْبُكَاءُ أَحْيَانًا عِنْدَ التَّذْكِرَةِ، أَوَ مَا تَبْكِي أَنْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ قَدْ بَلَغَنِي عَنْهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ مِنْ كَثْرَةِ بُكَائِهِ، قُلْتُ: اصْحَبْهُ فَلَعَلَّكَ أَنْ تَنْتَفِعَ بِهِ. فَقَالَ: أَسْتَخِيرُ اللَّهَ. فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَا فِيهِ جِيءَ بِالْإِبِلِ وَوُطِّئَ لَهُمَا، فَجَلَسَ بَهِيمٌ فِي ظِلِّ حَائِطٍ فَوَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ لِحْيَتِهِ وَجَعَلَتْ دُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى خَدَّيْهِ، ثُمَّ عَلَى لِحْيَتِهِ، ثُمَّ عَلَى صَدْرِهِ، حَتَّى وَاللَّهِ رَأَيْتُ دُمُوعَهُ عَلَى الْأَرْضِ. فَقَالَ لِي: يَا مُخَوَّلُ، قَدِ ابْتَدَأَ صَاحِبُكَ، لَيْسَ هَذَا لِي بِرَفِيقٍ. فَقُلْتُ: ارْفُقْ، لَعَلَّهُ ذَكَرَ عِيَالَهُ وَمُفَارَقَتَهُ إِيَّاهُمْ. وَسَمِعَهَا بَهِيمٌ، فَقَالَ: يَا أَخِي وَاللَّهِ مَا هُوَ ذَاكَ وَمَا هُوَ إِلا أَنِّي ذَكَرْتُ بِهَا الرِّحْلَةَ إِلَى الْآخِرَةِ، وَعَلا صَوْتُهُ بِالنَّحِيبِ. فَقَالَ لِي صَاحِبِي: مَا هِيَ بِأَوَّلِ عَدَاوَتِكَ لِي، مَالِي وَلِبَهِيمٍ؟ إِنَّمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُرَافِقَ بَيْنَ بَهِيمٍ وَبَيْنَ دَاوُدَ الطَّائِيِّ وَسَلامٍ أَبِي الْأَحْوَصِ؛ حَتَّى يَبْكِيَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَيُشْفَوْنَ أَوْ يَمُوتُونَ. فَلَمْ أَزَلْ أَرْفُقُ بِهِ، وَقُلْتُ لَهُ: وَيْحَكَ! لَعَلَّهَا خَيْرُ سَفْرَةٍ سَافَرْتَهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ لا يَعْلَمُ بِهِ بَهِيمٌ، وَلَوْ عَلِمَ مَا صَاحَبَهُ. فَخَرَجَا وَحَجَّا وَرَجَعَا، فَلَمَّا جِئْتُ أُسَلِّمُ عَلَى جَارِي، قَالَ لِي: جَزَاكَ اللَّهُ يَا أَخِي عَنِّي خَيْرًا، مَا ظَنَنْتُ أَنَّ فِي الْخَلْقِ مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ، كَانَ وَاللَّهِ يَتَفَضَّلُ عَلَيَّ فِي النَّفَقَةِ وَهُوَ مَعْدُومٌ وَأَنَا مُوسِرٌ، وَفِي الْخِدْمَةِ وَأَنَا شَابٌّ وَهُوَ شَيْخٌ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وَيَطْبَخُ لِي وَأَنَا مُفْطِرٌ وَهُوَ صَائِمٌ. فَقُلْتُ: وَكَيْفَ كَانَ أَمْرُكَ مَعَهُ فِي الَّذِي كُنْتَ تَكْرَهُهُ مِنْ طُولِ بُكَائِهِ؟ قَالَ: أَلِفْتُ وَاللَّهِ ذَلِكَ الْبُكَاءَ، وَسُرَّ قَلْبِي حَتَّى كُنْتُ أُسَاعِدُهُ عَلَيْهِ، حَتَّى تَأَذَّى بِنَا الرُّفُقَةُ ثُمَّ أَلِفُوا ذَلِكَ، فَجَعَلُوا إِذَا سَمِعُونَا نَبْكِي يَبْكُونَ، وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ يَقُولُ لِبَعْضٍ: مَا الَّذِي جَعَلَهُمْ أَوْلَى بِالْبُكَاءِ مِنَّا وَالْمَصِيرُ وَاحِدٌ؟ فَيَبْكُونَ وَنَبْكِي. ثُمَّ خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ، فَأَتَيْتُ بَهِيمًا وَقُلْتُ: كَيْفَ رَأَيْتَ صَاحِبَكَ؟ قَالَ: كَخَيْرِ صَاحِبٍ، كَثِيرَ الذِّكْرِ لِلَّهِ، طَوِيلَ التِّلاوَةِ، سَرِيعَ الدَّمْعَةِ، جَزَاكَ اللَّهُ عَنِّي خَيْرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 بَابُ الْإِفْضَالِ عَلَى الْإِخْوَانِ وَالرُّفَقَاءِ فِي السَّفَرِ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ جَعْفَرٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عِمْرَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا، يَقُولُ: «صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَخْدِمَهُ فَكَانَ يَخْدِمُنِي أَكْثَرَ» أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ، أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلالُ، أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَاتِبُ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمُقْرِئُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ الدَّوْرَقِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ إِذَا كَانَ وَقْتُ الْحَجِّ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ إِخْوَانُهُ مِنْ أَهْلِ مَرْوَ، فَيَقُولُونَ: نَصْحَبُكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ. فَيَقُولُ لَهُمْ: هَاتُوا نَفَقَاتِكُمْ، فَيَأْخُذُ نَفَقَاتِهِمْ فَيَجْعَلُهَا فِي صُنْدُوقٍ، وَيَقْفِلُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَكْتَرِي لَهُمْ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ مَرْوَ إِلَى بَغْدَادَ، فَلا يَزَالُ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ وَيُطْعِمُهُمْ أَطْيَبَ الطَّعَامِ وَأَطْيَبَ الْحَلْوَاءِ، ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْ بَغْدَادَ بِأَحْسَنِ زِيٍّ وَأَكْمَلِ مُرُوءَةٍ، حَتَّى يَصِلُوا إِلَى مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا صَارُوا إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، قَالَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ: مَا أَمَرَكَ عِيَالُكَ أَنْ تَشْتَرِيَ لَهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ طُرَفِهَا؟ فَيَقُولُ: كَذَا، فَيَشْتَرِي لَهُمْ، ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ إِلَى مَكَّةَ، فَإِذَا وَصَلُوا إِلَى مَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ فَقَضَوْا حَجَّهُمْ، قَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: مَا أَمَرَكَ عِيَالُكَ أَنْ تَشْتَرِيَ لَهُمْ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ؟ فَيَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، فَيَشْتَرِي لَهُمْ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ مَكَّةَ. فَلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 يَزَالُ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ إِلَى أَنْ يَصِيرُوا إِلَى مَرْوَ، فَإِذَا وَصَلُوا إِلَى مَرْوَ جصَصَّ أَبْوَابَهُمْ وَدُورَهُمْ، فَإِذَا كَانَ بَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ صَنَعَ لَهُمْ وَلِيمَةً وَكَسَاهُمْ، فَإِذَا أَكَلُوا وَشَرِبُوا، دَعَا بِالصُّنْدُوقِ فَفَتَحَهُ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ صُرَّتَهُ بَعْدَ أَنْ كَتَبَ عَلَيْهَا اسْمَهُ. قَالَ أَبِي: أَخْبَرَنِي خَادِمُهُ أَنَّهُ عَمِلَ فِي آخِرِ سَفْرَةٍ سَافَرَهَا دَعْوَةً، فَقَدَّمَ إِلَى النَّاسِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ خِوَانَ فَالَوْذَجٍ. قَالَ: وَبَلَغَنَا أَنَّهُ قَالَ لِلفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ: لَوْلاكَ وَأَصْحَابُكَ مَا اتَّجَرْتُ، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 بَابُ مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَنْزِلِهِ إِذَا أَرَادَ الْحَاجُّ الْخُرُوجَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذَا دِينِي وَأَهْلِي، وَمَالِي وَدِيعَةٌ عِنْدَكَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، وَالْمَالِ، وَالْوَلَدِ. فَصْلٌ فَإِذَا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَلْيَقُلْ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ الْحُصَيْنُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقَطِيعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ يَعْنِي: ابْنَ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَارِقِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَن ّالنَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَانَ إِذَا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، يَعْنِي: لِلسَّفَرِ، كَبَّرَ ثَلاثًا، ثُمَّ يَقُولُ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ {13} وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 13-14] ". ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِي سَفَرِي هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا السَّفَرَ، وَاطْوِ لَنَا الْبُعْدَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا فِي سَفَرِنَا وَاخْلُفْنَا فِي أَهْلِنَا» . انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ فَصْلٌ فَإِذَا وَدَّعَهُ أَحَدٌ فَلْيَقُلْ: أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ، وَأَمَانَتَكَ، وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 بَابُ انْزِعَاجِ مُوَدِّعِي الْحَاجِّ شَوْقًا إِلَى الْحَجِّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأَنَا الْحُمَيْدِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْأَرْدَسْتَانِيُّ، أَنْبَأَنَا السُّلَمِيُّ، قَالَ: قَالَ بَعْضُهُمْ: خَرَجَتْ أُمُّ الْيَمَنِ بِنْتُ عَلِيٍّ امْرَأَةُ أَبِي عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ وَقْتَ خُرُوجِ الْحَاجِّ إِلَى الصَّحْرَاءِ، وَالْجِمَالُ تَمُرُّ بِهَا وَهِيَ تَبْكِي، وَتَقُولُ: وَاضَعْفَاهُ، وَتُنْشِدُ عَلَى أَثَرِ قَوْلِهَا: فَقَلْتُ دَعُونِي وَاتِّبَاعِي رِكَابَكُمْ ... أَكُنْ طَوْعَ أَيْدِيكُمْ كَمَا يَفْعَلُ الْعَبْدُ وَمَا بَالُ رَغْمِي لا يَهُونُ عَلَيْهِمُ ... وَقَدْ عَلِمُوا أَنْ لَيْسَ لِي مِنْهُمُ بُدُّ وَتَقُولُ: هَذِهِ حَسْرَةُ مَنِ انْقَطَعَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ، فَكَيْفَ تَكُونُ حَسْرَةُ مَنِ انْقَطَعَ عَنْ رَبِّ الْبَيْتِ؟ وَقَالَ الرَّضِيُّ فِي هَذَا الْمَعْنَى: أَيُّهَا الرَّائِحُ الْمُغَذُّ تَحَمَّلْ ... حَاجَةً لِلْمُعَذَّبِ الْمُشْتَاقِ أَقْرِئْ عَنِّي السَّلامَ أَهْلَ الْمُصَلَّى ... فَبَلاغُ السَّلامِ بَعْضُ التَّلاقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وَإِذَا مَا مَرَرْتَ بِالْخَيْفِ فَاشْهَدْ ... أَنَّ قَلْبِي إِلَيْهِ بِالْأَشْوَاقِ وَإِذَا مَا سُئِلْتَ عَنِّي فَقُلْ ... نِضْوُ هَوًى مَا أَظُنُّهُ الْيَوْمَ بَاقِ ضَاعَ قَلْبِي فَانْشُدْهُ لِي بَيْنَ جَمْعٍ ... وَمِنًى عِنْدَ بَعْضِ تِلْكَ الْحِدَاقِ وَابْكِ عَنِّي فَإِنَّنِي كُنْتُ مِنْ ... قَبْلُ أُعِيرُ الدُّمُوعَ لِلْعُشَّاقِ وَلَهُ: أَلا هَلْ إِلَى ظِلِّ الْأَثِيلِ تَخَلُّصٌ ... وَهَلْ لِثَنِيَّاتِ الْغُوَيْرِ طُلُوعُ وَهَلْ لِلَيَالِينَا الطِّوَالِ تَصَرُّمٌ ... وَهَلْ لِلَيَالِينَا الْقِصَارِ رُجُوعُ وَلَهُ: حَيِّ بَيْنَ النَّقَا وَبَيْنَ الْمُصَلَّى ... وَقَفَاتِ الرَّكَائِبِ الْأَنْضَاءِ وَرَاجَ الْحَجِيجِ لَيْلَةَ جَمْعٍ ... وبِجَمْعِ مَجَامِعُ الْأَهْوَاءِ وَتَذَكَّرْ عَنِّي مَنَاخَ مَطِيَّتِي ... بِأَعَالِي مِنًى وَمَرْسَى خِبَائِي وَلَهُ فِي أَبْيَاتٍ: تَعَجَّبَ صَحْبِي مِنْ بُكَائِي وَأَنْكَرُوا ... جَوَابِي لِمَا لَمْ تَسْمَعِ الْأُذُنَانِ فَقُلْتُ: نَعَمْ مَا تَسْمَعُ الْأُذُنُ دَعْوَةً ... بَلَى! إِنَّ قَلْبِي سَامِعٌ وَجِنَانِي وَيَا أَيُّهَا الرَّكْبُ الْيَمَانُونَ خَبِّرُوا ... طَلِيقًا بِأَعْلَى الْخَيْفِ أَنَّى عَانِي وَيَا صَاحِبَي رَحْلِي أَقِلا، فَإِنَّنِي ... رَأَيْتُ بِقَلْبِي غَيْرَ مَا تَرَيَانِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَيَّامِ جَمْعٍ إِلَى مِنًى ... إِلَى مَوْقِفُ التَّجْمِيرِ، غَيْرُ أَمَانِي يُعَلَّلُ دَائِي بِالْعِرَاقِ طَمَاعَةٌ ... وَكَيْفَ شِفَائِي، وَالطَّبِيبُ يَمَانِي! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وَلَهُ فِي أَبْيَاتٍ قَالَهَا وَالنَّاسُ قَدْ تَوَجَّهُوا إِلَى مَكَّةَ: أَقُولُ لِرَكْبٍ رَائِحِينَ: لَعَلَّكُمْ ... تَحِلُّونَ مِنْ بَعْدِي الْعَقِيقَ الْيَمَانِيَا خُذُوا نَظْرَةً مِنِّي فَلاقُوا بِهَا الْحِمَى ... وَنَجْدًا وَكُثْبَانَ اللِّوَى وَالْمَطَالِيَا وَمُرُّوا عَلَى أَبْيَاتِ حَيٍّ بِرَامَةَ ... فَقُولُوا: لَدِيغٌ يَبْتغِي الْيَوْمَ رَاقِيَا عَدِمْتُ دَوَائِي بِالْعِرَاقِ فَرُبَّمَا ... وَجَدْتُمْ بِنَجْدَ لِيَ طَبِيبًا مُدَاوِيَا وَقُولُوا لِجِيرَانٍ عَلَى الْخَيْفِ مِنْ مِنًى ... تُرَاكُمْ مَنِ اسْتَبْدَلْتُمْ بِجِوَارِيَا؟ وَمَنْ وَرَدَ الْمَاءَ الَّذِي كُنْتُ وَارِدًا بِهِ ... وَرَعَى الْعُشْبَ الَّذِي كُنْتُ رَاعِيَا فَوَالَهْفَتِي كَمْ لِي عَلَى الْخَيْفِ شَهْقَةً ... تَذُوبُ عَلَيْهَا قِطْعَةٌ مِنْ فُؤَادِيَا تَرَحَّلْتُ عَنْكُمْ وَلِي أَمَامِيَ نَظْرَةٌ ... وَعَشْرٌ بَعْدَكُمْ مِنْ وَرَائِيَا ولَهُ فِي أَبْيَاتٍ: مَنْ مُعِيدٌ لِي أَيَّا ... مِي بِجِزْعِ السَّمُرَاتِ وَلَيَالِي بِجَمْعٍ ... وَمِنًى وَالْجَمَرَاتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 يَا وُقُوفًا مَا وَقَفْنَ ... فِي ظِلالِ السَّلَمَاتِ تَتَشَاكَى مَا عَنَانَا ... بِكَلامِ الْعَبَرَاتِ آهٍ مِنْ جِيدٍ إِلَى الدَّارِ ... طَوِيلُ اللَّفَتَاتِ وغَرَامٌ غَيْرُ مَاضٍ ... بِلِقَاءٍ غَيْرِ آتِ فَسَقَى بَطْنَ مِنًى ... وَالْخَيْفَ صَوْبَ الْغَادِيَاتِ وَلَهُ أَيْضًا: غَرَسَتْ عِنْدِي غَرْسَ ... الشَّوْقِ مَمَرُورَ الْجَنَاةِ أَيْنَ رَاقٍ لِغَرَامِي ... وَطَبِيبٌ لِشِكَاتِي وَلَهُ أَيْضًا: خُذِي نَفْسِي يَا رِيحُ مِنْ جَانِبِ الْحِمَى ... فَلاقِي بِهَا لَيْلا نَسِيمَ رُبَى نَجْدِ فَإِنَّ بِذَاكَ الْحَيِّ حَيًّا عَهَدْتُهُ ... وَبِالرُّغْمِ مِنِّي أَنْ يَطُولَ بِهِ عَهْدِي وَلَوْلا تَدَاوِي الْقَلْبِ مِنْ أَلَمِ الْجَوَى ... بِذِكْرِ تَلاقِينَا قَضَيْتُ مِنَ الْوَجْدِ وَيَا صَاحِبَيَّ الْيَوْمَ عُوجَا لِتَسْأَلا ... رُكَيْبًا مِنَ الْغَوْرَينِ أَنْضَاؤُهُمْ تَخَدِي عَنِ الْحَي بِالْجَرْعَاءِ جَرْعَاءِ مَالِكٍ ... هَلِ ارْتَبَعُوا وَاخْضَرَّ وَادِيهِمْ بَعْدِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 عَلِمْتُ بِنَجْدٍ شَيْحَةً حَاجِرِيَّةً ... فَأَمْطَرْتُهَا دَمْعِي وَأَفْرَشْتُهَا خَدِّي ذَكِّرَا بِهَا رَيَّا الْحَبِيبِ عَلَى النَّوَى ... وَهَيْهَاتَ ذَا يَا بُعْدُ بَيْنَهُمَا عِنْدِي وَإِنِّي لَمَجْلُوبٌ إِلَى الشَّوْقِ كُلَّمَا ... تَنَفَّسَ شَاكٍ أَوْ تَأَلَّمَ ذُو وَجْدِ تُعْرِضُ رُسُلُ الشَّوْقِ وَالرَّكْبُ هَاجِدُ ... فَتُوقِظُنِي مِنْ بَيْنِ نُوَّامِهِمْ وَحْدِي وَمَا شَرِبَ الْعُشَّاقُ إِلا بَقِيَّتِي ... وَمَا وَرَدُوا فِي الْحُبِّ إِلا عَلَى وِرْدِي وَلِمِهْيَارٍ: أَلا فَتًى يَسْأَلُ قَلْبِي مَا لَهُ ... يَنْزُو إِذَا بَرِقَ الْحِمَى بَدَا لَهُ؟ أَرَادَ نَجْدًا مَعَهُ بِبَابِلَ ... إِرَادَةً هَاجَتْ لَهُ بَلْبَالُهُ فَهُوَ يَرْجُو خَبَرًا مِنَ الْغَضَا ... يُسْنِدُهُ عَنْهُ فَمَا رَوَى لَهُ وَانْتَسَمَ الرِّيحُ الصَّبَا وَمَنْ لَهُ ... بِنَفْحَةٍ مِنَ الصَّبَا طُوبَى لَهُ وَيَوْمُ ذِي الْبَانِ وَمَا أَسَأَرْتُ مِنْ ... ذِي الْبَانِ إِلا أَنْ أَقُولَ: يَا لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وَلَهُ أَيْضًا: وَمَا أَتْبَعْتُ ظَعْنَ الْحَيِّ طَرْفِي ... لِأَغْنَمَ نَظَرَةً فَتَكُونُ زَادِي وَلَكِنِّي بَعَثْتُ بِلَحْظِ عَيْنِي ... وَرَاءَ الرَّكْبِ يَسْأَلُ عَنْ فُؤَادِي وَلَهُ أَيْضًا: سَلْ أَبْرَقَ الْحَنَّانَ وَاحْبِسْ بِهِ ... أَيْنَ لَيَالِينَا عَلَى الْأَبْرَقِ؟ وَكَيْفَ بِأَنَّاتٍ بِسَقْطِ اللِّوَى ... مَا لَمْ يَجِدْهَا الدَّهرُ لَمْ تُوَرَّقِ؟ هَلْ حَمَلَتْ، لا حَمَلَتْ، بَعْدَنَا ... عَنْكَ الصَّبَا عَرْفًا لِمُسْتَنْشِقِ؟ أَغْنَاكَ صَوبُ الدَّمْعِ عَنْ ... مِنَّةٍ أَحْمِلُهَا لِلْمُرْعِدِ الْمُبْرِقِ دَمْعٌ عَلَى الْخَيْفِ جَنَى مَا جَنَى ... بُكَاءُ حَسَّانٍ عَلَى جِلَّقِ للَّهِ دَرُّهُنَّ لَكَ يَوْمَ النَّقَا ... لَوْلا وَفَاءُ الْحُبِّ لَمْ يُغْلَقِ يَا سَائِقَ الْأَظْعَانِ رِفْقًا وَإِنْ ... لَمْ يُغْنِ قَوْلِي لِلَعُسُوفِ: ارْفُقِ لَوْلا زَفِيرِي خَلْفَ أَجْمَالِهِمْ ... وَحَرُّ أَنْفَاسِي لَمْ تَنْسَقِ لا تَبْدَءُوا بِالْعَزَلِ قَلْبِي فَمَا ... اسْتَنْجَدَ الدَّمْعُ عَلَى مَحْرَقِ سَمَّيْتَ لِي نَجْدًا عَلَى بُعْدِهَا ... يَا وَلَهَ الْمَشْئَمِ بِالْمَعْرَقِ دَاوِ بِهَا حُبِّي فَمَا مُهْجَتِي ... أَوَّلَ مَخْبُولٍ بِنَجْدٍ رُقِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وَلَهُ أَيْضًا: يَا لَلْهَوَى لَمَّا أَطَعْتُ حَمُولَهُ ... يَوْمَ النَّخِيلِ سَامَنِي مَا لَمْ أُطِقْ فَارَقْتُ حَوْلا أَهْلَ نَجْدٍ وَالْهَوَى ... ذَاكَ الْهَوَى وَحُرَقِي تِلْكَ الْحُرَقْ فَقُلْ لِمَنْ ظَنَّ الْبِعَادَ سَلْوَةً ... لا تَنْتَحِلَ طَعْمَ شَيْءٍ لَمْ تَذُقِ آهٍ لِقَلْبٍ شُقَّ عَنْهُ أَضْلُعِي ... مِنَ الْحُمَّى تُخَالِجُ البَرْقِ الشَّفِقْ ثَارَ بِهِ الشَوْقُ فَهَبَّ فَهَفَا ... تَطَلُّعًا ثُمَّ نَزَا ثُمَّ مَرَقْ وَلِأَبِي غَالِبِ بْنِ بِشْرَانَ: وَلَمَّا أَثَارُوا الْعِيسَ بِالْبَيْنِ بَيَّنَتْ ... غَرَامِي لِمَنْ حَوْلِي دُمُوعٌ وَأَنْفَاسُ فَقُلْتُ لَهُمْ لا بَأَسَ بي فَتَعَجَّبُوا ... وَقَالُوا الَّذِي أَبْدَيْتَهُ كُلَّهُ بَاسُ تَعَوَّضْ بِأُنْسٍ الصَّبْرِ عَنْ وَحْشَةِ الْأَسَى ... فَقَدْ فَارَقَ الْأَحْبَابَ مِنْ قَبْلِكَ النَّاسُ وَلِبَعْضِ الْمُحْدَثِينَ: يَا سَائِقَ الْعِيسِ تَرَفَّقْ وَاسْتَمِعْ ... مِنِّي وَبَلِّغْ إِنْ وَصَلْتَ عَنِّي وَقِفَ بِأَكْنَافِ الْحِجَازِ نَاشِدًا ... قَلْبِي فَقَدْ ضَاعَ الْغَدَاةَ مِنِّي وَقُلْ إِذَا وَصَلْتَ مِنْ أَرْضِهِمْ: ... ذَاكَ الْأَسِيرُ مُوثَقٌ بِالْحُزْنِ عَرِّضْ بِذِكْرِي عِنْدَهُمْ عَسَاهُمْ ... إِنْ سَمِعُوكَ سَائَلُوكَ عَنِّي قَلْ ذَلِكَ الْمَحبُوُسُ عَنْ قَصْدِكُمْ ... مُعَذَّبُ الْقَلْبِ بكِلِّ قِنِّ يَقُولُ: أَمَّلْتُ بِأَنْ أَزُورَكُمْ ... فِي جُمْلَةِ الْوَفْدِ فَخَابَ ظَنِّي أَقْعَدَنِي الْخُذْلانُ عَنْ قَصْدِكُمْ ... وَرُمْتُ أَنْ أسْعَى فلَمْ يَدَعْنِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وَقَالَ آخَرُ: شَيَّعْتُهُمْ فَاسْتَرَابُوا بِي فَقُلْتُ لَهُمْ: ... إِنِّي بُعِثْتُ مَعَ الْأَجْمَالِ أَحْدُوهَا قَالُوا: فَمَا نَفَسٌ يَعْلُو كَذِي صَعَدَا ... وَمَا لِعَيْنِكَ لا يَرْقَا مَاءُ مَآقِيهَا قُلْتُ: النَّفْسُ مِنْ إِدْمَانِ سَيْرِكُمْ ... وَالْعَيْنُ تَذْرِفُ دَمْعًا مِنْ قَذًى فِيهَا وَوَصَلَنِي كِتَابٌ مِنْ بَعْضِ إِخْوَانِي مِنَ الْحَاجِّ يَتَضَمَّنُ الاسْتِحْيَاشَ لِي فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَهَيَّجَ شَوْقِي إِلَى تِلْكَ الْأَمَاكِنِ، فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ أَبِيَاتًا مِنْهَا: أَنَرَاكُمْ فِي النَّقَا فَالْمُنَحَنَى ... يَوْمَ سَلْعٍ تَذْكُرُونَ ذِكْرَنَا انْقَطَعْنَا فَوَصَلْتُمْ فَاعْلَمُوا ... وَاشْكُرُوا الْمُنْعِمَ يَا أَهْلَ مِنَى قَدْ رَبِحْتُمْ وَخَسِرْنَا فَصِلُوا ... بِفُضُولِ الرِّبْحِ مَنْ قَدْ غَبُنَا يَا سَقَى اللَّهُ حِمًى أَنْتُمْ بِهِ ... وَرَعَى تِلْكَ الرُّبَا وَالدِّمَنَا سَارَ قَلْبِي خَلْفَ أَجْمَالِكُمْ ... غَيْرَ أَنَّ الْوَهَنَ عَاقَ الْبَدَنَا مَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلا قَدْ ... جِئْتُهُ أَسْعَى بِأَقْدَامِ الْمُنَى إِنْ سَقَتْكُمْ دِيمَةٌ هَاطِلَةٌ ... فَدُمُوعِي قَدْ جَرَتْ لِي أَعْيُنَا وَأُنَادِي كُلَّمَا لَبَّيْتُمُ ... فِي بَوَادِي أَسَفَى وَاحَزَنَا بَدَنِي نِضْوٌ لِأَبْدَانِكُمْ ... وَالَّذِي أَقْلَقَنِي أَنِّي هُنَا آهٍ وَأَشْوَاقِي إِلَى ذَاكَ الْحَيِّ ... شَوْقُ مَحْرُومٍ وَقَدْ ذَاقَ الْجَنَا سَلِّمُوا عَنِّي عَلَى أَرْبَابِهِ ... أَخْبِرُوهُمْ أَنَّنِي حِلْفُ الضَّنَا أَنَا مُذْ غِبْتُمْ عَلَى تِذَكَارِكُمْ ... أَتُرَاكُمْ عِنْدَكُمْ مَا عِنْدَنَا عَرْفُكُمْ تَعْرِفُهُ رِيحُ الصَّبَا ... كُلَّمَا هَبَّتْ بِهِ مَرَّتْ بِنَا دَرَّ دَرُّ الْوَصْلِ مَا أَعْذَبَهُ ... لَيْتَهُ يَرْضَى بِرُوحِي ثَمَنَا زَمَنًا مُذْ زَالَ أُولَى زَمَنَا ... فَأَعَادَ اللَّهُ ذَاكَ الزَّمَنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 بَابٌ آدَابُ السَّيْرِ فِي السَّفَرِ أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنْبَأَنَا هِشَامٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: سُئِلَ أُسَامَةُ عَنْ سَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ؟ فَقَالَ: «كَانَ سَيْرُهُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ» ، وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ. أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَصْلٌ وَيُكْرَهُ أَنْ يَسِيرَ وَحْدَهُ، وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوَحْدَةِ مَا سَارَ أَحَدٌ وَحْدَهُ بِلَيْلٍ أَبَدًا» . فَصْلٌ وَيُكْرَهُ الْجَرَسُ، وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «الْجَرَسُ مَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ» . وَفِي لَفْظٍ: «لا تَصْحَبُ الْمَلائِكَةُ رُفَقَةً فِيهَا كَلْبٌ أَوْ جَرَسٌ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 فَصْلٌ فَإِذَا عَلا نَشَزًا كَبَّرَ ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ الشَّرَفُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ، وَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 بَابُ ذِكْرِ حَنِينِ الْإِبِلِ فِي السَّيْرِ وَخِطَابِ الْوَاجِدِينَ لَهَا وَلِحَادِيهَا وَالْإِخْبَارِ عَنْهَا وَالْقَسَمِ بِهَا رَكِبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَاقَةً فَأَسْرَعَتْ بِهِ، فَأَنْشَدَ: كَأَنَّ رَاكِبَهَا غُصْنٌ بِمَرُوحةٍ ... إِذَا تَدَلَّتْ بِهِ أَوْ شَارِبٌ ثَمِلُ وَقَالَ الْحَرْثُ بْنُ خَالِدٍ: إِنِّي وَمَا نَحَرُوا غَدَاةَ مِنًى ... يَوْمَ الْجِمَارِ يَؤُودُهَا الْعَقْلُ لَوْ بُدِّلَتْ أَعْلَى مَسَاكِنِهَا ... سَفْلا فَأَصْبَحَ سَفْلُهَا يَعْلُو فَيَكَادُ يَعْرِفُهَا الْخَبِيرُ بِهَا ... فَيَرُدُّهُ الْأَقْوَادُ وَالْمَحَلُّ لَعَرَفْتَ مَعْنَاهَا لِمَا احْتَمَلَتْ ... مِنِّي الضُّلُوعُ لِأَهْلِهَا قَبْلُ وَقَالَ ابْنُ الدُّمَيْنَةِ: أَمَا وَالرَّاقِصَاتُ بِذَاتِ عِرْقٍ ... وَمَنْ صَلَّى بِنَعْمَانِ الْأَرَاكِ لَقَدْ أَضْمَرْتُ حُبَّكِ فِي فُؤَادِي ... وَمَا أَضْمَرْتُ حُبًّا مِنْ سِوَاكِ وَلِلصِّمَّةِ الْقُشَيْرِيِّ: وَحَنَّتْ قَلُوصِي آخِرَ الْلَيْلِ حَنَّةً ... فَيَا رَوْعَةَ مَا رَاعَ قَلْبِي حَنِينُهَا فَقُلْتُ لَهَا: حِنِّي فَكُلُّ قَرِينَةٍ ... مُفَارِقُهَا لا بُدَّ يَوْمًا قَرِينُهَا وَقُلْتُ لَهَا: حِنِّي رُوَيْدًا فَإِنَّنِي ... وَإِيَّاكِ يُخْفِي عَوْلَهُ سَفِينُهَا وَلِإِبْرَاهِيمَ بْنِ صُورٍ الْكَاتِبِ: بَاتَتْ تُشَوِّقُنِي بِرَجْعِ حَنِينِهَا ... وَأَزِيدُهَا شَوْقًا بِرَجْعِ حَنِينِي نِضْوَيْنِ مُغْتَرِبَيْنِ بَيْنَ تِهَامَةَ ... طَوَيَا الضُّلُوعَ عَلَى هَوًى مَكْنُونِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 لَوْ سُئِلَتْ عَنْهَا الْقَلُوصُ لَأَخْبَرَتْ ... عَنْ مُسْتَعْرِ صَبَابَةٍ وَشُجُونِ وَقَالَ الرَّضِيُّ: يَا نَاقُ أَدَّاكَ الْمُؤَدِّي، يَا نَاقْ ... مَاذَا الْمُقَامُ، وَالْفُؤَادُ قَدْ تَاقْ هَلْ حَاجَةُ الْمَأْسُورِ إِلا الْإِطْلاقْ ... أَلْهَاكِ عَنْ لَيْلِ السُّرَى وَالْإِعْنَاقْ وَلَهُ: أَقُولُ وَقَدْ حَنَّتْ بِذِي الْأَثْلِ نَاقَتِي: ... قَرِّي لا يَنَلْ مِنْكِ الْحَنِينُ الْمُرَجِّعُ تَحِنِّينَ إِلا أَنَّ بِي لا بِكِ الْهَوَى ... وَلِي لا لَكِ الْيَومَ الْخَلِيطُ الْمُودِّعُ وَبَاتَتْ تَشْكِي تَحْتَ رِجْلِي ضَمَانَةً ... كِلانَا إِذًا يَا نَاقُ نِضْوٌ مُفَجَّعُ أَحَسَّتْ بِنَارٍ فِي ضُلُوعِي فَأَصْبَحَتْ ... يَخِبُّ بِهَا حَرُّ الْغَرَامِ وَيُوضَعُ وَلِلمُتَنَبِّي: أَيَا رِكَابَ الْأَخْيَارِ إِنَّ الْأَدْمُعَا ... تَطُسُّ الْخُدُودَ كَمَا تَطُسُّ الْبُرْمُعَا وَاعْرِفْنَ مَنْ حَمَلَتْ إِلَيْكُنَّ النَّوَى ... وَامْشِينَ هَوْنًا فِي الْأَزِمَّةِ خُضَّعَا وَلِمِهْيَارٍ: إِلَى كَمْ حَبْسُهَا تَشْكُو الْمَضِيقَا ... أَثَرَهَا رُبَّمَا وَجَدَتْ طَرِيقَا أُجُلُهَا تَطْلُبُ الْقُصْوَى وَدَعْهَا ... سُدًى تَرْمِي الْغُرُوبُ بِهَا الشُّرُوقَا وَلَهُ: يَا سَائِقَ الْبَكَرَاتِ اسْتَبِقْ فَضْلَتَهَا ... عَلَى الرُّوَيْدِ فَظَهْرُ الْعُفْرِ مَعْقُورُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 جَلَسَا وَلَوْ سَاعَةً يَرْوِي بِهَا مُقَلٌ ... هَيْمٌ وَأَنْتَ عَلَيْهَا الدَّهْرَ مَشْكُورُ فَالْعِيسُ طَائْعَةٌ وَالْأَرْضُ وَاسِعَةٌ ... وَإِنَّمَا هُوَ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرُ تَغَلَّسُوا مِنْ زَرُودَ وَجْهَ يَوْمِهِمْ ... وَحَطَّهُمْ لِظِلالِ الْبَانِ تَهْجِيرُ وَلَهُ: صَدَّتْ بِنَعْمَانَ عَلَى طُولِ الصَّدَى ... دَعْهَا فَلَيْسَ كُلُّ مَاءٍ مَوْرِدَا لِحَاجَةٍ أَمَسَّ مِنْ حَاجَاتِهَا ... تَخَطَّأَتْ أَرْزَاقَهَا تَعَمُّدَا تَرَى وَفِي شُرُوعِهَا ضَرَاعَةً ... حَرَارَةً عَلَى الْكُبُودِ أَبْرَدَا عَادَةُ عِزٍّ جَذَبَتْ بِخِطْمِهَا ... وَكُلُّ ذِي إِلْفٍ وَمَا تَعَوَّدَا لا حَمَلَتْ ظُهُورُهَا إِنْ حَمَلَتْ ... رِجْلا عَلَى الضَّيْمِ تَقَرُّ أَوْ يَدَا وَلَهُ: يَا سَائِقَ الْأَظْعَانِ أَوْ رِدْ ... بَعْضَ مَا تَعْتَسِفُ فَإِنَّ بَيْنَ سُوقِهَا ... أَفْئِدَةً تُخْتَطَفُ يَا زَمَنِي عَلَى الْغَضَا ... مَا أَنْتَ إِلا الْأَسْلَفُ لَهَفِي عَلَيْكَ مَاضِيًا ... لَوْ رَدَّكَ التَّأَسُّفُ وَلَهُ: لَيْلُ السُّرَى مِثْلُ نَهَارِ الْمُقَامِ ... مَا خِفْتُ أَنْ تُظْلَمَ أَوْ أَنْ تُضَامِ رَامِ بِهَا الْلَيْلَ فَمَا يُسْفِرُ النَّجْحُ ... إِلا عَنْ نِقَابِ الظَّلامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 مَوَارِقًا عَنْ عُقُلٍ أَشْطَانُهَا ... مُرُوقٌ فُوِقَ السَّهْمِ عَنْ قَوْسِ رَامٍ وَلَهُ: إِذَا فَاتَهَا رَوْضُ الْحِمَى وَجَنُوبُهُ ... كَفَاهَا النَّسِيمُ الْبَابِلِيُّ وَطِيبُهُ فَدَعْهَا تَلُسُّ الْعَيْشَ طَوْعَ قُلُوبِهَا ... فَأَمْرَعُ مَا تَرْعَاهُ مَا تَسْتَطِيبُهُ وَإِنَّ الثُّمَادَ الْبَرَضَ فِي عِزِّ قَوْمِهَا ... لَأَنْفَعُ مِنْ جَمٍّ يُذِلُّ غَرِيبُهُ يَلُومُ عَلَى نَجْدٍ ضَنِينٌ بِدَمْعِهِ ... إِذَا فَارَقَ الْأَحْبَابَ حَنَّتْ غُرُوبُهُ وَمَا النَّاسُ إِلا مَنْ فُؤَادِي فُؤَادُهُ ... لِأَهْلِ الْغَضَا أَوْ مَنْ حَبِيبِي حَبِيبُهُ وَلَهُ: لِمَنِ الْحُمُولُ سَلَكْنَ فَلَجَا ... يُطْلُعْنَهُ فَجَّا فَفَجَّا؟ يَخْلِطْنَ بِالْأَيْدِي الطَّريِقَ ... فَمَا يَكَدْنَ يَجِدْنَ نَهْجَا سُودٌ بِمَا صَبَغَ الْهَجِيرُ ... جُلُودَهُنَّ الْحُمُرَ وَهْجَا مِنْ كُلِّ حَامِلَةِ الْهِلالِ ... بَنَى عَلَيْهَا الْبَيْنُ بُرْجَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وَلَهُ: أَمَرْتُكُمْ أَمْرِي بِنَعْمَانَ نَاصِحًا ... وَقُلْتُ: احْبِسُوهَا تَلْحَقُ الْحَيَّ رَائِحًا فَمَارَيْتُمُونِي تُخْبِرُونَ اجْتِهَادَهَا ... فَأُبْتُمْ بِلا حَاجٍّ وَأَيْنَ طَلائِحَا وَقَدْ صَدَقَتْنِي فِي الصَّبَا عَنْ مَكَانِهَا ... أَخَابِيرُ أَرْوَاحٍ سَبَتْنِي نَوَافِحَا لِقَاءٌ عَلَى نَعْمَانَ كَانَ غَنِيمَةً ... وَهَيْهَاتَ يَدْنُو بَعْدَ مَا فَاتَ نَازِحًا دَعُونِي وَنَعْمَانَ الْأَرَاكَ أَرُودُهُ ... يُجَاوِبُ صَوْتِي طَيْرُهُ الْمُتَنَاوِحَا عَسَى سَارِحٌ مِنْ دَارِ مَيَّةَ يَا مَنْ ... يُقَيَّضُ لَهُ عَنْ شَائِمٍ طَارَ بَارِحَا وَلَهُ: هَلِ السَّابِقُ الْغَضْبَانُ يَمْلِكُ أَمْرَهُ؟ ... فَمَا كَلِّ سَيْرِ الْيَعْمَلاتِ وَحِيدُ رُوَيْدًا بِأَخْفَافِ الْمَطِيِّ فَإِنَّمَا ... تُدَاسُ جِبَاهٌ تَحْتَهَا وَخُدُودُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وَلَهُ: يَقُودُهَا الْحَادِي إِلَى حَاجَتِهِ ... وَهَمَا أُخْرَى إِلَيْهَا لَمْ تُقَدْ وَإِنَّمَا تَيَّمَهَا بِحَاجِرٍ ... أَيَّامُهَا بِحَاجِرٍ لَوْ تُسْتَرَدْ لَوْ كَانَ لِي عَلَى الزَّمَانِ إِمْرَةٌ ... مُطَاعَةٌ قُلْتُ: أَعِدْهَا لِي أَعِدْ وَكَمْ عَلَى وَادِ الْغَضَا مِنْ كَبِدٍ ... يَحْكُمُ فِيهَا بِسِوَى الْعَدْلِ الْكَمَدْ وَلَهُ: مَتَى رُفِعَتْ لَهُ بِالْغَوْرِ نَارٌ ... وَقَرَّ بِذِي الْأَرَاكِ لَهَا قَرَارُ فَكُلُّ دَمٍ أَرَاقَ السَّيْرُ مِنْهَا ... بِحُكْمِ الشَّوْقِ مَطْلُولٌ جَبَارُ وَلَهُ: تَمُدُّ بِالْآذَانِ وَالْمَنَاخِرِ ... لِحَاجِرٍ كَيْفَ لَهَا بِحَاجِرِ؟ تَعْرُهَا عَنْهُ أَحَادِيثُ الصِّبَا ... وَلامِعَاتٌ فِي السَّحَابِ الْبَاكِرِ أَرْضٌ بِهَا السَّابِعُ مِنْ رَبِيعِهَا ... وَشَوْقُهَا الْمَكْنُونُ فِي الضَّمَائِرِ وَحَيْثُ دَبَّتْ وَرَبَتْ فِصَالُهَا ... وَبَرَكَتْ تَفْحَصُ بِالْكَرَاكِرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 فَهَلْ لَهَا وَهَلْ لِمَنْ تَحْمِلُهُ ... مِنْ عَائِفٍ بِخَاطِرٍ أَوْ زَاجِرِ؟ فَإِنَّهَا مِنْ حُبِّهَا نَجْدًا تَرَى ... بِكُثْبِ الْغَوْرِ شِفَارَ الْجَازِرِ وَلَهُ: يَا لَيْتَ شِعْرِي وَالْمُنَى تَعِلَّةٌ! ... هَلْ بِمِنًى لِعَهْدِنَا مِنْ ذَاكِرِ؟ وَفِي الضُّيُوفِ الْغُرَبَاءِ عِنْدَكُمْ ... قَلْبٌ يُضَامُ مَا لَهُ مِنْ نَاصِرِ إِمَّا قِرَى النَّادِي الْكَرِيمِ أَوْ فَرَدُّوهُ ... عَلَى أَرْبَابِهِ بِالْخَاطِرِ وَلَهُ: هَوِّنْ فِي الْلَيْلِ عَلَيْهَا الْغَرَرَا ... أَنَّ الْعُلا مُقيَّدَاتٌ بِالسُّرَى فَرُكِّبَتْ بِسُوقِهَا رُءُوسُهَا ... حَتَّى تَخَيَّلْنَا الْحُجُولَ الْغُرَرَا عَلَّمَهَا النَّوْمُ عَلَى رِبَاطِهَا ... ذَلِيلَةً أَنْ تَسْتَطِيبَ السَّهَرَا وَلَهُ: لِمَنِ الظَّعْنُ تَهْتَدِي وَتَجُورُ؟ ... سَائِقٌ مُنْجِدٌ وَشَوْقٌ يَغُورُ! يُتْبِعُ الْخَطْوَ قَاهِرًا بَيْنَ أَيْدِيهَا ... وَمِنْ خَلْفِهَا هَوًى مَقْهُورُ فَهِيَ فِي طَاعَةِ التَّلَفُّتِ حَيَّاتٌ ... وَفِي طَاعَةِ الْحِبَالِ سُطُورُ وَوَرَاءَ الْحُدُوجِ فِي الْبِيدَ ... أَرْوَاحُ الْمُقِيمِينَ فِي الدِّيَارِ تَسِيرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 يَا عَقِيدِي عَلَى الْغَرَامِ بِلَيْلٍ ... قُمْ وَفِيًّا وَغَيْرُكَ الْمَأْمُورُ فَأَعِرْنِي، إِنْ كَانَ مِمَّا يُعَارُ ... الْقَلْبَ أَوْ كُنْتَ أَنْتَ مِمَّنْ يُعِيرُ وَخُذِ الْآنَ كَيْفَ شِئْتَ بِحَبْلِي ... قَدْ كَفَاكَ الْجَذَابَ أَنِّي أَسِيرُ وَلَهُ: نَفَّرَهَا عَنْ وَرْدِهَا بِحَاجِرِ ... شَوْقٌ يَعُوقُ الْمَاءَ فِي الْحَنَاجِرِ وَرَدَّهَا عَلَى الطَّوَى سَوَاغِبًا ... ذُلُّ الْغَرِيبِ وَحَنِينُ الذَّاكِرِ مَغْرُورَةُ الْأَعْيُنِ مِنْ أَحْبُلِهَا ... بِحَالِبِ الْإِيمَاضِ غَيْرِ مَاطِرِ وَلَهُ: أَوْلَى لَهَا أَنْ يَرْعَوِي نِفَارُهَا ... وَأَنْ يَقَرَّ بِالْحِمَى قَرَارُهَا تَرْعَى وَتَرْوِي مَا ضَفَا وَمَا صَفَا ... وَلِلرُّعَاةِ بَعْدَهَا أُسَارُهَا حَتَّى تَرُوحَ ضَخْمَةً جُنُوبُهَا ... بِخِصْبِهَا شَاكِرَةٌ أَوْبَارُهَا وَكَيْفَ لا وَمَاءُ سَلْعٍ مَاؤُهَا ... مَقْلُوةً وَالْعَلَمَانِ دَارُهَا وَلَهُ: دَعُوهَا تَرِدُ بَعْدَ خَمْسٍ شُرُوعَا ... وَأَرْخُوا أَزِمَّتَهَا وَالنُّسُوعَا وَقُولُوا دَعَاءً لَهَا: لا عُقِرَتْ ... وَلا امْتَدَّ دَهْرُكِ إِلا رَبِيعَا حَمَلْنَ نَشَاوَى بِكَأْسِ الْغَرَامِ ... وَكُلٌّ غَدًا لِأَخِيهِ رَضِيعَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 أَحَبُّوا فُرَادَى وَلَكِنَّهُمْ ... عَلَى صَيْحَةِ الْبَيْنِ مَاتُوا جَمِيعَا حَرَمُوا رَاحَةَ النَّوْمِ أَجْفَانَهُمْ ... وَلَغَوْا عَلَى الزَّفَرَاتِ الضُّلُوعَا أَسُكَّانَ رَامَةَ هَلْ مِنْ قِرَى ... فَقَدْ دَفَعَ الْلَيْلُ ضَيْفًا قَنُوعَا؟ كَفَاهُ مِنَ الزَّادِ أَنْ تُمَهِّدُوا ... لَهُ نَظَرًا وَحَدِيثًا وَسِيعَا وَلَهُ: حُبِّبَ إِلَيْهَا بِالْغَضَا مُرْتَبِعَا ... وَبِالنَّخِيلِ مَوْرِدًا وَمَشْرَعًا وَبِأَثِيلاتِ النَّقَا طَلائِلا ... تَفْرِشُهَا كَرَاكِرًا وَأَذْرُعَا مِنِّي لَهَا لَوْ جَعَلَ الدَّهْرُ لَهَا ... أَنْ تَأْمَنَ الطَّارِدَ الْمُزَعْزِعَا عَزَّتْ فَمَا زَالَ بِهَا جَوْرُ الْهَوَى ... وَالْبِيدِ حَتَّى أَذْعَنَتْ أَنْ تَخْضَعَا اللَّهُ يَا سَائِقُهَا فَإِنَّهَا ... جَرْعَةٌ حَتْفٌ أَنْ تَجُوزَ الْأَجْرُعَا أَسِلْ بِهَا الْوَادِي رَفِيقًا إِنَّهَا ... تَسِيلُ مِنْهَا أَنْفُسًا وَأَدْمُعَا وَلَهُ: يَا سَائِقَ الْأَظْعَانِ إِنَّ مَعَ الصَّبَا ... خَبَرًا لَوْ أَنَّكَ لِلصَّبَا تَتَوَقَّفُ هَبَّتْ لِعَارِفَةٍ تَسُوقُ مِنَ الْحِمَا ... أُرُجًا بِرِيَّا أَهْلِهِ يُتَعَرَّفُ فَبَرُدَتْ بَيْنَ عُنَيْزَتَيْنِ وَصَارَتْ ... كَبِدًا إِلَى زَمَنِ الْحِمَى يَتَلَهْفُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وَلَهُ: رَعَتْ مِنْ تَبَالَةٍ جَوَرًا لَفِيفًا ... وَسَبْطًا يَرِفُّ عَلَيْهَا رُفُوفَا وَسَاقَ لَهَا حَارِسُ الانْتِجَاعِ ... مِنْ حَيْثُ حَنَتْ نَمِيرًا وَرِيفَا وَحَنَّتْ لِأَيَّامِهَا بِالْبِطَاحِ ... فَمَدَّتْ وَرَاءَ صَلِيفٍ صَلِيفَا تُرَاوِدُ أَيْدِيهَا بِالرُّوَيْدِ ... وَيَأْبَى لَهَا الشَّوْقُ إِلا الْوَجِيفَا فَهَلْ فِي الْخِيَامِ عَلَى الْمَأَزُمِينَ ... قَلْبٌ يَكُونُ عَلَيْهَا عَطُوفَا؟ وَهَلْ بَانُ سَلْعٌ عَلَى الْعَهْدِ مِنْهُ ... يَحْلُو ثِمَارًا وَيَدْنُوا قُطُوفَا وَلَهُ: مَدَّ لَهَا خِلْفُ الْغَمَامِ فَسَقَى ... وَمَدَّ مَنْ ظِلٍّ عَلَيْهَا مَا وَقَى تَغَنَّ بِالْجَرْعَاءِ يَا سَائقَهَا ... فَإِنْ وَنَتْ شَيْئًا فَزِدْهَا الْأَبْرَقَا وَاغْنِ عَلَى السِّيَاطِ فِي أُرْجُوزَةٍ ... بِحَاجِرٍ تَرَى السِّهَامَ الْمُرَّقَا وَكَلَّمَا تَزْجُرُهَا حُدَاتُهَا ... رَعَى الْحِمَى رَبُّ الْغَمَامِ وَسَقَا حَوَامِلا مِنَّا هُمُومًا ثَقُلَتْ ... وَأَنْفُسًا لَمْ تُبْقِ إِلا رَمَقَا تَحْمِلُنَا وَإِنْ عَرِينَ قِصَبًا ... وَإِنْ دَمَيْنَ أَذْرُعَا وَأَسْوُقَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 دَامَ عَلَيْهَا الْلَيْلُ حَتَّى أَصْبَحَتْ ... تَحْسَبُ فَجْرَ ذَاتِ عِرْقٍ شَفَقَا وَرَامِيَاتٍ لا يُؤَدِينَ دَمًا ... وَلا يُبَالِينَ أَسَالَ أَمْ رَقَا وَقَفْنَ صَفًا فَرَأَيْنَ شَرَكًا ... مِنَ الْقُلُوبِ فَرَمَيْنَ طَلَقَا عَرِّجْ عَلَى الْوَادِي فَقُلْ عَنْ كَبِدِي ... لِلْبَانِ مَا شِئْتَ الْجَوَى وَالْحُرُقَا وَاحْجُرْ عَلَى عَيْنَيْكَ حِفْظًا أَنْ تَرَى ... غُصْنَيْنِ مِنْهُ دَنَيَا فَاعْتَنَقَا فَطَالَمَا اسْتَظَلَلْنَهُ مُصْطَبِحًا ... سُلافَةَ الْعَيْشِ بِهِ مُغْتَبِقَا وَلَهُ: يَا لَزَمَانِي عَلَى الْحِمَى عَجَبًا ... أَيُّ زَمَانٍ مَضَى وَأَيُّ حِمَى؟ حَلَفْتُ بِالرَّاقِصَاتِ تُجْهِدُ أَعْنَاقًا ... خَفُوضًا وَأَظْهُرًا أَسُنُمَا تَحْسَبُ أَشْخَاصَهَا إِذَا اخْتَلَطَتْ ... بِالْأَكَمِ الْوُقْصِ فِي الدُّجَى أَكَمَا تَحْمِلُ شُعْثًا إِذَا هُمْ ذَكَرُوا ... ذَخِيرَةَ الْأَجْرِ غَالَطُوا السَّأَمَا غَدَوْا سِرًّا مِنْ عَامِهِمْ وَبَقِيَ ... أَيَّامُ جُمَعٍ وَالْأَشْهُرُ الْحُرُمَا حَتَّى أَنَاخُوا بِذِي السُّتُورِ مُلَبِينَ ... بِأَرْضٍ كَادَتْ تَكُونُ سَمَا وَلَهُ: أُجَاذِبُهَا لَوْ أَمْكَنْتُ مِنْ زِمَامِهَا ... أُرِيدُ وَرَاءً وَالْهَوَى مِنْ أَمَامِهَا فَمَا الْحَرْبُ إِلا بَيْنَ حِلْمِي وَخُرُقِهَا ... وَبَيْنَ زَفِيرِي خَائِفًا وَبُغَامِهَا يَعِزُّ عَلَيْهَا نَوْمُهَا تَحْتَ كُورِهَا ... بِمَا فَاتَ مِنْ أَيَّامِهَا فِي مَسَامِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 فَلَنْ يَعْلِفَ الرَّطْبَ الْخَلِيطَ بِبَابِلٍ ... مَكَانَ أَرَاكِ حَاجِرَ وَبَشَامِهَا فَلَيْتَ بِلادًا شَرُّهَا فِي قُصُورِهَا ... فِدَاءُ بُيُوتٍ خَيْرُهَا فِي خِيَامِهَا وَلَهُ: رُدُّوا لَهَا أَيَّامَهَا بِالْغَمِيمِ ... إِنْ كَانَ مِنْ بَعْدِ شَقَاءٍ نَعِيمِ وَلا تُذِلُّوهَا فَقُدَّامُهَا ... أَدِلَّةُ الشَّوقِ وَهَادِي السَّمِيمِ وَلَهُ: أَمِنْ خُفُوقِ الْبَرْقِ تُرْزَمِينَا؟ ... حِنِّي فَمَا أَمْنَعُكِ الْحَنِينَا! ! سِرِي يَمِينًا وَسُرَاكِ شَأَمَةً ... فَضْلَةٌ مَا تَتَلَفَّتِينَا نَعَمْ تَشْتَاقِينَ وَنَشْتَاقُ لَهُ ... وَنُعْلِنُ الْوَجْدَ وَتَكْتُمِينَا فَأَيْنَ مِنْكِ الْيَوْمَ وَمِنَّا الْهَوَى؟ ... وَأَيْنَ نَجْدٌ وَالْمُغْوَرِينَا؟ وَلَهُ: أَثَرُهَا عَلَى حُبِّ الْوَفَاءِ وَحُسْنِهِ ... تَصْعُبُ فِي أَشْطَانِهَا وَتَلِينُ جَوَافِلُ مِنْ طَرْدِ الرِّيَاحِ قَرِيبَةٌ ... عَلَيْهَا فِجَاجُ الْأَرْضِ وَهِيَ شُطُونُ لَهَا وَهِيَ خُرْسٌ تَحْتَ عَضِّ رِحَالِهَا ... تَشَكٍّ إِذَا جَدَّ السُّرَى وَأَنِينُ وَلَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا مُثِيرَ الظُّعُنِ؟ ... أَوَطَنٌ مِنْ رَامَةٍ بِوَطَنِ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 حَبِسًا وَلَوْ زَادَكَ مِنْ مَضْمَضَةٍ ... بَيْنَ الْغِرَارِ خَائِفًا وَالْوَسَنِ لَعَلْهَا أَنْ تَشْتَفِي بَائِحَةً ... بِالْعَبَرَاتِ أَعْيُنٌ مِنْ أَعْيُنٍ كَمْ كَبَدٍ كَرِيمَةٍ فِي بُرَّةٍ ... خِزْمَتُهَا وَمُهْجَةٌ فِي رَسْنِ يَا قَاتِلَ الْعُذَيْبِ مَوْقِفًا ... عَلَى ثُبُوتِ قَدَمِي أَزَلَّنِي يَا زَمَنِي بِالْخَيْفِ بَلْ يَا جِيرَتِي ... فِيهِ وَأَيْنَ جِيرَتِي وَزَمَنِي؟ لَيْتَ الَّذِي كَانَ فُطَارَ شَعْثًا ... بِهِ الْفُرَاقُ بَيْنَنَا لَمْ يَكُنِ وَلِأَبِي مَنْصُورِ بْنِ الْفَضْلِ: تَزَاوَرُنَّ عَنْ أَذْرُعَاتٍ يَمِينَا ... نَوَاشِزُ لَسْنَ يُطِعْنَ الْبُرِينَا كَلَفْنَ بِنَجْدٍ كَانَ الرِّيَاضَ ... أَخَذْنَ لِنَجْدٍ عَلَيْهَا يَمِينَا وَأَقْسَمْنَ يَحْمِلْنَ إِلا نَحِيلا ... إِلَيْهِ وَيُبَلِّغْنَ إِلا حَزِينًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وَلَمَّا سَمِعْنَ زَفِيرَ الْمَشُوقِ ... وَنَوْحَ الْحَمَامِ تَرَكْنَ الْحَنِينَا إِذَا جِئتُمَا بَانَةَ الْوَادِيَيْنِ ... فَأَرْخُوا النُّسُوعَ وَحُلُّوا الْوَضِينَا فَثَمَّ عَلائِقٌ مِنْ أَجْلِهِنَّ ... مُلاءُ الدُّجَى وَالضُّحَى قَدْ طُوِينَا وَلَهُ: لِأَيِّ مَرْمَى تَزْجُرُ الْأَيَانِقَا ... إِنْ جَاوَزْتَ نَجْدًا فَلَسْتَ عَاشِقَا وَإِنَّمَا كَانَ بُكَائِي حَادِيًا ... رَكِبَ الْغَرَامَ وَزَفِيرِي سَائِقَا وَلِأَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْبَيَاضِ: نُوقٌ تَرَاهَا كَالسُّفُنِ ... إِذَا رَأَيْتَ إِلا لَهُ بَحْرَا كَتَبَ الْوَجَا بِدِمَائِهَا ... فِي مَهْرِقِ الْبَيْدَاءِ سَطْرَا فَكَانَ أَرْجُلَهَا تَطْلُبُ ... عِنْدَ أَيْدِيَهُنَّ وِتْرَا يَحْمِلْنَ مِنْ أَهْلِ الْهَوَى ... شُعْثًا عَلَى الْأَكْوَارِ غُبْرَا لاحَ الْهَجِيرُ وُجُوهَهُمْ ... فَأَحَالَ مِنْهَا الْبِيضَ سُمْرَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وَلِلوَزِيرِ بْنِ الْمُغْزَى: لِمَنْ نُوَيْقَتِي شَوْقِي وَوَجْدِي ... حَزِينٌ فَارَقَ الْإِلْفَ الْحَزِينَا إِذَا خَضَعَتْ أَذِنْتُ لَهَا مَلِيًّا ... فَقُلْتُ: سَجَعَهَا قَلْبِي فُنُونَا وَلَوْ وَجَدْتُ بِصَاحِي الْقَلْبِ سَالَ ... لِجَاذِبِهَا الَأَزِمَّةُ وَالْبُرِينَا وَلابْنِ الْخَفَاجِي: فِي كُلِّ يَوْمٍ نَشْطَةٌ وَوِثَاقُ ... فَمَتَى يَكُونُ لِدَائِهَا إِفْرَاقُ فَاسْتَبْقِ فَضْلَتَهَا إِذَا دَبَّ الْوَنَا ... فِيهَا فَمَا كُلُّ السُّرَى أَعْنَاقُ وَلَهُ: ثُوَرُهَا نَاشِطَةٌ عِقَالَهَا ... قَدْ مَلَأَتْ مِنْ بَدَنِهَا جِلالَهَا فَلَمْ تَزَلْ أَشْوَاقُهُ تَسُوقُهَا ... حَتَّى رَمَتْ مِنَ الْوَجْيِ رِحَالُهَا مَاذَا عَلَى النَّاقَةِ مِنْ غَرَامِهِ ... لَوْ أَنَّهُ أَنْصَفَ أَوْ رَثَى لَهَا أَرَادَ أَنْ تَشْرَبَ مَاءَ حَاجِرٍ ... أَرِيَّهَا يُطْلَبُ أَمْ كَلالُهَا إِنَّ لَهَا عَلَى الْقُلُوبِ ذِمَّةً ... لِأَنَّهَا قَدْ عَرَفَتْ بِلْبَالَهَا كَانَ لَهَا عَلَى الصَّبَا تَحِيَّةٌ ... أَعْجَلَهَا السَّائِقُ أَنْ تَنَالَهَا كَمْ تَسَأَلُ الْبَارِقَ عَنْ ... سُوَيْقَةٍ فَلا يُجِبْ عَامِدًا سُؤَالَهَا خَوْفًا عَلَى قُلُوبِهَا إِنْ عَلِمَتْ ... أَنَّ الْغَوَادِي دَرَسَتْ أَطْلالُهَا وَامْتَدَّتِ الْغُلاةُ دُونَ حُظُوظِهَا ... كَأَنَّهَا قَدْ كَرِهَتْ زَوَالَهَا فَعَلَّلُوهَا بِحَدِيثِ حَاجِرٍ ... وَلِتَصْنَعِ الْغُلاةُ مَا بَدَا لَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وَلَهُ: أَمُبِيحَهَا فَضْلَ الْأَزِمَّةِ شُمَّرِ ... فَمَعَ النَّسِيمِ تَحِيَةً مِنْ عَرْعَرِ يَا بَانَتِي إِضْمٍ وَمِنْ دَيْنِ الْهَوَى ... بَثَّ السُّؤَالَ لِكُلِّ مَنْ لَمْ يُخْبَرِ أَعَلِمْتُمَا قَلْبِي أَقَامَ مَكَانَهُ ... أَمْ سَارَ فِي طَلَبِ الصَّبَاحِ الْمُسْفِرِ وَلَهُ: دَعُوهَا تُنَاضِلُ بِالْأَذْرُعِ ... فَأَيْنَ الْعَوَاصِمُ مِنْ لَعْلَعِ وَقُودُوا أَزِمَّتَهَا بِالْحَنِينِ ... فَلَوْلا الصَّبَابَةُ لَمْ تَتْبَعِ وَلِشَيْخِنَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَارِعِ: دَعِ الْمَطَايَا تَنَسَّمُ الْجَنُوبَا ... إِنَّ لَهَا لَنَبَأً عَجِيبَا حَنِينُهَا وَمَا اشْتَكَتْ لُغُوبَا ... يَشْهَدُ أَنْ قَدْ فَارَقَتْ حَبِيبَا شَامَتْ بِنَجْدٍ بَارِقًا كَذُوبًا ... أَذْكَرَهَا عَهْدَ هَوًى قَرِيبَا فَغَادَرَ الشَّوْقُ لَهَا حَنِينَا ... يُضَرِّمُ فِي فُؤَادِهَا لَهِيبَا تَرُومُ إِذَا مَا اسْتَشْرَفَتْ كَثِيبَا ... كَانَ بِالرَّمْلِ لَهَا سُقُوبَا يُمْسِي إِذَا حَنَّتْ لَهَا مُجِيبَا ... لَوْ غَادَرَ الشَّوْقُ لَنَا قُلُوبَا إِذًا لَآثَرْنَا لَهُنَّ النِّيبَا ... إِنَّ الْغَرِيبَ يُسْعِدُ الْغَرِيبَا وَلَهُ: مَا عَلَى حَادِي الْمَطَايَا لَوْ تَرَفَّقَ ... رَيْثَمَا أَسْكُبُ دَمْعِي ثُمَّ أُعْتَقَ هَذِهِ الدَّارُ الَّتِي يَعْرِفُهَا بِالْهَوَى ... مِنْ أَهْلِهِ مَنْ كَانَ أَشْوَقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وَلِعَلِيِ بْنِ أَفْلَحٍ: دَعْهَا لَكَ الْخَيْرُ وَمَا بَدَا لَهَا ... مِنَ الْحَنِينِ نَاشِطًا عِقَالَهَا وَلا تُعِقْهَا عَنْ عَقِيقِ رَامَةَ ... فَإِنَّهَا ذَاكِرَةٌ إِفَالَهَا وَلا تُعَلِّلُهَا نَحْوَ بَابِلَ ... فَهُوَ أَهَاجَ بِالْجَوَى بِلْبَالَهَا نَشَدْتُكَ اللَّهَ إِذَا جِئْتَ الرُّبَى ... فَرُدَّ أَضَالَّهَا وَاسْتَطِلْ ضَالَّهَا وَنَاوِحِ الْوَرَقَ بِشَجْوِ ثَاكِلٍ ... أَطْغَى لَهَا رَيْبُ الرَّدَى أَطْفَالَهَا وَلِي مِنْ قَصِيدَةٍ: وَحُرْمَةُ شُعْثٍ عَلَيَّ فَكُلُّ نِضْوٍ ... بَرَاهُنَّ مِنْ أَلَمٍّ مَا بَرَانِي إِذَا ذَكَّرْنَهَا الْحَداةُ الْهَوَى ... قَطَعْنَ الثَّرَى قَطْعَ وَجْدٍ عَنَانِي تَطَايَرْنَ وَالشَّوْقُ يَدِّنُ مِنِّي ... وَكُلُّ الْمُنَى عِنْدَ ذَاكَ الْمَكَانِ فَلَمَّا عَلَوْنَ فُوَيْقَ الْكُثْبِ ... تَرَاءَيْنَ ذَاكَ الْبَرِيقَ الْيَمَانِي وَلِي فِي أُخْرَى: لا وَشُعْثٍ فَارَقُوا أَوْطَانَهُمْ ... يَسْتَكِينُونَ الطَّرِيقَ الْأَوْعَرَا كُلَّمَا غَنَّى بِهِمْ حَادِيهِمْ ... أَجَدَّتْ عِيسُهُمْ تُغْرِي الْبُرَا أَعْصَفَتْ فِي سَيْرِهَا إِذْ طَرِبَتْ ... أَمِنًى ذِكْرُهَا وَالْأَجْفَرَا وَافَقَتْ مَنْ حَمَلَتْ فِي شَوْقِهِمْ ... فَتَنَاسَتْ بِالْهَوَى طُولَ السُّرَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 بَابُ حَجِّ الْمَاشِي أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْمُعَدَّلُ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَحَابٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ، أَنْبَأَنَا حَجَّاجُ بْنُ نُصَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَجَّ مِنْ أُمَّتِي إِلَى عَرَفَاتٍ مَاشِيًا كُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ؟ قَالَ: «الْحَسَنَةُ بِأَلْفِ حَسَنَةٍ» أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ يُوسُفَ، أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ، أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْوَرَّاقُ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَدْرٍ، أَنْبَأَنَا حَجَّاجُ بْنُ نُصَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: مَا أَجِدُنِي آسَى عَلَى شَيْءٍ لَمْ أَعْمَلْهُ إِلا أَنَّنِي لَمْ أَحُجَّ مَاشِيًا. فَقِيلَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ؟ فَقَالَ: مِنْ مَكَّةَ إِلَى عَرَفَةَ، حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «لِلرَّاكِبِ سَبْعُونَ حَسَنَةً، وَلِلمَاشِي سَبْعُ مِائَةِ حَسَنَةٍ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالا: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْمَأْمُونِ، أَنْبَأَنَا الدَّارَقُطْنِيُّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ صَاعِدٍ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، أَنْبَأَنَا عِيسَى بْنُ سَوَادَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ زَاذَانَ، قَالَ: مَرِضَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرَضًا شَدِيدًا، فَدَعَا وَلَدَهُ فَجَمَعَهُمْ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «مَنْ حَجَّ مَاشِيًا حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَكَّةَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ سَبْعَ مِائَةِ حَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ» ، قِيلَ لَهُ: " وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ؟ قَالَ: بِكُلِّ حَسَنَةٍ مِائَةُ أَلْفِ حَسَنَةٍ " قَرَأْتُ عَلَى الْحَرِيرِيِّ، عَنِ الْعُشَارِيِّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحُصَيْنِ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ سَالِمٍ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ، أَنْبَأَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتُصَافِحُ رُكْبَانَ الْحَاجِّ وَتَعْتَنِقُ الَمُشَاةَ» وَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ سَاجٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ «حَجَّ عَلَى رِجْلَيْهِ سَبْعِينَ حَجَّةً» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَجَّ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلامُ مَاشِيَيْنِ. أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ حَيْوَةَ، أَنْبَأَنَا ابْنُ مَعْرُورٍ، أَنْبَأَنَا ابْنُ الْفَهْمِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ خَلادِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: «حَجَّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ خَمْسَ عَشْرَةَ حَجَّةً مَاشِيًا وَإِنَّ النَّجَائِبَ لَتُقَادُ مَعَهُ، وَخَرَجَ مِنْ مَالِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَرَّتَيْنِ، وَقَاسَمَ اللَّهَ تَعَالَى مَالَهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ لَيُعْطِي نَعْلا وَيُمْسِكُ نَعْلا» أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ظَفَرٍ، أَنْبَأَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ جَهْضَمٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزُ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنِي ابْنُ كَيْلُونَه، حَدَّثَنِي سَمْنُونٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ شُعَيْبٍ السَّقَّا، «وَكَانَ قَدْ حَجَّ عَلَى قَدَمَيْهِ مِنْ نَيْسَابُورَ نَيِّفًا وَسِتِّينَ حَجَّةً» أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُعَدَّلُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ صَفْوَانٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: «سَافَرَ الْمُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ إِلَى مَكَّةَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ سَفَرًا حَافِيًا مُحْرِمًا صَائِمًا» أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو سَعْدٍ الْحِيرِيُّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ بَاكَوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ الْعَبَّاسِيُّ، يَقُولُ: «حَجَجْتُ ثَمَانِينَ حَجَّةً عَلَى قَدَمِي» قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الْحَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي طَالبٍ الْعُشَارِيِّ، حَدَّثَنَا مُبَادِرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الصُّوفِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْأَزْهَرِ عَبْدَ الْوَاحَدِ بْنَ مُحَمَّدٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الْفَارِسِيَّ، قَالَ: لَقِيتُ إِبَرَاهِيمَ الْجَبَلِيَّ بِمَكَّةَ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى وَطَنِهِ وَتَزْوِيجِهِ بِابْنَةِ عَمِّهِ، وَكَانَ قَدْ قَطَعَ الْبَادِيَةَ حَافِيًا، فَحَدَّثَنِي " أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ وَتَزَوَّجَ، شُغِفَ بِابْنَةِ عَمِّهِ شَغَفًا شَدَيدًا حَتَّى مَا كَانَ يُفَارِقُهَا لَحْظَةً، قَالَ: فَتَفَكَّرْتُ لَيْلَةً فِي كَثْرَةِ مَيْلِي إِلَيْهَا، فَقُلْتُ: مَا يَحْسُنُ بِي أَنْ أَرِدَ الْقِيَامَةَ وَفِي قَلْبِي هَذَه! ، فَتَطَهَّرْتُ وَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ، وَقُلْتُ: رَبِّ رُدَّ قَلْبِي إِلَى مَا هُوَ أَوْلَى، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَخَذَتْهَا الْحُمَّى، وَتُوُفِّيَتْ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَنَوَيْتُ الْخُرُوجَ حَافِيًا مِنْ وَقْتِي إِلَى مَكَّةَ " أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ أَبِي صَادِقٍ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ ثَابِتٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَيَّاشَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيَّ، يَقُولُ: " خَرَجَ أَبُو حَمْزَةَ الصُّوفِيُّ مِنْ قَزْوِينَ مُحْرِمًا رَاجِلا، فَحَجَّ وَرَجَعَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا خَرَجْتُ إِلا لِأَسْأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لا يَرْزُقَنِي مِنَ الدُّنْيَا فَوْقَ قُوَّتِي " أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْحِيرِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَطَاءٍ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ نَصْرٍ، أَنْبَأَنَا الْخَوَّاصُ، قَالَ: سَمِعْتُ حَسَنًا أَخَا سِنَانٍ الدَّيْنَوَرِيَّ، يَقُولُ: «حَجَجْتُ سِتَّ عَشْرَةَ حَجَّةً رَاجِلا حَافِيًا بِغَيرِ زَادٍ» أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ، أَنْبَأَنَا أَبُو سَعِيدٍ الصَّيْرَفِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْبَهَانِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَجَّ سَعِيدُ بْنُ وَهْبٍ مَاشِيًا، فَبَلَغَ مِنْهُ وَجَهِدَ، فَقَالَ: قَدَمَيَّ اعْتَوِرَا رَمْلَ الْكَثِيبِ ... وَاطْرُقَا الْآجَنَ مِنْ مَاءِ الْقَلِيبِ رُبَّمَا يَوْمٌ رُحْتُمَا فِيهِ عَلَى ... زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَفِي وَادٍ خَصِيبِ وَسَمَاعٍ حَسَنٍ مِنْ حَسَنٍ ... صَخِبَ الْمُزْهِرُ كَالظَّبْيِ الرَّبِيبِ فَاحْسِبَا ذَاكَ بِهَذَا وَاصْبِرَا ... وَخُذَا مِنْ كُلِّ فَنٍ بِنَصِيبِ إِنَّمَا أَمْشِي لِأَنِّيَّ مُذْنِبٌ ... فَلَعَلَّ اللَّهَ يَعْفُو عَنْ ذُنُوبِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 بَابٌ ذِكْرُ الْمَنَازِلِ وَمَا يُقَالُ فِيهَا أَخْبَرَنَا ابْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، أَنْبَأَنَا لَيْثٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَعْقُوبَ، أَنَّ يَعْقُوبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَ أَنَّهُ سَمِعَ بِشْرَ بْنَ سَعِيدٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ، تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " مَنْ نَزَلَ مَنْزِلا، ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنزِلِهِ ذَلِكَ ". انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ، وَلَيْسَ لِخَوْلَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الصَّحِيحِ غَيْرُهُ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا غَزَا أَوْ سَافَرَ، فَأَدْرَكَهُ اللَّيْلُ، قَالَ: «يَا أَرْضُ! رَبِّي وَرَبُّكِ اللَّهُ، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ كُلِّ أَسَدٍ وَأَسْودَ، وَحَيَّةٍ وَعَقْرَبٍ، وَمِنْ شَرِّ سَاكِنِ الْبَلَدِ، وَمِنْ شَرِّ وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ» . قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ بِسَاكِنِ الْبَلَدِ: الْجِنَّ. وَالْبَلَدَ: مَا كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 مَأْوَى الْحَيَوَانِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ بِنَاءٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالْوَالِدِ: إِبْلِيسَ، وَمَا وَلَدَ: الشَّيَاطِينَ. فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَقَدْ رَوَى أَنَسٌ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ «كَانَ إِذَا سَافَرَ فَنَزَلَ مَنْزِلا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 بَابُ ذِكْرِ بَعْضِ الْمَنَازِلِ الْمَشْهُورَةِ وَبَعْضِ مَا جَرَى فِيهَا ذِكْرُ الْكُوفَةِ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ مَنْصُورٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْغَنَائِمِ بْنُ النَّرْسِيِّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحَاجِبِ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَجْيَدَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكُوفِيُّ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحُلْوَانِيُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَزْوِينِيُّ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: حَجَجْتُ مَعَ هَارُونَ الرَّشِيدِ، فَمَرَرْنَا بِالْكُوفَةِ، فَإِذَا بُهْلُولٌ الْمَجْنُونُ يَهْذِي، فَقُلْتُ: اسْكُتْ، فَقَدْ أَقْبَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَسَكَتَ، فَلَمَّا حَاذَاهُ الْهَوْدَجُ، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، حَدَّثَنِي أَيْمَنُ بْنُ نَائِلٍ، أَنْبَأَنَا قُدَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيُّ، قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى عَلَى جَمَلٍ وَتَحْتَهُ رَحْلٌ رَثٌّ فَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ طَرْدٌ وَلا ضَرْبٌ وَلا إِلَيْكَ إِلَيْكَ» . قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ بُهْلُولٌ الْمَجْنُونُ. قَالَ: قَدْ عَرَفْتُهُ، قُلْ يَا بُهْلُولُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: هَبْ أَنَّكَ قَدْ مَلَكْتَ الْأَرْضَ طُرًّا ... وَدَانَ لَكَ الْعِبَادُ فَكَانَ مَاذَا؟ أَلَيْسَ غَدًا مَصِيرُكَ جَوْفُ قَبْرٍ ... وَيَحْثُو التُّرْبَ هَذَا ثُمَّ هَذَا؟ فَقَالَ: أَجَدْتَ يَا بُهْلُولُ، أَفَغَيْرُهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ جَمَالا وَمَالا فَعَفَّ فِي جَمَالِهِ، وَوَاسَى فِي مَالِهِ، كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْأَبْرَارِ. قَالَ: فَظَنَّ أَنَّهُ يُرِيدُ شَيْئًا، قَالَ: فَإِنَّا قَدْ أَمَرْنَا بِقَضَاءِ دَيْنِكَ، قَالَ: لا تَفْعَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لا تَقْضِ دَيْنًا بِدَيْنٍ، ارْدُدِ الْحَقَّ إِلَى أَهْلِهِ، فَاقْضِ دَيْنَ نَفْسِكَ مِنْ نَفْسِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 قَالَ: إِنَّا قَدْ أَمَرْنَا أَنْ يُجْرَى عَلَيْكَ. قَالَ: لا تَفْعَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لا يُعْطِيكَ وَيَنْسَانِي، أَجْري عَلَى الَّذِي أَجْرَى عَلَيْكَ، لا حَاجَةَ لِي فِي جِرَايَتِكَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَفَاجِيُّ: وَدَعِ النَّسِيمَ يُعِيدُ مِنْ أَخْبَارِهِ ... فَلَهُ حَوَاشٍ لِلْحَدِيثِ رِقَاقُ مَا ثَمَّ مَنْ عُلِّقَ النَّسِيمَ بِغَائِبٍ ... إِلا وَقَدْ شَهِدَتْ بِهِ الْآمَاقُ وَلَهُ: وَمُهَوِّنٌ لِلْوَجْدِ يَحْسَبُ أَنَّهَا ... يَوْمَ الْعُذَيْبِ مَدَامِعُ وَخُدُودُ سَلْ بَانَةَ الْوَادِي فَلَيْسَ يَفُوتُهَا ... خَبَرٌ يَطُولُ بِهِ الْجَوَى وَيَزِيدُ وَانْشُدْ مَعَ الصَّبَاحِ وَقُلْ لَهُ: ... كَمْ تَسْتَطِيلُ بِكَ الْلَيَالِي السُّودُ؟ وَإِذَا هَبَطْتَ الْوَارِدَيْنِ وَفِيهِمَا ... دِمَنٌ عَلَى الْبِلَى وَعُهُودُ فَاخْدَعْ فُؤَادِي فِي الْخَلِيطِ فَكُلٌّ ... يَهْفُو عَلَى آثَارِهِمْ وَيَعُودُ أَصَبَابَةٌ بِالْجِزْعِ بَعْدَ سُوَيْقَةٍ ... سَفْلٌ لَعَمْرُكَ يَا أُمَيْمُ جَدِيدُ وَلِي فِي قَصِيدَةٍ: لِي شُغُلٌ عَنِ الرُّقَادِ شَاغِلِي ... مَنْ هَاجَدَ الْبَرْقَ بِسَفْحٍ عَاقِلٍ يَا صَاحِبِي هَذِهِ رِيَاحُ رَبْعِهِمْ ... قَدْ أَخْبَرَتْ شَمَائِلَ الشَّمَائِلِ نَسِيمُهُمْ سُحَيْرَى الرِّيحِ ... مَا يُشْبِهُهُ رَوَائِحُ الْأَصَائِلِ مَا لِلصَّبَا مُولَعَةٌ بِذِي الصِّبَا ... أَوَ صَبَا فَوْقَ الْغَرَامِ الْقَاتِلِ مَا لِلْهَوَى الْعُذَرِيِّ فِي دِيَارِنَا ... أَيْنَ الْعُذَيْبُ مِنْ قُصُورِ بَابِلِ؟ لا نَطْلُبُوا ثَارَاتِنَا يَا قَوْمَنَا ... دِمَاؤُنَا فِي أَذْرُعِ الرَّوَاحِلِ للَّهِ دَرُّ الْعَيْشِ فِي طِلابِهِمْ ... وَلَّى وَكَمْ أُسَارٍ فِي الْمَفَاصِلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وَاطْرَبِي إِذَا رَأَيْتِ أَرْضَهُمْ ... هَذَا وَفِيهَا رَمَيْتُ مُقَاتِلِي يَا طُرَّةَ الشِّيحِ سُقِيتِ أَدْمُعِيِ ... وَلا ابْتُلِيتِ بِالْهَوَى تَمَايُلِي مَيْلُكِ مِنْ زَهْوٍ وَمَيْلِي عَنْ أَسًى ... مَا طَرَبُ الْمَخْمُورِ مِثْلُ الثَّاكِلِ ذِكْرُ فِيدَ ! 208 قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَنْشَدَنِي أَبُو الْعَبَّاسِ، عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: سَقَى اللَّهُ حَيًّا بَيْنَ صَارَةَ وَالْحِمَى ... حِمَى فِيدَ صَوْبَ الْمُرْخِيَاتِ الْمَوَاطِرِ آمِينَ وَادَى إِلَيْهِ رُكَّعًا إِلَيْهِمْ ... بَخَيْرٍ وَرَقَّاهُمْ حَمَامَ الْمَقَادِرِ ذِكْرُ الْحَاجِرِ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ اللُّغَوِيُّ: الْحَاجِرُ مِنَ الْحَجَرِ، وَهُوَ مَحْبَسُ الْمَاءِ، وَالْجَمْعُ: حُجَرَانٌ. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي صَادِقٍ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ فَارِسٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ خَيْرَ النُّسَّاجِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصَ، وَقَدْ رَجَعَ مِنْ سَفَرِهِ، وَكَانَ غَابَ عَنِّي سِنِينَ، فَقُلْتُ: مَا الَّذِي أَصَابَكَ فِي سَفَرِكَ؟ فَقَالَ: عَطِشْتُ عَطَشًا شَدِيدًا حَتَّى سَقَطْتُ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ، فَإِذَا أَنَا بِمَاءٍ قَدْ رُشَّ عَلَى وَجْهِي، فَلَمَّا أَحَسَسْتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 بِبَرْدِهِ، فَتَحْتُ عَيْنَيَّ، فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ حَسَنِ الْوَجْهِ وَالزِّيِّ، عَلَيْهِ ثِيَابٌ خُضْرٌ، عَلَى فَرِسٍ أَشْهَبَ، فَسَقَانِي حَتَّى رَوِيتُ، ثُمَّ قَالَ: ارْتَدِفْ خَلْفِي، وَكُنْتُ بِالْحَاجِرِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ سَاعَةٍ، قَالَ: أَيْشِ تَرَى؟ قُلْتُ: الْمَدِينَةَ. قَالَ: انْزِلْ وَاقْرَأْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِّيَ السَّلامَ، وَقُلْ: أَخُوكَ الْخَضِرُ يُسَلِّمُ عَلَيْكَ. وَقَدْ رُوِيَتْ لَنَا هَذِهِ الْحِكَايَةُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، وَفِيهَا قُلْ لَهُ: رِضْوَانُ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامَ كَثِيرًا. وَقَالَ مِهْيَارٌ فِي ذِكْرِ الْحَاجِرِ: يَا قَلْبُ صَبْرًا عَسَاكَ حِينَ حُرِمْتَ ... الْوَصْلَ تُعْطَى مَثُوبَةَ الصَّابِرِ حِجْرٌ عَلَيْكَ الْإِطْرَابُ بَعْدَ لَيَالِيكَ ... اللَّوَاتِي انْطَوَتْ عَلَى حَاجِرِ ذَلِكَ عَهْدٌ نَاسِي بَشَاشَتِهِ ... أَسْعَدُ حَظًّا بِهِ مِنَ الذَّاكِرِ وَلَهُ: أَهْفُو لِعُلْوَى الرِّيَاحِ إِذَا جَرَتْ ... وَأَظُنُّ رَامَةَ كُلَّ وَادٍ أَقْفَرَتْ وَيَشُوقُنِي رَوْضُ الْحِمَى مُتَنَفَّسًا ... يَصِفُ التَّرَائِبَ وَالْبُرُوقَ إِذَا سَرَتْ يَا دِينَ قَلْبِي مِنْ لَيَالِي حَاجِرٍ ... مَكَرَتْ بِهِ فَقَضَتْ عَلَيْهِ وَانْقَضَتْ وَلَهُ: أَسِفْتُ لِحُلْمٍ كَانَ لِي يَوْمَ بَارِقٍ ... فَأَخْرَجَهُ جَهْلُ الصَّبَابَةِ عَنْ يَدِي وَمَا زِلْتُ أَبْكِي كَيْفَ حُلَّتْ بِحَاجِرٍ ... قُوًى جَلَدَى حَتَّى تَدَاعَى تَجَلُّدِي تَحَرَّشَ بِأَحْقَافِ اللِّوَى عُمِّرَ سَاعَةً ... وَلَوْلا مَكَانَ الرَّيْبِ قُلْتُ لَكَ: ازْدَدِ وَقُلْ: صَاحِبٌ لَهُ ضَلَّ بِالرَّمْلِ قَلْبُهُ ... لَعَلَّكَ أَنْ يَلْقَاكَ هَادٍ فَتَهْتَدِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وَسَلِّمْ عَلَى مَاءٍ بِهِ بَرَدُ غُلَّتِي ... وَظِلِّ أَرَاكٍ كَانَ لِلوَصْلِ مَوْعِدِي وَقُلْ لِحَمَامِ الْبَانَتَيْنِ مُهَنِّئًا ... تَغَنَّ خَلِيًّا مِنْ غَرَامِي وَغَرِّدِ أَعِنْدَكُمْ يَا قَاتِلِينَ بَقِيَّةٌ ... عَلَى مُهْجَةٍ إِنْ لَمْ تَمُتْ فَكَانَ قَدِ؟ وَيَا أَهْلَ نَجْدٍ كَيْفَ بِالْغَوْرِ عِنْدَكُمْ ... بَقَاءُ تِهَامِيٍّ يَهِيمُ بِمُنْجِدِ؟ مَلَكْتُمْ عَزِيزًا رِقُّهُ فَتَعَطَّفُوا ... عَلَى مُنْكِرٍ لِلذُّلِ لَمْ يَتَعَوَّدِ وَلَهُ: يَا لَيْلَتِي بِحَاجِرٍ ... إِنْ عَادَ مَاضٍ فَارْجِعِي أَرْضَى بِأَخْبَارِ الرَّيَاحِ ... وَالْبُرُوقِ الْلُمَّعِ وَأَيْنَ مِنْ بَرْقَ الْحِمَى ... شَائِمَةٌ بِلَعْلَعِ وَلابْنِ فَارِسٍ: لَوْلا يُذْكَرُ مَنْ ذَكَرْتُ بِحَاجِرٍ ... لَمْ أَبْكِ فِيهِ مَوَاقِدَ النِّيرَانِ يَا وَاقِفَيْنَ مَعِي عَلَى الدِّيَارِ طَالَمَا ... غَبَرْتُهُ بِهَا إِنْ كُنْتُمَا تَقِفَانِ مَنَعَ الْوُقُوفَ عَلَى الْمَنَازِلِ طَارِقٌ ... أَمَرَ الدُّمُوعَ بِمُقْلَتِي وَنَهَانِي إِنَّا لَنَجْتَمِعُ عَلَى الْبُكَاءِ وَكُلُّنَا ... نَبْكِي عَلَى شَجَنٍ مِنَ الْأَشْجَانِ ذِكْرُ شَجَرِ أُمِّ غَيْلانَ قَالَ شَاهُ بْنُ شُجَاعٍ الْكِرْمَانِيُّ: دَخَلْتُ الْبَادِيَةَ فَرَأَيْتُ غُلامًا أَمْرَدَ كَأَنَّهُ مُوَسْوَسٌ لا يَأْلَفُ أَهْلَ الْقَافِلَةِ، فَسَاعَةً يُشِيرُ إِلَى السَّمَاءِ وَسَاعَةً يَصِيحُ فَقُلْتُ: لَأَنْظُرَنَّ فِي شَأْنِهِ، وَمِنْ أَيْنَ مَعَاشُهُ، وَمَا كَانَ مَعَهُ زَادٌ وَلا وِطَاءٌ، فَرَاقَبْتُهُ يَوْمًا فَدَخَلَ وَسَطَ شَجَرِ أُمِّ غَيْلانَ، فَتَبِعْتُهُ فَإِذَا هُوَ يَجْنِي مِنْ شَجَرِهِ شَيْئًا يَأْكُلُهُ، فَلَمَّا بَصُرَ بِي، أَنْشَأَ يَقُولُ: بِاعْتِزَالِي عَنْكُمُ فِي الْخَلَوَاتِ ... صَارَ طُعْمِيَ التَّمْرُ فِي الْفَلَوَاتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 بَابُ ذِكْرِ الْأَمْيَالِ وَبَعْضِ مَا جَرَى عِنْدَهَا وَفِي الطَّرِيقِ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ظَفَرٍ، أَنْبَأَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ جَهْضَمٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ كَيْلُونَ، حَدَّثَنِي سَمْنُونٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلَيُّ بْنُ شُعَيْبٍ السَّقَّاءُ، وَكَانَ قَدْ حَجَّ عَلَى قَدَمَيْهِ مِنْ نَيْسَابُورَ نَيِّفًا وَسِتِّينَ حَجَّةً، وَكَانَ عَادَتُهُ الرُّكُوعَ عِنْدَ كُلِّ مِيلٍ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لِتَشْهَدَ لَهُ الْبِقَاعُ، قَالَ: «جِئْتُ إِلَى مِيلٍ أُصَلِّي، فَلَمَّا اسْتَفْتَحْتُ الصَّلاةَ وَرَفَعْتُ يَدَيَّ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحَرَامِ، دَاخَلَنِي شَيْءٌ مِنْ جِنْسِ الْقُرْبِ، فَذَهَبَ عَقْلِي، فَمَكَثْتُ فِي مَوْضِعِي ثَلاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَدَخَلْتُ الْمَنْزِلَ فَوَجَدْتُهُ آخِرَ الشَّهْرِ» ! 210. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ الْحَمِيدِ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْأَرْدِسْتَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ تَمَكَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الطُّوسِيَّ، سَمِعْتُ عَلُّوشَ الدَّيْنَوَرِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ الْمُرِّيَّ، يَقُولُ: " كُنْتُ بِمَكَّةَ فَخَطَرَ لِي خَاطِرُ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، فَخَرَجْتُ، فَبَيْنَا أَنَا بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ أَمْشِي، فَإِذَا أَنَا بِشَابٍّ مَطْرُوحٍ إِلَى جَانِبِ مِيلٍ، عَلَيْهِ خِرْقَتَانِ وَهُوَ يَنْزِعُ، فَقَعَدْتُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، قُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ. فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ، وَنَظَرَ إِلَيَّ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ: أَنَا إِنْ مِتُّ فَالْهَوَى حَشْوُ قَلْبِي ... وَبِدَاءِ الْهَوَى تَمُوتُ الْكِرَامُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وشَهَقَ شَهْقَةً كَانَتْ فِيهَا نَفْسُهُ، فَكَفَّنْتُهُ فِي أَطْمَارِهِ وَرَجَعْتُ " أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو سَعْدٍ الْحِيرِيُّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ بَاكَوَيْهِ الشِّيرَازِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ بَكْرٍ الْوَرَثَانِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَارَسْتَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو الْأَشْهَبِ السَّائِحُ، قَالَ " رَأَيْتُ بَيْنَ الثَّعْلَبِيَّةِ وَالْخُزَيْمِيَّةِ غُلامًا قَائِمًا يُصَلِّي بَيْنَ الْأَمْيَالِ، قَدِ انْقَطَعَ عَنِ النَّاسِ، فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى قَضَى صَلاتَهُ، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: مَا مَعَكَ مُؤْنِسٌ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: أَمَامِي، وَخَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعنْ شِمَالِي، وَفَوْقِي. فَعَلِمْتُ أَنَّ عِنْدَهُ مَعْرِفَةً، فَقُلْتُ: أَمَا مَعَكَ زَادٌ؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: الْإِخَلاصُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالتَّوْحِيدُ، وَالْإِقْرَارُ بِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِيمَانٌ صَادِقٌ، وَتَوَكُّلٌ وَاثِقٌ. قُلْتُ: هَلْ لَكَ بِمُرَافَقَتِي؟ قَالَ: الرَّفِيقُ يَشْغَلُ عَنِ اللَّهِ، وَلا أُحِبُّ أَنْ أُرَافِقَ أَحَدًا فَأَشْتَغِلُ بِهِ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ. قُلْتُ: أَمَا تَسْتَوْحِشُ فِي هَذِهِ البَرِّيَّةِ وَحْدَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ الْأُنْسَ بِاللَّهِ قَطَعَ عَنِّي كُلَّ وَحْشَةٍ، حَتَّى لَوْ كُنْتُ بَيْنَ السِّبَاعِ مَا خِفْتُهَا وَلا اسْتَوْحَشْتُ مِنْهَا، فَقُلْتُ: فَمِنْ أَيْنَ تَأْكُلُ؟ قَالَ: الَّذِي غَذَّانِي فِي ظُلَمِ الْأَرْحَامِ صَغِيرًا تَكَفَّلَ بِرِزْقِي كَبِيرًا. قُلْتُ: فَفِي أَيِّ وَقْتٍ تَجِيئُكَ الْأَسْبَابُ؟ فَقَالَ: لِي حَدٌّ مَعْلُومٌ وَوَقْتٌ مَفْهُومٌ، إِذَا احْتَجْتُ إِلَى الطَّعَامِ أَصَبْتُهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كُنْتُ، وَقَدْ عَلِمَ مَا يُصْلِحُنِي، وَهُوَ غَيْرُ غَافِلٍ عَنِّي. قُلْتُ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: إِنْ رَأَيْتَنِي فَلا تُكَلِّمْنِي، ولا تُعْلِمْ أَحَدًا أَنَّكَ تَعْرِفُنِي، قُلْتُ: لَكَ ذَاكَ، فَهَلْ حَاجَةٌ غَيْرُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لا تَنْسَانِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 فِي دُعَائِكَ، وَعِنْدَ الشَّدَائِدِ إِذَا نَزَلَتْ بِكَ فَافْعَلْ. قُلْتُ: كَيْفَ يَدْعُو مِثْلِي لِمِثْلِكَ، وَأَنْتَ أَفْضَلُ مِنِّي خَوْفًا وَتَوَكُّلا؟ فَقَالَ: لا تَقُلْ هَذَا، إِنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلِي، وَصُمْتَ قَبْلِي، وَلَكَ حَقُّ الْإِسْلامِ وَمَعْرِفَةُ الْإِيمَانِ. قُلْتُ: فَإِنَّ لِي أَيْضًا حَاجَةً. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قُلْتُ: ادُعُ اللَّهَ لِي. قَالَ: حَجَبَ اللَّهُ طَرْفَكَ عَنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ، وَأَلْهَمْ قَلْبَكَ الْفِكْرَ فِيمَا يَعْنِيهِ حَتَّى لا يَكُونَ لَكَ هَمٌّ إِلا هُوَ. قُلْتُ: يَا حَبِيبِي مَتَى أَلْقَاكَ، وَأَيْنَ أَطْلُبُكَ؟ قَالَ: أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِلِقَائِي فِيهَا، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَإِنَّهَا مَجْمَعُ الْمُتَّقِينَ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُخَالِفَ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكَ وَنَدَبَكَ إِلَيْهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَطْلُبُ لِقَائِي فَاطْلُبْنِي مَعَ النَّاظِرِينَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي زُمْرَتِهِمْ. قُلْتُ: كَيْفَ عَلِمْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: بِغَضِّ طَرْفِي لَهُ عَنْ كُلِّ مُحَرَّمٍ وَاجْتِنَابِي فِيهِ كُلَّ مُنْكَرٍ وَمَأْثَمٍ، وَقَدْ سَأَلْتُهُ أَنْ يَجْعَلَ جَنَّتِيَ النَّظَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ صَاحَ وَأَقْبَلَ يَسْعَى حَتَّى غَابَ عَنْ بَصَرِي " أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، أَنْبَأَنَا مَحْفُوظُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْجَازِرِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا، قَالَ: حُكِيَ أنَّ بَعْضَ الْمُتْرَفِينَ مَالَ إِلَى طَرِيقَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ، وَاسْتُصْرِفَ لِصُحْبَتِهِمْ وَالاخْتِلاطِ بِهِمْ، فَشَاوَرَ فِي هَذَا بَعْضَ مَشْيَخَتِهِمْ، فَرَدَّهُ عَمَّا تَشَرَّفَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا وَحَذَّرَهُ، فَأَبَتْ نَفْسُهُ إِلا إِجَابَةَ مَا جَذَبَتْهُ الدَّوَاعِي إِلَيْهِ، فَمَالَ إِلَى فَرِيقٍ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ فَتَعَلَّقَ بِهِمْ، ثُمَّ صَحِبَ جَمَاعَةً مِنْهُمْ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْحَجِّ، فَعَجَزَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ عَنْ مُسَايَرَتِهِمْ، وَقَصَّرَ عَنِ اللِّحَاقِ بِهِمْ، فَمَضَوْا وَتَخَلَّفَ عَنْهُمْ، فَاسْتَنَدَ إِلَى بَعَضِ الْأَمْيَالِ إِرَادَةَ الاسْتِرَاحَةِ مِنَ الْإِعْيَاءِ وَالْكَلالِ، فَرَآهُ الشَّيْخُ الَّذِي شَاوَرَهُ فِيمَا حَصَلَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَتَسَنَّمَهُ فَنَهَاهُ وَحَذَّرَهُ، فقال هذا الشيخ مخاطبا له إن الذين بخير كنت تذكرهم ... قضوا عليك وعنهم كنت أنهاكا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فقال له الفتى فما أصنع الآن؟ فقال لا تطيقن حياة عند غيرهم ... فليس يحييك إلا من توفاكا أخبرنا أبو بكر الصوفي، أَنْبَأَنَا أَبُو سَعْدٍ الْحِيرِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الْكَتَّانِيَّ، يَقُولُ: " كُنْتُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَإِذَا أَنَا بِهِمْيَانٍ تَلْمَعُ مِنْهُ الدَّنَانِيرُ، فَهَمَمْتُ أَنْ آخُذَهُ فَأَحْمِلَهُ إِلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ، فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ مِنْ وَرَائِي: إِنْ أَخَذْتَهُ سَلَبْنَاكَ فَقْرَكَ " أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو سَعْدٍ الْحِيرِيُّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ بَاكَوَيْهِ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَطَاءٍ الرُّوذْبَارِيُّ، قَالَ: " كُنْتُ فِي الْبَادِيَةِ عَلَى جَمَلٍ، فَغَاصَتْ رِجْلُ الْجَمَلِ فِي الرَّمْلِ، فَقُلْتُ: جَلَّ اللَّهُ. فَقَالَ الْجَمَلُ: جَلَّ اللَّهُ " ! 215 أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو سَعْدٍ، أَنْبَأَنَا ابْنُ بَاكَوَيْهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنِي أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ بَنَّانًا الْحَمَّالَ، يَقُولُ: " دَخَلْتُ الْبَرِّيَّةَ عَلَى طَرِيقِ مَكَّةَ وَحْدِي فَاسْتَوْحَشْتُ، فَإِذَا أَنَا بِهَاتِفٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 يَهْتِفُ بِي: يَا بَنَّانُ حَبِيبُكَ مَعَكَ؟ نَقَضْتَ الْعَهْدَ، لَمَ تَسْتَوْحِشُ، أَلَيْسَ حَبِيبُكَ مَعَكَ؟ " أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ الْقَرِمِيسِينِيُّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ جَهْضَمٍ، أَنْبَأَنَا الْخُلَدِيُّ، حَدَّثَنِي ابْنُ مَسْرُوقٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ الْبُخَارِيُّ قَالَ: " كُنْتُ أَمْشِي فِي طَرِيقِ مَكَّةَ إِذْ رَأَيْتُ رَجُلا مَغْرِبِيِّا عَلَى بَغْلٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ مُنَادٍ يُنَادِي: مَنْ أَصَابَ هِمْيَانًا وَلَهُ أَلْفُ دِينَارٍ؟ فَإِذَا إِنْسَانٌ عَلَيْهِ أَطْمَارٌ رَثَّةٌ يَقُولُ لِلمَغْرِبِيِّ: أَيْشِ عَلامَةُ الْهِمْيَانِ؟ فَقَالَ: كَذَا وَكَذَا، وَفِيهِ بَضَائِعُ قَوْمٍ، وَأَنَا أُعْطِي مِنْ مَالِي أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ الْفَقِيرُ: مَنْ يَقْرَأُ الْكِتَابَةَ؟ قُلْتُ: أَنَا. قَالَ: اعْدِلُوا بِنَا نَاحِيةً، فَعَدَلْنَا، فَأَخْرَجَ الْهِمْيَانَ، فَجَعَلَ الْمَغْرِبِيُّ يَقُولُ: جُبَّتَانِ لِفُلانَةٍ بِنْتِ فُلانٍ بِخَمْسِ مِائَةِ دِينَارٍ، وَجُبَّةٌ لِفُلانٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَجَعَلَ يَعُدُّ فَإِذَا هُوَ كَمَا قَالَ. فَحَلَّ الْمَغْرِبِيُّ هِمْيَانَهُ، فَقَالَ: خُذْ أَلْفَ دِينَارٍ الَّتِي وَعَدْتُ عَلَى وِجَادَةِ الْهِمْيَانِ. فَقَالَ الْفَقِيرُ: لَوْ كَانَ قِيمَةُ الْهِمْيَانِ عِنْدِي بَعْرَتَيْنِ مَا كُنْتَ تَرَاهُ، فَكَيْفَ آخُذُ مِنْكَ أَلْفَ دِينَارٍ عَلَى مَا هَذَا قِيمَتُهُ؟ وَمَضَى وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا ". وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدٍ: لَمَّا خَرَجَ الرَّشِيدُ إِلَى مَكَّةَ فُرِشَ لَهُ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الْحِجَازِ اللُّبُودَ وَالْمَرْغَرَا، وَكَانَ حَلَفَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًّا رَاجِلا، فَاسْتَنَدَ يَوْمًا وَقَدْ تَعِبَ إِلَى مِيلٍ، فَإِذَا بِسَعْدُونَ الْمَجْنُونُ قَدْ عَارَضَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: هَبِ الدُّنْيَا تُوَاتِيكَ ... أَلَيْسَ الْمُوتُ يَأْتِيكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 فَمَا تَصْنَعُ بِالدَّنْيَا ... وَظِلُّ الْمَوْتِ يَكْفِيكَ أَلا يَا طَالِبَ الدُّنْيَا ... دَعِ الدُّنْيَا لِشَانِيكَ كَمَا أَضْحَكَكَ الدَّهْرُ ... كَذَاكَ الدَّهْرُ يُبْكِيكَ فَشَهَقَ الرَّشِيدُ شَهْقَةً خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ حَتَّى فَاتَتْهُ ثَلاثُ صَلَوَاتٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 بَابُ ذِكْرِ صَالِحِي أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحِيرِيُّ، أَنْبَأنَا ابْنُ بَاكَوَيْهِ الشِّيرَازِيُّ، أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَالِكَيُّ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الحَوَارِيِّ، قَالَ: " حَجَجَتُ أَنَا وَأَبُو سُلَيْمَانَ، فِبَيْنَا نَحْنُ نَسِيرِ إِذْ سَقَطَتِ السَّطْيحَةُ مِنِّي، وَكَانَ بَرْدٌ عَظِيمٌ، فَأَخْبَرْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ، فَقَالَ: هَلُمَّ وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَقُلْ: يَا رَبَّ الضَّالَّةِ وَيَا هَادِيَ الضَّالَّةِ، رُدَّ الضَّالَّةَ، فَإِذَا بِوَاحِدٍ يُنَادِي: مَنْ ذَهَبْتَ لَهُ سَطْيحَةٌ؟ فَأَخَذْتُهَا. فَقَالَ لِي أَبُو سُلَيمَانَ: لا يَتْرُكُنَا بِلا مَاءٍ. فَبَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ إِذَا أَنَا بِرَجُلٍ عَلَيْهِ طِمْرَانَ رَثَّانِ، وَقَدْ تَدَرَّعْنَا بِالْفِرَاءِ مَنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ، وَهُوَ يَرْشَحُ عَرَقًا، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ: أَلا نُدَثِّرُكَ بِبَعْضِ مَا عِنْدَنَا؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا دَارَانِيُّ! الْحَرُّ وَالْبَرْدُ خَلْقَانِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنْ أَمَرَهُمَا أَنْ يَغْشَيَانِي أَصَابَانِي، وَإِنَّ أَمْرَهُمَا أَنْ يَتْرُكَانِي تَرَكَانِي، يَا دَارَانِيُّ، تَصِفُ الزُّهْدَ وَتَخَافُ من الْبَرْدَ؟ أَنَا أَسِيحُ فِي هَذِهِ الْبَرِّيَّةِ مُنْذُ ثَلاثِينَ سَنَةً مَا انْتَفَضْتُ وَلا ارْتَعَدْتُ، يُلبِسُنِي فِي الْبَرْدِ فَيْحًا مِنْ مَحَبَّتِهِ، وَيُلْبِسُنِي فِي الصَّيْفِ بُرْدَ مَحَبَّتِهِ، ثُمَّ وَلَّى وَهُوَ يَقُولُ: يَا دَارَانِيُّ تَبْكِي وَتَصِيحُ وَتَسْتَرِيحُ إِلَى التَّرْوِيحِ، فَكَانَ أَبُو سُلَيْمَانَ يَقُولُ: لَمْ يَعْرِفْنِي غَيْرُهُ " أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ، أَنْبَأَنَا عَلِيٌّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ بَاكَوَيْهِ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْحَنْظَلِيُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ علي الاصْطَخَرِيِّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عُمَرَ الدِّمَشْقِيُّ، قَالَ: " خَرَجْنَا مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَلاءِ إِلَى مَكَّةَ فَمَكَثْنَا أَيَّامًا لَمْ نَجِدْ مَا نَأْكُلُ فَوَقَعْنَا إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 حَيٍّ فِي الْبَرِّيَّةِ، فَإِذَا بَأَعْرَابِيَّةٍ وَعِنْدَهَا شَاةٌ، فَقُلْنَا لَهَا: بِكَمْ هَذِهِ الشَّاةُ؟ فَقَالَتْ: بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا. فَقُلْنَا لَهَا: أَحْسِنِي. فَقَالَتْ: بِخَمْسَةِ دِرَاهِمَ. فَقُلْنَا لَهَا: تَهْزَئِينَ، فَقَالَتْ: لا وَاللَّهِ، وَلَكِنْ سَأَلْتُمُونِي الْإِحْسَانَ، وَلَوْ أَمْكَنَنِي لَمْ آخُذْ شَيْئًا. فَقَالَ ابْنُ الْجَلاءِ: أَيْشِ مَعَكُمْ؟ قُلْنَا: سِتُّ مِائَةِ دِرْهَمٍ. فَقَالَ: أَعْطُوهَا وَاتْرُكُوا الشَّاةَ عَلَيْهَا، فَمَا سَافَرْنَا سَفْرَةً أَطْيَبَ مِنْهَا " أَخْبَرَنَا الْمُحَمَّدَانِ: ابْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَابْنُ نَاصِرٍ، قَالا: أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خَيْرُونَ، قَالَ: قَرَأَ عَلَى ابْنِ شَاذَانَ، أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ كَامِلٍ، أَخْبَرَهُمْ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ، أَنْبَأَنَا الْأَصْمَعِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شَبِيبُ بْنُ شَيْبَةَ، قَالَ: " كُنَّا بِطَرِيقِ مَكَّةَ وَبَيْنَ أَيْدِينَا سُفْرَةٌ لَنَا نَتَغَدَّى فِي يَوْمٍ قَائِظٍ، فَوَقَفَ عَلَيْنَا أَعْرَابِيٌّ وَمَعَهُ جَارِيةٌ لَهُ زِنْجِيَّةٌ، فَقَالَ: يَا قَوْمُ، أَفِيكُمْ أَحَدٌ يَقْرَأُ كَلامَ اللَّهِ حَتَّى يَكَتُبَ لِي كِتَابًا؟ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَصِبْ مَنْ غَدَائِنَا حَتَّى نَكْتُبَ لَكَ مَا تُرِيدُ. قَالَ: إِنِّي صَائِمٌ. فَعَجِبْنَا مِنْ صَوْمِهِ فِي تِلَكَ البَرِّيَّةِ، فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنْ غَدَائِنَا، دَعَوْنَا بِهِ فَقُلْنَا: مَا تُرِيدُ؟ فَقَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ كَانَتْ وَلَمْ أَكُنْ فِيهَا، وَسَتَكُونُ وَلا أَكُونُ فِيهَا، وَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَعْتِقَ جَارِيَتِي هَذِهِ لِوَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ لِيَوْمِ الْعَقَبَةِ، تَدْرِي مَا يَوْمُ الْعَقَبَةِ؟ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ {11} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ {12} فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 11-13] . اكْتُبْ مَا أَقُولُ لَكَ وَلا تَزِدْ عَلَيَّ حَرْفًا: هَذِهِ فُلانَةُ خَادِمَةُ فُلانٍ، قَدْ أَعْتَقَهَا لِوَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِيَوْمِ الْعَقَبَةِ. قَالَ شَبِيبٌ: فَقَدِمْتُ الْبَصْرَةَ وَأَتَيْتُ بَغْدَادَ، فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْمَهْدِيَّ، فَقَالَ: مِائَةُ نَسَمَةٍ تُعْتَقُ عَلَى عُهْدَةِ الْأَعْرَابِيِّ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ الْعَلافِ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ بِشْرَانَ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكِنْدِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ الْخَرَائِطِيُّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ الْجُنَيْدِ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنِي الصَّلْتُ بْنُ حَكِيمٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ السَّمَّاكِ، عَنِ امْرَأَةٍ كَانَتْ تَسْكُنُ الْبَادِيَةَ، قَالَ: سَمِعْتُهَا تَقُولُ: «لَوْ تَطَالَعَتْ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ تَفَكُّرَهَا إِلَى مَا ادُّخِرَ لَهَا فِي حُجُبِ الْغُيُوبِ مِنْ خَيْرِ الْآخِرَةِ، لَمْ يَصْفُ لَهُمْ عَيْشٌ، وَلَمْ تَقَرَّ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَيْنٌ» أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ، أَنْبَأنَا عُمَرُ بْنُ ظَفَرٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ جَعْفَرًا الْخُلْدِيَّ، يَقُولُ: " خَرَجْتُ سَنَةً مِنَ السِّنِينَ إِلَى الْبَادِيَةِ، فَبَقِيتُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا لا أَطْعَمُ فِيهَا طَعَامًا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ رَأَيْتُ كُوخًا وَفِيهِ غُلامٌ، فَقَصَدْتُ الْكُوخَ، فَرَأَيْتُ الْغُلامَ قَائِمًا يُصَلِّي، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: بِالْعَشِيِّ يَجِئُ إِلَى هَذَا طَعَامٌ فَآكُلُ مَعَهُ، فَبَقِيتُ تِلْكَ الْليْلَةَ وَالْغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَجِئْهُ أَحَدٌ بِطَعَامٍ. فَقُلْتُ: هَذَا شَيْطَانٌ، لَيْسَ هَذَا مِنَ النَّاسِ، وَتَرَكْتُهُ وَانْصَرَفْتُ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ وَقْتٍ أَنَا قَاعِدٌ فِي مَنْزِلِي، إِذَا دَاقٌّ يَدُقُّ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ ادْخُلْ، فَدَخَلَ عَلَيَّ الْغُلامُ، وَقَالَ لِي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 يَا جَعْفَرُ! أَنْتَ كَمَا سُمِّيتَ: جَاعَ فَرَّ " أَنْبَأَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْحَسَنِ الضَّرَّابُ، أَنْبَأَنَا أَبِي، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، قَالَ: " حَجَّ الْحَجَّاجُ فَنَزَلَ بَعْضَ الْمِيَاهِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَدَعَا بِالْغَدَاءِ، وَقَالَ لِحَاجِبِهِ: انْظُرْ مَنْ يَتَغَدَّى مَعِي، وَاسْأَلْهُ عَنْ بَعْضِ الْأَمْرِ، فَنَظَرَ نَحْوَ الْجَبَلِ، فَإِذَا هُوَ بِأَعْرَابِيٍّ بَيْنَ شَمْلَتَيْنِ مِنْ شَعْرٍ نَائِمٍ، فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ، وَقَالَ: ائْتِ الْأَمِيرَ، فَأَتَاهُ. فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: اغْسِلْ يَدَكَ وَتَغَدَّ مَعِي. فَقَالَ: إِنَّهُ دَعَانِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ. قَالَ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ دَعَانِي إِلَى الصَّوْمِ فَصُمْتُ. قَالَ: فِي هَذَا الْحَرِّ الشَّدِيدِ، قَالَ: نَعَمْ، صُمْتُ لِيَوْمٍ هُوَ أَشَدُّ حَرًّا مِنْ هَذَا الْيَوْمِ. قَالَ: فَأَفْطِرْ وَتَصُومُ غَدًّا. قَالَ: إِنْ ضَمِنْتَ لِيَ الْبَقَاءَ إِلَى غَدٍّ، قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ لِي. قَالَ: فَكَيْفَ تَسْأَلُنِي عَاجِلا بِآجِلٍ لا تَقْدِرُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: إِنَّهُ طَعَامٌ طَيِّبٌ. قَالَ: لَمْ تُطَيِّبْهُ أَنْتَ وَلا الطَّبَّاخُ، وَلَكِنْ طَيَّبَتْهُ الْعَافِيَةُ " أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ظَفَرٍ، أَنْبَأَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصُّوفِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الدَّيْنَوَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الشِّيرَازِيُّ، قَالَ " تُهْتُ فِي بَادِيَةِ الْعِرَاقِ أَيَّامًا كَثِيرَةً، لَمْ أَجِدْ شَيْئًا أَرْتَفِقُ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ رَأَيْتُ فِي الْفَلاةِ خِبَاءً مَضْرُوبًا، فَقَصَدْتُهُ، فَإِذَا بَيْتٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وَعَلَيْهِ شَيْءٌ مُسْبَلٌ، فَسَلَّمْتُ، فَرَدَّتْ عَلَيَّ عَجُوزٌ مِنْ دَاخِلِ الْخِبَاءِ، وَقَالَتْ: يَا إِنْسَانُ، مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ مَكَّةَ. قَالَتْ: وَأَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: الشَّامَ. فَقَالَتْ: أَرَى شَبَحَكَ شَبَحَ إِنْسَانٍ كَبِيرٍ بَطَّالٍ، أَلا لَزِمْتَ زَاوِيَةً تَجْلِسُ فِيهَا إِلَى أَنْ يَأْتِيكَ الْيَقِينُ، ثُمَّ تَنْظُرُ هَذِهِ الْكِسْرَةَ مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُهَا. ثُمَّ قَالَتْ: تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَتْ: اقْرَأْ عَلَيَّ آخِرَ سُورَةِ الْفُرْقَانِ. فَقَرَأْتُهَا، فَشَهِقَتْ وَأُغْمِيَ عَلَيْهَا. فَلَمَّا أَفَاقَتْ بَعْدَ هَوًى، قَرَأَتْ هِيَ الْآيَاتِ، فَأَخَذَتْ مِنِّي قِرَاءَتُهَا أَخْذًا شَدِيدًا، ثُمَّ قَالَتْ: يَا إِنْسَانُ، اقْرَأْهَا ثَانِيَةً. فَقَرَأْتُهَا، فَلَحِقَهَا مَثْلُ مَا لَحِقَهَا فِي الْأَوَّلِ، وَبَقِيَتْ أَكْثَرَ مِنَ الْأَوَّلِ وَلَمْ تُفِقْ. فَقُلْتُ: كَيْفَ أَسْتَكْشِفُ خِبَاهَا، مَاتَتْ أَمْ لا؟ فَتَرَكْتُ الْبَيْتَ عَلَى حَالِهِ، وَمَشَيْتُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ مِيلٍ فَأَشْرَفْتُ عَلَى وَادٍ فِيهِ أَعْرَابٌ، فَأَقْبَلَ إِلَيَّ غُلامَانِ مَعَهُمَا جَارِيَةٌ، فَقَالَ أَحَدُ الْغُلامَيْنِ: يَا إِنْسَانُ، أَتَيْتَ الْبَيْتَ الَّذِي فِي الْفَلاةِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: قَتَلْتَ الْعَجُوزَ وَرِبِّ الْبَيْتِ، فَرَجَعْتُ مَعَهُمْ حَتَّى أَتَيْنَا الْبَيْتَ، فَدَخَلَتِ الْجَارِيَةُ فَكَشَفَتْ عَنْهَا فَإِذَا هِيَ مَيْتَةٌ، فَأَعْجَبَنِي خَاطِرُ الْغُلامِ فَقُلْتُ لِلْجَارِيَةِ: مَنْ هَذَانِ الْغُلامَانِ؟ فَقَالَتْ: هَذِهِ أُخُتُهُمْ، مُنْذُ ثَلاثِينَ سَنَةً مَا تَأْنَسُ بِكَلامِ النَّاسِ، تَأْكُلُ فِي كُلِّ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أَكْلَةً وَشَرْبَةً " أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَزْتُوغَانِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْقَزْوِينِيُّ، أَنْبَأَنَا يُوسُفُ الْقَوَّاسُ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْفَضْلِ الْخُرَاسَانِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ عَلَيٍّ، أَنْبَأَنَا الْأَصْمَعِيُّ، قَالَ: " كُنْتُ بِالْبَادِيَةِ أُعَلِّمُ الْقُرْآنَ، فَإِذَا أَنَا بِأَعْرَابِيٍّ بِيَدِهِ سَيْفٌ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، فَلَمَّا دَنَا مِنِّي لِيَأْخُذَ ثِيَابِي، قَالَ لِي: يَا حَضَرِيُّ، مَا أَدْخَلَكَ الْبَدْوَ؟ قُلْتُ: أُعَلِّمُ الْقُرْآنَ. قَالَ: وَمَا الْقُرْآنُ؟ قُلْتُ: كَلامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: وَلِلَّهِ كَلامٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنْشِدْنِي مِنْهُ بَيْتًا، قُلْتُ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] ، قَالَ: فَرَمَى السَّيْفَ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، رِزْقِي فِي السَّمَاءِ وَأَنَا أَطْلُبُهُ فِي الْأَرْضِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ثُمَّ لَقِيتُهُ بَعْدَ سَنَةٍ فِي الطَّوَافِ، فَقَالَ: أَلَسْتُ صَاحِبَكَ بِالْأَمْسِ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: فَأَنْشِدْنِي بَيْتًا آخَرَ، قُلْتُ: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23] . فَوَقَفَ يَبْكِي وَجَعَلَ يَقُولُ: وَمَنْ أَلْجَأَهُ إِلَى الْيَمِينِ؟ فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا حَتَّى سَقَطَ مَيِّتًا " وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، إِذَا أَنَا بِغُلامٍ وَاقِفٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا أَرُدُّ عَلَيْكَ حَتَّى تُؤَدِّيَ حَقِّي. قُلْتُ: وَمَا حَقُّكَ؟ قَالَ: أَنَا غُلامٌ عَلَى مَذْهَبِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلامُ، لا أَتَغَدَّى وَلا أَتَعَشَّى حَتَّى أَسِيرَ الْمِيلَ وَالْمِيلَيْنِ فِي طَلَبِ الضَّيْفِ. فَأَجَبْتُهُ إِلَى ذَلِكَ، فَرَحَّبَ بِي، وَسِرْتُ مَعَهُ حَتَّى قَرُبْنَا مِنْ خَيْمَةٍ، وَصَاحَ: يَا أُخْتَاهُ. فَأَجَابَتْهُ: يَا لَبَّيْكَاهُ. فَقَالَ: قُومِي إِلَى ضَيْفِنَا. فَقَالَتْ: حَتَّى أَبْدَأَ بِشُكْرِ الْمَوْلَى الَّذِي سَبَّبَ لَنَا الضَّيْفَ، فَصَلَّتْ رَكْعَتَيْنِ، وَأَخَذَ الْغُلامُ الشَّفْرَةَ فَذَبَحَ عِنَاقًا، فَلَمَّا جَلَسْتُ فِي الْخَيْمَةِ، نَظَرْتُ إِلَى جَارِيَةٍ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا، فَكُنْتُ أُسَارِقُهَا النَّظَرَ، فَفَطِنَتْ، فَقَالَتْ: مَهْ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ نُقِلَ إِلَيْنَا أَنَّ زِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ. فَلَمَّا نِمْتُ بِالْلَيْلِ سَمِعْتُ دَوِّيَ الْقُرْآنِ طُولَ الْلَيْلِ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قُلْتُ لِلْغُلامِ: مَنْ كَانَ يَتْلُو ذَلِكَ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: أُخْتِي تُحْيِي اللَّيْلَ كُلَّهُ إِلَى الصَّبَاحِ. فَقُلْتُ: يَا فَتَى، أَنْتَ أَحَقُّ بِهَذَا مِنْ أُخْتِكَ، لِأَنَّكَ رَجُلٌ وَهِيَ امْرَأَةٌ، فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: وَيْحَكَ! أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ مُوَفَّقٌ وَمَخْذُولٌ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 بَابُ ذِكْرِ ثَوَابِ مَنْ سَقَا فِي طَرِيقِ مَكَّةَ أَوْ فَعَلَ خَيْرًا اعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ مَا وَافَقَتْ فَاقَةَ مُحْتَاجٍ، وَفِعْلُ الْخَيْرِ فِي تِلْكَ الطَّرِيقِ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهِ فِي غَيْرِهَا لِأَرْبَعَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَمَسُّ ثَمَّ أَشَدُّ مِنْ مَسِّهَا فِي غَيْرِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لا بَلَدَ يُلْجَأُ إِلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ لِقُوَّةِ بُخْلِهَا بِالشَّيْءِ مَخَافَةَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَالرَّابِعُ: لِأَنَّهُ إِعَانَةُ الْقَاصِدِينَ عَلَى الْقَصْدِ، ثُمَّ إِنَّهُ يُفَضَّلُ هُنَالِكَ مَا الْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَمَسُّ، كَسَقْيِ الْمَاءِ وَحَمْلِ الْمُنْقَطِعِ. أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَلالُ، لَفْظًا، قَالَ: وَجَدْتُ بِخَطِّ أَبِي الْفَتْحِ الْقَوَّاسِ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ الزَّمَنُ " رَأَيْتُ زُبَيْدَةَ فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكِ؟ قَالَتْ: غَفَرَ لِي فِي أَوَّلِ مِعْوَلٍ ضُرِبَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ. قُلْتُ: فَمَا هَذِهِ الصُّفْرَةُ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وَجْهِكِ؟ قَالَتْ: دُفِنَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ، زَفَرَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ زَفْرَةً فَاقْشَعَرَّ لَهَا جِلْدِي، فَهَذِهِ الصُّفْرَةُ مِنْ تِلْكَ الزَّفْرَةِ « الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 بَابُ ذِكْرِ حُدُودِ الْحَرَمِ » وَأَوَّلُ مَنْ نَصَبَ حُدُودَ الْحَرَمِ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا قَلَعُوهَا فِي زَمَنِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، اشْتَدَّ عَلَيْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ سَيُعِيدُونهَا. فَرَأَى رِجَالٌ مِنْهُمْ فِي الْمَنَامِ قَائِلا يَقُولُ: حَرَمٌ أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ نَزَعْتُمْ أَنْصَابَهُ، الآنَ تَخَطَّفَكُمُ الْعَرَبُ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ بِذَلِكَ فِي مَجَالِسِهِمْ، فَأَعَادُوهَا، فَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ أَعَادُوهَا. قَالَ: " أَفَأَصَابُوا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: مَا وَضَعُوا مِنْهَا نَصْبًا إِلا بِيَدِ مَلَكٍ ". وَرَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: نَصَبَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنْصَابَ الْحَرَمِ يُرِيهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، ثُمَّ لَمْ تُحَرَّكْ حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ عَامَ الْفَتْحِ تَمِيمَ بْنَ أَسَدٍ الْخُزَاعِيَّ فَجَدَّدَهَا، ثُمَّ لَمْ تُحَرَّكْ حَتَّى كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَبَعَثَ أَرْبَعَةً مِنْ قُرَيْشٍ فَجَدَّدُوهَا: مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، وَسَعِيدَ بْنَ يَرْبُوعٍ، وَحُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى، وَأَزْهَرَ بْنَ عَبْدِ عَوْفٍ. ثُمَّ جَدَّدَهَا مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَمَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِتَجْدِيدِهَا. فَصْلٌ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا السَّبَبُ فِي أَنَّ بَعْضَ حُدُودِ الْحَرَمِ تَقْرُبُ مِنْ مَكَّةَ وَبَعْضُهَا تَبْعُدُ، وَلِمَ لَمْ تُجْعَلْ عَلَى قَانُونٍ وَاحِدٍ؟ فَعَنْهُ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 أَحَدُهَا: مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: " لَمَّا أُهْبِطَ آدَمُ خَرَّ سَاجِدًا يَعْتَذِرُ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَقَالَ: ارْفَعْ رَأْسَكَ فَقَدْ قُبِلَتْ تَوْبَتُكَ. فَقَالَ: يَا رَبِّ، إِنَّمَا أَتَلَهَّفُ عَلَى مَا فَاتَنِي مِنَ الطَّوَافِ بِعَرْشِكَ مَعَ مَلائِكَتِكَ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنِّي سَأُنْزِلُ إِلَيْكَ بَيْتًا أَجْعَلُهُ قِبْلَةً، فَأَهْبَطَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ، وَكَانَ يَاقُوتَةً حَمْرَاءَ تَلْتَهِبُ الْتِهَابًا، وَلَهُ بَابَانِ شَرْقِيٌّ وَغَرْبِيٌّ، قَدْ نُظِّمَتْ حِيطَانُهُ بِكَوَاكِبَ بِيضٍ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْبَيْتُ فِي الْأَرْضِ أَضَاءَ نُورُهُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَنَفَرَتْ لِذَلِكَ الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ وَفَزِعُوا، فَارْتَقَوْا فِي الْجَوِّ يَنْظُرُونَ مِنْ أَيْنَ ذَلِكَ النُّورُ؟ فَلَمَّا رَأَوْهُ مِنْ مَكَّةَ أَقْبَلُوا يُرِيدُونَ الاقْتِرَابَ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَلائِكَةً فَقَامُوا حَوَالَيِ الْحَرَمِ فِي مَكَانِ الْأَعْلامِ الْيَوْمَ فَمَنَعَتْهُمْ، فَمِنْ ثَمَّ ابْتُدِيَ اسْمُ الْحَرَمِ ". وَالثَّانِي: مَا رَوَاهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ اشْتَدَّ بُكَاؤُهُ، فَوَضَعَ اللَّهُ لَهُ خَيْمَةً بِمَكَّةَ مَوْضِعَ الْكَعْبَةِ قِبْلَ الْكَعْبَةِ، وَكَانَتِ الْخَيْمَةُ يَاقُوتَةً حَمْرَاءَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَفِيهَا ثَلاثَةُ قَنَادِيلَ فِيهَا نُورٌ يَلْتَهِبُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَكَانَ ضَوْءُ النُّورِ يَنْتَهِي إِلَى مَوَاضِعَ الْحَرَمِ. وَحَرَسَ اللَّهُ تِلْكَ الْخَيْمَةَ بِمَلائِكَتِهِ، وَكَانُوا يَقِفُونَ عَلَى مَوَاضِعَ أَنْصَابِ الْحَرَمِ يَحْرُسُونَ وَيَذُودُونَ عَنْهُ سُكَّانَ الْأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ، فَلَمَّا قَبَضَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ رَفَعَهَا إِلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا بَنَى الْبَيْتَ قَالَ لِإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ: أَبْغِنِي حَجَرًا أَجَعَلُهُ لِلنَّاسِ آيَةً، فَذَهَبَ إِسْمَاعِيلُ وَرَجَعَ وَلَمْ يَأْتِهِ بِشَيْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 ءٍ وَوَجَدَ الرُّكْنَ عِنْدَهُ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لك هَذَا؟ فَقَالَ: جَاءَنِي بِهِ مَنْ لَمْ يَكِلْنِي إِلَى حَجَرِكَ، جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ. فَوَضَعَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي مَوْضِعِهِ هَذَا فَأَنَارَ شَرْقًا وَغَرْبًا وَيَمِينًا وَشِمَالا، فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَرَمَ حَيْثُ انْتَهَى نُورُ الرُّكْنِ وَإِشْرَاقُهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا هَبَطَ إِلَى الْأَرْضِ، خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ فَاسْتَعَاذَ بِاللَّهِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَلائِكَةً حَفُّوا بِمَكَّةَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَوَقَفُوا حَوَالَيْهَا، فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَرَمَ مِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْمَلائِكَةُ وَقَفَتْ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: وَالْحَرَمُ حَرَامٌ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: كَانُوا يَرَوْنَ الْعَرْشَ عَلَى الْحَرَمِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 بَابُ تَعْظِيمِ حُرْمَةِ الْحَرَمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] لَفْظُ هَذِهِ الْآيَةِ لَفْظُ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهَا الْأَمْرُ وَالتَّقْدِيرُ، وَمَنْ دَخَلَهُ فَأَمِّنُوهُ، وَهُوَ لَفْظٌ عَامٌّ فِيمَنْ جَنَى قَبْلَ دُخُولِهِ أَوْ بَعْدَ دُخُولِهِ، إِلا أَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى أَنَّ مَنْ جَنَى فِيهِ لا يُؤَمَّنُ؛ لِأَنَّهُ هَتَكَ حُرْمَةَ الْحَرَمِ وَرَدَّ الْأَمَانَ، فَبَقِيَ حُكْمُ الْآيَةِ فِيمَنْ جَنَى خَارِجًا مِنْهُ ثُمَّ لَجَأَ إِلَيْهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ: إِذَا قَتَلَ أَوْ قَطَعَ يَدًّا أَوْ أَتَى حَدًّا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ دَخَلَهُ، لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ، وَلَكِنْ لا يُبَايَعْ وَلا يُشَارَى، وَلا يُؤَاكَلْ حَتَّى يَخْرُجَ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: إِذَا قَتَلَ ثُمَّ لَجَأَ لا يُقْتَلُ، وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَفِي الْآيَةِ دَلَيلٌ عَلَى صِحْةِ مَذْهَبِنَا. وَقَدْ أَلْهَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْحَيَوَانَ الْبَهِيمَ تَعْظِيمَ الْحَرَمِ، فَإِنَّ الظِّبَاءَ تَجْتَمِعُ مَعَ الْكِلابِ فِي الْحَرَمِ، فَإِذَا خَرَجَا عَنْهُ تَنَافَرَا، وَإِنَّ الطَّيْرَ لا يَعْلُو عَلَى الْبَيْتِ إِلا أَنْ يُسْتَشْفَى مَرِيضُهَا بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 أَبْوَابُ الْإِحَرَامِ بَابُ الْمَوَاقِيتِ الْمَوَاقِيتُ خَمْسَةٌ: أَحَدُهَا: ذُو الْحُلَيْفَةِ، وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَالثَّانِي: الْجُحْفَةُ، وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ. وَالثَّالِثُ: يَلَمْلَمُ، وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ الْيَمَنِ. وَالرَّابِعُ: قَرْنٌ، بِتَسْكِينِ الرَّاءِ، وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ نَجْدَ، وَرُبَّمَا فَتَحَ رَاءَهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ لا يُعْرَفُ. وَالْخَامِسُ: ذَاتُ عِرْقٍ، وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالْمَشْرِقِ. وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ أَتَوْا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " حَدَّ لِأَهْلِ نَجْدَ قَرْنًا، وَإِنَّهُ جُوِّرَ عَنْ طَرِيقِنَا، فَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَأَتِيَ قَرْنًا شُقَّ عَلَيْنَا. قَالَ: فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ ". قَالَ: فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ. وَأَرَادَ بِالْمِصْرَيْنِ: الْكُوفَةَ وَالْبَصْرَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُمَرَ هُوَ الَّذِي حَدَّ ذَاتَ عِرْقٍ، وَإِنَّمَا حَدَّهَا لَهُمْ لِأَنَّهَا حَذْوُ قَرْنٍ، أَيْ: مُحَاذَيِتُهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ» ، فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّ عُمَرَ وَقَّتَهَا لِأَهْلِ الْعِرَاقِ بَعْدَ أَنْ فُتِحَتِ الْعِرَاقُ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ «ذَكَرَ الْمَوَاقِيتَ الْأَرْبَعَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَاتَ عِرْقٍ» . فَصْلٌ فَهَذَهِ الْمَوَاقِيتُ لِأَهْلِهَا وَلِمَنْ مَرَّ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، فَمَنْ مَرَّ عَلَيْهَا مِمَّنْ يُرِيدُ النُّسُكَ، لَزِمَهُ أَنْ لا يُجَاوِزَهَا حَتَّى يُحْرِمَ. فَإِذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مَنْ يُرِيدُ النُّسُكَ، ثُمَّ أَحْرَمَ دُونَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ سَوَاءٌ عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ أَوْ لَمْ يَعُدْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنْ عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ مُلَبِّيًا سَقَطَ الدَّمُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَسْقُطُ الدَّمُ بِكُلِّ حَالٍ إِلا أَنْ يَعُودَ بَعْدَ الطَّوَافِ. فَصْلٌ فَإِنْ عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ غَيْرَ مُحْرِمٍ فَأَحْرَمَ مِنْهُ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ. فَصْلٌ فَإِنْ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ لا لِلنُّسُكِ بَلْ لِحَاجَةٍ، فَلا تَخْلُو هَذِهِ الْحَاجَةُ مِنْ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَكَرِّرَةٌ كَالتِّجَارَةِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْإِحَرَامُ أَمْ لا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْلانِ لِلشَّافِعِيِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِيقَاتِ إِلَى مَكَّةَ لا يَلْزَمُهُ، وَمَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِيقَاتِ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ. فَصْلٌ فَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أُعْتِقَ الْعَبْدُ، وَقَدْ جَاوَزَا الْمِيقَاتَ مُحِلِّينَ ثُمَّ أَحْرَمَا فَلا دَمَ عَلَيْهِمَا، وَوَافَقْنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي الصَّبِيِّ خَاصَةً. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَجِبُ عَلَيْهِمَا. فَصْلٌ وَلِلْإِحْرَامِ مِيقَاتَانِ: مِيقَاتُ الْمَكَانِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَمِيقَاتُ الزَّمَانِ، وَهُوَ: أَشْهُرُ الْحَجِّ، وَهِيَ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَمَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ مِيقَاتِ الْمَكَانِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ، وَالْأَفْضَلُ عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنَ الْمِيقَاتِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ. وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَأَمَّا إِذَا أَحْرَمَ قَبْلَ مِيَقَاتِ الزَّمَانِ، فَعِنْدَ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، أَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْعَقِدُ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لا يُسْتَحَبُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لا يَنْعَقِدُ، فِإِنْ أَحْرَمَ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 بَابٌ فِي التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَالْإِفْرَادِ الْخِلافُ فِي جَوَازِ التَّمَتُّعِ وَالْقَرَانِ وَالْإِفْرَادِ. وَالتَّمَتُّعِ هُوَ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَيَدْخُلَ مَكَّةَ، وَيَطُوفَ وَيَسْعَى، وَيَفْعَلَ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ وَيَتَحَلَّلَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى عَرَفَةَ، وَيَفْعَلُ أَفْعَالَ الْحَجِّ. وَالْإِفْرَادُ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ مِنَ الْمِيقَاتِ، ثُمَّ يَقِفَ بِعَرَفَةَ، وَيَفْعَلَ أَفْعَالَ الْحَجِّ، فَإِذَا تَحَلَّلَ خَرَجَ إِلَى التَّنْعِيمِ فَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَفَعَلَ أَفْعَالَهَا. وَالْقِرَانُ: أَنْ يَنْوِيَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَيَطُوفَ لَهُمَا وَيَسْعَى. وَكُلٌّ جَائِزٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْأَفْضَلِ مِنْ ذَلِكَ: فَمَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ فِي آخَرِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْقَدِيمِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لا يَنْصُرُونَهُ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ. وَعِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَدَاوُدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ. وَمَنْبَعُ الْخِلافِ مِنْ ثَلاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: اخْتَلافُ الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجِّهِ، هَلْ تَمَتَّعَ أَوْ قَرَنَ أَوْ أَفْرَدَ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى الْأَفْضَلَ فِي فَرْضِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقِرَانَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ الْأَصْلُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْأَصْلُ الْإِفْرَادُ، وَالْقِرَانُ وَالتَّمَتُّعُ رُخْصَةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وَالثَّالِثُ: الْبَحْثُ عَنْ دَمِ التَّمَتُّعِ، فَعِنْدَنَا أَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ لا دَمُ جُبْرَانٍ، وَقَدْ وَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ دَمَ الْقِرَانِ دَمٌ، إِلا أَنَّهُ يَقُولُ: الْقِرَانُ يُوجِبُ زِيَادَةً فِي الْأَفْعَالِ وَالتَّعَبُّدِ؛ لَأَنَّ عِنْدَهُ لا يُجِزِئُ الْقَارِنَ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَلا سَعْيٌ وَاحِدٌ، وَعِنْدَنَا يُجْزِيهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الدَّمَ فِي التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ دَمُ جُبْرَانٍ، وَالْعِبَادَةُ الْمَجْبُورَةُ أَنْقَصُ مِنَ الَّتِي لا تَفْتَقِرُ إِلَى جَبْرٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «تَمَتَّعَ» . فَصْلٌ وَلا يَجِبُ دَمُ التَّمَتُّعِ إِلا بِشُرُوطٍ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمَرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَيَحُجَّ فِي سَنَتِهِ مِنْ مَكَّةَ وَيَنْوِيَ فِي ابْتِدَاءِ الْعُمْرَةِ أَوْ فِي أَثْنَائِهَا أَنَّهُ مُتَمَتَّعٌ، وَلا يَكُونُ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلا يُسَافِرُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ سَفَرًا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلاةُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 بَابُ آدَابِ الْمُحْرِمِ وَمَا يَلْزَمُهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ الْإِحَرَامَ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيَتَنَظَّفَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ يَتَيَمَّمْ، وَيَتَجَرَّدَ عَنِ الْمَخِيطِ، فَيَلْبَسَ إِزَارًا وَرِدَاءً أَبْيَضَيْنِ نَظِيفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا لَبِسَ السَّرَاوِيلَ، وَكَذَا إِذَا لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ لَبِسَ الْخُفَّيْنِ وَلا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ. فَصْلٌ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَطَيَّبَ لِإِحْرَامِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، إِلا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ قَالَ: إِنْ تَطَيَّبَ بِمَا يَبْقَى بَعْدَ الْإِحَرَامِ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَشَبَّهَهُ أَصْحَابُنَا بِاللِّبَاسِ يُسْتَصْحَبُ بَعْدَ الْإِحَرَامِ، وَالْفَارِقُ بَيْنَ مَا جَمَعُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بِفِعْلِهِ بَيْنَ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، فَكَانَ عِنْدَ إِحْرَامِهِ يَنْزِعُ اللِّبَاسَ، وَكَانَ يَتَطَيَّبُ. وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَطَيَّبَ، وَإِنْ فَعَلَ غَسَلَهُ، فَإِنِ اسْتَدَامَهُ فَلا كَفَّارَةَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَرَمِهِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ» . فَهَذَا حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ لَنَا. فَصْلٌ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيُحْرِمُ عُقَيْبَهُمَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: إِذَا انْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ أَحْرَمَ. وَالصَّحِيحُ عَنْ أَحْمَدَ عُقَيْبَ الصَّلاةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهَ أَنَّ الْإِحَرَامَ عُقَيْبَ الصَّلاةِ، وَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ الرَّاحِلَةُ، وَإِذَا بَدَأَ بِالسَّيْرِ سَوَاءٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 فَصْلٌ وَيَنْوِي الْإِحْرَامَ بِقَلْبِهِ وَيُلَبِّي، فَإِنْ لَبَّى أَوْ سَاقَ الْهَدْيَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لَمْ يَنْعَقِدْ إِحْرَامُهُ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ مَا أَحَرَمَ بِهِ وَيَشْتَرِطُ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ النُّسُكَ الْفُلانِي فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْ مِنِّي وَمَحَلِّي حَيْثُ حَبِسْتَنِي. فَعِنْدَنَا وَعِندَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا اشْتَرَطَ فِي ابْتِدَاءِ إِحْرَامِهِ أَنَّهُ إِذَا مَرِضَ تَحَلَّلَ، جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ عِنْدَ وَجُودِ الشَّرْطِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ أَنَّ اشْتِرَاطَهُ لا تَأْثِيرَ لَهُ، فَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: لا يَسْتَفِيدُ التَّحَلُّلَ أَصْلا. وَيَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِنَا مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا، قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: «لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الْحَجَّ؟» قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَرَانِي إِلا وَجِعَةً. فَقَالَ لَهَا: " حُجِّي وَاشْتَرِطِي، وَقُولِي: اللَّهُمَّ مَحَلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي ". وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فَزَادَ فِيهِ: «فَإِنَّ ذَلِكَ لَكِ» . وَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ الْمَرَضَ لا يُبِيحُ لِلْمُحْرِمِ التَّحَلُّلَ إِلا أَنْ يَكُونَ قَدِ اشْتَرَطَ، خِلافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: الْمَرَضُ يُبِيحُ التَّحَلُّلَ. وَلَوْ كَانَ يُبِيحُ لَمْ يَكُنْ لِأَمْرِهِ هَذَهِ الْمَرْأَةَ بِالاشْتِرَاطِ مَعْنًى. فَإِنْ قَالُوا: فَائِدَةُ هَذَا الشَّرْطِ عِنْدَنَا أَنْ لا يَلْزَمَهَا الْهَدْيُ، وَلَوْ لَمْ تَشْتَرِطْ لَزِمَهَا. قُلْنَا: الْحُكْمُ الْمُعَلَّقِ عَلَى الشَّرْطِ التَّحَلُّلُ، وَلَمْ يَجْرِ لِلْهَدْيِ ذِكْرُهُ ثُمَّ عِنْدَكَمْ يَجُوزُ لَهَا التَّحَلُّلُ قَبْلَ الْهَدْيِ فَمَا قُلْتُمْ بِالْحَدِيثِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 بَابُ ذِكْرِ التَّلْبِيَةِ أَصْلُ التَّلْبِيَةِ: الْإِجَابَةُ لِنِدَاءِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلامُ، ! 206 أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَزَّازُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ النّقورِ، أَنْبَأَنَا الْمُخَلِّصُ، أَنْبَأَنَا رِضْوَانُ الصَّيْدَلانِيُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْعُطَارِدِيُّ، أَنْبَأَنَا يُونُسُ بْنُ بَكِيرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ. قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا رَبَّكُمْ، فَصَعِدَ الْجَبَلَ فَقَامَ فَنَادَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَجِيبُوا رَبَّكُمْ. فَأَجَابُوهُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. فَكَانَ هَذَا أَوَّلُ التَّلْبِيَةِ ! 207. ح وَبِهِ حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ، يَقُولُ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِدُعَاءِ النَّاسِ إِلَى الْحَجِّ، اسْتَقْبَلَ الْمَشْرِقَ فَدَعَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأُجِيبَ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْمَغْرِبَ فَدَعَا إِلَى اللَّهِ، فَأُجِيبَ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ. ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الشَّامَ، فَدَعَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأُجِيبَ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ. ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْيَمَنَ فَدَعَا إِلَى اللَّهِ، فَأُجِيبَ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ فَصْلٌ وَالتَّلْبِيَةُ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: التَّلْبِيَةُ وَاجِبَةٌ فِي ابْتِدَاءِ الْإِحْرَامِ. وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجِبُ بِتَرْكِ التَّلْبِيَةِ دَمٌ. فَصْلٌ فَأَمَّا لَفْظُ التَّلْبِيَةِ فَهُوَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيَكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ. فَصْلٌ وَيُسْتَحَبُّ لِلرِّجَالِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْأَوَّلِ، أَنْبَأَنَا الدَّاوُدِيُّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ حَمُّوَيْهِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ خُرَيْمٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي لَبِيدٍ، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ، عَنْ خَلادِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ لِي: مُرْ أَصْحَابَكَ فَلْيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ فَإِنَّهُ مِنْ شِعَارِ الْحَجِّ " فَصْلٌ وَلا يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُ التَّلْبِيَةِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيُسَنُّ التَّلْبِيَةُ فِي حَقِّ الْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ عُقَيْبَ الصَّلَوَاتِ، وَإِذَا عَلا نَشَزًا أَوْ هَبَطَ وَادِيًا، وَإِذَا لَقِيَ رَكْبًا، وَفِي إِقْبَالِ الْلَيْلِ وَالنَّهَارِ، وَبِالْأَسْحَارِ، وَإِذَا سَمِعَ مُلَبِّيًا، أَوْ فَعَلَ مَحْظُورًا نَاسِيًا، وَفِي جَمِيعِ مَسَاجِدِ الْحَرَمِ وَبِقَاعِهِ. وَلا يُسْتَحَبُّ إِظْهَارُ التَّلْبِيَةِ فِي الْأَمْصَارِ وَمَسَاجِدِ الْأَمْصَارِ إِنَّمَا هُوَ مَسْنُونٌ فِي الْبَرَارِي وَالْقِفَارِ. وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُكْرَهُ إِظْهَارُهَا فِي الْمَسَاجِدِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يُسْتَحَبُّ إِظْهَارُهَا فِي الْأَمْصَارِ وَغَيْرِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 بَابُ مَا يَتَوَقَّاهُ الْمُحْرِمُ وَمَا يُبَاحُ لَهُ فَصْلٌ مَحْظُورَاتُ الْإِحْرَامِ تِسْعَةُ أَشْيَاءَ: لُبْسُ الْمَخِيطِ، وَتَغْطِيَةُ الرَّأْسِ، وَحَلْقُ الشَّعْرِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَشَمُّ الطِّيبِ، وَقَتْلُ الصَّيْدِ، وَالْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ وَدُونَ الْفَرْجِ، وَالْمُبَاشَرَةُ بِشَهْوَةٍ. فَصْلٌ فَإِنْ لَبِسَ نَاسِيًا فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لا فِدْيَةَ فِي النِّسْيَانِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِثْلَهُ. فَإِنْ لَبِسَ بَعْضَ يَوْمٍ وَجَبَتْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لا تَجِبُ بَلْ تَلْزَمُهُ صَدَقَةٌ. فَصْلٌ وَلا يَجُوزُ لَهُ تَغْطِيَةُ رَأْسِهِ فِي الْإِحْرَامِ. وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ تَغْطِيَةُ وَجْهِهِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: أَحَدُهُمَا لا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ. وَلا يَجُوزُ تَظْلِيلُ الْمَحْمَلِ رِوَايَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ ظُلِّلَ فِفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ رِوَايَتَانِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: تَجُوزُ وَلا فِدْيَةَ. فَإِنْ حَمَلَ عَلَى رَأْسِهِ شَيْئًا أَوْ نَصَبَ حِيَالَهُ ثَوْبًا يَقِيهِ الشَّمْسَ وَالْبَرْدَ أَوْ جَلَسَ فِي خَيْمَةٍ أَوْ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ أَوْ تَحْتَ سَقْفٍ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ. فَإِنْ طَيَّنَ رَأْسَهُ أَوْ عَصَبَهُ لِوَجَعٍ أَوْ جُرْحٍ، فَجَعَلَ عَلَيْهِ قِرْطَاسًا فِيهِ دَوَاءٌ أَوْ خِرْقَةً لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ. وَيَجُوزُ لِلمُحْرِمِ أَنْ يَتَّشِحَ بِالرِّدَاءِ وَالْقَمِيصِ وَلا يَعْقِدُهُ، وَيَتَّزِرُ بِالْإِزَارِ وَيَعْقِدُهُ، فَإِنْ طَرَحَ عَلَى كَتِفِهِ الْقَبَاءَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَإِنْ لَمْ يُدْخِلْ يَدَهُ فِي كُمَّيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وَيَجُوزُ لَهُ لُبْسُ الْهِمْيَانَ، وَيُدْخِلُ السُّيُورَ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ وَلا يَعْقِدُهَا، فَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ عَقَدَهَا. وَلا يَلْبَسُ الْمِنْطَقَةَ، فَإِنْ لَبِسَهَا افْتَدَى. وَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ لُبْسُ: الْقَمِيصِ، وَالسِّرْوَالِ، وَالْخِمَارِ، وَالْخُفِّ، وَلا تَلْبَسُ الْبُرْقُعَ وَلا النِّقَابَ وَلا الْقُفَّازَيْنِ، فَإِذَا أَرَادَتْ سَتْرَ وَجْهِهَا، سَدَلَتْ عَلَيْهِ مَا يَسْتُرُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْبَشْرَةِ، لِأَنَّ إِحْرَامَ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا فَيَجِبُ عَلَيْهَا كَشْفُهُ، كَمَا أَنَّ إِحْرَامَ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ. فَصْلٌ فَإِنْ طَيَّبَ الْمُحْرِمُ بَعْضَ عُضْوٍ وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لا فِدْيَةَ فِي النِّسْيَانِ، وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلَهُ. وَالْحِنَّاءُ لَيْسَ بِطِيبٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بَلْ هُوَ طِيبٌ. فَإِنْ خَضَّبَ لِحْيَتَهُ أَوْ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ بِالْحِنَّاءِ فَلا فِدْيَةَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. وَلا يَجُوزُ لَهُ لُبْسُ ثَوْبٍ مُبَخَّرٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ. فَأَمَّا إِذَا لَبِسَ ثَوْبًا كَانَ مُطَيَّبًا، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ إِذَا رُشَّ عَلَيْهِ مَاءٌ فَاحَ الطِّيبُ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ. وَإِذَا ادَّهَنَ بِالشَّيْرَجِ وَالزَّيْتِ فَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ رِوَايَتَانِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ دَهَنَ رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ، وَقَالَ فِي بَقِيَّةِ الْبَدَنِ: لا فِدْيَةَ. وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ شَمُّ جَمِيعَ الْأَدْهَانِ الْمُطَيِّبَةِ، وَكُلُّ مَا فِيهِ طِيبٌ يَظْهَرُ رِيحُهُ وَطَعْمُهُ فِي فَمِهِ، وَشَمُّ الْمِسْكِ وَالْكَافُورِ، وَالْعَنْبَرِ، وَالزَّعْفَرَانِ، وَالْوَرْسِ. وَهَلْ تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ بِشَمِّ شَيْءٍ مِنَ الرَّيَاحِينِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَلا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا يُتَّخَذُ مِنَ الطِّيبِ كَالْبَنَفْسَجِ وَالْوَرْدِ، وَبَيْنَ مَا لا يُتَّخَذُ مِنْهُ كَالْبُومِ وَالثُّمَامِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وَلِلشَّافِعِيِّ فِي شَمِّ الَّذِي يُتَّخَذُ مِنْهُ الطِّيبُ قَوْلانِ. وَيَجُوزُ لَهُ شَمُّ السَّفَرَجَلِ، وَالتُّفَّاحِ، وَالْبَطِّيخِ، وَالْأُتْرُجِّ، وَالشِّيحِ، وَالْقَيْصُومِ. فَإِنْ مَسَّ مِنَ الطِّيبِ مَا يَعْلَقُ بِيَدِهِ كَالْغَالِيَةِ وَمَاءِ الْوَردِ مُتَعَمِّدًا، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ مَسَّ مَا لا يَعْلَقُ بِيَدِهِ كَإِقْطَاعِ الْكَافُورِ وَالْعَنْبَرِ، فَلا فِدْيَةَ. فَأَمَّا شَمُّ ذَلِكَ فَفِيهِ الْفِدْيَةُ، لِأَنَّهُ كُلُّهُ يَسْتَعْمَلُ بِخِلافِ مَا لَوْ شَمَّ الْعُودَ فَإِنَّهُ لا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. فَإِنْ جَلَسَ عِنْدَ الْعَطَّارِ تَعَمُّدًا لِشَمِّ الطِّيبِ أَوْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ فِي وَقْتِ تَطْيِيبِهَا لِشَمِّ طِيبِهَا فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. فَصْلٌ فَإِنْ حَلَقَ ثَلاثَ شَعَرَاتٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَعَنْ أَحْمَدَ فِي أَرْبَعِ شَعَرَاتٍ دَمٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا يَجِبُ الدَّمُ إِلا فِي حَلْقِ رُبُعِ الرَّأْسِ فَصَاعِدًا. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ فِيمَا يَحْصُلُ بِزَوَالِهِ إِمَاطَةَ الْأَذَى. فَإِنْ حَلَقَ دُونَ الثُّلُثِ فَفِي كُلِّ شَعْرَةٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ، وَلِلشَّافِعِيِّ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: ثُلُثُ دَمٍ، وَالثَّانِي: مُدٌّ، وَالثَالِثُ: دِرْهَمٌ. فَإِنْ حَلَقَ الْمُحْرُمُ شَعْرَ حَلالٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَلْزَمُهُ صَدَقَةٌ. فَإِنْ حَلَقَ الْمُحْرِمُ شَعْرَ مُحْرِمٍ بِإِذْنِهِ، فَلا شَيْءَ عَلَى الْحَالِقِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ صَدَقَةٌ. فَإِنْ حَلَقَ الْحَلالُ شَعْرَ الْمُحْرِمِ نَائِمًا أَوْ مُكْرَهًا فَالْفِدْيَةُ عَلَى الْحَالِقِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَى الْمَحْلُوقِ. فَإِنْ خَرَجَ فِي عَيْنِهِ شَعْرٌ يُؤْلِمُهُ فَأَزَالَهُ، أَوْ نَزَلَ شَعْرُ عَينَيْهِ فَقَصَّ مِنْهُ مَا نَزَلَ، أَوِ انْكَسَرَ ظِفْرُهُ فَقَصَّ مَا انْكَسَرَ فَلا فِدْيَةَ. فَإِنْ قَلَعَ جِلْدَةً مِنْ رَأْسِهِ أَوْ بَدَنِهِ وَعَلَيْهَا شَعْرَةٌ فَلا فِدْيَةَ. فَصْلٌ وَإِذَا غَسَلَ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ بِالسِّدْرِ وَالْخِطْمِي فَهَلْ تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فَإِنْ قَلَّمَ ثَلاثَةَ أَظْفَارٍ لَزِمَهُ دَمٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا دَمَ إِلا فِي خَمْسَةِ أَظَافِيرَ مِنْ عُضْوٍ وَاحِدٍ. وَيَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ فِي الْمِرْآةِ، وَلا يُصْلِحُ شَعَثًا. فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى لُبْسِ الْمَخِيطِ لِبَرْدٍ، أَوْ تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ لِحَرٍّ، أَوْ إِلَى الطِّيبِ، أَوِ الْحَلْقِ لِمَرَضٍ، أَوْ ذَبْحِ الصَّيدِ لِلْمَجَاعَةِ، جَازَ لَهُ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. فَصْلٌ وَلا يَصِحُّ أَنْ يَعْقِدَ الْمُحْرِمُ عَقْدَ نِكَاحٍ لا لِنَفْسِهِ وَلا لِغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَعْقِدَهُ لِغَيْرِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ فِي الْحَالَيْنِ. وَهَلْ تَصِحُّ مُرَاجَعَتُهُ فِيهِ؟ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَبِالتَّصْحِيحِ قَالَ مَالكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَتُكْرَهُ لَهُ الْخِطْبَةُ وَالشَهَادَةُ عَلَى النِّكَاحِ. وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الْمُبَاشَرَةُ فِي الْفَرْجِ وَدُونَهُ، وَالاسْتِمْنَاءُ، فَإِنْ فَعَلَ وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ. فَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَقَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ فَسَدَ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ بَدَنَةٌ وَلا يَفْسُدُ، فَإِنْ وَطِئَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ. وَهَلْ تَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ أَوْ شَاةٌ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَيَسْتَأْنِفُ إِحْرَامًا مِنَ التَّنْعِيمِ، وَيَأْتِي بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، وَبِالطَّوَافِ، وَالسَّعْيِ، وَبَقِيَّةِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ إِحْرَامِهِ وَلا عُمْرَةٍ، وَإِنَّمَا نَأْمُرُهُ نَحْنُ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ رُكْنٌ يُؤْتَى بِهِ فِي الْإِحْرَامِ فَكَانَ مِنْ شَرْطِهِ إِحْرَامٌ صَحِيحٌ كَالْوُقُوفِ. فَصْلٌ فَإِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ الْمُحَرَّمَ لَزِمَهُ دَمٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَهَلْ ذَلِكَ الدَّمُ بَدَنَةٌ أَمْ شَاةٌ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لا دَمَ عَلَيْهِ. فَإِنْ وَطِئَ نَاسِيًا فَسَدَ حَجُّهُ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا لا يَفْسُدُ. وَاللِّوَاطُ وَإِتْيَانُ الْبَهَائِمِ وَفِي الْمَوْضِعَ الْمَكْرُوهِ يُفْسِدُ الْحَجَّ، وَقَالَ أبُو حَنِيفَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 رَحِمَهُ اللَّهُ: لا يُفْسِدُ، فَإِنْ أَفْسَدَ الْعُمْرَةَ بِالْوَطْءِ لَزِمَهُ شَاةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ، فَإِنْ وَطِئَ الْقَارِنُ، لَزِمَهُ دَمٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: دَمَانِ. فَإِنْ أَفْسَدَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي فَاسَدِهِمَا، وَقَالَ دَاوُدُ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا كَمَا يَخْرُجُ مِنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ. فَصْلٌ وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ الصَّيْدُ، فَإِنْ صَادَ صَيْدًا لَمْ يَمْلِكْهُ، فَإِنْ أَحْرَمَ وَعَلَى مُلْكِهِ صَيْدٌ لَمْ يَزُلْ مُلْكُهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ يَدِهِ الْمُشَاهِدَةِ دُونَ الْحَكَمِيَّةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَزُولُ مُلْكُهُ عَنْهُ. فَإِنْ أَدَخَلَ الْمُحِلُّ صَيْدًا لَهُ إِلَى الْحَرَمِ لَزِمَهُ إِرْسَالُهُ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لا يَلْزَمُهُ. فَإِنْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا لَهُ مِثْلٌ، ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ، فَتَجِبُ فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ وَبَقَرَةِ الْوَحْشِ وَالْإِبِلِ وَالْوَعْلِ وَالْثَيْتَلِ بَقَرَةٌ، وَفِي الضَّبُعِ وَالظَّبْيِ كَبْشٌ، وَفِي الْغَزَالِ وَالثَّعْلَبِ عَنْزٌ، وَفِي الْأَرْنَبِ عِنَاقٌ، وَالْعِنَاقُ اسْمٌ لَهَا قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ جَذْعَةً، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ، وَهِيَ الْعِنَاقُ إِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَفِي الضَّبِ جَدْيٌ، وَفِي الصَّغِيرِ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ صَغِيرٌ، وَفِي الْكَبِيرِ كَبِيرٌ، وَفِي الْمَعِيبِ مَعِيبٌ. فَإِنْ كَانَ الصَّيدُ لا مِثْلَ لَهُ كَالْعَصَافِيرِ وَالْقَنَابِرِ، ضَمِنَهُ بِقِيمَتِهِ إِلا الْحَمَامَ. وَمَا عَبَّ وَهَدَرَ مِثْلَ الْفَوَاخْتِ وَالْقِطَارِ وَالْقَبْجِ فَفِي الْوَاحِدَةِ شَاةٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَضْمَنُ الْكُلَّ بِقِيمَتِهِ. فَإِنْ جَنَى عَلَى صَيْدٍ ضَمِنَهُ بِمَا نَقَصَ، وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ: لا يَضْمَنُهُ. فَإِنْ قَتَلَ صَيْدًا خَطَأً فَفِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ رِوَايَتَانِ. فَإِنْ دَلَّ وَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى صَيْدٍ، لَزِمَهُ الْجَزَاءُ، وَقَالَ، مَالكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لا يَلْزَمُهُ. وَإِنِ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي صَيْدٍ، فَعَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مُنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وَمَا لا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَلا هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، لا يَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ كَالسَّبُعِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُضْمَنُ بِالْجَزَاءِ، إِلا أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الاتِفَاقُ عَلَى قَتْلِ الْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ؛ فَإِنَّهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَحَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: " خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأَرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ ". وَذِكْرُ هَذِهِ الْخَمْسَةِ قَدْ نَبَّهَ عَلَى قَتْلِ كُلِّ مُضِرٍّ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْفَهْدَ، وَالنِّمِرَ، وَالْبَعُوضَ، وَالصَّقْرَ، وَالشَّاهِينَ، وَالْبَاشَقَ، وَالزُّنْبُورَ، وَالْبَرْغُوثَ، وَالْبَقَّ، وَالْبَعُوضَ، وَالْوَزَغَ، وَالذُّبَابَ، وَالنَّمْلَ، إِذَا آذَاهُ، فَأَمَّا الْقُمَّلُ وَالصِّئْبَانُ فَفِي قَتْلِهِنَّ رِوَايَتَانِ. فَإِنْ صَالَ صَيْدٌ عَلَى الْمُحْرِمِ فَقَتَلَهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: لا جَزَاءَ. وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ خِلافًا لِدَاوُدَ. وَإِذَا رَمَى الْمُحْرِمُ صَيْدًا فِي غُصْنٍ فِي الْحِلِّ وَأَصْلُهُ فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ، فَهَلْ يَضْمَنُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَيَبْقَى الضَّمَانُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ رَمَى وَهُوَ فِي الْحَرَمِ صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَهَلْ يَضْمَنُهُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَضْمَنُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَالثَانِيَّةُ: لا يَضْمَنُهُ. وَإِذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَهُوَ مَيْتَةٌ خِلافًا لِأَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. فَإِنْ ذَبَحَ الْحَلالُ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ، فَعِنْدَنَا أَنَّهَا مَيْتَةٌ أَيْضًا. وَقَالَ أَكْثَرُ الَحْنفِيَّةِ: يُبَاحُ. فَإِنِ اضْطَرَّ الْمُحْرِمُ إِلَى أَكْلِ صَيْدٍ وَمَيْتَةٍ، أَكَلَ الْمَيْتَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 قَوْلَيْهِ: يَأَكُلُ الصَّيْدَ وَعلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ أَكْلُ مَا صِيدَ لَأَجْلِهِ، وَقَالَ أبْو حَنِيفَةَ: لا يَحْرُمُ، فَإِنْ أَكَلَ، فَعِنْدَنَا أَنَّ عَلَيْهِ الضَّمَانُ خِلافًا لِأَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِي. فَصْلٌ وَقَطْعُ شَجَرِ الْحَرَمِ مَضْمُونٌ خِلافًا لِدَاوُدَ، وَيَضْمَنُ الشَجَرَةَ الْكَبِيرَةَ بِبَقَرَةٍ، وَالصَّغِيرَةَ بِشَاةٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَضْمَنُ الْجَمِيعَ بِالْقِيمَةِ. وَلا يَجُوزُ أَنْ يَرْعَى حَشِيشَ الْحَرَمِ خِلافًا لِلشَّافِعِيِّ. وَيَجُوزُ قَطْعُ مَا أَنَبَتَهُ الْآدَمِيُّونَ مِنَ الشَّجَرِ بِالْحَرَمِ، فَأَمَّا مَا نَبَتَ بِنَفْسِهِ فَلا، وَإِنْ قَطَعَهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يُنْبِتُهُ الْآدَمِيُّونَ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا أَنْبَتَهُ النَّاسُ أَوْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ، فَلا ضَمَانَ فِي قَطْعِهِ بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لا يُنْبِتُهُ النَّاسُ فَفِيهِ الْجَزَاءُ إِذَا نَبَتَ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ أَنْبَتَهُ آدَمِيٌّ فَلا جَزَاءَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجِبُ الْجَزَاءُ بِإِتْلافِ جَمِيعِ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ قَطْعُ الشَّجَرِ: الْيَابِسِ، وَالْعَوْسَجِ، وَالشَّوْكِ، وَالْإِذْخَرِ، وَلا ضَمَانَ. فَصْلٌ فَإِنْ كَرَّرَ الْمُحْرِمُ الْمَحْظُورَ، مَثْلَ أَنْ حَلَقَ ثُمَّ حَلَقَ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَعَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَ كَرَّرَهُ لِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لَبِسَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لِلْبَرْدِ، وَفِي أَوْسَطِهِ لِلْحَرِّ، وَفِي آخِرِهِ لِمَرَضٍ: فَكَفَّارَاتٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ التَّكْرَارُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَكَفَّارَةٌ وَاحَدَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ فَكَفَّارَاتٌ. فَصْلٌ وَيُجْزِئُ فِي الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ فِي الْجُبْرَانِ الْجِذْعُ مِنَ الضَّأْنِ، وَهُوَ مَا لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَقَدْ دَخَلَ فِي السَّابِعِ، وَالثَّنِيُّ مِمَّا سِوَاهُ، وَالثَّنِيُّ مِنَ الْمَعْزِ مَا لَهُ سَنَةٌ وَقَدْ دَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ، وَمِنَ الْبَقَرِ مَا لَهُ سَنَتَانِ وَقَدْ دَخَلَ فِي الثَالِثَةِ، وَمِنَ الْإِبِلِ مَا لَهُ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ وَقَدْ دَخَلَ فِي السَّادِسَةِ. فَصْلٌ وَمَا وَجَبَ مِنَ الدِّمَاءِ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى وَمَا فِي مَعْنَاهَا، مِنْ شَمِّ الطِّيبِ وَلُبْسَ الْمَخِيطِ جَائِزٌ نَحْرُهُ حَيْثُ وُجِدَ سَبَبُهُ مِنْ حِلٍّ أَوْ حَرَمٍ، وَكَذَلِكَ الْهَدْيُ الْوَاجِبُ بِالْإِحْصَارِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْإِحْصَارِ مُخْتَصٌّ بِالْحَرَمِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وَأَمَّا مَا وَجَبَ فِي الدِّمَاءِ لِتَرْكِ نُسُكٍ، كَدَمِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، وَطَوَافِ الْوَدَاعِ، وَالْهَدْيِ الْمَنْذُورِ، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ، فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ نَحْرُهُ وَتَفْرِقَةُ لَحْمِهِ بِالْحَرَمِ. وَلا يَأْكُلُ مِنَ الدِّمَاءِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِحْرَامِ إِلا مِنْ دَمِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، وَيَأْكُلُ مِنَ التَّطَوُّعِ إِذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّانِيَةُ: لا يَأْكُلُ مِنَ الْمَنْذُورِ إِلا مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَيُؤْكَلُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ. وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَأْكُلُ مِنَ الْهَدْيِ كُلِّهِ إِلا مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَفِدْيَةِ الْأَذَى، وَنَذْرِ الْمَسَاكِينِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لا يُؤْكَلُ إِلا مِنَ التَّطَوُّعِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 بَابٌ الْإِشَارَةُ فِي الْإِحْرَامِ وَالتَّلْبِيَةُ وَأَفْعَالُ الْحَجِّ يَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَصَوَّرَ عِنْدَ إِحْرَامِهِ إِجَابَةَ الدَّاعِي، وَعِنْدَ تَجَرُّدِهِ مِنَ الْمَخِيطِ لُبْسَ الْكَفَنِ، وَعِنْدَ التَّلْبِيَةِ نِدَاءَ الْحَقِّ. وَمَنْ تَلَمَّحَ الْعِبَادَاتِ بِعَيْنِ الْتَفَهُّمِ عَلَى أَنَّهَا مُلازَمَةُ رَسْمٍ يَدُلُّ عَلَى بَاطِنٍ، مَقْصُودُهُ تَزْكِيَّةُ النَّفْسِ، وَإِصْلاحُ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ التَّعَبُّدِ هُوَ صَرْفُ الْقَلْبِ إِلَى الرَّبِّ، فَلَمَّا كَانَ طَبْعُ الْآدَمِيِّ يَنْبُو عَنِ التَّعَبُّدِ شُغُلا بِالْهَوَى، وُظِّفَتْ وَظَائِفَ تُدَرِّجُهُ لِيَتَرَقَّى مِنَ الْفَرَائِضِ إِلَى الْفَضَائِلِ، وَاعْتَبَرَ جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ، مِنْهَا الْحَجُّ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا وُظِّفَتْ لِلتَدْرِيجِ إِلَى حَمْلِ الْمَشَاقِّ، فَنَبَّهَ الْمُسَافِرَ عِنْدَ تَرْكِ الْأَهْلِ عَلَى قَطْعِ الْعَلائِقِ الشَّاغِلَةِ لِيَتَفَرَّدَ بِخِدْمَةِ الْحَقِّ. فَتَفَكَّرْ فِي ذَلِكَ وَانْظُرْ بِأَيِّ بَدَنٍ تَقْصِدُهُ، وَبِأَيِّ بَاطِنٍ تَحْضُرُ، فَإِنَّهُ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ، وَإِذَا أَمَرَكَ الْحَزْمُ بِإِكْثَارِ الزَّادِ خَوْفَ الْعَوَذِ، فَاعْلَمْ أَنَّ سَفَرَ الْقِيَامَةِ أَطْوَلُ، وَعَطَشَ الْمَحْشَرِ أَقْطَعُ، وَتَذَكَّرْ بِقَطْعِ الْعِقَابِ الْأَهَوَالَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَبِالْمَوْقِفِ مَوْقِفَ الْقِيَامَةِ، وَبِالتَّعَلُّقِ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ تَمَسُّكَ الْمُذْنِبِ بِذَيْلِ الْمَالِكِ، وَبِالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ الْفِرَارَ مِنْهُ إِلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا كَانَ حَجُّ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَخَايَلُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَجَدَّدَ لَهُمُ الْقَلَقُ، هَيْبَةً لِلْمَخْدُومِ، وَخَوْفًا مِنَ الرَّدِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 بَابٌ ذِكْرُ أَحْوَالٍ جَرَتْ لِلْخَائِفِينَ مِنَ الْمُحْرِمِينَ حَجَّ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَلَمَّا أَحْرَمَ وَاسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، اصْفَرَّ لَوْنُهُ وَارْتَعَدَ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُلَبِّيَ، فَقِيلَ: مَا لَكَ لا تُلَبِّي؟ قَالَ: أَخْشَى أَنْ يَقُولَ لِي: لا لَبَّيْكَ وَلا سَعْدَيْكَ. فَلَمَّا لَبَّى غُشِّيَ عَلَيْهِ. وَلَمَّا حَجَّ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ فَأَرَادَ أَنْ يُلَبِّيَ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ، فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ أُلَبِّيَ، فَأَخَافُ أَنْ أَسْمَعَ غَيْرَ الْجَوَابِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: كُنْتُ مَعَ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ حِينَ أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ، فَلَمْ يُلَبِّ حَتَّى سِرْنَا مِيلا، ثُمَّ غُشِّيَ عَلَيْهِ فَأَفَاقَ، وَقَالَ: يَا أَحْمَدُ، أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: مُرْ ظَلَمَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا يَذْكُرُونِي، فَإِنِّي أَذْكُرُ مَنْ ذَكَرَنِي مِنْهُمْ بِاللَّعْنَةِ. وَيْحَكَ يَا أَحْمَدُ، بَلَغَنِيَ أَنَّ مَنْ حَجَّ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، ثُمَّ لَبَّى، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لا لَبَّيْكَ وَلا سَعْدَيْكَ، حَتَّى تَرُدَّ مَا فِي يَدَيْكَ، فَمَا آمَنُ أَنْ يُقَالَ لَنَا ذَلِكَ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبِدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 أَبِي صَادِقٍ، قَالا: أَنْبَأَنَا ابْنُ بَاكَوَيْهِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ أَحْمَدَ الْفَارِسِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ دَاوُدَ الدَّيْنَوَرِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ الْجَلاءِ، يَقُولُ: " كُنْتُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَشَابٌّ يُرِيدُ أَنْ يُحْرِمَ، فَكَانَ يَقُولُ: يَا رَبِّ، أُرِيدُ أَنْ أَقُولَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، فَأَخْشَى أَنْ تُجِيبَنِي: لا لَبَّيْكَ وَلا سَعْدَيْكَ، يُرَدِّدُ ذَلِكَ مِرَارًا، ثُمَّ قَالَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ، مَدَّ بِهَا صَوْتَهُ، وَخَرَجَتْ رُوحُهُ « الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 بَابٌ مَنْ مَاتَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ مُحْرِمًا أَوْ غَيْرَ مُحْرِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،» أَنَّ رَجُلا عَرَضَتْ لَهُ نَاقَتُهُ، فَوَقَصَتْهُ، فَمَاتَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُغَسَّلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَأَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلا يُقَرِّبُوهُ طِيبًا وَلا يُغَطُّوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعثُ يَومَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْإِحْرَامِ لا يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَدَاوُدَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمَالِكٌ: يَنْقَطِعُ، وَفِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُقْرِئُ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الشَّهْرِ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْحُلْوَانِيُّ، أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ السَّمَّاكِ، عَنْ عَائِذِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ مَاتَ فِي هَذَا الطَّرِيقَ مِنْ حَاجٍّ أَوْ مُعْتَمِرٍ لَمْ يُعْرَضْ وَلَمْ يُحَاسَبْ، وَقِيلَ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ " وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ ضَمَانُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ أَدْخَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قَلَبَهُ قَلَبَهُ مَغْفُورًا لَهُ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 بَابُ فَضَائِلِ الْعَشْرِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْفَجْرِ {1} وَلَيَالٍ} [الفجر: 1-2] الْفَجْرُ: انْفِجَارُ الظُّلْمَةِ عَنِ الصُّبْحِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: فَجْرُ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ، فَجْرُ يَوْمِ النَّحْرِ خَاصَّةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: الْلَيَالِ الْعَشْرِ: هِيَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ. وَقَوْلُهُ: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3] فِي كَسْرِ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ، فَالْكَسْرُ لِقُرَيْشٍ وَتَمِيمٍ وَأَسَدٍ، وَالْفَتْحُ لِأَهْلِ الْحِجَازِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَلِلمُفَسِّرِينَ فِي الْمُرَادِ بِالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ عِشْرُونَ قَوْلا: أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّفْعَ: يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ الْأَضْحَى، وَالْوَتْرَ: لَيْلَةُ النَّحْرِ، رَوَاهُ أَبُو أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّفْعَ: يَوْمُ النَّحْرِ، وَالْوَتْرَ يَوْمُ عَرَفَةَ، رَوَاهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الشَّفْعَ وَالْوَتْرَ: الصَّلاةُ، مِنْهَا الشَّفْعُ، وَمِنْهَا الْوَتْرُ، رَوَاهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الشَّفْعَ: صَلاةُ الْغَدَاةِ، وَالْوَتْرَ: صَلاةُ الْمَغْرِبِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ الشَّفْعَ: الْخَلْقُ كُلُّهُ، وَالْوَتْرَ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَالسَّادِسُ: أَنَّ الوَتْرَ: آدَمُ شُفِعَ بِزَوْجِهِ. وَالْأَقْوَالُ الثَّلاثَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَالسَّابِعُ: أَنَّ الشَّفْعَ: يَوْمَانِ بَعْدَ النَّحْرِ، وَهُوَ النَّفْرُ الْأَوَّلُ، وَالْوَتْرَ: الْيَوْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ النَّفْرُ الْأَخِيرُ، قَالَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وَالثَّامِنُ: الشَّفْعُ: الرَّكْعَتَانِ مِنَ الْمَغْرِبِ، وَالْوَتْرَ: الثَّالِثَةُ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. وَالتَّاسِعُ: أَنَّ الْعَدَدَ، مِنْهُ شَفْعٌ، وَمِنْهُ وَتْرٌ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَالْعَاشِرُ: أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُ، مِنْهُ شَفْعٌ، وَمِنْهُ وَتْرٌ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَالْحَادِي عَشَرَ: أَنَّ الشَّفْعَ: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى {إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] ، وَالْوَتْرَ: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، قَالَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. وَالثَّانِي عَشَرَ: أَنَّ الشَّفْعَ: آدَمُ وَحَوَّاءُ. وَالْوَتْرَ: اللَّهُ تَعَالَى، قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ. وَالثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ الشَّفْعَ: الْأَيَّامُ وَالْلَيَالِي، وَالْوَتْرَ: الْيَوْمُ الَّذِي لا لَيْلَةَ بَعْدَهُ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ. وَالرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ الشَّفْعَ: عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْوَتْرَ: أَيَّامُ مِنًى الثَّلاثَةُ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَالْخَامِسَ عَشَرَ: الشَّفْعُ: دَرَجَاتُ الْجِنَانِ؛ لِأَنَّهَا ثَمَانٍ، وَالْوَتْرُ: دَرَكَاتُ النَّارِ؛ لِأَنَّهَا سَبْعٌ، قَالَهُ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ. وَالسَّادِسَ عَشَرَ: الشَّفْعُ: الصَّفَا وَالْمَرْوَةُ، وَالْوَتْرُ: الْبَيْتُ. وَالسَّابِعَ عَشَرَ: الشَّفْعُ: مَسْجَدُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَالْوَتْرُ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ. وَالثَّامِنَ عَشَرَ: الشَّفْعُ: الْقِرَانُ فِي الْحَجِّ، وَالْوَتْرُ: الْإِفْرَادُ. وَالتَّاسِعَ عَشَرَ: الشَّفْعُ: الْعِبَادَاتُ الْمُتَكَرِّرَةُ كَالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، وَالْوَتْرُ: الْعِبَادَةُ الَّتِي لا تُكَرَّرُ، وَهُوَ الْحَجُّ، حَكَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْأَرْبَعَةَ الثَّعَلَبِيُّ. وَالْعِشْرُونَ: الشَّفْعُ: تَضَادِيَّةُ أَوْصَافِ الْمَخْلُوقِينَ، بَيْنَ عِزٍّ وَذُلٍّ، وَقُدْرَةٍ وَعَجْزٍ، وَعِلْمٍ وَجَهْلٍ، وَحَيَاةٍ وَمَوْتٍ، وَالْوَتْرُ: انْفِرَادُ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: عِزٌّ بِلا ذُلٍّ، وَقُدْرَةٌ بِلا عَجْزٍ، وَحَيَاةٌ بِلا مَوْتٍ، وَعِلْمٌ بِلا جَهْلٍ، قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وَقَوْلُهُ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرَمَةُ: هِيَ لَيْلَةُ جَمْعٍ. أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، أَنْبَأَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، أَنْبَأَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ» يَعْنِي: أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» . انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْفَقِيهُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ النّقورِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ مَرْدَكٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا أَصْبَغُ، أَنْبَأَنَا الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ الَّلهِ وَلا أَعْظَمُ مَنْزَلةً مِنْ خَيْرِ عَمَلٍ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى» . فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلا مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ. قَالَ: «وَلا مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، إِلا مَنْ لَمْ يَرْجِعْ بِنَفْسِهِ» أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، أَنْبَأَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 عِنْدَ اللَّهِ وَلا أَحَبُّ إِلَيْهِ فِيهِنَّ الْعَمَلُ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ التَّحْمِيدَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّكْبِيرَ» أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ بِشْرَانَ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ خُزَيْمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْجَحْدَرِيُّ، أَنْبَأَنَا عَاصِمُ بْنُ هِلالٍ، أَنْبَأَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي الزُّهَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَفْضَلَ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلا مَنْ عَفَّرَ وَجَهَهُ فِي التُّرَابِ» أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ رِزْقَوَيْهِ، أَنْبَأَنَا حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَفِيعٍ الْقَبَبْسِيُّ، وأَنْبَأَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ، أَنْبَأَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ مَهْدِيٍّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ الْعَطَّارُ، أَنْبَأَنَا عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالا: أَنْبَأَنَا مَسْعُودُ بْنُ وَاصِلٍ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، أَنْبَأَنَا النَّهَّاسُ بْنُ قَهْمٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ذَكَرَ أَن ّالنَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامٌ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ، يَعْدِلُ صِيَامُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا صِيَامَ سَنَةٍ، وَقِيَامُ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْهَا كَقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 أَخْبَرَنَا ابْنُ عَبْدِكَ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، أَنْبَأَنَا عُثْمَانُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، أَنْبَأَنَا ابْنُ أَبِي عَمْرَةَ الْمَكِّيُّ، أَنْبَأَنَا عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صِيَامُ كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الْعَشْرِ يَعْدُلُ صِيَامَ سَنَةٍ» أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنْبَأَنَا شُجَاعُ بْنُ مَخْلَدٍ، أَنْبَأَنَا هِشَامٌ، أَنْبَأَنَا حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، أَنْبَأَنَا شُجَاعُ بْنُ مَخْلَدٍ، أَنْبَأَنَا هِشَامٌ، أَنْبَأَنَا أَبُو عُثْمَانَ، قَالَ: " كَانُوا يُفَضِّلُونَ ثلاثَ عَشَرَاتٍ: الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنَ الْمُحَرَّمِ " وَبَهِ قَالَ: أَنْبَأَنَا الْقُرَشِيُّ، أَنْبَأْنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَنْبَأَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: «مَا مِنَ الشُّهُورِ أَعْظَمُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ، وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَنْبَأَنَا زُهَيْرُ بْنُ طَاهِرٍ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيدِ اللَّهِ الصَّرَّامُ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافَظُ، أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَافِظُ، أَنْبَانَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّيْنَوَرِيُّ، حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَليِدِ الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عِيسَى، أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ وَلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الْعَمَلُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى الَلهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ، أَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا التَهْلِيلَ وَالتَّكْبِيرَ، فَإِنَّهَا أَيَّامُ تَكْبِيرٍ وَتَهْلِيلٍ، وَذِكْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّ صِيَامَ يَوْمٍ يَعْدِلُ بِصِيَامِ سَنَةٍ، وَالْعَمَلُ فِيهِنَّ يُضَاعَفُ بِسَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونَ، وَأَبُو الْحَسيَنِ بْنُ الطُّيُورِيِّ، وَأَبُو الْحَسيَنِ بْنُ، قَالُوا: أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْعَبَّادَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدَةَ الْقَاضِي، حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ وَهْبٍ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُحْرِمِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، تَقُولُ: كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ يُحِبُّ السَّمَاعَ، يَعْنِي: الْغِنَاءَ، فَكَانَ إِذَا أَهَلَّ هِلالُ ذِي الْحِجَّةِ أَصْبَحَ صَائِمًا، فَاتَّصَلَ الْحَدِيثُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَحْضَرَ الرَّجُلَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى صِيَامِ هَذِهِ الْأَيَّامِ؟» قَالَ: يَا رِسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا أَيَّامُ الْمَشَاعِرِ، وَأَيَّامُ الْحَجِّ، فَأَحْبَبَتُ أَنْ يُشْرِكَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي دُعَائِهِمْ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَكَ بِعَدَدِ كُلِّ يَوْمٍ تَصُومُهُ عِتْقُ مِائَةِ رَقَبَةٍ، وَمِائَةُ بَدَنَةٍ تُهْدِيهَا، وَمِائَةُ فَرَسٍ تَحْمِلُ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ فَلَكَ عِتْقُ أَلْفَيْ رَقَبَةٍ، وَأَلْفَا بَدَنَةٍ تُهْدِيهَا، وَأَلْفَا فَرَسٍ تَحْمِلُ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَصِيَامُ سَنةٍ قَبْلَهَا وَسَنَةٍ بَعْدَهَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، فَلَكَ عِتْقُ أَلْفِ رَقَبَةٍ، وَأَلْفُ بَدَنَةٍ تُهْدِيهَا، وَأَلْفُ فَرَسٍ تَحْمِلُ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . هَكَذَا الْإِسْنَادُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَقَدْ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَابْنُ نَاصِرٍ، قَالا: أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الْخَطِيبِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ رِزْقَوَيْهِ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الصَّمدِ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا أَبُو مَسْعُودٍ الْحَارِثِيُّ، أَنْبَأَنَا إِسْحَاقُ بْنُ وَهْبٍ، أَنْبَأَنَا مَنْصُورُ بْنُ الْمُهَاجِرِ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُحْرِمِ، فَذَكَرَهُ وَهُوَ أَشْبَهُ أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ الْعَلافِ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْحَمَامِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الصَّوَّافِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ، أَنْبَأَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ السَّلُولِيِّ، عَنْ كَعْبٍ، قَالَ: «اخْتَارَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الزَّمَانَ، فَأَحَبُّ الزَّمَانِ إِلَى اللَّهِ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ، وَاخْتَارَ الْأَشْهُرَ، فَأَحَبُّ الْأَشْهُرِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ذُو الْحِجَّةِ، وَأَحَبُّ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْعَشْرُ الْأُوَلُ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 بَابُ ذِكْرِ لَيْلَةِ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمِ التَّرْوِيَةِ أَنْبَأَنَا زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو سَعْدٍ الْكَنْجَرُوذِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو سَعِيدٍ الصَّيْرَفِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ، أَنْبَأَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ زَيْدٍ الْعَمِّيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَحْيَا الْلَيَالِيَ الْأَرْبَعَ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ: لَيْلَةَ التَّرْوِيَةِ، وَلَيْلَةَ عَرَفَةَ، وَلَيْلَةَ النَّحْرِ، وَلَيْلَةَ الْفِطْرِ " أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَنْبَارِيُّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ رِزْقَوَيْهِ، أَنْبَأَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بِنْتِ حَاتِمٍ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ الْمُقْرِئُ، أَنْبَأَنَا أَبُو بِلالٍ الْأَشْعَرِيُّ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُحَيْرِيُّ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ الْعَشْرَ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ شَهْرٌ، وَلَهُ بِصَوْمِ التَّرْوِيَةِ سَنَةٌ، وَلَهُ بِصَوْمِ عَرَفَةَ سَنَتَانِ» . وَقَدْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 ذَكَرْنَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ ثَوَابَ صَوْمِ التَّرْوُيَةِ أَيْضًا قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَقِيهِ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ طَالِبٍ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِشْكَابٍ، حَدَّثَنَا الْمُعَافَى بْنُ سُلَيْمَانَ، أَنْبَأَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ إِسْحَاقَ بن مَعِينِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: «إِنَّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ سُمِّيَّ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، لِأَنَّ عَرَفَاتٍ لَمْ يَكُنْ بِهَا مَاءٌ، فَكَانُوا يَتَرَوُّونَ مِنَ الْمَاءِ إِلَيْهَا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 بَابُ ذِكْرِ لَيْلَةِ عَرَفَةَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ كَعْبٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أَنْبَأَنَا سَعِيدُ بْنُ عِيسَى بْنِ مَعِنٍ، أَنْبَأَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " يُفْتَحُ الْخَيْرُ فِي أَرْبَعِ لَيَالٍ سَحًّا: الْأَضْحَى، وَالْفِطْرِ، وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَيْلَةِ عَرَفَةَ إِلَى الْأَذَانِ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 أَبْوَابُ عَرَفَةَ بَابٌ فِي مَعْنَى هَذِهِ التَّسْمِيَةِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أُهْبِطَ بِالْهِنْدِ، وَأُهْبِطَتْ حَوَّاءُ بِجَدَّةَ فَتَعَارَفَا عِنْدَ أَرْضِ عَرَفَةَ، فَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ يُرِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ الْمَنَاسِكَ، فَيَقُولُ: عَرَفْتَ، فَسُمِّيَتْ لِذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 بَابُ ذِكْرِ فَضَائِلِ يَوْمِ عَرَفَةَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْأَوَّلِ بْنُ عِيسَى، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّاوُدِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمُّوَيْهِ، أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ خُرَيْمٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالا: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو عُمَيْسٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ آيَةً فِي كِتَابِكُمْ، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ: فَأَيُّ آيَةٍ هِيَ؟ قَالَ: قَوْلُهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالسَّاعَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، يَوْمَ جُمُعَةٍ ". زَادَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي رِوَايَتِهِ: «وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتٍ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ» . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْحَجَّةَ الَّتِي حَجَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هِيَ حَجَّةُ الْوَدَاعِ، وَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ سِوَاهَا، وَقَدْ قِيلَ: إِذَا وَافَقَ يَوْمُ جُمُعَةٍ يَوْمَ عَرَفَةَ غُفِرَ لِكُلِّ أَهْلِ عَرَفَةَ. بَابُ ذِكْرِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ زَمَانُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى وَقَتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، فَأَيُّ وَقْتٍ حَصَّلَ بِعَرَفَةَ مِنْ هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ عَاقِلٌ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ. فَإِنْ وَقَفَ نَهَارًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ دَمٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 بَابٌ فِي كَثْرَةِ الْعِتْقِ وَالْغُفْرَانِ يَوْمَ عَرَفَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَنْصَارِيُّ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرَوَيْهِ، أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، أَنْبَأَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، أَنْبَأَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالا: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بَكِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ يُونُسَ بْنَ يُوسُفَ، يَقُولُ: عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرُ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبِيدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإنَّهُ لَيَدْنُو عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَاذَا أَرَادَ هَؤُلاءِ؟ " انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ، أَنْبَأَنَا ابْنُ رِزْقَوَيْهِ، أَنْبَأَنَا حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مَرْزُوقٍ مَوْلَى طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِكُمُ الْمَلائِكَةَ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعُثًا غُبُرًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، أُشْهِدُكُمْ أَنَّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ. فَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ: رَبِّ غَفَرْتَ، إِنَّ فِيهِمْ فُلانًا وَفُلانَةً. فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرُ عِتْقًا مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ «. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وَقَدْ رَوَاهُ أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَزَادَ فِيهِ» وَلا يُغْفَرُ فِيهِ لِمُخْتَالٍ " أَنْبَأَنَا الْقُرَشِيُّ، أَنْبَأَنَا إِسْحَاقُ بْنُ بُهْلُولٍ، وَأَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، أَنْبَأَنَا الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ لُؤْلُؤٍ، أَنْبَأَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَافْلانِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْوَلِيدُ بْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي الصَّبَّاحُ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي دَاوُدَ السَّبِيعِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «لا يَبْقَى أَحَدٌ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ إِلا غُفِرَ لَهُ» . فَقَالَ رَجُلٌ: لِأَهْلِ عَرَفَاتٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً؟ قَالَ: «بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةً» وَبِهِ، قَالَ: نَبَّأَنَا الْقُرَشَيُّ، أَنْبَأَنَا إِسْحَاقُ بْنُ حَاتِمٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنْبَأَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا رُؤِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ أَصْغَرُ، وَلا أَحْقَرُ، وَلا أَدْحَرُ، وَلا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلا أَنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ فِيهِ فَيَتَجَاوَزُ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأَنَا ابْنُ الْعَلافِ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْحَمَامِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا قَيْسٌ، عَنْ سَعْدٍ الْخَفَّافِ، عَنِ الْأُصْبُعِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَاهَى بِكُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَغَفَرَ لَكُمْ عَامَّةً» . وَأَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْعَلافُ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْحَمَامِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الصَّوَّافِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَعَبَّادٌ هَذَا بِفَتْحِ الْعَيْنِ ! 208 وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: «إِذَا وَقَفْتَ بِعَرَفَاتٍ فَلَوْ كَانَتْ عَلَيْكَ ذُنُوبُ النَّاسِ، أَوْ مِثْلُ رَمْلِ عَالِجٍ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ» أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ، وَالْمُبَارَكُ، قَالا: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: سَمُعْتُ أَبَا بَكْرٍ الْمُفِيدَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفِهْرِيُّ، قَالَ: " نَظَرَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ إِلَى نَشِيجِ النَّاسِ وَبُكَائِهِمْ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَقَالَ: " أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ هَؤُلاءِ صَارُوا إِلَى رَجُلٍ فَسَأَلُوهُ دَانِقًا أَكَانَ يَرُدُّهُمْ؟ قِيلَ لَهُ: لا. قَالَ: وَاللَّهِ لَلْمَغْفِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَهْوَنُ مِنْ إِجَابَةِ رَجُلٍ لَهُمْ بِدَانِقٍ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 بَابٌ فِي ذِكْرِ ثَوَابِ صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْأَنْمَاطِيُّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ النّقورِ، وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّوْزَانِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ، قَالا: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا كَامِلُ بْنُ طَلْحَةَ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا غَيْلانُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ رَجُلا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ صِيَامَ عَرَفَةَ، قَالَ: «احْتَسِبْ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الْبَاقِيَّةَ وَالْمَاضِيَّةَ» . انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقَطِيعِيُّ، أَنْبَأَنَا عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهِيَ صَائِمَةٌ وَالْمَاءُ يُرَشُّ عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهَا: أَفْطِرِي، فَقَالَتْ: أُفْطِرُ، وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» فَصْلٌ وَاعْلَمْ أَنَّ صَوْمَ عَرَفَةَ يُكْرَهُ لِلحَاجِّ لِمَعْنَيَيْنِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ ضَيْفُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلا يَحْسُنُ صَوْمُ الضَّيْفُ عِنْدَ الْمُضِيفِ. وَالثَّانِي: لِيَتَقَوَّى عَلَى الدُّعَاءِ. أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الْمَدِينِيُّ، أَنْبَأَنَا جَابِرُ بْنُ يَاسِينَ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، قَالا: أَنْبَأَنَا الْمُخَلِّصُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ صَاعِدٍ، أَنْبَأَنَا ابْنُ بُهْلُولٍ، أَنْبَأَنَا إِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ، أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَصُمْ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَمَعَ عُمَرَ فَلَمْ يَصُمْهُ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ النَّاسَ شَكُّوا فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِحِلابٍ وَهُوَ وَاقِفٌ فِي الْمَوْقِفِ، فَشَرِبَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ» . وَفِي أَفَرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الْفَضْلِ زَوْجِ الْعَبَّاسِ نَحْوَ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ: «شَكَّ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 بَابُ مَا رُوِيَ مِنَ الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ الْكَرُوخِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَامِرٍ الْأَزْدِيُّ، وَأَبُو نَصْرٍ التِّرْيَاقِيُّ، وَأَبُو نَصْرٍ التِّرْيَاقِيُّ، قَالُوا: أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرَّاحِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَحْبُوبِيُّ، أَنْبَأَنَا التِّرمِذِيُّ، أَنْبَأَنَا مُسْلِمٌ، عَنْ عَمْروٍ الْحَلاقِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ عَمْروِ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَن ّالنَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " خَيْرُ الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأَنَا نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَحَامِلِيُّ، أَنْبَأَنَا الصَّاغَانِيُّ، حَدَّثَنَا خَلادُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنْبَأَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ: «لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وَبِهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا المَحَامِلِيُّ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، أَنْبَأَنَا وَكيِعٌ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ دُعَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ: «لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي ويُمِيتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي سَمْعِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي قَلْبِي نُورًا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاشْرَحْ لِي صَدْرِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَسْوَاسِ الصُّدُورِ، وَمِنْ شَتَاتِ الْأَمْرِ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا يَلِجُ فِي الْلَيْلِ، وَشَرِّ مَا يَلِجُ فِي النَّهَارِ، وَشَرِّ مَا تَهُبُّ بِهِ الرِّيَاحُ، وَشَرِّ بَوَائِقِ الدَّهْرِ» أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنْبَأَنَا ابْنُ أَبِي عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ رِزْقَوَيْهِ، أَنْبَأَنَا حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّهْقَانُ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْحَكَمِ، أَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ الْكِلابِيُّ، أَنْبَأَنَا كَثِيرُ بْنُ مَعْقِلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ ذُهْلٍ، قَالَ: لَقِيتُ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِعَرَفَاتٍ فَأَخْبَرَنِي عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ لَقِيَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ بِعَرَفَاتٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ: " لا أَدَعُ هَذَا الْمَوْقِفَ مَا وَجَدْتُ إِلَيْهِ سَبِيلا، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ يَوْمٌ إِلا وَلِلَّهِ فِيهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَلَيْسَ يَوْمٌ أَكْثَرَ فِيهِ عِتْقًا لِلرِّقَابِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَأَكْثِرْ فِيهِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ اعْتِقْ رَقَبَتِي مِنَ النَّارِ، وَأَوْسِعْ عَلَيَّ مِنَ الرِّزْقِ الْحَلالِ، وَاصْرِفْ عَنِّي فَسَقَةَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَإِنَّهُ عَامَّةُ مَا أَدْعُو بِهِ الْيَوْمَ ". وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ يَمْلَأُ الْوَقْتَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَخَذَ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، أَنْبَأَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْخَصَّاصُ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ الْعَائِذِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ زَيْدٍ الْعَمِّيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَسَنِ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، وَأَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْسَ فِي الْمَوْقِفِ قَوْلٌ وَلا عَمَلٌ أَفْضَلَ مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ، إِذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ، فَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ بِوَجْهِهِ، وَيَبْسُطُ يَدَيْهِ كَهَيْئَةِ الدَّاعِي، ثُمَّ يُلَبِّي ثَلاثًا، وَيُكَبِّرَ ثَلاثًا، وَيَقُولُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، يَقُولُ ذَلِكَ مِائَةَ مَرَّةٍ، ثُمَّ يَقُولُ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، يَقُولُ ذَلِكَ مِائَةَ مَرَّةٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، يَقُولُ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقْرَأُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَيَبْدَأُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَفِي آخِرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ يَقُولُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ: آمِينَ. ثُمَّ يَقْرَأُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مِائَةَ مَرَّةٍ، يَقُولُ أَوَّلَهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحَمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ: صَلَّى اللَّهُ وَمَلائِكَتُهُ عَلَى النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، وَعَلَى آلِهِ، وَعَلَيْهِ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، مِائَةَ مَرَّةٍ، ثُمَّ يَدْعُو لِنَفْسِهِ، ثُمَّ يَجْتَهِدُ فِي الدُّعَاءِ لِوَالِدَيْهِ وَلِقَرَابَاتِهِ وَلِإِخْوَانِهِ فِي اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ دُعَائِهِ عَادَ فِي مَقَالَتِهِ هَذِهِ يَقُولُهُ ثَلاثًا، لا يَكُونُ لَهُ فِي الْمَوْقِفِ قَوْلٌ وَلا عَمَلٌ حَتَّى يُمْسِي عَلَى هَذَا، فَإِذَا أَمْسَى بَاهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ الْمَلائِكَةَ، يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي، اسْتَقْبَلَ بَيْتِي، وَكَبَّرَنِي، وَلَبَّانِي، وَسَبَّحَنِي، وَحَمِدَنِي، وَهَلَّلَنِي، وَقَرَأَ بِأَحَبِّ السُّوَرِ إِلَيَّ، وَصَلَّى عَلَى نَبِيِّي، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ قَبِلْتُ عَمَلَهُ، وَأَوْجَبْتُ لَهُ أَجْرَهُ، وَغَفَرْتُ لَهُ ذَنْبَهُ، وَشَفَّعْتُهُ فِيمَنْ شَفَعَ لَهُ، وَلَوْ شَفَعَ فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ شَفَّعْتُهُ فِيهِمْ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 بَابُ ذِكْرِ كَلِمَاتٍ حُفِظَتْ عَنِ الْوَاقِفِينَ بِعَرَفَةَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُمَيْدِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلامَةَ، أَنْبَأَنَا أَبُو مُسْلِمٍ الْكَاتِبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ دُرَيْدٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًا يَدْعُو بِعَرَفَاتٍ، فَقَالَ «اللَّهُمَّ إِنَّ ذُنُوبِي لَمْ تُبْقِ لِي إِلا رَجَاءَ عَفْوِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمْتُ إِلَيْكَ فَامْنُنْ عَلَيَّ بِمَا لا أَسْتَأْهِلُهُ، وَأَعْطِنِي مَا لا أَسْتَحِقُّ بِطَوْلِكَ وَفَضْلِكَ» أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْفَرْضِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَيَّاطُ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَلافُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ صَفْوَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْمُحَبَّرِ، حَدَّثَنَا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، قَالَ: " إِنَّا لَوُقُوفٌ بِعَرَفَةَ فَإِذَا بِشَابَّيْنِ عَلَيْهِمَا الْعَبَاءُ الْقَطَوَانِيُّ، نَادَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ: يَا حَبِيبُ! فَأَجَابَهُ الْآخَرِ: لَبَّيْكَ أَيُّهَا الْمُحِبُّ. قَالَ: تُرَى الَّذِي تَحَابَبْنَا فِيهِ وَتَوَادَدْنَا مُعَذِّبُنَا غَدًا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: فَسَمِعْتُ مُنَادِيًا سَمِعَتْهُ الْآذَانُ وَلَمْ تَرَهُ الْأَعْيُنُ يَقُولُ: لا لَيْسَ بِفَاعِلٍ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 قَرَأْتُ عَلَى ابْنِ نَاصِرٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَقِيهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَرَّاقُ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ " رَأَيْتُ عَلَى جِبَالِ عَرَفَةَ رَجُلا قَدْ بَلَغَ بِهِ الْوَلَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: سُبْحَانَ مَنْ لَوْ سَجَدْنَا بِالْعُيُونِ لَهُ ... عَلَى شَبَا الشَّوْكِ وَالْمَحْمِيِّ مِنَ الْإِبَرِ لَمْ نَبْلُغِ الْعُشُرَ مِنْ مِعْشَارِ نِعَمِهِ ... وَلا الْعُشَيْرَ وَلا عُشُرًا مِنَ الْعُشُرِ هُوَ الرَّفِيعُ فَلا الْأَبْصَارُ تُدْرِكُهُ ... سُبْحَانَهُ مِنْ مَلِيكٍ نَافِذِ الْقَدَرِ سُبْحَانَ مَنْ هُوَ أُنْسِي إِنْ خَلَوْتُ بِهِ ... فِي جَوْفِ لَيْلِي وَفِي الظَّلْمَاءِ وَالسَّحَرِ أَنْتَ الْحَبِيبُ وَأَنْتَ الْحِبُّ يَا أَمَلِي ... مَنْ لِي سِوَاكَ وَمَنْ أَرْجُوهُ يَا ذُخْرِي ثُمَّ أَنْشَدَ أَيْضًا: كَمْ قَدْ زَلَلْتُ فَلَمْ أَذْكُرْكَ فِي زَلَلِي ... وَأَنْتَ يَا سَيِّدِي فَي الْغَيْبِ تَذْكُرُنِي لَأَبْكِيَنَّ بِدَمْعِ الْعَيْنِ مِنْ أَسَفٍ ... لَأَبْكِيَنَّ بُكَاءَ الْوَالِهِ الْحَزِنِ قَالَ: ثُمَّ غَاصَ فِي خِلالَ النَّاسِ فَلَمْ أَرَهْ، فَسَأَلْتُ عنَهُ، فَقِيلَ لِي: هَذَا أبَو عُبَيْدَةَ، مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي صَادِقٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَطَاءٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: قَالَ الْمَأْمُونُ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبَّادٍ الرَّمَلِيُّ: " حَضَرْتُ عَرَفَاتٍ فَوقَفْتُ أَدْعُو فَإِذَا أَنَا بِفَتًى قَدَ أَقْبَلَ نَحْوِي، فَقَالَ: أَقْوَامٌ يَصِلُونَ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعَ يَكُونُ فَيهِمْ مِنَ الْفَضْلِ مَا يَسْأَلُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ الْحَوَائِجَ، أَلا جَعَلُوا حَوَائِجَهُمْ فِي حَيَاةِ قُلُوبِهِمْ؟ ثُمَّ قَالَ لِي: أَنْتَ أَبُو عَبَّادٍ الَّذِي تَرَكْتَ الْشهَوَاتِ مُنْذُ ثَلاثِينَ سَنَةً، فَعَنْهُ تُرَاكَ أَفَدْتَ فَائِدَةً؟ فَبَكَيْتُ، وَقُلْتُ: مَا أَرَى، فَقَالَ: هَيْهَاتَ أَبَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ ذَخَائِرَهُ لِمَنِ الدُّنَيَا وَالْآخِرَةُ فِي قَلْبِهِ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ظَفَرٍ، أَنْبَأَنَا ابْنُ السَّرَّاجِ، أَنْبَأَنَا الْأَرْجِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ الصُّوفِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّسْغَنِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُؤَمَّلِ الْعَدَوِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو زُرْعَةَ الْحِبَّنِيُّ، قَالَ: " كَانَ أَبُو عُبَيْدٍ الْبُسْرِيُّ بِعَرَفَةَ وِإِلَى جَنْبِهِ ابْنُهُ، فَقَالَ لَهُ: يُهَنِّئُكَ الْفَارِسُ، قَالَ: يَا أَبَتِ وَأَيُّ فَارِسٍ؟ قَالَ: وُلِدَ لَكَ السَّاعَةَ غُلامٌ. قَالَ: فَلَمَّا صِرْنَا إِلَى بُسْرٍ، وَجَدْتُ زَوْجَتِي قَدْ وَلَدَتْ غُلامًا يَوْمَ عَرَفَةَ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 بَابُ خَوْفِ الصَّادِقِينَ عِنْدَ وُقُوفِهِمْ بِعَرَفَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو سَعْدٍ الْحِيرِيُّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ بَاكَوَيْهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا ابْنُ مَسْرُوقٍ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، أَنْبَأَنَا وَادِعُ بْنُ مُرْجَا، عَنْ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ، قَالَ: وَقَفَ مُطَرِّفٌ، وَبَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِعَرَفَةَ، فَقَالَ مُطَرِّفٌ «اللَّهُمَّ لا تَرُدَّهُمُ الْيَوْمَ مِنْ أَجْلِي» ، وَقَالَ بَكْرٌ: «مَا أَشْرَفَهُ مِنْ مَوْقِفٍ وَأَرْجَاهُ لِأَهْلِهِ، لَوْلا أَنِّي فِيهِمْ» . وَرُوِيَ عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، أَنَّهُ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَالنَّاسُ يَدْعُونَ، وَهُوَ يَبْكِي بُكَاءَ الثَّكْلَى الْمُحْتَرِقَةِ، فَلَمَّا كَادَتِ الشَّمْسُ تَسْقُطُ، قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ: «وَاسَوْأَتَاهُ مِنْكَ وَإِنْ عَفَوْتَ» أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو سَعْدٍ الْحِيرِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ هَزَارْمَرْدَ الصُّوفِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ مَحْبُوبٍ تِلْمِيذَ أَبِي الْأَدْيَانِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْأَدْيَانِ، يَقُولُ: " مَا رَأَيْتُ خَائِفًا إِلا رَجُلا وَاحِدًا، كُنْتُ بِالْمَوْقِفِ فَرَأَيْتُ شَابًّا مُطْرِقًا مُذْ وَقَفَ النَّاسُ إِلَى أَنْ سَقَطَ الْقُرْصُ، فَقُلْتُ: يَا هَذَا ابْسُطْ يَدَيْكَ لِلدُّعَاءِ. فَقَالَ لِي: ثَمُّ وَحْشَةٍ. فَقُلْتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 لَهُ: فَهَذَا يَوْمُ الْعَفْوِ عَنِ الذُّنُوبِ. قَالَ: فَبَسَطَ يَدَهُ، فَفِي بَسْطِ يَدِهِ وَقَعَ مَيْتًا ". وَقَالَ الرِّيَاشِيُّ: رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ الْمُعَدَّلِ فِي الْمَوْقِفِ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ وَقَدْ ضَحَّى لِلشَّمْسِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْفَضْلِ، لَوْ أَخَذْتَ بِالتَّوْسِعَةِ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ: ضَحَيْتُ لَهُ كَي أَسْتَظِلَّ بِظِلِّهِ ... إِذَا الظِّلُ أَمْسَى فِي الْقِيَامَةِ قَالِصَا فَوَا أَسَفَا إِنْ كَانَ سَعْيُكَ بَاطِلا ... وَيَا حَسْرتَا إِنْ كَانَ حَظُّكَ نَاقِصَا أَحْمَدُ هُوَ أَخُو عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ الْمُعَدَّلِ وَكَانَ مَالِكِيَّ الْمَذْهَبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 بَابُ مَا رُوِيَ مِنَ اجْتِمَاعِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَالْخَضِرِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ بِعَرَفَةَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأَنَا الْأَزْهَرِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ حَمْدَانَ، أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَنْبَأَنَا عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ، أَنْبَأَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْعَطَّارُ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُبَشِّرٍ الْقَيْسِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، قَالَ ": يَجْتَمِعُ فِي كُلِّ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ: جِبْرِيلُ، وَمِيكَائِيلُ، وَإِسْرَافِيلُ، وَالْخَضِرُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، فَيَقُولُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: مَا شَاءَ اللَّهُ، لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِ مِيكَائِيلُ: مَا شَاءَ اللَّهُ، كُلُّ نِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِمَا إِسْرَافِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: مَا شَاءَ اللَّهُ، الْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدِ اللَّهِ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِمُ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَيَقُولُ: مَا شَاءَ اللَّهُ، لا يَدْفَعُ السُّوءَ إِلا اللَّهُ. ثُمَّ يَفْتَرِقُونَ فَلا يَجْتَمِعُونَ إِلَى قَابِلٍ، فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 بَابُ مَا رُوِيَ فِي الْتِقَاءِ إِلْيَاسَ وَالْخَضِرِ بِالْمَوْسِمِ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، وَعَلِيُّ بْنُ عُمَرَ، قَالا: أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَيُّوبَ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَكِّي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ زَيْدٍ، أَنْبَأَنَا عُمَرُو بْنُ عَاصِمٍ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ رَزِينٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لا أَعْلَمُهُ إِلا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " يَلْتَقِي الْخَضِرُ وَإِلْيَاسُ فِي كُلِّ عَامٍ فِي الْمَوْسِمِ، فَيَحْلِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسَ صَاحِبِهِ، وَيَفْتَرِقَانِ عَنْ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ: بِسْمِ اللَّهِ، مَا شَاءَ اللَّهُ، لا يَسُوقُ الْخَيْرَ إِلا اللَّهُ، مَا شَاءَ اللَّهُ، لا يَصْرِفُ السُّوءَ إِلا اللَّهُ، مَا شَاءَ اللَّهُ، مَا كَانَ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، مَا شَاءَ اللَّهُ، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَنْ قَالَهُنَّ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ثَلاثَ مَرَّاتٍ، أَمَّنَهُ اللَّهُ مِنَ الْغَرَقِ وَالْحَرْقِ وَالشَّرَقِ. قَالَ عَطَاءٌ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَمَنِ الشَّيْطَانِ وَالسُّلْطَانِ، وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقْرِئُ، أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ طَلْحَةَ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْحِنَّائِيُّ، أَنْبَأَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الدَّقَّاقُ، أَنْبَأَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْبَلِيُّ، حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْطَاكِيُّ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ الْهَيْثَمِ الْمِصِّيصِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَحْرٍ، عَنْ سَلامٍ الطَّوِيلِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ يَحْيَى مَوْلَى عَوْفٍ الطُّفَاوِيِّ، عَنْ رَجُلٍ كَانَ مُرَابِطًا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَبِعَسْقَلانَ، قَالَ: " بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي وَادِي الْأُرْدُنِ، إِذَا أَنَا بِرَجُلٍ فِي نَاحِيَةِ الْوَادِي قَائِمٌ يُصَلِّي، فَإِذَا بِسَحَابَةٍ تُظِلُّهُ مِنَ الشَّمْسِ، فَوَقَعَ فِي قَلْبِي أَنَّهُ إِلْيَاسُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَأَتَيْتُهُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَانْفَتَلَ مِنْ صَلاتِهِ، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلامَ، فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا، فَأَعَدْتُ الْقَوْلَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ: أَنَا إِلْيَاسُ النَّبِيُّ، فَأَخَذَتْنِي رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ، خَشِيتُ عَلَى عَقْلِي أَنْ يَذْهَبَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنْ رَأَيْتَ، يَرْحَمُكَ اللَّهُ، أَنْ تَدْعُوَ لِي أَنْ يُذْهِبَ اللَّهُ عَنِّي مَا أَجِدُ، حَتَّى أَفْهَمَ حَدِيثَكَ، فَدَعَا لِي بِثَمَانِ دَعَوَاتٍ. قَالَ: يَا بَرُّ، يَا رَحِيمُ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ، يَا إِهْيا أَشِرْ إِهْيا، فَذَهَبَ عَنِّي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 مَا كُنْتُ أَجِدُهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِلَى مَنْ بُعِثْتَ؟ فَقَالَ: إِلَى أَهْلِ بَعَلْبَكَ. قُلْتُ: فَهَلْ يُوحَى إِلَيْكَ الْيَوْمَ؟ فَقَالَ: مُنْذُ بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ فَلا. قُلْتُ: فَكَمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْحَيَاةِ؟ قَالَ: أَرْبَعَةٌ، أَنَا وَالْخَضِرُ فِي الْأَرْضِ، وَإِدْرِيسُ وَعِيسَى فِي السَّمَاءِ. قُلْتُ: فَهَلْ تَلْتَقِي أَنْتَ وَالْخَضِرُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فِي كُلِّ عَامٍ بِعَرَفَاتٍ. قَلْتُ: فَمَا حَدِيثُكُمَا؟ قَالَ: يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِي وَآخُذُ مِنْ شَعْرِهِ. قُلْتُ: فَكَمِ الْأَبْدَالُ؟ قَالَ: هُمْ سِتُّونَ رَجُلا، خَمْسُونَ مَا بَيْنَ عَرِيشِ مِصْرَ إِلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ، وَرَجُلانِ بِالْمِصِّيصَة، وَرَجُلٌ بِأَنْطَاكِيَّةَ، وَسَبْعَةٌ فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ، بِهِمْ يُسْقَوْنَ الْغَيْثَ، وَبِهِمْ يُنْصَرُونَ عَلَى الْعَدُوِّ، وَبِهِمْ يُقِيمُ اللَّهُ أَمْرَ الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ تَهْلِكَ، يَعْنِي الدُّنْيَا، أَمَاتَهُمْ جَمِيعًا ". قَالَ الْمُصَنِّفُ: أَمَّا ذِكْرُهُ الْخَضِرِ بِالنُّبُوَّةِ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ عَنِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ: كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: يَا إِهْيا أَشَرْ إِهْيا فَكَذَا ضَبَطْنَا عَنْ شَيْخِنَا أَبِي مَنْصُورٍ اللُّغَوِيِّ، وَذَكَرَ لَنَا عَنْ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُ قَالَ: أَظُنُّ أَصْلَهُ بِالسِّرْيَانِيَّةِ. قَالَ: وَقَدْ فَسَّرَهُ قَوْمٌ فَقَالُوا: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، وَالصَّحِيحُ فِي تَفْسِيرِهِمَا: الْأَزَلِيُّ الَّذِي لَمْ يَزَلْ، وَمَعْنَاهُ فِي ذَلِكَ الاسْمِ الْقَدِيمِ فَإِنَّهُ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ لَمْ يُعْرَفْ سِوَى الْأَزَلِيِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 بَابُ مَا رُوِيَ مِنَ الصَّلاةِ يَوْمَ عَرَفَةَ قَدْ رُوِيَتْ لَنَا صَلاتَانِ. إِحْدَيْهِمَا لَمْ يُعَيَّنْ لَهَا وَقْتٌ: قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدِينِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعَابِدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَسَنِ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، وَأَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ صَلَّى يَوْمَ عَرَفَةَ رَكْعَتَيْنِ، يَقْرَأُ، يَعْنِي: فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَبْدَأُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَيَخْتِمُ آخِرَهَا بِآمِينَ، ثُمَّ يَقْرَأُ: قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مِائَةَ مَرَّةٍ يَبْدَأُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِلا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أُشْهِدُكُمْ أَنَّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الصَّلاةُ الثَّانِيَةُ مُعَيَّنَةُ الْوَقْتِ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ، أَنْبَأَنَا هِلالُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا مَسْعُودُ بْنُ وَاصِلٍ، أَنْبَأَنَا النَّهَّاسُ بْنُ قَهْمٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ صَلَّى يَوْمَ عَرَفَةَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ مَرةً، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ خَمْسِينَ مَرَّةً، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ حَسَنَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ دَرَجَةً فِي الْجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ خَمْسِ مِائَةِ عَامٍ، وَيُزَوِّجُهُ اللَّهُ بِكُلِّ حَرْفٍ فِي الْقُرْآنِ حَوْرَاءَ، مَعَ كُلِّ حَوْرَاءَ سَبْعُونَ أَلْفَ مَائِدَةٍ مِنَ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، عَلَى كُلِّ مَائِدَةٍ سَبْعُونَ أَلْفَ لَوْنٍ مِنْ لَحْمِ طَيْرٍ خُضْرٍ، بَرَدُهُ بَرَدُ الثَّلْجِ، وَحَلاوَتُهُ حَلاوَةُ الْعَسَلِ، وَرِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ، لَمْ تَمَسَّهُ نَارٌ، وَلا يَجِدُ لِآخِرِهِ طَعْمًا كَمَا يَجِدُ لِأَوَّلِهِ، ثُمَّ يَأْتِيهِمْ طَيْرٌ جَنَاحَاهُ مِنْ يَاقُوتَتَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ وَمِنْقَارُهُ مِنْ ذَهَبٍ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ جَنَاحٍ، فَيُنَادَى بِصَوْتٍ لَذِيذٍ لَمْ يَسْمَعِ السَّامِعُونَ بِمِثْلِهِ: مَرْحَبًا بِأَهْلِ عَرَفَةَ. قَالَ: وَيَسْقُطُ ذَلِكَ الطَّيْرُ فِي صَفْحَةِ الرَّجُلِ مِنْهُمْ، فَيَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ كُلِّ جَنَاحٍ مِنْ أَجْنِحَتِهِ سَبْعُونَ لَوْنًا مِنَ الطَّعَامِ، فَيَأْكُلُ مِنْهُ، ثُمَّ يَنْتَفِضُ فَيَطِيرُ، فَإِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ أَضَاءَ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ فِي الْقُرْآنِ نُورٌ حَتَّى يَرَى الطَّائِفِينَ حَوْلَ الْبَيْتِ، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ ثُمَّ يَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ، رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ، مِمَّا يَرَى مِنَ الثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 بَابُ تَعْرِيفِ مَنْ لَمْ يَحُجَّ فِي الْمَسَاجِدِ تَشَبُّهًا بِأَهْلِ عَرَفَةَ أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَنْصُورٍ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأَنَا الْأَزْهَرِيُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنْبَأَنَا الْبَغَوِيُّ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: " أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَعْنِي: اجْتِمَاعَ النَّاسِ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي الْمَسَاجِدِ " أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو طَالِبِ بْنُ يُوسُفَ، أَنْبَأَنَا عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنْبَأَنَا ابْنُ نُحَيْتٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو حَفْصٍ الْجَوْهَرِيُّ، أَنْبَأَنَا الْأَثْرَمُ، قَالَ: " سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنِ التَّعْرِيفِ فِي الْأَمْصَارِ يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَسَاجِدِ يَوْمَ عَرَفَةَ. قَالَ: أَرْجُو أَنْ لا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ، قَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ: الْحَسَنُ، وَبَكْرٌ، وَثَابِتٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ، كَانُوا يَشْهَدُونَ الْمَسَجِدَ يَوْمَ عَرَفَةَ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 بَابُ الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَةَ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ دُفِعَ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى مُزْدَلِفَةَ عَلَى طَرِيقِ الْمَأْزَمَيْنِ، وَحَدُّ الْمُزْدَلِفَةِ: مَا بَيْنَ الْمَأْزَمَيْنِ وَوَادِي مُحَسِّرٍ. وَيَسِيرُ وَعَلَيْهِ السَّكَيِنَةُ وَالْوَقَارُ، فَإِذَا وَجَدَ فُرْجَةً أَسْرَعَ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ صَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ قَبْلَ حَطِّ الرِّحَالِ، فَإِنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي طَرِيقِ الْمُزْدَلِفَةِ أَجْزَأَهُ. ثُمَّ يَبِيتُ بِهَا إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ الثَّانِي، وَيَأْخُذُ مِنْهَا حَصَى الْجِمَارِ، وَمِنْ حَيْثُ أَخَذَ جَازَ، وَيَكُونُ الْحَصَى أَكْبَرَ مِنَ الْحِمَّصِ وَدُونَ الْبُنْدُقِ، وَعَدَدُهُ سَبْعُونَ حَصَاةً. وَهَلْ يُسَنُّ غَسْلُهُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. فَإِنْ دَفَعَ بَعْدَ نِصْفِ الْلَيْلِ، جَازَ وَإِنْ دَفَعَ قَبْلَ نِصْفِ الْلَيْلِ لَزِمَهُ دَمٌ. فَإِنْ وَافَى مُزْدَلِفَةَ بَعْدَ نِصْفِ الْلَيْلِ فَلا دَمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَافَاهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 بَابُ فَضْلِ لَيْلَةِ النَّحْرِ قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَحْيَا الْلَيَالِي الْأَرْبَعَ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ. . .» فَذَكَرَ مِنْهُنَّ لَيْلَةَ النَّحْرِ. وَرَوَيْنَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «يَفْتَحُ اللَّهُ الْخَيْرَ فِي أَرْبَعِ لَيَالٍ فَتْحًا. . .» فَذَكَرَ مِنْهُنَّ لَيْلَةَ الْأَضْحَى. وَقَدْ سَبَقَ إِسْنَادُ الْحَدِيثَيْنِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي طَيبٍ، أَنْبَأَنَا ابْنُ رِزْقَوَيْهِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ عَبْدِكَ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، أَنْبَأَنَا عُثْمَانُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا أَبُو عُمَرَ الْقَيَّادُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ أَبِي عَمَّارٍ الْمَكِّيُّ، أَنْبَأَنَا عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْلَةُ جَمْعٍ تَعْدِلُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ» وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، " أَنَّ رَجُلا سَأَلَهُ: لِمَ سُمِّيَتِ الْمُزْدَلِفَةُ بِذَلِكَ؟ قَالَ: لازْدِلافِ النَّاسِ إِلَيْهَا مِنْ عَرَفَاتٍ. قَالَ: فَلِمَ سُمِّيَتْ جَمْعُ جَمْعًا؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا هَبَطَ آدَمُ وَحَوَّاءُ مِنَ الْجَنَّةِ فَرَّقُ بَيْنَهُمَا فَاجْتَمَعَا بِالْمَشْعَرِ ". وَقَالَ مِهْيَارٌ فِي ذِكْرِ جَمْعٍ: يَا هَلْ لِلَيْلاتٍ بِجَمْعٍ عَوْدَةٌ؟ ... أَمْ هَلْ إِلَى وَادِي مِنًى مِنْ نَظْرَةِ؟ أَبْغِي الشِّفَاءَ بِذِكْرِ مَنْ هُوَ مُسْقِمِي ... عَجَبًا لِمَنْ هُوَ عِلَّتِي وَتَعِلَّتِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 بَابُ ذِكْرِ صَلاةٍ رُوِيَتْ لَيْلَةُ النَّحْرِ اعْلَمْ أَنَّهَا مِنَ الْلَيَالِي الَّتِي تُحْيَا، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحْيِيهَا. وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَحْيَا لَيْلَةَ الْعِيدَيْنِ وَلَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ فيه الْقُلُوبُ» . فَأَمَّا الصَّلاةُ الْمُخْتَصَّةُ بِهَا. فَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الْجَرَّاحُ الْقَطَوَانِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ غَالِبٍ، أَنْبَأَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى لَيْلَةَ النَّحْرِ رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، فَإِذَا سَلَّمَ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، جَعَلَ اللَّهُ اسْمَهُ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، وَغَفَرَ لَهُ ذُنُوبَ السِّرِّ وَذُنُوبَ الْعَلانِيَةِ، وَكَتَبَ لَهُ بِكُلِّ آيَةٍ قَرَأَهَا حَجَّةً وَعُمْرَةً، وَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ سِتِّينَ رَقَبَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، فَإِنْ مَاتَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى مَاتَ شَهِيدًا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وَقَالَ الْفِرْيَابِيُّ: كُنْتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ أُحْيِي اللَّيْلَ، فَإِذَا بِامْرَأَةٍ تُصَلِّي إِلَى الصَّبَاحِ وَمَعَهَا شَيْخٌ، فَسَمِعَتْهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا قَدْ جِئْنَاكَ مِنْ حَيْثُ تَعْلَمُ، وَحَجَجْنَا كَمَا أَمَرْتَنَا، وَوَقَفْنَا كَمَا دَلَلْتَنَا، وَقَدْ رَأَيْنَا أَهْلَ الدُّنْيَا إِذَا شَابَ الْمَمْلُوكُ فِي خِدْمَتِهِمْ تَذَمَّمُوا أَنْ يَعْتِقُوهُ، وَقَدْ شِبْنَا فِي خِدْمَتِكَ فَأَعْتِقْنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 بَابُ فَضْلِ يَوْمِ النَّحْرِ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ» . أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ، أَنْبَأَنَا ابْنُ رِزْقَوُيْهِ، حَدَّثَنَا حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، أَنْبَأَنَا أَيَّوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ السَّرِّيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ، أَنَّ أَبَاهُ، حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لِأُمَّتِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ بِالْمَغْفِرَةِ، فَأُجِيبَ: إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ مَا عَدَا الظَّالِمَ، فَإِنِّي آخِذٌ لِلمَظْلِومِ مِنْهُ، قَالَ: «أَيْ رَبِّ! إِنَّ شِئْتَ أَعْطَيْتَ الْمَظْلُومَ مِنَ الْخَيْرِ، وَغَفَرْتَ لِلظَّالِمِ» ، فَلَمْ يُجَبْ عَشِيَّتَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ أَعَادَ الدُّعَاءَ، فَأُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ قَالَ: فَتَبَسَّمَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ هَذِهِ لَسَاعَةٌ مَا كُنْتَ تَضْحَكُ فِيهَا، فَمَا الَّذِي أَضْحَكَكَ؟ أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ، قَالَ: «إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدِ اسْتَجَابَ دُعَائِي، وَغَفَرَ لِأُمَّتِي، أَخَذَ التُّرَابَ فَجَعَلَ يَحْثُو عَلَى رَأْسِهِ وَيَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، أَضْحَكُ مِمَّا رَأَيْتُ مِنْ جَزَعِهِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 بَابُ مَا يَصْنَعُ بَعْدَ فَجْرِ النَّحْرِ يُصَلِّي الْفَجْرَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فِي أَوَّلِ وَقْتِ الصَّلاةِ، ثُمَّ يَأْتِي الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَيَرْقَا عَلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَهُ، وَإِلا وَقَفَ عِنْدَهُ، فَيَحْمَدُ اللَّهَ، وَيُهَلِّلُهُ وَيُكَبِّرُهُ، وَيَدْعُو وَيَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ كَمَا أَوْقَفْتَنَا فِيهِ، وَأَرَيْتَنَا إِيَّاهُ، فَوَفِّقْنَا لِذِكْرِكَ كَمَا هَدَيْتَنَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا كَمَا وَعَدْتَنَا بِقَوْلِكَ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ يَقْرَأُ إِلَى رَحِيمٌ} [البقرة: 198 - 199] . فَإِذَا أَسْفَرَ دَفَعَ إِلَى مِنًى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِذَا بَلَغَ وَادِي مُحَسِّرٍ سَعَى إِنْ كَانَ مَاشِيًا، وَحَرَّكَ دَابَّتَهُ إِنْ كَانَ رَاكِبًا قَدْرَ رَمْيَةٍ بِحَجَرٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 بَابُ ذِكْرِ مِنًى حَدُّ مِنًى مِنْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ إِلَى وَادِي مُحَسِّرٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، " أَنَّ رَجُلا سَأَلَهُ لِمَ سُمِّيَتْ مِنًى؟ فَقَالَ: لِمَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ دِمَاءِ الذَّبَائِحِ وَشُعُورِ النَّاسِ، تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَمَنِّيًا لِلأَمَانِ مَنِ عَذَابِهِ ". وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: مِنًى مِنْ قَوْلِكَ: مَنَى الشَّيْءَ قَدَّرَ، كَأَنَّهُ قَدَّرَ فِيهَا النَّحْرَ. فَإِذَا وَصَلَ إِلَى مِنًى بَدَأَ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَيَرْمِي إِلَيْهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ، يَكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَيَعْلَمُ حُصُولَهَا فَي الْمَرْمَى، فَإِنْ رَمَى بِغَيِرِ الْحَصَى مِثْلَ الْكُحْلِ، وَالرُّخَامِ، وَالْبِرَامِ، وَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، أَوْ أَخَذَ حَجْرًا مِنَ الْمَرْمَى قَدْ رَمَى بِهِ، لَمْ يُجْزِهِ. وَيَرْفَعُ يَدَهُ فِي الْمَرْمَى حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبِطَهُ. وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَاشِيًا، وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ، فَإِذَا رَمَى السَّبْعَ لَمْ يَقِفْ عِنْدَهَا. وَيَرْمِي بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِنْ رَمَى بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ أَجْزَأَهُ. وَمِمَّا قَالَ الشُّعَرَاءُ فِي ذِكْرِ مِنًى، قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: لَبِثُوا ثَلاثَ مِنًى بِمَنْزِلَ قَلْعَةٍ فَهُمْ عَلَى غَرَضٍ لَعَمْرُكَ مَا هُمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 مُتَجَاوِرِينَ بِغَيْرِ دَارِ إِقَامَةٍ ... لَوْ قَدْ أَجَدَّ رَحِيلُهُمْ لَمْ يَنْدَمُوا وَلَهُنَّ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ لُبَانَةٌ ... وَالْبَيْتُ يَعْرِفُهُنَّ لَوْ يَتَكَلَّمُ لَوْ كَانَ حَيَّا قَبْلَهُنَّ ظَعَائِنًا ... حَيَّا الْحُطَيْمُ وُجُوهَهُنَّ وَزَمْزَمُ وَقَالَ الْعَرْجِيُّ: عُوجِي عَلَيَّ فَسَلِّمِي خَبَرُ ... فِيمَ الْوُقُوفُ وَأَنْتُمُ سَفْرُ مَا نَلْتَقِي إلا ثَلاثَ مِنًى ... حَتَّى يُفَرِّقُ بَيْنَنَا النَّفْرُ الشَّهْرُ ثُمَّ الْحَوْلُ يَتْبَعُهُ ... مَا الدَّهْرُ إِلا الْحَوْلُ وَالشَّهْرُ وَلابْنِ الْمُعْتَزِّ: لِلَّهِ دَرُّ مِنًى وَمَا جَمَعَتْ مِنًى ... وَبُكَاءُ الْأَحِبَّةِ لَيْلَةَ النَّفْرِ ثُمَّ اغْتَدَوْا فِرَقًا هُنَا وَهُنَا ... يَتَلاحَظُونَ بِأَعْيُنِ الذِّكْرِ مَا لِلمَضَاجِعِ لا تُلائِمُنِي ... وَكَأَنَّ قَلْبِي لَيْسَ فِي صَدْرِي وَلِلرَّضِيِّ: أَعَادَ لِي عِيدُ الضَّنَى ... جِيرَانَنَا عَلَى مِنًى كَمْ كَبِدٍ مَعْقُورَةٍ ... لِلعَاقِرِينَ الْبُدْنَا تُخْفِي تَبَارِيحَ الْهَوَى ... وَقَدْ عَنَّانَا مَا عَنَا وَبَارَقَ أَشِيمَهُ ... كَالطَّرَفِ أَغْضَى وَرَنَا ذَكَّرَنِي الأَحَبَابَ وَالذِّكْرَى ... تُهَيِّجُ الْحُزْنَا مِنْ بَطْنِ مُرٍّ وَالسُّرَى ... تَؤُمُّ عُسْفَانَ بِنَا وَبِالْعِرَاقِ وَطَرَى ... يَا بُعْدَ مَا لاحَ لَنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وَلِمِهْيَارٍ: وَمَا بِنَا إِلا هَوًى ... حَيَّ عَلَى خَيْفِ مِنًى يَا حُسْنَ ذَاكَ مَوْقِفًا ... إِنْ كَانَ شَيْئًا حَسَنَا مَنْ لَعَيْنِي أَنْ تَرَى ... تِلْكَ الثَّلاثَ مِنْ مِنًى يَا قَلْبُ مِنْ مَوَاطِنَ ... لَمْ يَرْضَ مِنْهَا وَطَنَا وَيَوْمَ سَلْعٍ لَمْ يَكُنْ ... يَوْمِي بِسَلْعٍ هَيِّنَا وَقَفْتُ أَسْتَسْقِي الظَّمَا ... فِيهِ وَأَسْتَشْفِي الضَّنَا وَفَضَحَتْ سِرَّ الْهَوَى ... عَيْنِي فَصَارَ عَلَنًا وَيَوْمَ ذِي الْبَانِ تَبَايَعْنَا ... فَحُزْتُ الْغَبَنَا كَانَ الْغَرَامُ الْمُشْتَرَى ... وَكَانَ قَلْبِي الثَّمَنَا أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبُخَارِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ، أَنْبَأنَا ابْنُ حَيويه، أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ: " لَمَّا ظَهَرَ مِنَ الْجُنُونِ مَا ظَهَرَ، وَرَأَى قَوْمَهُ مَا ابْتُلِيَ بِهِ، اجْتَمَعُوا إِلَى أَبِيهِ، وَقَالُوا: لَوْ خَرَجْتَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ فَعَاذَ بِبَيْتِ اللَّهِ، وَزَارَ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَوْنَا أَنْ يَرْجِعَ عَقْلُهُ. فَخَرَجَ بِهِ أَبُوهُ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ، فَجَعَلَ يَطُوفُ بِهِ، وَيَدْعُو اللَّهَ لَهُ بِالْعَافِيَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: دَعَا الْمُحْرِمُونَ اللَّهَ يَسْتَغْفِرُونَهُ ... بِمَكَّةَ وَهَنًا أَنْ تُمْحَى ذُنُوبُهَا وَنَادَيْتُ أَنْ يَا رَبِّ أَوَّلَ سُؤْلَتِي ... لِنَفْسِي لَيْلَى ثُمَّ أَنْتَ حَسِيبُهَا فَإِنْ أُعْطَ لَيْلَى فِي حَيَاتِي لا يَتُبْ ... إِلَى اللَّهِ خَلْقٌ تَوْبَةً لا أَتُوبُهَا حَتَّى إِذَا كَانَ بِمِنًى نَادَى مُنَادٍ مِنْ بَعْضِ تِلْكَ الْخِيَامِ: يَا لَيْلَى، فَخَرَّ مَغْشِيًا عَلَيْهِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ حَوْلَهُ، وَنَضَحُوا عَلَى وَجْهِهِ الْمَاءَ، وَأَبُوهُ يَبْكِي عِنْدَ رَأْسِهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، وَهُوَ يَقُولُ: وَدَاعٍ دَعَا إِذْ نَحْنُ بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى ... فَهَيَّجَ أَطْرَابَ الْفُؤَادِ وَمَا يَدْرِي دَعَا بِاسْمِ لَيْلَى غَيْرَهَا فَكَأَنَّمَا ... أَطَارَ بِلَيْلَى طَائِرًا كَانَ فِي صَدْرِي " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 بَابُ رَمْيِ الْجَمَرَاتِ قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الْبَيْتِ، أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَأَرَاهُ الطَّوَافَ، ثُمَّ أَتَى بِهِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ، فَأَخَذَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، وَأَعْطَى إِبْرَاهِيمَ سَبْعًا، وَقَالَ لَهُ: ارْمِ وَكَبِّرْ، فَرَمَيَا وَكَبَّرَا مَعَ كُلِّ رَمْيَةٍ، حَتَّى غَابَ الشَّيْطَانُ، ثُمَّ أَتَى بِهِ الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى، فَعَرَضَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ، فَأَخَذَ جِبْرِيلُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ وَأَعْطَى إِبْرَاهِيمَ سَبْعًا، وَقَالَ لَهُ: ارْمِ وَكَبِّرْ، فَرَمَيَا وَكَبَّرَا مَعَ كُلِّ رَمْيَةٍ، ثُمَّ غَابَ الشَّيْطَانُ، ثُمَّ أَتَى بِهِ الْجَمْرَةَ الْقُصْوَى فَفَعَلا كَذَلِكَ. هَذَا هُوَ الأَصْلُ فِي شُرُوعِ الرَّمْيِ، كَالأَصْلِ فِي شُرُوعِ السَّعْيِ، سَعِيِ هَاجَرَ، بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ زَمْزَمَ. وَكَذَلِكَ أَصْلُ الرَّمْلِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: «إِنَّهُ يَقْدُمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلاثَةَ لِيَرَى الْمُشْرِكِينَ جَلَدَهُمْ» . وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ. ثُمَّ زَالَتْ تِلْكَ الأَشْيَاءِ، وَبَقِيَتْ آثَارُهَا وَأَحْكَامُهَا، وَرُبَّمَا أُشْكِلَتْ هَذِهِ الأُمُورُ عَلَى مَنْ يَرَى صُورَهَا وَلَمْ يَعْرِفْ أَسْبَابَهَا، فَيُقُولُ: هَذَا لا مَعنَى لَهُ، فَقَدْ بَيَّنْتُ لَكَ الأَسْبَابَ مِنْ حَيْثُ النَّقْلِ، وَهَا أَنَا أُمَهِّدُ لَكَ مِنَ الْمَعْنَى قَاعِدَةً تَبْنِي عَلَيْهَا مَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا: اعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْعِبَادَةِ مَعْقُولٌ، وَهُوَ ذُلُّ الْعَبْدِ لِمَوْلاهُ بِطَاعَتِهِ، فَإِنَّ الصَّلاةَ فِيهَا مِنَ التَّوَاضُعِ وَالذُّلِّ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ التَّعَبُّدُ، وَفِي الزَّكَاةِ إِرْفَاقٌ وَمُوَاسَاةٌ يُفْهَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 مَعْنَاهُ، وَفِي الصَّوْمِ كَسْرُ شَهْوَةِ النَّفْسِ لِتَنْقَادَ طَائِعَةً لِمَخْدُومِهَا، وَفِي تَشْرِيفِ الْبَيْتِ وَنَصْبِهِ مَقْصِدًا وَجَعْلِ مَا حَوَالَيْهِ حَرَمًا تَفْخِيمًا لَهُ، وَإِقْبَالُ الْخَلْقِ إِلَيْهِ شُعُثًا غُبُرًا كَإِقْبَالِ الْعَبْدِ إِلَى مَوْلاهُ ذَلِيلا مُعْتَذِرًا أَمْرٌ مَفْهُومٌ، وَالنَّفْسُ تَأْنَسُ مِنَ التَّعَبُّدِ بِمَا تَفْهَمُهُ، فَيَكُونُ مَيْلُ الطَّبْعِ إِلَيْهِ مُعِينًا عَلَى فِعْلِهِ وَبَاعِثًا، فَوُظُّفَتْ لَهَا وَظَائِفُ لا تَفْهَمُهَا فَيَتِمُّ انْقِيَادُهَا كَالسَّعِي وَالرَّمْيِ، فَإِنَّهُ لا حَظَّ فِي ذَلِكَ لِلنَّفْسِ، وَلا أُنْسَ فِيهِ لِلطَّبْعِ، وَلا يَهْتَدِي الْعَقْلُ إِلَى مَعْنَاهُ، فَلا يَكُونُ الْبَاعِثُ إِلَى امْتِثَالِ الأَمْرِ فِيهِ سِوَى مُجَرَّدِ الأَمْرِ وَالانْقِيَادِ الْمَحْضِ، وَبِهَذَا الإِيضَاحِ تُعْرَفُ أَسْرَارُ الْعِبَادَاتِ الْغَامِضَةِ. أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ، أَنْبَأنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الأَصْفَهَانِيُّ، أَنْبَأنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَانَحَانِيُّ، حَدَّثَنَا جَدِّي أَبُو أُمِّي عِيسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنْبَأنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، أَنْبَأنَا أَبُو شَيْبَةَ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، أَنَّ رَجُلا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحَجِّ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: «فَإِذَا رَمَيْتَ الْجِمَارَ، فَلَكَ بِكُلِّ حَصَاةٍ تَرْمِي بِهَا يُغْفَرُ لَكَ بِهَا كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ الْمُوجِبَاتِ الْمُوبِقَاتِ» فَصْلٌ وَرَبَّمَا قَالَ قَائِلٌ: نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْحُجَّاجَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَيَحْتَاجُ كُلُّ مِنْهُمْ أَنْ يَرْمِيَ سَبْعِينَ حَصَاةً، وَهَذَا مِنْ زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَالْمَرْمَى مَكَانٌ صَغِيرٌ، ثُمَّ لا يَجُوزُ أَنْ يُرْمَى بِحَصَاةٍ قَدْ رُمِيَ بِهَا، وَتَرَى الْحَصَى فِي الْمَرْمَى قَلِيلا فَمَا وَجْهُ ذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ: مَا أَخْبَرَنَا بِهِ ابْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأنَا ابْنُ بَنَّانٍ، أَنْبَأنَا ابْنُ شَاذَانَ، أَنْبَأنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْحَكَمِ، أَنْبَأنَا الْكَدِيمِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُرْمُزٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: الْحَصَى قُرْبَانٌ، فَمَا قُبِلَ مِنْهُ رُفِعَ، وَمَا لَمْ يُقْبَلْ بَقِيَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 أَبْوَابُ الأَضَاحِي بَابٌ فِي بَيَانِ فَضْلِ الأَضَاحِي أَخْبَرَنَا ابْنُ عِيسَى الْهَرَوِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَتْنَا أُمُّ عَرِبِيٍّ بِنْتُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَرْثَمِيِّ، قَالَتْ: أَنْبَأنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ الأَنْصَارِيُّ، أَنْبَأنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأنَا دَاوُدُ بْنُ رَشِيدٍ، أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ، أَنْبَأنَا إِبْرَاهِيمُ يَعْنِي: ابْنَ يَزِيدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أُنْفِقَتُ الْوَرِقُ فِي شَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ نَحِيرَةٍ فِي يَوْمِ عِيدٍ» أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، أَنْبَأنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْعُكْبَرِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو الْحَسَنِ الْحَمَامِيُّ، أَنْبَأنَا ابْنُ أَبِي قَيْسٍ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، أَنْبَأنَا يَحْيَى بْنُ الْمُغِيرَةِ، أَنْبَأنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي الْمُثَنَّى، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ عَمَلٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هِرَاقَةِ دَمٍ، وَإِنَّهَا لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلافِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ إِلَى الأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الزَّوْزَنِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، أَنْبَأنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَغَوِيُّ، أَنْبَأنَا دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، أَنْبَأنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمَلائِيُّ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «يَا فَاطِمَةُ، قُومِي إِلَى أُضْحِيَتِكِ فَاشْهَدِيهَا فَإِنَّ لَكَ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا أَنْ يُغْفَرَ لَكِ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكِ» . قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهَذَا لَنَا خَاصَّةً أَهْلَ الْبَيْتِ، أَمْ لَنَا وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ قَالَ: «بَلْ لَنَا وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً» وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذِهِ الأَضَاحِي؟ قَالَ: «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ» . قَالُوا: فَمَا لَنَا مِنْهَا؟ قَالَ: «بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ» . قَالُوا: فَالصُّوفُ؟ قَالَ: «بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ» . وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ كَانَ لا يُمَاكِسُ فِي ثَمَنِ الأُضْحِيَةِ، وَيَقُولُ: لا يُمَاكَسُ فِي شَيْءٍ يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 ! 209 أَخْبَرَنَا أَبُو غَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو عَلِيٍّ الْبُسْرِيُّ، أَنْبَأنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ التُّورَنِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهُجَيْمِيُّ، أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلابِيُّ، أَنْبَأنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: " خَرَجَ أَبُو نُوَاسٍ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُرِيدُ شِرَاءَ أُضْحِيَةٍ، فَلَمَّا صَارَ فِي الْمِرْبَدِ إِذَا هُوَ بِأَعْرَابِيٍّ قَدْ أَدْخَلَ شَاةً يَقْدُمُهَا كَبْشٌ، فَقَالَ: لأُجَرِّبَنَّ هَذَا الأَعْرَابِيَّ فَأَنْظُرُ مَا عِنْدَهُ، فَإِنِّي أَظُنُّهُ عَاقِلا، فَقَالَ أَبُو نُوَاسَ: أَيَا صَاحِبَ الشَّاةِ الَّذِي قَدْ يَسُوقُهَا ... بِكَمْ ذَاكَ الْكَبْشُ الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَا؟ فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: أَبِيعُكَ إِنْ كُنْتَ مِمَّنْ يُرِيدُهُ ... وَلَمْ تَكُ مَزَّاحًا بِعِشْرِينَ دِرْهَمَا فَقَالَ أَبُو نُوَاسٍ: أَجَدْتَ رَعَاكَ اللَّهُ رَدَّ جَوَابِنَا ... فَأَحْسِنْ إِلَيْنَا إِنْ أَرَدْتَ التَّكَرُّمَا فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: أَحُطُّ مِنَ الْعِشْرِينَ خَمْسًا فَإِنَّنِي ... أَرَاكَ ظَرِيفًا فَاقْبِضْ مُسَلِّمَا قَالَ: فَدَفَعَ إِلَيْهِ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَأَخَذَ كَبْشًا يُسَاوِي ثَلاثَينَ دِرْهَمًا " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 بَابٌ بَيَانُ أَنَّ الأَضَاحِيَ سُنَّةٌ قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِلَى أَنَّ الأُضْحِيَةَ مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ بَوَاجِبَةٍ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْغَنِيِّ الْحَاضِرِ. وَيَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظَافِرِهِ» . وَسَنَذْكُرُ الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَوَجْهُ الْحُجَّةِ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمَا عَلَّقَهَا بِالإِرَادَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 بَابٌ بَيَانُ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ سُنَّتِ الأَضَاحِي وَهُوَ مَا جَرَى لِلْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلامُ وَوَلَدِهِ، وَتَلْخِيصُ الْقِصَّةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي مَنَامِهِ أَنْ يَذْبَحَ وَلَدَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ انْطَلِقْ نُقَرِّبُ قُرْبَانًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَخَذَ سِكِّينًا وَحَبْلا ثُمَّ انْطَلَقَا، حَتَّى إِذَا ذَهَبَا بَيْنَ الْجِبَالِ قَالَ لَهُ الْغُلامُ: أَيْنَ قُرْبَانَكَ؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ. فَقَالَ لَهُ: اشْدُدْ رِبَاطِي حَتَّى لا أَضْطَرِبَ، وَاكْفُفْ عَنِّي ثِيَابَكَ حَتَّى لا يَنْتَضِحَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ دَمِي فَتَرَاهُ أُمِّي فَتَحْزَنَ، وَأَسْرِعْ مَرَّ السِّكِّينِ عَلَى حَلْقِي لِيَكُونَ أَهْوَنَ لِلْمَوْتِ عَلَيَّ، فَإِذَا أَتَيْتَ أُمِّي، فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلامَ مِنِّي. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ يُقَبِّلُهُ وَيَبْكِي، وَيَقُولُ: نِعْمَ الْعَوْنُ أَنْتَ يَا بُنَيَّ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَّ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ فَلَمْ تَحُكَّ شَيْئًا وَانْقَلَبَتْ، فَقَالَ لَهُ: اطْعَنْ بِهَا طَعْنًا، فَطَعَنَ بِهَا فَنَبَتْ. وَعَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُمَا الصِّدْقَ فِي التَّسْلِيمِ، فَنُودِيَّ: يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا، هَذَا فِدَاءُ ابْنِكَ. فَنَظَرَ إِبْرَاهِيمُ فَإِذَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ، فَذَبَحَهُ، فَهَذَا كَانَ الأَصْلُ فِي سُنَّةِ الذَّبْحِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 بَابُ ذِكْرِ اخْتِلافِ النَّاسِ فِي الذَّبِيحِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ: فَذَهَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو مُوسَى، وَأَنَسٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَكَعْبُ الأَحْبَارِ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَمَسْرُوقٌ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَمُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ فِي آخَرِينَ إِلَى أَنَّهُ إِسْحَاقُ، وَهُوَ الَّذِي يَنْصُرُهُ أَصْحَابُنَا. أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَأَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالُوا: أَنْبَأنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْمَأْمُونِ، أَنْبَأنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْوَارِثُ، عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الذَّبِيحُ إِسْحَاقُ» وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْقُرْطُبِيُّ، وَابْنُ سَابِطٍ إِلَى أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَرَوَى عَنْهُ عِكْرِمَةُ أَنَّهُ إِسْحَاقُ، وَرَوَى عَنْهُ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَأَبُو الْحَوْرَاءِ، وَيُوسُفُ بْنُ مِهْرَانَ أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ. وَرَوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ الْقَوْلَيْنِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 بَابٌ بَيَانُ مَا يَسْتَعْمِلُهُ الْمُضَحِّي مِنَ الأَدَبِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ أَنْ لا يَأْخُذَ مِنْ شَعْرِهِ وَلا مِنْ بَشْرَتِهِ شَيْئًا. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالا: أَنْبَأنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَيُّوبَ، أَنْبَأنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ النَّجَّارُ، قَالَ: قُرِئَ عَلَى أَبِي قِلابَةَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَأَنَا أَسْمَعُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَن ّالنَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ فَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ» وَأَخْبَرَنَا عَالِيًا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، قَالا: أَنْبَأنَا الصَّيْرَفِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو حَفْصٍ الْكَتَّانِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، أَنْبَأنَا عَمْرُو بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ لَهُ ذَبْحٌ يَذْبَحُهُ فإِذَا أَهَلَّ هِلالُ ذِي الْحِجَّةِ فَلا يُأَخَذُ مِنْ شَعْرِهِ وَلا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ» . انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ وَمِنْ ذَلِكَ ذَبْحُهَا بِيَدِهِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْمَأْمُونِ، أَنْبَأنَا ابْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 حُبَابَةَ، أَنْبَأنَا الْبَغَوِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ، أَنْبَأنَا أَبُو زَيْدِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ذَبَحَ أُضْحِيَتَهُ بِيَدِهِ، وَكَبَّرَ عَلَيْهَا» أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، أَنْبَأنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، أَنْبَأنَا ابْنُ مَالِكٍ، أَنْبَأنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، أَنْبَأنَا هِشَامٌ، أَنْبَأنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، أَنْبَأنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، وَكَانَ يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَذْبَحُهُمَا بِيَدِهِ وَاضِعًا عَلَى صِفَاحَهُمَا قَدَمَهُ» . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَالأَمْلَحُ فِي اللُّغَةِ: الَّذِي فِيهِ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ، غَيْرَ أَنَّ الْبَيَاضَ فِيهِ أَكْثَرُ قَالَ الشَّاعِرُ: بِكُلِّ دَهْرٍ قَدْ لَبِسْتَ أَثْوُبَا حَتَّى اكْتَسَى الرَّأْسُ قِنَاعًا أَشْيَبَا أَمْلَحَ لا لَذًّا وَلا مُحَبَّبَا فَصْلٌ فَإِنْ لَمْ يُحْسِنِ الذَّبْحَ فَالأَفضْلُ أَنْ يَشْهَدَهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «قُومِي إِلَى أُضْحِيَتِكِ فَاشْهَدِيهَا» . وَالأَفْضَلُ فِي الأَضَاحِي عِنْدَنَا: الإِبِلُ، ثُمَّ الْبَقَرُ، ثُمَّ الْغَنَمُ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ عَلَى الْعَكْسِ، فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ الْغَنَمَ. وَالأَفْضَلُ فِي الْهَدَايَا وَالأَضَاحِي: الشُّهُبُ، ثُمَّ الصُّفُرُ، ثُمَّ السُّودُ. وَتُجْزِئُ الشَّاةُ الْوَاحِدَةُ عَنْ وَاحِدٍ، وَالْبَدَنَةُ وَالْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ، وَلا فَرْقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 بَيْنَ أَنْ يُرِيدُوا الْقُرْبَةَ أَوْ يُرِيدُ بَعْضُهُمُ الْقُرْبَةَ، وَبَعْضُهُمُ اللَّحْمَ، فَهَذَا قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ صَحَّ الاشْتِرَاكُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُرِيدُ اللَّحْمَ لَمْ يَصِحَّ. وَيُجْزِئ فِي الأَضَاحِي مَا يُجْزِئ في الدماء الواجبة في الجبران، وقد بيناه في باب الإحرام. ولا يجزي في الهدى والأضحية مَا فِيهِ عَيْبٌ يُنْقِصُ اللَّحْمَ، وَهِيَ خَمْسٌ: الْقَرْنُ، وَالأُذُنُ، وَهِيَ الَّتِي قَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ أُذُنِهَا أَوْ قَرْنِهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا: هِيَ الَّتِي ذَهَبَ ثُلُثُ قَرْنِهَا وَأُذُنِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: الْمَقْطُوعَةُ الأُذُنِ تَجُوزُ، وَالْمَكْسُورَةُ الْقَرْنِ إِذَا لَمْ يُدْمِ قَرْنُهَا جَازَ. وَأَمَّا الْجَمَّاءُ فَهَلْ تُجْزِئُ؟ لأَصْحَابِنَا فِيهَا وَجْهَانِ. وَالْعَوْارَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا: وَهِيَ الَّتِي قَدِ انْخَسَفَتْ عَيْنُهَا. وَالْعَجْفَاءُ وَهِيَ الْهَزِيلَةُ الَّتِي لا نَقَى لَهَا، وَهُوَ الْمُخُّ. وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ضِلَعُهَا فَلا تَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ مَعَ الْغَنَمِ، وَلا عَلَى مُشَارَكَتِهِنَّ فِي الْعَلَفِ. وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا: وَهِيَ الْجَرْبَاءُ؛ لأَنَّ جَرَبَهَا يُفْسِدُ اللَّحْمَ. فَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لا يُضَحَّى بِمُقَابِلَةٍ وَلا بِمُدَابِرَةٍ وَلا خَرْقَاءَ، وَلا شَرْقَاءَ» فَهَذَا نَهْيُ تَنْزِيهٍ، وَالإِجْزَاءُ يَقَعُ. وَالْمُقَابِلَةُ: الَّتِي يُقْطَعُ شَيْءٌ مِنْ مَقْدَمِ أُذُنِهَا وَبَقِيَ مُعَلَّقًا. وَالْمُدَابِرَةُ: الَّتِي يُقْطَعُ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ خَلْفِ أُذُنِهَا. وَالْخَرْقَاءُ: الَّتِي قَدْ ثَقَبَ الْكَيُّ أُذُنَهَا، وَيُجْزِئ الْخَصِيُّ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تُذْبَحَ الإِبِلُ قَائِمَةً مُعَقَلَّةً وَتُذْبَحَ مَا سِوَاهَا مُضَجَعَةً، وَلا تُنْحَرُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وَأَيَّامُ النَّحْرِ ثَلاثَةٌ: يَوْمُ الْعِيدِ بَعْدَ صَلاةِ الْعِيدِ أَوْ قَدْرَ الصَّلاةِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ، فَإِنْ خَرَجَ وَقْتُ النَّحْرِ ذَبَحَ الْوَاجِبَ قَضَاءً، فَإِنْ ذَبَحَ التَّطُوُّعَ كَانَ صَدَقَةً بِلَحْمٍ لا أُضْحِيَةً. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَيَّامَ النَّحْرِ إِلَى آخَرِ أَيَّامِ مِنًى إِلَى الْمَغِيبِ. وَهَلْ يَجُوزُ ذَبْحُ الأَضَاحِي وَالْهَدْيِ بِاللَّيْلِ؟ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ، أَصَحُّهَا الْجَوَازُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِيَةُ: لا تُجْزِئُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَلا يَجُوزُ بَيْعُ جُلُودِ الْهَدَايَا وَالأَضَاحِي، وَلا جِلالِهَا، بَلْ يُتَصَدَّقُ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُشْتَرَى بِهِ مَتَاعُ الْبَيْتِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: كَالْغُرْبَالِ وَالْمُنْخُلِ، وَلا يُشْتَرَى بِهِ مَا يُؤْكَلُ. وَالْمَشْرُوعُ فِي الأُضْحِيَةِ عِنْدَنَا أَنْ يَأْكُلَ الثُّلُثَ، وَيُهْدِي الثُّلُثَ، وَيَتَصَدَّقُ بِالثُّلُثِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 بَابٌ ذِكْرُ الْهَدْيِ إِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ نَحَرَ هَدْيًا إِنْ كَانَ مَعَهُ. وَأَوَّلُ مَنْ أَهْدَى إِلَى الْبَيْتِ إِلْيَاسُ بْنُ مُضَرَ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الأَنْبَارِيِّ: قَالَ اللُّغَوِيُّونَ: الْهَدْيُ لِمَا يُهْدَى لِبَيْتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلاءِ: الْهَدْيُ: جَمْعٌ وَاحِدُهُ هَدْيَةٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: بَنُو تَمِيمٍ يَقُولُونَ: هُوَ الْهَدِيُّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ: حَلَفْتُ بِرَبِّ مَكَّةَ وَالْمَطَايَا ... وَأَعْنَاقِ الْهَدِيِّ مُقَلَّدَاتِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْهَدْيُ يُجْمَعُ أَهْدَاءُ، وَهَدَيًا، وَهَدَايَا. وَيُسْتَحَبُّ إِشْعَارُ الْهَدْيِ مِنَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَكَرِهَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَفِي صِفَةِ الإِشْعَارِ قَوْلانِ: أَحَدَهُمَا: أَنْ يَشُقَّ صَفْحَةَ سَنَامِهَا الأَيْمَنِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي: الأَيْسَرُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ كَالْقَوْلَيْنِ، وَلَهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي شَقِّ أَيِّ الْجَانِبَيْنِ. وَتَقْلِيدُ الْغَنَمِ مَسْنُونٌ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَنْ يُقَلِّدَهَا نَعْلا أَوْ أُذُنَ قِرْبَةٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَعِنْدَ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ بِمَسْنُونٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 بَابٌ كَلامُ أَهْلِ الإِشَارَةِ فِي الأَضَاحِي وَالْعِيدِ ! 210 أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو سَعِيدٍ الْحِيرِيُّ، أَنْبَانَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو زُرْعَةَ الطَّبَرِيُّ، قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ، قَالَ: خَرَجَ عَلِيُّ بْنُ الْفَتْحِ الْحَلَبِيُّ يَوْمَ الْنَحْرِ فَرَأَى النَّاسَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، أَرَى النَّاسُ يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْكَ بِأَلْوَانِ الذَّبَائِحِ، وَإِنِّي أَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِحُزْنِي، ثُمَّ غُشِّيَ عَلَيْهِ فَأَفَاقَ، ثُمَّ قَالَ: إِلَهِي إِلَى مَتَى تَرُدَّنِي فِي دَارِ الدُّنْيَا مَحْزُونًا، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ، فَوَقَعَ مِنْ سَاعَتِهِ مَيْتًا ! 211 أَنْبَأنَا زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ، أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ثَابِتٍ الْحَطَّابَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُوسَى، يَقُولُ: رَأَيْتُ فَتْحَ الْمَوْصِلِيَّ فِي يَوْمِ عِيدٍ أَضْحَى وَقَدْ شَمَّ رِيحَ الْقَتَارَ، فَدَخَلَ إِلَى زُقَاقٍ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: تَقَرَّبَ الْمُتَقَرِّبُونَ بِقُرْبَانِهِمْ، وَأَنَا أَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِطُولِ حُزْنِي، يَا مَحْبُوبُ، كَمْ تَتْرُكُنِي فِي أَزِقَّةِ الدُّنْيَا مَحْزُونًا، ثُمَّ غُشِّيَ عَلَيْهِ، وَحُمِلَ فَدَفَنَّاهُ بَعْدَ ثَلاثٍ وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: ضَحَّى الْحَبِيبُ بِقَلْبِي يَوْمَ عِيدِهِمُ ... وَالنَّاسُ ضَحُّوا بِمِثْلِ الشَّاءِ وَالنَّعَمِ إِنَّ الْحَبِيبَ الَّذِي يُرْضِيهِ سَفْكُ دَمِي ... دَمِي حَلالٌ لَهُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ لِلنَّاسِ حِجٌّ وَلِي حِجٌّ إِلَى سَكَنِي ... تُهْدَى الأَضَاحِي وَأُهْدِي مُهْجَتِي وَدَمِي يَطُوفُ بِالْبَيْتِ قَوْمٌ لَوْ بِجَارِحَةٍ ... بِالْحُبِّ طَافُوا لأَلْهَاهُمُ عَنِ الْحَرَمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 يَا لائِمِي لا تَلُمْنِي فِي هَوَاهُ فَلَوْ ... عَانَيْتَ مِنْهُ الَّذِي عَانَيْتُ لَمْ تَلُمِ ! 212 أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي صَادِقٍ، أَنْبَأنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، قَالَ: أَنْشَدَنِي أَبُو الْحَسَنِ الْحَنْظَلِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ الشِّبْلِيَّ يُنْشِدُ يَوْمَ عِيدٍ: لَيْسَ عِيدَ الْمُحِبِّ قَصْدُ الْمُصَلَّى ... وَانْتِظَارُ الْجُلُوسِ وَالسُّلْطَانِ إِنَّمَا الْعِيدُ أَنْ يَكُونَ لَدَى الْمُحِبِّ ... كَرِيمًا مُقَرَّبًا فِي أَمَانِ وَيُرْوَى عَنِ الشِّبْلِيِّ أَنَّهُ أَنْشَدَ يَوْمَ عِيدٍ: عِيدِي مُقِيمٌ وَعِيدُ النَّاسِ مُنْصَرِفُ ... وَالْقَلْبُ مِنِّي عَنِ اللَّذَّاتِ مُنْحَرِفُ وَلِي قَرِينَانِ مَالِي مِنْهُمَا خُلْفٌ ... طُولُ الْحَنِينِ وَعَيْنٌ دَمْعُهَا يَكْفُ ! 213 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، أَنْبَأنَا هَنَّادٌ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ، يَقُولُ: كَانَ الشِّبْلِيُّ يَوْمَ الْعِيدِ يَنُوحُ وَيَصِيحُ، وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ سُودٌ وَزُرْقٌ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَسَأَلُوهُ عَنْ حَالِهِ، فَقَالَ: تَزَيَّنَ النَّاسُ يَوْمَ الْعِيدِ لِلْعِيدِ ... وَقَدْ لَبِسْتُ ثِيَابَ الزُّرْقِ وَالسُّودِ وَأَصْبَحَ الْكُلُّ مَسْرُورًا بِسَيِّدِهِمْ ... وَرُحْتُ فِيكُمْ إِلَى نَوْحٍ وَتَعْدِيدِ وَالنَّاسُ فِي فَرَحٍ وَالْقَلْبُ فِي تَرَحٍ ... شَتَّانَ بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ فِي الْعِيدِ ! 214 أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأنَا الْحُمَيْدِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ الأُرْدِسْتَانِيُّ، أَنْبَأنَا السُّلَمِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ الشِّبْلِيَّ يُنْشِدُ يَوْمَ عِيدٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 النَّاسُ يَوْمَ الْعِيدِ قَدْ سُرُّوا وَقَدْ فَرِحُوا ... وَمَا سُرِرْتُ بِهِ هُوَ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ لَمَّا تَيَقَّنْتُ أَنِّي لا أُعَايِنُكُمْ ... غَمَّضْتُ طَرْفِي فَلَمْ أَنْظُرْ إِلَى أَحَدِ وَأَنْشَدَ الشِّبْلِيُّ يَوْمَ عِيدٍ: إِذَا مَا كُنْتَ لِي عِيدًا ... فَمَا أَصْنَعُ بِالْعِيدِ جَرَى حُبُّكَ فِي قَلْبِي ... كَجَرْيِ الْمَاءِ فِي الْعُودِ ! 215 أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، أَنْبَأنَا الْحُمَيْدِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ الأُرْدِسْتَانِيُّ، أَنْبَأنَا السُّلَمِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَلاءِ، يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ لأَبِي عَلِيٍّ الرُّوذَبَارِيِّ: غَدًا الْعِيدُ فَغَيِّرْ مِنْ زِيِّكَ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ: قَالُوا: غَدًا الْعِيدُ مَاذَا أَنْتَ لابِسُهُ ... فَقُلْتُ: خُلْعَةَ سَاقٍ حُبَّهُ جَرَعَا فَقْرٌ وَصَبْرٌ هُمَا ثَوْبَايَ تَحْتَهُمَا ... قَلْبٌ يَرَى إِلْفَهُ الأَعْيَادَ وَالْجُمُعَا أَحْرَى الْمَلابِسِ أَنْ تَلْقَى الْحَبِيبَ بِهَا ... يَوْمَ التَّزَاوُرِ فِي الثَّوْبِ الَّذِي خُلِعَا الدَّهْرُ لِي مَا تَمَّ إِنْ غِبْتَ يَا أَمَلِي ... وَالْعِيدُ مَا كُنْتَ لِي مَرْءًا وَمُسْتَمَعَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 بَابُ الْحِلاقِ وَالتَّقْصِيرِ إِذَا ذَبَحَ حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ جَمِيعَ رَأْسِهِ، لا يُجْزِئُهُ دُونَ ذَلِكَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالأُخْرَى يُجْزِئُهُ بَعْضُهُ كَالْمَسْحِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَعْرًا اسْتَحَبَّ أَنْ يُمِرَّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ، وَالْمَرَأَةُ تُقَصِّرُ مِنْ شَعْرِهَا قَدْرَ الأُنْمُلَةِ وَلا تَحْلِقُ. وَمَنْ قَدَّمَ الْحِلاقَ عَلَى الرَّمْيِ أَوْ عَلَى النَّحْرِ جَاهِلا بِالسُّنَّةِ، فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ، فَهْلَ عَلَيْهِ دَمٌ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَرَّ الْحِلاقَ عَنْ أَيَّامِ مِنًى فَهَلْ يَلْزَمُهُ دَمٌ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلَهُ عَنِ الْحَجِّ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: «وَأَمَّا حَلْقُ رَأْسِكَ فَلَكَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ نُورٌ» . وَفِي لَفْظٍ: «إِذَا أَنْتَ حَلَقْتَ رَأْسَكَ تَنَاثَرَتِ الذُّنُوبُ كَمَا يَتَنَاثَرُ الشَّعْرُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ ذَنْبٌ» . أَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعْمَرِ الأَنْصَارِيُّ، أَنْبَأنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلالُ، أَنْبَأنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ، أَنْبَأنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَهْلٍ الْمَدَائِنِيُّ، حَدَّثَنِي سَيْفُ بْنُ جَابِرٍ الْقَاضِي، عَنْ وَكِيعٍ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو حَنِيفَةَ النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَخْطَأْتُ فِي خَمْسَةِ أَبْوَابٍ مِنَ الْمَنَاسِكِ، فَعَلَّمَنِيهَا حَجَّامٌ، وَذَلِكَ أَنِّي حِينَ أَرَدْتُ أَنْ أَحْلِقَ رَأْسِي وَقَفَ عَلَيَّ حَجَّامٌ، فَقُلْتُ لَهُ: بِكَمْ تَحْلِقُ رَأْسِي؟ فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 أَعِرَاقِيٌّ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: النُّسُكُ لا يُشَارَطُ عَلَيْهِ، اجْلِسْ. فَجَلَسْتُ مُنْحَرِفًا عَنِ الْقِبْلَةِ، فَقَالَ لِي: حَوِّلْ وَجْهَكَ إِلَى الْقِبْلَةِ. فَحَوَّلْتُهُ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَحْلِقَ مِنَ الْجَانِبِ الأَيْسَرِ، فَقَالَ: أَدِرِ الشِّقَّ الأَيْمَنَ مِنْ رَأْسِكَ، فَأَدَرْتُهُ، وَجَعَلَ يَحْلِقُ وَأَنَا سَاكِتٌ، فَقَالَ: كَبِّرْ. فَجَعَلْتُ أُكَبِّرُ حَتَّى قُمْتُ لأَذْهَبَ، فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: رَحْلِي. قَالَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ امْضِ. فَقُلْتُ: مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَا رَأَيْتَ مِنْ عَقْلِ هَذَا الْحَجَّامِ. فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ لَكَ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ يَفْعَلُ هَذَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَنْبَأنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّصِيبِيُّ، أَنْبَأنَا ابْنُ سُوَيْدٍ، أَنْبَانَا ابْنُ الأَنْبَارِيِّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُحَيْمِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَجَّ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ فَطَلَبَ حَلاقًا، فَحَلَقَ رَأْسَهُ، فَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَتَحَيَّرَ وَدُهِشَ، وَقَالَ: هَذِهِ الأَلْفُ لِي، أَمْضِ إِلَى أُمِّ فُلانٍ أُبَشِّرُهَا. فَقَالَ: أَعْطُوهُ أَلْفًا آخَرَ. فَقَالَ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إِنْ حَلَقَ رَأْسَ أَحَدٍ بَعْدَكَ. فَقَالَ: أَعْطُوهُ أَلْفَيْنِ آخَرَيْنِ فَصْلٌ وَلِلْحَجِّ تَحَلُّلانِ: فَالأَوَّلُ يَحْصُلُ بِشَيْئَيْنِ مِنْ ثَلاثَةٍ: بِالرَّمْيِ وَالطَّوَافِ، أَوْ بِالرَّمْيِ وَالْحِلاقِ، أَوْ بِالْحِلاقِ وَالطَّوَافِ، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ حَلَّ لَهُ سَائِرُ مَحُظَورَاتِ الإِحْرَامِ إِلا النِّسَاءَ، فَإِذَا وُجِدَ الثَّالِثُ تَحَلَّلَ التَّحَلُّلُ الثَّانِي وَحَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 بَابُ مَسْجِدِ الْخَيْفِ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ اللُّغَوِيُّ: الْخَيْفُ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْوَادِي وَانْحَدَرَ مِنَ الْجَبَلِ. أَنْبَأنَا الْحَرِيرِيُّ، عَنِ الْعُشَارِيِّ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ الْهَاشِمِيُّ، أَنْبَأنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، أَنْبَأنَا الأَزْرَقِيُّ، حَدَّثَنِي جَدِّي، أَنْبَانَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ سَبْعُونَ نَبِيًا كُلُّهُمْ مَخْطُمُونَ بِاللِّيفِ» . قَالَ مَرْوَانُ: يَعْنِي: رَوَاحِلَهُمْ وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، أَنْبَأنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَنْبَأنَا أَبُو طَالِبٍ الْعُشَارِيُّ، أَنْبَأنَا ابْنُ أَخِي مِيمِي، أَنْبَأنَا ابْنُ صَفْوَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: كَانَ يَلْتَقِي هُوَ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي الْمَوْسِمِ كُلَّ عَامٍ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ إِذَا هَدَأَتِ الرِّجْلُ، وَنَامَتِ الْعَيْنُ، وَمَعَهُمَا جُلاسٌ لَهُمَا يَتَحَدَّثُونَ إِلَيْهِمَا، فَبَيْنَمَا هُمَا ذَاتَ لَيْلَةٍ يَتَحَدَّثَانِ مَعَ جُلَسَائِهِمَا إِذْ أَقْبَلَ طَائِرٌ لَهُ حَفِيفٌ، حَتَّى وَقَعَ إِلَى جَانِبِ وَهْبٍ فِي الْحَلَقَةِ، فَسَلَّمَ، فَرَدَّ وَهْبٌ عَلَيْهِ السَّلامَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ، مِنْ مُسْلِمِيهِمْ، قَالَ: فَمَا حَاجَتُكَ: قَالَ: وَتُنْكِرُ أَنْ نُجَالِسَكُمْ وَنَحْمِلَ عَنْكُمْ؛ إِنَّ لَكُمْ فِينَا رُوَاةٌ كَثِيرٌ، وَإِنَّا لَنُحَاضِرُكُمْ فِي أَشْيَاءَ، مِنْ صَلاةٍ وَجِهَادٍ وَحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَنَحْمِلُ عَنْكُمُ الْعِلْمَ، فَقَالَ وَهْبٌ: فَأَيُّ رُوَاةِ الْجِنِّ عِنْدَكُمْ أَفْضَلُ؟ قَالَ: رُوَاةُ هَذَا الشَّيْخِ، وَأَشَارَ إِلَى الْحَسَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَمِمَّا قَالَتِ الشُّعَرَاءِ فِي ذِكْرِ الْخَيْفِ قَوْلُ عَمْرُو بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: قُلْ لِلْمَنَازِلِ بِالْكَدِيدِ تَكَلَّمِي ... دَرَسَتْ وَعَهْدُ جَدِيدِهَا لَمْ يَقْدَمِ وَإِذَا الَّتِي تَبَّلَتْ فُؤَادُكَ غُدْوَةً ... بِالْخَيْفِ لَمَّا الْتَفَّ أَهْلُ الْمَوْسِمِ وَلِمِهْيَارٍ: لَيْتَ بَيْتًا بِالْخَيْفِ أَمْسَ اسْتَضَفْنَاهُ ... قِرَانًا وَلَوْ غَرَامًا وَوَجْدَا لا عَدَا الرُّوحَ مِنْ تِهَامَةَ أَنْفَاسًا ... إِذَا اسْتَرْوَحَتْ تَمَنَيَّتْ نَجْدَا وَلَهُ: يَا مَنْ رَأَى بِالْعَقِيقِ بَارِقَةً ... يَحْتَسِرُ مِنْهَا الرُّبَى وَيَعْتَمُّ يَقْدَحُ زِنْدُ الْجَنُوبِ جَذْوَتَهَا ... وَشَدْوَةُ اللَّيْلِ تَحْتَهَا فَحْمُ تُذَكِّرُنِي لَمْحَةٌ زَمَانًا عَلَى الْخَيْفِ ... فَقَضَى كَأَنَّهُ الْحُلْمُ هَلْ لَكَ بِالنَّازِلِينَ أَرْضَ مِنًى ... يَا عَلَمَ الشَّقِّ بَعْدَنَا عِلْمُ؟ جَرَتْ مَعَ الرَّسْمِ مُحَاوِرَةٌ ... فَهِمْتُ مِنْهَا مَا قَالَهُ الرَّسْمُ وَلِعَلِيِّ بْنِ أَفْلَحَ: هَذِهِ الْخَيْفُ وَهَاتِيكَ مِنًى ... فَتَرَفَّقْ أَيُّهَا الْحَادِي بِنَا وَاحْبِسِ الرَّكْبَ عَلَيْنَا سَاعَةً ... نَنْدُبُ الرَّبْعَ وَنَبْكِي الدِّمَنَا فَلِذَا الْمَوْقِفِ أَعْدَدْنَا الْبُكَا ... وَلِذَا الْيَوْمِ الدُّمُوعُ تُقْتَنَى زَمَنًا كَانَ وَكُنَّا جِيرَةً ... يَا أَعَادَ اللَّهُ ذَاكَ الزَّمَنَا بَيْنَنَا يَوْمَ أُثَيْلاتِ النَّقَا ... كَانَ عَنْ غَيْرِ تَرَاضٍ بَيْنَنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 بَابُ ذِكْرِ التَّكْبِيرِ أَمَّا الْمُحْرِمُ فَإِنَّهُ يُكَبِّرُ عُقَيْبَ سَبْعَ عَشْرَةَ صَلاةً، أَوَّلُهَا صَلاةُ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَآخِرُهَا صَلاةُ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَأَمَّا الْمُحِلُّ فَيَبْتَدِئُ التَّكْبِيرُ عُقَيْبَ صَلاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَيَقْطَعُ بَعْدَ صَلاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ لا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُحِلِّ وَالْمُحْرِمِ. وَصِفَةُ التَّكْبِيرِ شَفْعًا: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَإِنَّمَا يُكَبِّرُ إِذَا صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ. وَهَلْ يُكَبِّرُ الْمُنْفَرِدُ؟ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ: أَحَدُهُمَا: يُكَبِّرُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَعِنْدَنَا أَنَّهُ لا يُكَبِّرُ عُقَيْبَ النَّوَافِلِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يُكَبِّرُ. وَعِنْدَنَا أَنَّهُ يُكَبِّرُ الْمُسَافِرُ خِلافًا لأَبِي حَنِيفَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 أَبْوَابُ ذِكْرِ مَكَّةَ بَابٌ فِي ذِكْرِ الْمَشْهُورِ مِنْ أَسْمَائِهَا قَدْ سَمَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَكَّةَ بِأَرْبَعَةِ أَسْمَاءَ: مَكَّةُ، وَالْبَلَدُ، وَالْقَرْيَةُ، وَأُمُّ الْقُرَى. فَأَمَّا مَكَّةُ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24] . وَأَمَّا الْكَلامُ فِي هَذَا الاسْمِ فَقَالَ الزَّجَّاجُ: لا يَنْصَرِفُ لأَنَّهَا مُؤَنَّثَةٌ وَهِيَ مَعْرِفَةٌ، وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ اشْتِقَاقُهَا كَاشْتِقَاقِ بَكَّةَ؛ لأَنَّ الْمِيمَ تُبْدَلُ عَنِ الْبَاءِ. يُقَالُ: ضَرَبَهُ لازِمٌ وَلازِبٌ، وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ اشْتِقَاقُهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: امْتَكَّ الْفَصِيلُ مَا فِي ضَرْعِ النَّاقَةِ: إِذَا امْتَصَّ مَصًّا شَدِيدًا لا يُبْقِي فِيهِ شَيْئًا، فَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِشِدَّةِ ازْدِحَامِ النَّاسِ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: تَمَكَّكْتَ الْعَظْمَ: إِذَا أَخْرَجْتَ مُخَّهُ. وَفِي تَسْمِيَةِ مَكَّةَ بِهَذَا الاسْمِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: لأَنَّهَا مَثَابَةٌ يَؤُمُّهَا النَّاسُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ، فَكَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَجْذِبُهُمْ إِلَيْهَا، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: امْتَكَّ الْفَصِيلُ مَا فِي ضَرْعِ النَّاقَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: مَكَكْتُ الرَّحْلَ، إِذَا أَرَدْتَ نَحْوِيَةً، فَكَأَنَّهَا تَمَكُّ مَنْ ظَلَمَ فِيهَا أَيْ تُهْلِكُهُ، وَأَنْشَدُوا: يَا مَكَّةُ الْفَاجِرَ مُكِّي مَكًّا ... وَلا تَمُكِّي مُذْحِجًا وَعَكَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا سُمِيِّتْ بِذَلِكَ لِجَهْدِ أَهْلِهَا. وَالرَّابَعُ: لِقِلَّةِ الْمَاءِ بِهَا. وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مَكَّةَ اسْمٌ لِجَمِيعِ الْبَلَدِ، وَاخْتَلَفُوا فِي بَكَّةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ الَّتِي فِيهَا الْكَعْبَةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَا حَوْلَ الْبَيْتِ، وَمَكَّةُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا الْمَسْجِدُ وَالْبَيْتُ. وَمَكَّةُ: اسْمٌ لِلْحَرَمِ كُلِّهِ، قَالَهُ الزُّهْرِيُّ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ بَكَّةَ هِيَ مَكَّةُ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَاحَتَّجَ لِتَصْحِيحِهِ ابْنُ قُتَيْبَةَ بِأَنَّ الْبَاءَ تُبْدَلُ مِنَ الْمِيمِ، يُقَالُ: سَبَدَ الرَّجُلُ رَأْسَهُ وَسَمَدَهُ: إِذَا اسْتَأْصَلَهُ. وَشَرٌّ لازِمٌ وَلازِبٌ. فَأَمَّا اشْتِقَاقُ بَكَّةَ فَمِنَ الْبَكِّ. يُقَالُ: بَكَّ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَيْ: دَفَعَ. وَفِي تَسْمِيَتِهَا بَكَّةَ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: لازْدِحَامِ النَّاسِ بِهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: لأَنَّهَا تَبُكُّ أَعْنَاقَ الْجَبَابِرَةِ، أَيْ: تَدُقُّهَا، فَمَا قَصَدَهَا جَبَّارٌ إِلا وَقَصَمَهُ اللَّهُ، قَالَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ. وَالثَّالِثُ: لأَنَّهَا تَضَعُ مِنْ نَخْوَةِ الْمُتَكَبِّرِينَ، قَالَهُ الْيَزِيدِيُّ. وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا بِالْبَلَدِ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1] يَعْنِي مَكَّةَ، وَالْبَلَدُ فِي اللُّغَةِ: صَدْرُ الْقُرَى. وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا بِالْقَرْيَةِ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} [النحل: 112] أَيْ: يُشِيرُ إِلَى مَكَّةَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ ذَاتَ أَمْنٍ يَأْمَنُ أَهْلُهَا مِنْ أَنْ يُغَارَ عَلَيْهِمْ، {مُطْمَئِنَّةً} [النحل: 112] أَيْ: سَاكِنَةً بِأَهْلِهَا لا يَحْتَاجُونَ إِلَى الانْتِقَالِ عَنْهَا لِخَوْفٍ أَوْ ضِيقٍ. {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا} [النحل: 112] وَالرَّغَدُ: الرِّزْقُ الْوَاسِعُ الْكَثِيرُ، يُقَالُ: أَرْغَدَ فُلانٌ، إِذَا صَارَ فِي خَصْبٍ. {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل: 112] أَيْ: كَذَّبَتْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112] وَأَصْلُ الذَّوْقِ بِالْفَمِّ، وَلَكِنَّهُ اسْتِعَارَةٌ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ كُفَّارَ مَكَّةَ بِالْجُوعِ سَبْعَ سِنِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 حَتَّى أَكَلُوا الْجِيَفَ وَالْعِظَامَ الْمُحْرَقَةَ، وَكَانُوا يَخَافُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ سَرَايَاهُ. وَالْقَرْيَةُ: اسْمٌ لِمَا يَجْمَعُ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَمْعِ، يُقَالُ: قَرَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ، إِذَا جَمَعْتُهُ فِيهِ، وَيُسَمَّى لِذَلِكَ الْحَوْضُ: مِقْرَاةً. وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا بِأُمِّ الْقُرَى، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} [الشورى: 7] يَعْنِي: مَكَّةَ. وَفِي تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الأَرْضَ دُحِيَتْ مِنْ تَحْتِهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لأَنَّهَا أَقْدَمُهَا. وَالثَّانِي: لأَنَّهَا قِبْلَةٌ يَؤُمُّهَا جَمِيعُ النَّاسِ. وَالثَّالِثُ: لأَنَّهَا أَعْظَمُ الْقُرَى شَأْنًا. وَالرَّابِعُ: لأَنَّ فِيهَا بَيْتَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمَّا اطَّرَدَتِ الْعَادَةُ أَنَّ بَلَدَ الْمَلِكِ وَبَيْتَهُ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى الأَمَاكِنِ سُمِّي أُمًّا؛ لأَنَّ الأُمَّ مُتَقَدِّمَةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 بَابُ فَضْلِ مَكَّةَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأنَا جَابِرُ بْنُ يَاسِينَ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، قَالا: أَخْبَرَنَا الْمُخَلِّصُ، حَدَّثَنَا ابْنُ صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي بَزَّةَ، حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبَاحٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: خَرَجْتُ فِي وَفْدٍ وَفِينَا أَبُو هُرَيْرَةَ حَدِيثًا ذَكَرَهُ أَنَّهُ قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ أَتَتْهُ الأَنْصَارُ فَجَلَسُوا حَوْلَهُ، فَجَعَلَ يُقَلِّبُ بَصَرَهُ فِي نَوَاحِي مَكَّةَ وَيَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَيَقُولُ: «وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكِ أَحَبُّ الْبِلادِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَكْرَمُهاُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَوْلا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مَا خَرَجْتُ» أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْضَرِيبِيِّ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدَانَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ الصَّفَدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِّي بْنِ الْحَمَرَاءِ، أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْحَزُورَةِ مِنْ سُوقِ مَكَّةَ: «وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَيْهِ، وَلَوْلا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ» أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْعَلافِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْحَمَامِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الصَّوَّافِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ السَّلُولِيِّ، عَنْ كَعْبٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 قَالَ: «اخْتَارَ اللَّهُ الْبِلادَ فَأَحَبُّ الْبِلادِ إِلَى اللَّهِ الْبَلَدُ الْحَرَامُ» قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ حُدِّثْنَا أَنَّ قُرَيْشًا وَجَدَتْ فِي الرُّكْنِ كِتَابًا بِالسِّرْيَانِيَّةِ، فَلَمْ تَدْرِ مَا فِيهِ حَتَّى قَرَأَهُ لَهُمْ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَإِذَا فِيهِ أَنَا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ، خَلَقْتُهَا يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَصَوَّرْتُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَحَفَفْتُهَا بِسَبْعَةِ أَمْلاكٍ، حُنَفَاءَ، وَلا تَزُولُ مَكَّةُ حَتَّى تَزُولَ أَخْشَبَاهَا، مُبَارَكٌ لأَهْلِهَا فِي الْمَاءِ وَاللَّبَنِ. وَالأَخْشَبَانِ: الْجَبَلانِ، وَهُمَا: أَبُو قُبَيْسٍ، وَالْجَبَلُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الأَحْمَرُ، وَكَانَ يُسَمَّى الأَعْرَفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ الْجَبَلُ الْمُشْرِفُ وَجْهُهُ عَلَى قُعَيْقِعَانَ، وَمَكَّةُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ. وَاخْتَلَفُوا لِمَ قِيلَ لِلْجَبَلِ أَبُو قُبَيْسٍ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ نَهَضَ بِبِنَائِهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو قُبَيْسٍ، فَلَمَّا صَعِدَ بِالْبِنَاءِ فِيهِ سُمِّيَ جَبَلُ أَبِي قُبَيْسٍ. وَالثَّانِي أَنَّهُ اقْتُبِسَ مِنْهُ الرُّكْنُ فَسُمِّيَ لِذَلِكَ، وَالأَوَّلُ أَصَحُّ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: " إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يُحِلَّ الْقِتَالَ فِيهِ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يُحِلَّ لِي إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لا يُعَضَّدُ شَوْكُهُ، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ إِلا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلا يُخْتَلَى خَلاهُ. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهُ، إِلا الإِذْخَرَ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 فَقَالَ: إِلا الإِذْخَرَ ". الْخَلا مَقْصُورٌ: هُوَ الْحَشِيشُ، فَإِذَا مُدَّ فَهُوَ الْمَكَانُ الْخَالِي. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ فَضْلِ مَكَّةَ مُضَاعَفَةَ الْحَسَنَاتِ بِهَا وَالسَّيِّئَاتِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ هَمَّ الإِنْسَانُ بِسَيِّئَةٍ كُتِبَتْ عَلَيْهِ بِخِلافِ غَيْرِهَا مِنَ الْبِقَاعِ، كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: «لَوْ أَنَّ رَجُلا هَمَّ بِقَتْلِ مُؤْمِنٍ عِنْدَ الْبَيْتِ وَهُوَ بَعَدَنَ أَبْيَنَ، أَذَاقَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا الْعَذَابَ الأَلِيمَ» . وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّ الرَّجُلَ يَهُمُّ بِالْخَطِيئَةِ بِمَكَّةَ وَهُوَ بِأَرْضٍ أُخْرَى فَتُكْتَبُ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَعْمَلْهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تُضَاعَفُ السَّيِّئَاتُ بِمَكَّةَ كَمَا تُضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، هَلْ تُكْتَبُ السَّيِّئَةُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ؟ قَالَ: لا إِلا بِمَكَّةَ لِتَعْظِيمِ الْبَلَدِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: صَوْمُ يَوْمٍ بِمَكَّةَ بِمِائَةِ أَلْفِ يَوْمٍ، وَصَدَقَةُ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَكُلُّ حَسَنَةٍ بِمِائَةِ أَلْفٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، كَانَ يُعْجِبُهُمْ إِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ أَنْ لا يَخْرُجُوا حَتَّى يَخْتِمُوا الْقُرْآنَ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: «لا تَحْتَكِرُوا الطَّعَامَ بِمَكَّةَ فَإِنَّ احْتِكَارَ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ إِلْحَادٌ بِظُلْمٍ» أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْحِيرِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَاكَوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 جَعْفَرُ بْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ الأَهْوَازِيُّ، قَالَ: قَالَ لِي سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مُخَالَطَةُ الْوَلِيِّ لِلنَّاسِ ذُلٌّ، وَتَفَرُّدُهُ عِزٌّ، وَقَلَّمَا رَأَيْتُ وَلِيًّا لِلَّهِ إِلا مُنْفَرِدًا، إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَالِحٍ كَانَ رَجُلا لَهُ سَابِقَةٌ جَلِيلَةٌ، وَكَانَ يَفِرُّ مِنَ النَّاسِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ فَطَالَ مُقَامُهُ بِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ طَالَ مُقَامُكَ بِهَا. فَقَالَ لِي: لِمَ لا أُقِيمُ بِهَا وَلَمْ أَرَ بَلَدًا تَنْزِلُ فِيهَا الرَّحْمَةُ وَالْبَرَكَةُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ؟ وَالْمَلائِكَةُ تَغْدُو فِيهِ وَتَرُوحُ، وَإِنِّي أَرَى فِيهِ أَعَاجِيبَ كَثِيرَةً: أَرَى الْمَلائِكَةَ يَطُوفُونَ بِهِ عَلَى صُوَرٍ لا يَقْطَعُونَ ذَلِكَ، وَلَوْ قُلْتُ لَكَ كُلَّ مَا رَأَيْتُ لَصَغُرَتْ عَنْهُ عُقُولُ قَوْمٍ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ. فَقُلْتُ لَهُ: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ إِلا أَخْبَرْتَنِي بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: مَا مِنْ وَلِيٍّ لِلَّهِ تَعَالَى صَحَّتْ وِلايَتُهُ إِلا وَهُوَ يَحْضُرُ هَذَا الْبَلَدَ كُلَّ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ، لا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، فَمُقَامِي هَاهُنَا لأَجْلِ مَنْ أَرَاهُ مِنْهُمْ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلا يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ بْنُ الْقَاسِمِ، جَبَلِيٌّ، وَقَدْ جَاءَ وَيَدُهُ غَمِرَةٌ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّكَ قَرِيبُ عَهْدٍ بِأَكْلٍ؟ فَقَالَ لِي: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ فَإِنِّي مُنْذُ أُسْبُوعٍ لَمْ آكُلْ، وَلَكِنْ أَطْعَمْتُ وَالِدَتِي وَأَسْرَعْتُ لأَلْحَقَ صَلاةَ الْفَجْرِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ سَبْعُ مِائَةِ فَرْسَخٍ، فَهَلْ أَنْتَ مُؤْمِنٌ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرَانِي مُؤْمَنًا مُوقِنًا وَفِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ: جَاءَ وَيَدُهُ غَمِرَةٌ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ عَنِ اللَّحْمِ خَاصَّةً أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَرَقَنْدِيُّ، أَنْبَأنَا عَبْدُ الْغَافِرِ، حَدَّثَنَا الْخَطَّابِيُّ، أَخْبَرَنِي أَبُو عُمَرَ، حَدَّثَنَا ثَعْلَبٌ، عَنِ ابْنِ الأَعْرَابِيِّ، قَالَ: الْعَرَبُ تَقُولُ: يَدِي مِنَ اللَّحْمِ غَمِرَةٌ، وَمِنَ الْوَحْلِ لَثِقَةٌ، وَمِنَ السَّمَكِ صَمِرَةٌ، وَمِنَ اللَّبَنِ وَالزُّبْدِ شَتِرَةٌ، وَمِنَ الْعَجِينِ وَرِخَةٌ، وَمِنَ الدَّمِ سَلِطَةٌ وَطَلِسَةٌ، وَمِنَ الثَّرِيدِ مَرِدَةٌ، وَمِنَ الْحَمَأَةِ رَدِغَةٌ، وَمِنَ الأَشْنَانِ قَضِضَةٌ، وَمِنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 الْمِدَادِ وَحِدَه، وَمِنَ الْمَاءِ بَلِلَة، وَمِنَ الْبَزَرِ وَالنَّفْطِ نَمِسَةٌ، وَنَسِمَةٌ، وَمِنَ الزَّعْفَرَانِ رَدِعَةٌ، وَمِنَ الْمِسْكِ عَبِقَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 بَابٌ بَيَانُ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَهْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ عَلَى مَكَّةَ، قَالَ: «يَا عَتَّابُ، أَتَدْرِي عَلَى مَنِ اسْتَعْمَلْتُكَ؟ عَلَى أَهْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَاسْتَوْصِ بِهِمْ خَيْرًا» ، يَقُولُهَا ثَلاثًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ فِيمَا مَضَى يُلْقَوْنَ فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ أَهْلِ اللَّهِ. وَكَانَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ يَرْوِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: «مَنْ أَمَّنَ أَهْلَ الْحَرَمِ اسْتَوْجَبَ بِذَلِكَ أَمَانِي، وَمَنْ أَخَافَهُمْ فَقَدْ أَخْفَرَنِي فِي ذِمَّتِي، وَلِكُلِّ مَلِكٍ حِيَازَةٌ مِمَّا حَوَالَيْهِ، وَبَطْنُ مَكَّةَ حَوْزَتِي الَّتِي اخْتَرْتُ لِنَفْسِي، أَنَا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ، أَهْلُهَا جِيرَتِي، وَجِيرَانُ بَيْتِي، وَعُمَّارُهَا وَزُوَّارُهَا وَفْدِي وَأَضْيَافِي، وَفِي كَنَفِي وَأَمَانِي، ضَامِنُونَ عَلَيَّ وَفِي ذِمَّتِي وَجِوَارِي» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 بَابٌ في ذِكْرُ فَتْحِ مَكَّةَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَرَجَ لِلْعُمْرَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَسَاقَ بُدْنًا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ، جَلَّلَ الْبُدْنُ، وَأَشْعَرَهَا، وَقَلَّدَهَا، وَأَحْرَمَ وَلَبَّى. وَبَلَغَ الْمُشْرِكِينَ خُرُوجُهُ، فَأَجْمَعُوا عَلَى صَدِّهِ وَخَرَجُوا فَعَسْكَرُوا بِبَلْدَحٍ، فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَفَتْ رَاحِلَتُهُ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: حَلْ حَلْ، يَزْجُرُونَهَا، فَأَبَتْ. فَقَالُوا: خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ. فَقَالَ: «مَا خَلأَتْ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ، أَمَا وَاللَّهِ لا يَسْأَلُونِي الْيَوْمَ خُطَّةً فِيهَا تَعْظِيمُ حُرْمَةِ اللَّهِ إِلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا» ، ثُمَّ زَجَرَهَا، فَقَامَتْ، فَوَلَّى رَاجِعًا حَتَّى نَزَلَ عَلَى ثَمَدٍ مِنْ أَثْمَادِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَجَاءَ الْقَوْمُ فَصَالَحُوهُ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ، وَشَرَطُوا أَنْ يَأْتِيَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَيَدْخُلَ مَكَّةَ، وَيُقِيمَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ. فَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَغَارَتْ قُرَيْشٌ بَعْدُ عَلَى خُزَاعَةَ، ثُمَّ نَدِمُوا وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ قَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ بِذَلِكَ، فَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ وَدَخَلَهَا عَنْوَةً فِي رَمَضَانَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: " دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَحَوْلَ الْبَيْتِ ثَلاثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ كَانَ فِي يَدِهِ، وَيَقُولُ: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 زَهُوقًا} [الإسراء: 81] ، {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49] . ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى مَكَّةَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ، يُصَلِّي بِهِمْ، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُعَلِّمُهُمُ السُّنَنَ وَالْفِقْهَ. وَلَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى الْعُزَّى وَكَانَتْ بِنَخْلَةَ، وَكَانَتْ لِقُرَيْشٍ وَجَمِيعِ بَنِي كِنَانَةَ، وَهِيَ أَعْظَمُ أَصْنَامِهِمْ. قَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ صَنَمٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهَا شَجَرَةٌ كَانَتْ لِغَطْفَانَ يَعْبُدُونَهَا. وَبَعَثَ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ إِلَى ذِي الْكَفَّيْنِ، صَنَمِ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ الدَّوْسِيِّ. وَبَعَثَ سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ الأَشْهَلِيَّ إِلَى مَنَاةَ، قَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ صَنَمٌ لِهُذَيْلٍ وَخُزَاعَةَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلْ كَانَتْ مَنَاةُ لِلأَنْصَارِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيَدَةَ: كَانَتِ: اللاتُ، وَالْعُزَّى وَمَنَاةُ أَصْنَامًا مِنْ حِجَارَةٍ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ يَعْبُدُونَهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 بَابٌ أَذَانُ بِلالٍ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ يَوْمَ الْفَتْحِ أَنْبَأنَا الْحَرِيرِيُّ، عَنِ الْعُشَارِيِّ، قَالَ: أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ الْهَاشِمِيُّ، أَنْبَأنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ الأَزْرَقِيُّ، أَخْبَرَنِي جَدِّي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنْ أَشْيَاخِهِ، قَالَ: حَانَ الظُّهْرُ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلالا أَنْ يُؤَذِّنَ بِالظُّهْرِ فَوْقَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، وَقُرَيْشٌ فَوْقَ الْجِبَالِ، وَقَدْ فَرَّ وُجُوهُهُمْ وَتَغَيَّبُوا خَوْفًا أَنْ يُقْتَلُوا، وَمِنْهُمْ مَنْ طَلَبَ الأَمَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ أُومِنَ. فَلَمَّا أَذَّنَ بِلالٌ وَرَفَعَ صَوْتَهُ كَأَشَدِّ مَا يَكُونُ، فَلَمَّا قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، تَقُولُ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ أَبِي جَهْلٍ: قَدْ لَعَمْرِي رَفَعَ لَكَ ذِكْرَكَ، أَمَّا الصَّلاةُ فَسَنُصَلِّي وَوَاللَّهِ مَا نُحِبُّ مَنْ قَتَلَ الأَحِبَّةَ. وَقَالَ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ: الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَكْرَمَ أَبِي فَلَمْ يَسْمَعْ بِهَذَا الْيَوْمَ، وَكَانَ أُسَيْدٌ مَاتَ قَبْلَ الْفَتْحِ بِيَوْمٍ. وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ: وَاثَكْلاهُ لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَ بِلالا يَنْهَقُ فَوْقَ الْكَعْبَةِ. وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ: هَذَا وَاللَّهِ الْحَدَثُ الْجَلِيلُ أَنْ يَصِيحَ عَبْدُ بَنِي جُمَحٍ يَنْهَقُ عَلَى بِنْيَةِ بَنِي طَلْحَةَ. وَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: وَإِنْ كَانَ هَذَا سَخَطُ اللَّهِ فَسَيُغَيِّرُهُ. وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: أَمَّا أَنَا فَلا أَقُولُ شَيْئًا، لَوْ قُلْتُ شَيْئًا لأَخْبَرَتْهُ هَذِهِ الْحَصَى. فَأَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُمْ، فَأَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: «أَمَّا أَنْتَ يَا فُلانُ فَقُلْتَ كَذَا، وَأَمَّا أَنْتَ يَا فُلانُ فَقُلْتَ كَذَا» . فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَمَّا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا قُلْتُ شَيْئًا. فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 بَابٌ كَيْفِيَةُ دُخُولِ مَكَّةَ لِلْحَاجِّ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيَدْخُلَهَا مِنْ أَعْلاهَا مِنْ ثَنِيَةِ كَدَاءَ، فَإِذَا خَرَجَ، خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا مِنْ ثَنِيَةِ كُدَى، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَ إِلَى مَكَّةَ دَخَلَهَا مِنْ أَعْلاهَا، وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا» . وَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ كَدَاءَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا وَرُبَّمَا خَلَطُوا فِي ذَلِكَ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنِّي أَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ بِمَكَّةَ ثَلاثَةَ أَمْكِنَةٍ أَسْمَاؤُهَا عَلَى هَذَا الشَّكْلِ فَلِذَلِكَ تَشْتَبِهُ: فَالأَوَّلُ: كَدَاءَ بِفَتْحِ الْكَافِ مَعَ الْمَدِّ، وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ إِذَا صَعَدَ فِيهِ الآتِي مِنْ طَرِيقِ الْعُمْرَةِ، وَمِنْهَا يَنْحَدِرُ إِلَى الْمَقَابِرِ وَإِلَى الْمَحْصَبِ، وَهُوَ الَّذِي يُسْتَحَبُّ الدُّخُولُ مِنْهُ. وَالثَّانِي: كُدَى بِضَمِّ الْكَافِ مَعَ الْقَصْرِ وَالتَّنْوِينِ، وَهُوَ أَسْفَلُ مَكَّةَ يَدْخُلُ فِيهِ الدَّاخِلُ بَعْدَ أَنْ يَنْفَصِلَ مِنْ ذِي طُوَى، وَهُوَ بِقُرْبِ شِعْبِ الشَّافِعِيِّينَ عِنْدَ قُعَيْقِعَانَ، وَهُوَ الَّذِي يُسْتَحَبُّ الْخُرُوجُ مِنْهُ. وَالْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: كُدَيٌّ بِضَمِّ الْكَافِ مَعَ تَشْدِيدِ الْيَاءِ مُصَغَّرًا، وَإِنَّمَا هُوَ لِمَنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْيَمَنِ فَهُوَ فِي طَرِيقِهِ وَلَيْسَ مِنْ هَذَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي شَيْءٍ. وَهَذَا ضَبْطُ الْمُحَقِقِّينَ، مِنْهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الْعُذْرِيُّ، فَإِنَّهُ كَانَ يَرْوِيهِ عَنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِمَوَاضِعِ مَكَّةَ مِنْ أَهْلِهَا، حَكَاهُ عَنْهُ الْحُمَيْدِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 أَبْوَابُ ذِكْرِ الْكَعْبَةِ بَابٌ فِي ذِكْرِ أَسْمَائِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] وَفِي تَسْمِيَتِهَا بِالْكَعْبَةِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: لأَنَّهَا مُرَبَّعَةٌ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ. وَيُقَالُ: بُرْدٌ مُكَعَّبٌ إِذَا طُوِيَ مُرَبَّعًا. وَالثَّانِي: لِعُلُوِّهَا وَنُتُوئِهَا. يُقَالُ: كَعَبَتِ الْمَرْأَةُ كَعَابَةً فَهِيَ كَاعِبٌ إِذَا نَتَأَ ثَدْيُهَا. وَسُمِّيَ الْبَيْتُ حَرَامًا لأَنَّ حُرْمَتَهُ انْتَشَرَتْ، فَلا يُصَادُ عِنْدَهُ وَلا حَوْلَهُ، وَلا يُخْتَلَى مَا حَوْلَهُ مِنَ الْحَشِيشِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَأَرَادَ بِتَحْرِيمِ الْبَيْتِ سَائِرَ الْحَرَمِ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وَأَرَادَ الْحَرَمَ. وَالْقِيَامُ بِمَعْنَى الْقِوَامُ، فَالْمَعْنَى أَنَّهَا قِوَامُ دِينٍ، وَقِيَامُ دُنْيَا، فَلا يَزَالُ فِي الأَرْضِ دِينٌ مَا حُجَّتْ، وَعِنْدَهَا الْمَعَاشُ وَالْمَكَاسِبُ. وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْتَقَهُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ. رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّمَا سُمِّيَ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ؛ لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 أَعْتَقَهُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ جَبَّارٌ قَطُّ» . وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَتِيقَ: بِمَعْنَى الْقَدِيمِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمْ يُمْلَكْ قَطُّ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَالرَّابِعُ: لأَنَّهُ أُعْتِقَ مِنَ الْغَرَقِ زَمَنَ الطُّوفَانِ، قَالَهُ ابْنُ السَّائِبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 بَابٌ بَيَانُ أَنَّهَا أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران: 96] وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودَ افْتَخَرُوا، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ أَفْضَلُ مِنَ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: بَلِ الْكَعْبَةُ أَفْضَلُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَوْنِهِ أَوَّلَ بَيْتٍ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ كَانَ فِي الأَرْضِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلاءِ كَيْفَ كَانَ أَوَّلَ بَيْتٍ عَلَى ثَلاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ ظَهَرَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ حِينَ خَلَقَ اللَّهُ الأَرْضَ، خَلَقَهُ قَبْلَهَا بِأَلْفَيْ عَامٍ، وَدَحَاهَا مِنْ تَحْتِهِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ خَشْفَةً عَلَى الْمَاءِ، عَلَيْهَا مَلَكَانِ يُسَبِّحَانِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، قَبْلَ الأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمَّا كَانَ الْعَرْشُ عَلَى الْمَاءِ، قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ السَّمَاوَاتِ، بَعَثَ رِيحًا فَصَفَقَّتِ الْمَاءَ، فَأَبْرَزَتْ عَنْ خَشْفَةٍ فِي مَوْضِعِ الْمَاءِ كَأَنَّهَا قُبَّةٌ، فَدَحَى الأَرْضَ مِنْ تَحْتِهَا، فَمَادَتْ، فَأَوْتَدَهَا بِالْجِبَالِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: وُضِعَ الْبَيْتُ فِي الْمَاءِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الدُّنْيَا بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، ثُمَّ دُحِيَتِ الأَرْضُ مِنْ تَحْتِهِ. وَقَالَ كَعْبٌ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ غُثَاءً عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَمِنْهَا دُحِيَتِ الأَرْضُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَوْضِعَ هَذَا الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا مِنَ الأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، وَإِنَّ قَوَاعِدَهُ لَفِي الأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلى. وَالثَّانِي: أَنَّ آدَمَ حِينَ أُهْبِطَ اسْتَوْحَشَ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنَّ ابْنِ لِي بَيْتًا فِي الأَرْضِ، فَاصْنَعْ حَوْلَهُ نَحْوَ مَا رَأَيْتَ الْمَلائِكَةَ تَصْنَعُ حَوْلَ عَرْشِي، فَبَنَاهُ. رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ أُهْبِطَ مَعَ آدَمَ، فَلَمَّا كَانَ الطُّوفَانُ رُفِعَ، فَصَارَ مَعْمُورًا فِي السَّمَاءِ، وَبَنَى إِبْرَاهِيمُ عَلَى أَثَرِهِ. قَالَهُ قَتَادَةُ. الْقَوْلُ الثَّانِي، مِنَ الْقَوْلَيْنِ الأَوَّلَيْنِ: أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلْعِبَادَةِ وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَهُ بُيُوتٌ، قَالَهُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 بَابُ تَلْخِيصِ قِصَّةِ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ فِي الْمُبْتَدِئِ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ وَضَعَهُ لا بِبِنَاءِ أَحَدٍ، وَفِي زَمَنِ وَضْعِهِ إِيَّاهُ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَضَعَهُ قَبْلَ خَلْقِ الدُّنْيَا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَنْبَأنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعَدَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ النَّصْرُ آبَادِيُّ، أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْوَلِيدِ، أَنْبَأنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُنْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي غَسَّانَ الثُّمَالِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو هَمَّامٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَانَ الْبَيْتُ قَبْلَ هُبُوطِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَاقُوَتَةً مِنْ يَوَاقِيتِ الْجَنَّةِ، وَكَانَ لَهُ بَابَانِ مِنْ زُمُرُّدٍ أَخْضَرَ، بَابٌ شَرْقِيٌّ وَبَابٌ غَرْبِيٌّ، وَفِيهِ قَنَادِيلُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَالْبَيْتُ الْمَعْمُورِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لا يَعُودُونَ فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، حِذَاءَ الْكَعْبَةِ الْحَرَامِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَهْبَطَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَى مَوْضِعِ الْكَعْبَةِ وَهُوَ مِثْلُ الْفُلْكِ مِنْ شِدَّةِ رَعْدَتِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهُ الْحَجَرَ الأَسْوَدَ وَهُوَ يَتَلأْلأُ كَأَنَّهُ لُؤْلُؤَةٌ بَيْضَاءُ، فَأَخَذَهُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَضَمَّهُ إِلَيْهِ اسْتِئْنَاسًا بِهِ، ثُمَّ أَخَذَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بَنِي آدَمَ مِيثَاقَهُمْ، فَجَعَلَهُ فِي الْحَجَرِ، ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَى آدَمَ الْعَصَا، ثُمَّ قَالَ: يَا آدَمُ تَخَطَّ، فَتَخَطَّا فَإِذَا هُوَ بِأَرْضِ الْهِنْدِ، فَمَكَثَ هُنَالِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَوْحَشَ إِلَى الْبَيْتِ، فَقِيلَ لَهُ: احْجُجْ يَا آدَمُ، فَأَقْبَلَ يَتَخَطَّى، فَصَارَ فِي مَوْضِعِ كُلِّ قَدَمٍ قَرْيَةً، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مَفَاوِزَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَلَقِيَتْهُ الْمَلائِكَةُ، فَقَالُوا: بِرَّ حَجَّكَ يَا آدَمُ، لَقَدْ حَجَجْنَا هَذَا الْبَيْتَ قَبْلَكَ بِأَلْفَيْ عَامٍ. قَالَ: فَمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ حَوْلَهُ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 قَالُوا: كُنَّا نَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ للَّهِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ. فَكَانَ آدَمُ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ قَالَ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ، فَكَانَ آدَمُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَسَابِيعَ بِاللَّيْلِ، وَخَمْسَةَ أَسَابِيعَ بِالنَّهَارِ، فَقَالَ آدَمُ: يَا رَبِّ اجْعَلْ لِهَذَا الْبَيْتِ عُمَّارًا يَعْمُرُونَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِي. فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنِّي مُعَمِّرُهُ بِنَبِيٍّ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ اسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ، أتَّخِذُهُ خَلِيلا، أَقْضِي عَلَى يَدَيْهِ عِمَارَتَهُ، وَأَنْبِطُ لَهُ سِقَايَتَهُ، وَأُرِيهِ حِلَّهُ وَحَرَمَهُ وَمَوَاقِفَهُ، وَأُعَلِّمُهُ مَشَاعِرَهُ، وَمَنَاسِكَهُ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ بِنَائِهِ، نَادَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ لِلَّهِ بَيْتًا فَحُجُّوهُ، فَأَسْمَعَ مَنْ فِي الْخَافِقَيْنِ. فَقَالَ آدَمُ: أَسْأَلُكَ يَا رَبِّ مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ مِنْ ذُرِّيَّتِي لا يُشْرِكْ بِكَ شَيْئًا أَنْ تُلْحِقَهُ بِي فِي الْجَنَّةِ. فَقَالَ: يَا آدَمُ مَنْ مَاتَ فِي الْحَرَمِ لا يُشْرِكْ بِي شَيْئًا بَعَثْتُهُ آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ المْلائِكَةَ بَنَتْهُ، فَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمَلائِكَةِ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ، فَعَاذُوا بِالْعَرْشِ، فَطَافُوا حَوْلَهُ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ يَسْتَرْضُونَ رَبَّهُمْ، فَرَضِيَ عَنْهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: ابْنُوا فِي الأَرْضِ بَيْتًا يَعُوذُ بِهِ كُلُّ مَنْ سَخِطْتُ عَلَيْهِ، وَيَطُوفُ بِهِ كَمَا فَعَلْتُمْ حَوْلَ عَرْشِي، فَبَنَوْا هَذَا الْبَيْتَ وَالثَّالِثُ أَنَّ آدَمَ بَنَاهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 آدَمَ بَنَاهُ مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ: مِنْ لُبْنَانَ، وَطُورِ سِينَا، وَطُورِ زِيتَا، وَالْجُودِيِّ، وَحِرَاءَ. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَاجٍ: حَدِيثُ إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا بَنَى الْبَيْتَ قَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ لِكُلِّ عَامِلٍ أَجْرًا وَإِنَّ لِي أَجْرًا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: تَرُدَّنِي مِنْ حَيْثُ أَخْرَجْتَنِي. قَالَ: ذَلِكَ لَكَ، وَمَنْ خَرَجَ إِلَى هَذَا الْبَيْتِ مِنْ ذُرِّيَّتِي يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِمِثْلِ الَّذِي أَقْرَرْتُ بِهِ مِنْ ذُنُوبِي أَنْ تَغْفِرَ لَهُ، قَالَ: نَعَمْ ذَلِكَ لَكَ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: لَمَّا رَفَعَ اللَّهُ الْخَيْمَةَ الَّتِي وَضَعَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لآدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مَكَانَ الْبَيْتِ، وَمَاتَ آدَمُ، بَنَى بَنُو آدَمَ مِنْ بَعْدِهِ بَيْتًا بِالطِّينِ وَالْحِجَارَةِ، فَلَمْ يَزَلْ مَعْمُورًا، يَعْمُرُونَهُ هُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، حَتَّى كَانَ زَمَنُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ فَنَسَفَهُ الْغَرَقُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ مَوْضِعُ الْبَيْتِ بَعْدَ الْغَرَقِ أَكَمَةً حَمْرَاءَ، لا يَعْلُوهَا السَّيْلُ، وَكَانَ يَأْتِيهَا الْمَظْلُومُ، وَيَدْعُو عِنْدَهَا الْمَكْرُوبُ، فَقَلَّ مَنْ دَعَا عِنْدَهَا إِلا اسُتُجِيبَ لَهُ، وَكَانَ النَّاسُ يَحُجُّونَ إِلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ، حَتَّى بَوَّأَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَكَانَهُ لإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ: لَمَّا وَلَدَ الْخَلِيلُ إِسْمَاعِيلَ، أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِبِنَاءِ هَذَا الْبَيْتِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ بَيِّنْ لِي صِفَتَهُ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى سَحَابَةً عَلَى قَلْبِ الْكَعْبَةِ، فَسَارَتْ مَعَهُ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَوَقَفَتْ فِي مَوْضِعِ الْبَيْتِ، وَنُودِيَ: ابْنِ عَلَى ظِلِّهَا، لا تَزِدْ وَلا تَنْقُصْ، فَكَانَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] . فَقَالَ: يَا رَبِّ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي؟ فَقَالَ: عَلَيْكَ الأَذَانُ، وَعَلَيَّ الْبَلاغُ. فَعَلا وَنَادَى: يَا عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ قَالَ مُجَاهِدٌ: فَلَبَّى كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، وَأُسْمِعَ مَنْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَأَجَابُوهُ مِنْ أَصْلابِ الرِّجَالِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، فَإِنَّمَا يَحُجُّ الْيَوْمَ مَنْ أَجَابَ يَوْمَئِذٍ. ثُمَّ إِنَّ الْبَيْتَ انْهَدَمَ، فَبَنَتْهُ الْعَمَالِقَةُ، ثُمَّ مَرَّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ، فَبَنَتْهُ جُرْهُمٍ، ثُمَّ مَرَّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ، فَبَنَتْهُ قُرَيْشٌ، وَكَانَ بِنَاءُ قُرَيْشٍ لِلْبَيْتِ وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلامٌ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُلُمَ، أَجْمَرَتِ امْرَأَةٌ الْكَعْبَةَ، فَطَارَتْ شَرَارَةٌ فَأَحْرَقَتْ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ، فَوَهَى الْبَيْتُ، فَنَقَضَتْهُ قُرَيْشٌ وَبَنَتْهُ، فَلَمَّا أَرَادُوا وَضْعَ الرُّكْنِ، اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَرْفَعُهُ مِنَ الْقَبَائِلِ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى أَوَّلِ دَاخِلٍ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَدَخَلَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ غُلامٌ، فَحَكَّمُوهُ، فَقَالَ: هَاتُوا ثَوْبًا، فَأَخَذَ الرُّكْنَ، فَوَضَعَهُ فِيهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَمَرَ سَيِّدَ كُلِّ قَبِيلَةٍ أَنْ يَأْخُذَ بِنَاحِيَةٍ مِنَ الثَّوْبِ، ثُمَّ قَالَ: ارْفَعُوهُ جَمِيعًا، فَلَمَّا رَفَعُوهُ وَضَعَهُ بِيَدِهِ. قَالَ الْحَرِيري: أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَيَّاطُ، أَنْبَأنَا ابْنُ دَوْسٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ صَفْوَانَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ السِّنْبَاطُ، قَالَ: سَمِعْتُ الْوَلِيدَ بْنَ مُسْلِمٍ، يَقُولُ: لَمَّا هُدِمَتِ الْكَعْبَةُ أَصَابُوا فِي طُوبَةٍ، يَعْنِي آجُرَةٍ، مَكْتُوبًا بِالْعِبْرَانِيَّةِ: احْذَرُوا سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، وَاعْمَلُوا لِمَا بَعْدَهُ؛ فَإِنَّ الْمَوْتَ لا يُغْلَبُ، وَسَاكِنَ الأَمْوَاتِ لا يَرْجِعُ؛ وَمَلَكَ الْمَوْتِ مأمور لا يَعْصِي. ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ هَدَمَ الْكَعْبَةَ، وَبَنَا عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ قَصَّرَتْ عِنْ ذَلِكَ، وَأَدْخَلَ الْحِجْرَ في البيت، وجعل لها بابين شرقيا وغربيا، ثم نقضها الحجاج بعد ذلك وأعادها إلى البناء الأول. وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ لَهَا: «أَلا تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ حِينَ بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟» فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلا حَدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ» . فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ اسْتِلامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجَرَ إِلا أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يَتِمَّ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَقُلْتُ لَهُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: «فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ لَيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا» . وَفِي لَفْظٍ: " لَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ، وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ: بَابٌ يَدْخُلُ مِنْهُ النَّاسُ وَبَابٌ يَخْرُجُونَ مِنْهُ ". فَفَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ رُومَانَ، قَالَ: شَهِدْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَهُ وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ فَرَأَيْتُ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، حِجَارَةً كَأَسْنِمَةِ الإِبِلِ. وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهَا: «لَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ، وَأَلْزَقْتُهَا بِالأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ شَرْقِيًّا وَغَرْبِيًّا وَزِدْتُ فِيهَا سِتَّ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ» . وَفِي لَفْظٍ: «خَمْسَ أَذْرُعٍ» . وَفِي لَفْظٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ: «هَلُمِّي لأُرِيَكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ، فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 بَابٌ كَيْفِيَةُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ كَانَ صَغِيرًا، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جِدَارٌ، إِنَّمَا كَانَتِ الدُّورُ مُحْدِقَةٌ بِهِ، وَبَيْنَ الدُّورِ أَبْوَابٌ، يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَضَاقَ عَلَى النَّاسِ الْمَسْجِدُ، فَاشْتَرَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دُورًا، فَهَدَمَهَا وَأَدْخَلَهَا فِيهِ، ثُمَّ أَحَاطَ عَلَيْهِ جِدَارًا قَصِيرًا. ثُمَّ وَسَّعَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاشْتَرَى مِنْ قَوْمٍ، ثُمَّ زَادَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي الْمَسْجِدِ وَاشْتَرَى دُورًا فَأَدْخَلَهَا فِيهِ. وَأَوَّلُ مَنْ نَقَلَ إِلَيْهِ أَسَاطِينَ الرُّخَامِ وَسَقَّفَهُ بِالسَّاجِ الْمُزَخْرَفِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ زَادَ الْمَنْصُورُ فِي شِقِّهِ الشَّامِيِّ، ثُمَّ زَادَ الْمَهْدِيُّ، وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ فِي جَانِبٍ فَأَحَبَّ أَنْ تَكُونَ وَسَطًا، فَاشْتَرَى مِنَ النَّاسِ الدُّورَ وَوَسَّطَهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 بَابُ فَضْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ السَّلْمَاسِيُّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي، قُلْتُ لَهُ: أَخْبَرَكُمْ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَارِئُ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَزَّازُ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ فَيَّاضٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ أَخُو الإِمَامِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةٍ أَلْفِ صَلاةٍ» . قَالَ أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ: فَحَسَبْتُ ذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، فَبَلَغَتْ صَلاةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عُمْرَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَصَلاةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهِيَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ، عُمْرُ مِائَتَيْ سَنَةٍ وَسَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً وَتِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرِ لَيَالٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 بَابُ ذِكْرِ كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ أَنْبَأنَا الْحَرِيرِيُّ، عَنِ الْعُشَارِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الأَزْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا جَدِّي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ «نَهَى عَنْ سَبِّ أَسْعَدَ الْحِمْيَرِيِّ، وَهُوَ تُبَّعٌ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ كَسَا الْكَعْبَةَ» وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أُرِيَ فِي الْمَنَامِ أَنْ يَكْسُوَهَا، فَكَسَاهَا الأَنْطَاعَ، ثُمَّ رَأَى أَنِ اكْسُهَا فَكَسَاهَا الْوَصَائِلَ: ثِيَابٌ حِبرَةٌ مِنْ عَصْبِ الْيَمَنِ. فَلَمَّا نَشَأَ أَبُو زَمْعَةَ بْنُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: أَنَا أَكْسُو وَحْدِيَ الْكَعْبَةَ سَنَةً، وَجَمِيعُ قُرَيْشٍ سَنَةً، فَكَانَ يَأْتِي بِالْحِبْرَةِ مِنَ الْجُنَدِ فَيَكْسُوهَا، إِلَى أَنْ مَاتَ فَسَمَّتْهُ بِهَا قُرَيْشٌ الْعَدْلَ، لأَنَّهُ عَدَلَ فِعْلُهُ بِفِعْلِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا. وَأَوَّلُ عَرَبِيَّةٍ كَسَتِ الْكَعْبَةَ الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ: نُتَيْلَةُ بِنْتُ جَنَابٍ أُمُّ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُسَيَ الْبَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الأَنْطَاعَ، ثُمَّ كَسَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثِّيَابَ الْيَمَانِيَّةَ، ثُمَّ كَسَاهُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ الْقَبَاطِيَّ، ثُمَّ كَسَاهُ الْحَجَّاجُ الدِّيبَاجَ. وَقَالَ: أَوَّلُ مَنْ كَسَاهُ الدِّيبَاجَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَيُقَالُ: ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَيُقَالُ: عَبْدُ الْمَلِكِ. وَأَوَّلُ مَنْ خَلَّقَ جَوْفَ الْكَعْبَةِ ابْنُ الزُّبَيْرِ. وَرَوَى ابْنُ نَجِيحٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَسَا الْكَعْبَةَ الْقَبَاطِيَّ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَأَجْرَى لَهَا مُعَاوِيَةُ وَظِيفَةَ الطِّيبِ كُلَّ صَلاةٍ، وَبَعَثَ إِلَيْهَا عَبِيدًا يَخْدِمُونَهَا. أَنْبَانَا الْحَرِيرِيُّ، عَنِ الْعُشَارِيِّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهَاشِمِيُّ، أَنْبَأنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا أَبُو الوليد الأَزْرَقِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَدِّي، قَالَ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ تُكْسَى فِي كُلِّ سَنَةٍ كِسْوَتَيْنِ: كِسْوَةَ دِيبَاجٍ، وَكِسْوَةَ قَبَاطِيٍّ، فَأَمَّا الدِّيبَاجُ فَتُكْسَاهُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَيُعَلَّقُ الْقَمِيصُ؛ وَيُدَلَّى وَلا يُخَاطُ، فَإِذَا صَدَرَ النَّاسُ مِنْ مِنًى خِيطَ الْقَمِيصُ، وَتُرِكَ الإِزَارُ حَتَّى يَذْهَبَ الْحَاجُّ، لِئَلا يَخْرِقُوهُ، فَإِذَا كَانَ الْعَاشُورَاءُ عُلِّقَ الإِزَارُ، فَوُصِلَ بِالْقَمِيصِ، وَلا تَزَالُ هَذِهِ الْكِسْوَةُ كِسْوَةُ الدِّيبَاجِ عَلَيْهَا إِلَى يَوْمِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَتُكْسَى الْقَبَاطِيَّ إِلَى الْفِطْرِ، فَلَمَّا كَانَتْ خِلافَةُ الْمَأْمُونِ، رُفِعَ إِلَيْهِ أَنَّ الدِّيبَاجَ يَبْلَى وَيَتَخَرَّقُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ عِيدَ الْفِطْرِ، وَيُرَقَّعُ حَتَّى يَسْمُجَ. فَسَأَلَ مُبَارَكًا الطَّبَرِيَّ مَوْلاهُ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى بَرِيدِ مَكَّةَ وَصَوَافِيهَا، فِي أَيِّ كِسْوَةٍ الْكَعْبَةُ أَحْسَنُ؟ فَقَالَ لَهُ: فِي الْبَيَاضِ، فَأَمَرَ بِكِسْوَةٍ مِنْ دِيبَاجٍ أَبْيَضَ فَعُمِلَتْ سَنَةَ سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ، وَأَرْسَلَ بِهَا إِلَى الْكَعْبَةِ، فَصَارَتِ الْكَعْبَةُ تُكْسَى ثَلاثَ كُسِيًّ: الدِّيبَاجُ الأَحْمَرُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَالْقَبَاطِيُّ يَوْمَ هِلالِ رَجَبٍ، وَجُعِلَتْ كِسْوَةُ الدِّيبَاجِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 الأَبْيَضِ يَوْمَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ لِلْفِطْرِ. ثُمَّ رُفِعَ إِلَى الْمَأْمُونِ أَنَّ إِزَارَ الدِّيبَاجِ الأَبْيَضِ يَنْخَرِقُ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ، مِنْ مَسِّ الْحَاجِّ قَبْلَ أَنْ يُخَاطَ عَلَيْهَا إِزَارُ الدِّيبَاجِ الأَحْمَرِ الَّذِي يُخَاطُ فِي الْعَاشُورَاءِ، فَبَعَثَ بِفُضَلِ إِزَارٍ أَبْيَضَ تُكْسَاهُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، أَوْ يَوْمَ سَابِعٍ فَيُسْتَرُ بِهِ مَا تَخَرَّقَ مِنَ الإِزَارِ الَّذِي كُسِيَتْهُ لِلْفِطْرِ، إِلَى أَنْ يُخَاطَ عَلَيْهَا إِزَارُ الدِّيبَاجِ الأَحْمَرِ فِي الْعَاشُورَاءِ. ثُمَّ رُفِعَ لِلْمُتَوَكِّلِ أَنَّ إِزَارَ الدِّيبَاجِ الأَحْمَرِ يَبْلَى قَبْلَ هِلالِ رَجَبٍ مِنْ مَسِّ النَّاسِ وَتَمَسُّحِهِمْ بِالْكَعْبَةِ، فَزَادَهَا إِزَارَيْنِ مَعَ الإِزَارِ الأَوَّلِ، فَأَزَالَ قَمِيصَهَا الدِّيبَاجَ الأَحْمَرَ وَأَسْبَلَهُ حَتَّى بَلَغَ الأَرْضَ، ثُمَّ جَعَلَ الإِزَارَ فَوْقَهُ، كُلَّ شَهْرَيْنِ إِزَارٌ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، ثُمَّ كَتَبَ الْحَجَبَةُ إِلَيْهِ أَنَّ إِزَارًا وَاحِدًا مَعَ مَا أُزِيلَ مِنْ قَمِيصِهَا يُجْزِئُ، فَصَارَ يَبْعَثُ بِإِزَارٍ وَاحِدٍ، وَأَمَرَ بِإِزَالَةِ الْقَمِيصِ الْقَبَاطِيِّ، حَتَّى بَلَغَ الشَّاذُورَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 بَابُ سَدَانَةِ الْكَعْبَةِ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِقُرَيْشٍ: إِنَّهُ كَانَ وُلاةُ هَذَا الْبَيْتِ قَبْلَكُمْ طَسْمٌ، فَاسْتَخَفُّوا بِحَقِّهِ، وَاسْتَحَلُّوا حُرْمَتَهُ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ وَلِيَتْهُ بَعْدَهُمْ جُرْهُمُ، فَاسْتَخَفُّوا بِحَقِّهِ، وَاسْتَحَلُّوا حُرْمَتَهُ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ: لَمَّا اسْتَخَفَّتْ جُرْهُمُ بِحَقِّهِ شَرَدَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَوَلِيَتْهُ خُزَاعَةُ، ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَ خُزَاعَةَ قُصَيُّ بْنُ كِلابٍ، وَوَلِيَ حِجَابَةَ الْكَعْبَةِ وَأَمْرَ مَكَّةَ، ثُمَّ أَعْطَى وَلَدَهُ عَبْدَ الدَّارِ السَّدَانَةَ وَهِيَ الْحِجَابَةُ، وَدَارَ النَّدْوَةِ وَاللِّوَاءَ، وَسُمِّيَتْ دَارُ النَّدْوَةِ لاجْتِمَاعِ النَّدَى فِيهَا، يَجْلِسُونَ لإِبْرَامِ أُمُورِهِمْ وَمُشَاوَرَتِهِمْ، وَأَعْطَى عَبْدَ مَنَافٍ السِّقَايَةَ وَالرِّفَادَةَ، ثُمَّ جَعَلَ عَبْدُ الدَّارِ الْحِجَابَةَ إِلَى ابْنِهِ عُثْمَانَ، وَلَمْ يَزَلِ الأَمْرُ يَنْتَقِلُ إِلَى الأَوْلادِ حَتَّى وَلِيَ الْحِجَابَةَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ. قَالَ عُثْمَانُ: كُنَّا نَفْتَحُ الْكَعْبَةَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ مَعَ النَّاسِ، فَنِلْتُ مِنْهُ، وَحَلُمَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: «يَا عُثْمَانُ، لَعَلَّكَ سَتَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ يَوْمًا بِيَدِي أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْتُ» . فَقَلْتُ: لَقَدْ هَلَكَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَئِذٍ وَذَلَّتْ. قَالَ: «بَلْ عَزَّتْ» . وَدَخَلَ الْكَعْبَةَ، وَوَقَعَتْ كَلِمَتُهُ مِنِّي مَوْقِعًا ظَنَنْتُ أَنَّ الأَمْرَ سَيَصِيرُ إِلَى مَا قَالَ، وَأَرَدْتُ الإِسْلامَ، فَإِذَا قَوْمِي يَزْبُرُونِي زَبْرًا شَدِيدًا، فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ عَامَ الْقَضِيَّةِ، غَيَّرَ اللَّهُ قَلْبِي، وَدَخَلَنِي الإِسْلامُ، وَلَمْ يُعْزِمْ إِلَى أَنْ آتِيهِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 عَزَمَ لِي الْخُرُوجَ إِلَيْهِ، فَأَدْلَجْتُ فَلَقِيتُ خَالَدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَاصْطَحَبْنَا، فَلَقِينَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَاصْطَحَبْنَا، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَبَايَعْتُهُ، وَأَقَمْتُ مَعَهُ حَتَّى خَرَجْتُ مَعَهُ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ، قَالَ: «يَا عُثْمَانُ ائْتِ بِالْمِفْتَاحِ» ، فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَأَخَذَهُ مِنِّي، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: «خُذُوهَا يَا بَنِي طَلْحَةَ خَالِدَةً تَالِدَةً، لا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلا ظَالِمٌ» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " لَمَّا طَلَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِفْتَاحَ مِنْ عُثْمَانَ، فَهَمَّ أَنْ يُنَاوِلَهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، اجْمَعْهُ لِي مَعَ السِّقَايَةِ، فَكَفَّ عُثْمَانُ يَدَهُ مَخَافَةَ أَنْ يُعْطِيَهُ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَاتِ الْمِفْتَاحِ، فَأَعَادَ الْعَبَّاسُ قَوْلَهُ، وَكَفَّ عُثْمَانُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرِنِي الْمِفْتَاحَ إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ". فَقَالَ: هَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَمَانَةِ اللَّهِ، فَأَخَذَ الْمِفْتَاحَ، وَفَتَحَ الْبَيْتَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عُثْمَانُ يَلِيَ فَتْحَ الْبَيْتِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، فَدَفَعَ ذَلِكَ إِلَى شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ، فَبَقِيَتِ الْحِجَابَةُ فِي وَلَدِ شَيْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 بَابٌ فَضْلُ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ أَخْبَرَنَا الْكَروْخِيُّ، أَخْبَرَنَا الْغُورَجِيُّ، أَخْبَرَنَا الْجَرَّاحِيُّ، أَخْبَرَنَا الْمَحْبُوبِيُّ، حَدَّثَنَا التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَزَلَ الْحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّةِ وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ فَسَوَدَّتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْحُصَيْنِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، قَالا: أَخْبَرَنَا أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْغِطْرِيفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَلِيفَةَ، حَدَّثَنَا شَاذُ بْنُ الْفَيَّاضِ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْعَبْدِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنْ حِجَارَةِ الْجَنَّةِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَلافُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْحَمَّامِيُّ، أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ الأَدَمِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا رَجَاءٌ أَبُو يَحْيَى، حَدَّثَنَا مُسَافِعُ بْنُ شَيْبَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ ثَلاثًا، وَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ عَلَى أُذُنَيْهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ الْحَجَرَ وَالْمَقَامَ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَوَاقِيتِ الْجَنَّةِ طَمَسَ اللَّهُ نُورَهُمَا، وَلَوْلا أَنْ طَمَسَ اللَّهُ نُورَهُمَا لأَضَاءَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْمَأْمُونِ، أَخْبَرَنَا بْنُ حُبَابَةَ، حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرِّفَاعِيُّ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَنَسٍ فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْحَجَرِ؟ فَقَالَ: كَانَ يَاقُوتَةً مِنْ يَوَاقِيتِ الْجَنَّةِ ". وَقَدِ اعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُلْحِدِينَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: مَا سَوَّدَتْهُ خَطَايَا الْمُشْرِكِينَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّضَهُ تَوْحِيدُ الْمُسْلِمِينَ. فَأَجَابَ عَنْهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، فَقَالَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَكَانَ ذَلِكَ، ثُمّ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَيُّهَا الْمُعْتَرِضُ، أَنَّ السَّوَادَ يَصْبِغُ وَلا يَنْصَبِغُ، وَالْبَيَاضُ يَنْصَبِغُ وَلا يَصْبِغُ، هَذَا قَوْلُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَا مِنَ الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: أَثَرُ الْخَطَايَا فِيهِ وَهُوَ السَّوَادُ أَبْلَغُ فِي بَابِ الْعِبْرَةِ وَالْعِظَةِ مِنْ تَغَيُّرِ ذَلِكَ، لِيُعْلَمَ أَنَّ الْخَطَايَا إِذَا أَثَرَّتْ فِي الْحَجَرِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 فَتَأْثِيرُهَا فِي الْقُلُوبِ أَعْظَمُ، فَوَجَبَ لِذَلِكَ أَنْ تُجْتَنَبَ. وَقَدْ أَنْبَأنَا عَبْدُ الْحَافِظِ، أَنْبَأنَا حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّيْنِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلالُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ مُزَاحِمٍ، حَدَّثَنَا الْهُزَيْلُ بْنُ بِلالٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَيْفٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَوْ جَدِّهِ، قَالَ: «رَأَيْتُ الْحَجَرَ الأَسْوَدَ أَبْيَضَ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا نَحَرُوا بُدْنَهُمْ لَطَخُوهُ بِالْفَرْثِ وَالدَّمِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَبَّلَ الْحَجَرَ الأَسْوَدَ وَقَالَ: «إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ مَا تَنْفَعُ وَلا تَضُرُّ، وَلَوْلا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ» . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفِقْهِ، أَنَّ عُمَرَ نَبَّهَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْجَاهِلِيَّةِ فِيمَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ تَعْظِيمِ الأَحْجَارِ، وَأَخْبَرَ أَنِّي إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لِلسُّنَّةِ لا لِعَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِيهِ بَيَانُ مُتَابَعَةِ السُّنَنِ وَإِنْ لَمْ يُوقَفْ لَهَا عَلَى عِلَلٍ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ ذُكِرَتْ عِلَّتَانِ فِي تَقْبِيلِ الْحَجَرِ وَلَمْسِهِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ الْحَجَرَ الأَسْوَدَ يَمِينُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ» ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وَكَانَ ذَلِكَ فِي ضَرْبِ الْمَثَلِ، كَمُصَافَحَةِ الْمُلُوكِ لِلْبَيْعَةِ، وَتَقْبِيلِ الْمَمْلُوكِ يَدَ الْمَالِكِ. أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ الْحَرْبِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو طَاهِرٍ الْمُخَلِّصُ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ خَلْدُونَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْعَدَنِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «الْحَجَرُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ، فَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ بَيْعَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ الْحَجَرَ فَقَدْ بَايَعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي لَفْظٍ آخَرَ، قَالَ: «الرُّكْنُ الأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ يُصَافِحُ بِهَا عِبَادَهُ كَمَا يُصَافِحُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ» . وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخَذَ الْمِيثَاقَ، كَتَبَ كِتَابًا عَلَى الذُّرِّيَّةِ، فَأَلْقَمَهُ هَذَا الْحَجَرَ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِلْمُؤْمِنِ بِالْوَفَاءِ، وَعَلَى الْكَافِرِ بِالْجُحُودِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 قَالَ العْلُمَاءُ: وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ يَقُولُ لامَسَهُ: إِيمَانًا بِكَ وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ. أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَأَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْمَأْمُونِ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ السُّكَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيُبْعَثَنَّ هَذَا الْحَجَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يَبْصُرُ بِهِمَا، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ، يَشْهَدُ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 بَابُ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَزَّازُ، أَنْبَأنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْوَرَّاقُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ شَاذَوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مُوسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ كُرْزِ بْنِ وَبَرَةَ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " عَلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهِ مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، فَإِذَا مَرَرْتُمْ بِهِ فَقُولُوا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: آمِينَ " أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ نَاصِرٍ، قَالا: أَنْبَأنَا ابْنُ الْعَلافِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ بِشْرَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الآجُرِّيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الْحُلْوَانِيُّ، أَنْبَأنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ أَبِي سُوَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ هَاشِمٍ، يَسْأَلُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، وَهُوَ فِي الطَّوَافِ؟ فَقَالَ عَطَاءٌ حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ، فَمَنْ قَالَ: أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ، {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] ، قَالُوا: آمِينَ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 أَخْبَرَنَا ابْنُ عِيسَى الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي شُرَيْحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي عَرَابٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ يَعْنِي: ابْنَ هُرْمُزٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ، وَيَضَعُ خَدَّهُ عَلَيْهِ» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنْبَأنَا عَاصِمُ بْنُ الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَحَامِلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ، حَدَّثَنِي أَبُو غَزْيَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَسْتَلِمُ مِنْ أَرْكَانِ الْبَيْتِ إِلا الْيَمَانِيَّ وَالأَسْوَدَ» وَاعْلَمْ أَنَّ اسْتِلامَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ مَسْنُونٌ عِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا يُسَنُّ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 بَابُ ذِكْرِ الْحِجْرِ قَدْ ذَكَرْنَا فِي قِصَّةِ بِنَاءِ الْبَيْتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «الْحِجْرُ مِنَ الْبَيْتِ» . فَيَدْخُلُ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَحْتَ قَوْلِهِ: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] . فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ الطَّوَافُ بِالْحِجْرِ، فَإِنْ تَرَكَهُ فِي طَوَافِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ: مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِيهِ. وَقَدْ كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي الْحِجْرِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَعَاهَدُونَ فِيهِ. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ صَادِقٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ بَاكَوَيْهِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْقَاسِمِ الْبَرْذَعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَتُّوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ الدُّبَيْلُ، حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ، قَالَ: وَرَدْتُ الْحِجْرَ فَإِذَا أَنَا بِمُحَمَّدِ بْنِ ثَوْبَانَ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، وَعَبَّادٍ الْمِنْقَرِيِّ، وهم يتكلمون بكلام لا أَعْقِلُهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ " رَحِمَكُمُ اللَّهُ، إِنِّي شَابٌّ كَمَا تَرَوْنِي أَصُومُ النَّهَارَ وَأَقُومُ اللَّيْلَ، وَأَحُجُّ سَنَةً وَأَغْزُو سَنَةً، مَا أَرَى فِي نَفْسِي زِيَادَةً، فَشُغِلَ الْقَوْمُ عَنِّي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا كَلامِي، ثُمَّ حَانَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْتِفَاتَةٌ، فَقَالَ: يَا غُلامُ، إِنَّ هَمَّ الْقَوْمِ لَمْ يَكُنْ فِي كَثْرَةِ الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ، إِنَّمَا كَانَ هَمُّ الْقَوْمِ فِي نَفَاذِ الأَبْصَارِ حَتَّى أَبْصَرُوا ". أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو سَعِيدٍ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ بَاكَوَيْهِ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 عِيسَى، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: بَيْنَا أَنَا أَطُوفُ بِالْبَيْتِ إِذَا بِامْرَأَةٍ جَهِيرَةٍ فِي الْحِجْرِ، وَهِيَ تَقُولُ: أَتَيْتُكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ مُؤَمِّلَةً لِمَعْرُوفِكَ، فَأَنِلْنِي مَعْرُوفًا مِنْ مَعْرُوفِكَ تُغْنِينِي بِهِ عَنْ مَعْرُوفِ مَنْ سِوَاكَ يَا مَعْرُوفًا بِالْمَعْرُوفِ. قَالَ: فَعَرَّفْتُ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيَّ، فَسَأَلْنَا عَنْ مَنْزِلِهَا وَقَصَدْنَاهَا وَسَلَّمْنَا عَلَيْهَا. فَقَالَ لَهَا أَيُّوبُ: قُولِي خَيْرًا رَحِمَكِ اللَّهُ قَالَتْ: وَمَا أَقُولُ، أَشْكُو إِلَى اللَّهِ قَلْبِي وَهَوَايَ فَقَدْ أَضَرَّا بِي وَشَغَلانِي عَنْ عِبَادَةِ رَبِّي، قُومَا فَإِنِّي أُبَادِرُ طَيَّ صَحِيفَتِي. قَالَ أَيُّوبُ: فَمَا حَدَّثْتُ نَفْسِي بِامْرَأَةٍ قَبْلَهَا، فَقُلْتُ لَهَا لَوْ تَزَوَّجْتِ رَجُلا يُعِينُكِ عَلَى مَا أَنْتِ عَلَيْهِ. قَالَتْ: لَوْ كَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، أَوْ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ مَا أَرَدْتُهُ. قُلْتُ: أَنَا مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَهَذَا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ. فَقَالَتْ: أُفٍّ لَكُمَا، لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنَّهُ يَشْغَلُكُمَا ذِكْرُ اللَّهِ عَنْ مُحَادَثَةِ النِّسَاءِ، وَأَقْبَلَتْ عَلَى صَلاتِهَا؛ فَسَأَلْنَا عَنْهَا، فَقَالُوا: هَذِهِ مُلَيْكَةُ بِنْتُ الْمُنْكَدِرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 بَابُ ذِكْرِ الْمِيزَابِ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا حَاذَى مِيزَابَ الْكَعْبَةِ وَهُوَ فِي الطَّوَافِ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الرَّاحَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَفْوَ عِنْدَ الْحِسَابِ» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «صَلُّوا فِي مُصَلَّى الأَخْيَارِ، وَاشْرَبُوا شَرَابَ الأَبْرَارِ» . فَقِيلَ لَهُ: مَا مُصَلَّى الأَخْيَارِ؟ قَالَ: تَحْتَ الْمِيزَابِ. قِيلَ: وَمَا شَرَابُ الأَبْرَارِ؟ . قَالَ: مَاءُ زَمْزَمَ ". وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: مَنْ قَامَ تَحْتَ مَثْعَبِ الْكَعْبَةِ فَدَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ، وَخَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 بَابٌ ذِكْرُ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ وَأَنَّهُ مُقَابِلُ الْكَعْبَةِ أَخْبَرَنَا مَوْهُوبُ بْنُ أَحْمَدَ الْجَوَالِيقِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْبُسْرِيِّ، أَنْبَأنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الصَّلْتِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الأَزْرَقِيُّ، حَدَّثَنِي جَدِّي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، يُقَالُ لَهُ: الضُّرَاحُ، وَهُوَ مِثْلُ بِنَاءِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، لَوْ سَقَطَ سَقَطَ عَلَيْهِ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لا يَعُودُونَ فِيهِ أَبَدًا " أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، أَنْبَأنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ مَالِكٍ، أَنْبَأنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ مَالِكَ بْنَ صَعْصَعَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ " فَلَمَّا خَلُصْتُ، يَعْنِي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، إِذَا إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ رُفِعْتُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، ثُمَّ رُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لا يَعُودُونَ فِيهِ ". فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَفِي طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا» . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 بَابُ تَلْخِيصِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْفِيلِ، وَتَخْرِيبِ الْكَعْبَةِ كَانَ أَبْرَهَةُ الأَشْرَمِ قَدْ بَنَى بَيْعَةً، وَقَالَ: لأُضَيِّفَنَّ إِلَيْهَا حِجُّ الْعَرَبِ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، فَدَخَلَهَا لَيْلا، فَأَحْدَثَ فِيهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبْرَهَةَ، فَحَلَفَ لَيَسِيرَنَّ إِلَى الْكَعْبَةِ وَلَيَهْدِمَنَّهَا. فَسَارَ بِجُنُودِهِ، وَاسْتَصْحَبَ الْفِيلَ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْغَارَةِ عَلَى إِبِلِ النَّاسِ، فَأَصَابُوا إِبِلا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَبَعَثَ أَبْرَهَةُ بَعْضَ جُنُودِهِ، فَقَالَ: سَلْ عَنْ شَرِيفِ مَكَّةَ وَأَخْبِرْهُ أَنِّي لَمْ آتِ لِقِتَالٍ، وَإِنَّمَا جِئْتُ لأَهْدِمَ هَذَا الْبَيْتَ، فَانْطَلَقَ فَلَقِيَ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: إِنَّ الْمَلِكَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ لأُخْبِرَكَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِقِتَالٍ إِلا أَنْ تُقَاتِلُوهُ، إِنَّمَا جَاءَ لِهَدْمِ هَذَا الْبَيْتِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ عَنْكُمْ. فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: مَا لَهُ عِنْدَنَا قِتَالٌ، وَمَا لَهُ بِهِ يَدٌ، إِنَّا سَنُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا جَاءَ لَهُ، فَإِنَّ هَذَا بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامُ، وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنْ يَمْنَعْهُ، فَهُوَ بَيْتُهُ، وَإِنْ يُخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، فَوَاللَّهِ مَالَنَا بِهِ قُوَّةٌ. قَالَ: فَانْطَلِقْ مَعِي إِلَى الْمَلِكِ، فَانْطَلَقَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى أَبْرَهَةَ وَأَكْرَمَهُ وَأَجَلَّهُ، وَقَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ مَا حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ لَهُ التُّرْجُمَانُ. فَقَالَ: حَاجَتِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا أَصْحَابُكَ. فَقَالَ أَبْرَهَةُ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ لَقَدْ كُنْتُ أَعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ، وَلَقَدْ زَهِدْتُ الآنَ فِيكَ، جِئْتُ إِلَى بَيْتٍ هُوَ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ لأَهْدِمَهُ، فَلَمْ تُكَلِّمْنِي فِيهِ، وَكَلَّمْتَنِي فِي إِبِلٍ أَصَبْتُهَا. فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: أَنَا رَبُّ هَذِهِ الإِبِلِ، وَلِهَذَا الْبَيْتِ رَبٌّ سَيَمْنَعُهُ، فَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 أَبْرَهَةُ: مَا كَانَ لِيَمْنَعَهُ مِنِّي. قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: أَنْتَ وَذَاكَ. فَأَمَرَ بِإِبِلِهِ فَرُدَّتْ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ وَأَخْبَرَ قُرَيْشًا، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَرُءُوسِ الْجِبَالِ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ إِذَا دَخَلَ، فَفَعَلُوا، وَأَتَى عَبْدُ الْمُطَّلِبِ الْكَعْبَةَ، فَأَخَذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: يَا رَبِّ لا أَرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا ... يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمْ حِمَاكَا إِنَّ عَدُوَّ الْبَيْتِ مَنْ عَادَاكَا ... امْنَعْهُمْ أَنْ يُخَرِّبُوا قُرَاكَا وَقَالَ أَيْضًا: لاهَمَّ إِنَّ الْمَرْءَ يَمْنَعُ ... رَحْلَهُ فَامْنَعْ حَلالَكَ لا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ ... وَمِحَالُهُمْ غَدْوًا مِحَالَكَ جَرُّوا جَمِيعَ بِلادِهِمْ ... وَالْفِيلَ كَيْ يَسْبُوا عِيَالَكَ عَمَدُوا حِمَاكَ بِكَيْدِهِمْ ... جَهْلا وَمَا رَقَبُوا جَلالَكَ إِنْ كُنْتَ تَارِكُهُمْ وَكَعْبَتَنَا ... فَأَمْرٌ مَا بَدَا لَكَ ثُمَّ إِنَّ أَبْرَهَةَ أَصْبَحَ مُتَهِيِّئًا لِلدُّخُولِ، فَبَرَكَ الْفِيلُ، فَبَعَثُوهُ فَأَبَى، فَوَجَّهُوهُ إِلَى الْيَمِنِ رَاجِعًا، فَهَرْوَلَ، وَإِلَى الْمَشْرِقِ فَكَذَلِكَ، فَوَجَّهُوهُ إِلَى الْحَرَمِ، فَأَبَى، فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى طَيْرًا مِنَ الْبَحْرِ. وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَتِهَا: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ لَهَا خَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الطَّيْرِ، وَأَكُفٌّ كَأَكُفِّ الْكِلابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَتْ لَهَا رُءُوسٌ كَرُءُوسِ السِّبَاعِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَتْ كَأْمَثَالِ الْخَطَاطِيفِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَلْوَانِهَا عَلَى ثَلاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا كَانَتْ خَضْرَاءَ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَالثَّانِي: سَوْدَاءُ، قَالَهُ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ. وَالثَّالِثُ: بَيْضَاءُ، قَالَهُ قَتَادَةُ. قَالَ: وَكَانَ مَعَ كُلِّ طَيْرٍ ثَلاثَةُ أَحْجَارٍ، حَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ، وَحَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الْحِجَارَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ كَأَمْثَالِ الْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ، وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: كَانَ الْحَجَرُ كَرَأْسِ الرَّجُلِ، فَلَمَّا غَشِيَتِ الْقَوْمَ أَرْسَلَتْهَا عَلَيْهِمْ، فَلَمْ تُصِبْ تِلْكَ الْحِجَارَةُ أَحَدًا إِلا هَلَكَ. وَكَانَ الْحَجَرُ يَقَعُ عَلَى رَأْسِ الرَّجُلِ فَيَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ، وَقِيلَ: كَانَ عَلَى كُلِّ حَجَرٍ اسْمُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ، فَهَلَكُوا وَلَمْ يَدْخُلُوا الْحَرَمَ. وَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَبْرَهَةَ دَاءً فِي جَسَدِهِ، فَتَسَاقَطَتْ أَنَامِلُهُ، وَانْصَدَعَ صَدْرُهُ قِطْعَتَيْنِ عَنْ قَلْبِهِ، فَهَلَكَ. وَرَأَى أَهْلُ مَكَّةَ الطَّيْرَ قَدْ أَقْبَلَتْ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَحْرِ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إِنَّ هَذِهِ لَطَيْرٌ غَرِيبَةٌ، ثُمَّ بَعَثَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ عَلَى فَرَسٍ لِيَنْظُرَ، فَرَجَعَ يَرْكُضُ، وَيَقُولُ: هَلَكَ الْقَوْمُ جَمِيعًا، فَخَرَجَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَأَصْحَابُهُ فَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ. وَقِيلَ: لَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلا أَبَا يَكْسُومَ، فَسَارَ، وَطَائِرٌ يَطِيرُ مِنْ فَوْقِهِ، وَلا يَشْعُرُ بِهِ حَتَّى دَخَلَ عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا أَصَابَ الْقَوْمَ، فَلَمَّا أَتَمَّ كَلامَهُ رَمَاهُ الطَّيْرُ فَمَاتَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 بَابُ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ دَخَلَ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، فَإِذَا رَأَى الْبَيْتَ، رَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلامِ، اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَتَشْرِيفًا وَمَهَابَةً وَبِرًّا، وَزِدْ مَنْ عَظَّمَهُ وَشَرَّفَهُ مِمَّنْ حَجَّهُ وَاعْتَمَرَهُ تَعْظِيمًا وَتَشْرِيفًا وَمَهَابَةً وَبِرًّا، الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا كَمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَكَمَا يَنْبَغِي لِكَرَمِ وَجْهِهِ وَعِزِّ جَلالِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَلَّغَنِي بَيْتَهُ وَرَآنِي لِذَلِكَ أَهْلا، وَالْحَمْدُ للَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ دَعَوْتَ إِلَى حَجِّ بَيْتِكَ، وَقَدْ جِئْنَاكَ لِذَلِكَ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي، وَاعْفُ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 بَابٌ فَضْلُ النَّظَرِ إِلَى الْكَعْبَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُنْزِلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ عِشْرِينَ وَمِائَةَ رَحْمَةٍ عِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ» . وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «النَّظَرُ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ عِبَادَةٌ» أَنْبَأنَا الْحَرِيرِيُّ، عَنِ الْعُشَارِيِّ، قَالَ: أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ الْهَاشِمِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الأَزْرَقِيُّ، حَدَّثَنِي جَدِّي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُثْمَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يَاسِينُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: «النَّظَرُ إِلَى الْكَعْبَةِ مَحْضُ الإِيمَانِ» وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: مَنْ نَظَرَ إِلَى الْكَعْبَةِ إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا خَرَجَ مِنَ الْخَطَايَا كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: النَّاظِرُ إِلَى الْبَيْتِ كَمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الدَّائِمِ الْمُخْبِتِ الْمُجَاهِدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَنَظَرُهُ إِلَى الْبَيْتِ يَعْدِلُ عِبَادَةَ سَنَةٍ قِيَامَهَا وَرُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا. وَقَالَ أَبُو السَّائِبِ الْمَدَنِيُّ: مَنْ نَظَرَ إِلَى الْكَعْبَةِ إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا تَحَاتَّتْ عَنْهُ الذُّنُوبُ كَمَا يَتَحَاتُّ الْوَرَقُ مِنَ الشَّجَرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 بَابٌ انْزِعَاجُ الْعَارِفِينَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْكَعْبَةِ كَانَ أَرْبَابُ الْمَعْرِفَةِ يَنْزَعِجُونَ إِذَا دَخَلُوا مَكَّةَ وَلاحَتْ لَهُمُ الْكَعْبَةُ، لأَنَّ رُؤْيَةَ الْمَنْزِلِ تُذَكِّرُ بِصَاحِبِهِ. حَجَّتِ امْرَأَةٌ عَابِدَةٌ، فَجَعَلَتْ تَقُولُ: أَيْنَ بَيْتُ رَبِّي؟ أَيْنَ بَيْتُ رَبِّي؟ فَقِيلَ لَهَا: الآنَ تَرَيْنَهُ. فَلَمَّا لاحَ الْبَيْتُ قَالُوا: هَذَا بَيْتُ رَبِّكِ. فَاشْتَدَّتْ نَحْوَهُ، فَأَلْصَقَتْ جَبِينَهَا بِحَائِطِ الْبَيْتِ، فَمَا رُفِعَتْ إِلا مَيْتَةً. وَحَجَّ الشِّبْلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مَكَّةَ جَعَلَ يَقُولُ: أَبَطْحَاءُ مَكَّةَ هَذَا الَّذِي ... أَرَاهُ عِيَانًا وَهَذَا أَنَا ثُمَّ غُشِّيَ عَلَيْهِ، فَأَفَاقَ وَهُوَ يَقُولُ: هَذِهِ دَرَاهِمُ وَأَنْتَ مُحِبٌّ ... فَمَا بَقَاءُ الدُّمُوعِ فِي الآمَاقِ وَقَالَ الرَّضِيُّ فِي هَذَا الْمَعْنَى: إِذَا هَزَّنَا الشَّوْقُ اضْطَرَبْنَا لِذِكْرِهَا ... عَلَى شُعَبِ الرَّحْلِ اضْطِرَابَ الأَرَاقِمِ فَمِنْ صَبَوَاتٍ تَسْتَقِيمُ بِمَائِلٍ ... وَمِنْ أُرَيْحِيَاتٍ تَهُبُّ بِنَائِمِ وَاسْتَشْرِفِ الأَعْلامَ حَتَّى يَدُلَّنِي ... عَلَى طِيبِهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ وَمَا أَنْسَمُ الأَرْوَاحَ إِلا لأَنَّهَا ... تَمُرُّ عَلَى تِلْكَ الرُّبَى وَالْمَعَالِمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 أَبْوَابٌ ذِكْرُ الطَّوَافِ بَابُ الأَمْرِ فِي الطَّوَافِ أَمَّا مِنْ حَيْثُ النَّقْلِ، فَقَدْ سُئِلَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنِ ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ، فَقَالَ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمَلائِكَةِ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] ، وَقَالَ: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] ظَنَّتِ الْمَلائِكَةُ أَنَّ مَا قَالُوا رَدًّا عَلَى رَبِّهِمْ، فَلاذُوا بِالْعَرْشِ وَطَافُوا بِهِ إِشْفَاقًا مِنَ الْغَضَبِ عَلَيْهِمْ، فَوَضَعَ لَهُمُ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ، فَطَافُوا بِهِ، ثُمَّ بَعَثَ مَلائِكَةً، فَقَالَ: ابْنُوا لِي بَيْتًا فِي الأَرْضِ بِمَثَالِهِ، وَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَطُوفُوا بِهِ، كَمَا يَطُوفُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَهُوَ لِيَاذٌ بِالْمَخْدُومِ وَخِدْمَةٌ لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 بَابٌ أَقْسَامُ الطَّوَافِ، وَمَا يُقَالُ فِيهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ فِي الْحَجِّ عَلَى أَقْسَامٍ: مَسْنُونٌ: وَهُوَ طَوَافُ الْقُدُومِ، وَفَرْضٌ: وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَوَاجِبٌ: وَهُوَ طَوَافُ الْوَدَاعِ، وَمُسْتَحَبٌّ: وَهُوَ مَا عَدَا ذَلِكَ. وَالنِّيَّةُ تُفَرِّقُ بَيْنَ الأَطْوِفَةِ. فَإِذَا ابْتَدَأَ بِطَوَافِ الْقُدُومِ، اضْطَبَعَ بِرِدَائِهِ فَجَعَلَ وَسَطَهُ تَحْتَ عَاتِقِهِ الأَيْمَنِ، وَيَطْرَحُ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقِهِ الأَيْسَرِ، وَيَبْتَدِئُ مِنَ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ، فَيَسْتَلِمُهُ بِيَدِهِ وَيُقَبِّلُهُ، وَيُحَاذِيهِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، إِنْ أَمْكَنَهُ، وَإِلا اسْتَلَمَهُ وَقَبَّلَ يَدَهُ، فَإِنْ لَمْ يُمَكَّنْ أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَيْهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَيَطُوفُ، فَإِذَا بَلَغَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ اسْتَلَمَهُ وَقَبَّلَ يَدَهُ، وَلَمْ يُقَبِّلْهُ، وَظَاهِرُ كَلامِ الْخِرْقِيِّ أَنَّهُ يُقَبِّلُهُ. وَيَقُولُ عِنْدَ اسْتِلامِ الْحَجَرِ فِي الطَّوَافِ: بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، إِيمَانًا بِكَ، وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَطُوفُ سَبْعًا يُرْمِلُ فِي الثَّلاثَةِ الأُوَلِ مِنْهَا، وَالرَّمْلُ: إِسْرَاعُ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَا، وَيَمْشِي فِي الأَرْبَعَةِ الأُخُرَ، وَكُلَّمَا حَاذَى الْحَجَرَ الأَسْوَدَ، قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ. وَيَقُولُ فِي بَقِيَّةِ الرَّمْلِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا، وَسَعْيًا مَشْكُورًا، وَذَنْبًا مَغْفُورًا. وَيَقُولُ فِي بَقِيَّةِ الأَرْبَعَةِ: رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ، وَاعْفُ عَمَّا تَعْلَمْ، وَأَنْتَ الأَعَزُّ الأَكْرَمُ، اللَّهُمَّ {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] . وَيَدْعُو بِمَا أَحَبَّ بَيْنَ ذَلِكَ. وَلا تَرْمُلُ الْمَرْأَةُ وَلا تَضْطَبِعُ، وَلا يَرْمُلُ أَهْلُ مَكَّةَ. وَالأَفْضَلُ أَنْ يَطُوفَ رَاجِلا، فَإِنْ طَافَ رَاكِبًا أَجَزَأَهُ وَلا دَمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: يُكْرَهُ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ الإِعَادَةُ، فَإِنْ لَمْ يُعِدْ أَجْزَأَهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّهُ لا يُجْزِئُهُ إِلا لِعُذْرٍ. وَإِنْ حَمَلَهُ مُحْرِمٌ وَنَوَيَا جَمِيعًا: نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ بِالْمَحْمُولِ عُذْرٌ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٍ فَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَأَمَّا الْحَامِلُ فَلا يُجِزْهِ، رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ. وَيَلْزَمُ الطَّائِفُ أَنْ يَكُونَ مُتَطَّهِرًا، فَإِنَّ طَوَافَ الْمُحْدِثِ وَالنَّجَسِ عِنْدَنَا لا يَصِحُّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَصِحُّ، وَيَلْزَمُهُ دَمٌ وَهَوُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَكَذَلِكَ إِنْ طَافَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ، فِيهِ رِوَايَتَانِ: أَحَدُهُمَا لا يَصِحُّ، وَالثَّانِيَةُ: يُجْزِئُهُ، وَيَجْبُرُهُ دَمٌ. فَإِنْ نَكَّسَ الطَّوَافَ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ طَافَ عَلَى جِدَارِ الْحِجْرِ، أَوْ عَلَى شَاذَرُوَانِ الْكَعْبَةِ، أَوْ تَرَكَ مِنَ الطَّوَافِ شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ، لَمْ يُجْزِئْهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ لَمْ يَنْوِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 بَابٌ مَا وَرَدَ فِي ثَوَابِ الطَّوَافِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَاكِمُ، وَيَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الْمُدَبَّرُ، قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ النّقورِ، أَخْبَرَنَا حُبَابَةُ، حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا هَدْبَةُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ الْجَعْدِ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّ مَوْلًى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، فَهُوَ عَدْلٌ مُحَرَّرٌ» أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأنَا جَابِرُ بْنُ يَاسِينَ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا الْمُخَلِّصُ، حَدَّثَنَا ابْنُ صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ هُوَ ابْنُ السَّفَرِ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عِشْرِينَ وَمِائَةَ رَحْمَةٍ تَنْزِلُ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ، سِتُّونَ لِلطَّائِفِينَ، وَأَرْبَعُونَ لِلْمُصَلِّينَ، وَعِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ نَاصِرٍ، قَالا: أَنْبَأنَا ابْنُ الْعَلافِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ بِشْرَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الآجُرِّيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الْعَابِدُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صُبَيْحِ بْنِ السِّمَّاكِ، عَنْ عَائِذِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِالطَّائِفِينَ» وَبِالإِسْنَادِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الآجُرِّيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ اللَّيْثِ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ لَمْ يَرْفَعْ قَدَمًا وَلَمْ يَضَعْ أُخْرَى إِلا كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِهَا حَسَنَةً وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً، وَرَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً» . وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ أَحْصَى أُسْبُوعًا كَانَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَزَّازُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الأَصْبَهَانِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَانَجَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَدِّي أَبُو أُمِّي عِيسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا أَبُو شَيْبَةَ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، أَنَّ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَوَابِ الْحَجِّ، وَمَا لَهُ فِيهِ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 بِكُلِّ خُطْوَةٍ تَخْطُوهَا حَوْلَ الْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ دَرَجَةٌ تُرْفَعُ، وَحَسَنَةٌ تُكْتَبُ، وَسَيِّئَةٌ تُكَفَّرُ، فَإِذَا صَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَعَدْلُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ تَعْتِقُهَا، وَمَلَكٌ يَضْرِبُ بَيْنَ كَتِفَيْكَ كُفِيتَ مَا مَضَى فَاعْمَلْ مَا بَقِيَ» وَبِهِ حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: " مَنْ تَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الرُّكْنَ لِيَسْتَلِمَهُ، خَاضَ فِي الرَّحْمَةِ، فَإِذَا اسْتَلَمَهُ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ، فَإِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ قَدَمٍ سَبْعِينَ أَلْفَ حَسَنَةٍ، وَحَطَّ عَنْهُ سَبْعِينَ أَلْفَ سَيِّئَةٍ، وَرُفِعَ لَهُ سَبْعِينَ أَلْفَ دَرَجَةٍ، وَشُفِّعَ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَإِذَا أَتَى مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَصَلَّى عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ عِتْقَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مُحَرَّرًا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَخَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ " وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا أَقْبَلَ الرَّجُلُ يُرِيدُ الطَّوَافَ، أَقْبَلَ يَخُوضُ فِي الرَّحْمَةِ، فَإِذَا دَخَلَهُ غَمَرَتْهُ، ثُمَّ لا يَرْفَعُ قَدَمًا وَلا يَضَعُ قَدَمًا إِلا كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِكُلِّ قَدَمٍ خَمْسَ مِائَةِ حَسَنَةٍ، وَحَطَّ عَنْهُ خَمْسَ مِائَةِ سَيِّئةٍ، أَوْ قَالَ: خَطِيئَةٍ، وَرُفِعَتْ لَهُ خَمْسُ مِائَةِ دَرَجَةٍ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ دُبُرَ الْمَقَامِ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَكُتِبَ لَهُ أَجْرُ عَشْرِ رِقَابٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَاسْتَقْبَلَهُ مَلَكٌ عَلَى الرُّكْنِ، فَقَالَ لَهُ: اسْتَأْنِفِ الْعَمَلَ فِيمَا بَقِيَ فَقَدْ كُفِيتَ مَا مَضَى، وَشُفِّعَ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ: «وَأَمَّا طَوَافُكَ بِالْبَيْتِ فَإِنَّكَ تَصْدُرُ حِينَ تَصْدُرُ، وَأَنْتَ مِنْ ذُنُوبِكَ كَيَوْمِ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ» . وَحَكَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْظُرُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهِ أَهْلُ الْحَرَمِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ أَهْلُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَمَنْ رَآهُ طَائِفًا غَفَرَ لَهُ، وَمَنْ رَآهُ مُصَلِّيًا غَفَرَ لَهُ، وَمَنْ رَآهُ قَائِمًا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ غَفَرَ لَهُ، وَأَنَّهُ لا يَغْرُبُ شَمْسُ يَوْمٍ إِلا وَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ رَجُلٌ مِنَ الأَبْدَالِ، وَلا يَطْلُعُ فَجْرُ لَيْلَةٍ إِلا طَافَ بِهِ وَاحَدٌ مِنَ الأَوْتَادِ، فَإِذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ كَانَ سَبَبُ رَفْعِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفْرَ يَعُودُ مُسْتَوْلِيًا عَلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ فَيَنْتَقِضُونَ الْبَيْتَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ عِيسَى السِّجْزِيُّ، أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا الْعَزِيزُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةَ» . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 بَابُ التَّحْرِيضِ عَلَى الإِكْثَارِ مِنَ الطَّوَافِ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «اسْتَكْثِرُوا مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، فَإِنَّهُ أَثْقَلُ شَيْءٍ تَجِدُونَهُ فِي صُحُفِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَغْبَطُ عَمَلٍ تَجِدُونَهُ» . أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْبُسْرِيِّ، أَنْبَأنَا الْمُخَلِّصُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْيَمَانِ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ خَمْسِينَ مَرَّةً خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، أَنْبَانَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، أَنْبَأنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا شُرَيْحٌ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، قَالَ: «رَأَيْتُ ابْنَ طَارِقٍ فِي الطَّوَافِ قَدِ انْفَرَجَ لَهُ الطَّوَافُ، وَعَلَيْهِ نَعْلانِ مُطْرَفَتَانِ، فَحَرَّرُوا طَوَافَهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَإِذَا هُوَ يَطُوفُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَشْرَ فَرَاسِخَ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 بَابُ الأَدَبِ فِي الطَّوَافِ يَنْبَغِي لِلطَّائِفِينَ حَوْلَ الْبَيْتِ اسْتِعْمَالُ حُسْنِ الأَدَبِ فَإِنَّهُمْ فِي صَلاةٍ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «الطَّوَافُ حَوْلَ الْبَيْتِ مِثْلُ الصَّلاةِ إِلا أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلا يَتَكَلَّمُ إِلا بِخَيْرٍ» . أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالا: أَنْبَأنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَلافُ، أَنْبَأنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ بِشْرَانَ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ الآجُرِّيُّ، حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُنْدِيُّ، حَدَّثَنَا صَامِتُ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَجِيدِ يَعْنِي: ابْنُ أَبِي رُوَّادٍ، قَالَ: " كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ خَاشِعِينَ ذَاكِرِينَ، كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرَ وَقَعَ، يَسْتَبِينُ لِمَنْ رَآهُمْ أَنَّهُمْ فِي نُسُكٍ وَعِبَادَةٍ قَالَ أَبِي: وَكَانَ طَاوُسٌ مِمَّنْ يُرَى فِي ذَلِكَ النَّعْتِ ". وَبِهِ حَدَّثَنَا الآجُرِّيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَزْةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ خُنَيْسٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ، قَالَ: " كُنْتُ أَطُوفُ أَنَا وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ لَيْلا، فَانْقَلَبَ سُفْيَانُ وَبَقِيتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 فِي الطَّوَافِ، فَدَخَلْتُ الْحِجْرَ، فَصَلَّيْتُ تَحْتَ الْمِيزَابِ، فَبَيْنَا أَنَا سَاجِدٌ إِذَا سَمِعْتُ كَلامًا بَيْنَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَالْحِجَارَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا جِبْرِيلُ، أَشْكُو إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ إِلَيْكَ مَا يَفْعَلُ هَؤُلاءِ الطَّائِفُونَ حَوْلِي، مِنْ تَفَكُّهِهِمْ فِي الْحَدِيثِ، وَلَغَطِهِمْ، وَسَهْوِهِمْ. قَالَ وُهَيْبٌ: فَأَوَّلْتُ أَنَّ الْبَيْتَ شَكَى إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ ". وَبِهِ حَدَّثَنَا الآجُرِّيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ الْبَرْذَعِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْمُوَفَّقِ، يُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ رَقَدَ فِي الْحِجْرِ فَسَمِعَ الْبَيْتَ يَقُولُ: «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الطَّائِفُونَ حَوْلِي عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لأَصْرُخَنَّ صَرْخَةً أَرْجِعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي جِئْتُ مِنْهُ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 بَابُ غَضِّ الْبَصَرِ فِي الطَّوَافِ اعْلَمْ أَنَّ غَضَّ الْبَصَرِ عَنِ الْحَرَامِ وَاجِبٌ، وَلَكَمْ جَلَبَ إِطْلاقُهُ مِنْ آفَةٍ خُصُوصًا فِي زَمَنِ الإِحْرَامِ وَكَشْفِ النِّسَاءِ وُجُوهَهُنَّ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ أَنْ يَزْجُرَ هَوَاهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَقَامِ تَعْظِيمًا لِلْمَقْصُودِ، وَقَدْ فَسَدَ خَلْقٌ كَثِيرٌ بِإِطْلاقِ أَبْصَارِهِمْ هُنَالِكَ. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَلافُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ بِشْرَانَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكِنْدِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْخَرَائِطِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُبَرِّدُ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَجَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَمَعَهُ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ مِنْ رِجَالاتِ قُرَيْشٍ الْمَعْدُودِينَ وَعُلَمَائِهِمْ، وَكَانَ عَظِيمَ الْقَدْرِ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ إِذْ بَصُرَ بِرَمْلَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، فَعَشِقَهَا عِشْقًا شَدِيدًا، فَلَمَّا أَرَادَ عَبْدُ الْمَلِكِ الْقُفُولَ هَمَّ خَالِدٌ بِالتَّخَلُّفِ عَنْهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْ أَمْرِهِ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: رَمْلَةُ بِنْتُ الزُّبَيْرِ رَأَيْتُهَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ، قَدْ أَذْهَلَتْ عَقْلِي، وَاللَّهِ مَا أَبْدَيْتُ لَكَ مَا بِي حَتَّى عِيلَ صَبْرِي، وَلَقَدْ عَرَضْتُ النَّوْمَ عَلَى عَيْنِي فَلَمْ تَقْبَلْهُ، وَالسُّلُوَّ عَلَى قَلْبِي فَامْتَنَعَ مِنْهُ. فَأَطَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ التَّعَجُّبَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: مَا كُنْتُ أَقُولُ إِنَّ الْهَوَى يَسْتَأْسِرُ مِثْلَكَ، فَقَالَ: وَإِنِّي لأَشَدُّ تَعَجُّبًا مِنْ تَعَجُّبِكَ مِنِّي، وَلَقَدْ كُنْتُ أَقُولُ إِنَّ الْهَوَى لا يَتَمَكَّنُ إِلا مِنْ ضَعِيفَيْنِ: الشُّعَرَاءِ وَالأَعْرَابِ، فَأَمَّا الشُّعَرَاءُ فَإِنَّهُمْ أَلْزَمُوا قُلُوبَهُمُ الْفِكْرَ فِي النِّسَاءِ وَالْغَزَلَ، فَمَالَ طَبْعُهُمْ إِلَى النِّسَاءِ، فَضَعُفَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ دَفْعِ الْهَوَى فَاسْتَسْلَمُوا لَهُ مُنْقَادِينَ. وَأَمَّا الأَعْرَابُ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَخْلُو بِامْرَأَتِهِ فَلا يَكُونُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ غَيْرَ حُبِّهِ لَهَا. وَجُمْلَةُ أَمْرِي مَا رَأَيْتُ نَظْرَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 حَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ الْحَزْمِ وَحَسَّنَتْ عِنْدِي رُكُوبَ الإِثْمِ، مِثْلَ نَظْرَتِي هَذِهِ. فَتَبَسَّمَ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَقَالَ: أَوَكُلُّ هَذَا قَدْ بَلَغَ بِكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا عَرَفْتُنِي هَذِهِ اللَّيْلَةَ قَبْلَ وَقْتِي هَذَا، فَوَجَّهَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى آلِ الزُّبَيْرِ يَخْطُبُ رَمْلَةَ عَلَى خَالِدٍ. ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهَا، فَقَالَتْ لا وَاللَّهِ أَوْ يُطَلِّقُ نِسَاءَهُ. فَطَلَّقَ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ، وَظَعَنَ بِهَا إِلَى الشَّامِ، وَفِيهَا يَقُولُ: أَلَيْسَ يَزِيدُ السُّوقُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ... وَفِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ حَبِيبَتِنَا قُرْبَا خَلِيلَيَّ مَا مِنْ سَاعَةٍ تَذْكُرَانِهَا ... مِنَ الدَّهْرِ إِلا فُرِّجَتْ عَنِّي الْكُرَبَا أُحِبُّ بَنِي الْعَوَّامِ طُرًا لِحُبِّهَا ... وَمِنْ أَجْلِهَا أَحْبَبْتُ أَخْوَالَهَا كَلْبَا تَجُولُ خَلاخِيلُ النِّسَاءِ وَلا أَرَى ... لِرَمْلَةَ خَلْخَالا يَجُولُ وَلا قُلْبَا وَقَالَ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ الْفَضْلِ، فِي هَذَا الْمَعْنَى: النَّجَاءَ النَّجَاءَ مِنْ أَرْضِ نَجْدَ ... قَبْلَ أَنْ يَعْلَقَ الْفُؤَادُ بِوَجْدِ كَمْ خَلِيٍّ غَدَا إِلَيْهِ وَأَمْسَى ... وَهُوَ يَهْذِي بِعُلْوَةَ وَبِهِنْدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 بَابٌ عُقُوبَةُ قَوْمٍ أَسَاءُوا الأَدَبَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَنْبَلِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ، أَنْبَأنَا ابْنُ بِشْرَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ صَفْوَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: " بَيْنَمَا رَجُلٌ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ إِذْ بَرِقَ لَهُ سَاعِدُ امْرَأَةٍ، فَوَضَعَ سَاعِدَهُ عَلَى سَاعِدِهَا يَتَلَذَّذُ بِهِ، فَلَصَقَتْ سَاعِدَاهُمَا، فَأَتَى بَعْضُ الشُّيُوخِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي فَعَلْتَ فِيهِ، فَعَاهِدْ رَبَّ الْبَيْتِ أَنَّ لا تُعَودَ، فَفَعَلَ، فَخَلَّى عَنْهُ ". وَبِالإِسْنَادِ، حَدَّثَنَا الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ: «أَنَّ إِسَافًا وَنَائِلَةَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ حَجَّا مِنَ الشَّامِ، فَقَبَّلَهَا وَهُمَا يَطُوفَانِ، فَمُسِخَا حَجَرَيْنِ، فَلَمْ يَزَالا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالإِسْلامِ فَأُخْرِجَا» . وَبِهِ حَدَّثَنَا الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عِيَاضِ بْنِ جُعْدُبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَزْمٍ، عَنْ عَمِّهِ، «أَنَّ إِسَافًا وَنَائِلَةَ كَانَا رَجُلا وَامْرَأَةً، فَإِسَافُ مِنْ جُرْهُمَ، وَنَائِلَةُ مِنْ قَنْطُورَاءَ، كَانَا فِي الْبَيْتِ، فَقَبَّلَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَمُسِخَا حَجَرَيْنِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وَبِهِ حَدَّثَنَا الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ إِذْ جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى الْبَيْتِ تَعُوذُ مِنْ زَوْجِهَا، فَجَاءَ زَوْجُهَا فَمَدَّ يَدَهُ إِلَيْهَا فَيَبَسَتْ يَدُهُ، فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ فِي الإِسْلامِ وَإِنَّهُ لأَشَلُّ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 بَابُ ذِكْرِ مَنْ ضَرَبَهَا الْمَخَاضُ فِي الطَّوَافِ فَوَلَدَتْ فِي الْكَعْبَةِ رَوَى ابْنُ عَائِشَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَتْ أُمُّ حَكِيمِ بِنْتُ حِزَامٍ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ أَيَّامَ الْحَجِّ، فَضَرَبَهَا الْمَخَاضُ فَأَعْجَلَهَا، فَأَخْلَتْهَا قُرَيْشٌ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَوَلَدَتْ حَكِيمًا، وَعَاشَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، سِتِّينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَسِتِّينَ فِي الإِسْلامِ. وَبِهِ رَوَى أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ: «أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَسَدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ضَرَبَهَا الطَّلْقُ وَهِيَ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ أَيَّامَ الْحَجِّ، فَفُتِحَتْ لَهَا الْكَعْبَةُ، فَوَلَدَتْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ» ، إِلا أَنَّ إِسْنَادَ هَذَا الْحَدِيثِ لا يَثْبُتُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 بَابُ ذِكْرِ الإِشَارَةِ فِي الطَّوَافِ يَنْبَغِي لِلطَّائِفِ أَنْ يَسْتَشْعِرَ بِقَلْبِهِ عَظَمَةَ مَنْ يَطُوفُ بِبَيْتِهِ، وَلِيَعْلَمْ أَنَّ خُلاصَةَ الْمُرَادِ مِنْ طَوَافِ الْبَدَنِ بِالْبَيْتِ طَوَافُ الْقَلْبِ بِحَضْرَةِ الرَّبِّ، وَعَلَى هَذَا كَانَ طَوَافُ الْعَارِفِينَ. وَقَدْ حَجَّ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى الشِّبْلِيِّ، قَالَ لَهُ: عَقَدْتَ الْحَجَّ حِينَ أَحْرَمْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَسَخْتَ بِعَقْدِكَ كُلَّ عَقْدٍ يُخَالِفُ هَذَا الْعَقْدَ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَمَا عَقَدْتَ. قَالَ: تَجَرَّدْتَ مِنْ ثِيَابِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: تَجَرَّدْتَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَمَا نَزَعْتَ، قَالَ: لَبَّيْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَجَدْتَ جَوَابَ التَّلْبِيَةِ؟ قَالَ: لا. قَالَ: مَا لَبَّيْتَ، قَالَ: رَأَيْتَ الْكَعْبَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: رَأَيْتَ مَنْ قَصَدْتَ، قَالَ: لا. قَالَ: مَا رَأَيْتَ، وَلَمْ يَزَلْ يَسْتَقْرِئُ أَحْوَالَ الْحَجِّ إِلَى أَنْ قَالَ لَهُ: مَا حَجَجْتَ، عَلَيْكَ الْعَوْدَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الأُرْدِسْتَانِيُّ، أَنْبَأنَا السُّلَمِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ الطُّوسِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْبَرْذَعِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ الشِّبْلِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَسُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] فَوَصَفَ صِفَةً لَمْ يَضْبِطْهَا أَهْلُ الْمَجْلِسِ، ثُمَّ يَقُولُ: لَسْتُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحِبِّينَ إِنْ لَمْ ... أَدَعِ الْقَلْبَ بَيْتَهُ وَالْمَقَامَا وَطَوَافِي إِجَالَةُ السِّرِّ فِيهِ ... وَهُوَ رُكْنِي إِذَا أَرَدْتُ اسْتِلامَا أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي خَلَفٍ، أَخْبَرَنَا السُّلَمِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْفَضْلِ، يَقُولُ: «الْعَجَبُ مِمَّنْ يَقْطَعُ الأَوْدِيَةَ وَالْقِفَارَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى بَيْتِهِ وَحَرَمِهِ؛ لأَنَّ فِيهِ آثَارَ أَنْبِيَائِهِ، كَيْفَ لا يَقْطَعُ نَفْسَهُ وَهَوَاهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى قَلْبِهِ فَإِنَّ فِيهِ آثَارَ رَبِّهِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَاكَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ الْعَطَّارُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي جَعْفَرٌ الْخُلْدِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ، يَقُولُ: حَجَجْتُ عَلَى الْوِحْدَةِ، فَجَاوَرْتُ بِمَكَّةَ، فَكُنْتُ إِذَا جَنَّ اللَّيْلُ دَخَلْتُ الطَّوَافَ، فَإِذَا بِجَارِيَةٍ تَطُوفُ وَتَقُولُ: أَبَى الْحُبُّ أَنْ يَخْفَى وَكَمْ قَدْ كَتَمْتُهُ ... فَأَصْبَحَ عِنْدِي قَدْ أَنَاخَ وَطَنَّبَا إِذَا اشْتَدَّ شَوْقِي هَامَ قَلْبِي بِذِكْرِهِ ... وَإِنْ رُمْتُ قُرْبًا مِنْ حَبِيبِي تَقَرَّبَا وَيَبْدُو فَأَفْنَى ثُمَّ أَحْيَا بِهِ لَهُ ... وَيُسْعِدُنِي حَتَّى أَلَذَّ وَأَطْرَبَا قَالَ: فَقُلْتُ لَهَا: يَا جَارِيَةُ، أَمَا تَتَّقِينَ اللَّهَ تَعَالَى، فِي مِثْلِ هَذَا الْمَكَانِ تَتَكَلَّمِينَ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلامِ. فَالْتَفَتَتْ إِلَيَّ، وَقَالَتْ: يَا جُنَيْدُ: لَوْلا التُّقَى لَمْ تَرَنِي ... أَهْجُرُ طِيبَ الْوَسَنِ إِنَّ التُّقَى شَرَّدَنِي ... كَمَا تَرَى عَنْ وَطَنِي أَفِرُّ مِنْ وَجْدِي بِهِ ... فَحُبُّهُ تَيَّمَنِي ثُمَّ قَالَتْ: يَا جُنَيْدُ، تَطُوفُ بِالْبَيْتِ أَمْ بِرَبِّ الْبَيْتِ؟ فَقُلْتُ: أَطُوفُ بِالْبَيْتِ. فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَتْ: سُبْحَانَكَ سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ مَشِيئَتَكَ فِي خَلْقِكَ، خَلْقٌ كَالأَحْجَارِ يَطُوفُونَ بِالأَحْجَارِ، ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ: إِلَيْكَ قَصْدِي لا لِلْبَيْتِ وَالأَثَرِ ... إِلَيْكَ وَهُمْ أَقْسَى قُلُوبًا مِنَ الصَّخْرِ وَتَاهُوا فَلَمْ يَدْرُوا مِنَ التِّيهِ مَنْ هُمُ ... وَحَلُّوا مَحَلَّ الْقُرْبِ فِي بَاطِنِ الْفِكْرِ فَلَوْ أَخْلَصُوا فِي الْوُدِّ غَابَتْ صِفَاتُهُمُ ... وَقَامَتْ صِفَاتُ الْوُدِّ لِلْحَقِّ بِالذِّكْرِ قَالَ الْجُنَيْدُ: فَغُشِّيَ عَلَيَّ مِنْ قَوْلِهَا، فَلَمَّا أَفَقْتُ لَمْ أَرَهَا. وَأَنْشَدُوا لأَبِي عَلِيٍّ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الشِّيرَازِيِّ: إليك قصدي لا لِلْبَيْتِ وَالأَثَرِ ... وَلا طَوَافِي بِأَرْكَانٍ وَلا حَجَرِ صَفَّى دَمْعِي الصَّفَا لِي حِينَ أَعْبُرُهُ ... وَزْمَزِمِي دَمْعَةٌ تَجْرِي مِنَ الْبَصَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وَفِيكَ سَعْيِي وَتَعْمِيرِي وَمُزْدَلِفِي ... وَالْهَدْيُ جِسْمِي الَّذِي يُغْنِي عَنِ الْجُزُرِ عَرَفَاتُهُ عَرَفَاتِي إِذْ مِنًى مِنَنِي ... وَمَوْقِفِي وَقْفَةٌ فِي الْخَوْفِ وَالْحَذَرِ وَجَمْرُ قَلْبِي جِمَارٌ نَبْذُهُ شَرَرُ ... وَالْحَرَمُ تَحْرِيمِيَ الدُّنْيَا عَنِ الْفِكَرِ وَمَسْجِدُ الْخَيْفِ خَوْفِي مِنْ تَبَاعُدِكُمْ ... وَمَشْعَرِي وَمَقَامِي دُونَكُمْ خَطَرِي زَادِي رَجَائِي لَهُ وَالشَّوْقُ رَاحِلَتِي ... وَالْمَاءُ مِنْ عَبَرَاتِي وَالْهَوَى سَفَرِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 بَابٌ ذِكْرُ كَلِمَاتٍ حُفِظَتْ عَنِ الطَّائِفِينَ وَأَدْعِيَةٌ، وَأَحْوَالٌ جَرَتْ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَزَّازُ، أَنْبَأنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الأْزَرْقُ، حَدَّثَنَا أَبُو سَهْلٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ النَّيْسَابُورِيُّ، أَنْبَأنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ الْعَدَنِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَمِيلٍ الْهَرَوِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَرَّرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " بَيْنَمَا أَنَا أَطُوفُ بِالْبَيْتِ إِذَا رَجُلٌ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، يَقُولُ: يَا مَنْ لا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ، وَيَا مَنْ لا تَغْلُطُهُ الْمَسَائِلُ، وَيَا مَنْ لا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ، أَذِقْنِي بَرْدَ عَفْوِكَ، وَحَلاوَةَ رَحْمَتِكَ. قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَعِدِ الْكَلامَ. قَالَ: وَسَمِعْتُهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ الْخَضِرِ بِيَدِهِ، وَكَانَ الْخَضِرُ، لا يَقُولُهُنَّ عَبْدٌ دُبُرَ الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ إِلا غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ رَمْلِ عَالِجَ، وَعَدَدِ الْمَطَرِ، وَوَرَقِ الشَّجَرِ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 أَخْبَرَنَا ابْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلامَةَ الْقُضَاعِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو مُسْلِمٍ الْكَاتِبُ، أَنْبَأنَا ابْنُ دُرَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الرِّيَاشِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ، عَنِ الأَصْمَعِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ أَعْرَابِيًا، وَقَدْ وَضَعَ يَدَهُ بِبَابِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَبِّ، سَائِلُكَ بِبَابِكَ مَضَتْ أَيَّامُهُ وَبَقِيَتْ آثَامُهُ، وَانْقَطَعَتْ شَهْوَتُهُ، وَبَقِيَتْ تَبِعَتُهُ، فَارْضَ عَنْهُ، وَاعْفُ عَنْهُ، فَإِنَّمَا يُعْفَى عَنِ الْمُسِيءِ، وَيُثَابُ الْمُحْسِنِ، وأنت أفضل من دعوت، وأكرم من رجوت. أخبرنا عمر بن ظفر، أَنْبَأنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ جَهْضَمٍ الصُّوفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ، قَالَ: " بَيْنَا أَنَا فِي الطَّوَافِ نَظَرْتُ إِلَى أَعْرَابِيٍّ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ شَخَصَ بِبَصَرِهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا خَيْرَ مَنْ وَفَدَ الْعِبَادُ إِلَيْهِ، ذَهَبَتْ أَيَّامِي، وَضَعُفَتْ قُوَّتِي، وَقَدْ وَرَدْتُ إِلَى بَيْتِكَ الْمُعَظَّمِ الْمُكَرَّمِ بِذُنُوبٍ كَثِيرَةٍ لا تَسَعُهَا الأَرْضُ وَلا تَغْسِلُهَا الْبِحَارُ، مُسْتَجِيرًا بِعَفْوِكَ مِنْهَا، وَحَطَطْتُ رَحْلِي بِفِنَائِكَ، وَأَنْفَقْتُ مَالِي فِي رِضَاكَ، فَمَا أَدْرِي مَا يَكُونُ مِنْ جَزَائِكَ يَا مَوْلاي؟ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النَّاسِ، ادْعُوا لِمَنْ وَكَزَتْهُ الْخَطَايَا، وَغَمَرَتْهُ الْبَلايَا، ارْحَمُوا أَسِيرَ ضُرًّ وَغَرِيبَ فَاقَةٍ، سَأَلْتُكُمْ بِالَّذِي قَدْ عَمَّتْكُمُ الرَّغْبَةُ إِلَيْهِ، إِلا سَأَلْتُمُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَهَبَ لِي جُرْمِي، وَيَغْفِرَ لِي ذَنْبِي. ثُمَّ عَادَ فَتَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ: إِلَهِي وَسَيِّدِي، عَظِيمُ الذَّنْبِ مَكْرُوبٌ، وَعَنْ صَالِحِ الأَعْمَالِ مَطْرُودٌ، وَقَدْ أَصْبَحْتُ ذَا فَاقَةٍ إِلَى رَحْمَتِكَ يَا مَوْلاي. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ: ثُمَّ رَأَيْتُهُ بِعَرَفَاتٍ وَقَدْ وَضَعَ يَسَارَهُ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ، يَصْرُخُ وَيَبْكِي وَيَشْهَقُ، وَيَقُولُ: إِلَهِي وَسَيِّدِي وَمَوْلاي، أُضْحِكَتِ الأَرْضُ بِالزَّهْرَةِ، وَأُمْطِرَتِ السَّمَاءُ بِالرَّحْمَةِ، وَالَّذِي أَعْطَيْتَ الْمُوَحِّدِينَ إِنَّ نَفْسِي لَوَاثِقَةٌ لِي وَلَهُمْ مِنْكَ بِالرِّضَى، وَكَيْفَ لا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَأَنْتَ حَبِيبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 مَنْ تَحَبَّبَ إِلَيْكَ، وَقُرَّةُ عَيْنِ مَنْ لاذَ بِكَ، وَانْقَطَعَ إِلَيْكَ، يَا مَوْلاي حَقًّا حَقًّا أَقُولُ، لَقَدْ أَمَرْتَ بِمَكَارِمِ الأَخْلاقِ فَاجْعَلْ وُفُودِي إِلَيْكَ عِتْقَ رَقَبَتِي مِنَ النَّارِ ". أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ ظَفَرٍ، أَنْبَأنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، حَدَّثَنَا هِلالُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا، حَدَّثَنَا الأَصْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا سُفَيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: " سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا مُتَعَلِّقًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: السَّائِلُ بِبَابِكَ انْقَضَتْ أَيَّامُهُ وَبَقِيَتْ آثَامُهُ، وَانْقَضَتْ شَهَوَاتِهِ وَبَقِيَتْ تَبِعَاتُهُ، وَلِكُلِّ ضَيْفٍ قِرًى، فَاجْعَلْ قِرَايَ الْجَنَّةَ " أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: " تَعَلَّقَ شَابٌّ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ: إِلَهِي لا لَكَ شَرِيكٌ فَيُؤْتَى، وَلا وَزِيرٌ فَيُرْشَى، إِنْ أَطَعْتُكَ فَبِفَضْلِكَ، وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإِنْ عَصَيْتُكَ فَبِجَهْلِي وَلَكَ الْحُجَّةُ عَلَيَّ، فَبِإِثْبَاتِ حُجَّتِكَ وَانْقِطَاعِ حُجَّتِي لَدَيْكَ إِلا غَفَرْتَ لِي. فَسَمِعَ هَاتِفًا يَقُولُ: الْفَتَى عَتِيقٌ مِنَ النَّارِ ". أَنْبَأنَا أَبُو سَعْدٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الظَّهْرَانِيُّ، وَأَبُو عَمْرِو بْنُ مَنْدَهْ، قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ مُرَّةَ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ اللُّنْبَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عِيَاضٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَامِلٍ، أَنْبَأنَا عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قَالَ طَاوُسٌ: " بَيْنَا أَنَا بِمَكَّةَ بَعَثَ إِلَيَّ الْحَجَّاجُ فَأَجْلَسَنِي إِلَى جَنْبِهِ، وَاتَّكَأَنِي عَلَى وِسَادَتِهِ، إِذْ سَمِعَ مُلَبِيًا يُلَبِّي حَوْلَ الْبَيْتِ، رَافِعًا صَوْتَهُ، فَقَالَ: عَلَيَّ بِالرَّجُلِ، فَأُتِيَ بِهِ، فَقَالَ: مِمَّنِ الرَّجُلُ؟ قَالَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: لَيْسَ عَنِ الإِسْلامِ سَأَلْتُ. قَالَ: فَعَمَّ سَأَلْتَ؟ قَالَ: سَأَلْتُكَ عَنِ الْبَلَدِ، قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ. قَالَ: كَيْفَ تَرَكْتَ مُحَمَّدَ بْنَ يُوسُفَ؟ يُرِيدُ أَخَاهُ. قَالَ: تَرَكْتُهُ عَظِيمًا جَسِيمًا كَبَّاشًا رَكَّابًا خَرَّاجًا وَلاجًا. قَالَ: لَيْسَ عَنْ هَذَا سَأَلْتُكَ؟ قَالَ: فَعَمَّ سَأَلْتَ؟ قَالَ: سَأَلْتُكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 عَنْ سِيرَتِهِ. قَالَ: تَرَكْتُهُ ظَلُومًا غَشُومًا، مُطِيعًا لِلْمَخْلُوقِ، عَاصِيًا لِلْخَالِقِ. قَالَ الْحَجَّاجُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَتَكَلَّمَ بِهَذَا وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَكَانَهُ مِنِّي؟ قَالَ الرَّجُلُ: أَتَرَاهُ بِمَكَانِهِ مِنْكَ أَعَزَّ مِنِّي بِمَكَانِي مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَا وَافِدٌ بَيْتَهُ، وَمُصَدِّقٌ نَبِيَّهُ، وَقَاضِيَ دَيْنَهُ، فَسَكَتَ الْحَجَّاجُ، وَقَامَ الرَّجُلُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ. قَالَ طَاوُسٌ: فَقُمْتُ فِي أَثَرِهِ. وَقُلْتُ: الرَّجُلُ حَكِيمٌ. فَأَتَى الْبَيْتَ فَتَعَلَّقَ بِأَسْتَارِهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ بِكَ أَعُوذُ وَبِكَ أَلُوذُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي فِي اللَّهْفِ إِلَى جُودِكَ وَالرِّضَا بِضَمَانِكَ مَنْدُوحَةً عَنْ مَنْعِ الْبَاخِلِينَ، وَغِنًى عَنْ مَا فِي أَيْدِي الْمُسْتَأْثِرِينَ، اللَّهُمَّ فَرَجَكَ الْقَرِيبَ، وَمَعْرُوفَكَ الْقَدِيمَ، وَعَادَتَكَ الْحَسَنَةَ. ثُمَّ ذَهَبَ فِي النَّاسِ فَرَأَيْتُهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ لَمْ تَقْبَلْ حَجِّي وَتَعَبِي وَنَصَبِي فَلا تَحْرِمْنِي الأَجْرَ عَلَى مُصِيبَتِي بِتَرْكِكَ الْقَبُولَ مِنِّي. ثُمَّ ذَهَبَ فِي النَّاسِ، فَرَأَيْتُهُ غَدَاةَ جَمْعٍ، يَقُولُ: وَاسَوْأَتَاهُ مِنْكَ وَاللَّهِ وَإِنْ عَفَوْتَ، يُرَدِّدُ ذَلِكَ ". أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ السَّرَّاجِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصُّوفِيُّ، حَدَّثَنَا الْخُلْدِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَسْرُوقٍ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سِوَارٍ الْمُقْرِي، قَالَ: سَمِعْتُ شُعَيْبَ بْنَ حَرْبٍ، يَقُولُ: " بَيْنَا أَنَا فِي الطَّوَافِ إِذْ لَكَزَنِي رَجُلٌ بِمِرْفَقِهِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا صَالِحٍ. فَقَلْتُ: لَبَّيْكَ يَا أَبَا عَلِيٍّ. قَالَ: إِنْ كُنْتَ تَظُنُّ أَنَّهُ شَهِدَ الْمَوْسِمَ شَرٌّ مِنِّي وَمِنْكَ فَبِئْسَ مَا ظَنَنْتَ " أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو سَعْدٍ الْحِيرِيُّ، أَنْبَأنَا ابْنُ مَاتَوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ يَعْقُوبَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ سَيِّدٍ حَمْدَوَيْهِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ قَاسِمَ بْنَ عُثْمَانَ، يَقُولُ: " رَأَيْتُ فِي الطَّوَافِ رَجُلا لا يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ: إِلَهِي قَضَيْتَ حَوَائِجَ الْمُحْتَاجِينَ وَحَاجَتِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 لَمْ تُقْضَ. فَقُلْتُ لَهُ: مَا لَكَ لا تَزِيدُ عَلَى هَذَا الْكَلامِ؟ قَالَ: أُحَدِّثُكَ: كُنَّا سَبْعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ بُلْدَانٍ شَتَّى، تَرَافَقْنَا وَغَزَوْنَا أَرْضَ الْعَدُوِّ، وَاسْتَأْسَرَنَا كُلَّنَا، فَاعْتَزَلَ بِنَا بِطَرِيقٍ إِلَى مَوْضِعٍ لِيَضْرِبَ رِقَابَنَا، فَنَظَرْتُ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ مَفْتُوحَةٌ، عَلَيْهَا سَبْعُ جَوَارٍ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، عَلَى كُلِّ بَابٍ جَارِيَةٌ. فَقُدِّمَ رَجُلٌ مِنَّا، فَضُرِبَ عُنُقُهُ، فَرَأَيْتُ جَارِيَةً فِي يَدِهَا مِنْدِيلٌ قَدْ هَبَطَتْ إِلَى الأَرْضِ، حَتَّى ضُرِبَتْ أَعْنَاقُ السِّتَّةِ، وَبَقِيتُ أَنَا، وَبَقِي بَابٌ وَاحِدٌ، فَلَمَّا قَدِمْتُ لِتُضْرَبَ رَقَبَتِي اسْتَوْهَبَنِي بَعْضُ رِجَالِهِ، فَوَهَبَنِي لَهُ، فَسَمِعْتُهَا تَقُولُ: أَيُّ شَيْءٍ فَاتَكَ يَا مَحْرَومُ؟ وَأَغْلَقَتِ الْبَابَ. فَأَنَا يَا أَخِي مُتَحَسِّرٌ عَلَى مَا فَاتَنِي ". قَالَ قَاسِمٌ الْجُوعِيُّ: أَرَاهُ أَفْضَلَهُمْ؛ لأَنَّهُ رَأَى مَا لَمْ يَرَوْا وَتُرِكَ يَعْمَلُ عَلَى الشَّوْقِ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصَّوفِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو سَعْدٍ الْحِيرِيُّ، أَنْبَأنَا ابْنُ بَاكَوَيْهِ، أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو يَعْقُوبَ النَّهْرَجُورِيُّ، قَالَ: " رَأَيْتُ فِي الطَّوَافِ رَجُلا بِغَيْرِ عَيْنٍ وَهُوَ يَقُولُ فِي طَوَافِهِ: أَعُوذُ بِكَ مِنْكَ. فَقُلْتُ لَهُ: مَا هَذَا الدُّعَاءُ؟ فَقَالَ: إِنِّي مُجَاوِرٌ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً فَنَظَرْتُ إِلَى شَخْصٍ يَوْمًا فَاسْتَحْسَنْتُهُ، فَإِذَا بِلَطْمَةٍ وَقَعَتْ عَلَى عَيْنِي، فَسَالَتْ عَيْنِي عَلَى خَدِّي، فَقُلْتُ: آهٍ، فَوَقَعَتْ أُخْرَى، وَقَالَ قَائِلً: لَوْ زِدْتَ لَزِدْنَاكَ ". أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ الْحِيرِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ الْجَوْزِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ، يَقُولُ: " رَأَيْتُ بَعْضَ الصُّوفِيَّةِ، وَكَانَ غَرِيبًا، تَقَدَّمَ إِلَى الْكَعْبَةِ وَالنَّاسُ يَطُوفُونَ، فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 يَا رَبِّ، مَا أَدْرِي مَا يَقُولُ هَؤُلاءِ، فَقِيلَ لَهُ: انْظُرْ مَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، فَطَارَتْ فِي الْهَوَاءِ وَغَابَتْ ". أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو سَعْدٍ الْحِيرِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ الْعَبَّاسِيَّ، قَالَ: " حَجَجْتُ ثَمَانِينَ حَجَّةً عَلَى قَدَمِي عَلَى الْفَقْرِ، فَبَيْنَمَا أَنَا فِي الطَّوَافِ، وَأَنَا أَقُولُ: يَا حَبِيبِي يَا حَبِيبِي، فَإِذَا بِهَاتِفٍ يَهْتِفُ بِي: لَيْسَ تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِسْكِينًا حَتَّى تَكُونَ حَبِيبًا، فَغُشِّيَ عَلَيَّ، ثُمَّ كُنْتُ بَعْدَ ذَلِكَ أَقُولُ: مِسْكِينُكَ، وَأَنَا تَائِبٌ عَنْ قَوْلِي حَبِيبِي " أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالا: أَنْبَأنَا رِزْقُ اللَّهِ، وَطَرَّادٌ، قَالا: أَنْبَأنَا ابْنُ بِشْرَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ خُنَيْسٍ، قَالَ: قَالَ وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ: " بَيْنَمَا امْرَأَةٌ فِي الطَّوَافِ ذَاتَ يَوْمٍ وَهِيَ تَقُولُ: يَا رَبِّ، ذَهَبَتِ اللَّذَّاتُ وَبَقِيَتِ التَّبِعَاتُ، يَا رَبِّ، سُبْحَانَكَ، وَعِزَّتِكَ إِنَّكَ لأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، يَا رَبِّ، مَا لَكَ عُقُوبَةٌ إلا النَّارَ. فَقَالَتْ صُاحْبَةٌ لَهَا كَانَتْ مَعَهَا: يَا أُخَيَّةُ، دَخَلْتِ بَيْتَ رَبِّكِ الْيَوْمَ؟ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَرَى هَاتَيْنِ الْقَدَمَيْنِ أَهْلا لِلطَّوَافِ حَوْلَ بَيْتِ رَبِّي، فَكَيْفَ أَرَاهُمَا أَهْلا أَطَأُ بِهِمَا بَيْتَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ؟ وَقَدْ عَلِمْتُ حَيْثُ مَشَتَا وَأَيْنَ مَشَتَا " أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، أَنْبَأنَا أَبُو السَّرَّاجِ، أَنْبَأنَا التَّوَّزِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 مِيمِي، حَدَّثَنَا الْبَرْذَعِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سَعيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَرْعَى لِحُرْمَةِ هَذَا الْبَيْتِ وَلا أَحْرَصَ عَلَيْهِ مِنْكُمْ يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ، لَقَدْ رَأَيْتُ جَارِيَةً مِنْهُمْ ذَاتَ لَيْلَةٍ مُتَعَلِّقَةً بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، تَدْعُو وَتَتَضَرَّعُ وَتَبْكِي حَتَّى مَاتَتْ» أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو سَعِيدٍ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ بَاكَوَيْهِ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْجَبَلِيُّ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَشْهَبِ السَّائِحُ، قَالَ: " بَيْنَا أَنَا فِي الطَّوَافِ إِذَا بِجُوَيْرِيَةٍ قَدْ تَعَلَّقَتْ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَهِيَ تَقُولُ: يَا وَحْشَتِي بَعْدَ الأُنْسِ، وَيَا ذِلَّتِي بَعْدَ الْعِزِّ، وَيَا فَقْرِي بَعْدَ الْغِنَى. فَقُلْتُ لَهَا: مَا لَكِ؟ أَذَهَبَ لَكِ مَالٌ أَوْ أُصِبْتِ بِمُصِيبَةٍ؟ قَالَتْ: لا، وَلَكِنْ كَانَ لِي قَلْبٌ فَقَدْتُهُ. قُلْتُ: وَهَذِهِ مُصِيبَتُكِ؟ قَالَتْ: وَأَيُّ مُصِيبَةٍ أَعْظَمُ مِنْ فَقْدِ الْقُلُوبِ وَانْقِطَاعِهَا عَنِ الْمَحْبُوبِ. فَقُلْتُ لَهَا: إِنَّ حُسْنَ صَوْتِكِ قَدْ عَطَّلَ عَلَى سَامِعِيهِ الطَّوَافَ. فَقَالَتْ: يَا شَيْخُ، الْبَيْتُ بَيْتُكَ أَمْ بَيْتُهُ؟ قُلْتُ: بَلْ بَيْتُهُ. قَالَتِ: الْحَرَمُ حَرَمُكَ أَمْ حَرَمُهُ؟ قُلْتُ: بَلْ حَرَمُهُ. قَالَتْ: فَدَعْنَا نَتَدَلَّلُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ مَا اسْتَزَارَنَا إِلَيْهِ. ثُمَّ قَالَتْ: بِحُبِّكَ لِي إِلا رَدَدْتَ عَلَيَّ قَلْبِي. فَقُلْتُ لَهَا: مِنْ أَيْنَ تَعْلَمِينَ أَنَّهُ يُحِبُّكِ؟ قَالَتْ: لِعِنَايَتِهِ الْقَدِيمَةِ جَيَّشَ مِنْ أَجْلِي الْجُيُوشَ، وَأَنْفَقَ الأَمْوَالَ، وَأَخْرَجَنِي مِنْ بِلادِ الشِّرْكِ، وَأَدْخَلَنِي فِي التَّوْحِيدِ، وَعَرَّفَنِي نَفْسَهُ بَعْدَ جَهْلِي إِيَّاهُ، فَهَلْ هَذَا إِلا لِعِنَايَتِهِ بِي؟ قُلْتُ: كَيْفَ حُبُّكِ لَهُ؟ قَالَتْ: أَعْظَمُ شَيْءٍ وَأَجَلُّهُ. قُلْتُ: وَتَعْرِفِينَ الْحُبَّ؟ قَالَتْ: فَإِذَا جَهِلْتُ الْحُبَّ، فَأَيُّ شَيْءٍ أَعْرِفُ. قُلْتُ: فَكَيْفَ هُوَ؟ قَالَتْ: أَرَّقُ مِنَ الشَّرَابِ. قُلْتُ: فَأَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ قَالَتْ: مِنْ طِينَةٍ عُجِنَتْ بِالْحَلاوَةِ، وَخُمِّرَتْ فِي إِنَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 الْجَلالَةِ، حُلْوُ الْمُجْتَنَى مَا اقْتُصِرَ، فَإِذَا أُفْرِطَ عَادَ خَبَلا قَاتِلا، وَفَسَادًا مُعَطَّلا، وَهُوَ شَجَرَةٌ عَرْشُهَا كَرِيهٌ، وَمَجْنَاهَا لَذِيذٌ، ثُمَّ وَلَّتْ، وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ: وَذِي قَلَقٍ مَا يَعْرِفُ الصَّبْرَ وَالْعِزَّا ... لَهُ مُقْلَةٌ عَبْرَى قَدْ أَضَرَّ بِهَا الْعَنَا وَجِسْمٌ نَحِيلٌ مِنْ شَجًى لاعِجِ الْهَوَى ... فَمَنْ ذَا يُدَاوِي الْمُسْتَهَامَ مِنَ الضَّنَا وَلا سِيَّمَا وَالْحُبُّ صَعْبٌ مَرَامُهُ ... إِذَا عَطَفَتْ مِنْهُ الْعَوَاطِفُ وَالْفَنَا " أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بُنُ دِينَارٍ الْفَقَيهُ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حِبَّانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْيَقْفِيَّ يَحْكِي عَنْ ذِي النُّونِ الْمِصْرِيِّ، قَالَ: " كُنْتُ فِي الطَّوَافِ إِذْ طَلَعَ نُورٌ لَحِقَ عَنَانَ السَّمَاءِ، فَتَعَجَّبْتُ، وَأَتْمَمْتُ طَوَافِي، وَقُمْتُ أَتَفَكَّرُ فِي ذَلِكَ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا حَزِينًا، فَنَظَرْتُ وَإِذَا بِجَارِيَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَهِيَ تَقُولُ: أَنْتَ تَدْرِي يَا حَبِيبِي ... يَا حَبِيبِي أَنْتَ تَدْرِي وَنُحُولُ الْجِسْمِ وَالدَّمْعُ ... يَبُوحَانِ بِسِرِّي يَا عَزِيزُ قَدْ كَتَمْتُ الْحُبَّ ... حَتَّى ضَاقَ صَدْرِي قَالَ ذُو النُّونِ: فَشَجَانِي مَا سَمِعْتُ حَتَّى انْتَحَبْتُ وَبَكَيْتُ. ثُمَّ قَالَتْ: إِلَهِي وَسَيِّدِي وَمَوْلاي، بِحُبِّكَ لِي إِلا غَفَرْتَ لِي. قَالَ: فَتَعَاظَمَنِي ذَلِكَ، وَقُلْتُ: يَا جَارِيَةُ، أَمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِي: بِحُبِّي لَكَ، حَتَّى تَقُولِي بِحُبِّكَ لِي؟ فَقَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي يَا ذَا النُّونِ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَوْمًا يُحِبُّهُمْ قَبْلَ أَنْ يُحِبُّوهُ؟ أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] فَسَبَقَتْ مَحَبَّتُهُ لَهُمْ مَحَبَّتَهُمْ لَهُ؟ فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ عَلِمْتِ أَنِّي ذُو النُّونِ؟ فَقَالَتْ: يَا بَطَّالُ، جَالَتِ الْقُلُوبُ فِي مَيْدَانِ الأَسْرَارِ فَعَرَفْتُكَ بِمَعْرِفَةِ الْجَبَّارِ. ثُمَّ قَالَتِ: انْظُرْ مِنْ خَلْفِكَ؟ فَأَدَرْتُ وَجْهِي، فَلا أَدْرِي السَّمَاءُ اقْتَلَعَتْهَا أَمِ الأَرْضُ ابْتَلَعَتْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وَقَالَ ذُو النُّونِ: بَيْنَا أَنَا أَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَقَدْ نَامَتِ الْعُيُونُ، وَإِذَا بِشَخْصٍ قَدْ حَاذَى بَابَ الْبَيْتِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَبِّ، عَبْدُكَ الْمِسْكِينُ الطَّرِيدُ الشَّرِيدُ يَسْأَلُكَ بِالْعُصْبَةِ الَّتِي مَنَنْتَ عَلَيْهِمْ وَعَلَيَّ بِرُؤْيَتِي لَهُمْ، إِلا أَعْطَيْتَنِي مَا أَعْطَيْتَهُمْ، وَسَقَيْتَنِي مَا سَقَيْتَهُمْ، بِكَأْسِ حُبِّكَ، وَكَشَفَّتَ عَنْ قَلْبِي أَغْطِيَةَ الْجَهَالَةِ، حَتَّى تَرْقَى رُوحِي بِأَجْنِحَةِ الشَّوْقِ إِلَيْكَ، فَأُنَاجِيكَ بِرِيَاضِ بَهَائِكَ، ثُمَّ بَكَى حَتَّى سَمِعْتُ لِدُمُوعِهِ وَقْعًا عَلَى الْحَصَى، ثُمَّ ضَحِكَ وَقَهْقَهَ. وَمَضَى، فَتَبِعْتُهُ وَأَنَا أَقُولُ: إِمَّا عَارِفًا، وَإِمَّا مَخْبُولا. فَخَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ وَأَخَذَ نَاحِيَةَ خَرَابَاتِ مَكَّةَ، فَالْتَفَتَ، فَرَآنِي، فَقَالَ: ارْجِعْ يَا ذَا النُّونِ. قُلْتُ: نَاشَدْتُكَ لِمَحْبُوبِكَ إِلا وَقَفْتَ إِلَيَّ. فَوَقَفَ، وَقَالَ: وَيْحَكَ يَا ذَا النُّونِ، أَمَا لَكَ شُغُلٌ؟ قُلْتُ: مَنِ الْقَوْمُ الَّذِينَ سَأَلْتَ بِحُرْمَتِهِمْ؟ فَقَالَ: قَوْمٌ سَارُوا إِلَى اللَّهِ سَيْرَ مَنْ نَصَبَ الْمَحْبُوبَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَجَرَّدُوا تَجَرُّدَ مَنْ أَخَذَتِ الزَّبَانِيَةُ بِحِقْوَيْهِ، وَأُجِّجَتِ النَّارُ مِنْ أَجْلِهِ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ قِيَامَةُ الشَّقَاءِ وَهُوَ مَطْلُوبٌ " أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ هَارُونَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَرْدَبِيلِيُّ، عَنْ أَبِي شُعَيْبٍ، قَالَ: سَأَلْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ أَنْ أَصْحَبَهُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ لِي: عَلَى شَرِيطَةٍ، عَلَى أَنَّكَ لا تَنْظُرُ إِلا لِلَّهِ، وَبِاللَّهِ. فَشَرَطْتُ لَهُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِي، فَخَرَجْتُ مَعَهُ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ فِي الطَّوَافِ إِذَا بِغُلامٍ قَدِ افْتُتِنَ النَّاسُ بِحُسْنِهِ وَجَمَالِهِ، وَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ يُدِيمُ النَّظَرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ قُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، أَلَيْسَ شَرَطْتَ عَلَيَّ أَنْ لا أَنْظُرَ إِلا لِلَّهِ، وَبِاللَّهِ. قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: فَإِنِّي أَرَاكَ تُدِيمُ النَّظَرَ إِلَى هَذَا الْغُلامِ. فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْغُلامَ وَلَدِي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 وَهَؤُلاءِ غِلْمَانِي وَخَدَمِي الَّذِينَ مَعَهُ، وَلَكِنِ انْطَلِقْ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ مِنِّي، وَعَانِقْهُ عَنِّي، فَمَضَيْتُ إِلَيْهِ، وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَجَاءَ إِلَى وَالِدِهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ صَرَفَهُ مَعَ الْخَدَمِ، وَقَالَ: ارْجِعِ انْظُرْ أَيْشِ يُرَادُ بِكَ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ: هَجَرْتُ الْخَلْقَ طُرًا فِي رِضَاكَا ... وَأَيْتَمْتُ الْعِيَالَ لِكَي أَرَاكَا فَلَوْ قَطَّعْتَنِي فِي الْحُبِّ إِرَبًا ... لَمَا حَنَّ الْفُؤَادُ إِلَى سِوَاكَا قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ، عَنْ شُجَاعِ بْنِ فَارِسٍ، قَالَ: أَنْبَانَا هَنَّادٌ، قَالَ: أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا حَمْزَةُ الرِّقِّيُّ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا ابْنُ الشَّيْطِيِّ، قَالَ: حَجَجْتُ فِي سَنَةٍ جَدْبَةٍ فَبَيْنَا أَنَا أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ إِذَا بَصُرْتُ بِجَارِيَةٍ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، تَقُولُ: إِلَهِي وَسَيِّدِي، هَا أَنَا أَمَتُكَ الْغَرِيبَةُ، وَسَائِلَتُكَ الْفَقِيرَةُ، حَيْثُ لا يَخْفَى عَلَيْكَ مَكَانِي، وَلا يُسْتَرُ عَنْكَ سُوءُ حَالِي، وَقَدْ هَتَكَتِ الْحَاجَةُ حِجَابِي، وَكَشَفَتِ الْفَاقَةُ نِقَابِي، فَكَشَفْتَ لَهَا وَجْهًا رَقِيقًا عِنْدَ الذُّلِ، وَذَلِيلا عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ، طَالَ وَعِزَّتِكَ مَا حَجَبَهُ عَنْهُ الْفَنَاءُ، وَصَانَهُ عَنْهُ مَاءُ الْحَيَاءِ، قَدْ خَمَدَتْ عَنِّي أَكُفُّ الْمَرْزُوقِينَ، وَضَاقَتْ بِي صُدُورُ الْمَخْلُوقِينَ، فَمَنْ حَرَمَنِي لَمْ أَلُمْهُ، وَمَنْ وَصَلَنِي وَكَلْتُهُ إِلَى مُكَافَأَتِكَ. فَدَنَوْتُ مِنْهَا، فَبَرَزْتُهَا، وَقُلْتُ لَهَا: مَنْ أَنْتِ، وَمِمَّنْ أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي، مَنْقَلَّ مَالُهُ وَذَهَبَ رِجَالُهُ، كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ؟ ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ: بَعْضُ بَنَاتِ الرِّجَالِ أَبْرَزَهَا ... الدَّهْرُ كَمَا قَدْ تَرَى وَأَحْوَجَهَا أَبْرَزَهَا مِنْ جَلِيلِ نِعْمَتِهَا ... وَأَبْتَرَهَا مُلْكَهَا وَأَخْرَجَهَا إِنْ كَانَ قَدْ سَاءَهَا وَأَحْزَنَهَا ... فَطَالَمَا سَرَّهَا وَأَبْهَجَهَا وَطَالَمَا كَانَتِ الْعُيُونُ إِذَا ... مَا خَرَجَتْ تَسْتَشِفُّ هَوْدَجَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ مُعْسِرَةٍ ... قَدْ ضَمِنَ أَنْ يُفَرِّجَهَا قَالَ: فَسَأَلْتُ عَنْهَا، فَأُخْبِرْتُ أَنَّهَا مِنْ وَلَدِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: قَالَ لَنَا الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ صَخْرٍ الأَزْدِيُّ: تَعَلَّقَ رَجُلٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَأَنْشَدَ: سُتُورُ بَيْتِكَ ذَيْلُ الأَمْنِ مِنْكَ وَقَدْ ... عَلَقْتُهَا مُسْتَجِيرًا أَيُّهَا الْبَارِي وَمَا أَظُنُّكَ لَمَّا إِنْ عَلِقْتُ بِهَا ... خَوْفًا مِنَ النَّارِ تُدْنِينِي مِنَ النَّارِ وَهَا أَنَا جَارُ بَيْتٍ أَنْتَ قُلْتَ لَنَا: ... حُجُّوا إِلَيْهِ، وَقَدْ أَوْصَيْتَ بِالْجَارِ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: خَرَجْتُ حَاجًّا إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، فَإِذَا أَنَا بِسَعْدُونَ الْمَجْنُونِ وقد تعلق بأستار الكعبة يَدْعُو وَيَتَضَرَّعُ، وَيَقُولُ: مَنْ أَوْلَى بِالتَّقْصِيرِ مِنِّي، وَقَدْ خَلَقْتَنِي ضَعِيفًا، وَمَنْ أَوْلَى بِالْعَفْوِ مِنْكَ عَنِّي وَأَنْتَ مَوْلاي قَالَ: فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَإِذَا عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ مُرَقَّعَةٌ بِالأَدَمِ، وَإِذَا عَلَى كُمِّهِ الأَيْمَنِ مَكْتُوبٌ: تَعْصِي مَوْلاكَ يَا سَعِيدُ ... مَا هَكَذَا تَفْعَلُ الْعَبِيدُ فَرَاقِبِ اللَّهَ وَاخْشَ مِنْهُ ... يَا عَبْدَ سُوءٍ غَدًا الْوَعِيدُ وَعَلَى كُمِّهِ الأَيْسَرِ مَكْتُوبٌ: يَا مَنْ يَرَى بَاطِنَ اعْتِقَادِي ... وَمُنْتَهَى الأَمْرِ مِنْ فُؤَادِي أَصْلِحْ فَسَادَ الأُمُورِ مِنِّي ... وَلا تَدَعْ مَوْضِعَ الْفَسَادِ فَقُلْتُ: يَا سَعْدُونُ، أَنَّى لَكَ هَذِهِ الْحِكْمَةُ، وَالنَّاسُ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ مَجْنُونٌ؟ فَوَلَّى وَهُوَ يَقُولُ: زَعَمَ النَّاسُ أَنَّنِي مَجْنُونُ ... كَيْفَ أَصْحُو وَلِي فُؤَادٌ مَصُونُ أَلِفَ الْحُزْنَ وَالْبُكَا فِي الدَّيَاجِي ... فَهُوَ بِاللَّهِ مُشْغَفٌ مَحْزُونُ ثُمَّ غَابَ عَنِّي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 بَابٌ طَوَافُ الْحَشَرَاتِ بِالْبَيْتِ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، أَنْبَأنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَنْبَأنَا الْعُشَارِيُّ، أَنْبَأنَا ابْنُ أَخِي مِيمِي، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْبَرْدَعِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْعِجْلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الأَجْلَحِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: بَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ قَرِيبًا مِنَ الْبَيْتِ إِذْ أَقْبَلَتْ حَيَّةٌ مِنْ بَابِ الْعِرَاقِ، حَتَّى طَافَتْ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا، ثُمَّ أَتَتِ الْحَجَرَ فَاسْتَلَمَتْهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْجَانُّ إِنَّكَ قَدْ قَضَيْتَ عُمْرَتَكَ، وَإِنَّنَا نَخَافُ عَلَيْكَ مِنْ صِبْيَانِنَا، فَانْصَرِفِي، فَخَرَجَتْ رَاجِعَةً مِنْ حَيْثُ جَاءَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 بَابٌ طَوَافُ سَفِينَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ بِالْبَيْتِ زَمَنَ الْغَرَقِ أَخْبَرَنَا الْحَرَيرِيُّ، عَنِ الْعُشَارِيِّ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَاشِمِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الأَزْرَقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَهْدِيُّ بْنُ أَبِي الْمَهْدِيِّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ، عَنْ عَلْبَاءَ بْنِ أَحْمَرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «0 إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَجَّهَ السَّفِينَةَ إِلَى مَكَّةَ، فَدَارَتْ بِالْبَيْتِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ وَجَّهَهَا إِلَى الْجُودِيِّ فَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 بَابُ دُخُولِ الْبَيْتِ قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُخُولُ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى فِيهِ. وَيُسْتَحَبُّ لِلإِنْسَانِ دُخُولُهُ حَافِيًا. وَأَوَّلُ مَنْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ عِنْدَ دُخُولِ الْكَعْبَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ فِي الإِسْلامِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ النَّوَافِلَ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ كَمَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْحَرِيرِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَلِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ حَيُّوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الْكَاتِبُ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ شَبَّهَ، حَدَّثَنَا مُحَشِّي بْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ هُوَ وَأُسَامَةُ، وَبِلالٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْحَجْبِيُّ، فَأُجِيفَ الْبَابُ عَلَيْهِمْ، فَمَكَثُوا طَوِيلا، ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَزَاحَمْتُ فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ عَلَى أَثَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَجِدُ بِلالا عِنْدَ الْبَابِ، فَقُلْتُ: يَا بِلالُ، أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ، وَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي بَعْضِ الأَلْفَاظِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا: " فَسَأَلْتُ بِلالا حِينَ خَرَجَ، مَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، وَثَلاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ ". وَلِي لَفْظُ: «عِنْدَ الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَرْمَرَةٌ حَمْرَاءُ» وَقَالَ مُجَاهِدٌ: دُخُولُ الْكَعْبَةِ دُخُولٌ فِي حَسَنَةٍ وَخُرُوجٌ مِنْ سَيِّئَةٍ. بَابُ مَا يَصْنَعُ الطَّائِفُ بَعْدَ الطَّوَافِ إِذَا قَضَى الطَّائِفُ طَوَافَهُ سُنَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ: قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّانِيَةِ بَعْدَهَا بِالإِخْلاصِ، وَالأَفْضَلُ أَنْ تَكُونَ خَلْفَ الْمَقَامِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 بَابُ ذِكْرِ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ الْحِجْرُ. وَفِي سَبَبِ وُقُوفِهِ عَلَيْهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَاءَ يَطْلُبُ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ، فَلَمْ يَجِدْهُ، فَقَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ: انْزِلْ، فَأَبَى. فَقَالَتْ: فَدَعْنِي أَغْسِلُ رَأْسَكَ. فَأَتَتْهُ بَحَجَرٍ، فَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ رَاكِبٌ، فَغَسَلَتْ شِقَّهُ ثُمَّ رَفَعَتْهُ وَقَدْ غَابَتْ رِجْلُهُ فِيهِ، فَوَضَعَتْهُ تَحْتَ الشِّقِّ الآخَرِ وَغَسَلَتْهُ، فَغَابَتْ رِجْلُهُ فِيهِ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الشَّعَائِرِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَامَ عَلَى ذَلِكَ الْحَجَرِ لِبِنَاءِ الْبَيْتِ، وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ: " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: الرُّكْنُ وَالْمَقَامُ مِنَ الْجَنَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا جَوْهَرَتَانِ مِنْ جَوَاهِرِ الْجَنَّةِ وَلَوْلا مَا مَسَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ مَا مَسَّهُمَا ذُو عَاهَةٍ إِلا شَفَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ، أَنْبَأنَا ابْنُ حَيُّوَيْهِ، أَنْبَأنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهْمِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَشْيَاخٍ لَهُ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَخَّرَ الْمَقَامَ إِلَى مَوْضِعِهِ الْيَوْمَ، وَكَانَ مُلْصَقًا بِالْبَيْتِ» قَالَ بَعْضُ سَدَنَةِ الْبَيْتِ: ذَهَبْنَا نَرْفَعُ الْمَقَامَ فِي خِلافَةِ الْمَهْدِيِّ فَانْثَلَمَ، وَهُوَ مِنْ حَجَرٍ رِخْوٍ، فَخَشِينَا أَنْ يَتَفَتَّتَ، فَكَتَبْنَا فِي ذَلِكَ إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَبَعَثَ إِلَيْنَا بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَضببنا بِهَا الْمَقَامَ، أَسْفَلَهُ وَأَعْلاهُ، ثُمَّ أَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ أَنْ يُجْعَلَ عَلَيْهِ ذَهَبٌ أَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ، فَفَعَلُوا. وَذَرْعُ الْمَقَامِ ذِرَاعٌ، وَالْقَدَمَانِ دَاخِلانِ فِيهِ سَبْعَ أَصَابِعَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، أَنْبَأنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ، أَنْبَأنَا ابْنُ أَخِي مِيمِي، حَدَّثَنَا ابْنُ صَفْوَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِي صَالِحُ الْمُرِّيُّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رُوَّادٍ " أَنَّهُ كَانَ خَلْفَ الْمَقَامِ جَالِسًا فَسَمِعَ دَاعِيًا دَعَا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَعَجِبَ مِنْهُنَّ وَحَفِظَهُنَّ فَالْتَفَتَ فَلَمْ يَرَ أَحَدًا: اللَّهُمَّ فَرِّغْنِي لِمَا خَلْقَتَنِي لَهُ، وَلا تَشْغَلْنِي بِمَا تَكَفَّلْتَ لِي بِهِ، وَلا تَحْرِمْنِي وَأَنَا أَسْأَلُكَ، وَلا تُعَذِّبْنِي وَأَنَا أَسْتَغْفِرُكَ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ظَفَرٍ، أَنْبَأنَا حَفْصُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأنَا أَبُو الْحَسَنِ الصُّوفِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الشِّيرَازِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصَ، يَقُولُ: " رَأَيْتُ شَابًّا فِي الطَّوَافِ، مُتَّزِرًا بِعَبَاءَةٍ، مُتَّشِحًا بِأُخْرَى، كَثِيرَ الطَّوَافِ وَالصَّلاةِ، فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِي مَحَبَّتُهُ، فَفُتِحَ عَلَيَّ بِأَرْبَعِ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَجِئْتُ بِهَا إِلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ خَلْفَ الْمَقَامِ، فَوَضَعْتُهَا عَلَى طَرَفِ عَبَاءَتِهِ، وَقُلْتُ لَهُ: يَا أَخِي، اصْرِفْ هَذِهِ الْقُطَيْعَاتِ فِي بَعْضِ حَوَائِجِكَ. فَقَامَ وَبَدَّدَهَا، وَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ، اشْتَرَيْتُ هَذِهِ الْجِلْسَةَ بِسَبْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، تُرِيدُ أَنْ تَخْدَعَنِي عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهَذَا الْوَسَخِ؟ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَمَا رَأَيْتُ أَذَلَّ مِنْ نَفْسِي وَأَنَا أَجْمَعُهَا مِنْ بَيْنِ الْحَصَى، وَمَا رَأَيْتُ أَعَزَّ مِنْهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيَّ، ثُمَّ ذَهَبَ " أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو سَعْدٍ الْحِيرِيُّ، أَنْبَأنَا ابْنُ بَاكَوَيْهِ، أَخْبَرَنِي أَبُو زُرْعَةَ، أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ الْعَائِذِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا طَالِبٍ الرَّازِيَّ، يَقُولُ: " حَضَرْتُ مَعَ أَصْحَابِنَا فِي مَوْضِعٍ فَقَدَّمُوا اللَّبَنَ، وَقَالُوا لِي: كُلْ. فَقُلْتُ: لا آكُلُ، فَإِنَّهُ يَشْرِنِي، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً صَلَّيْتُ يَوْمًا خَلْفَ الْمَقَامِ، وَدَعَوْتُ اللَّهَ تَعَالَى وَقُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي مَا أَشْرَكْتُ بِكَ قَطُّ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَسَمِعْتُ هَاتِفًا يَهْتِفُ بِي، وَيَقُولُ: وَلا يَوْمَ اللَّبَنِ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 بَابُ مَا يَصْنَعُ بَعْدَ الصَّلاةِ عِنْدَ الْمَقَامِ إِذَا فَرَغَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ، عَادَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا، وَسَعَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 بَابُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَ الزَّجَّاجُ: الصَّفَا فِي اللُّغَةِ: الْحِجَارَةُ الصَّلْبَةُ الصَّلْدَةُ الَّتِي لا تُنِبْتُ شَيْئًا. وَهُوَ جَمْعٌ، وَاحِدُهُ: صَفَاةٌ. وَصَفَا، مِثْلُ: حَصَاةٍ وَحَصَى. وَالْمَرْوَةُ: الْحِجَارَةُ اللَّيِّنَةُ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، " أَنَّ رَجُلا سَأَلَهُ عَنِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِمَ سُمِّيَا بِذَلِكَ؟ فَقَالَ: لأَنَّ آدَمَ لَمَّا حَجَّ رَقَا عَلَى الصَّفَا رَافِعًا يَدَيْهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِيَقْبَلَ تَوْبَتَهُ وَقَدْ أَصْفَاهَا، وَقَامَتِ امْرَأَتُهُ حَوَّاءُ عَلَى الْمَرْوَةِ لِيَقْبَلَ تَوْبَتَهَا ". فَصْلٌ وَأَمَّا السَّعْيُ بَيْنَهُمَا فَسَيَأْتِي فِي قِصَّةِ زَمْزَمَ أَنَّ هَاجَرَ سَعَتْ بَيْنَهُمَا فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلُ السَّعْيِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي السَّعْيِ بَيْنَهُمَا: فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، أَنَّهُ رُكْنٌ فِي الْحَجِّ لا يَنُوبُ عَنْهُ الدَّمُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِرُكْنٍ فَيَجِبُ بِتَرْكِهِ دَمٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَنَقَلَ الْمَيْمُونِيُّ أَنَّهُ تَطَوُّعٌ. فَصْلٌ فَإِذَا أَرَادَ السَّعْيَ، بَدَأَ بِالصَّفَا، وَالأَفْضَلُ أَنْ يَرَقَا وَيُكَبِّرَ ثَلاثًا، وَيَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا هَدَانَا، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَلا نَعْبُدُ إِلا إِيَّاهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. ثُمَّ يَنْزِلُ مِنَ الصَّفَا وَيَمْشِي حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمِيلِ الأَخْضَرِ الْمُعَلَّقِ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ نَحْوَ سِتَّةٍ، فَيَسْعَى سَعْيًا شَدِيدًا حَتَّى يُحَاذِيَ الْمِيلَيْنِ الأَخْضَرَيْنِ اللَّذَيْنِ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَحِذَاءِ دَارِ الْعَبَّاسِ، ثُمَّ يَمْشِي حَتَّى يَصْعَدَ الْمَرْوَةَ، وَيَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وَالْمَرْأَةُ تَمْشِي وَلا تَسْعَى. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لا يَسْعَى إِلا مُتَطَهِّرًا مُسْتَتِرًا، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الطَّهَارَةَ فِي السَّعْيِ كَالطَّهَارَةِ فِي الطَّوَافِ. وَالْمُوَالاةُ شَرْطٌ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، فَإِنْ قَطَعَ الْمُوَالاةَ لِحَاجَةٍ قَصِيرَةٍ فِي الْمُدَّةِ بَنَى، وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ ابْتَدَأَ، وَيَتَخَرَّجُ لَنَا أَنَّ الْمُوَالاةَ سُنَّةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 بَابُ مَا يَصْنَعُ بَعْدَ السَّعْيِ إِذَا فَرَغَ مِنَ السَّعْيِ عَادَ إِلَى مِنًى لِيَبِيتَ بِهَا ثَلاثَ لَيَالٍ إِلا أَنْ يَخْتَارَ التَّعْجِيلَ فِي يَوْمَيْنِ، وَيَرْمِي الْجَمَرَاتِ الثَّلاثَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ الزَّوَالِ كُلَّ جَمْرَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، كَمَا وَصَفْنَا فِي جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، يَبْدَأُ بِالْجَمْرَةِ الأُولَى، وَهِيَ أَبْعَدُ الْجَمَرَاتِ مِنْ مَكَّةَ وَتَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ، فَيَجْعَلُهَا عَنْ يَسَارِهِ وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيَرْمِيهَا، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ عَنْهَا إِلَى مَوْضِعٍ لا يُصِيبُهُ الْحَصَى، وَيَقِفُ بِقَدْرِ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَيَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى وَيَجْعَلُهَا عَنْ يَمِينِهِ وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، وَيَقِفُ وَيَدْعُو كَمَا فَعَلَ فِي الأُولَى، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَيَجْعَلُهَا عَنْ يَمِينِهِ، وَيَسْتَبْطِنُ الْوَادِي، وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَلا يَقِفُ عِنْدَهَا. فَصْلٌ وَمَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ حَتَّى انْقَضَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ. فَإِنْ تَرَكَ حَصَاةً فَفِيهَا أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ: إِحْدَاهُنَّ: يَلْزَمُهُ دَمٌ. وَالثَّانِيَةُ: مُدٌّ، وَفِي حَصَاتَيْنِ مُدَّانِ، وَفِي ثَلاثَةٍ دَمٌ. الثَّالِثَةُ: يَلْزَمُهُ نِصْفُ دِرْهَمٍ. وَالرَّابِعَةُ: لا شَيْءَ عَلَيْهِ. فَإِنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ لَيَالِيَ مِنًى لَزِمَهُ دَمٌ، وَإِنْ تَرَكَ لَيْلَةً وَاحِدَةً: فَفِيهَا الرِّوَايَاتُ الأَرْبَعُ. وَجُوِّزَ لأَهْلِ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ وَرُعَاةِ الإِبِلِ أَنْ يَدَعُوا الْمَبِيتَ لَيَالِيَ مِنًى، وَأَنْ يَرْمُوا فِي أَيِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَإِنْ أَقَامُوا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، لَزِمَ الرُّعَاةَ الْبَيْتُوتَةُ، وَلَمْ يَلْزَمْ أَهْلَ السِّقَايَةِ. وَمَنْ نَفَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ دَفَنَ مَا بَقِيَ مَعَهُ مِنَ الْحَصَى، فَإِنْ أَقَامَ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، لَزِمَتْهُ الْبَيْتُوتَةُ مِنَ الْغَدِ. وَإِذَا نَفَرَ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ الأَبْطَحَ، وَهُوَ الْمُحَصَّبُ، وَحَدُّهُ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ إِلَى الْمَقْبَرَةِ، فَيُصَلِّي فِيهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمَّ يَهْجَعُ يَسِيرًا، ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 بَابُ ذِكْرِ زَمْزَمَ أَخْبَرَنَا ابْنُ عِيسَى، أَنْبَأنَا الدَّاوُدِيُّ، أَنْبَأَنَا السَّرْخَسِيُّ، أَنْبَأنَا الْفَرَبْرِيُّ، أَنْبَأنَا الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، وَكَثِيرِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ، يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: " جَاءَ إِبْرَاهِيمُ بِأُمِّ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْمَاعِيلَ، وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ زَرْعٌ لأَحَدٍ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَشَنًا فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَا مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَقَالَتْ: أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أَنِيسٌ وَلا شَيْءَ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا. فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذًا لا يُضَيِّعُنَا اللَّهُ، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ، حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لا يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلاءِ الدَّعَوَاتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [البقرة: 37] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ، وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى نَفِدَ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى، أَوْ قَالَ: يَتَلَبَّطُ، فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ فَاسْتَقْبَلَتِ الْوَادِي تَنْظُرُ، هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَانْهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الْوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا، وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلِذَلِكَ سَعَى النَّاسُ بَيْنَهُمَا» . فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا، فَقَالَتْ: صَهٍ تُرِيدُ نَفْسَهَا، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا، فَقَالَتْ: قَدْ أُسْمِعْتُ إِنْ كَانَ عِنْدَكِ غُوَاثٌ، فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ أَوْ قَالَ: بِجَنَاحِهِ حَتَّى أَظْهَرَ الْمَاءَ، فَجَعَلَتْ تَحُوضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا ". فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا. فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ: لا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ، فَإِنَّ هَاهُنَا بَيْتُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَبْنِيهِ هَذَا الْغُلامُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَهْلَهُ ". وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ بَانَ فِيهِ مَعْنَى تَسْمِيَتِهَا بِزَمْزَمَ، فَإِنَّ الْمَاءَ لَمَّا فَاضَ زَمَّتْهُ هَاجَرُ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ اللُّغَوِيُّ: وَزَمْزَمُ مِنْ قَوْلِكَ: زَمَمْتُ النَّاقَةَ، إِذَا جَعَلْتَ لَهَا زِمَامًا تَحْبِسُهَا بِهِ. فَصْلٌ وَاعْلَمْ أَنَّ أَمْرَ زَمْزَمَ دُثِرَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَوَلِيَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 سِقَايَةَ الْبَيْتِ وَرِفَادَتَهُ، فَأُتِيَ فِي مَنَامِهِ، فَقِيلَ لَهُ: احْفُرْ طَيْبَةَ. قَالَ: وَمَا طَيْبَةُ؟ فَأُتِيَ فِي الْغَدِ، فَقِيلَ لَهُ: احْفُرْ بَرَّةَ، قَالَ: وَمَا بَرَّةُ؟ فَأُتِيَ مِنَ الْغَدِ، قِيلَ لَهُ: احْفُرِ الْمَضْنُونَةَ. فَقَالَ: وَمَا الْمَضْنُونَةُ؟ فَقِيلَ لَهُ: احْفُرْ زَمْزَمَ. قَالَ: وَمَا زَمْزَمُ؟ قَالَ: لا تُزَحُ وَلا تُذَمُّ، تَسْقِي الْحَجِيجَ الأَعْظَمَ، وَهِيَ بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ، عِنْدَ نَقْرَةِ الْغُرَابِ الأَعْصَمِ، وَهِيَ شَرَفٌ لَكَ وَلِوَلَدِكَ. وَكَالْغُرَابِ الأَعْصَمِ، لا يَبْرَحُ عِنْدَ الذَّبَائِحِ، مَكَانَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ. فَغَدَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِمِعْوَلِهِ وَمِسْحَاةٍ، وَمَعَهُ ابْنُهُ الْحَارِثُ، وَلَيْسَ لَهُ يَوْمَئِذٍ وَلَدٌ غَيْرَهُ، فَجَعَلَ يَحْفُرُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى بَدَا لَهُ الطُّوَى، فَكَبَّرَ، وَقَالَ: هَذَا طُوَى إِسْمَاعِيلَ. فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: أَشْرِكْنَا فِيهِ. فَقَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ شَيْءٌ خُصِصْتُ بِهِ مِنْ دُونِكُمْ، فَاجْعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مَنْ شِئْتُمْ أُحَاكِمُكُمْ إِلَيْهِ. فَقَالُوا: كَاهِنَةُ بَنِي سَعْدٍ، فَخَرَجُوا إِلَيْهَا، فَعَطِشُوا فِي الطَّرِيقِ حَتَّى أَيْقَنُوا بِالْمَوْتِ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: وَاللَّهِ إِنَّ إِلْقَاءَنَا بِأَيْدِينَا هَكَذَا الْعَجْزُ، أَلا نَضْرِبُ فِي الأَرْضِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَنَا مَاءً، فَارْتَحَلُوا، وَقَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى رَاحِلَتِهِ فَرَكِبَهَا، فَلَمَّا انْبَعَثَت بِهِ انْفَجَرَ تَحْتَ خُفِّهَا عَيْنُ مَاءٍ عَذْبٍ، فَكَبَّرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَكَبَّرَ أَصْحَابُهُ، وَشَرِبُوا جَمِيعًا، وَقَالُوا لَهُ: قَدْ قَضَى لَكَ عَلَيْنَا الَّذِي سَقَاكَ، فَوَاللَّهِ لا نُخَاصِمُكَ فِيهَا أَبَدًا، فَرَجَعُوا وَخَلَّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَمْزَمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 بَابُ فَضْلِ الشُّرْبِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ» . وَقَالَ: «مَاءُ زَمْزَمَ طَعَامُ طُعْمٍ، وَشِفَاءُ سُقْمٍ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا هَاهُنَا مِنْ بَيْنِ ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَيَوْمٍ. قَالَ: «مَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ؟» قَالَ: مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلا مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَمَا أَجِدُ عَلَى كَبِدِي سَخْفَةَ جُوعٍ. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ» . وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ شَرِبَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ أَنْ يُكْثِرَ مِنْهُ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «التَّضَلُّعُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ» . وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ شَرِبَ مَاءَ زَمْزَمَ، أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 عِلْمًا نَافَعًا، وَرِزْقًا وَاسِعًا، وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ، وَاغْسِلْ بِهِ قَلْبِي، وَامْلأْهُ مِنْ خَشْيَتِكَ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يُكْرَهُ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ؟ فَعِنْدَ الأَكْثَرِينَ لا يُكْرَهُ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ: أَحَدُهُمَا كَذَلِكَ، وَالأُخْرَى: يُكْرَهُ لِقَوْلِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لا أُحِلُّهَا لِمُغْتَسِلٍ، لَكِنْ لِشَارِبٍ حِلٌّ وَبِلٌّ» قَرَأَ عَلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا ابْنِ أَبِي الْفَوَارِسِ، أَنْبَأنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَكِّي، أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ الأَرْغِيَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ، حَدَّثَنِي أَبُو عَلِيٍّ السِّجِسْتَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا شَيْخٌ مِنْ هَرَاةَ، يُكَنَّى: أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، شَيْخُ صِدْقٍ، قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فِي السَّحَرِ، فَجَلَسْتُ إِلَى زَمْزَمَ، فَإِذَا شَيْخٌ قَدْ دَخَلَ مِنْ بَابِ زَمْزَمَ وَقَدْ سَدَلَ ثَوْبَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَأَتَى الْبِئْرَ، فَنَزَعَ بِالدَّلْوِ فَشَرِبَ، فَأَخَذْتُ فَضْلَتَهُ فَشَرِبْتُهَا، فَإِذَا سُوَيْقُ لَوْزٍ لَمْ أَذُقْ قَطُّ أَطْيَبَ مِنْهُ، ثُمَّ الْتَفَتُّ، فَإِذَا الشَّيْخُ قَدْ ذَهَبَ، ثُمَّ عُدْتُ مِنَ الْغَدِ فِي السَّحَرِ، فَجَلَسْتُ إِلَى زَمْزَمَ، فَإِذَا الشَّيْخُ قَدْ دَخَلَ مِنْ بَابِ زَمْزَمَ، فَأَتَى الْبِئْرَ، فَنَزَعَ بِالدَّلْوِ فَشَرِبَ، فَأَخَذْتُ فَضْلَتَهُ فَشَرِبْتُهَا، فَإِذَا مَاءٌ مَضْرُوبٌ بِعَسَلٍ لَمْ أَذُقْ قَطُّ أَطْيَبَ مِنْهُ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا الشَّيْخُ قَدْ ذَهَبَ، ثُمَّ عُدْتُ مِنَ الْغَدِ فِي السَّحَرِ، فَإِذَا الشَّيْخُ قَدْ دَخَلَ مِنْ بَابِ زَمْزَمَ، فَأَتَى الْبِئْرَ، فَنَزَعَ الدَّلْوَ، فَشَرِبَ، فَأَخَذْتُ فَضْلَتَهُ فَشَرِبْتُهَا فَإِذَا سُكَّرٌ مَضْرُوبٌ بِلَبَنٍ لَمْ أَذُقْ قَطُّ أَطْيَبَ مِنْهُ، فَأَخَذْتُ طَرَفَ مِلَحَفَتِهِ فَلَفَفْتُهَا عَلَى يَدِي، فَقُلْتُ: يَا شَيْخُ، بِحَقِّ هَذِهِ الْبِنْيَةِ عَلَيْكَ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: تَكْتُمُ عَلَيَّ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: حَتَّى أَمُوتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ. أَنْبَأنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ، أَنْبَأنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْحَسَنِ الضَّرَّابُ، أَنْبَأنَا أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فَحَدَّثَنَا بِحَدِيثِ زَمْزَمَ «إِنَّهَ لِمَا شُرِبَ لَهُ» . فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمَجْلِسِ ثُمَّ عَادَ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَلَيْسَ الْحَدِيثُ صَحِيحًا الَّذِي حَدَّثْتَنَا فِي زَمْزَمَ «إِنَّهُ لِمَا شُرِبَ لَهُ» ؟ فَقَالَ سُفْيَانُ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي قَدْ شَرِبْتُ الآنَ دَلْوًا مِنْ زَمْزَمَ عَلَى أَنَّكَ تُحَدِّثُنِي بِمِائَةِ حَدِيثٍ. فَقَالَ سُفْيَانُ: اقْعُدْ، فَحَدَّثَهُ بِمِائَةِ حَدِيثٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 بَابُ ذِكْرِ السِّقَايَةِ وَالرِّفَادَةِ وَهَذَا قَدْ يَشْكُلُ فَلْنَشْرَحْهُ: كَانَ أَصْلُ السِّقَايَةِ حِيَاضًا مِنْ أَدَمٍ تُوضَعُ عَلَى عَهْدِ قُصَيٍّ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ، وَيُسْقَى فِيهَا الْمَاءُ لِلْحَاجِّ، وَالرِّفَادَةُ: خَرْجٌ كَانَتْ قُرَيْشٌ تُخْرِجُهُ مِنْ أَمْوَالِهَا إِلَى قُصَيٍّ، يَصْنَعُ بِهَا طَعَامًا لِلْحَاجِّ، يَأْكُلُهُ مَنْ لَيْسَ لَهُ سَعَةٌ؛ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ قُصَيَّ بْنَ كِلابٍ اسْتَوْلَى عَلَى الْحَرَمِ، وَجَمَعَ بَنِي كِنَانَةَ، وَقَالَ: أَرَى أَنْ تَجْتَمِعُوا فِي الْحَرَمِ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ إِذَا جَاءَ اللَّيْلُ خَرَجُوا عَنِ الْحَرَمِ لا يَسْتَحِلُّونُ أَنْ يَبِيتُوا فِيهِ، وَقَالُوا: هَذَا عَظِيمٌ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لا أَخْرُجُ عَنْهُ، فَثَبَتَ فِيهِ مَعَ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا جَاءَ الْمَوْسِمُ، قَامَ خَطِيبًا، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّكُمْ جِيرَانُ اللَّهِ، وَأَهْلُ حَرَمِهِ، وَإِنَّ الْحَاجَّ زُوَّارُ اللَّهِ وَأَضْيَافُهُ، فَتَرَفَّدُوا، وَاجْعَلُوا طَعَامًا وَشَرَابًا أَيَّامَ الْحَجِّ حَتَّى يَصْدُرُوا، وَلَوْ كَانَ مَالِي يَسَعُ ذَلِكَ لَقُمْتُ بِهِ، فَفَرَضَ عَلَيْهِمْ فَرْضًا تُخْرِجُهُ قُرَيْشٌ مِنْ أَمْوَالِهَا، فَجَمَعَ ذَلِكَ، وَنَحَرَ عَلَى كُلِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ مَكَّةَ جَزُورًا، وَنَحَرَ بِمَكَّةَ جُزُرًا كَثِيرَةً، وَأَطْعَمَ النَّاسَ، وَسَقَى اللَّبَنَ الْمَحْضَ، وَالْمَاءَ، وَالزَّبِيبَ، وَكَانَ قُصَيٌّ يَحْمِلُ رَجْلَ الْحَاجِّ، وَيَكْسُو عَارِيَهُمْ، وَمَازَالَ ذَلِكَ الأَمْرُ حَتَّى قَامَ بِهِ هَاشِمٌ، ثُمَّ أَخُوهُ الْمُطَّلِبُ، ثُمَّ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ قَامَ بِهِ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الأَنْمَاطِيُّ، أَنْبَأنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكُوفِيُّ، أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ دُحَيْمٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي غَرَزَةَ، أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «لَمْ يُرَخِّصْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَحَدٍ أَنْ يَبِيتَ لَيَالِيَ مِنًى بِمَكَّةَ إِلا لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لأَجْلِ سِقَايَتِهِ» وَرَوَى ابْنُ عَائِشَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَطْعَمَ الْحَاجَّ الْفَالَوْذَجَ بِمَكَّةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَفَدَ ابْنُ جُدْعَانَ عَلَى كِسْرَى فَأَكَلَ عِنْدَهُ الْفَالَوْذَجَ، فَسَأَلَ عَنْهُ. فَقَالُوا: لُبَابُ الْبُرِّ مَعَ الْعَسَلِ، فَقَالَ: ابْغُونِي غُلامًا يَصْنَعُهُ، فَأَتَوْهُ بِغُلامٍ، فَابْتَاعَهُ، وَقَدِمَ بِهِ مَكَّةَ وَأَمَرَهُ فَصَنَعَهُ لِلْحَاجِّ، وَوَضَعَ الْمَوَائِدَ مِنَ الأَبْطَحِ إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ نَادَى مُنَادِيهِ: أَلا مَنْ أَرَادَ الْفَالَوْذَجَ فَلْيَحْضُرْ، فَحَضَرَ النَّاسُ. وَمَازَالَ إِطْعَامُ الْحَاجِّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي الإِسْلامِ، وَكَانَتِ الْخُلَفَاءُ تُقِيمُهُ وَلا يُكَلِّفُونَ أَحَدًا مِنْ مَالِهِ شَيْئًا، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ قَدِ اشْتَرَى دَارًا بِمَكَّةَ، وَسَمَّاهَا دَارَ الْمَرَاجِلِ، وَجَعَلَ فِيهَا قُدُورًا، وَرَسَمَ لَهَا مِنْ مَالِهِ، وَكَانَتِ الْجُزُرُ وَالْغَنَمُ تُنْحَرُ وَتُطْبَخُ فِيهَا، وَيُطْعَمُ الْحَاجُّ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي أَفْرَادِهِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إِلَى السِّقَايَةِ فَاسْتَسْقَى النَّاسَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا فَضْلُ، اذْهَبْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 إِلَى أُمِّكَ فَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرَابٍ مِنْ عِنْدِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْقِنِي. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أَيْدِيَهُمْ فِيهِ. فَقَالَ: اسْقِنِي. فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ وَهُمْ يَسْتَقُونَ، وَيَعْمَلُونَ فِيهَا، فَقَالَ: اعْمَلُوا فَإِنَّكُمْ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ، ثُمَّ قَالَ: لَوْلا أَنْ تُغْلَبُوا لَنَزَلْتُ حَتَّى أَضَعَ الْحَبْلَ عَلَى هَذِهِ يَعْنِي عَاتِقَهُ. وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُمْ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ، فَقَالَ: «انْزَعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَوْلا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 بَابُ ذِكْرِ الْعُمْرَةِ أَصْلُ الْعُمْرَةِ وَالاعْتِمَارِ: الزِّيَارَةُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْعُمْرَةِ، فَعِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْمَنْصُورِ، وَمِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: هِيَ سُنَّةٌ. وَيَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وَمِنَ النَّقْلِ حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي مَجِيءِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَسُؤَالِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا الإِسْلامُ؟ فَقَالَ: «أَنْ تَشْهَدَ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ، وَتَعْتَمِرَ» . ذَكَرَ الْجَوْزَجِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُخَرَّجِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ: «وَتَحُجَّ الْبَيْتَ، وَتَعْتَمِرَ» . فَصْلٌ وَأَرْكَانُ الْعُمْرَةِ: الإِحْرَامُ، وَالطَّوَافُ، وَالسَّعْيُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَوَاجِبَاتُهَا: الْحِلاقُ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَأَمَّا سُنَنُهَا: فَالْغُسْلُ لِلإِحْرَامِ، وَالأَذْكَارُ الْمَشْرُوعَةُ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ. فَمَنْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ أَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ بَعْدَ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيَتَطَيَّبَ وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ خَرَجَ إِلَى أَدْنَى الْحِلِّ فَأَحْرَمَ، وَالأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنَ التَّنْعِيمِ، ثُمَّ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَيَسْعَى، وَيَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ وَقَدْ حَلَّ. فَإِنْ فَعَلَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الإِحْرَامِ شَيْئًا قَبْلَ الْحِلاقِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: أَحَدُهُمَا: لا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالثَّانِيَةُ: عَلَيْهِ فِدْيَةٌ. فَإِنْ تَرَكَ الْحِلاقَ وَالتَّقْصِيرَ فَهَلْ يَلْزَمُهُ دَمٌ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 بَابُ فَضْلِ الْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، وَسَعْدُ الْخَيْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالا: أَنْبَأنَا ابْنُ النَّضْرِ، حَدَّثَنَا ابْنُ رِزْقَوَيْهِ، أَنْبَأنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَنَا الْقَزَّازُ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ أَبِي مَعْقِلٍ، قَالَ: أَرَادَتْ أُمِّي الْحَجَّ، فَكَانَ جَمَلُهَا أَعْجَفَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «اعْتَمِرِي فِي رَمَضَانَ، فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً» أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَأَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالُوا: أَنْبَأنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْمَأْمُونِ، أَنْبَأنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ السُّكَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: حَجَّ أَبُو طَلْحَةَ وَابْنُهُ، وَتَرَكَانِي. فَقَالَ: «يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، عُمَرْةٌ فِي رَمَضَانَ تُجْزِيكِ عَنْ حَجَّةٍ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ فِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لامْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهَا أُمُّ سِنَانٍ: «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً» ، أَوْ قَالَ: «حَجَّةً مَعِي» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 بَابٌ أَسْوَاقُ الْعَرَبِ الَّتِي كَانَتْ تُقَامُ فِي الْمَوْسِمِ كَانَ لِلْعَرَبِ أَسْوَاقٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَعْظَمُهَا وَأَكْثَرُهَا جَمْعًا سُوقُ عُكَاظٍ، وَكَانَ كِسْرَى يَبْعَثُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بِالسَّيْفِ الْقَاطِعِ، وَالْفَرَسِ الرَّائِعِ، وَالْحُلَّةِ الْفَاخِرَةِ، فَتُعْرَضُ فِي ذَلِكَ السُّوقِ، وَيُنَادِي مُنَادِيهِ: إِنَّ هَذَا بَعَثَهُ الْمَلِكُ إِلَى سَيِّدِ الْعَرَبِ، فَلا يَأْخُذُهُ إِلا مِنْ أَذْعَنَتْ لَهُ الْعَرَبُ بِالسُّؤْدُدِ، فَكَانَ آخِرُ مَنْ أَخَذَهُ بِعُكَاظٍ: حَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَكَانَ كِسْرَى يُرِيدُ بِذَلِكَ مَعْرِفَةَ سَادَاتِهِمْ، لِيَعْتَمِدَ عَلَيْهِمْ فِي أُمُورِ الْحَرْبِ، فَيَكُونُونَ عَوْنًا لَهُ عَلَى إِعْزَازِ مُلْكِهِ، وَحِمَايَتِهِ مِنَ الْعَرَبِ، وَكَانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ مِنْ سُوقِ عُكَاظٍ إِلَى سُوقِ ذِي الْمَجَازِ، وَبَيْنَهُمَا قُرْبٌ، فَيُقِيمُونَ بِهِ إِلَى آخَرِ التَّرْوِيَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 أَبْوَابٌ فِيهَا نُبَذٌ مِمَّا كَانَ يَجْرِي لِلْعَرَبِ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ بِعُكَاظٍ وَغَيْرِهَا بَابٌ خُطَبُ الْفُصَحَاءِ بِمَكَّةَ خُطْبَةُ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍ بِعُكَاظٍ رَوَى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍ، كَانَ يَقِفُ بِعُكَاظٍ فِي الْمَوْسِمِ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا، وَيَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَاسْمَعُوا وَافْهَمُوا وَتَعَلَّمُوا، اللَّيْلُ سَاجٍ، وَالنَّهَارُ وَهَّاجٌ، وَالأَرْضُ مِهَادٌ، وَالْجِبَالُ أَوْتَادٌ، وَالسَّمَاءُ بِنَاءٌ، وَالنُّجُومُ أَعْلامٌ، صِلُوا أَرْحَامَكُمْ، وَاحْفَظُوا أَصْهَارَكُمْ، وَثَمِّرُوا أَمْوَالَكُمْ، وَالدَّارُ أَمَامَكُمْ، وَالظَّنُّ عَيْنُ مَا تَقُولُونَ، زَيِّنُوا حَرَمَكُمْ، وَعَظِّمُوهُ، وَتَمَسَّكُوا بِهِ، فَسَيَأْتِي لَهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ، وَسَيَخْرُجُ مِنْهُ نَبِيٌّ كَرِيمٌ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا لَيْتَنِي شَاهِدٌ نَجْوِي لِدَعْوَتِهِ ... خَيْرُ الْعَشِيرَةِ يَأْتِي الْحَقَّ خَذْلانَا ثُمَّ يَقُولُ: لَوْ كُنْتُ يَوْمَئِذٍ ذَا سَمْعٍ وَذَا بَصَرٍ، لَتَنَصَّبْتُ فِيهَا تَنَصُّبَ الْجَمَلِ، وَلأَرْقَلْتُ إِرْقَالَ الْفَحْلِ فَرَحًا بِدَعْوَتِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 خُطْبَةُ قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ بِسُوقِ عُكَاظٍ أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الزَّوْزَنِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو يَعْلَى الْفَرَّاءُ، أَنْبَأنَا عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَسَّانٍ السَّمْتِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَجَّاجِ اللَّخْمِيُّ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَيُّكُمْ يَعْرِفُ الْقُسَّ بْنَ سَاعِدَةَ الإِيَادِيَّ؟» فَقَالُوا: كُلُّنَا نَعْرِفُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «فَمَا فَعَلَ؟» قَالُوا: هَلَكَ. قَالَ: " مَا أَنْسَاهُ بِعُكَاظٍ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ أَوْرَقَ، وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ، وَيَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اجْتَمِعُوا وَاسْمَعُوا وَعُوا، مَنْ عَاشَ مَاتَ، وَمَنْ مَاتَ فَاتَ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ، إِنَّ فِي السَّمَاءِ لَخَبَرًا، وَإِنَّ فِي الأَرْضِ لَعِبَرًا، مِهَادٌ مَوْضُوعٌ، وَسَقْفٌ مَرْفُوعٌ، وَنُجُومٌ تَمُورُ، وَبِحَارٌ لا تَغُورُ، أَقْسَمَ قُسٌّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 قَسَمًا حَقًّا، لَئِنْ كَانَ فِي الأَمْرِ رِضًى لَيَكُونَنَّ سُخْطٌ، إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دِينًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ دِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، مَا لِي أَرَى النَّاسَ يَذْهَبُونَ وَلا يَرْجِعُونَ، أَرَضُوا فَأَقَامُوا؟ أَمْ تُرِكُوا فَنَامُوا؟ " ثُمَّ قَالَ: «أَيُّكُمْ يَرْوِي شِعْرَهُ؟» فَأَنْشَدُوهُ: فِي الذَّاهِبِينَ الأَوَّلِينَ ... مِنَ الْقُرُونِ لَنَا بَصَائِرْ لَمَّا رَأَيْتُ مَوَارِدًا لِلْمَوْتِ ... يَهِبْنَ لَهَا مَصَادِرْ وَرَأَيْتُ قَوْمِي نَحْوَهَا ... تَمْضِي الأَصَاغِرُ وَالأَكَابِرْ لا يَرْجِعُ الْمَاضِي إِلَيَّ ... وَلا مِنَ الْبَاقِينَ غَابِرْ أَيْقَنْتُ لا مَحَالَةَ أَنِّي ... حَيْثُ صَارَ الْقَوْمُ صَائِرْ قَوْلُهُ: إِنَّ فِي السَّمَاءِ لَخَبَرًا، فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُلْحِدِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ غَيْرُ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، فَبَيَّنَ أَنَّ فِي السَّمَاءِ خَبَرًا غَيْرَ مَا يَعْلَمُونَ، وَالْعِبْرَةُ تَعَرُّفُ مَا بَطَنَ بِمَا ظَهَرَ، وَالْخُرُوجُ مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ مِنْ قَوْلِكَ: عَبَرْتُ النَّهْرَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُسٍّ: «إِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 خُطْبَةُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: قَالَتْ أَسْمَاءُ: نَظَرْتُ إِلَى زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ، وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيْكَ لَعَبَدْتُكَ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ وَلَكِنْ لا أَعْلَمُ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي نَصَحْتُ لأَقْوَامٍ وَقُلْتُ لَهُمْ ... أَنَا النَّذِيرُ فَلا يَغْرُرْكُمْ أَحَدُ لا تَعْبُدُونَ إِلَهًا غَيْرَ خَالِقِكُمْ ... وَإِنْ سُئِلْتُمْ فَقُولُوا مَا لَهُ أَحَدُ سُبْحَانَهُ ثُمَّ سُبْحَانًا يَعُودُ لَهُ ... مِنْ قَبْلِ مَا شَجَّ الْجُودِي وَالْجَمَدُ لا شَيْءَ فِيمَا تَرَى تَبْقَى بَشَاشَتُهُ ... يَبْقَى الإِلَهُ وَيُودَى الْمَالُ وَالْوَلَدُ لَمْ تُغْنِ عَنْ هُرْمُزٍ يَوْمًا خَزَائِنُهُ ... وَالْخُلْدُ قَدْ حَاوَلَ عَادٌ فَمَا خَلَدُوا وَلا سُلَيْمَانُ إِذْ دَانَ الشُّعُوبُ لَهُ ... وَالإِنْسُ وَالْجِنُّ يَجْرِي بَيْنَهَا الْبُرَدُ مُسَخَّرًا دُونَ أَسْبَابِ السَّمَاءِ لَهُ ... فَلا يُنَازِعُهُ فِي مُلْكِهِ أَحَدُ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ لَخْمٍ قُتِلَ، فَرَثَاهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، فَقَالَ: رَشَدْتَ وَأَنْعَمْتَ ابْنَ عَمْرٍو وَإِنَّمَا ... تَجَنَّبْتَ تَنُّورًا مِنَ النَّارِ حَامِيَا دُعَاؤُكَ رَبًّا لَيْسَ رَبٌّ كَمِثْلِهِ ... وَتَرْكُكَ أَوْثَانَ الْجِبَالِ كَمَا هِيَا وَقَدْ تُدْرِكُ الإِنْسَانَ رَحْمَةُ رَبِّهِ ... وَلَوْ كَانَ تَحْتَ الأَرْضِ سِتِّينَ وَادِيَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 بَابٌ ذِكْرُ طَرَفٍ مِنْ خُطَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ الْخُطْبَةُ الأُولَى: يَوْمَ الْفَتْحِ لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ خَطَبَ النَّاسَ، فَرَوَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ وَاطْمَأَنَّ النَّاسُ، خَرَجَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ فَطَافَ بِهِ سَبْعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ، ثُمَّ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ بِالْمِحْجَنِ فِي يَدِهِ، وَدَخَلَ الْكَعْبَةَ، ثُمَّ خَرَجَ فَوَقَفَ عَلَى بَابِهَا وَقَدِ اسْتَكَفَّ لَهُ النَّاسُ، فَقَامَ قَائِمًا عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ: «لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَغَلَبَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلا كُلُّ مَأْثَرَةٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ دَمٍ يُدَّعَى فَهُو تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، إِلا سِدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجِّ، أَلا إِنَّ قَتِيلَ الْخَطَأِ وَشِبْهَ الْعَمْدِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا فِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ، أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلادُهَا. يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَظُّمَهَا بِالآبَاءِ، النَّاسُ مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ مِنْ آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ» . ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: {يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] إِلَى آخَرِهَا. ثُمَّ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟» قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، ثُمَّ قَالَ: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ» . ثُمَّ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَمِفْتَاحُ الْكَعْبَةِ فِي يَدِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ مَعَ السِّقَايَةِ، فَقَالَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ؟» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 فَدُعِيَ بِهِ، فَقَالَ: «هَاكَ مِفْتَاحَكَ» . الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ فَتْحِ مَكَّةَ رَوَى أَبُو شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيُّ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ مَكَّةَ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ مِنْ فَتْحِ مَكَّةَ عَدْتُ خُزَاعَةَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَتَلُوهُ بِمَكَّةَ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرًا، وَلَمْ تَحِلُّ لأَحَدٍ كَانَ مِنْ قَبْلِي، وَلا لأَحَدٍ يَكُونُ مِنْ بَعْدِي، وَلَمْ تَجُزْ لِي إِلا قَدْرُ سَاعَةٍ غَضَبًا عَلَى أَهْلِهَا، ثُمَّ قَدْ رَجَعَتْ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ. يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنِ الْقَتْلِ، فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَ مَقَامِي هَذَا فَأَهْلُهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِنْ شَاءُوا فَدَمُ قَاتِلِهِمْ، وَإِنْ شَاءُوا فَعَقْلُهُ» ، ثُمَّ وَدَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلَ الَّذِي قَتَلَتْهُ خُزَاعَةُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي فَضَائِلِ مَكَّةَ نَحْوَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 الْخُطْبَةُ الثَّالِثَةُ: فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِعَرَفَةَ رَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ بِإِسْنَادٍ لَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَقَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ وَالأَوْثَانِ كَانُوا يَدْفَعُونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَإِنَّا نَدْفَعُ بَعْدَ غُرُوبِهَا، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ غَدًا عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ حِينَ تَعْتَمُّ بِهَا رُءُوسُ الْجِبَالِ، وَإِنَّا نَدْفَعُ قَبْلَ طُلُوعِهَا، هَدْيُنَا مُخَالِفُ هَدْيَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالأَوْثَانِ» . وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لا يَفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيَقُولُونَ: أَشْرَقَ ثَبِيرٌ، فَخَالَفَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَفَاضَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ". الْخُطْبَةُ الرَّابِعَةُ: فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَيْضًا رَوَى عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ حِينَ خَطَبَ النَّاسَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: " أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، وَإِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، فَقَدْ بَلَّغْتُ، فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا، كُلُّ رِبًا مَوْضُوعٌ، وَلَكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ، لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ، قَضَى اللَّهُ أَنْه لا رِبَا، وَأَنَّ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَوضُوعٌ كُلُّهُ، وَأَنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوضُوعٌ، وَأَنَّ أَوَّلَ دِمَائِكُمْ أَضَعُ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ. أَمَّا بَعْدُ، إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَقَدْ رَضِيَ بِهِ، فَاحْذَرُوهُ عَلَى دِينِكُمْ. أَيُّهَا النَّاسُ {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37] ، وَإِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَ {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] . ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ. أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَإِنَّ لَهُنَّ عَلَيْكُمْ حَقًّا، عَلَيْهِنَّ أَنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، وَعَلَيْهِنَّ أَنْ لا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ، وَتَضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنِ انْتَهَيْنَ فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ، لا يَمْلِكْنَ مِنْ أَنْفُسِهِنَّ شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلَمَةِ اللَّهِ، فَاعْقِلُوا أَيُّهَا النَّاسُ قَوْلِي، فَإِنِّي قَدْ بَلَّغْتُ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ. أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا مِنِّي مَا أَقُولُ لَكُمْ وَاعْقِلُوا تَعِيشُوا، إِنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ أَخٌ لِلْمُسْلِمِ، وَالْمُسْلِمُونَ إِخْوَةٌ، وَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ مِنْ أَخِيهِ إِلا مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَلا تَظْلِمُوا وَلا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ بِالسُّيُوفِ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَل بلغت ". وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي أَفْرَادٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بَعْضَ هَذِهِ الْخُطْبَةِ وَأَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ يَوْمَ عَرَفَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 الْخُطْبَةُ الْخَامِسَةُ: بِعَرَفَةَ أَيْضًا رَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ بِإِسْنَادٍ لَهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِعَرَفَاتٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَلا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي سَنَتِكُمْ هَذِهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ نَصَحْتُهُمْ وَأَبْلَغْتُهُمْ كَمَا عَهِدْتَ إِلَيَّ، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي فِيهِمْ» . الْخُطْبَةُ السَّادِسَةُ: فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ الأَضْحَى: «أَلَيْسَ هَذَا الْيَوْمُ حَرَامٌ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «فَإِنَّ حُرْمَتَكُمْ بَيْنَكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَحُرْمَةِ هَذَا الْيَوْمِ، ثُمَّ أُنَبِّئُكُمْ مَنِ الْمُسْلِمِ؟ مَنْ سَلِمَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَأُنَبِّئُكُمْ مَنِ الْمُؤْمِنُ؟ مَنْ أَمِنَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَأُنَبِّئُكُمْ مَنِ الْمُهَاجِرُ؟ الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ، وَهَجَرَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ. وَالْمُؤْمِنُ حَرَامٌ عَلَى الْمُؤْمِنِ كَحُرْمَةِ هَذَا الْيَوْمِ، لَحْمُهُ عَلَيْهِ حَرَامٌ أَنْ يَحْرِقَهُ، وَوَجْهُهُ عَلَيْهِ حَرَامٌ أَنْ يَلْطِمَهُ، وَدَمُهُ عَلَيْهِ حَرَامٌ أَنْ يَسْفِكَهُ، وَحَرَامٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهُ دَفْعَةً تُعَنِّيهِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 الْخُطْبَةُ السَّابِعَةُ: فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَيْضًا أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقْرِئُ، أَنْبَأنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ طَلْحَةَ، أَنْبَأنَا أَبُو عُمَرَ بْنِ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَحَامِلِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي نُصْرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْ شَهِدَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهُوَ عَلَى بَعِيرٍ، فَقَالَ: " يَأَيُّهَا النَّاسُ، أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلا لا فَضْلَ لِعَرِبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، أَلا لا فَضْلَ لأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلا بِالتَّقْوَى، أَلا قَدْ بَلَّغْتُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ " الْخُطْبَةُ الثَّامِنَةُ: فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَيْضًا أَخْبَرَنَا الْكَرْخِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو عَامِرٍ الأَزْدِيُّ، أَنْبَأنَا الْجَرَّاحِيُّ، حَدَّثَنَا الْمَحْبُوبِيُّ، حَدَّثَنَا التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 بَابُ ذِكْرِ اجْتِمَاعِ الشُّعَرَاءِ بِسُوقِ عُكَاظٍ وَتَنَاشُدِهِمُ الأَشْعَارَ قَالَ الأَصْمَعِيُّ: كَانَ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ تُضْرَبُ لَهُ قُبَّةٌ مِنْ أَدَمٍ بِسُوقِ عُكَاظٍ، فَتَأْتِيهِ الشُّعَرَاءُ فَتَعْرِضُ عَلَيْهِ أَشْعَارَهَا، فَأَوَّلُ مَنْ أَنْشَدَهُ الأَعْشَى، ثُمَّ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، ثُمَّ أَنْشَدَتْهُ الْخَنْسَاءُ أَبْيَاتَهَا الَّتِي تَقُولُ فِيهَا: وَإِنَّ صَخْرًا لَتَأتَمُّ الْهُدَاةُ بِهِ ... كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارُ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْلا أَنَّ أَبَا بَصِيرٍ أَنْشَدَنِي آنِفًا لَقُلْتُ إِنَّكِ أَشْعَرُ أَهْلِ زَمَانِكِ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ. فَقَامَ حَسَّانٌ، فَقَالَ: وَاللَّهِ، لأَنَا أَشْعَرُ مِنْهَا وَمِنْكَ وَمِنْ أَبِيكَ. فَقَالَ لَهُ النَّابِغَةُ: حَيْثُ تَقُولُ مَاذَا؟ فَقَالَ حَسَّانٌ، حَيْثُ أَقُولُ: لَنَا الَجَفَنَاتُ الْغُرُّ تَلْمَعْنَ فِي الضُّحَى ... وَأَسْيَافُنَا تَقْطُرْنَ مِنْ مَجْدِهِ دَمَا وُلِدْنَا بَيْنَ الْعَيْقَاءِ وَابْنِ مَخْرَقٍ ... فَأَكْرِمْ بِنَا خَالا وَأَكْرِمْ بِنَا أُمَّا فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنَّكَ قُلْتَ: لَنَا الْجَفَنَاتُ، فَقَلَّلْتَ عَدَدَكَ، وَقُلْتَ: يَلْمَعْنَ فِي الضُّحَى، وَلَوْ قُلْتَ فِي الدُّجَا لَكَانَ فَخْرًا؛ لأَنَّ الضِّيفَانَ يَكْثُرْنَ بِاللَّيْلِ، وَقَلَّلْتَ عَدَدَ أَسْيَافِكَ فَقُلْتَ: يَقْطُرْنَ، وَلَوْ قُلْتَ: يَجْرِينَ لَكَانَ أَكْثَرَ لِلدِّمَاءِ، وَفَخَرْتَ بِمَنْ وَلَدَتْكَ، وَلَمْ تَفْخَرْ بِمَنْ وَلَدَكَ. وَقَدْ كَانَ الزَّجَّاجُ يُنْكِرُ صِحَّةَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَيَقُولُ: إِنَّ الأَلِفَ وَالتَّاءَ تَأْتِي لِلْكَثْرَةِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37] . وَقَالَ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] . وَقَالَ: {فِي جَنَّاتِ} [التوبة: 72] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 بَابُ ذِكْرِ مَنْ كَانَ يَتَوَلَّى الْحُكْمَ بَيْنَ الْعَرَبِ وَإِجَازَةَ الْحَاجِّ ، كَانَ يَتَوَلَّى ذَلِكَ عَامِرُ بْنُ الظِّرِبِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: ذُو الْحِلْمِ. قَالَ الشَّاعِرُ: لَذِي الْحِلْمِ قَبْلَ الْيَوْمِ مَا تَقْرَعُ الْعَصَا ... وَمَا عُلِّمَ الإِنْسَانُ إِلا لِيَعْلَمَا وَكَانَ لَهُ أَعْوَادٌ يَجْلِسُ عَلَيْهَا فَيَحْكُمُ بَيْنَ الْعَرَبِ، وَيَخْطُبُ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ عَلَيْهَا، فَيَحُثُّ النَّاسَ عَلَى مَحَاسِنِ الأَخْلاقِ، وَيُقَبِّحُ لَهُمُ الْعُذْرَ، وَيَحُضُّهُمْ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْحَلِفِ، وَحِفْظِ الْجَارِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَضَى فِي الْخُنْثَى مِنْ حَيْثُ يَبُولُ، فَلَمَّا مَاتَ رَثَاهُ الأَسْوَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، فَقَالَ: وَلَقَدْ عَلِمْتُ لَوْ أَنَّ عِلْمِي نَافِعِي ... أَنَّ السَّبِيلَ سَبِيلُ ذِي الأَعْوَادِ ثُمَّ لَمْ يَجْتَمِعْ بَعْدَهُ ذَلِكَ بِعُكَاظٍ إِلا بِسَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْمَحْلَ السَّعْدِيُّ، فَقَالَ: لَيَالِي سَعْدٍ فِي عُكَاظٍ يَسُوقُهَا لَهُ ... كُلُّ مَشْرِقٍ مِنْ عُكَاظٍ وَمَغْرِبِ ثُمَّ اجْتَمَعَ ذَلِكَ مِنْ بَعْدِهِ بِحَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، ثُمَّ وَلِيَهُ بَعْدَهُ ثَعْلَبَةُ بْنُ يَرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكٍ، ثُمَّ بَعْدَهُ الأَضْبَطُ بْنُ فُرَيْعِ بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ، وَمَا زَالَ يَنْتَقِلُ ذَلِكَ، وَكَانَ آخِرَ مَنْ كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ نَشَبٌ، الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 بَابُ إِيثَارِ طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي تِلْكَ الأَمَاكِنِ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ دَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْحَرَمَ وَهُمْ يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ، فَقَالَ: لَوْ عَلِمَ الْوَفْدُ بِمَنْ حَلُّوا لاسْتَبْشَرُوا. قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ خَيْرُونَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الزُّهْرِيُّ، أَنْبَأنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ، أَنْبَأنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى الشَّوَّاءَ، يَقُولُ: كُنْتُ مَعَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ الْعَابِدَةِ بِمِنًى، فَلَمَّا صِرْنَا عِنْدَ الْجِمَارِ، رَأَتِ النَّاسَ قَدْ أَقْبَلُوا عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَتْ: حَبِيبِي أَقْبَلُوا عَلَى الدُّنْيَا وَتَرَكُوكَ، ثُمَّ صَاحَتْ وَسَقَطَتْ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَغَطَّيْتُهَا بِثَوْبِي، ثُمّ قُلْتُ لِلنَّاسِ: أَصَابَهَا شَيْءٌ وَأَوْهَمْتُهُمْ أَنَّ بِهَا عِلَّةً، ثُمَّ أَقَمْتُ عَلَيْهَا حَتَّى أَفَاقَتْ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّ إِبْرَاهِيمَ مَا هَذِهِ الشُّهْرَةُ؟ فَقَالَتْ: يَا بَطَّالُ، إِذَا كَانَ هُوَ يُقْسِمُ إِلَيْنَا فَلِمَنْ نَتَصَنَّعُ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 بَابُ ذِكْرِ أَمَاكِنَ بِمَكَّةَ يُسْتَحَبُّ فِيهَا الصَّلاةُ وَالدُّعَاءُ وَهِيَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا الْمَكَانُ الأَوَّلُ: الْبَيْتُ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَدْ أَخَذَهُ حِينَ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَزَلْ بِيَدِهِ وَوَلَدِهِ حَتَّى بَاعُوهُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ أَخِي الْحَجَّاجِ، فَأَدْخَلَهُ فِي دَارِهِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: الْبَيْضَاءُ، وَتُعْرَفُ الْيَوْمَ بِدَارِ ابْنِ يُوسُفَ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ الْبَيْتُ فِي الدَّارِ حَتَّى حَجَّتِ الْخَيْزُرَانُ، جَارِيَةُ الْمَهْدِيِّ، فَجَعَلَتْهُ مَسْجِدًا يُصَلَّى فِيهِ، وَأَخْرَجَتْهُ مِنَ الدَّارِ إِلَى الزُّقَاقِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: زُقَاقُ الْمَوْلِدِ. الْمَكَانُ الثَّانِي: مَنْزِلُ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهُوَ الْبَيْتُ الَّذِي كَانَ يَسْكُنُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ، وَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقِيمًا بِهِ حَتَّى هَاجَرَ، فَأَخَذَهُ عَقِيلٌ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ مُعَاوِيَةُ وَهُوَ خَلِيفَةٌ، فَجَعَلَهُ مَسْجِدًا يُصَلَّى فِيهِ، وَبَنَاهُ، وَفَتَحَ فِيهِ مُعَاوِيَةُ بَابًا مِنْ دَارِ أَبِي سُفْيَانَ، وَهِيَ الدَّارُ الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ» . الْمَكَانُ الثَّالِثُ: مَسْجِدٌ فِي دَارِ الأَرْقَمِ بن الأرقم، وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: دَارُ الْخَيْزُرَانُ، كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَتِرًا فِيهِ فِي بِدَايَةِ الإِسْلامِ. الْمَكَانُ الرَّابِعُ: مَسْجِدٌ بِأَعْلَى مَكَّةَ عِنْدَ الرَّدْمِ، عِنْدَ بِئْرِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، يُقَالُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 الْمَكَانُ الْخَامِسُ: مَسْجِدٌ بِأَعْلَى مَكَّةَ يُقَالُ لَهُ: مَسْجِدُ الْجِنِّ، وَهُوَ فِيمَا يُقَالُ مَوْضِعُ الْخَطِّ الَّذِي خَطَّهُ لابْنِ مَسْعُودٍ لَيْلَةَ إِذٍ، وَيُقَالُ لَهُ: مَسْجِدُ الْبَيْعَةِ، فَيُقَالُ: إِنَّ الْجِنَّ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَالِكَ. الْمَكَانُ السَّادِسُ: مَسْجِدٌ بِأَعْلَى مَكَّةَ أَيْضًا يُقَالُ لَهُ: مَسْجِدُ الشَّجَرَةِ، يُقَابِلُ مَسْجِدَ الْجِنِّ، يُقَالُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا شَجَرَةً كَانَتْ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ فَأَقْبَلَتْ تَخُطُّ الأَرْضَ، حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَهَا فَرَجَعَتْ. الْمَكَانُ السَّابِعُ: مَسْجِدٌ تُسَمِّيهِ أَهْلُ مَكَّةَ: مَسْجِدُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَلِيٍّ لأَنَّهُ بَنَاهُ. الْمَكَانُ الثَّامِنُ: مَسْجِدٌ عَنْ يَمِينِ الْمَوْقِفِ، يُقَالُ لَهُ: مَسْجِدُ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ غَيْرُ مَسْجِدِ عَرَفَةَ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الإِمَامُ. الْمَكَانُ التَّاسِعُ: مَسْجِدٌ بِمِنًى، يُقَالُ لَهُ: مَسْجِدُ الْكَبْشِ، لأَنَّ الْكَبْشَ الَّذِي فَدَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ وَلَدَهُ نَزَلَ هُنَالِكَ. الْمَكَانُ الْعَاشِرُ: مَسْجِدٌ بِأَجْيَادٍ، وَفِيهِ مَوْضِعٌ يُقَالُ لَهُ: الْمُتَّكَأُ، يُقَالُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّكَأَ هُنَالِكَ. الْمَكَانُ الْحَادِي عَشَرَ: وَمَسْجِدٌ عَلَى جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ، يُقَالُ لَهُ: مَسْجِدُ إِبْرَاهِيمَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ مَسْجِدٌ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: إِبْرَاهِيمُ وَلَيْسَ بِالْخَلِيلِ. الْمَكَانُ الثَّانِي عَشَرَ: مِسْجِدٌ بِأَعْلَى مَكَّةَ عِنْدَ سُوقِ الْغَنَمِ، يُقَالُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَايَعَ النَّاسَ عِنْدَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ. الْمَكَانُ الثَّالِثَ عَشَرَ: مَسْجِدُ الْعَقَبَةِ، حَيْثُ بَايَعَ الأَنْصَارُ. الْمَكَانُ الرَّابِعَ عَشَرَ: مَسْجِدٌ بِذِي طُوَى، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْزِلُ هُنَالِكَ حِينَ يَعْتَمِرُ وَحِينَ يَحُجُّ، تَحْتَ سَمُرَةَ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ، وَبَنَتْهُ زُبَيْدَةُ بَازِجٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 الْمَكَانُ الْخَامِسَ عَشَرَ: مَسْجِدُ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ أَحْرَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُمْرَةٍ. الْمَكَانُ السَّادِسَ عَشَرَ: مَسْجِدُ التَّنْعِيمِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ: «عَمِّرْ أُخْتَكَ مِنَ التَّنْعِيمِ فَإِذَا أَهْبَطْتَ بِهَا الأَكَمَةَ فَمُرْهَا فَلْتُحْرِمْ» . الْمَكَانُ السَّابِعَ عَشَرَ: مِسْجِدٌ فِي جَبَلِ حِرَاءَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَبَّدُ فِيهِ. الْمَكَانُ الثَّامِنَ عَشَرَ: مَسْجِدٌ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَفَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 بَابُ ذِكْرِ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَأُلْهِمَ الْخُرُوجَ لِمَصْلَحَةٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الأُرْدِسْتَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ ثمك بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطُّوسِيُّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلَّوْشَ الدَّيْنَوَرِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ الْمُزَنِيُّ، يَقُولُ: «كُنْتُ مُجَاوِرًا بِمَكَّةَ فَخَطَرَ لِي خَاطِرٌ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَخَرَجْتُ، فَبَيْنَا أَنَا بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ أَمْشِي، فَإِذَا أَنَا بِشَابٍّ مَطْرُوحٍ يَنْزَعُ، فَشَهِقَ شَهْقَةً كَانَتْ فِيهَا نَفْسُهُ، فَكَفَّنْتُهُ فِي أَطْمَارِهِ وَرَجَعْتُ» وَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصِ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ بِمَكَّةَ فَبَيْنَا أَنَا أَطُوفُ بِالْبَيْتِ نُودِيَ فِي سِرِّي: سِرْ إِلَى الرُّومِ. فَقُلْتُ: يَا عَجَبًا، أَكُونُ فِي بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَأَتْرُكُهُ وَأَمْضِي إِلَى بِلادِ الرُّومِ، ثُمَّ هَمَمْتُ بِالطَّوَافِ فَلَمْ أَسْتَطِعْ، فَخَرَجْتُ إِلَى بِلادِ الرُّومِ، فَلَمَّا دَخَلْتُهَا سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ: بِنْتُ مَلِكِنَا قَدْ عُرِضَتْ عَلَى كُلِّ الأَطِبَاءِ فَمَا عَرَفُوا لَهَا دَوَاءً. فَقُلْتُ: يَحْمِلُونِي إِلَيْهَا فَأَنَا غُلامُ الطَّبِيبِ، فَحُمِلْتُ، فَلَمَّا دَخَلْتُ إِلَيْهَا، قَالَتْ: مَرْحَبًا يَا خَوَّاصُ. فَقُلْتُ: مَا لَكِ؟ فَقَالَتْ: كُنْتُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى الْبَارِحَةِ، فَإِنِّي نِمْتُ فَرَأَيْتُ فِي مَنَامِي عَرْشَ رَبِّي بَارِزًا، فَانْتَبَهْتُ كَمَا تَرَى، لا يَنْطَلِقُ لِسَانِي إِلا بِقَوْلِ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَلَمَّا رَأَوْنِي هَكَذَا نَسَبُونِي إِلَى الْجُنُونِ. فَقُلْتُ: لَعَلَّ اللَّهَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 يُخُلِّصُكِ مِنْهُمْ، فَمِنْ أَيْنَ عَرَفْتِ اسْمِي؟ قَالَتْ: نُودِيتُ سَنَبْعَثُ لَكِ مِنْ تُسْلِمِينَ عَلَى يَدَيْهِ، وَأُلْهِمْتُ ذِكْرَكَ. فَهَمَمْتُ بِالنُّهُوضِ، فَقَالَتْ: إِلَى أَيْنَ؟ قُلْتُ: إِلَى مَكَّةَ. فَقَالَتْ: هَا هِيَ مَكَّةُ. فَنَظَرْتُ، فَإِذَا مَكَّةَ، فَسِرْتُ قَلِيلا فَإِذَا أَنَا بِالْبَيْتِ. بَابُ طَوَافِ الْوَدَاعِ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَمَنْ تَرَكَهُ لَزِمَهُ دَمٌ إِلا الْحَائِضَ، فَإِنَّهَا إِذَا خَرَجَتْ مِنْ مَكَّةَ وَهِيَ حَائِضٌ، لَمْ يَلْزَمْهَا شَيْءٌ. وَإِذَا طَافَ طَوَافَ الْوَدَاعِ لَمْ يَقَرَّ بَعْدَهُ، فَإِنْ أَقَامَ أَعَادَهُ. وَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ فَلْيَقِفْ فِي الْمُلْتَزَمِ وَلْيَدْعُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 بَابُ ذِكْرِ الْمُلتَزَمِ هُوَ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ، وَهُوَ مِقْدَارُ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لا يَقُومُ عَبْدٌ ثُمَّ فيَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِشَيْءٍ إِلا اسْتَجَابَ لَهُ. ! 216 أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ظَفَرٍ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا ابْنُ جَهْضَمٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، قَالَ: " طُفْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ بِالْبَيْتِ، وَكَانَتْ لَيْلَةً مَطِيرَةً شَدِيدَةَ الظُّلْمَةِ، وَقَدْ خَلا الطَّوَافُ، فَوَقَفْتُ عِنْدَ الْمُلْتَزَمِ أَدْعُو وَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اعْصِمْنِي حَتَّى لا أَعْصِيَكَ. فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَنْتَ تَسْأَلُنِي أَنْ أَعْصِمَكَ، وَكُلُّ عِبَادِي يَسْأَلُونِي الْعِصْمَةَ، فَإِذَا عَصَمْتُهُمْ فَعَلَى مَنْ أَتَفَضَّلُ، وَلِمَنْ أَغْفِرُ؟ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَبَقِيتُ لَيْلَتِي إِلَى الصَّبَاحِ مُسْتَغْفِرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَحْيِيًا مِنْهُ تَعَالَى " فَصْلٌ وَلْيَكُنْ مِنْ دُعَاءِ الطَّائِفِ لِلْوَدَاعِ عِنْدَ الْمُلْتَزَمِ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ هَذَا بَيْتُكَ، وَأَنَا عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، حَمَلْتَنِي عَلَى مَا سَخَّرْتَ لِي مِنْ خَلْقِكَ، وَسَيَّرْتَنِي فِي بِلادِكَ حَتَّى بَلَّغْتَنِي بِنِعْمَتِكَ، وَأَعَنْتَنِي عَلَى قَضَاءِ نُسُكِي، فَإِنْ كُنْتَ رَضِيتَ عَنِّي، فَازْدَدْ عَنِّي رِضًى، وَإِلا فَمِنَ الآنِ قَبْلَ أَنْ يَنْأَى عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 بَيْتِكَ دَارِي، هَذَا أَوَانُ انْصِرَافِي إِنْ أَذِنْتَ لِي غَيْرَ مُسْتَبْدِلٍ بِكَ وَلا بِبَيْتِكَ، وَلا رَاغِبٍ عَنْكَ وَلا عَنْ بَيْتِكَ، اللَّهُمَّ أَصْحِبْنِي الْعَافِيَةَ فِي بَدَنِي، وَالصِّحَّةَ فِي جِسْمِي، وَالْعِصْمَةَ فِي دِينِي، وَأَحْسِنْ مُنْقَلَبِي، وَارْزُقْنِي طَاعَتَكَ مَا أَبْقَيْتَنِي، وَاجْمَعْ لِي خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَإِنْ شَاءَ زَادَ عَلَى هَذَا الدُّعَاءِ. قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: وَقَفَ رَجُلٌ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ حِينَ فَرَغَ مِنَ الْحَجِّ، فَقَالَ: الْحَمْدُ للَّهِ بِجَمِيعِ مَحَامِدِهِ كُلِّهَا مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، عَلَى جَمِيعِ نِعَمِهِ كُلِّهَا مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، لَدَى جَمِيعِ خَلْقِهِ كُلِّهِمْ مَا عَلِمْتُ مِنْهُمْ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ. ثُمَّ قَفَلَ إِلَى بَلَدِهِ فَحَجَّ مِنْ قَابِلٍ، فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَذَهَبَ يَقُولُ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، فَنُودِيَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَتْعَبْتَ الْحَفَظَةَ مِنْ عَامِ أَوَّلَ إِلَى الآنَ فَمَا فَرَغُوا مِمَّا قُلْتَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 بَابُ ذِكْرِ أَمَاكِنَ بِمَكَّةَ وَمَا وَالاهَا وَقَرُبَ مِنْهَا مِثْلُ الْحَجُونِ، وَالْمُحَصَّبِ، وَالْحِجَازِ، وَنَجْدَ ذَكَرَهَا الشُّعَرَاءُ فِي أَشْعَارِهِمْ فَأَطْرَبَ ذِكْرُهَا السَّامِعَ قَالَ بَعْضُهُمْ: قِفَا وَدِّعَا نَجْدًا وَمَنْ حَلَّ بِالْحِمَى ... وَقَلَّ لِنَجْدٍ عِنْدَنَا أَنْ يَوَدَّعَا وَلَيْسَ عَشِيَّاتُ الْحِمَى بِرَوَاجِعٍ ... عَلَيْكَ وَلَكِنْ خَلِّ عَيْنَيْكَ تَدْمَعَا وَأَذْكُرُ أَيَّامَ الْحِمَى ثُمَّ أَنْثَنِي ... عَلَى كَبِدِي مِنْ خَشْيَةِ أَنْ تَصَدَّعَا وَقَالَتِ امْرَأَةٌ: فَمَا وَجْدُ أَعْرَابِيَّةٍ قَذَفَتْ بِهَا صُرُوفُ ... النَّوَى مِنْ حَيْثُ لَمْ تَكُ ظَنَّتِ تَمَنَّتْ أَحَالِيبَ الرِّعَاءِ وَخَيْمَةً ... بِنَجْدٍ فَلَمْ يُقَدَّرْ لَهَا مَا تَمَنَّتِ إِذَا ذَكَرَتْ نَجْدًا وَطِيبَ تُرَابِهِ ... وَبَرْدَ حَصَاهُ آخِرَ اللَّيْلِ حَنَّتِ بِأَكْثَرَ مِنْ وَجْدِ بَرِيَا وَجَدْتُهُ ... غَدَاةَ غَدَتْ أَظْعَانُهُمْ فَاسْتَقَلَّتِ وَقَالَ جَمِيلٌ: أَلا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادِي الْقُرَى إِنِّي إِذًا لَسَعِيدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الأَنْبَارِيِّ: أَنْشَدَنِي أَبِي: هَيَّجَتْنِي إِلَى الْحَجُونِ شُجُونُ ... لَيْتَهُ قَدْ بَدَا لِعَيْنَيَّ الْحَجُونُ حَلَّ فِي الْقَلْبِ سَاكِنُوهُ مَحَلا ... مِنْ فُؤَادِي يَحِلُّ فِيهِ الْمَكِينُ كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَوَاءٌ ... وَدَاءُ الْحُبِّ دَاءٌ دَفِينُ لَيْتَ شِعْرِي عَمَّنْ أُحِبُّ يُمْسِي ... عِنْدَ ذُرًى لِمَا يَكُونُ أَكُونُ وَلِقَيْسٍ الْمَجْنُونِ: أَلا حَبَّذَا نَجْدٌ وَطِيبُ تُرَابِهِ ... وَأَرْوَاحُهُ إِنْ كَانَ نَجْدٌ عَلَى الْعَهْدِ أَلا لَيْتَ شِعْرِي عَنْ عَوَارِضَتِي قَنًا ... بِطُولِ اللَّيَالِي هَلْ تَغَيَّرَتَا بَعْدِي وَعَنْ جَارَتَيْنَا بِالأَثِيلِ إِلَى الْحِمَى ... عَلَى عَهْدِنَا أَمْ لَمْ تَدُومَا عَلَى الْعَهْدِ وَعَنْ أُقْحُوَانَ الرَّمْلِ مَا هُوَ صَانِعٌ ... إِذَا هُوَ يُثَوَّى لَيْلَةً بِثَرَى نَجْدِ وَقَالَ كَثِيرٌ: وَقَدْ حَلَّفْتُ نَجْدًا بِمَا نَحَرَتْ لَهُ ... قُرَيْشٌ غَدَاةَ الْمَأْزَمَيْنِ وَصَلَتْ وَكَانَتْ لِقَطْعِ الْحَبْلِ بَيْنِي وَبَيْنَهَا ... كَنَاذِرَةٍ نَذْرًا فَأَوْفَتْ وَحَلَّتْ فَقُلْتُ لَهَا يَا عَزُّ كُلُّ مُصِيبَةٍ ... إِذَا وَطَّنْتُ يَوْمًا لَهَا النَّفْسَ ذَلَّتْ وَلابْنِ الدُّمَيْنَةَ: أَلا يَا صَبَا نَجْدٍ مَتَى هِجْتَ مِنْ نَجْدِ ... لَقَدْ زَادَنِي مَسْرَاكَ وَجْدًا عَلَى وَجْدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 أَإِنْ هَتَفَتْ وَرْقَاءُ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى ... عَلَى فَنَنٍ غَضِّ النِّبَاقِ مِنَ الرَّنْدِ بَكَيْتَ كَمَا يَبْكِي الْوَلِيدُ وَلَمْ يَكُنْ جَلِيدًا ... وَأَبْدَيْتَ الَّذِي لَمْ تَكُنْ تُبْدِي وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الْمُحِبَّ إِذَا دَنَى ... يَمَلُّ وَأَنَّ النَّأْيَ يُشْفِي مِنَ الْوَجْدِ بِكُلٍّ تَدَاوَيْنَا فَلَمْ يُشْفَ مَا بِنَا ... عَلَى أَّنَّ قُرْبَ الدَّارِ خَيْرٌ مِنَ الْبُعْدِ وَلِلرَّضِيِّ: يَا قُلْبُ مَا أَنْتَ مِنْ نَجْدٍ وَسَاكِنِهِ ... خَلَّفْتَ نَجْدًا وَرَاءَ الْمُدْلَجِ السَّارِي أَهْفُو إِلَى الرَّكْبِ تَعْلُو لِي رَكَائِبُهُمْ ... مِنَ الْحِمَى فِي أُسَيْحَاقٍ وَأَطْمَارِ تَفُوحُ أَرْوَاحُ نَجْدٍ مِنْ ثِيَابِهِمْ ... عِنْدَ النُّزُولِ لِقُرْبِ الْعَهْدِ بِالدَّارِ يَا رَاكِبَانِ قِفَا لِي وَاقْضِيَا وَطَرِي ... وَخَبِّرَانِي عَنْ نَجْدٍ بِأَخْبَارِ هَلْ رُوِّضَتْ قَاعَةُ الْوَعْسَاءِ أَمْ مُطِرَتْ ... دَارِي وَسُمَّارُ ذَاكَ الْحَيِّ سُمَّارِي فَلَمْ يَزَالا إِلَى أَنْ نَمَّ بِي نَفْسِي ... وَحَدَّثَ الرَّكْبَ عَنِّي دَمْعِيَ الْجَارِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وَلَهُ: فَيَا بَانَتَيْ بَطْنِ الْعَقِيقِ سُقَيْتُمَا ... بِمَاءِ الْغَوَادِي بَعْدَ مَاءِ شُؤونِ أُحِبُّكُمَا وَالْمُسْتَجَنُّ بِطَيْبَةَ ... مَحَبَّةَ ذُخْرٍ بَاتَ عِنْدَ ضَنِينِ وَلابْنِ حَيُّوسٍ: أَسُكَّانُ نَعْمَانَ إِنَّ الأَرَاكَ تَيَقَّنُوا ... بِأَنَّكُمْ فِي رَبْعِ قَلْبِي سُكَّانُ وَدُومُوا عَلَى حُسْنِ الْوِدَادِ فَإِنَّنِي ... بُلِيتُ بِأَقْوَامٍ إِذَا حَفِظُوا خَانُوا سَلُوا اللَّيْلَ عَنِّي مُذْ نَأَتْ بِي دِيَارُكُمْ ... هَلِ اكْتَحَلَتْ بِالنَّوْمِ لِي فِيهِ أَجْفَانُ وَهَلْ جُرِّدَتْ أَسْيَافُ بَرْقِ دِيَارِكُمْ ... فَكَانَ لَهَا إِلا جُفُونِيَ أَجْفَانُ وَلِمِهْيَارٍ: وَإِذَا هَبَّتْ صَبَا أَرْضِكُمْ ... حَمَلَتْ تُرْبَ الْغَضَا بَانًا وَرِنْدَا لامَ فِي نَجْدٍ وَمَا اسْتَنْصَحْنَهُ ... بَابِلِيٌّ لا أَرَاهُ اللَّهُ نَجْدَا رُدَّ لِي يَوْمًا عَلَى وَادِي مِنًى ... إِنْ قَضَى اللَّهُ لأَمْرٍ فَاتَ رَدَّا عَجَبًا لِي كَيْفَ أَبْقَى بَعْدَهُمْ ... غَيْرَ أَنْ قَدْ خُلِقَ الإِنْسَانُ جَلْدَا وَلِمِهْيَارٍ: مِنْ نَاظِرٍ لِي بَيْنَ سَلْعٍ وَقِبَا ... كَيْفَ أَضَاءَ الْبَرْقُ أَمْ كَيْفَ خَبَا؟ نَبَّهَنِي وَمِيضُهُ وَلَمْ تَنَمْ ... عَيْنِي وَلَكِنْ رَدَّ عَقْلا عَزْبَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 قَرَّتْ لَهُ بَنَاتُ قَلْبِي خَافِقًا ... وَاسْتَبْرَدَتْهُ أَضْلُعِي مُلْتَهِبَا يَا لَبَعِيدٍ مِنْ مِنًى دَنَا بِهِ ... يُوهِمُنِي الصِّدْقَ بُرِيقٌ كَذِبَا وَلَنَسِيمُ سَحَرٍ بِحَاجِرٍ ... رَدَّتْ بِهِ عَهْدَ الصِّبَا رِيحُ الصَّبَا أُلَيَّةٌ، مَا فَتَحَ الْعَطَّارُ عَنْ ... أَعْبَقَ مِنْهُ نَفْسًا وَأَطْيَبَا سَلْ مَنْ يَدُلُّ النَّاشِدِينَ بِالْغَضَا ... عَلَى الطَّرِيدِ وَيَرُدُّ السَّلَبَا؟ أَرَاجِعٌ لِي؟ وَالْمُنَى هَلْهَلَةٌ ... فَطَالِعٌ نَجْمُ زَّمَانِ غَرْبَا وَطَوْفَةٌ بَيْنَ الْقِبَابِ بِمِنًى ... لا خَائِفًا عَيْنًا وَلا مُرْتَقِبَا وَلَهُ: يَا صَبَا نَجْدٍ وَيَا بَانَ الْغَضَا ... ارْفُقَا بِي فِي التَّثَنِّي وَالْهُبُوبِ وَاسْلَمَا، لا مِثْلَ مَا طَاحَ دَمِي ... مِنْكُمَا بَيْنَ نَسِيمٍ وَقَضِيبِ فَفُؤَادِي يَشْتَكِي جَوْرَ النَّوَى ... وَعِذَارِي يَشْتَكِي جَوْرَ الْمَشِيبِ أَلُقْيَكُمْ وَالْهَوَى يَقْدُمُ بِي ... وَأَغُضُّ الطَّرْفَ وَالدَّمْعُ يَشِي بِي لا يَكُنْ آخِرُ عَهْدِي بِكُمُ ... يَا وُلاةَ الْقَلْبِ لَيْلاتِ الْقَلِيبِ وَلَهُ: هَبَّتْ بِأَشْوَاقِكَ نَجْدِيَّةٌ ... مُطْمَعَةٌ، أَنْتَ لَهَا وَاجِبُ؟ مَا أَنْتَ يَا قَلْبِي وَأَهْلَ الْحِمَى ... وَإِنَّمَا هُمْ أَمْسَكَ الذَّاهِبُ فَأَرْدُدُ عَلَى الرِّيحِ أَحَادِيثَهَا ... فَفِي صِبَاهَا نَاقِلٌ كَاذِبُ وَدُونَ نَجْدٍ وَظِبَاءِ الْحِمَى ... أَنْ يُقْرَعَ الْمَنْسَمُ وَالْغَارِبُ وَلَهُ: وَبِجَرْعَاءِ الْحِمَى قَلْبِي فَعُجْ ... بِالْحِمَى وَاقْرَأْ عَلَى قَلْبِي السَّلامَا وَتَرَجَّلْ فَتَحَدَّثْ عَجَبًا ... إِنَّ قَلْبًا سَارَ عَنْ جِسْمٍ أَقَامَا قُلْ لِجِيرَانِ الْغَضَا: آهٍ عَلَى ... طِيبِ عَيْشٍ بِالْغَضَا لَوْ كَانَ دَامَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 حَمِّلُوا رِيحَ الصَّبَا نَشْرَكُمُ ... قَبْلَ أَنْ تَحْمِلَ شِيحًا وَثُمَامَا وَابْعَثُوا أَشْبَاحَكُمْ لِي فِي الْكَرَى ... إِنْ أَذِنْتُمْ لِجُفُونِي أَنْ تَنَامَا وَلَهُ: تَظُنُّ لَيَالِينَا عَوَّدَا ... عَلَى الْعَهْدِ مَنْ تُرَى تَهَمَّدَا وَيَا صَاحِبَيَّ، أَيْنَ وَجْهُ الصَّبَاحِ؟ ... وَأَيْنَ غَدٌ؟ صِفْ لِعَيْنِي غَدَا أَسَدُّوا مَسَارِحَ لَيْلِ الْغَرَامِ ... أَمْ صَبَغُوا فَجْرَهُ أَسْوَدَا وَخَلَّفَ الضُّلُوعَ زَفِيرُ أَبِي ... وَقَدْ بَرَّدَ اللَّيْلُ أَنْ يُبَرَّدَا خَلِيلَيَّ، لِي حَاجَةٌ مَا أَخَفَّ ... بِرَامَةٍ لَوْ حُمِّلَتْ مُسْعِدَا أُرِيدُ لأَكْتُمَ وَابْنُ الأَرَاكِ ... يَفْضَحُهَا كُلَّمَا غَرَّدَا أُحِبُّ وَإِنْ أَخْصَبَ الْحَاضِرُونَ ... بِبَادِيَةِ الرَّمْلِ أَنْ أَخْلُدَا أَرَى كَبِدِي قُسِمَتْ شُعْبَتَيْنِ ... مَعَ الشَّوْقِ غُوِّرَ أَوْ أَنْجُدَا وَلَهُ: يَا طَرَبًا لِنَفْحَةٍ نَجْدِيَّةٍ ... أَعْدِلُ حَرَّ الْقَلْبِ بِاسْتِبْرَادِهَا وَمَا الصَّبَا رِيحِي لَوْلا أَنَّهَا ... إِذَا جَرَّتْ مَرَّتْ عَلَى بِلادِهَا وَلَهُ: حَلَفْتُ بِالْمُقَصِّرِينَ ... رَكِبُوا فَأَوْجَفُوا لانُوا عَلَى الْعِيسِ ... وَخَافُوا فَوْتَهَا فَعَنَّفُوا رَجَوْا لأَثْقَالِ الذُّنُوبِ ... سَاعَةً تُخَفَّفُوا فَاسْتَنْفَدُوا جُهْدَهُمْ ... سَارِينَ حَتَّى وَقَفُوا فَلَثَمُوا وَمَسَحُوا ... وَجَمَّرُوا وَطَوَّفُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وَلَهُ: لَنَا مِنْ لَيْلِنَا بِلِوَى الصَّرِيمِ ... قِرَاعُ الْهَمِّ أَوْ عَدُّ النُّجُومِ فَإِنْ تَكُ صَاحِبًا وَعَزَمْتَ رُشْدًا ... غَدًا وَحَمَلْتَ شَطْرًا مِنْ هُمُومِي فَقُلْ لِمُلاعِبِ الْعَلَمَيْنِ سَيَرَى ... مَعَ الْحَيِّ الْمُقَوَّضِ أَوْ أُقِيمِي إِذَا عَرِيَ اللِّوَى مِنْ شَجْوِ قَلْبِي ... وَمِنْ طَرَبٍ أُصِيبَ بِهِ سَقِيمِي فَلا نَامَتْ بِحَاجِرَةَ عُيُونٌ ... وَلا بَصُرَتْ بِرَامَةَ أُمُّ رِيمِ وَلابْنِ الشِّبْلِ: مَنْ رَأَى الْبَرْقَ بِنَجْدٍ إِذْ تَرَاءَى ... أَسْلَبَ النَّوْمَ وَأَهْدَى الْبَرْحَاءَ فَاضَ فَيْضًا كَجُفُونِي مَاؤُهُ ... وَالْتَظَى وَهَنًا كَأَنْفَاسِي الْتِظَاءَ نَامَ سُمَّارُ الدُّجَى عَنْ سَاهِرٍ ... تَخَدُّ الْهَمَّ سَمِيرًا وَالْبُكَاءَ أَسْعَدَتْهُ أَدْمُعٌ تَفْضَحُهُ ... وَإِذَا مَا أَحْسَنَ الدَّمْعُ أَسَاءَ يَا خَلِيلَيَّ وَلَمْ أُشْعِرْكُمَا ... بِالْهَوَى حَتَّى تَبَيَّنْتُ الإِخَاءَ عَلِّلا قَلْبِي بِذِكْرَى قَاتِلِي ... رُبَّ دَاءٍ قَادَ لِلنَّفْسِ دَوَاءَ وَلأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْخَيَّاطِ: خُذَا مِنْ صَبَا نَجْدٍ أَمَانًا لِقَلْبِهِ ... فَقَدْ كَادَ رِيَّاهَا يَطِيرُ بِلُبِّهِ وَإِيَّاكُمَا ذَاكَ النَّسِيمُ فَإِنَّهُ ... مَتَى هَبَّ كَانَ الْوَجْدُ أَيْسَرَ خَطْبِهِ خَلِيلَيَّ لَوْ أَحْبَبْتُمَا لَعَلِمْتُمَا ... مَحَلَّ الْهَوَى مِنْ مُغْرَمِ الْقَلْبِ صَبِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وَلأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَارِعِ: خَلِيلَيَّ مُرَّا بِي عَلَى الرَّمْلِ فَاسْأَلا ... عَنِ الْحَيِّ بِالْجَرْعَا هَاتِيكُمَا الْكُثُبَا وَعُوجَا عَلَى وَادِي الأَرَاكِ فَحَيِّيَا ... هُنَالِكَ أَطْلالا رَدَدْتُ بِهَا الْقَلْبَا وَحُطَّا بِذَاكَ الشِّعْبِ رَحْلِي وَأَعْقِلا ... قُلُوصَكُمَا آلَيْتُ أَبْرَحُهُ شِعْبَا وَلا تُنْكِرَا لَثْمِي ثَرَاهُ فَإِنَّنِي ... بِهِ ذَاكِرٌ عَهْدًا فَمُسْتَلِمٌ تُرْبَا نَشَدْتُكُمَا أَنْ تَمْنَحَانِي وَقْفَةً ... أَبَلُّ بِهَا شَوْقِي وَأَقْضِي بِهَا نَحْبَا ! 217 أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: أَنْشَدَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ السَّرَّاجُ لِنَفْسِهِ: بَيْنَ الْحَطِيمِ وَزَمْزَمَ ... وَالرُّكْنِ وَالْحَجَرِ الْمُقَبَّلْ لِلْعَاشِقِينَ بَنَى الْهَوَى ... أَبَدًا مَصَارِعَ لَيْسَ تُجْهَلْ كَمْ بِالْمُحَصَّبِ مِنْ عَلِيلِ ... هَوًى طَرِيحٍ لا يُعَلَّلْ وَقَتِيلٍ بَيْنَ خَيْفِ مِنًى ... وَجَمْعٍ لَيْسَ يُعْقَلْ وَقَالَ آخَرُ: رَأَى الْبَرْقُ نَجْدِيًا فَحَنَّ إِلَى نَجْدٍ ... وَبَاتَ أَسِيرَ الشَّوْقِ فِي قَبْضَةِ الْبُعْدِ يُعَالِجُ قَلْبًا قَلَبَتْهُ يَدُ الْهَوَى ... عَلَى جَمْرَةِ التَّوْدِيعِ فِي لَهَبِ الْوَجْدِ وَلا مُسْعَدًا لانَ فَيَرْوَانَهُ ... يَقَدُّ شَغَافَ الْقَلْبِ مِنْهُ وَلا يُجْدِي وَمَا أَنْطَقَتْهُ الْبَارِقَاتُ تَشَوُّقًا ... لِنَجْدٍ وَلَكِنْ لِلْمُقِيمِينَ فِي نَجْدِ وَلابْنِ الْبَيَاضِيِّ: يَا لَيْلَتِي بِذَاتِ الشِّيحِ وَالضَّالِّ ... وَمَنْبَتِ الْبَانِ مِنْ نَعْمَانَ عُودَا لِي وَيَا مَرَاتِعَ أَطْلالٍ بِذِي سَلَمِ ... لَهْفِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ عَصْرِكِ الْخَالِي مَا لِي أُعَلِّلُ قَلْبِي بِالْوُقُوفِ عَلَى ... مَنَازِلَ أَقْفَرَتْ مِنْكُمْ وَأَطْلالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 وَلأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ الْخَفَاجِيِّ: أَتَظُنُّ الْوَرَقَ فِي الأَيْكِ تُغَنِّي ... إِنَّهَا تُضْمِرُ حُزْنًا مِثْلَ حُزْنِي لا أَرَاكَ اللَّهُ نَجْدًا بَعْدَهَا ... أَيُّهَا الْحَادِي بِهَا إِنْ لَمْ تُجِبْنِي هَلْ تُبَارِينِي إِلَى بَثِّ الْجَوَى ... فِي دِيَارِ الْحَيِّ نَشْوَى ذَاتُ غُصْنِ هَبْ لَهَا الشَّوْقَ وَلَكِنْ زَادَنَا ... أَنَّنَا نَبْكِي عَلَيْهَا وَتُغَنِّي يَا زَمَانَ الْخَيْفِ هَلْ مِنْ عَوْدَةٍ ... يَسْمَحُ الدَّهْرُ بِهَا مِنْ بَعْدِ ضَنِّ أَرَضِينَا بِثَنِيَّاتِ اللِّوَى ... عَنْ زَرُودٍ يَا لَهَا صَفْقَةُ غَبْنِ سَلْ أَرَاكَ الْجَزَعَ هَلْ جَادَتْ بِهِ ... مُزْنَةٌ رَوَتْ ثَرَاهُ غَيْرُ جَفْنِي وَأَحَادِيثُ الْغَضَا هَلْ عَلِمْتَ ... أَنَّهَا تَمْلِكُ قَلْبِي قَبْلَ أُذْنِي وَقَالَ السَّرِيُّ الرَّفَّاءُ: مَرَرْنَا بِالْعَقِيقِ فَمِنْ عَقِيقٍ ... تَرَقْرَقَ فِي مَحَاجِرِنَا فَذَابَا وَمِنْ مَغْنًى جَعَلْنَا الشَّوْقَ ... فِيهِ سُؤَالا وَالدُّمُوعَ لَهُ جَوَابَا وَقَالَ: تَذَكَّرَ نَجْدًا فَحَنَّ ادِّكَارًا ... وَأَرَّقَهُ الْبَرْقُ لِمَّا اسْتَنَارَا أَمَاتَتْ صَبَابَتُهُ صَبْرَهُ ... وَكَانَ يَرَى أَنْ يَمُوتَ اصْطِبَارَا وَجَارَ الْهَوَى فَاسْتَجَارَ الدُّمُوعَ ... إِذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا مُسْتَجَارَا وَلأَبِي الْحَسَنِ بْنِ طَاهِرٍ الْحَبَّارِ: إِلَيَّ أَنْ رَأَيْتُ بِالْكَثِيبِ رِيمَا ... يَرْتَادُ مِنْهُ الشِّيحَ وَالْقَيْصُومَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 تَجَدَّدَتْ لِي طَرْبَةٌ إِلَى الصِّبَا ... وَذَكَّرَتْنِي عَهْدَهُ الْقَدِيمَا وَوَكَلَتْنِي أَنْشُدُ الْبُرُوقَ عَنْ ... أَهْلِ الْحِمَى وَأَسْأَلُ الرُّسُومَا هَا إِنَّهَا مَنَازِلٌ تَعَوَّدَتْ ... مِنِّي إِذَا شَارَفْتُهَا التَّسْلِيمَا وَقَفْتُ فِيهَا سَالِمًا رَأْدَ الضُّحَى ... وَبِتُّ مِنْ وَجْدٍ بِهَا سَلِيمَا شَجَيَّةٌ عُذْرِيَّةٌ إِنَّ الْهَوَى ... الْعُذْرِيَّ لا يُفَارِقُ الْكَرِيمَا يَا نَفْحَةَ الشَّمَالِ مِنْ تِلْقَائِهَا ... رُدِّي عَلَى ذَلِكَ التَّسْلِيمَا يَا طَيْفَ مَنْ يَسْكُنُ بَطْنَ وَجْرِهِ ... وَكَيْفَ عَرَفْتَ الْجِسْرَ وَالْحَرِيمَا؟ إِنِّي اهْتَدَيْتُ بَابِلا وَأَنْتَ لا ... تَعْرِفُ إِلا رُجُوعَ الصَّرِيمَا نَمَتْ عَلَيْكَ نَفْحَةٌ نَجْدِيَّةٌ ... حَمَلَتْ مِنْ عَرَارِهَا شَمِيمَا زُرْتُ فَلَمْ تَمْنَعْ وَذَنْبُ مُقْلَتِي ... أَنَّ الْكَرَى يَعْتَادُهَا تَهْوِيمَا وَلأَبِي الْقَاسِمِ الْمُطَرِّزِ: ضَحَى كُلُّ عُذْرِي الْغَرَامَ عَنِ الْهَوَى ... وَأَنْتَ عَلَى حُكْمِ الصَّبَابَةِ نَازِلُ نَزَلْنَا إِلَى التَّوْدِيعِ مِنْ دَارَةَ الْحِمَى ... فَضَنَّتْ عَلَيْنَا بِالسَّلامِ الْمَنَازِلُ وَلأَبِي مَنْصُورِ بْنِ الْفَضْلِ: تَزَاوَرْنَ عَنْ أَذْرِعَاتٍ يَمِينًا ... نَوَاشِزُ لَسْنَ يُطِعْنَ الْبُرِينَا كَلَفْنَ بِنَجْدٍ كَأَنَّ الرِّيَاضَ ... أَخَذْنَ لِنَجْدٍ عَلَيْهَا يَمِينَا إِذَا جِئْتُمَا بَانَةَ الْوَادِيَيْنِ ... فَأَرْخُوا النُّسُوعَ وَحُلُّوا الْوَضِينَا فَثَمَّ عَلائِقُ مِنْ أَجْلِهَا ... مُلاءُ الدُّجَى وَالضُّحَى قَدْ طُوِينَا وَقَدْ أَنْبَأَتْهُمْ مِيَاهُ الْجُفُونِ ... أَنَّ بِقَلْبِكَ دَاءً دَفِينَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 وَلِي مِنْ قَصِيدَةٍ عَارَضْتُ بِهَا قَوْلَ ابْنِ الْفَضْلِ: إِذَا جُزْتَ بِالْغُورِ عَرِّجْ يَمِينًا ... فَقَدْ أَخَذَ الشَّوْقُ مِنَّا يَمِينَا وَسَلِّمْ عَلَى بَانه الْوَادِيَيْنِ ... فَإِنْ سَمِعْتَ أَوْشَكَتْ أَنْ تُبِينَا وَمِلْ نَحْوَ غُصْنٍ بِأَرْضٍ النَّقَا ... وَمَا تُشْبِهُ الأَيْكُ تِلْكَ الْغُصُونَا وَرَوِّ ثَرَى أَرْضِهِمْ بِالدُّمُوعِ ... وَخَلِّ الضُّلُوعَ عَلَى مَا طُوِينَا وَصِحْ فِي مَغَانِيهِمُ أَيْنَ هُمْ؟ ... وَهَيْهَاتَ أَمُّوا طَرِيقًا شَطُونَا أَرَاكَ يَشُوقُكَ وَادِي الأَرَاكِ ... ألدَّارُ تَبْكِي أَمُ السَّاكِنِينَا سَقَى اللَّهُ مَرْتَعَنَا بِالْحِمَى ... وَإِنْ كَانَ أَوْرَثَ دَاءً دَفِينَا وَعَاذِلَةٌ فَوْقَ دَاءِ الْمُحِبِّ ... رُوَيْدًا رُوَيْدًا بِنَا قَدْ بُلِينَا لِمَنْ تَعْذِلِينَ أَمَا تَعْذُرِينَ ... فَلَوْ قَدْ نَفَعْتِ دَفَعْتِ الأَنِينَا إِذَا غَلَبَ الْحُبُّ صَحَّ الْعِتَابُ ... تَعِبْتُ وَأَتْعَبْتُ لَوْ تَعْلَمِينَا وَلِي مِنْ قَصِيدَةٍ: عَرِّجُوا بِالرِّفَاقِ نَحْوَ الرَّكْبِ ... وَقِفُوا وَقْفَةً لأَنْشُدَ قَلْبِي وَخُذُوا لِي مِنَ النِّقَابِ لِمَاظًا ... أَوْرُدُّونِي إِلَى الْعُذَيْبِ وَحَسْبِي فَهُبُوبُ الرِّيَاحِ مِنْ أَرْضِ نَجْدٍ ... قُوتُ قَلْبِي وَحَبَّذَا مِنْ مَهَبِّ يَا نَسِيمَ الصَّبَا تَرَنَّمَ عَلَى الدَّوْحِ ... بِصَوْتٍ يُشْجِي وَإِنْ طَارَ لُبِّي مَنْ مُعِيدُ أَيَّامَنَا بِلِوَى الْجَزَعِ ... وَهَيْهَاتَ أَيْنَ مِنِّي صَحْبِي؟ يَا غُصُونَ النَّقَا سَأَسْقِيكِ دَمْعِي ... وَكَفُّ عَيْنِي يَكْفِي عُيُونَ السُّحُبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 وَلِي مِنْ قَصِيدَةٍ: عَثُرْتُ بِرِيحِكُمُ الصَّبَا سِحْرًا ... فَارْتَاحَ قَلْبِي الْمُدَنَّفُ الْحَرِضُ مَا لِي أَرَاكِ سَقِيمَةً بِهِمْ ... يَا رِيحُ عِنْدِي لا بِكِ الْمَرَضُ أَتْبَعْتُهَا نَفْسًا أُشَيِّعُهَا ... فَإِذَا جُرُوحُ الْقَلْبِ تُنْتَقَضُ قِفْ صَاحِبِي إِنْ كُنْتَ تُسْعِدُنِي ... عِنْدَ الْكَثِيبِ فَثَمَّ لِي غَرَضُ وَانْشُدْ فُؤَادِي عِنْدَ كَاظِمَةٍ ... فِي كُلِّ رَكْبٍ رَاحَ يَعْتَرِضُ فَرَضُوا عَلَى الأَجْفَانِ أَنْ لا ... تَلْتَقِي فَاصْبِرْ لِمَا فَرَضُوا كَيْفَ اصْطِبَارِي بَعْدَ فُرْقَتِهِمْ ... وَاشَدْهُ مَا عَنْهُمْ عِوَضُ وَلِي مِنْ قَصِيدَةٍ: وَدِّعُوا يَوْمَ النَّوَى وَاسْتَقِلُّوا ... لَيْتَ شِعْرِي بَعْدَهَا أَيْنَ حَلُّوا يَا نَسِيمَ الرِّيحِ بَلِّغْ إِلَيْهِمْ ... أَّنَّ عَقْدِي مَعَهُمْ لا يُحَلُّ لِي مِنَ الرِّيحِ الشَّمَالِ انْتِهَالٌ ... فَإِذَا هَبَّتْ سُحَيْرًا فَعَلُ عَرَّضُوا قَلْبِي لِسُقْمٍ طَوِيلٍ ... بَاطِنٍ يُظْهِرُ مِنْهُ الأَقَلُّ أَيُّهَا الرَّكْبُ إِنْ جُزْتَ عَرِّجْ ... فَعَلِيلُ الْغُورِ مَا يُسْتَبْلُ ثُمَّ إِيَّاكَ وَحَبْلَيْ زَرُودٍ ... فَدَمَ الْمَقْتُولُ ثَمَّ يُطَلُّ قَيَّدُوا الأَسْرَى فَلَمْ يُغْنِهِمْ ... بَعْدَهَا أَنْشَاطُ عَقْدٍ وَحِلُّ لَوْ بَكَتْ عَيْنِي عَلَى قَدْرِ وَجْدِي ... صَارَ وَادِيهِمْ دَمًا لا يَحِلُّ مَرِضَ الْقَلْبُ، زَرْوَدُ جَنَّتُهُ ... أَبِذَاكَ الرَّمْلِ يَا قَوْمِ صِلُّ؟ أَيَا عُرَيْبَ الْبَرِّ أَنْتُمْ حِمَاهُ ... فَلِمَاذَا جَارُكُمْ يُسْتَذَلُّ؟ وَلِي مِنْ قَصِيدَةٍ: قِفْ بِالرِّيَاضِ عَلَى الْغَدِيرْ ... وَانْدُبْ بِهَا نَدْبَ الأَسِيرْ ذَكِّرْ أَثِيلاتِ النَّقَا ... مَا كَانَ مِنْ عَيْشٍ قَصِيرْ وَأَفِضْ دُمُوعَكَ رُبَّمَا ... سَكَنَتْ بِهَا نَارُ السَّعِيرْ وَاحْبِسْ زَفِيرًا إِنْ بَدَا ... هَاجَ النَّبَاتُ مِنَ الزَّفِيرْ يَا بَانَةَ الْوَادِي أَنْعِمِي ... فِي مَوْطِنِ الرَّمْلِ الْوَثِيرْ وَتَمَايَلِي بِالْوَرَقِ تَشْدُو ... بِالْغِنَاءِ وَبِالزَّمِيرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 حَاشَاكِ مِنْ حَرِّ الْهَوَى ... وَسَلِمْتِ مِنْ عَيْشٍ مَرِيرْ أَيْنَ الَّذِينَ عَهِدْتُهُمْ ... بِفِنَائِكِ الرَّحْبِ الْغَزِيرْ للَّهِ أَيَّامًا مَضَتْ لانَتْ ... لَنَا لِينَ الْحَرِيرْ وَلِي مِنْ قَصِيدَةٍ: هَلْ عِنْدَ رَبْعٍ عَفَا خَبَرٌ مِنَ الْخَبَرِ ... مِنْ أَيْنَ يَعْلَمُ قَفْرٌ دَارَسُ الأَثَرِ وَقَفْتَ تَسْأَلُ وَرْدًا إِذْ وَرَدَّتْ بِهِ ... وَمَا شَفَيْتَ غَلِيلَ الصَّدْرِ فِي الصَّدْرِ دَعْ مَاءَ عَيْنِكَ وَاحْلُلْ مِنْ مَزَادَتِهِ ... فَإِنَّمَا خُلِقْتَ لِلدَّمْعِ وَالسَّهَرِ خَلَّفْتَ قَلْبَكَ فِي الأَظْعَانِ إِذْ نَزَلْتَ ... فِي الْمَأْزَمَيْنِ زَمَانَ النَّفْرِ فِي النَّفْرِ وَرُحْتَ تَطْلُبُ فِي أَرْضِ الْعِرَاقِ ضُحًى ... مَا ضَاعَ عِنْدَ مِنًى فَاعْجَبْ لِذَا الْخُورِ لَمَّا طَرَقْنَا النَّقَا كَانَ الْفُؤَادُ مَعِي ... فَضَلَّ عَنِّي بَيْنَ الضَّالِّ وَالسَّحَرِ يَا أَرْجُلَ الْعِيسِ تُهِنْكَ الرِّمَالُ فَمَا ... أَغْدُو بِوَجْدِي غَدًا إِلا عَلَى الأَبَرِ عَجِبْتُ مِنْ بَارِقٍ فِي الْحَيِّ أَزْعَجَنِي ... فَجَادَ جَفْنِي قَبْلَ الْغَيْمِ بِالْمَطَرِ قَصَايِدِي بَدَوِيَّاتٌ وَقَدْ نَزَلْتُ ... رِيفَ الْعِرَاقِ فَنَالَتْ رِقَّةَ الْحَضَرِ طَبْعُ الرِّضَى وَعِلْمُ الْمُرْتَضَى جُمِعَا ... مَعًا لِشِعْرِي وَفَحْوَاهُ إِلَى عُمَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وَلِي فِي أُخْرَى: يَا صَاحِبِي، إِنْ كُنْتَ لِي أَوْ مَعِي ... فَعُدْ إِلَى أَرْضِ الْحِمَى نَرْتَعْ وَسَلْ عَنِ الْوَادِي وَأَرْبَابِهِ ... وَانْشُدْ فُؤَادِي فِي رُبَى الْمَجْمَعْ حَيِّ كَثِيبَ الرَّمْلِ رَمْلِ الْحِمَى ... وَقِفْ وَسَلِّمْ لِي عَلَى لَعْلَعْ وَاسْمَعْ حَدِيثًا قَدْ رَوَتْهُ الصَّبَا ... تُسْنِدُهُ عَنْ بَانَةِ الأَجْرَعْ وَانْزِلْ عَلَى الشِّيحِ بِوَادِيهِمْ ... وَاشْمُمْ عُشَيْبَ الْبَلَدِ الْبَلْقَعْ عِيدٌ مَتَى كُنْتَ وَكَانَ الْهَوَى ... فَصَمَّ إِلا عَنْهُمُ مَسْمَعِي لَهْفِي عَلَى طِيبِ لَيَالٍ خَلَتْ ... عُودِي تَعُودِي مُدَنَّفًا قَدْ نُعِي وَلِي فِي أُخْرَى: تَمَلَّكُوا وَاحْتَكَمُوا ... وَصَارَ قَلْبِي لَهُمْ تَصَرَّفُوا فِي مُلْكِهِمْ ... فَلا يُقَالُ: ظَلَمُوا إِنْ وَصَلُوا مُحِبَّهُمْ ... أَوْ قَطَعُوا فَهُمُ هُمُ اصْبِرْ لِمَا شَاءُوا أَوْ ... أَنْ أَشَأَ الَّذِي قَدْ حَكَمُوا قَدْ أَوْدَعُوا سِرَّ فُؤَادِي ... حُبَّهُمُ وَاسْتَكْتَمُوا يَا أَرْضَ سَلْعٍ أَخْبِري ... وَحَدِّثِي عَنْهُمُ يَا لَيْتَ شِعْرِي إِذْ غَدَوْا ... أَأُنْجِدُوا أَمِ اتُّهِمُوا تَبْكِيهِمْ أَرْضُ مِنًى ... وَتَشْكِيهِمْ زَمْزَمُ مَا ضَرَّهُمْ حِينَ سَرَوْا ... لَوْ وَقَفُوا وَسَلَّمُوا يَشُوقُنِي وَادِيهِمُ ... وَضَالَّةٌ وَالسَّلَمُ وَلِي فِي أُخْرَى: إِلَى كَمْ أُسَائِلُ هَذِي الْمَغَانِي ... لَقَدْ نَطَقَتْ لَوْ فَهِمَتِ الْمَعَانِي أَمَا لَكَ شُغُلٌ بِمَا أَنْتَ فِيهِ ... مِنَ الْوَجْدِ عَنْ ذِكْرِ مَاضِي الزَّمَانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وَكَيْفَ وَوَجْدِي مِنْ ذَاكَ كَانَ ... أُعَانِي لِتْذَكَارِهِ مَا أُعَانِي قِفُوا بِي أُحَيِّ كَثِيبَ النَّقَا ... فَإِنَّ الْكَثِيبَ لِمَنْ تَعْلَمَانِ بَكَيْتُ لِمُرِّ زَمَانٍ مَضَى ... فَعَيْنِي السَّمَاكُ أَوِ الْمِرْزَمَانِ أَأَنْسَى لِرَاحَةِ عَهْدِ الْحِمَى ... دَعَانِي فَوَجْدِي بِهِ قَدْ دَعَانِي وَلِي فِي أُخْرَى: يَا رَفِيقَيَّ قِفَا لِي فَانْظُرُوا ... إِنَّ عَيْنِي لِدُمُوعِي لا تُرَى هَلْ خَبَتْ نَارُهُمُ أَوْ أُوقِدَتْ ... أَوْ جَرَى وَادِيهُمُ أَوْ أَقْفَرَا إِنَّ قَلْبِي فَاتَهُ شُرْبُ الْحِمَى ... فَهُوَ لا يَنْفَعُهُ أَنْ يُمْطَرَا آهٍ مِنْ طِيبِ لَيَالٍ سَلَفَتْ ... كَانَ كُلُّ الدَّهْرِ فِيهَا سَحَرَا أَتُرَى يَرْجِعُ لِي دَهْرٌ مَضَى ... أَمْ تُرَى يَنْفَعُنِي قَوْلِي: تُرَى؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 بَابُ قَبُولِ الْحَاجِّ قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الْحَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي طَالِبٍ الْعُشَارِيِّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحُصَيْنِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَكِّي، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ السَّرَّاجَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْمُوَفَّقِ، يَقُولُ: حَجَجْتُ نَيِّفًا وَخَمْسِينَ حَجَّةً، فَنَظَرْتُ فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ وَضَجِيجِ أَصْوَاتِهِمْ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ فِي هَؤُلاءِ أَحَدٌ لَمْ يُتَقَبَّلْ حَجُّهُ فَقَدْ وَهَبْتُ حَجَّتِي لَهُ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُزْدَلِفَةَ، فَبِتُّ بِهَا، فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ رَبَّ الْعِزَّةِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، لِي: يَا عَلِيُّ بْنَ الْمُوَفَّقِ، تُسَخِّي عَلَيَّ؟ قَدْ غَفَرْتُ لأَهْلِ الْمَوْقِفِ وَأَمْثَالِهِمْ، وَشَفَّعْتُ كُلَّ وَاحِدٍ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَعَشِيرَتِهِ، وَأَنَا {أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56] أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ، أَنْبَأنَا مَكِّيُّ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الْبَلْخِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ الْبَاقِي، يَقُولُ: سَمِعْتُ بَعْضَ مَشَايِخِنَا، يَقُولُ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمُوَفَّقِ: لَمَّا تَمَّ لِي سِتُّونَ حَجَّةً، خَرَجْتُ مِنَ الطَّوَافِ، وَجَلَسْتُ بِحِذَاءِ الْمِيزَابِ، وَجَعَلْتُ أُفَكِّرُ، لا أَدْرِي أَيُّ شَيْءٍ حَالِي عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ كَثُرَ تَرَدُّدِي إِلَى هَذَا الْمَكَانِ، فَغَلَبَتْنِي عَيْنِي، فَكَأَنَّ قَائِلا يَقُولُ لِي: يَا عَلِيُّ، أَتَدْعُو إِلَى بَيْتِكَ إِلا مَنْ تُحِبُّهُ؟ قَالَ: فَانْتَبَهْتُ وَقَدْ سُرِّيَ عَنِّي مَا كُنْتُ فِيهِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُوَفَّقِ، قَالَ: حَجَجْتُ فِي بَعْضِ السِّنِينَ فَنِمْتُ لَيْلَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 عَرَفَةَ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ، فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ قَدْ نَزَلا مِنَ السَّمَاءِ، فَنَادَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ. قَالَ: لَبَّيْكَ عَبْدَ اللَّهِ. فَقَالَ: تَدْرِي كَمْ حَجَّ بَيْتَ اللَّهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ؟ قَالَ: لا أَدْرِي. قَالَ: حَجَّ بَيْتَ رَبِّنَا سِتُّ مِائَةِ أَلْفٍ. فَتَدْرِي كَمْ قُبِلَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: لا. قَالَ: قُبِلَ مِنْهُمْ سِتَّةُ أَنْفُسٍ. قَالَ: ثُمَّ ارْتَفَعَا فِي الْهَوَاءِ فَغَابَا عَنِّي، فَانْتَبَهْتُ فَزِعًا وَاغْتَمَمْتُ غَمًّا شَدِيدًا، وَأَهَمَّنِي أَمْرِي، وَقُلْتُ: إِذَا قُبِلَ سِتَّةُ أَنْفُسٍ، فَأَيْنَ أَكُونُ أَنَا فِي سِتَّةِ أَنْفُسٍ؟ فَلَمَّا أَفَضْتُ مِنْ عَرَفَةَ وَبِتُّ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، جَعَلْتُ أُفَكِّرُ فِي كَثْرَةِ الْخَلْقِ وَفِي قِلَّةِ مَنْ قُبِلَ مِنْهُمْ، فَغَلَبَنِي النَّوْمُ، فَإِذَا الشَّخْصَانِ قَدْ نَزَلا عَلَى هَيْئَتِهِمَا، فَنَادَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، وَأَعَادَا ذَلِكَ الْكَلامَ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَفَتَدْرِي مَاذَا حَكَمَ رَبُّنَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَإِنَّهُ وَهَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السِّتَّةِ، مِائَةَ أَلْفٍ. فَانْتَبَهْتُ وَبِي مِنَ السُّرُورِ مَا يَجِلُّ عَنِ الْوَصْفِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 بَابُ ذِكْرِ مَنْ آثَرَ ذَا فَاقَةٍ بِنَفَقَةِ الْحَجِّ وَلَمْ يَحُجَّ فَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَلَكًا فَحَجَّ عَنْهُ قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ نَاصِرٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَقِيهِ، قَالَ: حَكَى لِي أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْهُذَلِيُّ، قَالَ: حَكَى لِي أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ سَمْعُونَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ، قَالَ: كَانَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ قَدْ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْحَجُّ، قَالَ: فَحَدَّثْتُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: وَرَدَ الْحَجِيجُ فِي بَعْضِ السِّنِينَ إِلَى بَغْدَادَ، فَعَزَمْتُ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُمْ إِلَى الْحَجِّ، فَأَخَذْتُ فِي كُمِّي خَمْسَ مِائَةِ دِينَارٍ، وَخَرَجْتُ إِلَى السُّوقِ أَشْتَرِي آلَةَ الْحَجِّ، فَبَيْنَمَا أَنَا فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ عَارَضَتْنِي امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: رَحِمَكَ اللَّهُ، أَنَا امْرَأَةٌ شَرِيفَةٌ وَلِي بَنَاتٌ عُرَاةٌ، وَلِلْيَوْمِ الرَّابِعِ مَا أَكَلْنَا شَيْئًا. قَالَ: فَوَقَعَ كَلامُهَا فِي قَلْبِي، فَطَرَحْتُ الْخَمْسَ مِائَةِ دِينَارٍ فِي طَرَفِ إِزَارِهَا، وَقُلْتُ: عُودِي إِلَى بَيْتِكِ، وَاسْتَعِينِي بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ عَلَى وَقْتِكِ، وَانْصَرَفَتْ، وَنَزَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَلْبِي حَلاوَةَ الْخُرُوجِ فِي تِلْكَ السنة، وَخَرَجَ النَّاسُ وَحَجُّوا وَعَادُوا، فَقُلْتُ: أَخْرُجُ لِلِقَاءِ الأَصْدِقَاءِ وَالسَّلامِ، فَخَرَجْتُ، فَجَعَلْتَ كُلَّمَا لَقِيتُ صَدِيقًا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: قَبِلَ اللَّهُ حَجَّكَ وَشَكَرَ سَعْيَكَ، يَقُولُ لِي: وَأَنْتَ، قَبِلَ اللَّهُ حَجَّكَ وَشَكَرَ سَعْيَكَ. فَطَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَنْ كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لِي: «يَا فُلانُ لا تَعْجَبْ مِنْ تَهْنِئَةِ النَّاسِ لَكَ بِالْحَجِّ، أَغَثْتَ مَلْهُوفًا، وَأَعَنْتَ ضَعِيفًا، فَسَأَلْتُ اللَّهَ تَعَالَى فَخَلَقَ عَلَى صُورَتِكَ مَلَكًا فَهُوَ يَحُجُّ عَنْكَ فِي كُلِّ عَامٍ، فَإِنْ شِئْتَ حُجَّ، وَإِنْ شِئْتَ لا تَحُجُّ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 وَقَدْ رَوَى نَحْوَ هَذِهِ الْحِكَايَةَ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ نَفْسِهِ، أَبُو سَعِيدِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ الْوَاعِظُ بِإِسْنَادٍ لَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ دَخَلَ الْكُوفَةَ وَهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ، فَإِذَا بِامْرَأَةٍ جَالِسَةٍ عَلَى مَزْبَلَةٍ تَنْتُفُ بَطَّةً، فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهَا مَيْتَةٌ، فَوَقَفَ وَقَالَ: يَا هَذِهِ، أَهَذِهِ مَيْتَةٌ أَوْ مَذْبُوحَةٌ؟ فَقَالَتْ: مَيْتَةٌ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ آكُلَهَا وَعِيَالِي. فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ حرَّمَ الْمَيْتَةَ، وَأَنْتِ فِي هَذِهِ الْبَلَدِ. فَقَالَتْ: يَا هَذَا انْصَرِفْ عَنِّي. فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُهَا الْكَلامَ إِلَى أَنْ تَعَرَّفَ مَنْزِلَهَا، ثُمَّ انْصَرَفَ فَحَمَلَ مَعَهُ بَغْلا عَلَيْهِ نَفَقَةٌ وَكِسْوَةٌ وَزَادٌ، وَجَاءَ فَطَرَقَ الْبَابَ، فَفَتَحَتَ، فَنَزَلَ عَنِ الْبَغْلِ وَجَذَبَهُ فَدَخَلَ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَرْأَةِ: هَذَا الْبَغْلُ وَمَا عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَالزَّادِ لَكُمْ. ثُمَّ أَقَامَ حَتَّى رَجَعَ الْحَاجُّ، فَجَاءَهُ قَوْمٌ يُهَنِّئُونَهُ بِالْحَجِّ، فَقَالَ: مَا حَجَجْتُ السَّنَةَ. فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ، أَلَمْ أُودِعْكَ نَفَقَتِي فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ الآخَرُ: أَلَمْ تَشْتَرِ لِي كَذَا. فَقَالَ: لا أَدْرِي مَا تَقُولُونَ، أَمَّا أَنَا فَلَمْ أَحُجَّ الْعَامَ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أُتِيَ فِي مَنَامِهِ، فَقِيلَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ، إِنَّ اللَّهَ جَلَّ جَلالُهُ قَدْ قَبِلَ صَدَقَتَكَ، وَإِنَّهُ بَعَثَ مَلَكًا عَلَى صُورَتِكَ فَحَجَّ عَنْكَ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنْ نَوَى الْحَجَّ وَمَعَهُ ثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَعَرَضَتْ لَهُ ذَاتَ يَوْمٍ حَاجَةٌ، فَبَعَثَ وَلَدَهُ إِلَى بَعْضِ جَيرَانِهِ، فَرَجَعَ الْوَلَدُ يَبْكِي، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا بُنَيَّ؟ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى جَارِنَا وَعِنْدَهُمْ طَبِيخٌ فَاشْتَهَيْتُهُ فَلَمْ يُطْعِمُونِي، فَذَهَبَ الرَّجُلُ إِلَى جَارِهِ يُعَاتِبُهُ عَلَى مَا فَعَلَ، فَبَكَى الْجَارُ، وَقَالَ: قَدْ أَلْجَأْتَنِي إِلَى كَشْفِ حَالِي، إِنَّا مُنْذُ خَمْسَةِ أَيَّامٍ لَمْ نَطْعَمْ، فَطَبَخْنَا مَيْتَةً وَأَكَلْنَا، وَعَلِمْتُ أَنَّ وَلَدَكَ يَجِدُ مَالا لا يَحِلُّ مَعَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةَ، فَتَعَجَّبَ الرَّجُلُ، وَقَالَ لِنَفْسِهِ: كَيْفَ النَّجَاةُ وَفِي جِوَارِكَ مِثْلُ هَذَا، وَأَنْتَ تَتَأَهَّبُ لِلْحَجِّ؟ فَرَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ وَأَعْطَاهُ الثَّمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا كَانَ عَشِيَّةُ عَرَفَةَ أُرِي ذَا النُّونِ الْمِصْرِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَنَامِهِ وَهُوَ بِعَرَفَاتٍ كَأَنَ قَائِلا يَقُولُ: يَا ذَا النُّونِ تَرَى هَذَا الزِّحَامَ عَلَى هَذَا الْمَوْقِفِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَا حَجَّ مِنْهُمْ إِلا رَجُلٌ تَخَلَّفَ عَنِ الْوُقُوفِ فَحَجَّ بِهَمِّهِ، فَوَهَبَ اللَّهُ لَهُ أَهْلَ الْمَوْقِفِ. قَالَ ذُو النُّونِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 مَنْ هُوَ؟ قِيلَ لَهُ: رَجُلٌ يَسْكُنُ دِمَشْقَ، فَذَهَبَ ذُو النُّونِ إِلَى دِمَشْقَ، وَبَحَثَ عَنْهُ حَتَّى عَرَفَهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 أَبْوَابٌ ذِكْرُ كُبَرَاءِ الْحَجِّ وَسَادَاتِهِمْ بَابٌ ذِكْرُ حَجِّ الْمَلائِكَةِ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَلائِكَةَ لَقَتْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بَعْدَ حَجِّهِ، فَقَالُوا: لَقَدْ حَجَجْنَا هَذَا الْبَيْتَ قَبْلَكَ بِأَلْفَيْ عَامٍ. قَالَ: فَمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ حَوْلَهُ؟ قَالُوا: كُنَّا نَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ. فَكَانَ آدَمُ يَقُولُهَا فِي طَوَافِهِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ عِصَابَةٌ حَمْرَاءُ قَدْ عَلاهَا الْغُبَارُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هَذَا الْغُبَارُ الَّذِي أَرَى؟» قَالَ: إِنِّي زرْتُ الْبَيْتَ فَازْدَحَمَتِ الْمَلائِكَةُ عَلَى الرُّكْنِ، فَهَذَا الْغُبَارُ مِمَّا تُثِيرُ بِأَجْنِحَتِهَا. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: بَلَغَنِي أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ مَلَكًا لِبَعْضِ أُمُورِهِ فِي الأَرْضِ، اسْتَأْذَنَهُ ذَلِكَ الْمَلَكُ فِي الطَّوَافِ بِبَيْتِهِ، فَهَبَطَ ذَلِكَ الْمَلَكُ مُهِلا. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَرَأْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الأُولَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَلَكٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى الأَرْضِ إِلا أَمَرَهُ بِزِيَارَةِ الْبَيْتِ، فَيَنْقَضُّ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ مُلَبِّيًا حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ، ثُمَّ يَطُوفُ سَبْعًا بِالْبَيْتِ، وَيَرْكَعُ فِي جَوْفِهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَصْعَدُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 أَنْبَأنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَنْبَأنَا إِسْمَاعِيلُ النَّصْرَآبَادِيُّ، أَنْبَأنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَمْرٍو، أَنْبَأنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الصَّنْعَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مَلَكًا وَلا سَحَابَةً فَتَمُرُّ حَيْثَ تُبْعَثُ حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ تَمْضِي حَيْثُ أُمِرَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 بَابٌ ذِكْرُ حَجِّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِنَا هَذَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ وَبِالطَّوَافِ حَوْلَهُ. وَرَوَى عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى آدَمَ أَنِ ابْنِ لِي بَيْتًا، فَأَقْبَلَ يَتَخَطَّى فَطُوِيَتْ لَهُ الأَرْضُ، وَلَمْ يَقَعْ قَدَمٌ عَلَى شَيْءٍ إِلا صَارَ عُمْرَانًا حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَّةَ فَبَنَى الْبَيْتَ، وَطَافَ بِهِ وَصَلَّى فِيهِ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ نَزَلَ بِالْهِنْدِ، فَحَجَّ مِنَ الْهِنْدِ أَرْبَعِينَ حَجَّةً عَلَى رِجْلَيْهِ، فَقِيلَ لِمُجَاهِدٍ: هَلا كَانَ يَرْكَبُ؟ قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ كَانَ يَحْمِلُهُ؟ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أُهْبِطَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ، ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْحَجَرُ وَهُوَ يَتَلألأُ مِنْ شِدَّةِ بَيَاضِهِ، فَضَمَّهُ أُنْسًا بِهِ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ: تَخَطَّ فَإِذَا هُوَ بِالْهِنْدِ، فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَوْحَشَ إِلَى الرُّكْنِ، فَقِيلَ لَهُ: احْجُجْ، فَحَجَّ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَنْبَأنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْهَمْدَانِيُّ، أَنْبَأنَا الدَّارَقُطْنِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ طَالِبٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرُ الرَّافِعِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمِنْهَالِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ قَسِيمٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا أَهْبَطَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ إِلَى الأَرْضِ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سِرِّي وَعَلانِيَتِي، فَاقْبَلْ مَعْذِرَتِي، وَتَعْلَمُ حَاجَتِي فَاعْطِنِي سُؤْلِي، وَتَعْلَمُ مَا عِنْدِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، أَسْأَلُكَ إِيمَانًا يُبَاشِرُ قَلْبِي، وَيَقِينًا صَادِقًا حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَنِي إِلا مَا كَتَبْتَ لِي، وَرَضِّنِي بِمَا قَسَمْتَ لِي. فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ: يَا آدَمُ إِنَّكَ قَدْ دَعَوْتَنِي دُعَاءً اسْتَجَبْتُ لَكَ فِيهِ، وَلَنْ يَدْعُوَنِي أَحَدٌ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ إِلا اسْتَجَبْتُ لَهُ، وَغَفْرَتُ لَهُ ذَنْبَهُ، وَفَرَّجْتُ هَمَّهُ، وَاتَّجَرْتُ لَهُ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تَاجِرٍ، وَأَتْتَهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَإِنْ كَانَ لا يُرِيدُهَا ". قَسِيمٌ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَفْتُوحُ الْقَافِ مَكْسُورُ السِّينِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 بَابٌ ذِكْرُ حَجِّ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: بَلَغَنِي أَنَّ الْبَيْتَ وُضِعَ لآدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَطُوفُ بِهِ، وَأَنَّ نُوحًا قَدْ حَجَّهُ، وَجَاءَهُ وَعَظَّمَهُ قَبْلَ الْغَرَقِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَجَّ إِبْرَاهِيمُ، وَإِسْمَاعِيلُ مَاشِيَيْنِ، وَحَجَّ مُوسَى عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ وَعَلَيْهِ عَبَاءَتَانَ قَطَوَانِيَّتَانِ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُلَبِّي سَمِعَ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ وَهُوَ يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَبْدِي أَنَا مَعَكَ، فَخَرَّ مُوسَى سَاجِدًا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ضَمْرَةَ: بَيْنَ الرُّكْنِ إِلَى الْمَقَامِ إِلَى زَمْزَمَ إِلَى الْحِجْرِ قُبُورُ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ نَبِيًّا، جَاءُوا حُجَّاجًا فَقُبِرُوا هُنَالِكَ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيًّا بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ إِلا وَقَدْ حَجَّ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ مَرَّ بِوَادِي الأَزْرَقِ، فَقَالَ: «أَيُّ وَادٍ هَذَا؟» قَالُوا: وَادِي الأَزْرَقِ. قَالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالتَّلْبِيَةِ» ، ثُمَّ أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَى، فَقَالَ: «أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟» قَالُوا: ثَنِيَّةُ هَرْشَى. قَالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى عَلَى نَاقَةٍ جَعْدَةٍ عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، خِطَامُ نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 مُلَبِّيًا» . الْخُلْبَةُ: اللِّيفُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: " لَقَدْ مَرَّ بِهَذَا الْفَجِّ سَبْعُونَ نَبِيًّا لُبُوسُهُمُ الْعَبَاءُ، وَتَلْبِيَتُهُمْ شَتَّى، فِيهِمْ يُونُسُ يَقُولُ: لَبَّيْكَ فَرَّاجَ الْكَرْبِ لَبَّيْكَ، وَكَانَ مُوسَى يَقُولُ: لَبَّيْكَ أَنَا عَبْدُكَ لَبَّيْكَ، قَالَ: وَتَلْبِيَةُ عِيسَى: لَبَّيْكَ أَنَا عَبْدُكَ ابْنُ أَمَتِكَ بِنْتِ عَبْدِكَ ". وَرَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ أَبِيهِ، عَنِ جَدِّهِ، قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ الرَّوْحَاءِ، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سَجَاسِجُ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ الْجَنَّةِ، لَقَدْ صَلَّى فِي هَذَا الْمَسْجِدِ قَبْلِي سَبْعُوَنَ نَبِيًّا، وَلَقَدْ مَرَّ بِهِ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا بِسَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، عَلَى نَاقَةٍ وَرْقَاءَ عَلَيْهِ عَبَاءَتَانَ قَطَوَانِيَّتَانِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 بَابٌ ذِكْرُ حَجِّ الْحَوَارِيِّينَ أَنْبَأنَا الْحَرِيرِيُّ، عَنِ الْعُشَارِيِّ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ الْهَاشِمِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا الأَزْرَقِيُّ، حَدَّثَنِي جَدِّي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُوقَةَ، عِنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَالَ: «حَجَّ الْحَوَارِيُّونَ فَلَمَّا دَخَلُوا الْحَرَمَ مَشَوْا تَعْظِيَمًا لِلْحَرَمِ» بَابٌ ذِكْرُ حَجِّ أَصْحَابِ الْكَهْفِ رَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَطَّافِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: يحج عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ إِذَا نَزَلَ فِي سَبْعِينَ أَلْفًا فِيهِمْ أَصْحَابُ الْكَهْفِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَمُوتُوا وَلَمْ يَحُجُّوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 بَابٌ ذِكْرُ حَجِّ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا حَجَّ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا سُمِيَتْ حَجَّةُ الْوَدَاعِ لأَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ وَوَدَّعَهُمْ، فَقَالُوا: هَذِهِ حَجَّةُ الْوَدَاعِ. فَأَمَّا قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَإِنَّهُ قَدْ حَجَّ بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَقَبْلَهَا حِجَجًا لا يُعْرَفُ عَدَدُهَا، وَمَنْ يَقُولُ: حَجَّ حَجَّتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ فَلَعَلَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا بَعْدَ النُّبُوَّةِ. وَأَمَّا اعْتِمَارُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ» . فَأَمَّا الإِشَارَةُ إِلَى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي أَفْرَادِهِ، مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: " مَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ، ثُمَّ أُذِّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجٌّ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ، كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ رَكَبَ الْقَصْوَاءَ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ، أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنِّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ، حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ، اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، وَرَمَلَ ثَلاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] ، فَجَعَلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقَرَأَ فِيهِمَا بِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَقُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا فَقَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] ، نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، فَبَدَأَ بِالصَّفَا، فَرَقَى عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللَّهَ، وَكَبَّرَهُ، وَقَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، قَالَه ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ، حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فَي الْوَادِي رَمَلَ، حَتَّى إِذَا صَعِدَ مَشَى، حَتَّى إِذَا أَتَى الْمَرْوَةَ فَصَنَعَ عَلَى الْمَرْوَةِ مَا صَنَعَ عَلَى الصَّفَا، حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافٍ عَلَى الْمَرْوَةِ، قَالَ: لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، لَمْ أسُقِ الْهَدْيَ، وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُحِلَّ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً ". قَالَ: «وَلَمَّا أَتَى عَرَفَةَ وَزَاغَتِ الشَّمْسُ خَطَبَ النَّاسَ، وَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا بِالْمَوْقِفِ حَتَّى غَرُبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، وَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعَشَاءِ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَصَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، وَلَمْ يَزَلْ وَاقَفًا حَتَّى أَسْفَرَ جَدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ، فَحَرَّكَ قَلِيلا حَتَّى الْجَمْرَةِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ، فَنَحَرَ ثَلاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ، ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبُضْعَةٍ، فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ، فَطُبِخَتْ، فَأَكَلَ مِنْ لَحْمِهَا، وَشَرَبَ مِنْ مَرَقِهَا، ثُمَّ رَكِبَ فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ» . أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، وَعَلَيُّ بْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالا: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَيُّوبَ، أَنْبَأنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّيْسَابُورِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بَسْطَامٍ، حَدَّثَنَا أَبُو قُدَامَةَ الضَّبِيُّ يَحْيَى بْنُ أَبِي الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَاقَتِهِ الْجَدْعَاءِ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمَحْجَنِهِ، ثُمَّ يَعْطِفُ الْمِحْجَنَ وَيُقَبِّلُهُ، حَتَّى فَرَغَ مِنْ سَبْعَةٍ، ثُمَّ أَنَاخَهَا عِنْدَ الْمَقَامِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَابَ الصَّفَا» ، قَالَ: وَأَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ، فَجَعَلَ يَرْجِزُ: يَا حَبَّذَا مَكَّةُ مِنْ وَادِي ... بِهَا أَهْلِي وَعُوَّادِي بِهَا أَمْشِي بِلا هَادِي ... بِهَا تَرْسَخُ أَوْتَادِي وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُوَمٍ حَتَّى فَرَغَ مِنْ سَعْيِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 أَبْوَابٌ ذِكْرُ حَجِّ الْخُلَفَاءِ وَبَعْضُ مَا جَرَى لَهُمْ مِنَ الطُّرَفِ بَابُ ذِكْرِ حَجِّ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، أَنْبَأنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ، أَنْبَأنَا ابْنُ حَيُّوَيْهِ، أَنْبَأنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهْمِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنْ أَشْيَاخِهِ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ، فَحَجَّ بِالنَّاسِ، ثُمَّ اعْتَمَرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، فَدَخَلَ مَكَّةَ ضَحْوَةً، فَأَتَى مَنْزِلَهُ وَأَبُوهُ أَبُو قُحَافَةَ جَالِسٌ عَلَى بَابَ دَارِهِ، فَقِيلَ لَهُ: هَذَا ابْنُكَ، فَنَهَضَ قَائِمًا، وَعَجِلَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يُنِيخَ رَاحِلَتَهُ، فَنَزَلَ عَنْهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا أَبَهْ لا تَقُمْ، فَالْتَزَمَهُ وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْ أَبِي قُحَافَةَ، وَجَعَلَ الشَّيْخُ يَبْكِي فَرَحًا بِقُدُوَمِهِ. وَجَاءَ أَهْلُ مَكَّةَ، وَعَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ، وسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ: سَلامٌ عَلَيْكَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، وَصَافَحُوهُ جَمِيعًا، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَبْكِي حِينَ يَذْكُرُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ سَلَّمُوا عَلَى أَبِي قُحَافَةَ، فَقَالَ أَبُو قُحَافَةَ: يَا عَتِيقُ، هَؤُلاءِ الْمَلأُ، فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمْ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا أَبَهْ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهَ، طُوِّقْتُ عَظِيمًا مِنَ الأَمْرِ لا قُوَّةَ لِي بِهِ وَلا يَدَانِ إِلا بِاللَّهِ، ثُمَّ دَخَلَ فَاغْتَسَلَ، وَخَرَجَ وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ فَنَحَّاهُمْ، وَلَقِيَهُ النَّاسُ يُعَزُّونُهُ بِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَبْكِي، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَيْتِ فَاضْطَبَعَ بِرِدَائَهَ، ثُمَّ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ طَافَ سَبْعًا، وَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَلَمَّا كَانَ الظُّهْرُ خَرَجَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ جَلَسَ قَرِيبًا مِنْ دَارِ النَّدْوَةِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 فَقَالَ: هَلْ مِنْ وَاحَدٍ يَشْتَكِي مَنْ ظُلامِهِ؟ أَوْ يَطْلُبُ حَقًّا؟ فَمَا أَتَاهُ أَحَدٌ. وَأَثْنَى النَّاسُ عَلَى وَالِيهِمْ خَيْرًا، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ، وَجَلَسَ، فَوَدَّعَهُ النَّاسُ، ثُمَّ خَرَجَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ. فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْحَجِّ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ بِالنَّاسِ تِلْكَ السَّنَةِ، وَأَفْرَدَ الْحَجَّ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 بَابُ ذِكْرِ حَجِّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، أَنْبَأنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ، أَنْبَأنَا ابْنُ حَيُّوَيْهِ، أَنْبَأنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْفَهْمِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَشْيَاخٍ لَهُ قَالُوا: اسْتَعْمَلَ عُمَرُ أَوَّلَ سَنَةٍ وَلِيَ عَلَى الْحَجِّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَحَجَّ بِالنَّاسِ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عُمَرُ يَحُجُّ بِالنَّاسِ خِلافَتَهُ كُلَّهَا، فَحَجَّ بِهِمْ عَشْرَ سِنِينَ، وَحَجَّ بِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِضَي اللَّهُ عَنْهُنَّ فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا، وَاعْتَمَرَ فِي خِلافَتِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَجَجْتُ مَعَ عُمَرَ إِحْدَى عَشَرَ حَجَّةً. وَدَخَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي بَعْضِ حَجَّهِ عَلَى نَافَعِ بْنِ الْحَارِثِ يَعُودُهُ، فَوَجَدَهُ قَرِيبَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، وَفِي بَيْتِهِ سِتْرٌ مِنْ أُدْمٍ مُزَيَّنٍ بِسُيُورٍ، فَأَخَذَهُ عُمَرُ فَشَقَّهُ، وَقَالَ: لِمَ لا تَسْتُرُوا بُيُوتَكُمْ بِهَذِهِ الْمُسُوحِ، فَهِيَ أَدْفَأُ وَأَكَنُّ وَأَحْمَلُ لِلْغُبَارِ؟ . وَأَذَّنَ لَهُ أَبُو مَحْذُورَةَ بِصَوْتٍ شَدِيدٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا مَحْذُورَةَ، أَمَا خَشِيتَ أَنْ تَنْشَقَّ مُرَيْطَاؤُكَ؟ قَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُسْمِعَكَ صَوْتِي. وَمَرَّ عُمَرُ بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، فَرَأَى أَحْجَارًا قَدْ بَنَاهَا أَبُو سُفْيَانَ كَالدُّكَّانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 فِي وَجْهِ دَارِهِ، يَجْلِسُ عَلَيْهَا فِي الْغَدَاةِ، فَقَالَ عُمَرُ: لا أَرْجِعَنَّ مِنْ وَجْهِي هَذَا حَتَّى تَنْقُلَهُ، وَتَرْفَعَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ عُمَرُ وَجَدَهُ عَلَى حَالِهِ، فَقَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ؟ فَقَالَ: انْتَظَرْتُ أَنْ يَأْتِيَنَا بَعْضُ أَهْلِ مِهْنَتِنَا. فَقَالَ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَقْلَعَنَّهُ بِيَدِكَ، وَلَتَنْقُلَنَّهُ عَلَى عَاتِقِكَ، فَلَمْ يُرَاجِعْهُ وَفَعَلَ ذَلِكَ. فَقَالَ عُمَرُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعَزَّ الإِسْلامَ بِرَجُلٍ مِنْ عَدِيٍّ يَأْمُرُ أَبَا سُفْيَانَ سَيِّدَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ بِمَكَّةَ فَيُطِيعُهُ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، أَنْبَأنَا الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ حَيُّوَيْهِ، أَنْبَأنَا ابْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْفَهْمِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، أَنْبَأنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَّيِّبِ: " أَنَّ عُمَرَ لَمَّا أَفَاضَ مِنْ مِنًى أَنَاخَ بِالأَبْطَحِ، وَكَوَّمَ كَوْمَةً مِنْ بَطْحَاءَ فَطَرَحَ عَلَيْهَا طَرَفَ ثَوْبِهِ، ثُمَّ اسْتَلْقَى عَلَيْهَا، وَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ كَبُرَتْ سِنِّي، وَضَعُفَتْ قُوَّتِي، وَانْتَشَرَتْ رَعِيَّتِي، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مُضَيِّعٍ وَلا مُفَرِّطٍ» . فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ خَطَبَ النَّاسَ. قَالَ سَعِيدٌ: فَمَا انْسَلَخَ ذُو الْحِجَّةِ حَتَّى طُعِنَ وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لَمَّا كَانَ آخِرُ حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ، حَجَّ بِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَرَرْتُ بِالْمُحَصَّبِ، فَسَمِعْتُ رَجُلا عَلَى رَاحِلَتِهِ يَقُولُ: أَيْنَ كَانَ مَنَاخُ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَسَمِعْتُ رَجُلا آخَرَ يَقُولُ: هَاهُنَا كَانَ. فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، ثُمَّ رَفَعَ عَقِيرَتَهُ فَقَالَ: عَلَيْكَ سَلامٌ مِنْ أَمِيرٍ وَبَارَكَتْ ... يَدُ اللَّهِ فِي ذَاكَ الأَدِيمِ الْمُمَزَّقِ فَمَنْ يَسْعَ أَوْ يَرْكَبُ جَنَاحَيْ نَعَامَةٍ ... لِيُدْرِكَ مَا قَدَّمْتَ بِالأَمْسِ يَسْبِقِ قَضَيْتَ أُمُورًا ثُمَّ غَادَرْتَ بَعْدَهَا ... بَوَائِجَ فِي أَكْمَامِهَا لَمْ تُفْتَقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 فَلَمْ يَدْرِ ذَاكَ الرَّاكِبُ مَنْ هُوَ، فَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ. فَقَدِمَ عُمَرُ مِنْ تِلْكَ الْحَجَّةِ فَطُعِنَ بِهَا فَمَاتَ. بَابُ ذِكْرِ حَجِّ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: قَرَأَ عَلَى أَبِي مَعْشَرٍ، قَالَ: بُويِعَ عُثْمَانُ فَأَمَّرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، وَحَجَّ عُثْمَانُ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَحُجُّ إِلَى سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَلاثِينَ، ثُمَّ حُصِرَ فِي دَارِهِ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانَ أَعْلَمَهُمْ بِالْمَنَاسِكِ عُثْمَانُ، وَبَعْدَهُ ابْنُ عُمَرَ بَابُ ذِكْرِ حَجِّ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَمَّا حَجُّ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبْلَ وِلايَتِهِ فَلا يُضْبَطُ عَدَدُهُ، وَأَمَّا فِي وِلايَتِهِ فَإِنَّهُ وَلِيَ الْخِلافَةَ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا، وَكَانَتْ وِلايَتَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَجِّ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلاثِينَ؛ لأَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُتِلَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِثَمَانِ عَشَرَ خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَكَانَتْ وَقْعَةُ الْجَمَلِ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلاثِينَ، فَحَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، ثُمَّ كَانَتْ صِفِّينَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَلاثِينَ، وَحَجَّ عَبْدُ اللَّهِ أَيْضًا بِالنَّاسِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 وَمَازَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ مُتَشَاغِلا بِتِلْكَ الأُمُورِ فَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلاثِينَ، قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ، ثُمَّ اصْطَلَحَ النَّاسُ عَلَى سَنَةِ تِسْعٍ عَلَى شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ، فَأَقَامَ لَهُمُ الْحَجَّ، ثُمَّ قُتِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ. بَابُ ذِكْرِ مَنْ حَجَّ مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ كَانَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْتَنِيبُ مَنْ يَحُجُّ فِي زَمَنِ وِلايَتِهِ، وَحَجَّ هُوَ بِالنَّاسِ سَنَةَ خَمْسِينَ. وَأَقَامَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحَجَّ لِلنَّاسِ سَنَةَ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ قَبْلَ أَنْ يُبَايَعَ لَهُ، فَلَمَّا بُويِعَ لَهُ حَجَّ ثَمَانِيَ حِجَجٍ مُتَوَالِيَةٍ. وَحَجَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ بَعْدَ قَتْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَحَجَّ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ. بَابُ ذِكْرِ مَنْ حَجَّ مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ حَجَّ الْمَنْصُورُ بِالنَّاسِ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، ثُمَّ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ فِي سَنَةِ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ، ثُمَّ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَتُوُفِّيَ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمَيْنِ. وَحَجَّ الْمَهْدِيُّ فَي خِلافَتِهِ بِالنَّاسِ سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 وَحَجَّ الرَّشِيدُ فِي خِلافَتِهِ سَنَةَ سَبْعِينَ، وَسَنَةَ ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ، ثُمَّ سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَسَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ. وَقَدْ جَرَتْ أَخْبَارٌ ظَرِيفَةٌ فِي حَجِّ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَلِلْمَنْصُورِ، وَلَلرَّشِيدِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ بَعْضَ ذَلِكَ. مَوْعِظَةُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بِمَكَّةَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنْبَأنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْحَسَنِ الضَّرَّابُ، أَنْبَأنَا أَبِي، أَنْبَأنَا أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الْجَرْمِيُّ، حَدَّثَنَا الرِّيَاشِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ الأَصْمَعِيَّ، يَقُولُ: دَخَلَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِهِ، وَحَوَالَيْهِ الأَشْرَافُ مِنْ كُلِّ بَطْنٍ، وَذَلِكَ بِمَكَّةَ فِي وَقْتِ حَجِّهِ فِي خِلافَتِهِ، فَلمَّا بَصُرَ بِهِ قَامَ إِلَيْهِ، وَأَجْلَسَهُ مَعَهِ عَلَى السَّرِيرِ، وَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، حَاجَتُكَ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اتَّقِ اللَّهَ فِي حَرَمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَحَرَمِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَعَاهَدْهُ بِالْعِمَارَةِ، وَاتَّقِ اللَّهَ فِي أَوْلادِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فَإِنَّكَ بِهِمْ جَلَسْتَ هَذَا الْمَجْلِسَ، وَاتَّقِ اللَّهَ فِي أَهْلِ الثُّغُورِ، فَإِنَّهُمْ حِصْنُ الْمُسْلِمِينَ، وَتَفَقَّدْ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّكَ وَحْدَكَ الْمَسْئُولُ عَنْهُمْ، وَاتَّقِ اللَّهَ فِيمَنْ عَلَى بَابِكَ وَلا تَغْفَلْ عَنْهُمْ، وَلا تُغْلِقْ دُونَهُمْ بَابَكَ. فَقَالَ لَهُ: أَفْعَلُ. ثُمَّ نَهَضَ، فَقَبَضَ عَلَيْهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنَّمَا سَأَلْتَنَا حَوَائِجَ غَيْرِكَ، وَقَدْ قَضَيْنَاهَا، فَمَا حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ: مَالِي إِلَى مَخْلُوقٍ حَاجَةٌ، ثُمَّ خَرَجَ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: هَذَا وَأَبِيكَ الشَّرَفُ، هَذَا وَأَبِيكَ السُّؤْدُدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 مَوْعِظَةُ بَعْضِ الصُّلَحَاءِ لِعَبْدِ الْمَلِكِ خَطَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بِمَكَّةَ لَمَّا حَجَّ يَوْمًا، فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَوْضِعِ الْعِظَةِ، قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: مَهْلا مَهْلا، إِنَّكُمْ تَأْمُرُونَ وَلا تَأْتَمِرُونَ، وَتَنْهَوْنَ وَلا تَنْتَهُونَ، أَفَنَقْتَدِي بِسِيرَتِكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ، أَمْ نُطِيعُ أَمْرَكُمْ بِأَلْسِنَتِكُمْ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: اقْتَدُوا بِسِيرَتِنَا، فَأَيْنَ، وَكَيْفَ، وَمَا الْحُجَّةُ؟ وَكَيْفَ الاقْتِدَاءُ بِسِيرَةِ الظَّلَمَةِ؟ وَإِنْ قُلْتُمْ: أَطِيعُوا أَمْرَنَا، وَاقْبَلُوا نَصِيحَتَنَا، فَكَيْفَ يَنْصَحُ غَيْرَهُ مَنْ يَغُشُّ نَفْسَهُ؟ وَإِنْ قُلْتُمْ: خُذُوا الْحِكْمَةَ مِنْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهَا، فَعَلامَ قَلَّدْنَاكُمْ أَزِمَّةَ أُمُورِنَا؟ أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ فِينَا مَنْ هُوَ أَفْصَحُ بِفُنُونِ الْعِظَاتِ، وَأَعْرَفُ بُوُجُوهِ اللُّغَاتِ، فَتَلَحْلَحُوا عَنْهَا، وَإِلا فَأَطْلِقُوا عِقَالَهَا يَتَبَدَّى إِلَيْهَا الَّذِينَ شَرَّدْتُمُوهُمْ فِي الْبُلْدَانِ، إِنْ يَقُلْ قَائِمٌ يَوْمًا لا يَعْدُوهُ، وَكِتَابًا بَعْدَهُ يَتْلُوهُ، {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] سَبَبُ إِحْرَامِ الْمَنْصُورِ مِنْ بَغْدَادَ فِي بَعْضِ حِجَجِهِ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ الْمُنْكَدِرِيُّ، أَنْبَأنَا ابْنُ الصَّلْتِ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الأَنْبَارِيِّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَقْدَمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أبَيِ مُزَاحِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَهْلٍ الْحَاسِبُ، قَالَ: حَدَّثَنِي طَيْفُورٌ، قَالَ: كَانَ سَبَبُ إِحْرَامِ الْمَنْصُورِ مِنْ مَدِينَةِ السَّلامِ أَنَّهُ نَامَ لَيْلَةً فَانْتَبَهَ فَزِعًا، ثُمَّ عَاوَدَ النَّوْمَ فَانَتَبَهَ فَزِعًا، ثُمَّ رَاجَعَ النَّوْمَ فَانْتَبَهَ فَزِعًا، فَقَالَ: يَا رَبِيعُ، قَالَ: لَبَّيْكَ أَمِيرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ فِي مَنَامِي عَجَبًا. قَالَ: مَا رَأَيْتَ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ كَأَنَ آتِيًا أَتَانِي فِي مَنَامِي، فَهَيْنَمَ بِشَيْءٍ لَمْ أَفْهَمْهُ، فَانْتَبَهْتُ فَزِعًا، ثُمَّ عَاوَدْتُ النَّوْمَ، فَعَاوَدَنِي يَقُولُ ذَلِكَ الشَّيْءَ، ثُمَّ عَاوَدَنِي بِقَوْلِهِ، حَتَّى فَهِمْتُهُ وَحَفِظْتُهُ، وَهُوَ: كَأَنِّي بِهَذَا الْقَصْرِ قَدْ بَادَ أهْلُهُ ... وَعُرِّيَ مِنْهُ أَهْلُهُ وَمَنَازِلُهُ وَصَارَ رَئِيسُ الْقَوْمِ مِنْ بَعْدِ بَهْجَةٍ ... إِلَى جَدَثٍ يُبْنَى عَلَيْهِ جَنَادِلُهُ وَمَا أَحْسَبَنِي يَا رَبِيعُ إِلا وَقَدْ حَانَتْ وَفَاتِي، وَحَضَرَ أَجَلِي، وَمَا لِي غَيْرُ رَبِّي، قُمْ فَاجْعَلْ لِي غُسْلا، فَفَعَلْتُ، فَقَامَ فَاغْتَسَلَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: أَنَا عَازِمٌ عَلَى الْحَجِّ. فَهَيَّأْنَا لَهُ آلَةَ الْحَجِّ، فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْكُوفَةِ، فَنَزَلَ النَّجَفَ، فَأَقَامَ أَيَّامًا، ثُمَّ أَمَرَ بِالرَّحِيلِ، فَتَقَدَّمَتْ نُوَّابُهُ وَجُنْدُهُ، وَبَقِيتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْقَصْرِ، وَشَاكِرَيَّتَهُ بِالْبَابِ، فَقَالَ لِي: يَا رَبِيعُ جِئْنِي بِفَحْمَةٍ مِنَ الْمَطْبَخِ، وَقَالَ لِي: اخْرُجْ فَكُنْ مَعَ دَابَّتِي إِلَى أَنْ أَخْرُجَ، فَلَمَّا خَرَجَ وَرَكِبَ، رَجَعْتُ إِلَى الْمَكَانِ كَأَنِّي أَطْلُبُ شَيْئًا، فَوَجَدْتُهُ قَدْ كَتَبَ عَلَى الْحَائِطِ بِالْفَحْمَةِ: الْمَرْءُ يَهْوَى أَنْ يَعِيشَ ... وَطُولُ عُمْرٍ قَدْ يَضُرُّهُ تَفْنَى بَشَاشَتُهُ وَيَبْقَى ... بَعْدَ حُلْوِ الْعَيْشِ مُرُّهُ وَتَصْرِفُ الأَيَّامُ حَتَّى ... مَا يَرَى شَيْئًا يَسُرُّهُ كَمْ شَامِتٍ بِي إِنْ هَلَكْتُ ... وَقَائِلٌ لِلَّهِ دَرُّهُ مَوْعِظَةُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ لِلْمَنْصُورِ بِمَكَّةَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَنْبَأنَا أَبُو إِسْحَاقَ، أَنْبَأنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُسْلِمٍ، إِجَازَةً، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 الْخَالِقِ، حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ السُّنِّيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو نَشِيطٍ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْفِرْيَابَيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ، يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ بِمِنًى، فَقُلْتُ: اتَّقِ اللَّهَ إِنَّمَا أُنْزِلْتَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ وَصِرْتَ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ بِسُيُوفِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَأَبْنَاؤُهُمْ يَمُوتُونَ جُوعًا، حَجَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَمَا أَنْفَقَ إِلا خَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا، وَكَانَ يَنْزِلُ تَحْتَ الشَّجَرِ. فَقَالَ لِي: إِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَكَ. فَقُلْتُ لا تَكُنْ مِثْلِي وَلَكِنْ كُنْ دُونَ مَا أَنْتَ فِيهِ، وَفَوْقَ مَا أَنَا فِيهِ، فَقَالَ لِي: أَخْرُجُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ لِلْمَنْصُورِ: إِنِّي لأَعْلَمُ مَكَانَ رَجُلٍ وَاحِدٍ لَوْ صَلَحَ صَلُحَتِ الأُمَّةُ كُلُّهَا. قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قُلْتُ: أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ زِيَارَةُ الْمَنْصُورِ لِلْمَدِينَةِ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ، أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْعَلَوِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ غَيْلانَ، قَالا: أَنْبَأنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَوَانِيُّ، أَنْبَأنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ السَّكُونِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدِّمَشْقِيُّ، وَأَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأنَا ثَابِتُ بْنُ بُنْدَارٍ، أَنْبَأنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَلْحَمِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَزِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ بَكَّارٍ، وَالْمَعْنَى قَرِيبٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ نُمَيْرٍ الْمَدَنِيِّ، قَالَ: قَدِمَ علَيْنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْصُورُ بِالْمَدِينَةِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانٍ الطَّلْحِيُّ عَلَى قَضَائِهِ، وَأَنَا كَاتِبُهُ، فَاسْتُعْدِي الْجَمَّالُونَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي شَيْءٍ يَذْكُرُوهُ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْهِ كِتَابًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 بِالْحُضُورِ مَعَهُمْ، وَإِنْصَافِهِمْ، فَقُلْتُ: تُعْفِينِي مِنْ هَذَا فَإِنَّهُ يَعْرِفُ خَطِّي. فَقَالَ: اكْتُبْ، فَكَتَبْتُ، ثُمَّ خَتَمَهُ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لا يَمْضِي بِهِ غَيْرُكَ. فَمَضَيْتُ بِهِ إِلَى الرَّبِيعِ، وَجَعَلْتُ أَعْتَذِرُ لَهُ، فَقَالَ لا عَلَيْكَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ، ثُمَّ خَرَجَ الرَّبِيعُ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: وَقَدْ حَضَرَ وُجُوهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالأَشْرَافُ وَغَيْرُهُمْ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلامَ، وَيَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي قَدْ دُعِيتُ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَلا أَعْلَمَنَّ أَحَدًا قَامَ لِي إِذَا خَرَجْتُ وَلا بَدَأَنِي بِالسَّلامِ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ وَالْمُسَيِّبُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالرَّبِيعُ، وَأَنَا خَلْفَهُ، وَهُوَ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ، فَمَا قَامَ إِلَيْهِ أَحَدٌ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى بَدَأَ بِالْقَبْرِ الْمُعَظَّمِ، فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الرَّبِيعِ، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا رَبِيعُ، أَخْشَى أَنْ يَرَانِي ابْنُ عِمْرَانٍ فَيَدْخُلَ قَلْبَهُ هَيْبَةٌ فَيَتَحَوَّلَ عَنْ مَجْلِسِهِ، وَبِاللَّهِ لَئِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لا وَلِيَ لِي وِلايَةً أَبَدًا. قَالَ: فَلَمَّا رَآهُ ابْنُ عِمْرَانٍ وَكَانَ مُتَّكِئًا، أَطْلَقَ رِدَاءَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، ثُمَّ احْتَبَى بِهِ، وَدَعَا بِالْخُصُومِ، ثُمَّ دَعَا بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ ادَّعَى عَلَيْهِ الْقَوْمُ، فَقَضَى لَهُمْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَ الدَّارَ قَالَ لِلرَّبِيعُ: اذْهَبْ فَإِذَا قَامَ وَخَرَجَ مَنْ عِنْدِهِ مِنَ الْخُصُومِ فَادْعُهُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهِ مَا دَعَاكَ إِلا بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مَنْ أُمُورِ النَّاسِ جَمِيعًا. فَدَعَاهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ سَلَّمَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ، وَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ عَنْ دِينِكَ، وَعَنْ نَبِيِّكَ، وَعَنْ حَسَبِكَ، وَعَنْ خَلِيفَتِكَ كَأَحْسَنِ الْجَزَاءِ، قَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِعَشْرَةِ آلافِ دِينَارٍ فَاقْبِضْهَا، فَكَانَتْ عَامَّةُ أَمْوَالُ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانٍ مِنْ تِلْكَ الصِّلَةِ مَوْعِظَةُ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ لِلرَّشِيدِ بِمَكَّةَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا أحْمدُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأنَا أَبُو نُعَيْمِ الأَصْفَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلابِيُّ، حَدَّثَنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 أَبُو عُمَرَ الْجَرْمِيُّ النَّحْوِيُّ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ، قَالَ: حَجَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الرَّشِيدُ فَأَتَانِي، فَخَرَجْتُ مُسْرِعًا، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَرْسَلْتَ إِلَيَّ لأَتَيْتُكَ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، قَدْ حَاكَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ، فَانْظُرْ لِي رَجُلا أَسْأَلُهُ. فَقُلْتَ هُنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. فَقَالَ: امْضِ بِنَا إِلَيْهِ، فَأَتَيْنَاهُ، فَقَرَعْتُ الْبَابَ، فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ فَقُلْتُ: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَخَرَجَ مُسْرِعًا. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَرْسَلْتَ إِلَيَّ لأَتَيْتُكَ، فَقَالَ: خُذْ لِمَا جِئْنَاكَ لَهُ رَحِمَكَ اللَّهُ، فَحَدَّثَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ لَهُ: عَلَيْكَ دَيْنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: اقْضِ دَيْنَهُ. فَلَمَّا خَرَجْنَا مَنْ عِنْدِهِ، قَالَ: مَا أَغْنَى عَنِّي صَاحِبُكَ شَيْئًا، انْظُرْ لِي رَجُلا أَسْأَلْهُ، فَقُلْتُ: هَاهُنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، فَذَكَرَ مِثْلَ مَا جَرَى لَهُ مَعَ سُفْيَانَ. قُلْتُ: هَاهُنَا الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، قَالَ: امْضِ بِنَا إِلَيْهِ، فَأَتَيْنَاهُ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَتْلُو آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ يُرَدِّدُهَا، قَالَ: اقْرَعِ الْبَابَ، فَقَرَعْتُهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: مَا لِي وَلأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوَ مَا عَلَيْكَ طَاعَتُهُ؟ فَنَزَلَ فَفَتَحَ الْبَابَ، ثُمَّ ارْتَقَى إِلَى الْغُرْفَةِ وَأَطْفَأَ السِّرَاجَ، ثُمَّ الْتَجَأَ إِلَى زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الْبَيْتِ، فَدَخَلْنَا فَجَعَلْنَا نَجُولُ عَلَيْهِ بِأَيْدِينَا فَسَبَقَتْ كَفُّ هَارُونَ قَبْلِي إِلَيْهِ. فَقَالَ: يَا لَهَا مَنْ كَفٍّ مَا أَلْيَنَهَا إِنْ نَجَتْ غَدًا مَنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَيُكَلِّمَنَّهُ اللَّيْلَةَ بِكَلامٍ نَقِيٍّ مِنْ قَلْبٍ تَقِيٍّ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ لِمَا جِئْنَاكَ لَهُ رَحِمَكَ اللَّهُ. فَقَالَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا وَلِيَ الْخِلافَةَ دَعَا سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ، وَرَجَاءَ بْنَ حَيْوَةَ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي قَدِ ابْتُلِيتُ بِهَذَا الْبَلاءِ، فَأَشِيرُوا عَلَيَّ، فَعَدَّ الْخِلافَةَ بَلاءً، وَعَدَدْتَهَا أَنْتَ وَأَصْحَابَكَ نِعْمَةً. فَقَالَ لَهُ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إِنْ أَرَدْتَ النَّجَاةَ مَنْ عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فصُمْعَنِ الدُّنْيَا، وَلَيْكُنْ إِفْطَارُكَ مِنْهَا الْمَوْتُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 وَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: إِنْ أَرَدْتَ النَّجَاةَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ غَدًا، فَلَيَكُنْ كَبِيرُ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَكَ أَبًا، وَأَوْسَطُهُمْ أَخًا، وَأَصْغَرُهُمْ وَلَدًا، فَوَقِّرْ أَبَاكَ، وَأَكْرِمْ أَخَاكَ، وَتَحَنَّنْ عَلَى وَلَدِكَ. وَقَالَ لَهُ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ: إِنْ أَرَدْتَ النَّجَاةَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَأَحِبِّ لِلْمُسْلِمِينَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ، ثُمَّ مِتْ إِذَا شِئْتَ. وَإِنِّي أَقُولُ لَكَ، إِنَّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَشَدَّ الْخَوْفِ يَوْمًا تَزِلُّ فِيهِ الأَقْدَامُ، فَهَلْ مَعَكَ رَحِمَكَ اللَّهُ مَنْ يُشِيرُ عَلَيْكَ بِمِثْلِ هَذَا؟ فَبَكَى هَارُونُ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى غُشِّيَ عَلَيْهِ، فَقُلْتَ لَهُ: ارْفُقْ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: تَقْتُلُهُ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ، وَأَرْفُقُ بِهِ أَنَا، ثُمَّ أَفَاقَ. فَقَالَ لَهُ: زِدْنِي رَحِمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلَغَنِي أَنَّ عَامِلا لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الَعْزِيزِ شُكِيَ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: يَا أَخِي، أُذَكِّرُكَ طُولَ سَهَرِ أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ مَعَ خُلُودِ الأَبَدِ، وَإِيَّاكَ أَنْ يَنْصَرِفَ بِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَكُونَ آخِرَ الْعَهْدِ وَانْقِطَاعِ الرَّجَاءِ. فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ طَوَى الْبِلادَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ: مَا أَقْدَمَكَ؟ قَالَ: خَلَعْتَ قَلْبِي بِكِتَابِكَ، لا أَعُودُ إِلَى وِلايَةٍ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَبَكَى هَارُونُ بُكَاءً شَدِيدًا، ثُمَّ قَالَ: زِدْنِي رَحِمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الْعَبَّاسَ عَمَّ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِّرْنِي عَلَى إِمَارَةٍ، فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ الإِمَارَةَ حَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لا تَكُونَ أَمِيرًا فَافْعَلْ» . فَبَكَى هَارُونُ بُكَاءً شَدِيدًا، فَقَالَ لَهُ: زِدْنِي رَحِمَكَ اللَّهُ. فَقَالَ لَهُ: يَا حَسَنَ الْوَجْهِ، أَنْتَ الَّذِي يَسْأَلُكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ هَذَا الْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَقِيَ هَذَا الْوَجْهَ مِنَ النَّارِ فَافْعَلْ، وَإِيَّاكَ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ، وَفِي قَلْبِكَ غِشًّا لأَحَدٍ مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَصْبَحَ لَهُمْ غَاشًّا لَمْ يَرْحَ رِيحَ الْجَنَّةِ» . فَبَكَى هَارُونُ، وَقَالَ لَهُ: عَلَيْكَ دَيْنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، دَيْنٌ لِرَبِّي لَمْ يُحَاسِبْنِي عَلَيْهِ، فَالْوَيْلُ لِي إِنْ سَأَلَنِي، وَالْوَيْلُ لِي إِنْ نَاقَشَنِي، وَالْوَيْلُ لَي إِنْ لَمْ أُلْهَمْ حُجَّتِي. قَالَ: إِنَّمَا أَعْنِي مِنْ دَيْنِ الْعِبَادَ. قَالَ: إِنَّ رَبِّيَ لَمْ يَأْمُرْنِي بِهَذَا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} [الذاريات: 58] . فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ أَلْفُ دِينَارٍ، خُذْهَا فَأَنْفِقْهَا عَلَى عِيَالِكَ وَتَقَوَّ بِهَا عَلَى عِبَادَتِكَ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَنَا أَدُلُّكَ عَلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ، وَأَنْتَ تُكَافِئُنِي بِمِثْلِ هَذَا، سَلَّمَكَ اللَّهُ وَوَفَّقَكَ. ثُمَّ صَمَتَ فَلَمْ يُكَلِّمْنَا، فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ، فَلَمَّا صِرْنَا عَلَى الْبَابِ، قَالَ هَارُونُ: إِذَا دَلَلْتَنِي عَلَى رَجُلٍ فَدُلَّنِي عَلَى مِثْلِ هَذَا، هَذَا سَيِّدُ الْمُسْلِمِينَ. فَدَخَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِهِ، فَقَالَتْ: يَا هَذَا، قَدْ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ ضِيقِ الْحَالِ، فَلَوْ قَبِلْتَ هَذَا الْمَالَ فَتَفَرَّجْنَا بِهِ. فَقَالَ لَهَا: مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانَ لَهُمْ بَعِيرٌ يَأْكُلُونَ مِنْ كَسْبِهِ، فَلَمَّا كَبُرَ نَحَرُوهُ فَأَكَلُوا لَحْمَهُ. فَلَمَّا سَمِعَ هَارُونُ هَذَا الْكَلامَ، قَالَ: نَدْخُلُ فَعَسَى يَقْبَلُ الْمَالَ، فَلَمَّا عَلِمَ الْفُضَيْلُ خَرَجَ فَجَلَسَ فِي السُّطْحِ عَلَى بَابِ الْغُرْفَةِ، فَجَاءَ هَارُونُ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِهِ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُهُ وَلا يُجِيبُهُ. فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: يَا هَذَا قَدْ آذَيْتَ الشّيْخَ مُنْذُ اللَّيْلَةَ، فَانْصَرِفْ رَحِمَكَ اللَّهُ، فَانْصَرَفْنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 مَوْعِظَةُ الْعُمَرِيِّ لِلرَّشِيدِ بِمَكَّةَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْحَبَّالُ الْحَافِظُ، أَنْبَأنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَرَّاحِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ دُرَانٍ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعَبَّاسِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفِ بْنِ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَغَوِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ سُلَيْمَانَ، قَالَ: كُنْتُ بِمَكَّةَ فِي زُقَاقِ الشَّطْوِيِّ وَإِلَى جَنْبِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعُمَرِيُّ، وَقَدْ حَجَّ هَارُونُ الرَّشِيدُ، فَقَالَ لَهُ إِنْسَانٌ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَسْعَى، قَدْ أُخْلِيُ لَهُ الْمَسْعَى. قَالَ الْعُمَرِيُّ لِلرَّجُلِ لا جَزَاكَ اللَّهُ عَنِّي خَيْرًا، كَلَّفْتَنِي أَمْرًا كُنْتُ عَنْهُ غَنِيًّا. ثُمَّ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ وَقَامَ، فَتَبِعْتُهُ، فَأَقْبَلَ هَارُونُ الرَّشِيدُ، مِنَ الْمَرْوَةِ يُرِيدُ الصَّفَا، فَصَاحَ بِهِ: يَا هَارُونُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا عَمِّ، قَالَ: ارْقِ الصَّفَا، فَلَمَّا رَقِيَهُ قَالَ: ارْمِ بِطَرْفِكَ إِلَى الْبَيْتِ. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. قَالَ: كَمْ هُمْ؟ قَالَ: وَمَنْ يُحْصِيهِمْ؟ قَالَ: وَكَمْ فِي النَّاسِ مِثْلُهُمْ؟ قَالَ: خَلْقٌ لا يُحْصِيهِمْ إِلا اللَّهُ. قَالَ: اعْلَمْ أَيُّهَا الرَّجُلُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسْأَلُ عَنْ خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَأَنْتَ وَحْدَكَ تُسْأَلُ عَنْهُمْ كُلِّهِمْ، فَانْظُرْ كَيْفَ تَكُونُ؟ قَالَ: فَبَكَى هَارُونُ وَجَلَسَ، وَجَعَلَ يُعْطُونَهُ مِنْدِيلا للدُّمُوعِ. قَالَ الْعُمَرِيُّ: وَأُخْرَى أَقُولُهَا قَالَ: قُلْ يَا عَمِّ. قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّ الرَّجُلَ لَيُسْرِفُ فِي مَالِهِ فَيَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ أَسْرَفَ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ مَضَى وَهَارُونُ يَبْكِي. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، يَقُولُ: بَلَغَنِيَ أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 هَارُونَ الرَّشِيدَ، قَالَ: إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ أَحُجَّ كُلَّ سَنَةٍ مَا يَمْنَعُنِي إِلا رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ عُمَرَ ثَمَّ يُسْمِعُنِي مَا أَكْرَهُ مَوْعِظَةُ شَيْبَانَ لِلرَّشِيدِ بِمَكَّةَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الأَسْدِيُّ، أَنْبَأنَا الْحُسَيْنُ بْنُ جَعْفَرٍ السَّلْمَانِيُّ، أَنْبَأنَا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ الْمُؤَمَّلِ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، قَالَ: لَمَّا حَجَّ الرَّشِيدُ قِيلِ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ حَجَّ شَيْبَانُ. قَالَ: اطْلُبُوهُ لِي. فَطَلَبُوهُ، فَأَتَوْا بِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا شَيْبَانُ، عِظْنِي، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَا رَجُلٌ أَلْكَنُ لا أُفْصِحُ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَجِئْنِي بِمَنْ يَفْهَمُ كَلامِي حَتَّى أُكَلِّمَهُ، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ يَفْهَمُ كَلامَهُ، فَقَالَ لَهُ بِالنَّبَطِيَّةِ، قُلْ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الَّذِي يُخَوِّفُكَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الْمَأْمَنَ أَنْصَحُ لَكَ مِنَ الَّذِي يُؤَمِّنُكَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الْخَوْفَ. فَقَالَ قُلْ لَهُ: أَيُّ شَيْءٍ تَفْسِيرُ هَذَا؟ قَالَ: قُلْ لَهُ: الَّذِي يَقُولُ لَكَ: اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّكَ رَجُلٌ مَسْئُولٌ عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، اسْتَرْعَاكَ اللَّهُ عَلَيْهَا، وَقَلَّدَكَ أُمُورَهَا، وَأَنْتَ مَسْئُولٌ عَنْهَا، فَاعْدِلْ فِي الرَّعِيَّةِ، وَاقْسِمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَانْفِرْ فِي السَّرِيَّةِ، وَاتَّقِ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ. هَذَا الَّذِي يُخَوِّفُكَ، فَإِذَا بَلَغْتَ الْمَأْمَنَ أَمِنْتَ، فَهُوَ أَنْصَحُ لَكَ مِمَّنْ يَقُولُ: أَنْتُمْ أَهْلُ بَيْتٍ مَغْفُورٌ لَكُمْ، وَأَنْتُمْ قَرَابَةُ نَبِيِّكُمْ وَفِي شَفَاعَتِهِ، فَلا يَزَالُ يُؤَمِّنُكَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتَ الْخَوْفَ عَطَبْتَ. قَالَ: فَبَكَى هَارُونُ حَتَّى رَحِمَهُ مَنْ حَوْلَهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: زِدْنِي. قَالَ: حَسْبُكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 مَوْعِظَةُ أَعْرَابِيٍّ لِلَرَّشِيدِ فِي الطَّوَافِ حَجَّ الرَّشِيدُ فِي بَعْضِ السِّنِينَ فَبَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ إِذْ تَعَرَّضَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ فَأَنْشَدَهُ: عِشْ مَا بَدَا لَكَ أَنْ تَعِيشَ ... أَتَظُنُّ حَادِثَاتِ الزَّمَانِ تَطِيشُ عِشْ كَيْفَ شِئْتَ لَتَأْتِيَنَّكَ وَقْفَةٌ ... يَوْمًا وَلَيْسَ عَلَى جَنَاحِكَ رِيشُ فَوَقَفَ فَاسْتَعَادَهُ، ثُمَّ بَكَى حَتَّى بُلَّ وَجْهُهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَوْعِظَةَ بُهْلُولٍ لِلرَّشِيدِ عِنْدَ الْكُوفَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 بَابُ ذِكْرِ طَرَفٍ مُسْتَحْسَنٍ مِنْ أَخْبَارِ الصَّالِحِينَ وَالأَوْلِيَاءِ فِي الْحَجِّ أَنْبَأنَا أَبُو سَعْدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادَيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّهْوَانِيُّ، وَأَبُو عَمْرِو بْنُ مَنْدَهْ، قَالا: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ نُوهٍ، أَنْبَأنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ اللُّنْبَانِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ سَلَمَةَ الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُوَيْدٍ، عَنِ السَّرِيِّ بْنِ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي جَارٌ كَانَ لأَبِي قِلابَةَ الْجَرْمِيِّ أَنَّهُ خَرَجَ حَاجًّا، فَتَقَدَّمَ أَصْحَابُهُ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَصَابَهُ عَطَشٌ شَدِيدٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ تَرُدَّ عَطَشِي مِنْ غَيْرِ فِطْرٍ، فَأَظَلَّتْهُ سَحَابَةٌ، فَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِ حَتَّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 بَلَتْ ثَوْبَهُ، وَذَهَبَ الْعَطَشُ عَنْهُ، فَنَزَلَ فَحَوَّضَ حِيَاضًا فَمَلأَهَا مَاءً، فَانَتَهَى إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ فَشَرِبُوا، وَمَا أَصَابَ أَصْحَابَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَطَرِ شَيْءٌ وَبِالإِسْنَادِ حَدَّثَنَا السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، قَالَ: كَانَ مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ يَحُجُّ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَيَحُجُّ مَعَهُ رِجَالٌ مِنْ إِخْوَانِهِ تَعَوَّدُوا ذَلِكَ، فَأَبْطَأَ عَامًا مِنْ تِلْكَ الأَعْوَامِ حَتَّى فَاتَتْ أَيَّامُ الْحَجِّ؟ فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: اخْرُجُوا. فَقَالُوا: كَبُرَ وَاللَّهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، يَأْمُرُنَا بِالْخُرُوجِ وَقَدْ ذَهَبَ وَقْتُ الْحَجِّ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ إِلا أَنْ يَخْرُجُوا، فَفَعَلُوا اسْتَحْيَاءً، فَأَصَابَهُمْ حِينَ جَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ إِعْصَارٌ شَدِيدٌ حَتَّى كَانَ لا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا مَا تَنَادَوْا، فَأَصْبَحُوا يَنْظُرُونَ إِلَى جِبَالِ تِهَامَةَ، فَحَمِدُوا اللَّهَ تَعَالَى، فَقَالَ: وَمَا تَعْجَبُونَ مَنْ هَذَا فَي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَخْبَرَنَا أَبُوَ الْحَسَنِ سَعْدُ الْخَيْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلالُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَسْرُوقٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ، قَالَ: كَانَ حَبِيبٌ أَبُو مُحَمَّدٍ يُرَى بِالْبَصْرَةِ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَيُرَى بِعَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ، أَنْبَأنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا الْخَلالُ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ شَاهِينَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الأَشْعَثِ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، أَنْبَأنَا سَيَّارٌ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ حَبِيبٍ الْعَجَمِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يُرَى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِالْبَصْرَةِ، وَيُرَى يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ وَبِهِ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ دَينَارٍ، أَنَّهُ كَانَ يُرَى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِالْبَصْرَةِ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ، أَنْبَأنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا الْخَلالُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلْطِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بَادَا، أَنْبَأنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُصْلِحٍ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: رَأَيْتُ الْحَسَنَ بْنَ الْخَلِيلِ بْنِ مُرَّةَ، بِعَرَفَاتٍ وَكَلَّمْتُهُ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ يَطُوفُ بَالْبَيْتِ، فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَتَقَبَّلَ حَجِّي، فَبَكَى وَدَعَا لِي، فَأَتَيْتُ مِصْرَ، فَقُلْتُ: إِنَّ الْحَسَنَ كَانَ مَعَنَا بِمَكَّةَ. فَقَالُوا: مَا حَجَّ الْعَامَ. وَقَدْ كَانَ يَبْلُغُنِي أَنَّهُ يَمُرُّ إِلَى مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ، فَمَا كُنْتُ أُصَدِّقُ، حَتَّى رَأَيْتُهُ، فَعَاتَبَنِي، وَقَالَ: شَهَرْتَنِي مَا كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ تُحَدِّثَ بِهَذَا عَنِّي، فَلا تُعِدْ بِحَقِّي عَلَيْكَ. وَأَخْبَرَنَا الْمُحَمَّدَانِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَابْنُ نَاصِرٍ، قَالا: أَنْبَأنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خَيْرُونَ، وَأَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأنَا ابْنُ بَيَانٍ، قَالا: أَنْبَأنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ الآجُرِّيُّ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ يُوسُفَ الشِّكْلِيُّ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ زِيَادٍ الْمُقْرِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَرَجِ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ، بِابْتِدَائِهِ كَيْفَ كَانَ؟ قَالَ: كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ لِي لَهُ مَنْظَرَةٌ إِلَى الطَّرِيقِ، فَإِذَا أَنَا بِشَيْخٍ عَلَيْهِ أَطْمَارٌ، وَكَانَ يَوْمًا حَارًّا، فَجَلَسَ فِي فَيْءِ الْقَصْرِ لِيَسْتَرِيحَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 فَقُلْتُ لِلْخَادِمِ: اخْرُجْ إِلَى هَذَا الشَّيْخِ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلامَ، وَسَلْهُ أَنْ يَدْخُلَ إِلَيْنَا، فَقَدْ أَخَذَ بِمَجَامِعِ قَلْبِي، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَقَامَ مَعَهُ، فَدَخَلَ، فَسَلَّمَ، فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ السَّلامَ، وَاسْتَبْشَرْتُ بِدُخُولِهِ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِ الطَّعَامَ، فَأَبَى. فَقُلْتُ: مَنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ وَرَاءِ النَّهْرِ. فَقُلْتُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الْحَجَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ: وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنَ الْعَشْرِ أَوِ الثَّانِي. فَقُلْتُ: فِي هَذَا الْوَقْتِ؟ فَقَالَ: يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ. فَقُلْتُ: فَالصُّحْبَةُ. فَقَالَ: إِنْ أَحْبَبْتَ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ قَالَ لِي: قُمْ. فَلَبِسْتُ مَا يَصْلُحُ لِلسَّفَرِ وَأَخَذَ بِيَدِي وَخَرَجْنَا مِنْ بَلْخَ فَمَرَرْنَا بِقَرْيَةٍ لَنَا، فَلَقِيَنِي رَجُلٌ مِنَ الْفَلاحِينَ فَأَوْصَيْتُهُ بِبَعْضِ مَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَقَدَّمَ إِلَيْنَا خُبْزًا وَبَيْضًا، وَسَأَلَنَا أَنْ نَأْكُلَ، فَأَكَلْنَا، وَجَاءَنَا بِمَاءٍ فَشَرِبْنَا، ثُمّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ قُمْ. فَأَخَذَ بِيَدِي فَجَعَلْنَا نَسِيرُ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الأَرْضِ تُجْذَبُ مِنْ تَحْتِنَا كَأَنَّهَا الْمَوْجُ، فَمَرَرْنَا بِمَدِينَةٍ بَعْدَ مَدِينَةٍ فَجَعَلَ يَقُولُ: هَذِهِ مَدِينَةُ كَذَا، وَهَذِهِ مَدِينَةُ كَذَا، هَذِهِ الْكُوفَةُ. ثُمَّ قَالَ لِي: الْمَوْعِدُ هَاهُنَا فِي مَكَانِكَ هَذَا فِي الْوَقْتِ، يَعْنِي مِنَ اللَّيْلِ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْوَقْتُ، إِذَا بِهِ قَدْ أَقْبَلَ، فَأَخَذَ بِيَدِي، وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: هَذَا مَنْزِلُ كَذَا، هَذَا مَنْزِلُ كَذَا، هَذِهِ فَيْدُ، وَهَذِهِ الْمَدِينَةُ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الأَرْضِ تُجْذَبُ مِنْ تَحْتِنَا كَأَنَّهَا الْمَوْجُ، فَصِرْنَا إِلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزُرْنَاهُ، وَقَالَ لِي: الْمَوْعِدُ فِي الْوَقْتِ، فِي اللَّيْلِ، فَي الْمُصَلَّى. حَتَّى إِذَا كَانَ فِي الْوَقْتِ خَرَجْتَ فَإِذَا أَنَا بِهِ فِي الْمُصَلَّى، فَأَخَذَ بِيَدِي فَفَعَلَ كَفِعْلِهِ حَتَّى أَتَيْنَا مَكَّةَ فِي اللَّيْلِ، فَفَارَقَنِي، فَقَبَضْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: الصُّحْبَةُ. فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ الشَّامَ. فَقُلْتُ: أَنَا مَعَكَ. فَقَالَ: إِذَا انْقَضَى الْحَجُّ فَالْمَوْعِدُ هَاهُنَا عِنْدَ زَمْزَمَ. حَتَّى إِذَا انْقَضَى الْحَجُّ إِذَا بِهِ عِنْدَ زَمْزَمَ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ، ثُمَّ خَرَجْنَا مِنْ مَكَّةَ، فَفَعَلَ كَفِعْلِهِ الأَوَّلِ، فَإِذَا نَحْنُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ، قَالَ لِي: عَلَيْكَ السَّلامُ، أَنَا عَلَى الْمُقَامِ هَاهُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ فَارَقَنِي، فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلا عَرَّفَنِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 اسْمَهُ، فَرَجِعْتُ إِلَى بَلَدِي أَسِيرُ سَيْرَ الضُّعَفَاءِ مَنْزِلا بَعْدَ مَنْزِلٍ حَتَّى صِرْتُ إِلَى بَلْخَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَالْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالا: أَنْبَأنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الصَّيْرَفِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشَّيْبَانِيُّ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْبَلْخِيَّ حَدَّثَهُمْ، حَدَّثَنَا خُشْنَامُ بْنُ حَاتِمٍ الأَصَمُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: قَالَ لِي شَقِيقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَلْخِيُّ: خَرَجْتُ حَاجًّا فَنَزَلْتُ الْقَادِسِيَّةَ، فَبَيْنَمَا أَنَا أَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ فِي زِينَتِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ، نَظَرْتُ إِلَى فَتًى حَسَنِ الْوَجْهِ، شَدِيدِ السُّمْرَةِ، فَوْقَ ثِيَابِهِ ثَوْبٌ مِنْ صُوفٍ، مُشْتَمِلٌ بِشَمْلَةٍ، فِي رِجْلَيْهِ نَعْلانِ، وَقَدْ جَلَسَ مُنْفَرِدًا، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذَا مِنَ الصُّوفِيَّةِ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ كَلا عَلَى النَّاسِ، وَاللَّهِ لأَمْضِيَنَّ إِلَيْهِ ولأُوَبِخَنَّهُ، فَدَنَوْتُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَآنِي مُقْبِلا قَالَ: يَا شَقِيقُ {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] . ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: قَدْ تَكَلَّمَ عَلَى خَاطِرِي وَمَا هَذَا إِلا عَبْدٌ صَالِحٌ، وَغَابَ عَنْ عَيْنِي، فَلَمَّا نَزَلْنَا وَاقِصَةَ إِذَا هُوَ يُصَلِّي وَأَعْضَاؤُهُ تَضْطَرِبُ، وَدُمُوعُهُ تَجْرِي، قُلْتُ: هَذَا صَاحِبِي، أَمْضِي إِلَيْهِ وَأَسْتَحِلُّهُ، فَصَبَرْتُ حَتَّى جَلَسَ، فَأَقْبَلْتُ، فَقَالَ: يَا شَقِيقُ اتْلُ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه: 82] ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا لَمِنَ الأَبْدَالِ قَدْ تَكَلَّمَ عَلَى سِرِّي مَرَّتَيْنِ، فَلَمَّا نَزَلْنَا زَبَالَةَ، إِذَا بِالْفَتَى قَائِمٌ عَلَى الْبِئْرِ، وَبِيَدِهِ رَكْوَةٌ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَقِيَ مِنَ الْمَاءِ فَسَقَطَتِ الرَّكْوَةُ مِنْ يَدِهِ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 الْبِئْرِ، فَرَأَيْتُهُ قَدْ رَمَقَ إِلَى السَّمَاءِ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَنْتَ رَبِّي إِذَا ظَمِئْتُ إِلَى الْمَاءِ، وَقُوتِي إِذَا أَرَدْتُ الطَّعَامَ، اللَّهُمَّ يَا سَيِّدِي مَا لِي سِوَاهَا فَلا تُعْدِمْنِيهَا. قَالَ شَقِيقٌ: فَوَاللَّهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ الْبِئْرَ وَقَدِ ارْتَفَعَ مَاؤُهَا، فَمَدَّ يَدَهُ فَأَخَذَ الرَّكْوَةَ وَمَلأَهَا مَاءً، وَتَوَضَّأَ وَصَلَّى رَكَعَاتٍ، ثُمَّ مَالَ إِلَى كَثِيبِ رَمْلٍ، فَجَعَلَ يَقْبِضُ بِيَدِهِ وَيَطْرَحُهُ فِي الرَّكْوَةِ وَيُحَرِكُهُ وَيَشْرَبُ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْهِ، وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: أَطْعِمْنِي مِنْ فَضْلِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ. فَقَالَ: يَا شَقِيقُ، لَمْ تَزَلْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، فَأَحْسِنْ ظَنَّكَ بِرَبِّكَ، ثُمَّ نَاوَلَنِي الرَّكْوَةَ، فَشَرِبْتُ مِنْهَا، فَإِذَا سُوَيْقٌ وَسُكَّرٌ، فَوَاللَّهِ مَا شَرِبْتُ قَطُّ أَلَذَّ مِنْهُ، فَشَبِعْتُ وَرَوِيتُ، وَأَقَمْتُ أَيَّامًا لا أَشْتَهِي طَعَامًا، ثُمَّ لَمْ أَرَهْ حَتَّى دَخَلْنَا مَكَّةَ، فَرَأَيْتُهُ لَيْلَةً إِلَى جَنْبِ قُبَّةِ الشَّرَابِ فِي نِصْفِ اللَّيْلِ يُصَلِّي بِخُشُوعٍ وَأَنِينٍ وَبُكَاءٍ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى ذَهَبَ اللَّيْلُ، فَلَمَّا رَأَى الْفَجْرَ، جَلَسَ فِي مُصَلاهُ يُسَبِّحُ اللَّهَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى الْغَدَاةَ، وَطَافَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا وَخَرَجَ، فَتَبِعْتُهُ، فَإِذَا لَهُ غَاشِيَتُهُ وَأَمْوَالٌ، وَهُوَ عَلَى خِلافِ مَا رَأَيْتُهُ فِي الطَّرِيقِ، وَدَارَ بِهِ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لِبَعْضِ مَنْ رَأَيْتُهُ بِقُرْبٍ مِنْهُ: مَنْ هَذَا الْفَتَى؟ فَقَالَ: هَذَا مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ. فَقُلْتُ: قَدْ عَجِبْتُ أَنْ تَكُونَ مِثْلُ هَذِهِ الْعَجَائِبِ إِلا لِمَثْلِ هَذَا السَّيِّدِ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَنْبَأنَا مَسْعُودُ بْنُ نَاصِرٍ السِّجِسْتَانِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو حَازِمٍ الْعَبْدَوِيُّ، أَنْبَأنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَهْضَمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الطَّيِّبِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْحَسَنِ الرَّازِيُّ، عَنْ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلا فِي الْبَادِيَةِ شَابًّا، حَسَنَ الْوَجْهِ، لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 ذُؤَابَتَانِ، وَعَلَى رَأْسِهِ رِدَاءُ قَصَبٍ، وَعَلَيْهِ قَمِيصُ كَتَّانٍ، وَفِي رِجْلَيْهِ نَعْلُ طَاقٍ. قَالَ مَعْرُوفٌ: فَتَعَجَّبْتُ مِنْهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَمِنْ زِيِّهِ، فَقُلْتُ: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَقَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلامُ يَا عَمِّ، فَقُلْتُ: الْفَتَى مِنْ أَيْنَ قَالَ: مَنْ مَدِينَةِ دِمَشْقَ. قُلْتُ: وَمَتَى خَرَجْتَ مِنْهَا؟ قَالَ: ضَحْوَةً. قَالَ مَعْرُوفٌ: فَتَعَجَّبْتُ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي رَأَيْتُهُ فِيهِ مَرَاحِلُ كَثِيرَةٌ، فَقُلْتُ لَهُ: فَأَيْنَ الْمَقْصِدُ؟ قَالَ: مَكَّةَ. فَعَلِمْتُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ يُسَاقُ إِلَى الْمَوْتِ سَوْقًا لَرَفِقَ بِنَفْسِهِ، فَوَدَّعْتُهُ، وَمَضَى، فَلَمْ أَرَهُ حَتَّى مَضَتْ ثَلاثُ سِنِينَ. فَلَمَّا كَانَ ذَاتُ يَوْمٍ وَأَنَا فِي مَنْزِلِي أَتَفَكَّرُ فِي أَمْرِهِ وَمَا كَانَ مِنْهُ، إِذَا بِإِنْسَانٍ يَدُقُّ الْبَابَ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَنَا بِصَاحِبِي، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتَ: مَرْحَبًا وَأَهْلا، وَأَدْخَلْتُهُ الْمَنْزِلَ، فَرَأَيْتُهُ مُنْقَطِفًا، وَالِهًا تَالِفًا، عَلَيْهِ زُرْمَانِقَةٌ، حَافِيًا حَاسِرًا. فَقُلْتُ: هِيهْ، إِيشِ الْخَبَرُ؟ فَقَالَ: يَا أُسْتَاذُ، لاطَفَنِي حَتَّى أَدْخَلَنِي الشَّبَكَةَ، فَرَمَى بِي، فَمَرَّةٌ يُلاطِفُنِي، وَمَرَّةٌ يُهَدِّدُنِي، وَمَرَّةٌ يُهِينُنِي، وَمَرَّةٌ يُكْرِمُنِي، فَلَيْتَهُ وَقَفَنِي عَلَى بَعْضِ أَسْرَارِ أَوْلِيَائِهِ، ثُمَّ لْيَفْعَلْ بِي مَا شَاءَ. قَالَ مَعْرُوفٌ: فَأَبْكَانِي كَلامُهُ، فَقُلْتُ لَهُ: فَحَدِّثْنِي بِبَعْضِ مَا جَرَى عَلَيْكَ مُنْذُ فَارَقْتَنِي. قَالَ: هَيْهَاتَ أَنْ أُبْدِيَهُ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُخْفِيَهُ، وَلَكِنْ مَبْدَأَ مَا فَعَلَ بِي فِي طَرِيقِي إِلَيْكَ يَا مَوْلايَ وَسَيِّدِي، ثُمَّ اسْتَفْرَغَهُ الْبُكَاءُ. فَقُلْتُ: وَمَا فَعَلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 بِكَ؟ قَالَ: جَوَّعَنِي ثَلاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ جِئْتُ إِلَى قَرْيَةٍ فِيهَا مَقْثَأَةٌ قَدْ نُبِذَ مِنْهَا الْمُدَوَّدُ، فَجَعَلْتُ آكُلُ مِنْهُ، فَبَصُرَ بِي صَاحِبُ الْمَقْثَأَةِ، فَأَقْبَلَ يَضْرِبُ ظَهْرِي وَبَطْنِي، وَيَقُولُ: يَا لِصُّ، مَا خَرَّبَ مَقْثَأَتِي غَيْرُكَ، مُنْذُ كَمْ أَنَا أَرْصُدُكَ حَتَّى وَقَفْتُ عَلَيْكَ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَضْرِبُنِي إِذَا أَقْبَلَ فَارِسٌ نَحْوَهُ مُسْرِعًا إِلَيْهِ، وَقَلَّبَ السَّوْطَ فِي رَأْسِهِ، وَقَالَ: تَعْمَدُ إِلَى وَلِيٍّ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَتَقُولُ لَهُ: يَا لِصُّ؟ فَأَخَذَ صَاحِبُ الْمَقْثَأَةِ بِيَدِي فَذَهَبَ بِي إِلَى مَنْزِلِهِ، فَمَا أَبْقَى مِنَ الْكَرَامَةِ شَيْئًا إِلا عَمِلَهُ، وَاسْتَحَلَّنِي، وَجَعَلَ مَقْثَأَتَهُ لِلَّهِ وَلأَصْحَابِ مَعْرُوفٍ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: صِفْ لِي مَعْرُوفًا، فَوَصَفَكَ فَعَرَفْتُكَ بِالصِّفَةِ بِمَا كُنْتُ قَدْ شَاهَدْتُهُ مِنْ صِفَتِكَ. قَالَ مَعْرُوفٌ: فَمَا اسْتَتَمَّ كَلامَهُ حَتَّى دَقَّ الْبَابَ صَاحِبُ الْمَقْثَأَةِ وَدَخَلَ، وَكَانَ مُوسِرًا، فَأَخْرَجَ جَمِيعَ مَالِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَصَحِبَ الشَّابَّ سَنَةً، وَخَرَجَا إِلَى الْحَجِّ، فَمَاتَا بِالرَّبَذَةِ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنْبَأنَا ابْنُ بَاكَوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ التَّمِيمِيُّ، وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الأَنْصَارِيُّ، أَنْبَأنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَيُّوبَ، أَنْبَأنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلالُ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ الْقَوَّاسُ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ الْقَاسِمِ الْخَوَّاصُ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ فَدَعَا لِي، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ مِنَ الْغَدِ وَفِي وَجْهِهِ أَثَرٌ، فَقَالَ لَهُ إِنْسَانٌ: يَا أَبَا مَحْفُوظٍ، كُنَّا عِنْدَكَ بِالأَمْسِ وَمَا بِوَجْهِكَ هَذَا الأَثَرُ، وَالْيَوْمَ نَرَى عَلَى وَجْهِكَ أَثَرًا؟ فَقَالَ مَعْرُوفٌ: سَلْ عَمَّا يَعْنِيكَ. فَقَالَ الرَّجُلُ: بِمَعْبُودِكَ إِلا عَرَّفْتَنِي. فَتَغَيَّرَ مَعْرُوفٌ، وَقَالَ: لَمْ أَعْلَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 أَنَّكَ تُحَلِّفُنِي بِاللَّهِ، صَلَّيْتُ الْبَارِحَةَ هَاهُنَا، فَاشْتَهَيْتُ أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ، فَمَضَيْتُ إِلَى مَكَّةَ فَطُفْتُ، وَصِرْتُ إِلَى زَمْزَمَ لأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، فَزَلَّتْ قَدِمَي عَلَى الْبَابِ، فَأَصَابَ وَجْهِي مَا تَرَاهُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، أَنْبَأنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ السُّلَمِيُّ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُسُوحِيُّ، مِنْ جِلَّةِ مَشَايِخِ بَغْدَادَ وَظُرَّافِهِمْ وَمُتَوَكِّلِيهِمْ، سَمِعْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ يَحْيَى، يَقُولُ: سَمِعْتُ جَعْفَرًا الْخَوَّاصَ، يَقُولُ: كَانَ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُسُوحِيُّ يَحُجُّ بِقَمِيصٍ وَرِدَاءٍ، وَنَعْلٍ طَاقٍ، وَلا يَحْمِلُ مَعَهُ شَيْئًا، لا رَكْوَةٌ، وَلا كُوزٌ، إِلا كُوزَ بِلَّوْرٍ فِيهِ تُفَّاحٌ شَامِيٌّ، يَشُّمُّهُ مِنْ جَوْفِ بَغْدَادَ إِلَى مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَفَاضِلِ النَّاسِ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنْبَأنَا ابْنُ بَاكَوَيْهِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الْخَيَّاطُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَلِيٍّ الرُّوذَبَارِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ الشَّرْقِيَّ، يَقُولُ: كُنَّا مَعَ أَبِي تُرَابٍ النَّخْشَبِيِّ، فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرِضَ، فَعَدَلَ عَنِ الطَّرِيقِ إِلَى نَاحِيَةٍ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أَنَا عَطْشَانُ، فَضَرَبَ بِرِجْلِهِ، فَإِذَا عَيْنُ مَاءٍ زُلالٍ، فَقَالَ الْفَتَى: أُحِبّ أَنْ أَشْرَبَ فِي قَدَحٍ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى الأَرْضِ فَنَاوَلَهُ قَدَحًا مِنْ زُجَاجٍ أَبْيَضَ، كَأَحْسَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 مَا رَأَيْتُ، فَشَرِبَ وَسَقَانَا، وَمَا زَالَ الْقَدَحُ مَعَنَا إِلَى مَكَّةَ، قَالَ: فَقَالَ لِي يَوْمًا مَا يَقُولُ أَصْحَابُكَ فِي هَذِهِ الأُمُورِ الَّتِي يُكْرِمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا عِبَادَهُ؟ فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا إِلا وَهُوَ يُعْطَى الإِيمَانَ بِهَا. فَقَالَ: مَنْ لَمْ يُعْطَ الإِيمَانَ بِهَا كَفَرَ، إِنَّمَا سَأَلْتُكَ مِنْ طَرِيقِ الأَحْوَالِ، فَقُلْتُ: مَا أَعْرِفُ لَهُمْ قَوْلا فِيهِ. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، بَلَى قَدْ زَعَمَ أَصْحَابُكَ أَنَّهَا خِدَعٌ مِنَ الْجِنِّ، وَلَيْسَ الأَمْرُ كَذَلِكَ، إِنَّمَا الْخِدَعُ فِي حَالِ السُّكُونِ إِلَيْهَا، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَى الْمُلْكِ فِي أَعْنَاقِ الْحَقَائِقِ، فَتِلْكَ مَرْتَبَةُ الرَّبَّانِيِّينَ وَبِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَاكَوَيْهِ، أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَارِئُ، أَخْبَرَنِي أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذَبَارِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ بَنَانًا الْحَمَّالَ، يَقُولُ: دَخَلْتُ الْبَرِّيَّةَ عَلَى طَرِيقِ تَبُوكَ وَحْدِي، فَاسْتَوْحَشْتُ، فَإِذَا هَاتِفٌ يَهْتِفُ بِي: نَقَضْتَ الْعَهْدَ، لِمَ تَسْتَوْحِشْ، أَلَيْسَ حَبِيبُكَ مَعَكَ؟ وَبِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَاكَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ حفِيفٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الْمُزَيِّنَ، بِمَكَّةَ، قَالَ: كُنْتُ فِي بَادِيَةِ تَبُوكَ فَتَقَدَّمْتُ إِلَى بِئْرٍ لأَسْتَسْقِيَ مِنْهَا، فَزَلَقَتْ رِجْلِي، فَوَقَعْتُ فِي جَوْفِ الْبِئْرِ، فَرَأَيْتُ فِي الْبِئْرِ زَاوِيَةً وَاسِعَةً، فَأَصْلَحْتُ مَوْضِعَهَا، وَجَلَسْتُ عَلَيْهَا، وَقُلْتُ: إِنْ كَانَ مِنِّي شَيْءٌ لا أُفْسِدُ الْمَاءَ عَلَى النَّاسِ، فَطَابَتْ نَفْسِي، وَسَكَنَ قَلْبِي، فَبَيْنَا أَنَا قَاعِدٌ إِذَا بِخَشْخَشَةٍ، فَتَأَمَّلْتُ فَإِذَا بِأَفْعَى تَنْزِلُ، فَرَاجَعْتُ نَفْسِي، فَإِذَا هِيَ سَاكِنَةٌ، فَنَزَلَ وَدَارَ بِي، وَكُنْتُ هَادِئَ السِّرِّ لا تَضْطَرِبُ عَلَيَّ نَفْسِي، ثُمَّ لَفَّ بِي ذَنَبَهُ، فَأَخْرَجَنِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 مِنَ الْبِئْرِ، ثُمَّ حَلَّ عَنِّي ذَنَبَهُ، فَلا أَدْرِي أَرْضٌ ابْتَلَعَتْهُ أَمْ سَمَاءٌ رَفَعَتْهُ، وَقُمْتُ فَمَشَيْتُ وَبِهِ حَدَّثَنَا ابْنُ بَاكَوَيْهِ، أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ سَالِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ لأَحْمَدَ بْنِ سَالِمٍ، وَكَانَ قُرْبَ الْمَغْرِبِ: انْزِلِ الْجَبَلَ وَاتْرِكِ التَّدْبِيرَ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعِشَاءَ بِمَكَّةَ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعْمَرِ الأَنْصَارِيُّ أَنْبَأنَا الْحَسَنُ بْنُ الْمُظَفَّرِ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ الْخُلْدِيُّ، قَالَ: حَجَجْتُ سَنَةً مِنَ السِّنِينَ فَصَحِبَنِي بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ، وَكَانَ مِمَّنْ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَأَضَافَنَا الطَّرِيقُ إِلَى جَبَلٍ وَكُنَّا جَمَاعَةً، فَاسْتَسْقَيْنَاهُ مَاءً، وَلَمْ يَكُنْ بِالْقُرْبِ مَاءً، فَأَخَذَ رَكْوَةً وَأَدْنَى بِهَا إِلَى الْجَبَلِ، فَسَمِعْتُ خَرِيرَ الْمَاءِ بِأُذُنِي، حَتَّى امْتَلأَتِ الرَّكْوَةُ، فَسَقَى الْجَمَاعَةَ، فَكَانَتْ عَيْنِي إِلَى الْمَوْضِعِ، فَلا أَرَى لِلْمَاءِ أَثَرًا، وَلا شِقًّا فِي الْجَبَلِ. قَالَ أَبِي: فَسَأَلْتُ جَعْفَرًا عَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: كَرَامَةُ اللَّهِ لأَوْلِيَائِهِ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ظَفَرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ السَّرَّاجِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ الأَزْجِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الصُّوفِيُّ، حَدَّثَنَا الْخُلْدِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ، قَالَ: سَمِعْتُ حَسَنًا أَخَا سِنَانٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا تُرَابٍ النَّخْشَبِيَّ، يَقُولُ: كُنْتُ أَنَا وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِي قَدْ خَرَجْنَا إِلَى مَكَّةَ، فَمَضَيْتُ عَلَى طَرِيقٍ، وَمَضُوا عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 طَرِيقٍ، وَكَانَ قَدْ أَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ، فَلَمَّا افْتَرَقْنَا صَادَ أَصْحَابِي ظَبْيًا، فَذَبَحُوهُ، وَشَوُوهُ، فَلَمَّا جَلَسُوا لِيَأْكُلُوهُ إِذَا بِنِسْرٍ قَدِ انْقَضَّ عَلَيْهِمْ، فَاحْتَمَلَ رُبُعَ الظَّبْيِ، قَالُوا: فَأَقْبَلْنَا نَنْظُرُ إِلَيْهِ، ولا نَقْدِرُ عَلَيْهِ، قَالَ أَبُو تُرَابٍ: فَلَمَّا اجْتَمَعْنَا بِمَكَّةَ، قُلْتُ لَهُمْ: أَيُّ شَيْءٍ كَانَ خَبَرُكُمْ بَعْدِي؟ فَأَخْبَرُونِي خَبَرَهُمْ، وَمَا كَانَ مِنْ قِصَّةِ الظَّبْيِ. فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنِّي كُنْتُ سَائِرًا فَإِذَا نِسْرٌ قَدْ أَلْقَى لِي رُبُعَ ظَبِيٍ مَشْوِيٍ، فَأَكَلْتُ، وَكَانَ أَكْلُنَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْبَاقِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْعُشَارِيِّ، أَنْبَأنَا ابْنُ أَخِي مِيمِي، حَدَّثَنَا ابْنُ صَفْوَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ السَّعْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نُوحٍ، وَكَانَ مِنَ الْعَابِدِينَ، قَالَ: صَحِبْتُ شَيْخًا فَي طَرِيقِ مَكَّةَ فَأَعْجَبَتْنِي هَيْئَتُهُ، فَقُلْتُ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَصْحَبَكَ. قَالَ: أَنْتَ وَمَا أَحْبَبْتَ. قَالَ: فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّهَارِ فَإِذَا أَمْسَى أَقَامَ فِي مَنْزِلٍ كَانَ أَوْ غَيْرِهِ، فَيَقُومُ اللَّيْلَ يُصَلِّي، وَكَانَ يَصُومُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فَإِذَا أَمْسَى عَهِدَ إِلَى جَرِيبٍ مَعَهُ، فَأَخْرَجَ مِنْهُ شَيْئًا فَأَلْقَاهُ إِلَى فِيهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا. وَكَانَ يَدْعُونِي فَيَقُولُ: هَلُمَّ فَأَصِبْ مِنْ هَذَا، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: وَاللَّهِ مَا هَذَا بِمُجْزِئِكَ أَنْتَ، فَكَيْفَ أُشْرِكُكَ فِيهِ؟ فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ، وَدَخَلَتْ قَلْبِي هَيْبَةٌ لَهُ عِنْدَمَا رَأَيْتُ مِنَ اجْتِهَادِهِ وَصَبْرِهِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ فِي بَعْضِ الْمَنَازِلِ، نَظَرَ إِلَى رَجُلٍ يَسُوقُ حِمَارًا، فَقَالَ: انْطَلِقْ فَاشْتَرِ ذَلِكَ الْحِمَارَ. قَالَ: فَمَنَعَتْنِي وَاللَّهِ هَيْبَتُهُ فِي صَدْرِي أَنْ أَرُدَّهُ، فَانْطَلَقْتُ إِلَى صَاحِبِ الْحِمَارِ وَأَنَا أَقُولُ: وَاللَّهِ مَا مَعِيَ ثَمَنُهُ فَكَيْفَ أَشْتَرِيهِ، صَاحِبَ الْحِمَارِ، فَسَاوَمْتُهُ بِهِ، فَأَبَى أَنْ يَنْقُصَهُ مِنْ ثَلاثِينَ دِينَارًا، فَجِئْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: خُذْهُ وَاسْتَخِرِ اللَّهَ، قُلْتُ: الثَّمَنَ. قَالَ: سَمِّ اللَّهَ، ثُمَّ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي الْجِرَابَ، فَخُذِ الثَّمَنَ فَأَعْطِهِ، فَأَخَذْتُ الْجِرَابَ، ثُمّ قُلْتُ: بِسْمِ اللَّهِ، ثُمَّ أَدْخَلْتُ يَدِيَ فِيهِ، فَإِذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 صُرَّةٌ فِيهَا ثَلاثُونَ دِينَارًا لا تَزِيدُ وَلا تَنْقُصُ. قَالَ: فَدَفَعْتُهَا إِلَى الرَّجُلِ، وَأَخَذْتُ الْحِمَارَ، وَجِئْتُ بِهِ. فَقَالَ لِي: ارْكَبْ. فَقُلْتُ: أَنْتَ أَضْعَفُ مِنِّي، فَرَكِبَ، وَكُنْتُ أَمْشِي مَعَ حِمَارِهِ، فَحَيْثُ أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ أَقَامَ، فَإِنَّمَا هُوَ رَاكِعٌ وَسَاجِدٌ، حَتَّى أَتَيْنَا عُسْفَانَ، فَلَقِيَهُ شَيْخٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَعَلا يَبْكِيَانِ، فَلَمَّا أَرَادَا أَنْ يَفْتَرِقَا، قَالَ صَاحِبِي لِلشَّيْخِ: أَوْصِنِي. قَالَ: نَعَمْ، أَلْزِمِ التَّقْوَى قَلْبَكَ، وَانْصُبْ ذِكْرَ الْمَعَادِ أَمَامَكَ. قَالَ: زِدْنِي. قَالَ: نَعَمْ، اسْتَقْبِلِ الآخِرَةَ بِالْحُسْنَى مِنْ عَمَلِكَ، وَبَاشِرْ عَوَارِضَ الدُّنْيَا بِالزُّهْدِ مِنْ قَلْبِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأَكْيَاسَ هُمُ الَّذِينَ عَرَفُوا عَيْبَ الدُّنْيَا حَينَ عَمِيَ عَلَى أَهْلِيهَا، وَالسَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، ثُمَّ افْتَرَقَا. فَقُلْتُ لِصَاحِبِي: مَنْ هَذَا الشَّيْخُ؟ فَقَالَ: عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ اللَّهِ. فَخَرَجْنَا مِنْ عُسْفَانَ حَتَّى أَتَيْنَا مَكَّةَ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى الأَبْطَحِ، نَزَلَ عَنْ حِمَارِهِ، وَقَالَ لِي: اثْبُتْ مَكَانَكَ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ نَظْرَةً ثُمَّ أَعُودُ إِلَيْكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَانْطَلَقَ، وَعَرَضَ لِي رَجُلٌ، فَقَالَ لِي: تَبِيعُ الْحِمَارَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: بِكَمْ؟ قُلْتُ: بِثَلاثِينَ دِينَارًا. قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ مِنْكَ. قُلْتُ: يَا هَذَا، وَاللَّهِ مَا هُوَ لِي، لِي، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِنِّي لأَكُلِّمُهُ إِذْ طَلَعَ الشَّيْخُ، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ بِعْتُ الْحِمَارَ بِثَلاثِينَ دِينَارًا قَالَ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ اسْتَزَدْتَهُ لَزَادَكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَأَمَّا إِذْ بِعْتَ فَأَجِزْ. فَأَخَذْتُ مِنَ الرَّجُلِ ثَلاثِينَ دِينَارًا، وَدَفَعْتُ الْحِمَارَ إِلَيْهِ، وَجِئْتُ بِالدَّنَانِيرِ، فَقُلْتُ: مَا أَصْنَعُ بِهَا؟ فَقَالَ: هِيَ لَكَ، فَأَنْفِقْهَا. قُلْتُ: لا حَاجَةَ لِي بِهَا. قَالَ: فَأَلْقِهَا فَي الْجِرَابِ، فَأَلْقَيْتُهَا، فَنَزَلْنَا بِالأَبْطَحِ، فَقَالَ: ابْغِنِي دَاوَةً وَقِرْطَاسًا، فَأَتَيْتُهُ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ كِتَابَيْنِ، ثُمَّ شَدَّهُمَا، فَدَفَعَ أَحَدَهُمَا إِلَيَّ، فَقَالَ: انْطَلِقْ بِهِ إِلَى عَبَّادِ بْنِ عَبَّادٍ وَهُوَ نَازِلٌ فِي مَوْضِعِ كَذَا، فَادْفَعْهُ إِلَيْهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 وَاقْرئْهُ مِنِّي السَّلامَ، وَمَنْ حَضَرَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ دَفَعَ الآخَرَ لِي، وَقَالَ: لِيَكُنْ هَذَا مَعَكَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ فَاقْرَأْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: فَأَخَذْتُ الْكِتَابَ، فَأَتَيْتُ بِهِ عَبَّادَ بْنَ عَبَّادٍ وَهُوَ قَاعِدٌ يُحَدِّثُ، وَعِنْدَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَسَلَّمْتُ، ثُمَّ قُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ، كِتَابُ بَعْضِ إِخْوَانِكَ. فَأَخَذَ الْكِتَابَ، فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ: يَا عَبَّادُ، فَإِنِّي أُحَذِّرُكَ الْفَقْرَ يَوْمَ تَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى الذُّخْرِ، فَإِنَّ فَقْرَ الآخِرَةِ لا يَسُدُّهُ غِنًى، وَإِنَّ مُصَابَ الآخِرَةِ لا تُجْبَرُ مُصِيبَتُهُ أَبَدًا، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ إِخْوَانِكَ، وَأَنَا مَيْتٌ السَّاعَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَأَحْضِرْنِي لِتَلِيَنِي، وَتَوَلَّى الصَّلاةَ عَلَيَّ، وَإِدْخَالِي حُفْرَتِي، وَأَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ، وَاقْرَأِ السَّلامَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْكُمْ جَمِيعًا السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَلَمَّا قَرَأَ عَبَّادٌ الْكِتَابَ، قَالَ لِي: يَا هَذَا أَيْنَ هَذَا الرَّجُلُ؟ قُلْتُ: بِالأَبْطَحِ. قَالَ: فَمَرِيضٌ هُوَ؟ قُلْتُ: تَرَكْتُهُ السَّاعَةَ صَحِيحًا، فَقَامَ، وَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ مَيْتٌ مُسَجًّى عَلَيْهِ عَبَاءٌ. فَقَالَ لِي عَبَّادٌ: هَذَا صَاحِبُكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: تَرَكْتَهُ صَحِيحًا، قُلْتُ: تَرَكْتُهُ صَحِيحًا السَّاعَةَ، فَجَلَسَ يَبْكِي عِنْدَ رَأْسِهِ ثُمَّ أَخَذَ فِي جَهَازِهِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ، وَدَفَنَهُ. وَاحْتَشَدَ النَّاسُ فِي جِنَازَتِهِ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ، فَتَحْتُ الْكِتَابَ فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ: فَأَنْتَ يَا أَخِي، نَفَعَكَ اللَّهُ بِمَعْرُوفِكَ يَوْمَ يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى صَالِحِ أَعْمَالِهِمْ، وَجَزَاكَ اللَّهُ عَنْ صُحْبَتِنَا خَيْرًا، فَإِنَّ صَاحِبَ الْمَعْرُوفِ يَجِدُهُ لِجَنْبِهِ مُضْطَجِعًا، وَإِنَّ حَاجَتِي إِلَيْكَ إِذَا قَضَى اللَّهُ نُسُكَكَ أَنْ تَنْطَلِقَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَادْفَعْ مِيرَاثِي إِلَى وَارِثِي، وَالسَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: كُلُّ أَمْرِكَ رَحِمَكَ اللَّهُ عَجَبٌ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ أَمْرِكَ، كَيْفَ آتِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَلَمْ يُسَمِّ لِي أَحَدًا، وَلَمْ يَصِفْ لِي مَوْضِعًا، وَلَمْ أَدْرِ إِلَى مَنْ أَدْفَعُهُ؟ قَالَ: وَخَلَّفَ قَدَحًا وَجِرَابَهُ ذَلِكَ، وَعَصًى كَانَ يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا. قَالَ: وَكَفَّنَّاهُ فَي ثَوْبَيْ إِحْرَامِهِ وَلَفَفْنَا الْعَبَاءَةَ فَوْقَ ذَلِكَ. فَلَمَّا انْقَضَى الْحَجُّ، قُلْتُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 وَاللَّهِ لأَنْطَلِقَنَّ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَلَعَلِّيَ أَنْ أَقَعَ عَلَى وَارِثِ هَذَا الرَّجُلِ، فَانْطَلَقْتُ، فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَبَيْنَمَا أَنَا أَتَصَفَّحُ النَّاسَ، لا أَدْرِي عَمَّنْ أَسْأَلُ، إِذْ نَادَى رَجُلٌ مِنْ بَعْضِ تِلْكَ الْخَلْقِ بِاسْمِي: يَا فُلانُ، فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا بشَيْخٌ كَأَنَّهُ صَاحِبِي، فَقَالَ: هَاتِ مِيرَاثَ فُلانٍ. فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ الْعَصَى وَالْقَدَحَ، وَالْجِرَابَ، ثُمَّ وَلَّيْتُ رَاجِعًا، فَوَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى قُلْتُ لِنَفْسِي: تَضْرِبُ مِنْ مَكَّةَ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقَدْ رَأَيْتَ مِنَ الشَّيْخِ الأَوَّلِ مَا رَأَيْتَ، وَمَنْ هَذَا الشَّيْخُ الثَّانِي مَا رَأَيْتَ، وَلا تَسْأَلُ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ أَيَّ شَيْءٍ قِصَّتُهُمْ، وَتَسْأَلُهُمْ عَنْ أَمْرِهِمْ، وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: فَرَجِعْتُ وَمُرَادِي أَنْ لا أُفَارِقَ هَذَا الشَّيْخَ الآخَرَ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ أَمُوتُ، فَجَعَلْتُ أَدُورُ الْحِلَقَ وَأَجْهَدُ أَنْ أَعْرِفَهُ أَوْ أَقَعُ عَلَيْهِ، فَلَمْ أَقَعُ عَلَيْهِ، وَجَعَلْتُ أَسْأَلُ عَنْهُ، وَأَقَمْتُ أَيَّامًا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَطْلُبُهُ وَأَسَأْلُ عَنْهُ، فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا يَدُلُّنِي عَلَيْهِ، فَرَجَعْتَ مُنْصَرِفًا إِلَى الْعِرَاقِ ! 218 أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَزَّازُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سَعِدٍ الْمِصِّيصِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ خَفِيفٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْحُسَيْنِ الدَّرَّاجَ، يَقُولُ: كُنْتُ أَحُجُّ فَصَحِبَنِي جَمَاعَةٌ، فَكُنْتُ أَحْتَاجُ إِلَى الْقِيَامِ مَعَهُمْ وَالاشْتِغَالِ بِهِمْ، فَذَهَبَتْ سَنَةً مِنَ السِّنِينَ، وَخَرَجْتُ إِلَى الْقَادِسِيَّةِ، وَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَجُلٌ فِي الْمِحْرَابِ مَجْذُومٌ، وَعَلَيْهِ مِنَ الْبَلاءِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، فَلَمَّا رَآنِي سَلَّمَ عَلَيَّ، وَقَالَ لَي: يَا أَبَا الْحُسَيْنِ، عَزَمْتَ عَلَى الْحَجِّ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، عَلَى غَيْظٍ وَكَرَاهِيَةٍ. قَالَ: فَقَالَ: فَالصُّحْبَةُ. قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنْ أَهْرَبْ مِنَ الأَصِحَّاءِ أَقَعْ فِي يَدِ مَجْزُومٍ. قُلْتُ: لا. قَالَ لِي: افْعَلْ. قُلْتُ: لا وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ. فَقَالَ لِي: يَا أَبَا الْحُسَيْنِ، يَصْنَعُ اللَّهُ لِلضَّعِيفِ حَتَّى يَتَعَجَّبَ الْقَوِيُّ. فَقُلْتُ: نَعَمْ عَلَى الإِنْكَارِ عَلَيْهِ. قَالَ: فَتَرَكْتُهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 فَلَمَّا صَلَّيْتُ الْعَصْرَ، مَشَيْتُ إِلَى نَاحِيَةِ الْمُغِيثَةِ، فَبَلَغْتُ مِنَ الْغَدِ ضَحْوَةً، فَلَمَّا دَخَلْتُ إِذَا أَنَا بِالشَّيْخِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، وَقَالَ لِي: يَا أَبَا الْحَسَينِ، يَصْنَعُ اللَّهُ لِلضَّعِيفِ حَتَّى يَتَعَجَّبَ الْقَوِيُّ. فَأَخَذَنِي شِبْهُ الْوَسْوَاسِ، قَالَ: فَلَمْ أَجْلِسْ حَتَّى بَلَغْتُ الْقَرْعَاءَ عَلَى الْغَدِ، فَبَلَغْتُ مَعَ الصُّبْحِ، فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا أَنَا بِالشَّيْخِ قَاعِدٌ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا الْحَسَنِ، يَصْنعُ اللَّهُ لِلضَّعِيفِ حَتَّى يَتَعَجَّبَ الْقَوِيُّ. قَالَ: فَبَادَرْتُ إِلَيْهِ، فَوَقَعْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى وَجْهِي، فَقُلْتُ: الْمَعْذِرَةُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكَ. قَالَ لِي: مَالَكَ؟ قُلْتُ: أَخْطَأْتُ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قُلْتُ: الصُّحْبَةُ. قَالَ: أَلَيْسَ حَلَفْتَ؟ وَإِنَّا نَكْرَهُ أَنْ نُحَنِّثَكَ. قَالَ: قُلْتُ: فَأَرَاكَ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ؟ قَالَ: ذَلِكَ لَكَ، قَالَ: فَذَهَبَ عَنِّي الْجُوعُ وَالتَّعَبُ وَفِي كُلِّ مَنْزِلٍ لَيْسَ لِي هَمٌّ إِلا الدُّخُولُ إِلَى الْمَنْزِلِ فَأَرَاهُ إِلَى أَنْ بَلَغْتُ الْمَدِينَةَ، فَغَابَ عَنِّي فَلَمْ أَرَهُ، فَلَمَّا قَدِمْتُ مَكَّةَ حَضَرْتُ أَبَا بَكْرٍ الْكَتَّانِيَّ، وَأَبَا الْحَسَنِ الْمُزَيِّنَ، فَذَكَرْتُ لَهُمْ، فَقَالُوا لَي: يَا أَحْمَقُ، ذَاكَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَجْذُومُ، وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ نَرَاهُ، إِنْ لَقِيتَهُ فَتَعَلَّقْ بِهِ لَعَلَّنَا نَرَاهُ. قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَلَمَّا خَرَجْنَا إِلَى مِنًى وَعَرَفَاتٍ طَلَبْتُهُ فَلَمْ أَرَهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجَمْرَةِ رَمَيْتُ الْجِمَارَ، فَجَذَبَنِي إِنْسَانٌ، وَقَالَ: يَا أَبَا الْحُسَيْنِ، السَّلامُ عَلَيْكَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ لَحِقَنِي مِنْ رُؤْيَتِهِ أَمْرٌ، فَصِحْتُ وَغُشِّيَ عَلِيَّ، وَذَهَبَ عَنِّي، وَجِئْتُ إِلَى مَسْجِدِ الْخَيْفِ، وَأَخْبَرْتُ أَصْحَابَنَا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْوَدَاعِ، صَلَّيْتُ خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَرَفَعْتُ يَدِيَ، فَإِذَا إِنْسَانٌ خَلْفِي يَجْذِبُنِي، فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَسَينِ، عَزَمْتُ عَلَيْكَ أَنْ لا تَصِيحَ. قُلْتُ: أَلا أَسْأَلُكَ أَنْ تَدْعُوَ لِي؟ فَقَالَ: سَلْ مَا شِئْتَ، فَسَأَلْتُ اللَّهَ ثَلاثَ دَعَوَاتٍ، فَأَمَّنَ عَلَى دُعَائِي وَغَابَ عَنِّي فَلَمْ أَرَهُ. فَسَأَلْتُهُ عَنِ الأَدْعِيَةِ، فَقَالَ: أَمَّا أَحَدُهَا، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ حَبِّبْ لِيَ الْفَقْرَ، وَأَمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 الثَّانِيَةُ، فقلت اللهم لا تَجْعَلْنِي أَبِيتُ لَيْلَةً وَلِي شَيْءٌ أَدَّخِرُهُ لِغَدٍ، وَأَنَا مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سَنَةٍ مَالِي شَيْءٌ أَدَّخِرُهُ، وَالثَّالِثَةُ، قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِذَا أَذِنْتَ لأَوْلِيَائِكَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ فَاجْعَلْنِي مِنْهُمْ، وَأَنَا أَرْجُو ذَلِكَ ! 219. أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ظَفَرٍ، أَنْبَأنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصُّوفِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنِي حَامِدٌ الأَسْوَدُ، صَاحِبُ إِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصِ، قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ أَحَدًا وَلَمْ يَذْكُرْهُ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ رَكْوَتُهُ وَيَمْشِي، فَبَيْنَمَا نَحْنُ مَعَهُ فِي مَسْجِدِهِ تَنَاوَلَ رَكْوَتَهُ وَمَشَى، فَأَتْبَعْتُهُ، فَلَمْ يُكَلِّمْنِي، حَتَّى وَافَيْنَا الْكُوفَةَ فَأَقَامَ بِهَا يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ الْقَادِسِيَّةِ. فَلَمَّا وَافَاهَا قَالَ لِي: يَا حَامِدُ إِلَى أَيْنَ؟ فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي خَرَجْتُ بِخُرُوجِكَ. فَقَالَ أَنَا أُرِيدِ مَكَّةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قُلْتُ: وَأَنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أُرِيدُ مَكَّةَ، فَمَشَيْنَا يَوْمَنَا وَلَيْلَتَنَا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ إِذَا شَابٌّ قَدِ انْضَمَّ إِلَيْنَا فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ، فَمَشَى مَعَنَا يَوْمًا وَلَيْلَةً لا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً، فَعَرَّفْتُ إِبْرَاهِيمَ، وَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا الْغُلامَ لا يُصَلِّي. فَجَلَسَ وَقَالَ لَهُ: يَا غُلامُ مَا لَكَ لا تُصَلَّي، وَالصَّلاةُ أَوْجَبُ عَلَيْكَ مِنَ الْحَجِّ؟ فَقَالَ: يَا شَيْخُ، مَا عَلَيَّ مِنْ صَلاةٍ قَالَ: أَلَسْتَ مُسْلِمًا؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَأَيُّ شَيْءٍ أَنْتَ؟ قَالَ: نَصْرَانِيٌّ، وَلَكَنْ إِشَارَتِي فِي النَّصْرَانِيَّةِ إِلَى التَّوَكُّلِ، فَادَّعَتْ نَفْسِي أَنَّهَا قَدْ أَحْكَمَتْ حَالَ التَّوَكُّلِ فَلَمْ أُصَدِّقْهَا فِيمَا ادَّعَتْ، حَتَّى أَخْرَجْتُهَا إِلَى الْفَلاةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَوْجُودٌ غَيْرَ الْمَعْبُودِ، أُثِيرُ سَاكِنِي وَأَمْتَحِنُ خَاطِرِي. فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ وَمَشَى، وَقَالَ: دَعْهُ يَكُونُ مَعَكَ، فَلَمْ يَزَلْ مُسَايِرُنَا حَتَّى وَافَيْنَا بَطْنَ مَرٍّ، فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ وَنَزَعَ خِلْقَانَهُ وَطَهَّرَهَا بِالْمَاءِ، ثُمَّ جَلَسَ، وَقَالَ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: عَبْدُ الْمَسِيحِ. فَقَالَ: يَا عَبْدَ الْمَسِيحِ، هَذَا دَهْلِيزُ مَكَّةَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَمْثَالِكَ الدُّخُولَ إِلَيْهِ، وَقَالَ: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] وَالَّذِي أَرَدْتَ أَنْ تَسْتَكْشِفَ مَنْ نَفْسِكَ فَقَدْ بَانَ لَكَ، فَاحْذَرْ أَنْ تَدْخُلَ مَكَّةَ، فَإِنْ رَأَيْنَاكَ بِمَكَّةَ أَنْكَرْنَا عَلَيْكَ. قَالَ حَامِدٌ: فَتَرَكْنَاهُ وَدَخَلْنَا مَكَّةَ، وَخَرَجْنَا إِلَى الْمَوْقِفِ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ بِعَرَفَاتٍ، إِذَا هُوَ قَدْ أَقْبَلَ وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، يَتَصَفَّحُ الْوُجُوهَ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْنَا، فَأَكَبَّ عَلَى إِبْرَاهِيمَ يُقَبِّلُ رَأْسَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا وَرَاءَكَ يَا عَبْدَ الْمَسِيحِ؟ قَالَ: هَيْهَاتَ أَنَا الْيَوْمَ عَبْدُ مَنِ الْمَسِيحُ عَبْدُهُ، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ حَدَّثَنِي حَدِيثَكَ. قَالَ: جَلَسْتُ مَكَانِي حَتَّى أَقْبَلَتْ قَافِلَةُ الْحَجِّ، فَقُمْتُ وَتَنَكَّرْتُ فِي زِيِّ الْمُسْلِمِينَ كَأَنِّي مُحْرِمٌ، فَحِينَ وَقَعَتْ عَيْنِي عَلَى الْكَعْبَةِ اضْمَحَلَّ عِنْدِي كُلُّ دِينٍ سِوَى الإِسْلامِ، فَأَسْلَمْتُ وَاغْتَسَلْتُ وَأَحْرَمْتُ، وَهَا أَنَا أَطْلُبُكَ يَوْمِي. فَالْتَفَتَ إِلَيَّ إِبْرَاهِيمُ، وَقَالَ لِي: يَا حَامِدُ، انْظُرْ بَرَكَةَ الصِّدْقِ فِي النَّصْرَانِيَّةِ كَيْفَ هَدَاهُ إِلَى الإِسْلامِ، وَصَحِبَنَا حَتَّى مَاتَ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ ! 220. أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ظَفَرٍ، أَنْبَأنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا ابْنُ جَهْضَمٍ الصُّوفِيُّ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْحَسَنِ الْعَبَّادَانِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدٍ التِّيلِيَّ صَاحِبَ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ يُفَضَّلُ عَلَى سَهْلٍ، يَقُولُ: سَلَكْتُ الْبَادِيَةَ مِرَارًا ثُمَّ ضَعُفْتُ، فَجَلَسْتُ عَنِ الْحَجِّ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ أُؤَدِّبَ نَفْسِي لِمَا رَأَيْتُ مِنْ ضَعْفِهَا وَسُكُونِهَا إِلَى الْجُلُوسِ وَالدَّعَةِ، فَاعْتَقَدْتُ بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ أَخْرُجَ عَلَى طَرِيقِ الْكُوفَةِ وَلا أَصْحَبُ أَحَدًا. فَخَرَجْتُ عَلَى هَذَا الْعَقْدِ، وَكَانَ الْوَقْتُ بَارِدًا، فَلَمَّا خَرَجْتُ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ عَلَى عَشْرِ فَرَاسِخَ وَنَحْوِهَا أَدْرَكَنِي اللَّيْلُ، وَكَانَتْ لَيْلَةً مُظْلِمَةً، وَمَطَرًا شَدِيدًا، وَبَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي إِذَا سَمِعْتُ قَائِلا يَقُولُ: مَنْ هَذَا الْمَارُّ؟ فَقَالَ الآخَرُ: إِنْسٌ. فَقَالَ الأَوَّلُ: أَيْنَ يُرِيدُ؟ قَالَ الآخَرُ: يُرِيدُ بَيْتَ مَوْلاهُ. قَالَ الأَوَّلُ: أَيشْ دَعْوَاهُ؟ قَالَ الآخَرُ: يَدَّعِي الْغِنَى عَنِ الْخَلْقِ وَالسَّيْرَ مَعَ الْحَقِّ. قَالَ الأَوَّلُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 سَلْهُ عَنْ ذَلِكَ الشِّعْرِ. فَقَالَ الآخَرُ: يَا إِنْسِيُّ يَا إِنْسِيُّ، فَقُلْتُ: مَا لَكَ يَا جِنِّيُّ يَا جِنِّيُّ؟ فَقَالَ: نَحْنُ مِنْ أَصْحَابِ مَوْلاكَ، تُجِيزُ لَنَا شِعْرًا حَتَّى نَعْلَمَ صِدْقَ دَعْوَاكَ. قُلْتُ: قُولا. فَقَالَ: مُدَلَّهُ الْقَلْبِ غَائِبٌ سَاهِي ... مُقَرَّبُ الْقَلْبِ شَاهِدٌ رَائِي مُبَلْبَلُ السِّرِّ وَالِهٌ دَنِفٌ ... مُؤَانَسُ الْقَلْبِ ذَاهِبٌ فَانِي فَأَجَبْتُهُمْ، فَقُلْتُ: فَهُوَ مَعَ الْحَقِّ عَاقِلٌ فَطِنٌ ... وَهُوَ مَعَ الْحَقِّ ضَاحِكٌ بَاكِي فَسَمِعْتُ ضَجَّةً مِنَ الَّذِي كَانَ يَسْأَلُنِي، أَلَيْسَ قَدْ قُلْتُ: لا تَعْرِضْ لِهَؤُلاءِ. ثُمَّ قَالَ: مُرَّ الآنَ مَعَ دَعْوَاكَ. فَقُلْتُ: أَزِيدُكُمْ بَيْتًا آخَرَ؟ فَقَالُوا: هَاتِ. فَقُلْتُ: مُحْتَجِبُ السِّرِّ غَيْرُ مُحْتَجِبٍ ... وَغَائِبٌ غَيْرَ أَنَّهُ بَادِي فَسَمِعْتُ لَهُمَا ضَجَّةً شَدِيدَةً، ثُمَّ انْقَطَعَ عَلَيَّ كَلامُهُمْ، فَلا أَدْرِي مَاتَا أَوْ تَرَكَانِي وَذَهَبَا، وَمَضَيْتُ عَلَى حَالِي وَحَجَجْتُ ! 221 وَبِهِ حَدَّثَنَا ابْنُ جَهْضَمٍ، حَدَّثَنَا الْخُلْدِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو الْعَبَّاسِ، عَنْ مُحَمَّدِ غُلامٍ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: وَدَّعْتُ الشَّيْخَ أَبَا عُبَيْدٍ حِينَ أَرَدْتُ الْحَجَّ، فَقَالَ لِي: إِذَا أَرَدْتَ شَيْئًا أَوْ جُعْتَ أَوْ عَطِشْتَ فَصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَاجْعَلْهَا عَنْ يَمِينِكَ، فَإِذَا سَلَّمْتَ رَأَيْتَ كُلَّمَا تُحِبُّ. قَالَ: فَجِئْتُ إِلَى بَعْضِ الْمَنَازِلِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَاءٌ، وَالنَّاسُ يَصِيحُونَ: الْعَطَشَ. فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: قَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ مَا قَالَ وَهُوَ صَادِقٌ، فَأَخَذْتُ الرَّكْوَةَ فَرَمَيْتُ بِهَا فِي مَصْنَعٍ، فَمَا سَلَّمْتُ إِلا وَالرِّيَاحُ تَذْهَبُ بِهَا وَتَجِيءُ عَلَى رَأْسِ الْمَاءِ، فَنَزَلَتْ، فَأَخَذْتُ الرَّكْوَةَ، ثُمَّ صِحْتُ بِالنَّاسِ، فَجَاءُوا وَاسْتَقَوْا حَتَّى رَوُوا ! 222 أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الأَنْصَارِيُّ، أَنْبَأنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَيُّوبَ، أَخْبَرَنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلالُ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ الْقَوَّاسُ، قَالَ: سَمِعْتُ جَعْفَرَ الْخُلْدِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصَ، يَقُولُ: أَعْرِفُ مِنْ طُرُقِ مَكَّةَ سِتَّةَ عَشَرَ طَرِيقًا، مِنْهَا طَرِيقَانِ، طَرِيقٌ ذَهَبٌ، وَطَرِيقٌ فِضَّةٌ ! 223 أَخْبَرَنَا ابْنُ ظَفَرٍ، أَنْبَأنَا ابْنُ السَّرَّاجِ، أَنْبَأنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا ابْنُ جَهْضَمٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ السِّيرَوَانِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصَ، يَقُولُ: سَلَكْتُ فِي الْبَادِيَةِ سِتَّةَ عَشَرَ طَرِيقًا عَلَى غَيْرِ الْجَادَّةِ، فَأَعْجَبُ مَا رَأَيْتُ فِيهَا رَجُلا لَيْسَ لَهُ يَدَانِ وَلا رِجِلانِ، وَعَلَيْهِ مِنَ الْبَلاءِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ يَزْحَفُ زَحْفًا، فَتَحَيَّرْتُ مِنْهُ، وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلامُ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: بِمَ عَرَفْتَنِي، وَلَمْ تَرَنِي قَبْلَهَا؟ فَقَالَ: الَّذِي جَاءَ بِكَ عَرَّفَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. فَقُلْتُ: صَدَقْتَ، إِلَى أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: إِلَى مَكَّةَ. قُلْتُ: وَمِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ بُخَارَى. فَبَقِيتُ مُتَعَجِّبًا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ شَزْرًا، وَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ، تَعْجَبُ مِنْ قَوِيٍّ يَحْمِلُ ضَعِيفًا وَيَرْفُقُ بِهِ، ثُمَّ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ. فَقُلْتُ: حَبِيبِي، فَتَرَكْتُهُ عَلَى حَالِهِ، وَمَضَيْتُ أَنَا، فَلَمَّا دَخَلْتُ مَكَّةَ رَأَيْتُهُ فِي الطَّوَافِ وَهُوَ يَزْحَفُ زَحْفًا ! 224 وَبِهِ حَدَّثَنَا ابْنُ جَهْضَمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْخُلْدِيَّ، يَقُولُ: حَجَّ عَبْدُ اللَّهِ الأَقْطَعُ عَلَى فَرْدِ قَدَمٍ، فَلَمَّا بَلَغْتُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ وَقَعَ فِي سِرِّي أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ مِثْلِي، فَإِذَا أَنَا بِمُقْعَدٍ يَحْبُو، فَوَقَفْتُ عَلَيْهِ أَعْجَبُ مِنْهُ، فَقَالَ لِي: مَا لَكَ تَتَعَجَّبُ مِنْ قَوِيٍّ يَحْمِلُ ضَعِيفًا ! 225. قَرَأْتَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَقِيهِ، أَنْبَأنَا هِلالُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأنَا الْخُلْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْجُنَيْدُ، عَنْ ذِي النُّونِ الْمِصْرِيِّ، قَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 رَأَيْتُ فَتًى فِي فِنَاءِ الْكَعْبَةِ جَالِسًا يَبْكِي، فَقُلْتُ لَهُ: مِمَّ بُكَاؤُكَ؟ فَقَالَ أَنَا الْغَرِيبُ الْمَطْلُوبُ، فَعَرَفْتُ مَعْنَى كَلامِهِ، فَجَلَسْتُ أَبْكِي، وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ أَزَلْ مَعَهُ حَتَّى قَضَى نَحْبَهُ، فَخَرَجْتُ فَاشْتَرَيْتُ لَهُ كَفَنًا، ثُمَّ عُدْتُ فَلَمْ أَرَهْ، فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَنْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ فَحَظِيَ بِثَوَابِهِ؟ فَإِذَا بِهَاتِفٍ يَهْتِفُ بِي: يَا ذَا النُّونِ، هَذَا الْغَرِيبُ الَّذَيِ طَلَبَهُ إِبْلِيسُ فِي الدُّنْيَا فَلَمْ يَرَهُ، وَطَلَبَهُ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ فَلَمْ يَرَيَاهُ، وَطَلَبَهُ رِضْوَانٌ خَازِنُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يَرَهُ، فَقُلْتُ: أَيْنَ هُوَ يَا سَيِّدِي؟ فَقَالَ: هُوَ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ! 226 أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَقِيهِ، أَنْبَأنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الأَدَمِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ عَمْرُو بْنُ وَاصِلٍ: صَحِبْتُ رَجُلا مِنَ الأَوْلِيَاءِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَنَالَتْهُ فَاقَةٌ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَعَدَلَ إِلَى مَسْجِدٍ فِي أَصْلِ جَبَلٍ، وَإِذَا فِيهَا بِئْرٌ عَلَى بَكَرَةٍ وَحَبْلٍ، وَدَلْوٍ، وَمَطَهْرَةٌ عِنْدَ الْبِئْرِ، وَشَجَرَةُ رُمَّانٍ لَيْسَ فِيهَا حَمْلٌ، فَأَقَامَ فِي الْمَسْجِدِ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْوَقْتُ، فَإِذَا بِأَرْبَعِينَ رَجُلا عَلَيْهِمُ الْمُسُوحُ، وَفِي أَرْجُلِهِمْ نِعَالُ الْخُوصِ قَدْ دَخُلُوا الْمَسْجِدَ، فَسَلَّمُوا، وَأَذَّنَ أَحَدُهُمْ وَأَقَامَ الصَّلاةَ، وَتَقَدَّمَ فَصَلَّى بِهِمْ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ صَلاتِهِمْ، تَقَدَّمُوا إِلَى الشَّجَرَةِ، فَإِذَا فِيهَا أَرْبَعُونَ رُمَّانَةً غَضَّةً طَرِيَّةً، فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رُمَّانَةً وَانْصَرَفَ، قَالَ: وَبِتُّ عَلَى فَاقَتِي، فَلَمَّا كَانَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَخَذُوا فِيهِ الرُّمَّانَ، أَقْبَلُوا أَجْمَعُونَ، فَلَمَّا صَلَّوْا وَأَخَذُوا الرُّمَّانَ، قُلْتُ لَهُمْ: يَا قَوْمُ، أَنَا أَخُوكُمْ فِي الإِسْلامِ، وَبِي فَاقَةٌ شَدِيدَةٌ، فَلا كَلَّمْتُمُونِي وَلا وَاسَيْتُمُونِي. فَقَالَ رَئِيسُهُمْ: إِنَّا لا نُكَلِّمُ مَحْجُوبًا بِمَا مَعَهُ، فَامْضِ وَاطْرَحْهُ وَرَاءَ هَذَا الْجَبَلِ فِي الْوَادِي وَارْجِعْ إِلَيْنَا حَتَّى تَنَالَ مَا نَنَالُ. قَالَ: فَرَقَيْتُ الْجَبَلَ، وَلَمْ تَسْمَحْ نَفْسِي بِرَمْيِ مَا مَعِي، فَدَفَنْتُهُ، وَرَجَعْتُ. قَالَ لِي: رَمَيْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَرَأَيْتَ شَيْئًا؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: فَمَا رَمَيْتَ بِهِ إِذًا. فَقَالَ لِي: فَارْجِعْ فَارْمِ بِهِ فِي الْوَادِي، فَفَعَلْتُ، فَإِذَا قَدْ غَشِيَنِي مِثْلُ الدِّرْعِ نُورٌ، فَرَجَعْتُ فَإِذَا فِي الشَّجِرَةِ رُمَّانَةٌ فَأَكَلْتُهَا، فَاسْتَغْنَيْتُ بِهَا مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَلَمْ أَلْبَثْ دُونَ الْمُضِيِّ إِلَى مَكَّةَ، فَإِذَا بِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 بَيْنَ زَمْزَمَ وَالْمَقَامِ، وَأَقْبَلُوا عَلَيَّ بِأَجْمَعِهِمْ يَسْأَلُونِي عَنْ حَالِي، فَقُلْتُ: قَدْ غَنِيتُ عَنْكُمْ وَعَنْ كَلامِكُمْ آخِرًا كَمَا أَغْنَاكُمُ اللَّهُ عَنْ كَلامِي أَوَّلا، فَمَا فِيَّ لِغَيْرِ اللَّهِ مَوْضِعٌ ! 227 كَذَا وَقَعَ فِي نُسْخَةِ سَهْلٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ وَاصِلٍ، وَالصَّوَابُ عُمَرُ، عَنْ سَهْلٍ. وَيُحْكَى عَنِ الشَّبْلِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ بَدَوِيًّا بِمَكَّةَ يَخْدِمُ الصُّوفِيَّةَ وَيَتَحَنَّنُ عَلَيْهِمْ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ سَبِبِ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: كُنْتُ بِالْبَادِيَةِ، وَإِذَا بِغُلامٍ حَافٍ، مَكْشُوفِ الرَّأْسِ، مَا مَعَهُ رَكْوَةٌ وَلا عَصَى، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: أُدْرِكُ الْفَتَى، فَإِنْ كَانَ جَائِعًا أَطْعَمْتُهُ، أَوْ عَطْشَانًا سَقَيْتُهُ، أَوْ ضَالا هَدَيْتُهُ، فَبَادَرْتُ إِلَيْهِ حَتَّى بَقِيَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ذِرَاعٌ، فبَعُدَ مِنِّي حَتَّى غَابَ عَنْ عَيْنِي، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذَا شَيْطَانٌ، فَإِذَا بِهِ يُنَادِي: لا بَلْ سَكْرَانُ. فَنَادَيْتُهُ بِالَّذِي بَعَثَ مُحَمْدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا: أَلا وَقَفْتَ. فَقَالَ: يَا فَتَى أَتْعَبْتَنِي وتَعِبْتَ. فَقُلْتُ لَهُ: رَأْيَتُكَ وَحْدَكَ فَأَرَدْتُ خِدْمَتَكَ. فَقَالَ: مَنْ يَكُنِ اللَّهُ مَعَهُ فَلَيْسَ وَحْدَهُ. فَقُلْتُ: مَا أَرَى مَعَكَ زَادًا؟ فَقَالَ: إِذَا جُعْتُ فَذِكْرُهُ زَادِي، وَإِذَا عَطِشْتُ فَمُشَاهَدَتُهُ سُؤْلِي وَمُرَادِي. فَقُلْتُ: أَنَا جَائِعٌ أَطْعِمْنِي. فَقَالَ: أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ؟ قُلْتُ: بَلَى، وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، فَضَرَبَ بِيَدِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ، وَكَانَتِ الأَرْضُ رَمْلَةً، فَقَبَضَ قَبْضَةً، وَقَالَ: يَا مَخْدُوعُ، وَإِذَا بِهِ سَوِيقٌ يُحَمَّصُ أَلَذُّ مَا يَكُونُ، فَقُلْتُ: مَا أَلَذَّهُ، فَقَالَ: فِي الْبَادِيَةِ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ لَوْ عَقِلْتَ. فَقُلْتُ لَهُ: حَلِنِي. فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ، وَإِذَا قَدْ نَبَعَتْ عَيْنٌ مِنْ عَسَلٍ، فَجَلَسْتُ لآكُلَ مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَمَا رَأَيْتُهُ، فَأَنَا أَخْدِمُ الْفُقَرَاءَ لَعَلِّي أَرَى مِثْلَ ذَلِكَ الْفَتَى ! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 228 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِيَ مَنْصُورٍ، أَنْبَأنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا أبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّورِيُّ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ الرَّحْبِيُّ، أَنْبَأنَا أَحْمَدُ بْنُ عَطَاءٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ذَا النُّونِ الْمِصْرِيَّ، يَقُولُ: خَرَجْتُ إِلَى الْحِجَازِ عَلَى الْوَحْدَةِ، فَبَيْنَمَا أَنَا فِي الْبَرِّيَّةِ رَأَيْتُ سَوَادًا فَقَصَدْتُ نَحْوَهُ، فَإِذَا أَنَا بِعَجُوزٍ سَوْدَاءَ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهَا، وَقُلْتُ لَهَا: مِنْ أَيْنَ؟ فَقَالَتْ: مِنْ وَطَنِي. فَقُلْتُ لَهَا: إِلَى أَيْنَ؟ فَقَالَتْ: إِلَى سَكَنِي. فَقُلْتُ لَهَا: بِلا زَادٍ؟ فَقَالَتْ: لَمَّا اسْتَزَدْنَا إِلَيْهِ ذَوَّدَنَا لِلصِّدْقِ التَّوَكُلَ عَلَيْهِ. قُلْتُ: بِلا مَاءٍ؟ قَالَتْ: إِنَّمَا يَحْمِلُ الْمَاءَ مَنْ يَخَافُ الظَّمَأَ ! 229 أَنْبَأنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعَدَةَ، أَنْبَأنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَنْبَأنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ، أَنْبَأنَا عُمَرُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ نَصْرٍ الْحَلَبِيُّ، أَنْبَأنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَطَّانُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ دَاوُدَ الْوَاسِطِيَّ، يَقُولُ: بَيْنَمَا أَنَا وَاقِفٌ بِعَرَفَاتٍ إِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ وَهِيَ تَقُولُ: مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ، فَقُلْتُ: امْرَأَةٌ ضَالَّةٌ عَنْ بَعِيرِي، فَقُلْتُ لَهَا: يَا هَذِهِ، مَا قِصَّتُكَ؟ ، فَقَرَأَتْ: {وَلا تَقْفُ مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: 36] ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: حَرُورِيَّةٌ لا تَرَى كَلامَنَا، فَقُلْتُ لَهَا: مِنْ أَيْنَ أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1] فَأَرْكَبْتُهَا بَعِيرِي، وَقُدْتُ بِهَا أُرِيدُ رِحَالَ الْمَقْدِسِيِّينَ، فَلَمَّا تَوَسَطْتُ الرِّحَالَ، قُلْتُ: يَا هَذِهِ بِمَنْ أُصَوِّتُ؟ فَقَرَأَتْ: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص: 26] ، {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ} [مريم: 7] ، {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] ، فَنَادَيْتُ: يَا زَكَرِيَّا، يَا دَاوُدُ، يَا يَحْيَى. فَخَرَجَ إِلَيَّ ثَلاثَةُ فُتْيَانٍ مِنْ بَيْنِ الرِّحَالِ، فَقَالُوا: أُمُّنَا وَرَبُّ الْكَعْبَةِ، ضَلَّتْ مُنْذُ ثَلاثٍ، فَأَنْزَلُوهَا، فَقَرَأَتْ: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف: 19] فَغَدَوْا وَاشْتَرَوْا تَمْرًا وَفُسْتُقًا، وَجَوْزًا، وَسَأَلُونِي قَبُولَهُ، فَقَبِلْتُ، وَقُلْتُ: مَا لَهَا؟ فَقَالُوا: هَذِهِ أُمُّنَا، لَمْ تَتَكَلَّمْ مُنْذُ ثَلاثِينَ سَنَةً إِلا بِالْقُرْآنِ مَخَافَةَ أَنْ تَزِلَّ ! 230 أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو سَعْدٍ الْحِيرِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، أَنْبَأنَا جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ الْخُلْدِيُّ، أَنْبَأنَا غُلامُ خَلِيلٍ، قَالَ: كُنْتُ فِي الْبَادِيَةِ، فَرَأَيْتُ امْرَأَةً تَمْشِي مَشْدُودَةَ الْوَسَطِ، فَتَعَجَّبْتُ مِنْهَا، فَقُلْتُ: أَيْنَ تُرِيدِينَ؟ فَقَالَتْ: إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ. قُلْتُ: وَهَلْ مَعَكَ زَادٌ؟ قَالَتْ: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: غُلامُ الْخَلِيلِ. فَأَخَذَتْ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ مِنْ تَحْتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 رِجْلِهَا، فَدَفَعَتْهَا إِلَيَّ، فَقَالَتْ: ذُقْ مِنْ زَادِي، فَذُقْتُهُ فَإِذَا هُوَ سَوِيقٌ وَسُكَّرٌ، ثُمّ قَالَتْ: لَوْ كُنْتَ طَائِرًا لَمَا طِرْتَ بِبَلْدَةٍ أَنْتَ زَاهِدُهَا، أُفٍّ لِهَذِهِ الْقُلُوبِ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ نَاصِرٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَقِيهِ، أَنْبَأنَا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأنَا الْعَبَّاسُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنِي أَبُو مُوسَى الشَّوَّاءُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بِلالٍ الأَسْوَدُ، قَالَ: خَرَجْتُ حَاجًّا، فَلَمَّا صِرْتُ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ إِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ لَيْسَ مَعَهَا زَادٌ وَلا إِدَاوَةٌ، فَقُلْتُ لَهَا: مِنْ أَيْنَ أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: مِنْ بَلْخَ. فَقُلْتُ لَهَا: مَا أَرَى مَعَكَ زَادًا وَلا مَا تَحْمِلِينَ فَيِهِ الزَّادَ؟ فَقَالَتْ: خَرَجْتُ مَعِي مِنْ بَلْخَ عَشَرَةٌ مِنَ الدَّرَاهِمَ، وَقَدْ بَقِيَ مَعِيَ بَعْضُهَا. قُلْتُ: فَإِذَا نَفَدَتْ مَا تَصْنَعِينَ؟ فَقَالَتْ: عَلَيَّ هَذِهِ الْجُبَّةُ، أَبْتَاعُهَا وَآخُذُ دُونَهَا، قُلْتُ: فَإِذَا نَفَدَتْ مَا تَصْنَعِينَ؟ قَالَتْ: أَبِيعُ هَذَا الْحِمَارَ، وَآخُذُ دُونَهُ، وَأُنْفِقُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، قُلْتُ: فَإِذَا فَنِيَ؟ قَالَتْ: أَسْأَلُهُ فَيُعْطِينِي. قُلْتُ: أَلا سَأَلْتِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: وَيْحَكَ إِنِّي أَسْتَحِي أَنْ أَسْأَلَهُ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَعِي فَضْلٌ مَنْ عَرَضِهَا. فَقُلْتُ: اعْتَقِبِي هَذَا الْحِمَارَ عَقَبَةً. فَقَالَتْ: دَعْهُ. فَتَرَكَهُ مَعَهَا، وَتَخَلَّفَتْ لِحَاجَةٍ، فَلَمَّا قَضَيْتُ حَاجَتِي أَسْرَعْتَ فِي إِثْرِهَا، فَإِذَا الْحِمَارُ وَاقِفٌ، وَالْخَرْجُ مَمْلُوءٌ. فَرَآنِي حَوَارِيٌّ لَمْ أَرَ بِحُسْنِهِ، فَطَلَبْتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ أَرَهَا. وَقَالَ سَرِيٌّ السَّقَطِيُّ: خَرَجْتُ إِلَى الْحَجِّ عَلَى طَرِيقِ الْكُوفَةِ، فَلَقِيتُ جَارِيَةً حَبَشِيَّةً، فَقُلْتُ لَهَا: إِلَى أَيْنَ يَا جَارِيَةُ؟ فَقَالَتْ: الْحَجُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَقُلْتُ: الطرَّيِقُ بَعِيدٌ. فَقَالَتْ: بَعِيدٌ عَلَى كَسَلانَ أَوْ ذِي مَلالَةٍ فَأَمَّا عَلَى الْمُشْتَاقِ فَهُوَ قَرِيبُ ثُمَّ قَالَتْ: يَا سَرِيُّ، {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا {6} وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 6-7] ، فَلَمَّا وَصَلَتُ إِلَى الْبَيْتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 رَأَيْتُهَا تَطُوفُ، فَنَظَرَتْ إِلَيَّ، وَقَالَتْ: يَا سَرِيُّ، لا تَعْجَبُ، أَنَا تِلْكَ الْبَعِيدَةُ، لَمَّا جِئْتُهُ بِضَعْفِي، حَمَلَنِي بِقُوَّتِهِ. وَقَالَ الشِّبْلِيُّ: كُنْتُ يَوْمًا فِي الْبَادِيَةِ، وَإِذَا بِجَارِيَةٍ حَبَشِيَّةٍ بَيْنَ عَيْنَيْهَا شَرْطَةٌ، وَمَا مَعَهَا زَادٌ وَلا رَكْوَةٌ، فَقُلْتُ لَهَا: مِنْ أَيْنَ؟ فَقَالَتْ: مِنْ عِنْدِ الْحَبِيبِ. فَقُلْتُ لَهَا: وَإِلَى أَيْنَ؟ قَالَتْ: إِلَى الْحَبِيبِ. فَقُلْتُ: أَيْش تَطْلُبِينَ مِنَ الْحَبِيبِ؟ قَالَتْ: الْحَبِيبَ. قُلْتُ: كَمْ ذِكْرُ الْحَبِيبِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: مَا يَسْكُنُ لِسَانِي عَنْ ذِكْرِهِ حَتَّى أَلْقَاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 بَابٌ ذِكْرُ مَنْ طَالَ عَلَيْهُ سَفَرُهُ فَاشْتَاقَ إِلَى وَطَنِهِ اسْتَأْذَنَ أَشْجَعُ السُّلَمِيُّ الرَّشِيدَ فِي الْحَجِّ، فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمَّا حَجَّ وَرَجَعَ فَصَارَ عِنْدَ بِئْرِ مَيْمُونَةَ، قَالَ: أَلا لَيْتَ حَيًّا بِالْعِرَاقِ عَهِدْتُهُمْ ... ذَوِي غِبْطَةٍ فِي عَيْشِهِمْ وَلَيَانِ يَرَوْنَ دُمُوعِي حِينَ يَشْتَمِلُ الدُّجَا ... عَلَيَّ وَمَا أَلْقَى مِنَ الْحَدَثَانِ أَمِنْ بِئْرِ مَيْمُونٍ تَحِنَّ صَبَابَةً ... إِلَى أَهْلِ بَغْدَادَ وَتِلْكَ أَمَانِي بَعُدْتَ وَبَيْتُ اللَّهِ عَمَّنْة تُحِبُّهُ ... هَوَاكَ عِرَاقِيُّ وَأَنْتَ يَمَانِي إِذَا ذُكِرَتْ بَغْدَادُ لِي فَكَأَنَّمَا ... تَحَرَّكُ فِي صَدْرِي شِبَاهُ سِنَانِ وَحَجَّ مُوسَى بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَلَمَّا رَجَعَ فَصَارَ بِالثَّعْلَبِيَّةِ اشْتَدَّ شَوْقُهُ، فَقَالَ: لَمَّا وَرَدْتُ الثَّعْلَبِيَّةَ ... عِنْدَ مُجْتَمَعِ الرِّفَاقِ وَشَمَمْتُ مِنْ بَرْدِ الْحِجَازِ ... نَسِيمَ أَرْوَاحِ الْعِرَاقِ أَيْقَنْتُ لِي وَلِمَنْ هَوَيْتُ ... بِأُلْفَةٍ بَعْدَ افْتِرَاقِ مَا بَيْنَنَا إِلا تَصُرَّمُ ... هَذِهِ السَّبْعِ الْبَوَاقِي حَتَّى يَطُولَ حَدِيثُنَا ... بِصُنُوفِ مَا كُنَّا نُلاقِي وَقَالَ الرَّضِيُّ: تَرَى النَّازِلِينَ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ ... قَدْ عَلِمُوا أَنَّ وَجْدِي كَذَا دَنَا طَرَبٌ وَالْهَوَى نَازِحٌ ... فِيمَا بَعْدَ ذَاكَ وَيَا قُرْبَ ذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 بَابٌ فِي تَوْدِيعِ الرِّفَاقِ قَالَ جَرِيرٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى: أَتْبَعْتُهُمْ مُقْلَةَ إِنْسَانِهَا غَرَقٌ ... هَلْ يَا تُرَى تَارِكٌ لِلْعَيْنِ إِنْسَانًا يَا حَبَّذَا جَبَلُ الرَّيَّانِ مِنْ جَبَلٍ ... وَحَبَّذَا سَاكِنُ الرَّيَّانِ مَنْ كَانَا وَحَبَّذَا نَفَحَاتٌ مِنْ يَمَانِيَّةٍ ... تَأْتِيكَ مِنْ قِبَلِ الرَّيَّانِ أَحْيَانَا هَلْ تَرْجِعَنَّ وَلَيْسَ الدَّهْرُ مُرْتَجِعًا ... عَيْشًا لَنَا طَالَ مَا احْلَوْلَى وَمَا لانَا وَقَالَ الرَّضِيُّ: أَمَا عَلِمَ الْغَادُونَ وَالْقَلْبُ خَلَفْهُمْ ... يَضُمُّ زَفِيرًا يَصْدَعُ الْقَلْبَ ضَمُّهُ بِأَنَّ وَمِيضَ الْبَرْقِ مَا لا أُشِيمُهُ ... وَأَنَّ نَسِيمَ الرَّوْضِ مَا لا أَشُمُّهُ وَلَهُ: وَلَمَّا أَبَى الأَظْعَانُ إِلا فِرَاقَنَا ... وَلِلْبَيْنِ وَعْدٌ لَيْسَ فِيهِ كَذَّابُ رَجَعْتُ وَدَمْعِيَ جَازِعٌ مِنْ تَجَلُّدِي ... يَرُومُ نُزُولا لِلْجَوَى فَيَهَابُ وَأَثْقَلُ مَحْمُولٍ عَلَى الْعَيْنِ مَاؤُهَا ... إِذَا بَانَ أَحْبَابٌ وَعَزَّ إِيَابُ وَلَهُ: أَرَاكَ سَتُحْدِثُ لِلْقَلْبِ وَجْدًا ... إِذَا مَا الرِّكَابُ وَدَّعْنَ نَجْدَا بَوَاكِرُ يَطْلُعْنَ نُقَبَ الْغُوَيْرِ ... شَأَوْنَ النَوَاظِرَ نَأْيًا وَبُعْدَا تَتْبَعُهُمْ نَظَرَاتُ الصُّقُورِ ... آنَسْنَ هَفْهَفَةَ الطَّيْرِ جَدَّا كَأَنَّا بِنَجْدٍ غَدَاةَ الْوَدَاعِ ... نُصَادِي عُيُونًا مِنَ الدَّمْعِ رُمْدَا وَأَيْسَرُ مَا نَالَ مِنَّا الْغَلِيلُ ... أَنْ لا نُحِسُّ مِنَ الْمَاءِ بَرْدَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 أَثَارُوا زَفِيرًا بِلَفِّ الضُّلُوعِ ... لَفِّ الرِّمَاحِ أَنَابِيبَ مُلْدَا فَكُلُّ حَرَارَةٍ أَنْفَاسُهُ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْدَا وَإِنِّي لِلشَّوْقِ مِنْ بَعْدِهِمْ ... أُرَاعِي الْجَنُوبَ رَوَاحًا وَمَغْدَا وَأَفْرَحُ مِنْ نَحْوِ أَوْطَانِهِمْ ... بِغَيْثٍ يُجَلْجِلُ بَرْقًا وَرَعْدَا إِذَا طَلَعَ الرَّكْبُ يَمَّمْتُهُمْ ... أُحَيِّيَ الْوُجُوهَ كُهْلا وَمُرْدَا وَأَسْأَلُهُمْ عَنْ عقيق الحمى ... وَعَنْ أَرْضِ نَجْدٍ وَمَنْ حَلَّ نَجْدَا نَشَدْتُكُمُ اللَّهَ فَلْيُخْبِرْنَ ... مَنْ كَانَ أَقْرَبَ بِالرَّمْلِ عَهْدَا هَلِ الدِّيَارُ بِالْجَزْعِ مَأْهُولَةٌ ... أَنَارَ الرَّبِيعُ عَلَيْهَا وَأَسْدَى وَهَلْ حَلَبَ الْغَيْثُ أَخْلافَهُ ... عَلَى مَحْضَرٍ مِنْ زُرُودٍ وَمَبْدَا؟ وَهَلْ أَهْلُهُ عَنْ تَنَائِي الدِّيَارِ ... يُرَاعُونَ عَهْدًا وَيَرْعَوْنَ وُدًّا؟ وَلَهُ: أَشْكُو إِلَيْكَ مَدَامِعًا تَكِفُّ ... بَعْدَ النَّوَى، وَجَوَانِحًا تَجِفُ لا يُبْعِدُ اللَّهُ الَّذِينَ نَأَوْا ... وَقَفُوا الْغَرَامَ بِنَا، وَمَا وَقَفُوا أَيُّ الْقُوَى قَطَعُوا وَأَيَّ الدِّمَا ... سَفَكُوا، وَأَيَّ جِرَاحَةٍ قَرَفُوا لَمْ أَنْسَ مَوْقِفَنَا وَمَوْقِفَهُمْ ... يَوْمَ النَّوَى، وَدُمُوعُنَا تَكِفُ مَا كَانَ أَسْرَعَ مَا بِنَا زَمَنٌ ... وَتَكَدَّرَتْ مِنْ وُدِّنَا نُطَفُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 حَبْلٌ غَدَا بِأَكُفِّنَا طَرَفٌ ... مِنْهُ، وَفِي أَيْدِي النَّوَى طَرَفُ هَلْ حَسَنٌ ذَاكَ الدَّهْرُ مَرْتَجَعٌ ... أَمْ طَيِّبٌ ذَاكَ الْعَيْشُ مُؤْتَنَفُ أَمْ هَلْ يُبَاحُ الْوَرْدُ ثَانِيَةً ... وَيَلَذُّ بَرْدُ الْمَاءِ مُرْتَشَفُ لَهَفِي عَلَى ذَاكَ الزَّمَانِ وَهَلْ ... يُثْنِي زَمَانًا مَاضِيًا لَهَفُ أَنْبَتَ بَعْدَكَ حَبْلُنَا وَحَدَتْ ... كُلا لِطَيَّتِهِ نَوَى قَذَفُ وَلَهُ: وَإِنِّي إِذَا اصْطَكَّتْ رِكَابُ مَطِيِّهِمْ ... وَثَوْرٌ حَادٍ بِالرِّفَاقِ عَجُولُ أُخَالِفُ بَيْنَ الرَّاحَتَيْنِ عَلَى الْحَشَا ... وَأَنْظُرُ أَنَّى مِلْتُمُ فَأَمِيلُ وَلَهُ: يَا طِيبَ نَجْدٍ وَحُسْنَ سَاكِنِهِ ... لَوْ أَنَّهُمْ أَنْجَزُوا الَّذِي وَعَدُوا قَالُوا وَقَدْ قَرُبَتْ رَكَائِبُنَا ... وَالْقَلْبُ يَظْمَأُ بِهِمْ وَلا يَرِدُ أَنَازِلٌ أَرْضَنَا فَقُلْتُ لَهُمْ؟ ... أَنْجَدَ قَلْبِي وَأَعْرَقَ الْجَسَدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وَلِمِهْيَارٍ: لَوْ كُنْتَ تَبْلُو غَدَاةَ السَّفْحِ أَخْبَارِي ... عَلِمْتَ أَنْ لَيْسَ مَا عَيَّرْتَ بِالْعَارِ شَوْقٌ إِلَى الْوَطِنِ الْمَحْبُوبِ جَاذِبٌ أَضْلاعِي ... وَدَمْعٌ جَرَى مِنْ فُرْقَةِ الْجَارِ وَوَقْفَةٌ لَمْ أَكُنْ فِيهَا بِأَوَّلَ مَنْ ... بَانَ الْخَلِيطُ فَدَاوَى الْوَجْدَ بِالدَّارِ وَلُمْتُ فِي الْبَرْقِ زَفْرَاتِي فَلَوْ عَلِمَتْ ... عَيْنَاكَ مِنْ أَيْنَ ذَاكَ الْبَارِقُ السَّارِي طَارَتْ شَرَارَتُهُ مِنْ جَوِّ كَاظِمَةٍ ... تَحْتَ الدُّجَى بِلَبَانَاتِي وَأَوْطَارِي هَلْ بِالدِّيَارِ عَلَى لَوْمِي وَمَعْذِرَتِي ... عَدْوَى تُقَامُ عَلَى وَجْدِي وَتِذْكَارِي أَمْ أَنْتَ تَعْدِلُ فِيمَالا تُرِيدُ بِهِ ... إِلا مُدَاوَاةَ حَرِّ النَّارِ بِالنَّارِ وَلَهُ: سَلْ بِالْغُوَيْرِ السَّائِقَ الْمُغِلِّسَا ... هَلْ يَسْتَطِيعُ سَاعَةً أَنْ يَحْبِسَا؟ فَإِنَّ فِي الدَّارِ رَزَايَا لَوْعَةٍ ... نُوقًا ضِعَافًا وَعُيُونًا نُعَّسَا وَثَمُلَيْنِ مَا أَدَارُوا بَيْنَهُمْ ... إِلا السُّهَادَ وَالدُّمُوعَ أَكْؤُسَا مَا عَلِمَتْ نُفُوسُهُمْ أَنَّ الرَّدَى ... مِيقَاتُهُ الصُّبْحُ إِذَا تَنَفَّسَا تَرَكْتَ مِنْ خَلْفِكَ أَجْسَامَهُمْ ... وَسَقَتْ مَا بَيْنَ يَدَيْكَ الأَنْفُسَا وَهَلْ عَلَى مَاءِ النَّخِيلِ مَطْعَنٌ ... إِذَا وَرِدْتَ مَثْلَثًا أَوْ مَخْمَسَا وَلَهُ: يَقُولُونَ: قَبْلَ الْبَيْنِ عَيْنُكَ تَدْمَعُ ... دَعُوا مُقْلَةً تَدْرِي غَدًا مَنْ تُوَدِّعُ تَرَى بِالنَّوَى الأَمْرَ الَّذِي لا يَرَوْنَهُ ... هَوًى، فَيَقُولُونَ الَّذِي لَيْسَ يَسْمَعُ وَدُونَ انْصِدَاعِ الشَّمْلِ لَوْ تَسْمَعُونَهُ ... أَنِينُ حَصَاةٍ الْقَلْبُ مِنْهُ تَصَدَّعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 أَعِدْ ذِكْرَ نَعْمَانَ أَعِدْ إِنَّ ذِكْرَهُ ... مِنَ الطِّيبِ مَا كَرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ فَإِنْ قَرَّ قَلْبِي فَاتَّهِمْهُ وَقُلْ لَهُ: ... بِمَنْ أَنْتَ بَعْدَ الْعَامِرِيَّةِ مُولَعُ وَلَهُ: مَنْ بِمِنًى وَأَيْنَ جِيرَانُ مِنًى ... لا تَكُونُ أَرْبَعَا سَلَبْتُمُونِي كَبِدًا صَحِيحَةً ... أَمْسِ فَرَدُّوهَا عَلَيَّ قِطَعَا عَدِمْتُ صَبْرِي فَجَزِعْتُ بَعْدَكُمُ ... ثُمَّ ذُهِلْتُ فَعَدِمْتُ الْجَزَعَا فَارْتَجِعَا لِي لَيْلَةً بِحَاجِرٍ ... إِنْ تَمَّ فِي الْفَائِتِ أَنْ يُرْتَجَعَا وَغَفْلَةٍ سَرَقْتُهَا مِنْ زَمَنِي ... بِلَعْلَعٍ سَقَى الْغَمَامُ لَعْلَعَا وَلَهُ: نَشَدْتُكِ يَا بَانَةَ الأَجْرَعِ ... مَتَى دَفْعُ الْحَيِّ مِنْ لَعْلَعْ وَهَلْ مَرَّ قَلْبِي فِي التَّابِعِينَ ... أَمْ خَارَ ضَعْفًا فَلَمْ يَتْبَعْ؟ فَقَدْ كَانَ يُطْمِعُنِي فِي الْمُقَامِ ... وَنِيَّتُهُ نِيَّةُ الْمُزْمِعْ وَسِرْنَا جَمِيعًا وَرَاءَ الْحُمُولِ ... وَلَكِنْ رَجَعْتُ وَلَمَ يَرْجِعْ رَأَيْتُهُ لَكِنْ بَيْنَ الْقُلُوبِ ... إِذَا اشْتَبَهْتُ اشْتَبَهْتُ أَنَّهُ الْمُوجَعْ وَشَكْوَى تَدُلُّ عَلَى سُقْمِهِ ... فَإِنْ أَنْتِ لَمْ تُبْصِرِي فَاسْمَعِي وَأَبْرَحُ مِنْ فَقْدِهِ أَنَّنِي ... أَظُنُّ الأَرَاكَةَ عَنِّي تَعِي وَلَهُ: لَوْ كَانَ يَرْفُقُ طَاعِنٌ بِمُشَيِّعٍ ... رُدُّوا فُؤَادِي يَوْمَ كَاظِمَةٍ مَعِي قَالُوا: النَّوَى، وَخَرَجْتُ وَهُوَ مُصَاحِبِي ... وَرَجَعْتُ وَهُوَ مَعَ الْخَلِيطِ مُوَدِّعِي فَلأَيَّمَا مُهْجَتِي تَأَسُّفِي ... وَبِأَيِّ قَلْبَيَّ الْغَدَاةَ تَفَجُّعِي أَطَأُ الثَّرَى مُتَمَلْمِلا وَكَأَنَّنِي ... لَهَبًا وَقَفْتُ عَلَى حَرَارَةِ أَضْلُعِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 هَلْ يَمْلِكُ الْحَادِي تَلَوُّمَ سَاعَةٍ؟ ... إِنَّ الْبَطِيءَ مُعَذَّبٌ بِالْمُسْرِعِ أَمْ هَلْ إِلَيْهِ رِسَالَةٌ مَسْمُوعَةٌ ... عَنِّي فَيُنْصِتَ لِلْبَلِيغِ الْمُسْمِعِ؟ رَوِّحْ بِذَي سَلَمٍ عَلَى مُتَأَخِّرٍ ... طَمِعَ اللِّحَاقَ وَإِنْ أَبَيْتَ فَجَعْجِعِ إِنْ شَاءَ بَعْدَهُمُ الْحَيَا فَلْيَنْسَكِبْ ... أَوْ شَاءَ ظِلُّ غَمَامَةً فَلْيُقْلِعِ فَمَقِيلُ جِسْمِي فِي ذُبُولِ رُبُوعِهِمْ ... كَافٍ وَشُرْبِي مِنْ فَوَاضِلِ أَدْمُعِي وَلَهُ: لَعَلَّهُمْ لَوْ وَقَفُوا ... أَبَلَّ هَذَا الْمُدْنَفُ قَالُوا: غَدًا وَعْدُ النَّوَى ... يَا بَرْدَهَا لَوْ لَمْ يَفُوا هَلْ أَنْتَ يَا قَلْبُ مَعِي ... أَوْ مَعَهُمْ مُنْصَرِفُ؟ وله: طَوَوْا عَرْضَ الْبِلادِ وَغَادَرُونِي ... بِصَبْرٍ ظَاعِنٍ وَهُوَ مُقِيمِ وَوَلَّوْهَا الأَعِنَّةَ مُطْلَقَاتٌ ... وَبَقَّوْنِي أَعَضُّ عَلَى الشَّكِيمِ نَطَقْتُ وَلَوْ أَطَعْتُ لَطَالَ صَمْتِي ... عَلَى مَا اعْتَدْتُ مِنْ خُلُقِي وَخِيمِي وَلَهُ: قَالُوا: النَّوَى تُسَمِّيهِ ... وَالْمَوْتُ يَعْنِي مَنْ عَنَا مَنِ اشْتَكَى أَشْجَانَهُ ... فَمَا أَحْسَنَ شَجَنَا لَمْ يَتْرُكِ الْغَادُونَ لِي ... قَلْبًا يُحِسُّ الْحَزَنَا كَانَ فُؤَادِي وَهُمُ ... ظَعَنُوا فَظَعَنَا مَنْ سَائِلٌ لِي بِالْحِمَى ... ذَاكَ الْكَثِيبَ الأَيْمَنَا؟ مَا بَالُ رَكْبٍ مِنْهُمُ ... مَرَّ عَلَيْهِ مُوهِنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 وَلَهُ: صَحَا الْقَلْبُ لَكِنْ صَبْوَةٌ وَحَنِينُ ... وَأَقْصَرَ إِلا أَنْ يَخِفَّ قَطِينُ إِذَا بَاشَرَتْهُ فَضْلَةٌ مِنْ جَلادَةٍ ... عَلَى هَاجِرِ عَزَّتْهُ يَوْمَ تَبِينُ وَقَالُوا: يَكُونُ الْبَيْنُ وَالْمَرْءُ رَابِطٌ ... حَشَاهُ بِفَضْلِ الْحَزْمِ كَيْفَ يَكُونُ وَقَدْ يَضْمَنُ الْقَلْبُ الصَّرَامَةَ لَوْ وَفَى ... وَيَصْدُقُ وَعْدُ الصَّبْرِ ثُمَّ يَمِينُ دَعُونِي فَلِي إِنْ رُمْتُ الْعَيْشَ وَقْفَةٌ ... أُعَلِّمُ فِيهَا الصَّخْرَ كَيْفَ يَلِينُ وَخَلُّوا دُمُوعِي أَوْ يُقَالُ: نَعَمْ بَكَا ... وَزَفْرَةُ صَدْرِي أَوْ يُقَالُ: حَزِينُ فَلَوْلا غَلِيلُ الشَّوْقِ أَوْ دَمْعَةُ الْجَوَى ... لَمَا خُلِقَتْ لِي أَعْيُنٌ وَجُفُونُ وُجُوهٌ عَلَى وَادِي الْغَضَا لا عَدِمْتُهَا ... فَكُلُّ عَزِيزٍ بِالْجَمَالِ يَهُونُ تَشَبَّثْتُ بِالأَقْمَارِ عَنْهَا عُلالَةً ... وَبَانَاتُ سَلْعٍ وَالْفَرُوقُ تَبِينُ وَعَوَّذَنِي عَرَّافُ نَجْدٍ بِذِكْرِهَا ... فَأَعْلَمَنِي أَنَّ الْغَرَامَ جُنُونُ تَعُودُ دَاءً ظَاهِرًا أَنْ يُطِبَّهُ ... فَكَيْفَ لَهُ بِالدَّاءِ وَهُوَ دَفِينُ وَلِشَيْخِنَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَارِعِ: لَمْ يَقْضِ مِنْ سَفَرِ الصُّدُودِ قُدُومُهُمُ ... حَتَّى تَنَادَوْا لِلنَّوَى يَتَحَمَّلُ دَعْ شَانَ عَيْنِكَ يَا شَوْقُ وَشَانَهُمُ ... وَدَعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الْحَشَا وَتَمَلْمَلُ الْيَوْمَ آخِرُ عَهْدِهِمْ وَلَقَلَّمَا ... يُغْنِي وُقُوفُكَ سَاعَةً فِي الْمَنْزِلِ وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَارِجَةَ إِذَا وَدَّعَ الْبَيْتَ، رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، وَرَفَعَ عَقِيرَتَهُ، يَقُولُ: وَلَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنًى كُلَّ حَاجَةٍ ... وَمَسَّحَ بِالأَرْكَانِ مَنْ هُوَ مَاسِحُ وَشُدَّتْ عَلَى هُدُبِ الْمَهَا رِئِيِّ رِحَالُنَا ... وَلا يُنْظَرُ الْغَادِي الَّذِي هُوَ رَائِحُ أَخَذْنَا بِأَطْرَافِ الأَحَادِيثِ بَيْنَنَا ... وَسَالَتْ بِأَعْنَاقِ الْمَطِيِّ الأَبَاطِحُ وَلِبَعْضِ مَنْ لَمْ يُسَمَّى: أَلا رُبَّ مَسْعُوفٍ بِمَا لا يَنَالُهَ ... غَدَاةَ يُسَاقُ الْمُسْرِعُونَ إِلَى النَّحْرِ وَيَا رَبِّ بَارِكْ شَجْوَةً وَمُعَوَّلا ... إِذَا مَا زَرَى الأَطْنَابِ تُنْزَعُ لِلنَّفْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 بَابٌ ذِكْرُ مَنْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ فَزَارَ قَبْرَ قَرَابَتِهِ فِي طَرِيقِهِ رَوَى بُرَيْدَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَتَى مَكَّةَ أَتَى جِذْمَ قَبْرٍ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، وَجَلَسَ النَّاسُ حَوْلَهُ، وَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ كَهَيْئَةِ الْمُخَاطِبِ وَهُوَ يَبْكِي، فَاسْتَقْبَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وكَانَ جَرِيئًا عَلَيْهِ، فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا الَّذِي أَبْكَاكَ؟ قَالَ: «هَذَا قَبْرُ أُمِّي، سَأَلْتُ رَبِّي زِيَارَتَهُ فَأَذِنَ لِي، وَسَأَلْتُهُ الاسْتِغْفَارَ، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَذَكَرْتُهَا فَبَكَيْتُ» ، فَلَمْ يُرَ بَاكِيًا أَكْثَرَ مِنْ يَوْمِئِذٍ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأنَا ابْنُ الْعَلافِ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْحِمَامِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَرِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ الأَنْصَارِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ التُّرْجُمَانُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مِلْحَانَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ حَيَّانَ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ وَقَفَ عَلَى عُسْفَانَ، فَنَظَرَ يَمِينًا وَشِمَالا فَأَبْصَرَ قَبْرَ أُمِّهِ آمِنَةَ، فَوَرَدَ الْمَاءَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَلَمْ يَفْجَأْنَا إِلا بِبُكَائِهِ، فَبَكَيْنَا لِبُكَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: «مَا الَّذِي أَبْكَاكُمْ؟» قَالُوا: بَكَيْتَ فَبَكَيْنَا. قَالَ: «وَمَا ظَنَنْتُمْ؟» قُلْنَا: ظَنَنَّا أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ عَلَيْنَا. قَالَ: «لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 قَالُوا: فَظَنَنَّا أَنَّ أُمَّتَكَ كُلِّفَتْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا لا يَطِيقُونَ. قَالَ: «لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَلَكِنْ مَرَرْتُ بِقَبْرِ أُمِّي فَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا، فَنُهِيتُ، فَبَكَيْتُ، ثُمَّ عُدْتُ فَصَلَّيْتُ وَاسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا، فَنُهِيتُ، فَبَكَيْتُ، ثُمَّ عُدْتُ فَصَلَّيْتُ وَاسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا، فَزُجِرْتُ، فَعَلا بُكَائِي» ، ثُمَّ دَعَا بِرَاحِلَتِهِ فَرَكِبَهَا، فَمَا سَارَ إِلا هُنيَّةً حَتَّى غَاصَتِ النَّاقَةُ بِثِقَلِ الْوَحْيِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] إِلَى قَوْلِهِ: {تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُشْهِدُكُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ آمِنَةَ كَمَا تَبَرَّأَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ أَبِيهِ» . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي عَامِ الْفَتْحِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْبَأنَا الْحَرِيرِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَيَّاطُ، أَنْبَأنَا ابْنُ دُوَسْتِ، أَنْبَأنَا ابْنُ صَفْوَانَ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، أَنْبَأنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، أَنْبَأنَا يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَارَ قَبْرَ أُمَّهُ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي» . انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 بَابُ ذِكْرِ الْمُجَاوَرَةِ بِمَكَّةَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُجَاوَرَةِ بِمَكَّةَ، فَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَمْ يَكْرَهْهَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ بَلِ اسْتَحَبُّوهَا. فَمَنْ كَرِهَهَا فَلأَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: خَوْفُ الْمَلَلِ. وَالثَّانِي: قِلَّةُ الاحْتِرَامِ، لِمُدَاوَمَةِ الأُنْسِ بِالْمَكَانِ. وَالثَّالِثُ: لِيَهِيجَ الشَّوْقُ بِالْمُفَارَقَةِ فَيَنْشَأَ دَاعِيَةُ الْعَوْدِ، فَإِنَّ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالْكَعْبَةِ وَالإِنْسَانُ فِي بَيْتِهِ، خَيْرٌ مِنْ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْبَيْتِ وَالإِنْسَانُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ. وَالرَّابِعُ: خَوْفُ ارْتِكَابِ الذُّنُوبِ هُنَاكَ، فَإِنَّ الْخَطَأَ ثَمَّ لَيْسَ كَالْخَطَأِ فِي غَيْرِهِ؛ لأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَتَضَاعَفُ عُقُوبَتُهَا إِمَّا لِكَثْرَةِ عِلْمِ فَاعِلِهَا، فَلَيْسَ عِقَابُ مَنْ يَعْلَمُ، كَمَنْ لا يَعْلَمُ، أَوْ لِشَرَفِ الزَّمَانِ كَالْمَعْصِيَةِ فِي رَمَضَانَ وَالطَّاعَةِ فِيهِ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ كِحَجَّةٍ مَعِي» . وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: تَسْبِيحَةٌ فِي رَمَضَانَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ فِي غَيْرِهِ. أَوْ لِشَرَفِ الْمَكَانِ كَالْحَرَمِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى ضُوعِفَ أَجْرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخَيْرِ، وَتُوُعِدْنَ بِمُضَاعَفَةِ الْعِقَابِ عَلَى الشَّرِّ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] ، وَقَوْلِهِ: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْكَرَاهَةُ لِضِعْفِ الْخَلْقِ، وَقُصُورِهِمْ عَنِ الْقِيَامِ بِحَقِّ الْمَكَانِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو الزَّجَّاجِيُّ: مَنْ جَاوَرَ بِالْحَرَمِ وَقَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِشَيْءٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ أَظْهَرَ خَسَارَتَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكْرَهِ الْمُجَاوَرَةَ وَرَآهَا فَضِيلَةً، فَلِفَضِيلَةِ الْمَكَانِ، وَمُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَكَمَا أَنَّهُ يُخَافُ عَلَى مَنْ أَذْنَبَ هُنَاكَ أَنْ يُضَاعَفَ عِقَابُهُ، يُرْجَى لِمَنْ أَحْسَنَ هُنَاكَ أَنْ يُضَاعَفَ ثَوَابُهُ، وَقَدْ جَاوَرَ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَسَكَنَهَا مِنَ الْمُعَوَّلِ عَلَيْهِمْ بَشَرٌ عَظِيمٌ. قَالَ ابْنُ سَابِطٍ: لَمْ تَهْلِكْ أُمَّةٌ قَطُّ إِلا لَحِقَ نَبِيُّهَا بِمَكَّةَ فَتَعَبَّدَ فِيهَا حَتَّى يَمُوتَ. وَهَذَا ذِكْرُ مَنِ اسْتَوْطَنَهَا مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ: الأَسْوَدُ بْنُ خَلَفٍ، إِيَاسُ بْنُ عَبْدٍ، بُدَيْلُ بْنُ وَرَقَاءَ، بُسْرُ بْنُ سُفْيَانَ، تَمَيمُ بْنُ أُسَيْدٍ، الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، حُجَيْرُ بْنُ أَبِي إِهَابٍ، الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، حُوَيْطِبٌ، خَالِدُ بْنُ أُسَيْدٍ، خَالِدُ بْنُ الْعَاصِ، خُوَيْلِدُ بْنُ خَالِدٍ، خُوَيْلِدُ بْنُ صَخْرٍ، سُمْرَةُ بْنُ الْمُؤَذِّنِ، سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ، صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ، عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبَشِيٍّ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّعْدِيِّ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَفْوَانَ، عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ، عُتْبَةُ بْنُ أَبَيِ لَهَبٍ، عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، عُثْمَانُ بْنُ عَامِرٍ، أَبُو قُحَافَةَ، عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ، عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، عَلْقَمَةُ بْنُ الْفَغْوَاءِ، عَمْرُو بْنُ بَعْكَكٍ، عَمْرُو بْنُ أَبِي عَقْرَبٍ، عُمَيْرُ بْنُ قَتَادَةَ، عَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، قَيْسُ بْنُ السَّائِبِ، كُرْزُ بْنُ عَلْقَمَةَ، كَلَدَةُ بْنُ حَنْبَلٍ، كَيْسَانُ، لَقِيطٌ، مِحْرَشٌ، مُطِيعٌ، الْمُطَّلِبُ، مُعَتِّبٌ، الْمُهَاجِرُ، نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ، النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ. وَمِمَّنْ عُرِفَ بِكُنْيَتِهِ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ اسْمٌ: أَبُو جُمُعَةَ، أَبُو سَبْرَةَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفِهْرِيُّ، فَهَؤُلاءِ الأَرْبَعَةُ وَالْخَمْسُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَطَّنُوهَا. وَقَدْ جَاوَرَ بِهَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُقِيمُ بِهَا. فَصْلٌ وَقَدْ نَزَلَهَا مِنَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ: عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، مُجَاهِدٌ، عَطَاءٌ، يُوسُفُ بْنُ مَاهَكَ، مِقْسَمٌ، الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ، سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، الْحُمَيْدِيُّ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ الْمُجَاوِرِينَ لا يَقْضِي حَاجَتَهُ فِي الْحَرَمِ، بَلْ يَخْرُجُ إِلَى الْحِلِّ، وَبَقِيَ عَلَى هَذَا أَبُو عَمْرٍو الزَّجَّاجِيُّ الصُّوفِيُّ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَجَاوَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَرِيرِيُّ بِمَكَّةَ سَنَةً فَلَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى الْحَائِطِ، وَلَمْ يَنَمْ، فَمَرَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الْكَتَّانِيُّ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، بِمَا قَدَرْتَ عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ: عَلِمَ صِدْقَ بَاطِنِي فَأَعَانَنِي عَلَى ظَاهِرِي. ! 232 أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْبَزَّارُ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَكَى لَنَا أَبُو سَهْلٍ مَحْمُودُ بْنُ عُمَرَ الْعُكْبَرِيُّ، قَالَ: لَمَّا وَصَلَ أَبُو بَكْرٍ الآجُرِّيُّ إِلَى مَكَّةَ اسْتَحْسَنَهَا وَاسْتَطَابَهَا، وَهَجَسَ فِي نَفْسِهِ، أَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ وَلَوْ سَنَةً، فَسَمِعَ هَاتِفًا يَهْتِفُ بِهِ، وَيَقُولُ: يَا أَبَا بَكْرٍ لِمَ سِنَةً؟ ثَلاثِينَ سَنَةً، فَلَمَّا كَانَتْ سَنَةُ الثَّلاثِينَ سَمِعَ هَاتِفًا، يَقُولُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، قَدْ وَفَيْنَا بِالْوَعْدِ، فَمَاتَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 بَابُ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِمَكَّةَ أَنْبَأنَا الْحَرِيرِيُّ، عَنِ الْعُشَارِيِّ، قَالَ: أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ الْهَاشِمِيُّ، أَنْبَأنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، أَنْبَأنَا أَبُو الْوَلِيدِ الأَزْرَقِيُّ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ زَيْدٍ الْعَمِّيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ بِمَكَّةَ فَصَامَهُ كُلَّهُ، وَقَامَ مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ، كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِغَيْرِ مَكَّةَ، وَكَتَبَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ حَسَنَةً، وَكُلِّ لَيْلَةٍ حَسَنَةً، وَكُلِّ يَوْمٍ عِتْقَ رَقَبَةٍ، وَكُلِّ يَوْمٍ حُمْلانَ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكُلِّ لَيْلَةٍ حُمْلانَ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 بَابُ ذِكْرِ أَعْيَانِ الْمَدْفُونِينَ فِي الْحَرَمِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَابِطٍ: مَاتَ نُوحٌ، وَهُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ عَلَيْهِمُ السَّلامُ بِمَكَّةَ، فَقُبُورُهُمْ بَيْنَ زَمْزَمَ وَالْحِجْرِ، وَكَانَ النَّبِيُّ إِذَا هَلَكَتْ أُمَّتُهُ لَحِقَ بِمَكَّةَ، فَتَعَبَّدَ فِيهَا وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى يَمُوتَ. ! 233 أَنْبَأنَا ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَنْبَأنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعَدَةَ، أَنْبَأنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ النَّصْرُ أَبَادِيُّ، أَنْبَأنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْوَلِيدِ، أَنْبَأنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنِ ابْنِ سَابِطٍ، أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ وَزَمْزَمَ قُبُرُ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ نَبِيًّا، وَإِنَّ قَبْرَ هُودٍ، وَشُعَيْبٍ، وَصَالِحٍ، وَإِسْمَاعِيلَ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ ! 234 وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ضَمْرَةَ: بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ إِلَى زَمْزَمَ إِلَى الْحِجْرِ قُبُورُ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ نَبِيًّا ! 235 وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: خَطَبَ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ دَارٌ قَدْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهَا وَعَلَى أَهْلِهَا فَأَطِيعُوا. قَالُوا: مُرْنَا نَفْعَلْ. قَالَ: تَلْحَقُونَ بِحَرَمِ اللَّهِ، فَأَهَلُّوا مِنْ سَاعَتِهِمْ بِالْحَجِّ، ثُمَّ أَحْرَمُوا فِي الْعَبَاءِ، فَوَرَدُوا مَكَّةَ فَلَمْ يَزَالُوا بِهَا حَتَّى مَاتُوا، فَتِلْكَ قُبُورُهُمْ بَيْنَ دَارِ النَّدْوَةِ وَدَارِ بَنِي هَاشِمٍ. وَكَذَلِكَ فَعَلَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلامُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ، وَشُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلامُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ ! 236 وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: دُفِنَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فِي الْحِجْرِ ! 237 وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا تُوُفِّيَ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ دُفِنَ فِي الْحِجْرِ مَعَ أُمِّهِ، يَزْعُمُونَ أَنَّهَا دُفِنَتْ فِيهِ ! 238 وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: شَكَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّ مَكَّةَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِّي أَفْتَحُ لَكَ بَابًا مِنَ الْجَنَّةِ فِي الْحِجْرِ يَجْرِي عَلَيْكَ مِنَ الرَّوْحِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَفِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ تُوُفِّيَ قَالَ خَالِدٌ الْمَخْزُومِيُّ: فَيَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مَا بَيْنَ الْمِيزَابِ إِلَى بَابِ الْحِجْرِ الْغَرْبِيِّ فِيهِ قَبْرُهُ ! 239 وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجُمَحِيُّ: حَفَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجْرَ فَوَجَدَ فِيهِ سَفْطًا مِنْ حِجَارَةٍ خُضْرٍ، فَسَأَلَ قُرَيْشًا عَنْهُ، فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَ أَحَدٍ فِيهِ عِلْمًا، فَأَرْسَلَ إِلَى أُبَيٍّ فَسَأَلَهُ. فَقَالَ: هَذَا قَبْرُ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَلا تُحَرِّكْهُ. وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: هَذَا الْمُحْدَوْدِبُ، يُشِيرُ إِلَى مَا يَلِي الرُّكْنَ الشَّامِيَّ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قُبُورُ عَذَارَى بَنَاتِ إِسْمَاعِيلَ. قَالَ: وَذَلِكَ الْمَوْضِعُ يُسَوَّى مَعَ الْمَسْجِدِ فَلا يَنْشَبُ أَنْ يَعُودَ مَحْدُوبًا كَمَا كَانَ وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ لِمَقْبُرَةِ مَكَّةَ: «نِعْمَ الْمَقْبُرَةُ هَذِهِ» . ! 240 وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ: مَنْ قُبِرَ فِي هَذِهِ الْمَقْبُرَةِ، يَعْنِي مَقْبُرَةَ مَكَّةَ، بُعِثَ آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 وَأَنْبَأَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، أَنْبَأنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعَدَةَ، أَنْبَأنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ النَّصْرُ أَبَادِيُّ، أَنْبَأنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي بَرَّةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ قُبِرَ بِمَكَّةَ مُسْلِمًا بُعِثَ آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 بَابُ ذِكْرِ مَنْ كَانَ يُكَرِّرُ الْحَجَّ قَدْ ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَالَ: حَجَّ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى رِجْلَيْهِ أَرْبَعِينَ حَجَّةً. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ سَاجٍ، عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ: حَجَّ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى رِجْلَيْهِ سَبْعِينَ حَجَّةً مَاشِيًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: أَنَّهُ حَجَّ خَمْسَ عَشْرَةَ حَجَّةً. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: كَانَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَالِمًا بِالْحَجِّ، وَكَانَ قَدْ حَجَّ زِيَادَةً عَلَى سَبْعِينَ حَجَّةً، وَرَوَى سَمْنُونُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ شُعَيْبٍ السَّقَّاءِ، أَنَّهُ حَجَّ نَيِّفًا وَسِتِّينَ حَجَّةً مِنْ نَيْسَابُورَ ! 241 أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، عَنِ الْجَوْهَرِيِّ، عَنِ ابْنِ حَيُّوَيْهِ، أَنْبَأنَا ابْنُ مَعْرُوفٍ، أَنْبَأنَا ابْنُ الْفَهْمِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ سَعْدٍ، أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ عُييْنَةَ ابْنُ أَخِي سُفْيَانَ، قَالَ: حَجَجْتُ مَعَ عَمِّي آخِرَ حَجَّةٍ حَجَّهَا سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، فَلَمَّا كُنَّا بِجَمْعٍ وَصَلَّى، اسْتَلْقَى عَلَى فِرَاشِهِ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ وَافَيْتُ هَذَا الْمَوْضِعَ سَبْعِينَ عَامًا، أَقُولُ فِي كُلِّ سَنَةٍ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْهُ آخِرَ الْعَهْدِ، وَإِنِّي قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنَ اللَّهِ مِنْ كَثْرَةِ مَا أَسْأَلُهُ، فَرَجَعَ فَتُوُفِّيَ فِي السَّنَةِ الدَّاخِلَةِ ! 242 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَقِيهِ، أَنْبَأنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُعَدِّلُ، أَنْبَأنَا ابْنُ صَفْوَانَ، أَنْبَأنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 بْنُ عَلِيٍّ، أَنَّهُ حَدَّثَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: سَافَرَ الْمُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ إِلَى مَكَّةَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ سَفْرَةً حَافِيًا مُحْرِمًا صَائِمًا، لا يَتْرُكُ صَلاةَ السَّحَرِ فِي سَفَرِهِ، إِذَا كَانَ وَقْتُ السَّحَرِ نَزَلَ فَصَلَّى، وَيَمْضِي أَصْحَابُهُ، فَإِذَا صَلَّى الصُّبْحَ لَحِقَ مَتَى لَحِقَ ! 243 أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ، أَنْبَأنَا عَلِيُّ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الْبَلْخِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ الْبَاقِي، يَقُولُ: سَمِعْتُ بَعْضَ مَشَايِخِنَا، يَقُولُ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمُوَفَّقِ: لَمَّا تَمَّ لِي سِتُّونَ حَجَّةً نِمْتُ تَحْتَ الْمِيزَابِ فَكَأَنَّ قَائِلا يَقُولُ لِي: أَتَدْعُو إِلَى بَيْتِكَ إِلا مَنْ تُحِبُّ ! 244 أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو سَعْدٍ الْحِيرِيُّ، أَنْبَأنَا ابْنُ بَاكَوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ وَاضِحٍ، أَنْبَأنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: سَمِعْتُ حَرَّازَ بْنَ بَكْرٍ الدَّيْبَلِيَّ، قَالَ: أَحْرَمْتُ مِنْ تَحْتِ صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَدَخَلْتُ بَادِيَةَ تَبُوكَ، إِلَى أَنْ وَصَلْتُ إِلَى مَكَّةَ، فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَإِذَا بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَلاءِ جَالِسٌ فِي شِقِّ الطَّوَافِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَقَبَّلْتُ رَأْسَهُ، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ مِنْ أَيْنَ أَحْرَمْتَ؟ فَقُلْتُ: مِنْ تَحْتِ صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ: مِنْ أَيِّ طَرِيقٍ جِئْتَ؟ فَقُلْتُ: مِنْ طَرِيقِ تَبُوكَ. فَقَالَ لِي: عَلَى تَرْكِ التَّوَكُّلِ، فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنِّي أَعْرِفُ رَجُلا حَجَّ اثْنَيْنَ وَخَمْسِينَ حَجَّةً عَلَى التَّوَكُّلِ، وَهُوَ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ ذَلِكَ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا عَمِّ، بِحَقِّ هَذَا الْبَيْتِ، مَنْ هُوَ؟ قَالَ: أَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 أَخْبَرَنَا ابْنُ حَبِيبٍ، أَنْبَأنَا ابْنُ أَبِي صَادِقٍ، أَنْبَأنَا ابْنُ بَاكَوَيْهِ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ، يَقُولُ: حَجَجْتُ ثَمَانِينَ حَجَّةً عَلَى قَدَمِيَّ عَلَى الْفَقْرِ ! 246 قَرَأْتُ عَلَى ابْنِ أَبِي مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ خَلَفٍ، عَنِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: حَجَّ أَبُو جَعْفَرٍ الْخَوَّاصُ قَرِيبًا مِنْ سِتِّينَ حَجَّةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 بَابُ ذِكْرِ ثَوَابِ مَنْ مَاتَ عُقَيْبَ الْحَجِّ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ» ، قَالُوا: وَكَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ؟ قَالَ: «يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ مَوْتِهِ» . أَخْبَرَنَا ابْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، أَنْبَأنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأنَا ابْنُ مَالِكٍ، أَنْبَأنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، أَنْبَأنَا شُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ، أَنْبَأنَا بَقِيَّةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عِنَبَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَّلَهُ» ، قِيلَ: وَمَا عَسَّلَهُ؟ قَالَ: «يَفْتَحُ لَهُ عَمَلا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ» . أَمَّا أَبِو عِنَبَةَ فَلَهُ صُحْبَةٌ وَاسْمُهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِنَبَةَ. وَجُمْلَةُ مَنْ فِي الصَّحَابَةِ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ مِئَتَانِ وَعُشْرُونَ، لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عِنَبَةَ سِوَاهُ، وَلا مَنْ يُكَنَّى أَبَا عِنَبَةَ إِلا هُوَ. وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ بِالتَّاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 فَيَشْكُلُ فَلْيُحْفَظْ هَذَا الضَّبْطَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: «عَسَّلَهُ» ، بِالْعَيْنِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ، وَقَدْ صَحَّفَهُ بَعْضُهُمْ، فَذَكَرَهُ بِالْغَيْنِ وَهُوَ غَلَطٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ مَاتَ عُقَيْبَ رَمَضَانَ أَوْ عُقَيْبَ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ مَاتَ شَهِيدًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 بَابٌ فِي التَّشْوِيقِ إِلَى الْحَجِّ وَأَمَاكِنِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُجِدُّ ابْتِكَارَا ... قَدْ قَضَى مِنْ تِهَامَةَ الأَوْطَارَا إِنْ يَكُنْ قَلْبُكَ الْغَدَاةَ خَلِيًّا ... فَفُؤَادِي بِالْخَيْفِ أَمْسَى مُعَارَا لَيْسَ ذَا الدَّهْرُ كَانَ حَتْمًا عَلَيْنَا ... كُلَّ يَوْمَيْنِ حَجَّةً وَاعْتِمَارَا وَنَقَلْتُ مِنْ خَطِّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُمَيْدِيِّ، قَالَ: أَنْشَدَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ النَّحْوِيُّ بِالْمَغْرِبِ لِبَعْضِ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلادِ فِي الشَّوْقِ إِلَى مَكَّةَ: يَحِنُّ إِلَى أَرْضِ الْحِجَازِ فُؤَادِي ... وَيَحْدُو اشْتِيَاقِي نَحْوَ مَكَّةَ حَادِي وَلِي أَمَلٌ مَا زَالَ يَسْمُو بِهِمَّتِي ... إِلَى الْبَلْدَةِ الْغَرَّاءِ خَيْرِ بِلادِ بِهَا كَعْبَةُ اللَّهِ الَّتِي طَافَ حَوْلَهَا ... عِبَادٌ هُمْ لِلَّهِ خَيْرُ عِبَادِ لأَقْضِيَ فَرْضَ اللَّهِ فِي حَجِّ بَيْتِهِ ... بَأَصْدَقِ إِيمَانٍ وَأَطْيَبِ زَادِ أَطُوفُ كَمَا طَافَ النَّبِيُّونَ حَوْلَهُ ... طَوَافَ قِيَادٍ لا طَوَافَ عِنَادِ وَأَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ تَابِعًا ... لِسُنَّةِ مَهْدِيٍّ وَطَاعَةِ هَادِي وَأَرْكَعُ تِلْقَاءَ الْمَقَامِ مُصَلِّيًا ... صَلاةً أُرَجِّيهَا لِيَوْمِ مَعَادِ وَأَسْعَى سُبُوعًا بَيْنَ مَرْوَةَ وَالصَّفَا ... أُهِلُّ لِرَبِّي تَارَةً وَأُنَادِي وَآتِي مِنًى أَقْضِي بِهَا التَّفَثَ الَّذِي ... يَتِمُّ بِهِ حَجِّي وَهَدْيُ رَشَادِي فَيَا لَيْتَنِي شَارَفْتُ أَجْبُلَ مَكَّةَ ... فَبِتُّ بِوَادٍ عِنْدَ أَكْرَمِ وَادِي وَيَا لَيْتَنِي رُوِّيتُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ ... صَدًا خَالَهُ بَيْنَ الْجَوَانِحِ صَادِي وَيَا لَيْتَنِي قَدْ زُرْتُ قَبْرَ مُحَمَّدٍ ... فَأَشْفِي بِتَسْلِيمٍ عَلَيْهِ فُؤَادِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 وَلِمِهْيَارِ فِي هَذَا الْمَعْنَى: أَيَا لَيْلَ جَوٍّ مَنْ بَشَيِرُكَ بِالصُّبْحِ؟ ... وَهَلْ مِنْ مَقِيلٍ بَعْدَ ظِلِّكَ فِي الطَّلْحِ؟ شَرِبْتُ عَلَى سُؤْرِ النَّحِيلَةِ نَهْلَةً ... بِهَا لَمْ أَكُنْ أَدِري أَتُسْكِرُ أَمْ تُصْحِي؟ فَمَا لَكَ مِنْهَا غَيْرُ لَفْتَةِ ذَاكِرٍ ... إِذَا قُلْتُ بَلَّتْ أَوْقَدَتْ لَوْعَةَ الْبَرْحِ أَيَا صَاحِ كَالْمَاشِي بِخَيْرِ مُوَفَّقٍ ... تَرَنَّمْ بِلَيْلِي إِنْ مَرَرْتَ عَلَى السَّفْحِ وَقَامِرْ بِعَيْنِي فِي الْخَلِيطِ مُخَاطِرًا ... عَسَتْ نَظْرَةٌ مِنْهَا يَفُوزُ بِهَا قَدَحِي وَلَهُ: يَا نَسِيمَ الصُّبْحِ مِنْ كَاظِمَةٍ ... شَدَّ مَا هِجْتَ الأَسَى وَالْبُرَحَا الصِّبَا إِنْ كَانَ لا بُدَّ الصِّبَا ... إِنَّهَا كَانَتْ لِقَلْبِي أَرْوَحَا يَا نَدَامَايَ بِسَلْعٍ هَلْ أَرَى ... ذَلِكَ الْمُغْبِقَ وَالْمُصْطَبِحَا؟ أَذْكِرُونَا ذِكَرْنَا عَهْدَكُمُ ... رُبَّ ذِكْرَى قَرَّبَتْ مَنْ نَزَحَا وَاذْكُرُوا صَبًّا إِذَا غَنَّى بِكْمُ ... شَرِبَ الدَّمْعَ وَعَافَ الْقَدَحَا قَدْ شَرِبْتُ الصَّبْرَ عَنْكُمْ مُكْرَهًا ... وَتَبِعْتُ السُّقْمَ فِيكُمْ مُسْمِحَا وَعَرَفْتُ الْهَمَّ مِنْ بَعْدِكُمْ ... وَكَأَنِّي مَا عَرَفْتُ الْفَرَحَا وَلَهُ: أَبَا الْغَوْرِ تَشْتَاقُ تِلْكَ النُّجُودَا؟ ... رَمَيْتَ بِقَلْبِكَ مَرْمًى بَعِيدًا فُؤَادٌ أَسِيرٌ وَلا تَفْتَدِي ... وَجَفْنٌ قَتِيلُ الْبُكَا لَيْسَ يُودَى سَهِرْنَا بِبَابِلَ لِلنَّائِمِينَ ... عَمَّا نُقَاسِي بِنَجْدٍ رُقُودَا وَلَهُ: مَنْ مُبْلِغِي؟ وَالصِّدْقُ قَصْدُ حَدِيثِهِ ... وَفِي الْقَوْلِ غُلُوٌّ نَقْلُهُ وَرَشِيدُ عَنِ الرَّمْلِ بِالْبَيْضَاءِ: هَلْ هِيلَ بَعْدَنَا ... وَبَانَ الْغَضَا هَلْ يَسْتَوِي وَيَمِيدُ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 وَهَلْ ظَبْيَاتٌ بَيْنَ جَوٍّ وَلَعْلَعٍ ... تَمُرُّ عَلَى وَادِي الْغَضَا وَتَعُودُ حَمَلْنَ الْهَوَى مِنِّي عَلَى ضُعْفِ كَاهِلٍ ... وَهَى، وَتَقُولُ الْحَامِلاتُ: جَلِيدُ قَسَمًا وَلا أُقْسِمُ لِسُكَّانِ الْحِمَى ... عَنْ رَيْبَةٍ لَكِنَّهُ تَأْكِيدُ لَهُمُ وَإِنْ مَنَعُوا مَكَانَ مَطَالِبِي ... وَهُمُ وَإِنْ كَرِهُوا الَّذِين أُرِيدُ أَتَنَسَّمُ الأَرْوَاحَ وَهِيَ رَوَاكِدٌ ... مِنْهُمْ وَتَجْدِبُ أَرْضُهُمْ فَأَرُودُ وَلَقَدْ أَحِنُّ إِلَى ذَرُودَ وَطِينَتِي ... مِنْ غَيْرِ مَا فُطِرَتْ عَلَيْهِ زَرُودُ وَيَشُوقُنِي عَجَفُ الْحِجَازِ ... وَقَدْ ضَفَا رِيفُ الْعِرَاقِ وَظِلُّهُ الْمَمْدُودُ وَيُطْرِبُ الشَّادِي فَلا يَهْتَزُّنِي ... وَيَنَالُ مِنِّي السَّائِقُ الْغِرِّيدُ وَلَهُ: حَيِّهَا أَوْجُهًا عَلَى السَّفْحِ غُرًّا ... وَقِبَابًا بِيضًا وَنُوقًا حُمْرًا آهٍ وَالشَّوْقُ مَا تَأَوَّهَتُ مِنْهُ ... لِلَيَالٍ بِالسَّفْحِ لَوْ عُدْنَ أُخْرَى يَا مَغَانِيَ الْحِمَى سُقِيتِ وَمَا ... يَنْفَعُنِي الْغَيْثُ أَنْ يَجُودَكَ قَفْرَا قَلِّبُوا ذَلِكَ الرَّمَادَ تُصِيبُوا ... فِيهِ قَلْبِي إِنْ لَمْ تُصِيبُوا الْجَمْرَا وَلَهُ: خَلِيلَيَّ هَلْ مِنْ وَقْفَةٍ وَالْتِفَاتَةٍ ... إِلَى الْقُبَّةِ السَّوْدَاءِ مِنْ جَانِبِ الْحِجْرِ؟ وَهَلْ مَنْ أَرَانَا الْحَجَّ مِنَ الْخَيْفِ عَائِدٌ ... إِلَى مِثْلِهَا أَمْ عَدَّهَا حَجَّةَ الْعُمُرِ؟ فَاللَّهِ مَا أَوْفَى الثَّلاثَ عَلَى مِنًى ... لأَهْلِ الْهَوَى لَوْ لَمْ تَحِنْ لَيْلَةُ النَّفْرِ لَقَدْ كُنْتُ لا أُوتَى مِنَ الصَّبْرِ ... فَهَلْ تَعْلَمَانِ الْيَوْمَ أَيْنَ مَضَى صَبْرِي؟ قَبْلَهَا أَيَشْرُدُ قَلْبِي يَا غَزَالَةُ حَاجِرٍ ... وَأَنْتِ بِذَاتِ الْبَانِ مَجْمُوعَةُ الأَمْرِ؟ خُذِي لَحْظَ عَيْنِي فِي الْغَصُوبِ إِضَافَةً ... إِلَى الْقَلْبِ أَوْ رُدِّي فُؤَادِي إِلَى صَدْرِي وَلَهُ: كَمِ النَّوَى؟ قَدْ جَذِعَ الصَّابِرُ ... وَقَنَطَ الْمَهْجُورُ يَا هَاجِرُ أَأُحْمِدُ الْبَادُونَ فِي عَيْشِهِمْ ... مَا ذُمَّ بَعْدَهُمُ الْحَاضِرُ؟ إِنْ كَانَ يَوْمُ الْبَيْنِ حَاشَاكُمْ ... أَوَّلُ شَيْءٍ مَا لَهُ آخِرُ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وَلَهُ: أَجِيرَانَنَا أَيَّامَ جَمْعٍ تَعِلَّةً ... سَلُوا النَّفْرَ: هَلْ مَاضٍ مِنَ النَّفْرِ رَاجِعُ؟ وَهَلْ لِثَلاثٍ صَالِحَاتٍ عَلَى مِنًى ... وَلَوْ أَنَّ مِنْ أَثْمَانِهِ النَّفْسُ بَائِعُ؟ جَرَى بِهِمُ الْوَادِي وَلَوْ شِئْتَ مُسْبِلا ... جُفُونِي لَقَدْ سَالَتْ بِهِنَّ الْمَدَامِعُ أَجِنُّ بِنَجْدٍ حَاجَةً لَوْ بَلَغْتُهَا ... وَنَجْدٌ عَلَى مَرْمَى الْعِرَاقَيْنِ شَاسِعُ عَفَا الْخَيْفُ إِلا أَنْ يُعَرِّجَ سَائِلٌ ... تَعِلَّةَ شَوْقٍ أَوْ مُغَرِّدٌ سَاجِعُ وَلَهُ: هِلْ مَعِي مَا عَلَيْكَ ضَرِّي وَنَفْعِي ... نَسْأَلُ الْجَزْعَ عَنْ ظِبَاءِ الْجَزْع قُلْتُ: لا تَنْطِقُ الدِّيَارُ وَلا يَمْلِكُ ... بَالِي الطُّلُولِ سَمْعًا فَيُرْعِي وَعَلَيَّ السُّؤَالُ لَيْسَ عَلَى الْعَارِ ... إِنْ ضَنَّتِ الْمَغَانِي بِرَجْعِي لَمْ أَكُنْ أَوَّلَ الرِّجَالِ الْتَوَى صَفْوِي ... لِدَارِ الأَحْبَابِ أَوْ مَالَ ضِلْعِي هَلْ مُجَابٌ يَدْعُو مُبَدَّدٌ أَوْطَارِي ... بِجَمْعٍ يَرُدُّ أَيَّامَ جَمْعِ أَوْ أَمِينُ الْقُوَى أُحَمِّلُهُ هَمًّا ... ثَقِيلا يَحُطُّهُ دُونَ سَلْعِ فَافْرُجَا لِي عَنْ نَفْحَةٍ مِنْ صِبَاهُ ... طَالَ مَدِّي لَهَا الصَّلِيفَ وَرَفْعِي إِنْ كَانَ ذَاكَ النَّسِيمُ يَجْرِي عَلَى أَرْضٍ ... تَرَاهَا فِي الرِّيحِ رُقْيَةَ لَسْعِ كَمْ بِنْجَدٍ لَوْ وَفَى أَهْلُ نَجْدٍ ... لِفُؤَادِي مِنْ شُعْبَةٍ أَوْ صَدْعِ وَزَفِيرٍ عَلِمَتْ مِنْهُ حَمَامُ الدَّوْحِ ... مَا كَانَ مِنْ حَنِينٍ وَسَجْعِ وَلَهُ: سَقَى الْحَيَا عَهْدَ الْحِمَى أَعْذَبَ مَا ... تَسْقِي السَّمَاوَاتُ بِهِ الأَرْضِينَا وَخَصَّ بَانَاتٍ عَلَى كَاظِمَةٍ ... فَزَادَهَا نَضَارَةً وَلِينَا وَوَاصَلَتْ مَا بَيْنَهَا رِيحُ الصِّبَا ... فَعَانَقَتْ غُصُونُهَا الْغُصُونَا وَرَدَّ أَوْطَارًا بِهَا مَاضِيَةً ... عَلَيَّ ... أَوْ أَحِبَّةً بِالْحَيِّ بَاقِينَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 عَيْشٌ نَصَلْتُ مِنْ حُلاهُ وَالْفَتَى ... يَلْبَسُ حِينًا وَيَبَزُّ حِينًا وَلَهُ: هَلِ الْعَيْشُ إِلا ضَجْعَةٌ فَوْقَ رَمْلَةٍ ... بِنَشْرِ الْخَزَامَى وَالْعَرَارُ يَفُوحُ يَمُرُّ بِأَنْفَاسٍ عَلَى مَرِيضَةٍ ... وَعِنْدِي هَوًى تَحْتَ الضُّلُوعِ صَحِيحُ تَسَمَّى بِهَا صَدَّ التَّشَكِّي مِنَ الْهَوَى ... كَمَا غَنَّتِ الْوَرْقَاءُ وَهِيَ تَنُوحُ وَلِي مِنْ قَصِيدَةٍ أَتَشَوَّقُ فِيهَا إِلَى مَكَّةَ: سَلامٌ عَلَى الدِّيَارِ الَّتِي لا تَزُورُهَا ... عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَلْبَ فِيهَا أَسِيرُهَا إِذَا مَا ذَكَرْنَا طِيبَ أَيَّامِنَا بِهَا ... تَوَقَّدَ فِي نَفْسِ الذَّكُورِ سَعِيرُهَا رَحَلْنَا وَفِي سِرِّ الْفُؤَادِ ضَمَائِرٌ ... إِذَا هَبَّ نَجْدِيُّ الصِّبَا يَسْتَثِيرُهَا سَحَّتْ بَعْدَكُمُ تِلْكَ الْعُيُونُ دُمُوعَهَا ... فَهَلْ مِنْ عُيُونٍ بَعْدَهَا يَسْتَعِيرُهَا؟ أَتَنْسَى رِيَاضَ الْغَوْرِ بَعْدَ فِرَاقِهَا ... وَقَدْ أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنْكَ غَدِيرُهَا يُجَعِّدُهُ مَرُّ الشَّمَالِ وَتَارَةً ... يُغَازِلُهُ كَرُّ الصِّبَا وَمُرُورُهَا أَلا هَلْ إِلَى شَمِّ الْخَزَامَى وَعَرْعَرٍ ... وَشِيحٍ بِوَادِي الأَثْلِ أَرْضٍ يَسِيرُهَا أَلا أَيُّهَا الرَّكْبُ الْعِرَاقِيُّ بَلِّغُوا ... رِسَالَةَ مَحْزُونٍ حَوَاهُ سُطُورُهَا إِذَا كَتَبَتْ أَنْفَاسُهُ بَعْضَ وَجْدِهَا ... عَلَى صَفْحَةِ الذِّكْرَى مَحَاهُ زَفِيرُهَا تَرَفَّقْ رَفِيقِي هَلْ بَدَتْ نَارُ أَرْضِهِمْ ... أَمِ الْوَجْدُ يُذْكِي نَارَهُ وَيُنِيرُهَا أَعِدْ ذِكْرَهُمْ فَهُوَ الشِّفَا وَرُبَّمَا ... شَفَى النَّفْسَ أَمْرٌ ثُمَّ عَادَ يَضُرُّهَا أَلا أَيْنَ أَيَّامُ الْوِصَالِ الَّتِي خَلَتْ ... وَحِينَ خَلَتْ حَلَتْ وَجَاءَ مَرِيرُهَا سَقَى اللَّهُ أَيَّامًا مَضَتْ وَلَيَالِيًا ... تَضَوَّعَ رَيَّاهَا وَفَاحَ عَبِيرُهَا آخِرُ الْمُتَعَلِّقِ بِذِكْرِ مَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى. . . . . آمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 أَبْوَابٌ ذِكْرُ مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَابٌ فِي أَسْمَائِهَا أَمَّا الاسْمُ الْعَامُ فَهُوَ الْمَدِينَةُ ... وَهَذَا الاسْمُ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى كُلِّ بَلْدَةٍ فَقَدْ صَارَ بِإِطْلاقِهِ مُخْتَصًّا بِمَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَدِينَةُ عَلَى فَعِيلَةٍ وَالْجَمْعُ: مُدُنٌ. قَالَ قُطْرُبٌ: هِيَ مِنْ دَانَ ... أَيْ: أَطَاعَ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: قَوْمٌ يَقُولُونَ مِنَ الدِّينِ وَالدِّينُ: الطَّاعَةُ ... فَسُمِّيَتْ بِهِ لأَنَّهُ يُقَامُ فِيهَا طَاعَةٌ وَإِلَيْهَا. قَالَ: وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: سُمِّيَتْ مَدِينَةً لأَنَّهُ دِينَ أَهْلُهَا أَيْ: مُلِكُوا. يُقَالُ: دَانَ فُلانٌ بَنِي فُلانٍ ... أَيْ: مَلَكَهُمْ وَفُلانٌ فِي دَيْنِ فُلانٍ ... أَيْ: فِي طَاعَتِهِ. قَالَ النَّابِغَةُ: بُعِثْتَ عَلَى الْبَرِيَّةِ خَيْرَ دَاعٍ ... فَأَنْتَ إِمَامُهَا وَالنَّاسُ دِينُ وَيُقَالُ: دَيَنَ فُلانٌ أَمْرَهُ أَيْ: مَلَكَهُ. قَالَ الْحُطَيْئَةُ: لَقَدْ دَيَنْتَ أَمْرَ بَنِيكَ حَتَّى ... تَرَكْتَهُمْ أَرَقَّ مِنَ الطَّحِينِ وَيُقَالُ لِلأَمَةِ: مَدِينَةٌ لأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ مُذَلَّةٌ. قَالَ الأَخْطَلُ: رَبَتْ وَرَبَى فِي حِجْرِهَا ابْنُ مَدِينَةٍ ... يَظَلُّ عَلَى مِسْحَاتِهِ يَتَرَكَّلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 يُرِيدُ: ابْنَ أَمَةٍ. وتُسَمَّى الْمدَينَةُ: طَابَةُ ... وَطَيْبَةُ. وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَمَّاهَا طَابَةَ» . قَالَ ابْنُ فَارِسٍ اللُّغَوِيُّ: طَابَةُ وَطَيْبَةُ ... مِنَ الطَّيَّبِ. وَذَلِكَ أَنَّهَا طُهِّرَتْ مِنَ الشِّرْكِ وَكُلُّ طَاهِرٍ طَيِّبٌ ... وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الاسْتِنْجَاءُ اسْتِطَابَةً. وَأَمَّا يَثْرِبُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... أَنَّهُ قَالَ: «رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ فِيهَا نَخْلٌ فَذَهَبَ وَهْلِي أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرٌ ... فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ» . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَثْرِبُ اسْمُ أَرْضٍ وَمَدِينَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: هُوَ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّثْرِيبِ وَهُوَ اللَّوْمُ. وَيُفْتَحُ الْفِعْلُ فِي عَيْنِ فَاعِلِهِ ... قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 92] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 بَابُ فَضْلِ الْمَدِينَةِ أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْكَاتِبُ أَنْبَأنَا أَبُو عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ حَصِيفَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ خَلادٍ، أَنّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ أَخَافَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ ظُلْمًا أَخَافَهُ اللَّهُ، وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلا عَدْلا» عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْفَقِيهِ، أَنْبَأنَا ابْنُ النّقورِ، حَدَّثَنَا ابْنُ بَرْدَكٍ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَزِيزٍ، حَدَّثَنِي سَلامَةُ، عَنْ عَقِيلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ» . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لأَهْلِهَا وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلَيْ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لأَهْلِ مَكَّةَ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 وَأَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلائِكَةٌ لا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلا الدَّجَّالُ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إلا مَكَّةَ، وَالْمَدِينَةَ، لَيْسَ نَقْبٌ مِنْ أَنْقَابِهَا إِلا عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا، فَيَنْزِلُ السَّبَخَةَ، ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلاثَ رَجَفَاتٍ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ كُلُّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ» . وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «لا يَكِيدُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ إِلا انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ» . وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ أَيْضًا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «لا يَثْبُتُ أَحَدٌ عَلَى لِوَائِهَا وَجَهْدِهَا إِلا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ. وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «لا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ، عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الأَنْمَاطِيُّ، أَنْبَأنَا عَاصِمُ بْنُ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَهْدِيٍّ عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ السَّمَّاكَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْخَلِيلِ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى الأَشْيَبُ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، أَخُو حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَهْرَمَانُ آلِ الزُّبَيْرِ، حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يَقُولُ: اشْتَدَّ الْجَهْدُ بِالْمَدِينَةِ وَغَلا السِّعْرُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اصْبِرُوا يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَأَبْشِرُوا فَإِنِّي قَدْ بَارَكْتُ عَلَى صَاعِكُمْ وَمُدِّكُمْ، وَكُلُّوا جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا فَإِنَّ طَعَامَ الرَّجُلِ يَكْفِي الاثْنَيْنِ، وَطَعَامَ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الأَرْبَعَةَ، وَطَعَامَ الأَرْبَعَةِ يَكْفِي الْخَمْسَةَ وَالسِّتَّةَ، وَإِنَّ الْبَرَكَةَ فِي الْجَمَاعَةِ، فَمَنْ صَبَرَ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يَحْفَظْهُمْ سُقِيَ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ» . قِيلَ لِلْمُزَنِيِّ وَهُوَ مَعْقِلٌ: مَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَدِينِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْمُسْلِمَةِ، نَبَّأَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ الدَّقَّاقُ، حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مَسْعُودٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ شَفَعْتُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . أَيُّوبُ هَذَا هُوَ: ابْنُ مُوسَى الْقُرَشِيُّ، وَلَيْسَ بِالسِّخْتِيَانِيِّ، فَلْيُعْرَفْ هَذَا. وَقَدْ خَرَّجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ الصَّلْتِ بِهَذَا الإِسْنَادِ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَقَالٍ، وَأَنْبَأَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْمَأْمُونِ، أَنْبَأنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ السُّكَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، نَبَّأَنِي ابْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَخَافَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أخَافَهُ اللَّهُ» حَدَّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الأَصْفَهَانِيُّ، إِمَلاءً بِمَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّوْضَةِ، أَنْبَأَنَا شُكْرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأنَا أَبُو سَعْدٍ الرَّازِيُّ الْحَافِظُ فِي كِتَابِهِ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ، حَدَّثَكُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَرَفَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غُبَارُ الْمَدِينَةِ شِفَاءٌ مِنَ الْجُذَامِ» وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرَةِ، جَاءُوا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا أَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَمِثْلِهِ مَعَهُ، ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ الثَّمَرَ» . وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: " يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَدْعُو الرَّجُلُ ابْنَ عَمِّهِ وَقَرِيبَهُ: هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْهُمْ رَغْبَةً عَنْهَا إِلا أَخْلَفَ اللَّهُ فِيهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، أَلا إِنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ تُخْرِجُ الْخَبَثَ، لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ ". وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عِنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كُلُّ الْبِلادِ افْتُتِحَتْ بِالسَّيْفِ وَافْتُتِحَتِ الْمَدِينَةُ بِالْقُرْآنِ، وَهِيَ مَهْجَرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَحَلُّ أَزْوَاجِهِ، وَفِيهَا قَبْرُهُ» وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَدِينَةُ مُهَاجَرِي وَفِيهَا بَيْتِي، وَحَقٌّ عَلَى أُمَّتِي حِفْظُ جِيرَانِي» . وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَقُولُ فِي فَضْلِ الْمَدِينَةِ: هِيَ دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ، وَهِيَ مَحْفُوفَةٌ بِالشُّهَدَاءِ، وَاخْتَارَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ قَبْرَهُ بِهَا، وَفِيهَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَفِيهَا مِنْبَرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 بَابٌ فِي كَيْفِيَّةِ فَتْحِ الْمَدِينَةِ اعْلَمْ أَنَّ الْمَدِينَةَ لَمْ تُفْتَحْ بِقِتَالٍ، إِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ عَلَى النَّاسِ، وَيَقُولُ: «أَلا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي» . فَلَقِيَ فِي بَعْضِ السِّنِينِ رَهْطًا مِنَ الْخَزْرَجِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الإِسْلامَ، وَتَلَى عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَقَدْ كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنَ الْيَهُودِ أَنَّ نَبِيًّا مَبْعُوثًا قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَا قَوْمِ، إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ الَّذِي تَعِدُكُمْ بِهِ الْيَهُودُ فَلا تَسْبِقْكُمْ إِلَيْهِ، فَأَجَابُوهُ، وَكَانُوا سِتَّةً: أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَعَوْذُ بْنُ عَفْرَاءَ، وَهِيَ أُمُّهُ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِي، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِئَابٍ. فَلَمَّا انْصَرَفُوا ذَكَرُوا لِقَوْمِهِمْ مَا جَرَى لَهُمْ، فَفَشَى الإِسْلامُ فِيهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الأَنْصَارِ إِلا وَلِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا ذِكْرٌ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ أَتَى الْمَوْسِمَ اثَنَا عَشَرَ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ، فَلَقُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَقَبَةِ، وَهِيَ الْعَقَبَةُ الأُولَى، فَبَايَعُوهُ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ إِلَى الْمَدِينَةِ يُفَقِّهُ أَهْلَهَا، وَيُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الإِسْلامِ. ثُمَّ لَقِيَهُ فِي الْمَوْسِمِ الآخَرِ سَبْعُونَ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ، وَمَعَهُمُ امْرَأَتَانِ فَبَايَعُوهُ، وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْغَارِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَدِمَهَا يَوْمَ الاثْنَيْنِ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وَقَدْ قَيلَ: لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْهُ، وَقِيلَ: لِهِلالِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ. وَالْقَوْلُ الأَوَّلُ أَصَحُّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 وَلَمَّا أَرَّخُوا مِنَ الْهِجْرَةِ رَدُّوا التَّارِيخَ إِلَى الْمُحَرَّمِ لأَنَّهُ أَوَّلُ السَّنَةِ. وَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ مَكَثَ بِقُبَاءَ ثَلاثَ لَيَالٍ، ثُمَّ رَكِبَ يَوْمَ الْجَمُعَةِ فَمَرَّ عَلَى بَنِي سَالِمٍ، فَجَمَعَ بِهِمْ، فَكَانَتْ أَوَّلَ جُمُعَةٍ صَلاهَا بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى بَنِي سَالِمٍ، فَمَرَّتِ النَّاقَةُ حَتَّى بَرَكَتْ فِي بَنِي النَّجَّارِ عَلَى بَابِ دَارِ أَبِي أَيُّوبَ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ بَنَى مَسْجِدَهُ وَمَسَاكِنَهُ، فَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ كَوَامِلَ، وَتُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةً إِحْدَى عَشْرَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 بَابُ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ وَحُدُودِ حَرَمِهَا قَدْ ذَكَرْنَا فِي فَضَائِلِ الْمَدِينَةِ أَّنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلا عَدْلا» . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: عَيْرٌ وَثَوْرٌ اسْمَا جَبَلَيْنِ بِالْمَدِينَةِ غَيْرَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لا يَعْرِفُونَ جَبَلا بِهَا يُقَالَ لَهُ: ثَوْرٌ، وَإِنَّمَا ثَوْرٌ بِمَكَّةَ، فَتَرَى الْحَدِيثَ: «مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى أُحُدٍ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ بِالْمَدِينَةِ تَرْتَعُ مَا ذَعَرْتُهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا حَرَامٌ» . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَجَعَلَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ اثْنَيْ عَشَرَ مِيلا حِمًى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَيْدَهَا وَشَجَرَهَا مُحَرَّمٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ. وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، هَلْ يُضْمَنُ صَيْدُهَا وَشَجَرُهَا بِالْجَزَاءِ أَمْ لا؟ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لا جَزَاءَ فِيهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ، وَإِذَا قُلْنَا بِضَمَانِهِ، فَجَزَاؤُهُ سَلَبُ الْقَاتِلِ، يَتَمَلَّكُهُ الَّذِي سَلَبَهُ. وَيُفَارِقُ مَكَّةَ فِي أَنَّ مَنْ أَدْخَلَ إِلَيْهَا صَيْدًا لَمْ يَجِبْ رَفْعُ يَدِهِ عَنْهُ، وَيَجُوزُ لَهُ ذَبْحُهُ وَأَكْلُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ شَجَرِهَا مَا تَدْعُوا الْحَاجَةُ إِلَيْهِ لِلرَّحْلِ وَالْوَسَائِدِ، وَمِنْ حَشِيشِهَا مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْعَلَفِ بِخِلافِ حَرَمِ مَكَّةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 أَبْوَابٌ ذِكْرُ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَابٌ فِي ذِكْرِ أَصْلِهِ وَبِنَائِهِ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَنَزَلَ فَيِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ كَانَ يُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْمَسْجِدِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلأ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ: ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا ". فَقَالُوا: لا، وَاللَّهِ لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ أَنَسٌ: كَانَ فِيهِ نَخْلٌ، وَقُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَخِرَبٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، وَبِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، قَالَ: فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةً لَهْ، وَجَعَلُوا عَضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ. قَالَ: وَكَانُوا يَرْتَجِزُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ لا خَيْرَ إِلا خَيْرَ الآخِرَةِ ... فَانْصُرِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ وَفِي لَفْظٍ: وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ اللَّبِنَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنَّ الْخَيْرَ خَيْرُ الآخِرَةِ، فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، قَالَ: «كَانَ جِدَارُ الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، مَا كَادَتِ الشَّاةُ تَجُوزُهُ» . وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ، مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، قَالَتْ: رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاحِلَتَهُ، فَبَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِهِ، وَكَانَ مِرْبَدًا لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ غُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَرَكَتْ رَاحِلَتُهُ: " هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ، ثُمَّ دَعَا الْغُلامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالا: بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا. وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي بِنَائِهِ، وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ: «هَذَا الْحِمَالُ لا حِمَالُ خَيْبَرْ ... هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهِرْ» وَيَقُولُ: « اللَّهُمَّ إِنَّ الأَجْرَ أَجْرُ الآخِرَةِ ... فَارْحَمِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةِ» . وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: بَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَهُ سَبْعِينَ ذِرَاعًا فِي سِتِّينَ ذِرَاعًا. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، أَنْبَأنَا ابْنُ الْمُذْهَبِ، أَنْبَأنَا الْقَطِيعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ، «أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، وَسُقُفُهُ بِالْجَرِيدِ، وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا، وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ، وَبَنَاهُ عَلَى بِنَائِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ، وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا، ثُمَّ غَيَّرَهُ عُثْمَانُ فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَبِيرَةً، وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ، وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ، وَسُقُفَهُ بِالسَّاجِ» . انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ: جَعَلَ عُثْمَانُ طُولَ الْمَسْجِدِ سِتِّينَ وَمِائَةَ ذِرَاعٍ، وَعَرْضَهُ خَمْسِينَ وَمِائَةً، وَجَعَلَ أَبْوَابَهُ سِتَّةً عَلَى مَا كَانَتْ فِي عَهْدِ عُمَرَ، ثُمَّ زَادَ فِيهِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَجَعَلَ طُولَهُ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ، وَعَرْضَهُ فِي مُقَدِّمِهِ مِائَتَيْنِ، وَفِي مُؤَخِّرِهِ مِائَةً وَثَمَانِينَ، وَقَبْرَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي بَيْتِهَا الَّذِي أَدْخَلَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ زَادَ فِيهِ الْمَهْدِيُّ ذِرَاعًا مِنْ نَاحِيَةِ الشَّامِ، وَلَمْ يَزِدْ فِي الْقِبْلَةِ وَلا فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ أَتَى بِسَفَطٍ مِنْ عُودٍ، فَقَالَ: جَمِّرُوا بِهِ الْمَسْجِدَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، فَبَقِيَتْ سُنَّةً فِي الْخُلَفَاءِ، يُؤْتَى كُلُّ عَامٍ بِسَفَطِ عُودٍ يُجَمَّرُ بِهِ الْمَسْجِدُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَخَلْفَهُ إِذَا كَانَ الإِمَامُ يَخْطُبُ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَلْقَى الْحَصَى فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ النَّاسُ إِذَا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ مِنَ السُّجُودِ نَفَضُوا أَيْدِيَهُمْ، فَأَمَرَ عُمَرُ بِالْحَصْبَاءِ فَجِيءَ بِهِ مِنَ الْعَقِيقِ، فَبُسِطَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 بَابُ فَضْلِ الصَّلاةِ فِيهِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عِيسَى السِّجْزِيُّ، أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْفَارِسِيُّ، أَنْبَأنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَنِي شُرَيْحٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُؤَمَّلِيُّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ كَثِيرٍ الْمُزَنِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا كَأَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي أَفْرَادِهِ، وَقَالَ: «أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ» أَخْبَرَنَا عَيَّادُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَسْنَابَادِيُّ، أَنْبَأنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ الأَصْبَهَانِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ مَرْدَكٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ، وَمَسْجِدِي خَاتَمُ مَسَاجِدِ الأَنْبِيَاءِ، أَحَقُّ أَنْ يُزَارَ وَتُرْكَبَ إِلَيْهِ الرَّوَاحِلُ، صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، قَالا: أَنْبَأنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الضَّرِيسِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو حَفْصٍ الْكَتَّانِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الرِّجَالِ، حَدَّثَنَا أَبُو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 أُمَيَّةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، أَنْبَأنَا ابْنُ هِلالٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالا: أَنْبَأنَا أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ الصَّرِيفِينِيِّ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ الصَّفَدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا الْعَطَّافُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الأَرْقَمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: " قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ: فَلِمَ؟ قَالَ: لِصَلاةٍ فِيهِ. قَالَ: الصَّلاةُ هَاهُنَا أَفْضَلُ مِنَ الصَّلاةِ هُنَاكَ أَلْفَ مَرَّةٍ " أَخْبَرَنَاهُ ابْنُ عِيسَى الْهَرَوِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، أَنْبَأنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ، حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْجَهْمِ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: اشْتَكَتِ امْرَأَةٌ شَكْوَى، فَنَذَرَتْ لَئِنْ شَفَانِيَ اللَّهُ لأَخْرُجَنَّ فَلَأُصَلِّيَنَّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَصَحَّتْ وَتَجَهَّزَتْ تُرِيدُ الْخُرُوجَ، فَلَمَّا أَتَتْ مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهَا بِذَلِكَ قَالتْ: انْطَلِقِي فَكُلِي مَا صَنَعْتِ، وَصَلِّي فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «صَلاةٌ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 بَابُ ذِكْرِ الْمِنْبَرِ رَوَى الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَازِمٍ، أَنَّ نَفَرًا جَاءُوا إِلَى سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَدْ تَمَارَوْا فِي الْمِنْبَرِ مِنْ أَيِّ عُودٍ هُوَ؟ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْرِفُ مَنْ أَيِّ عُودٍ هُوَ، وَمَنْ عَمِلَهُ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ يَوْمٍ جَلَسَ عَلَيْهِ. فَقُلْتُ لَهُ: حَدِّثْنَا، فَقَالَ " أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى امْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ قَدْ سَمَّاهَا سَهْلٌ: أَنْ مُرِي غُلامَكَ النَّجَّارَ يَعْمَلُ لِي أَعْوَادًا أُكَلِّمُ النَّاسَ عَلَيْهَا، فَعَمِلَ هَذِهِ الثَّلاثَ دَرَجَاتٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوُضِعَتْ هَذَا الْمَوْضِعَ، فَهِيَ مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ ". وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ اسْمَ هَذَا الْغُلامِ الَّذِي صَنَعَ الْمِنْبَرَ: مُنِيبٌ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: عَمِلَهُ صُبَاحٌ غُلامُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ مَنْ لَزِمَ عِبَادَةَ اللَّهِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، سُقِيَ مِنَ الْحَوْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، إِمْلاءً بِمَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَدْنَانَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُطَهَّرُ، وَأَبُو نَهْشَلٍ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ أَحْمَدَ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالُوا: أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ رَيْذَةَ، حَدَّثَنَا الطَّبَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْبَرِي عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ» . وَفِي التُّرْعَةِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا الرَّوْضَةُ تَكُونُ عَلَى الْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ خَاصَّةً، فَإِذَا كَانَتْ فِي الْمَكَانِ الْمُطْمَئِنِّ فَهِيَ رَوْضَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْبَابُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا الدَّرَجَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 بَابُ ذِكْرِ حَنِينِ الْجِذْعِ حَينَ انْتَقَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ إِلَى الْمِنْبَرِ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْبَيْضَاوِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الْمُزَيِّنُ، قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ النّقورِ، حَدَّثَنَا ابْنُ حَبَابَةَ، حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا هُدْبَةُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَامِرِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، " أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ، فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ تَحَوَّلَ إِلَيْهِ، فَحَنَّ الْجِذْعُ، فَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْتَضَنَهُ فَسَكَنَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: لَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ يَاسِينَ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، قَالُوا: حَدَّثَنَا الْمُخَلِّصُ، حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخٍ، حَدَّثَنَا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى خَشَبَةٍ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَيْهَا، فَلَمَّا كَثُرَ النَّاسُ، قَالَ: «ابْنُوا لِي مِنْبَرًا» ، فَبَنَوْا لَهُ مِنْبَرًا لَهُ عَتَبَتَانِ، فَلَمَّا قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 يَخْطُبُ حَنَّتِ الْخَشَبَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ أَنَسٌ: وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ فَسَمِعْتُ الْخَشَبَةَ تَحِنُّ حَنِينَ الْوَالِهِ فَمَا زَالَتْ تَحِنُّ حَتَّى نَزَلَ إِلَيْهَا فَاحْتَضَنَهَا فَسَكَتَتْ ". فَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَكَى، ثُمَّ قَالَ: يَا عِبَادَ اللَّهِ، الْخَشَبَةُ تَحِنُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَانِهِ مِنَ اللَّهِ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ أَنْ تَشْتَاقُوا إِلَى لِقَائِهِ وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرِ تَحَوَّلَ إِلَيْهِ فَحَنَّ الْجِذْعُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي لَفْظٍ: «فَنَزَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْتَضَنَهُ وَسَارَّهُ بِشَيْءٍ» . وَفَيِ أَفْرَادِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، قَالَ: «كَانَ جِذْعٌ يَقُومُ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا وُضِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ سَمِعْنَا لِلْجِذْعِ مِثْلَ أَصْوَاتِ الْعِشَارِ، حَتَّى نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ فَسَكَنَ» . وَفِي لَفْظٍ: «فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ الَّتِي كَانَ يَخْطُبُ عِنْدَهَا حَتَّى كَادَتْ تَنْشَقُّ» . وَفِي لَفْظٍ: «فَجَعَلَتْ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي أُسْكِتَ حَتَّى استْقَرَّتْ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 بَابُ ذِكْرِ الرَّوْضَةِ حَدَّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الأَصْبَهَانِيُّ، إِمْلاءً، فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّوْضَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُطَهَّرُ، وَعَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ أَحْمَدَ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ، وَجَحْشَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ رَيْذَةَ، أَنْبَأنَا الطَّبَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خَبِيبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصَمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنُ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنِ الْبَصْرِيِّ، أَنْبَأنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ بَطَّةَ الْعُكْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا الْقَاضِي الْمَحَامَلِيُّ، حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 حَدَّثَنَا ابْنُ بَطَّةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَيَزِيدِ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ حُيَيْنِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «مَا بَيْنَ مِنْبَرِي هَذَا، وَقَبْرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ: الْمَعْنَى مَنْ لَزِمَ طَاعَةَ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ آلَتْ بِهِ الطَّاعَةُ إِلَى رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ. بَابُ فَضْلِ صَلاةِ الْجُمُعَةِ بِالْمَدِينَةِ أَخْبَرَنَا السِّجْزِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا ابُن أَبِي شُرَيْحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُؤَمَّلِيُّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلاةُ الْجُمُعَةِ بِالْمَدِينَةِ كَأَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهَا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 بَابُ فَضْلِ صِيَامِ رَمَضَانَ بِالْمَدِينَةِ أَخْبَرَنَا السِّجْزِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنْبَأنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شُرَيْحٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا الْمُؤَمَّلِيُّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ بِالْمَدِينَةِ كَصِيَامِ أَلْفِ شَهْرٍ فِيمَا سِوَاهَا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 بَابُ ذِكْرِ مَسْجِدِ قُبَاءَ هَذَا الْمَسْجِدُ بَنَاهُ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مِنَ الأَنْصَارِ بَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُمْ فَصَلَّى فِيهِ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْخَيَّاطُ، أَنْبَأنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ بِشْرَانَ، أَنْبَأنَا دَعْلَجٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ خُزَيْمَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ، أَن ّالنَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لأَهْلِ قُبَاءَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحْسَنَ عَلَيْكُمُ الثَّنَاءَ فِي الطَّهُورِ، وَقَالَ: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] ، فَمَا هَذَا الطَّهُورُ؟ " فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُ شَيْئًا إِلا أَنَّهُ كَانَ لَنَا جِيرَانٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَكَانُوا يَغْسِلُونَ أَدْبَارَهُمْ مِنَ الْغَائِطِ فَغَسَلْنَا كَمَا غَسَلُوا " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُ قُبَاءَ رَاكِبًا وَمَاشِيًا» . وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ وَيَقُولُ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 وَرَوَى أَبِوُ أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، وَجَاءَ مَسْجِدَ قُبَاءَ، فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، كَانَ لَهُ أَجْرُ عُمْرَةٍ» . وَرَوَى أَبُو غُزَيَّةَ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءَ يَوْمَ الإِثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فجَاءَ يَوْمًا فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَا بَكْرٍ فِي أَصْحَابِهِ، نَنْقُلُ حِجَارَتَهُ عَلَى بُطُونِنَا، يُؤَسِّسُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، وَجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ يَؤُمُّ بِهِ الْبَيْتَ، وَمَحْلُوفُ عُمَرَ بِاللَّهِ لَوْ كَانَ مَسْجِدُنَا هَذَا بِطَرَفٍ مِنَ الأَطْرَافِ لَضَرَبْنَا إِلَيْهِ أَكْبَادَ الإِبِلِ. وَرَوَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهَا، قَالَتْ: وَاللَّهِ لأَنْ أُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ رَكْعَتَيْنِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ آتِيَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مَرَّتَيْنِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِ لَضَرَبُوا إِلَيْهِ أَكْبَادَ الإِبِلِ. وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ يَؤُمُّ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ، فَيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 بَابٌ أَعْيَانُ مَنْ نَزَلَ الْمَدِينَةَ ذَكَرْتُهُمْ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، أَمَّا مَنْ دَخَلَهَا مِمَّنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلا يُحْصَوْنَ عَدَدًا لِكَثْرَتِهِمْ، وَإِنَّمَا نَذْكُرُ مَنِ اسْتَوْطَنَهَا مِنْ كِبَارِ الْقَوْمِ. أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، أَحْمَرُ، أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ، أُسَيْدُ بْنُ ظَهِيرٍ، أُسَيْمٌ، الْبَرَاءُ، بِلالُ بْنُ الْحَارِثِ، بِشْرُ بْنُ سُحَيْمٍ، بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ، ثَابِتُ بْنُ وَدِيعَةَ، جَابِرُ بْنُ عَتِيكٍ، جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، جَرْهَدُ، أَبُو ذَرٍّ وَاسْمُهُ: جُنْدُبٌ. أَبُو قَتَادَةَ، اسْمُهُ الْحَارِثُ، الْحَجَّاجُ بْنُ عَمْرٍو، الْحَجَّاجُ بْنُ عَلاطٍ، حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ، حَنْظَلَةُ، خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، خَلادُ بْنُ السَّائِبِ، خُفَافٌ، خَوَّاتٌ، ذُوَيْبٌ، رَافَعُ بْنُ خَدِيجٍ، رَافِعُ بْنُ مَكِيتٍ، رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ، رِفَاعَةُ أَبُو عَبَايَةَ، رِفَاعَةُ بْنُ عَرَابَةَ، رَكَانَةُ، رُوَيْفِعٌ، الزُّبَيْرُ، زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ، زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ، زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ، زَيْدُ بْنُ الصَّامِتِ، السَّائِبُ بْنُ خَلادٍ، سَبْرَةُ، سُرَاقَةُ، سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَاسْمُهُ سَعْدٌ، سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، سُفْيَانُ بْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ، سَفِينَةُ، سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ، سَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ، سُوَيْدُ بْنُ النُّعْمَانِ، سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ، سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، شِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ، صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ، أَبُو سُفْيَانَ، الصَّعْبُ بْنُ جَثَامَةَ، صُهَيْبٌ، الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ، طَلْحَةُ، عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَاسْمُهُ عَامِرٌ، الْعَبَّاسُ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْقَمَ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَزْهَرَ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَبْرٍ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُثْمَانَ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، عَبْدُ شَمْسٍ أَبُو هُرَيْرَةَ، عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ، عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، عَلِيٌّ النُّمَيْرِيُّ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 عُمَارَةُ، عُمَارَةُ بْنُ مُعَاذٍ، عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، عُمَيْرٌ مَوْلَى أَبِي اللَّحْمِ، عُوَيْمِرٌ أَبُو الدَّرْدَاءِ، قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو، كَعْبُ بْنُ مَالَكٍ، مَالِكُ بْنُ التَّيْهَانِ، مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ، مَالِكُ بْنُ صَعْصَعَةَ، مَالِكُ بْنُ عَمْرٍو، مُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ، مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، مِحْجَنٌ، مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ، الْمِقْدَادُ، نَاجِيَةُ، نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، هَزَّالٌ، هِشَامُ بْنُ حَكِيمٍ، يَزِيدُ بْنُ ثَابِتٍ، يَزِيدُ أَبُو السَّائِبِ. وَمِمَّنْ لا يُعْرَفُ اسْمُهُ أَبُو بَشِيرٍ الأَنْصَارِيُّ، أَبُو زَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ، ابْنُ سَرِيعٍ. فَهَؤُلاءِ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَثَلاثُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ نَزَلَهَا مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ: أَبُو سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ، سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَطَاءٌ، وَسُلَيْمَانُ ابْنَا يَسَارٍ، عُرْوَةُ، خَارِجَةُ، الْقَاسِمُ، سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، عِكْرِمَةُ، وَكُرَيْبٌ، وَمِقْسَمٌ، مَوَالِي ابْنِ عَبَّاسٍ، عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، نَافِعٌ، عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَبُو بكْرِ بْنُ حَزْمٍ، الزُّهْرِيُّ، مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، أَبُو الزِّنَادِ، رَبِيعَةُ الرَّأْيِ، صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ، أَبُو حَازِمٍ، يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، إِبْرَاهِيمُ، وَمُحَمَّدٌ، وَمُوسَى بَنُو عُقْبَةَ، ابْنُ إِسْحَاقَ، مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، يُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُونِ، الدَّرَاوَرْدِيُّ، الْوَاقِدِيُّ. انْتَهَى ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 بَابٌ ذِكْرُ مَنِ انْتَهَتِ الْفَتْوَى إِلَيْهِ مِنَ التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ انْتَهَتِ الْفَتْوَى إِلَى سَبْعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ: ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَعُرْوَةُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْقَاسِمُ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 بَابٌ ذِكْرُ فَضِيلَةِ عَالِمِ الْمَدِينَةِ أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ الْكَرُوخِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو عَامِرٍ الأَزْدِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْجَرَّاحِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَحْبُوبِيُّ، حَدَّثَنَا التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رِوَايَةً: «يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الإِبِلِ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فَلا يَجِدُونَ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ الْمَدِينَةِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا: أَنَّهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، أَنَّهُ قَالَ: هُوَ الْعُمَرِيُّ الزَّاهِدُ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 بَابٌ ذِكْرُ مَنْ وُعِظَ مِنَ الْخُلَفَاءِ بِالْمَدِينَةِ مَوْعِظَةُ أَبِي حَازِمٍ لِسُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْمَدِينَةِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْخَالِقِ بْنُ أَحْمَدَ الْيُوسُفِيُّ، أَنْبَأنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، أَنْبَأنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ الرَّازِيُّ، أَنْبَأنَا جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْقُوبَ، أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرُّويَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ يَحْيَى بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: دَخَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَدِينَةَ فَأَقَامَ بِهَا ثَلاثًا، فَقَالَ: مَا هَا هُنَا رَجُلٌ مِمَّنْ أَدْرَكَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُنَا؟ فَقِيلَ لَهُ: بَلَى هَا هُنَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو حَازِمٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَجَاءَ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: مَا لَنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ؟ قَالَ: لأَنَّكُمْ أَخْرَبْتُمْ آخِرَتَكُمْ، وَعَمَّرْتُمْ دُنْيَاكُمْ، فَأَنْتُمْ تَكْرَهُونَ أَنْ تَنْقَلِبُوا مِنَ الْعُمْرَانِ إِلَى الْخَرَابِ. قَالَ: صَدَقْتَ يَا أَبَا حَازِمٍ، فَكَيْفَ الْقُدُومُ عَلَى اللَّهِ؟ قَالَ: أَمَّا الْمُحْسِنُ فَكَالْغَائِبِ يَقْدَمُ عَلَى أَهْلِهِ، وَأَمَّا الْمُسِيءُ فَكَالآبِقِ يَقْدَمُ عَلَى مَوْلاهُ. فَبَكَى سُلَيْمَانُ، وَقَالَ: لَيْتَ شِعْرِي، مَا لَنَا عِنْدَ اللَّهِ يَا أَبَا حَازِمٍ؟ فَقَالَ أَبُو حَازَمٍ: اعْرِضْ نَفْسَكَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّكَ تَعْلَمُ مَا لَكَ عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ: وَأَنَّى أُصِيبُ تِلْكَ الْمَعْرِفَةَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: عِنْدَ قَوْلِهِ: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ {13} وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13-14] . قَالَ سُلَيْمَانُ: يَا أَبَا حَازِمٍ، فَأَيْنَ رَحْمَةُ اللَّهِ؟ قَالَ: {قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] . قَالَ: يَا أَبَا حَازِمٍ، مَنْ أَعْقَلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 النَّاسِ؟ قَالَ: مَنْ تَعَلَّمَ الْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهَا النَّاسَ. قَالَ: فَمَنْ أَحْمَقُ النَّاسِ؟ قَالَ: مَنْ حَطَّ فِي هَوَى رَجُلٍ ظَالِمٍ فَبَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ مَوْعِظَةُ أَبِي حَازِمٍ لِهِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْمَدِينَةِ وَبِالإِسْنَادِ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، أَنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي حَازِمٍ، فَقَالَ: عِظْنِي وَأَوْجِزْ. قَالَ: اتَّقِ اللَّهَ، وَازْهَدْ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ حَلالَهَا حِسَابٌ، وَإِنَّ حَرَامَهَا عِقَابٌ. قَالَ: لَقَدْ أَوْجَزْتَ، فَمَا مَالُكَ؟ قَالَ: الثِّقَةُ بِاللَّهِ، وَالإِيَاسُ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ. قَالَ: ارْفَعْ حَوَائِجَكَ. قَالَ: هَيْهَاتَ، قَدْ رَفَعْتُهَا إِلَى مَنْ لا تُخْتَزَلُ الْحَوَائِجُ دُونَهُ، فَمَا أَتَانِي مِنْهَا قَنَعْتُ، وَمَا مَنَعَنِي مِنْهَا رَضِيتُ، وَقَدْ نَظَرْتُ فِي هَذَا الأَمْرِ فَإِذَا هُوَ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا لِي وَالآخَرُ لِغَيْرِي، فَأَمَّا مَا كَانَ لِي، فَلَوِ احْتَلْتُ بِكُلِّ حَيْلَةٍ مَا وَصَلْتُ إِلَيْهِ قَبْلَ أَوَانِهِ الَّذِي قَدْ قُدِّرَ لِي، وَأَمَّا الَّذِي لِغَيْرِي فَذَاكَ الَّذِي لا أُطْمِعُ نَفْسِي فِيهِ، فَكَمَا مُنِعَ غَيْرِي رِزْقِي، مُنِعْتُ رِزْقَ غَيْرِي، فَعَلامَ أَقْتُلُ نَفْسِي؟ مَوْعِظَةُ أَبِي نَصْرٍ الْجُهَنِيِّ لِلرَّشِيدِ بِالْمَدِينَةِ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ، أَنْبَأنَا ابْنُ رِزْقَوَيْهِ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الدَّقَّاقُ، أَنْبَأنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ مَسْرُوقٍ، أَنْبَأنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَشْهَلِيُّ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 فُدَيْكٍ: كَانَ عِنْدَنَا رَجُلٌ يُكَنَّى: أَبَا نَصْرٍ مِنْ جُهَيْنَةَ، ذَاهِبُ الْعَقْلِ، فِي غَيْرِ مَا النَّاسُ فِيهِ، لا يَتَكَلَّمُ حَتَّى يُكَلَّمَ، وَكَانَ يَجْلِسُ مَعَ أَهْلِ الصُّفَّةِ فِي آخِرِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِمَ عَلَيْنَا هَارُونُ الرَّشِيدُ، فَأُخْلِيَ لَهُ الْمَسْجِدُ، فَوَقَفَ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى مِنْبَرِهِ، وَفِي مَوْقِفِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ثُمَّ قَالَ: قِفُوا بِي عَلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ حَرَّكُوا أَبَا نَصْرٍ، وَقِيلَ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَرَفَعَ رَأْسَهُ، قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ الَّذِي لَيْسَ بَيْنَ عِبَادِ اللَّهِ وَأُمَّةِ نَبِيِّهِ وَبَيْنَ خَلْقِ اللَّهِ غَيْرُكَ، وَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُكَ عَنْهُمْ، فَأَعِدَّ لِلْمَسْأَلَةِ جَوَابًا، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ: لَوْ ضَاعَتْ سَخْلَةٌ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ لَخَافَ عُمَرُ أَنْ يَسْأَلَهُ اللَّهُ عَنْهَا. فَبَكَى هَارُونُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا نَصْرٍ، إِنَّ رَعِيَّتِي وَدَهْرِي غَيْرَ رَعِيَّةِ عُمَرَ وَدَهْرِهِ. قَالَ لَهُ أَبُو نَصْرٍ: هَذَا وَاللَّهِ غَيْرُ مُغِنٍ عَنْكَ، فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ، فَإِنَّكَ وَعُمَرُ تُسْأَلانِ عَمَّا خَوَّلَكُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 بَابٌ ذِكْرُ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَلَفَ النَّاسُ أَيْنَ يُدْفَنُ. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، أَنْبَأنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ الْقَطِيعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْرُوا أَيْن يُقْبِرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «لَمْ يُقْبَرْ نَبِيٌّ إِلا حَيْثُ يَمُوتُ» . فَأَخَّرُوا فِرَاشَهُ وَحَفَرُوا لَهُ تَحْتَ فِرَاشِهِ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَنْبَأنَا ابْنُ الْبُسْرِيِّ، قَالَ: أَنْبَأنَا ابْنُ بَطَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الأَحْبَشِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ يَرْبُوعٍ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ قَبْرِهِ، فَقَالَ قَائِلٌ: بِالْبَقِيعِ فَقَدْ كَانَ يُكْثِرُ الاسْتِغْفَارَ لَهُمْ، وَقَالَ قَائِلٌ: فِي مُصَلاهُ. فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا خَبَرًا وَعِلْمًا، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلا وَدُفِنَ حَيْثُ يُتَوَفَّى» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 بَابُ صِفَةُ قَبْرِهِ وَقَبْرِ صَاحِبَيْهِ اعْلَمْ أَنَّ قَبْرَهُ وَقَبْرَ صَاحِبَيْهِ فِي صُفَّةِ بَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي صِفَةِ قُبُورِهِمْ، فَرَوَى قَوْمٌ أَنَّهَا عَلَى هَذَا الشَّكْلِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرَوَى آخَرُونَ أَنَّهَا عَلَى هَذَا الشَّكْلِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرَوَى آخَرُونَ أَنَّهَا عَلَى هَذَا الشَّكْلِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدِ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ هُوَ مُسَنَّمٌ أَوْ مُسَطَّحٌ؟ فَرُوِيَ الْوَصْفَانِ جَمِيعًا. وَكَانَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَدْ أَمَرَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِهَدْمِ حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنِ اشْتَرَاهَا مِنْ أَهْلِهَا لِيُدْخِلَهَا فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا هُدِمَتْ ظَهَرَتِ الْقُبُورُ، فَمَا رُئِيَ بُكَاءٌ فِي يَوْمٍ كَذَلِكَ الْيَوْمِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 أَخْبَرَنَا ابْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، أَنْبَأنَا الْجَوْهَرِيُّ، أَنْبَأنَا ابْنُ حَيُّوَيْهِ، أَنْبَأنَا ابْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْهُذَلِيُّ، قَالَ: رَأَيْتُ بُيُوتَ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ هَدَمَهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، كَانَتْ بُيُوتًا بِاللَّبِنِ، وَلَهَا حُجَرٌ مِنْ جَرِيدٍ، وَرَأَيْتُ بَيْتَ أُمِّ سَلَمَةَ وَحُجْرَتَهَا مِنْ لَبِنٍ، فَسَأَلْتُ ابْنَ ابْنِهَا، فَقَالَ: لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَوْمَةَ الْجَنْدَلِ، بَنَتْ أُمُّ سَلَمَةَ حُجْرَتَهَا بِلَبِنٍ، فَلَمَّا قَدِمَ نَظَرَ إِلَى اللَّبِنِ، فَقَالَ: «مَا هَذَا الْبِنَاءُ؟» فَقَالَتْ: أَرَدْتُ أَنْ أَكُفَّ أَبْصَارَ النَّاسِ. فَقَالَ: «يَا أُمَّ سَلَمَةَ، إِنَّ شَرَّ مَا ذَهَبَ فِيهِ مَالُ الْمُسْلِمِ الْبُنْيَانَ» وَقَالَ عَطَاءٌ: أَدْرَكْتُ حُجَرَ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ عَلَى أَبْوَابِهَا الْمُسُوحُ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ، فَحَضَرْتُ كِتَابَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ يُقْرَأُ، بِإِدْخَالِ حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ أَكْثَرَ بُكَاءً مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ. . . وَسَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، يَقُولُ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهُمْ تَرَكُوهَا عَلَى حَالِهَا، يَنْشَأُ نَاشِئٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَيَقْدَمُ الْقَادِمُ مِنَ الأُفُقِ فَيَرَى مَا اكْتَفَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِمَّا يُزَهِّدُ النَّاسَ فِي التَّكَاثُرِ وَالْفَخْرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 بَابُ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ زَارَ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَقِفْ عِنْدَ زِيَارَتِهِ مُتَأَدِّبًا نَحْوَ مَا لَوْ كَانَ حَضَرَ عِنْدَهُ فِي حَيَاتِهِ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأنَا الأَزْهَرِيُّ، أَنْبَأنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الطَّيِّبِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَجَّ فَزَارَ قَبْرِي بَعْدَ مَوْتِي كَانَ كَمَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي» أَنْبَأنَا الْحَرِيرِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَيَّاطُ، أَنْبَأنَا دَاوُدُ، حَدَّثَنَا ابْنُ صَفْوَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ زَارَ قَبْرِي فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 وَبِهِ، حَدَّثَنِي الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ الْجُرْجَانِيُّ، أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، أَنْبَأَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ يَزِيدَ الْكَعْبِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ زَارَنِي بِالْمَدِينَةِ مُحْتَسِبًا كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا وَشِفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ ابْنُ فُدَيْكٍ: وَأَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، أَنَّ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقُومَ وِجَاهَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَجْعَلِ الْقِنْدِيلَ الَّذِي فِي الْقِبْلَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ عَلَى رَأْسِهِ. قُلْتُ: وَثُمَّ مَا هُوَ أَوْضَحُ عَلَمًا مِنَ الْقِنْدِيلِ وَهُوَ مِسْمَارٌ مِنْ صُفْرٍ فِي حَائِطِ الْحُجْرَةِ، إِذَا حَاذَاهُ الْقَائِمُ، كَانَ الْقِنْدِيلُ عَلَى رَأْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ: سَمِعْتُ بَعْضَ مَنْ أَدْرَكْتُ يَقُولُ: بَلَغَنَا أَنَّ مَنْ وَقَفَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلا هَذِهِ الآيَةَ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] الآيَةَ. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ حَتَّى يَقُولَهَا سَبْعِينَ مَرَّةً نَادَاهُ مَلَكٌ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ يَا فُلانُ، لَمْ تَسْقُطْ لَكَ حَاجَةٌ. وَبِالإِسْنَادِ، حَدَّثَنِي الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلالٍ، عَنْ ثَنِيَّةَ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّ كَعْبَ الأَحْبَارِ، قَالَ: مَا مِنْ فَجْرٍ يَطْلُعُ إِلا نَزَلَ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلائِكَةِ حَتَّى يَحَفُّوا بِالْقَبْرِ، يَضْرِبُونَ بِأَجْنِحَتِهِمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إِذَا أَمْسَوْا عَرَجُوا وَهَبَطَ مِثْلُهُمْ، فَصَنَعُوا مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا انْشَقَّتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 الأَرْضُ خَرَجَ فِي سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمَلائِكَةِ يُوَقِّرُونَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يُبْرِدُ الْبَرِيدَ مِنَ الشَّامِ، يَقُولُ: سَلِّمْ لِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَابُ تَبْلِيغِهِ مِنْ أُمَّتِهِ السَّلامَ عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ زَاذَانَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةً سَيَّاحِينَ يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِي السَّلامَ» وَبِالإِسْنَادِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قِسْطٍ، أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلا رَدَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 بَابُ ذِكْرِ كَلِمَاتٍ حُفِظَتْ عِنْ زُوَّارِ قَبْرِهِ وَأَحْوَالٍ جَرَتْ لَهُمْ أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، أَنْبَأنَا عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ يُوسُفَ، أَنْبَأنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الآبَنُوسِ، قَالَ: أَنْبَأنَا عُمَرُ بْنُ شَاهِينَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَاتِبُ، حَدَّثَنِي طَاهِرُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، قَالَ: " لَمَّا رُمِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَوَقَفَتْ عَلَى قَبْرِهِ وَأَخَذَتْ قَبْضَةً مِنْ تُرَابِ الْقَبْرِ فَوَضَعَتْهُ عَلَى عَيْنَيْهَا وَبَكَتْ، وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ: مَاذَا عَلَيَّ مِنْ شَمِّ تُرْبَةِ أَحْمَدَ ... أَنْ لا يُشَمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبٌ لَوْ أَنَّهَا ... صُبَّتْ عَلَى الأَيَّامِ عُدْنَ لَيَالِيَا ! 250 وَبِهِ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الصُّوفِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حِبَّانَ، قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ شَيْبَانَ، يَقُولُ: حَجَجْتُ فِي بَعْضِ السِّنِينَ، فَجِئْتُ الْمَدِينَةَ فَتَقَدَّمْتُ إِلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعْتُ مِنْ دَاخِلِ الْحُجْرَةِ: وَعَلَيْكَ السَّلامُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، أَنْبَأنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْجَوْهَرِيِّ، إِذْنًا، أَنْبَأنَا الْوَلِيدُ بْنُ عَطَّافٍ، أَنْبَأنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي لَيَالِيَ الْحَرَّةِ وَمَا فِي الْمَسْجِدِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ غَيْرِي، وَأَهْلُ الشَّامِ يَدْخُلُونَ زُمَرًا، يَقُولُونَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ الْمَجْنُونِ، وَمَا يَأْتِي وَقْتُ صَلاةٍ إِلا سَمِعَتْ أُذُنَايَ الأَذَانَ مِنَ الْقَبْرِ، ثُمَّ تَقَدَّمْتُ، فَأَقَمْتُ، فَصَلَّيْتُ، وَمَا فِي الْمَسْجِدِ أَحَدٌ غَيْرِي أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْخَالِقِ بْنُ يُوسُفَ، أَنْبَأنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي نَصْرٍ، أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْفَارِسِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ غَالِبَ بْنَ عَلِيٍّ الصُّوفِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ بَقِيَّةَ، يَحْكِي عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ فَضِيلٍ النَّحْوِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَوْحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ الْهِلالِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ الْمَدِينَةَ، فَأَتَيْتُ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَزَارَهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا خَيْرَ الرُّسُلِ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ عَلَيْكَ كَتَابًا صَادِقًا، وَقَالَ فِيهِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] ، وَإِنِّي جِئْتُكَ مُسْتَغْفِرًا رَبِّي مِنْ ذُنُوبِي، مُسْتَشْفِعًا بِكَ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ: يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظُمُهُ فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالأَكَمُ نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ ثُمَّ اسْتَغَفْرَ اللَّهَ وَانْصَرَفَ. فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَوْمِي وَهُوَ يَقُولُ: الْحَقِ الرَّجُلَ فَبَشِّرْهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لَهُ بِشَفَاعَتِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، أَنْبَأنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ خَلَفٍ، أَنْبَأنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ مَنْصُورَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْبَهَانِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْخَيْرِ الأَقْطَعَ، يَقُولُ: دَخَلْتُ مَدِينَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا بِفَاقَةٍ، فَأَقَمْتُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ مَا ذُقْتُ ذَوَاقًا، فَتَقَدَّمْتُ إِلَى الْقَبْرِ، وَسَلَّمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَقُلْتُ: أَنَا ضَيْفُكَ اللَّيَلَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَتَنَحَّيْتُ وَنِمْتُ خَلْفَ الْمِنْبَرِ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَمِينِهِ، وَعُمَرُ عَنْ يَسَارِهِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَحَرَّكَنِي عَلِيٌّ، وَقَالَ لِي: قُمْ، قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ، وَقَبَّلْتُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَدَفَعَ إِلَيَّ رَغِيفًا فَأَكَلْتُ نِصْفَهُ، وَانْتَبَهْتُ فَإِذَا فِي يَدِي نِصْفُ رَغِيفٍ أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، أَخْبَرَتْنَا فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَيْرِيَّةُ، أَنْبَأنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، أَنْبَأنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، أَنْبَأنَا ابْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، أَخْبَرَنِي السَّرِيُّ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ مُصْعَبٌ يُصَلِّي فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلِ أَلْفَ رَكْعَةٍ وَيَصُومُ الدَّهْرَ، قَالَ: بِتُّ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ مَا خَرَجَ النَّاسُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 مِنْهُ فَإِذَا رَجُلٌ قَدْ جَاءَ إِلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَسْنَدَ ظَهْرَهُ إِلَى الْجِدَارِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أُمْسِي صَائِمًا، ثُمَّ أَمْسَيْتُ وَلَمْ أَفْطِرْ عَلَى شَيْءٍ، وَإِنِّي أَمْسَيْتُ أَشْتَهِي الثَّرِيدَ فَأَطْعِمْنِيهِ مِنْ عِنْدِكَ. قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى وَصِيفٍ دَخَلَ مِنْ خَوْخَةِ الْمَنَارَةِ، لَيْسَ فِي خَلْقِ وَصَفَاءِ النَّاسِ، مَعَهُ قَصْعَةٌ، فَأَهْوَى بِهَا إِلَى الرَّجُلِ، فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَجَلَسَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ وَخَصَّنِي، فَقَالَ: هَلُمَّ، فَجِئْتُهُ، فَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنَ الْجَنَّةِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ آكُلَ مِنْهَا، فَأَكَلْتُ مِنْهَا لُقْمةً، فَأَكَلْتُ طَعَامًا لا يُشْبِهُ طَعَامَ أَهْلِ الدُّنْيَا، ثُمَّ احْتَشَمْتُ فَقُمْتُ، فَرَجَعْتُ لِمَجْلِسِي، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ أَكْلِهِ أَخَذَ الْوَصِيفُ الْقَصْعَةَ ثُمَّ أَهْوَى رَاجِعًا مِنْ حَيْثُ جَاءَ، وَقَامَ الرَّجُلُ مُنْصَرِفًا، فَاتَّبَعْتُهُ لأَعْرِفَهُ، فَلا أَدْرِي أَيْنَ سَلَكَ فَظَنَنْتُهُ الْخَضِرَ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَرُوِيَ عَنِ امْرَأَةٍ مِنَ الْمُتَعَبِّدَاتِ، أَنَّهَا قَالَتْ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَشَفَتْ لَهَا، فَبَكَتْ حَتَّى مَاتَتْ. وَأَنْشَدَ بَعْضُ زُوَّارِ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَيْتُكَ زَائِرًا وَوَدِدْتُ أَنِّي جَعَلْتُ سَوَادَ عَيْنِي أَمْتَطِيهِ وَمَا لِي لا أَسِيرُ عَلَى الأَمَاقِي إِلَى قَبْرٍ رَسُولُ اللَّهِ فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 بَابُ ذِكْرِ الْبَقِيعِ، وَصَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِهِ رَوَى مُسْلِمٌ فِي أَفْرَادِهِ، مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا كَانَتْ لَيْلَتِي مِنْهُ يَخْرُجُ آخِرَ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقُولُ: «السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ» . وَفِي أَفْرَادِهِ مِنْ حَدِيثِهَا، قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدِي انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ، وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَاضْطَجَعَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنِّي قَدْ رَقَدْتُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا، وَانْتَقَلَ رُوَيْدًا، وَفَتَحَ الْبَابَ رُوَيْدًا، فَخَرَجَ، ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا، فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي، وَاخْتَمَرْتُ، وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي، ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ، حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ، فَقَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ انْحَرَفَ، فَانْحَرَفْتُ، فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ، فَأَحْفَرَ فَأَحْفَرْتُ، فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ، فَسَبَقْتُهُ، فَدَخَلْتُ، فَلَيْسَ إِلا أَنِ اضْطَجَعْتُ، فَدَخَلَ فَقَالَ: «مَا لَكَ يَا عَائِشَةُ حَشْيًا رَابِيَةً؟» قَالَتْ: قُلْتُ: لا شَيْءَ. قَالَ: " لَتُخْبِرِنِّي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيَرُ، فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ: «فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 رَأَيْتُ أَمَامِي» . قُلْتُ: نَعَمْ، فَلَهَزَنِي فِي صَدْرِي لَهْزةً أَوْجَعَتْنِي، ثُمَّ قَالَ: «أَخِفْتِ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَرَسُولُهُ؟» قُلْتُ: " مَهْمَا تَكْتُمْهُ النَّاسَ يُعْلِمُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: نَعَمْ ". قَالَ: " فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامِ أَتَانِي فَنَادَانِي فَأَخْفَاهُ مِنْكِ، فَأَجَبْتُهُ فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ، فَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ، وَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ، وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ، فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ ". قَالَتْ: قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ قُولِي: «السَّلامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: " خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُرِيدُ قُبُورَ الشُّهَدَاءِ، حَتَّى إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى حَرَّةِ وَاقِمٍ، فَلَمَّا تَدَلَّيْنَا مِنْهَا فَإِذَا قُبُورٌ بِمَحْنِيَةٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقُبُورُ إِخْوَانِنَا هَذِهِ؟ قَالَ: " قُبُورُ أَصْحَابِنَا، فَلَمَّا جِئْنَا قُبُورَ الشُّهَدَاءِ، قَالَ: هَذِهِ قُبُورُ إِخْوَانِنَا ". أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَنْبَأنَا ابْنُ الْبُسْرِيِّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ بَطَّةَ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمَّدٍ، نَبَّأَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، نَبَّأَنَا شُرَيْحٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمُرُ، ثُمَّ يَأْتِي أَهْلُ الْبَقِيعِ فَيُحْشَرُونَ مَعِي، ثُمَّ أَنْتَظِرُ أَهْلَ مَكَّةَ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 أَنْبَأنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعَدَةَ، أَنْبَأنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ النَّصْرُ أَبَادِيُّ، أَنْبَأنَا الْمَغِيرَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُؤَمَّلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ مَاتَ فِي إِحْدَى الْحَرَمَيْنِ بُعِثَ فِي الآمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَبِهِ حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ خُلَيْجٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ الْقَدَّاحُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَاتَ فِي أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الآمِنِينَ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 بَابُ ذِكْرِ بِقَاعٍ فِي الْمَدِينَةِ يُسْتَحَبُّ زِيَارَتُهَا مَنْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَلْيُحْضِرْ عَلَى قَلْبِهِ أَنَّهَا الْبَلَدُ الَّتِي اخْتَارَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلْيَتَخَايَلْ تَرَدُّدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، وَمَشْيَهُ فِي بِقَاعِهَا، فَكُلُّهَا شَرِيفَةٌ وَإِنْ خُصَّتْ مِنْهَا مَوَاضِعُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسْتَحَبُّ الإِكْثَارُ مِنَ الصَّلاةِ فِيهِ، وَخُصُوصًا فِي الرَّوْضَةِ، وَذَكَرْنَا مَسْجِدَ قُبَاءَ فَيُسْتَحَبُّ الصَّلاةُ فِيهِ. وَهُنَاكَ مَسْجِدٌ يُقَالُ لَهُ: مَسْجِدُ الْفَتْحِ، وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِمَسْجِدِ الْفَتْحِ الَّذِي فِي الْجَبَلِ وَقَدْ حَضَرَتْ صَلاةُ الْعَصْرِ، فَرَقَى فَصَلَّ ى فِيهِ» . وَرَوَى هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَلَى الأَحْزَابِ، فِي مَوْضِعِ الأُسْطُوَانَةِ الْوُسْطَى مِنْ مَسْجِدِ الْفَتْحِ، الَّذِي عَلَى الْجَبَلِ» . أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا كَثِيرٌ يَعْنِي: ابْنَ زَيْدٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا فِي مَسْجِدِ الْفَتْحِ يَوْمَ الإِثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الثُّلاثَاءِ، وَيَوْمَ الأَرْبِعَاءِ، فَاسْتُجِيبَ لَهُ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ، بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ، فَعُرِفَ الْبِشْرُ فِي وَجْهِهِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْقِبْلَتَيْنِ، وَمَسْجِدِ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، وَمَسْجِدِ بَنِي غُصَيْنَةَ، وَمَسْجِدِ بَنِي حَارِثَةَ، وَمَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ، وَمَسْجِدِ بَنِي ظَفَرٍ، وَفِي هَذَا الْمَسْجِدِ حَجَرٌ جَلَسَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَلَّ امْرَأَةٌ تَصَعَّبَ حَمْلُهَا تَجْلِسُ عَلَى ذَلِكَ الْحَجَرِ إِلا حَمَلَتْ، وَصَلَّى فِي مَسْجِدِ بَنِي الْحُبْلَى، وَمَسْجِدِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَمَسْجِدِ بَنِي السَّلْحِ، وَمَسْجِدِ بَنِي خَطَمَةَ، وَمَسْجِدِ بَنِي وَائِلٍ، وَمَسْجِدِ الْعَجُوزِ فِي بَنِي خَطَمَةَ، وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَفِي مَسْجِدِ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَفِي مَسْجِدِ بَنِي بَيَاضَةَ، وَفِي مَسْجِدِ بَنِي وَاقِفٍ، وَفِي بَيْتِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَفِي دَارِ الشِّفَاءِ، وَفِي مَوَاضِعَ يَطُولُ ذِكْرُهَا، فَيُسْتَحَبُّ تَتَبُّعُهَا لِمَنْ عَرَفَهَا بِالْمَدِينَةِ، وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ تَتَبُّعُ الآبَارِ وَالأَمَاكِنِ الَّتِي شَرِبَ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالأَمَاكِنِ الَّتِي جَلَسَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ الْبَقِيعِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، فَمَنْ دَخَلَهُ فَلَيَزُرْ إِبْرَاهِيمَ وَلَدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعُثْمَانَ، وَالْعَبَّاسَ، وَالْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، وَمَنْ هُنَالِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَلْيَزُرْ جَبَلَ أُحُدٍ وَمَنْ عِنْدَهُ مِنَ الشُّهَدَاءِ، وَلْيَبْدَأْ بِقَبْرِ السَّيِّدِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو مُصْعَبٍ، عَنِ الْعَطَّافِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي خَالَةٌ لِي، وَكَانَتْ مِنَ الْعَوَابِدِ، قَالَتْ: جِئْتُ قَبْرَ حَمْزَةَ فَصَلَّيْتُ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلا وَاللَّهِ مَا فِي الْوَادِي دَاعٍ وَلا مُجِيبٌ، وَغُلامِي آخِذٌ بِرَأْسِ دَابَّتِي، فَلَمَّا فَرَغْتُ مَنْ صَلاتِي قُمْتُ فَقُلْتُ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، وَأَشَرْتُ بِيَدِي، فَسَمِعْتُ رَدَّ السَّلامِ عَلَيَّ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ، أَعْرِفُهُ كَمَا أَعْرِفُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَنِي، فَاقْشَعَرَّتْ كُلُّ شَعْرَةٍ مِنِّي، فَدَعَوْتُ الْغُلامَ وَرَكِبْتُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 فَصْلٌ فَإِذَا خَرَجَ مُتَوَجِّهًا إِلَى بَلَدِهِ فَلْيَقُلْ: آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ. آخِرُ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 بَابُ الاتِّعَاظِ بِالْقُبُورِ لَمَّا ذَكَرْنَا زِيَارَةَ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْبَقِيعِ، آثَرْنَا أَنْ نَذْكُرَ أَشْيَاءَ تَتَعَلَّقُ بِالْقُبُورِ تَجْمَعُ مَوَاعِظَ. أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ، أَنْبَأنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُجَيْرٍ، عَنْ هَانِئٍ مَوْلَى عُثْمَانَ، قَالَ: كَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تَذْكُرُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَلا تَبْكِي وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ» أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، أَنْبَأنَا ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَاقِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَالِكٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: " بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ بَصُرَ بِجِمَاعَةٍ، فَقَالَ: عَلامَ اجْتَمَعَ هَؤُلاءِ؟ قِيلَ: عَلَى قَبْرٍ يَحْفُرُونَهُ، قَالَ: فَفَزِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَدَرَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ مُسْرِعًا، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْقَبْرِ، فَجَثَى عَلَيْهِ. قَالَ: فَاسْتَقْبَلْتُهُ مِنْ يَدَيْهِ لأَنْظُرَ مَاذَا يَصْنَعُ، فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى مِنْ دُمُوعِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: أَيْ إِخْوَانِي لِمِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ فَأَعِدُّوا " رَوَى بُرَيْدَةُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَمَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 أَرَادَ زِيَارَةَ الْقُبُورِ فَلْيَزُرْ، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ» . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّ فِيهَا عِظَةٌ» أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، أَنْبَأنَا عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ يُوسُفَ، أَنْبَأنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الآبِنُوسِيِّ، أَنْبَأنَا ابْنُ شَاهِينَ، إِجَازَةً، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطَّابِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعِيسِيُّ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الضَّبُعِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ دِينَارٍ، يَقُولُ: أَتَيْتُ الْقُبُورَ فَنَادَيْتُهَا: ... فَأَيْنَ الْمُعَظَّمُ وَالْمُحْتَقَرْ؟ وَأَيْنَ الْمُذِلُّ بِسُلْطَانِهِ ... وَأَيْنَ الْعَزِيزُ إِذَا مَا قَدَرْ؟ وَأَيْنَ الْمُلَبِّي إِذَا مَا دَعَا ... وَأَيْنَ الْغَنِيُّ إِذَا مَا افْتَخَرْ؟ قَالَ: فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ: تَفَانَوْا جَمِيعًا فَمَا مَخْبِرٌ ... وَبَادُوا جَمِيعًا وَبَادَ الْخَبَرْ تَرُوحُ وَتَغْدُو بَنَاتُ الثَّرَى ... فَتُبْلَى مَحَاسِنُ تِلْكَ الصُّوَرْ فَيَا سَائِلِي عَنْ أُنَاسٍ مَضَوْا ... أَمَالَكَ فِيمَنْ مَضَى مُعْتَبَرْ؟ أَنْبَأَنَا الْحرَيرِيُّ، أَنْبَأنَا أَبِو بَكْرٍ الْخَيَّاطُ، أَنْبَأنَا ابْنُ دُوَسْتِ، أَنْبَأنَا ابْنُ صَفْوَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا، حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ مَوْلَى بَنِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 هَاشِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحُصَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْعَلاءُ، حَدَّثَنَا زَيْدٌ الْعَمِّيُّ، قَالَ: شَهِدْتُ جِنَازَةَ ابْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، يَعْنِي هِشَامًا، فَسَمِعْتُ كَاتِبَهُ يَقُولُ: وَمَا سَالِمٌ عَمَّا قَلِيلٍ بِسَالِمٍ ... وَلَوْ كَثُرَتْ حُرَّاسُهُ وَكَتَائِبُهُ وَمَنْ يَكُ ذَا بَابٍ سَدِيدٍ وَحَاجِبٍ ... فَعَمَّا قَلِيلٍ يَهْجُرُ الْبَابَ حَاجِبُهُ وَيَصُبْحُ لِلنَّاسِ بَعْدَ التَّحَجُّبِ عِبْرَةٌ ... رَهِينَةُ بَيْتٍ لَمْ تُسْتَرْ جَوَانِبُهُ فَمَا كَانَ إِلا الدَّفْنُ حَتَّى تَحَوَّلَتْ ... إِلَى غَيْرِهِ أَجْنَادُهُ وَمَوَاكِبُهُ وَأَصْبَحَ مَسْرُورًا بِهِ كُلُّ كَاشِحٍ ... وَأَسْلَمَهُ جِيرَانُهُ وَأَقَارِبُهُ وَقِيلَ لِبَعْضِ حُكَمَاءِ الْعَرَبِ: مَا أَبْلَغُ الْعِظَاتِ؟ قَالَ: النَّظَرُ إِلَى مَحِلِّ الأَمْوَاتِ وَقَالَ أَبِوُ مِحْرِزٍ الطُّفَاوِيُّ: كَفَتْكَ الْقُبُورُ مَوَاعِظَ الأُمَمِ السَّالِفَةِ. وَكَانَ مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ قَدِ احْتَفَرَ قَبْرًا لِنَفْسِهِ، فَكَانَ يَطَّلِعُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ إِطْلاعَةً. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: نَحْنُ رَهَائِنُ الأَمْوَاتِ وَهُمْ عَلَيْنَا مُحْتَسِبُونَ حَتَّى نَرُدَّ إِلَيْهِمُ الرَّهَائِنَ فَيُحْشَرُونَ جَمِيعًا. وَنَظَرَ ابْنُ السَّمَّاكِ إِلَى الْمَقْبُرَةِ، فَقَالَ لا يَغُرَّنَّكُمْ سُكُونُ أَهْلِ هَذِهِ الْقُبُورِ، فَمَا أَكْثَرَ الْمَغْمُومِينَ فِيهَا، وَلا يَغُرَّنَّكُمُ اسْتِوَاؤُهَا، فَمَا أَشَدَّ تَفَاوُتِهِمْ فِيهَا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ وَصَلُوا إِلَى مَا وَصَلْنَا لَمْ يَدْخُلِ النَّارَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَوْ قِيلَ لَهُمُ: امْحُوا مِنْ ذُنُوبِكُمْ مَا شِئْتُمْ، وَزِيدُوا فِي حَسَنَاتِكُمْ مَا شِئْتُمْ لَمَحَوْا ذُنُوبَهُمْ وَزَادُوا حَسَنَاتِهِمْ أَضْعَافَهَا، وَقَدْ أُعْطِينَا نَحْنُ ذَلِكَ فَلا نَغْتَنِمُهُ، يَسْتَطِيعُ الرَّجُلُ أَنْ يَهْدِمَ خَطَايَا سَبْعِينَ سَنَةً فِي سَاعَةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 وَاحِدَةٍ. وَمَرَّ ابْنُ عُمَرَ عَلَى مَقْبُرَةٍ، فَنَزَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: ذَكَرْتُ أَهْلَ الْقُبُورِ وَكَيْفَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ هَذَا، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ. وَقَامَ الْحَسَنُ عَلَى شَفِيرِ قَبْرٍ، وَقَالَ: إِنَّ أَمْرًا هَذَا آخِرُهُ لَحَقِيقٌ أَنْ يَزْهَدَ فِي أَوَّلِهِ. وَوَقَفَ الْفُضَيْلُ الرِّقَاشِيُّ عَلَى الْمَقَابِرِ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الدِّيَارِ الْمُوحِشَةِ، وَالْمَحَالِّ الْمُقْفِرَةِ الَّتِي نَطَقَ بِالْخَرَابِ فَنَاؤُهَا، وَشُيِّدَ بِالتُّرَابِ بِنَاؤُهَا، مُحِلُّهَا مُقْتَرِبٌ، وَسَاكِنُهَا مُغْتَرِبٌ، لا يَتَوَاصَلُونَ تَوَاصَلَ الإِخْوَانِ، وَلا يَتَزَاوَرُونَ تَزَاوُرَ الْجِيرَانِ، قَدْ طَحَنَهُمْ بِكَلْكَلِهِ الْبِلَى، وَأَكَلَهُمُ الْجَنْدَلُ وَالثَّرَى، عَلَيْكُمْ مِنَّا السَّلامُ وَمِنْ رَبِّكُمُ الإِكْرَامُ. وَجَازَ رَجُلٌ عَلَى مَقْبُرَةٍ فَأَنْشَدَ يَقُولُ: سَلامٌ عَلَى أَهْلِ الْقُبُورِ الدَّوَارِسِ ... كَأَنَّكُمْ لَمْ تَجْلِسُوا فِي الْمَجَالِسِ وَلَمْ تَشْرَبُوا مِنْ بَارِدِ الْمَاءِ شَرْبَةً ... وَلَمْ تَأْكُلُوا مِنْ بَيْنِ رَطْبِ وَيَابِسِ أَلا خَبِّرُونِي أَيْنَ قَبْرُ ذَلِيلِكُمْ ... وَقَبْرُ الْعَزِيزِ الْبَاذِلِ الْمُتَشَاوِسِ؟ وَأَنْشَدَ آخَرُ: تُنَادِيكَ أَجْدَاثٌ وَهُنَّ صُمُوتُ ... وَأَجْسَامُهُمْ تَحْتَ التُّرَابِ خُفُوتُ أَيَا جَامِعَ الدُّنْيَا لِغَيْرِ بَلاغَةٍ ... لِمَنِ تَجْمَعُ الدُّنْيَا وَأَنْتَ تَمُوتُ وَأَنْشَدَ آخَرُ: كَأَنِّي بِأَصْحَابِي عَلَى حَافَّتَيْ قَبْرِي ... يُهِيلُونَ مِنْ فَوْقِي وَأَعْيُنُهُمْ تَجْرِي سَتَنْسَوْنَ أَيَّامِي إِذَا مَا رَجَعْتُمُو ... وَغَادَرْتُمُونِي رَهْنَ زَاوِيَةٍ قَفْرِ أَلا أَيُّهَا الْمُذْرِي عَلَيَّ دُمُوعَهُ ... سَتُقْصِرُ فِي يَوْمَيْنِ عَنِّي وَعَنْ ذِكْرِي عَفَا اللَّهُ عَنِّي يَوْمَ أُصْبِحُ ثَاوِيًا ... أُزَارُ فَلا أَدْرِي، وَأُجْفَى فَلا أَدْرِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 خَرَجَ عَطَاءٌ السُّلَيْمِيُّ إِلَى الْمَقْبُرَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَلَمَّا تَوَسَّطَهَا نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَهْلَ الْمَقَابِرِ قَدْ تَسَاوَى بَيْنَكُمْ ... أَيْنَ الْوَضِيعُ مَنِ الْكَرِيمِ السَّيِّدِ؟ أَيْنَ الْمُلُوكُ بَنُو الْمُلُوكِ وَأَيْنَ مَنْ ... قَدْ كَانَ فِي الدُّنْيَا قَلِيلَ الْمَحْفِدِ؟ أَيْنَ الْحِسَانُ ذَوُو النَّضَارَةِ وَالْبَهَا ... أَيْنَ الْمَلِيحُ مِنَ الْقَبِيحِ الأَسْوَدِ؟ أَيْنَ الَّذِينَ تَجَبَّرُوا وَتَعَظَّمُوا ... وَعَتَوْا عُتُوًّا لَمْ يَكُنْ بِالْمُرْشِدِ؟ فَأَجَابَهُ مُجِيبٌ مِنْ قَبْرٍ: إِنَّ الْمَنِيَّةَ عَاصَفَتْهُمْ بَغْتَةً ... فَهُمُ خُمُودٌ جَوْفَ قَبْرٍ مُلْحَدِ قَدْ دَبَّتِ الدِّيدَانُ فِي أَجْسَادِهِمْ ... وَسَعَتْ هَوَامُّ الأَرْضِ فِي الْوَجْهِ النَّدِي كَمْ مِنْ وُجُوهٍ قَدْ تَنَاثَرَ لَحْمُهَا ... وَمَفَاصِلٌ بَانَتْ وَبَانَ مِنَ الْيَدِ وَبَاتَ بَعْضُ الْعُبَّادِ فِي بَعْضِ الْمَقَابِرِ لَيْلَةً فَهَتَفَ بِهِ هَاتِفٌ فِي آخِرِ اللَّيْلِ: وَقِفْ بِالْقُصُورِ عَلَى دِجْلَةَ ... حَزِيَنًا وَقُلْ: أَيْنَ أَرْبَابُهَا؟ وَأَيْنَ الْمُلُوكُ وُلاةُ الْعُهُودِ ... رُقَاةُ الْمَنَابِرِ غِلابُهَا؟ تُجِيبُكَ آثَارُهُمْ عَنْهُمْ ... إِلَيْكَ فَقَدْ مَاتَ أَصْحَابُهَا وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ عِنْدَ الْمَقَابِرِ: أَلا يَا عَسْكَرَ الأَحْيَاءِ ... هَذَا عَسْكَرُ الْمَوْتَى أَجَابُوا الدَّعْوَةَ الصُّغْرَى ... وَهُمْ مُنْتَظِرُو الْكُبْرَى يَحَثُّونَ عَلَى الزَّادِ ... وَلا زَادَ سِوَى التَّقْوَى يَقُولُونَ لَكُمْ جِدُّوا ... فَهَلا عَمَّرْتُمُ الأُخْرَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 وَأَنْشَدَ آخَرُ: كَمْ بِبَطْنِ الأَرْضِ ثَاوٍ ... مِنْ وَزِيرٍ وَأَمِيرِ وَصَغِيرُ الشَّأْنِ عَبْدٌ ... خَامِلُ الذِّكْرِ حَقِيرِ لَوْ تَأَمَّلْتَ قُبُورَ الْقَوْمِ ... فِي يَوْمٍ قَصِيرِ لَمْ تُمَيِّزْ وَلَمْ تَعْرِفْ ... غَنِيًّا مِنْ فَقِيرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 بَابٌ فِي ذِكْرِ كَلامِ الْقَبْرِ أَخْبَرَنَا الْكَرُوخِيُّ، أَخْبَرَنَا الْغُورَجِيُّ، أَنْبَأنَا الْجَرَّاحِيُّ، أَنْبَأنَا الْمَحْبُوبِيُّ، حَدَّثَنَا التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ وَهُوَ ابْنُ مَنْدَوَيْهِ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَكَمِ الْعَرَنِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ الْوَصَافِيُّ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَلاهُ فَرَأَى أُنَاسًا يَكْتَشِرُونَ، قَالَ: " أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ أَكْثَرْتُمْ ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَاتِ لَشَغَلَكُمْ عَمَّا أَرَى، فَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَاتِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَلَى الْقَبْرِ يَوْمٌ إِلا تَكَلَّمَ، فَيَقُولُ: أَنَا بَيْتُ الْغُرْبَةِ، وَأَنَا بَيْتُ الْوَحْدَةِ، وَأَنَا بَيْتُ الدُّودِ. فَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ، قَالَ لَهُ الْقَبْرُ: مَرْحَبًا وَأَهْلا أَمَا إِنْ كُنْتَ لأَحَبَّ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي إِلَيَّ، فَإِذْ وُلِّيتُكَ الْيَوْمَ فَصِرْتَ إِلَيَّ فَسَتَرَى صَنِيعِي بِكَ، فَيَتَّسِعُ لَهُ مَدَّ بَصَرِهِ، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ. وَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْفَاجِرُ أَوِ الْكَافِرُ قَالَ لَهُ الْقَبْرُ: لا مَرْحَبًا وَلا أَهْلا، أَمَا إِنْ كُنْتَ لأَبْغَضَ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي إِلَيَّ، فَإِذْ وُلِّيتُكَ الْيَوْمَ، وَصِرْتَ إِلَيَّ، فَسَتَرَى صَنِيعِي بِكَ. قَالَ: فَيَلْتَئِمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَلْتَقِيَ وَتَخْتَلِفَ أَضْلاعُهُ ". قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصَابِعِهِ، فَأَدْخَلَ بَعْضَهَا فِي جَوْفِ بَعْضٍ، «وَيُقَيَّضُ لَهُ سَبْعُونَ تِنِّينًا، لَوْ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهَا نَفَخَ فِي الأَرْضِ مَا أَنْبَتَتْ شَيْئًا مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، فَيَنْهَشْنَهُ وَيَخْدِشْنَهُ حَتَّى يُفْضَى بِهِ إِلَى الْحِسَابِ» وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ» وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: لَيْسَ مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ إِلا نَادَتْهُ حُفْرَتُهُ الَّتِي يُدْفَنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 فِيهَا: أَنَا بَيْتُ الظُّلْمَةِ وَالْوَحْدَةِ وَالانْفِرَادِ، فَإِنْ كُنْتَ لِلَّهِ مُطِيعًا فِي حَيَاتِكَ كُنْتُ الْيَوْمَ عَلَيْكَ رَحْمَةً، وَإِنْ كُنْتَ لِرَبِّكَ فِي حَيَاتِكَ عَاصِيًّا فَإِنَّا الْيَوْمَ عَلَيْكَ نِقْمَةٌ، أَنَا الْبَيْتُ الَّذِي مَنْ دَخَلَنِي مُطِيعًا خَرَجَ مِنِّي مَسْرُورًا، وَمَنْ دَخَلَنِي عَاصِيًّا خَرَجَ مِنِّي مَثْبُورًا ". وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ صُبَيْحٍ: بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ فَعُذِّبَ أَوْ أَصَابَهُ بَعْضُ مَا يَكْرَهُ نَادَاهُ جِيرَانُهُ مِنَ الْمَوْتَى: أَيُّهَا الْمُخْلَفُ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ إِخْوَانِهِ وَجِيرَانِهِ أَمَا كَانَ لَكَ فِينَا مُعْتَبَرٌ؟ أَمَا كَانَ لَكَ فِي مُتَقَدِّمِنَا آثَارُ فِكْرَةٍ؟ أَمَا رَأَيْتَ انْقِطَاعَ أَعْمَالِنَا وَأَنْتَ فِي الْمُهْلَةِ، فَهَلا اسْتَدْرَكْتَ، هَلا اعْتَبَرْتَ مِمَّنْ غُيِّبَ مِنْ أَهْلِكَ فِي بَطْنِ الأَرْضِ مِمَّنْ غَرَّتْهُ الدُّنْيَا قَبْلَكَ؟ وَفِي الْحَدِيثِ: " مَا مِنْ يَوْمٍ إِلا وَالأَرْضُ تُنَادِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ: يَا ابْنَ آدَمَ، تَمْشِي عَلَى ظَهْرِي ثُمَّ مَصِيرُكَ إِلَى بَطْنِي، يَا ابْنَ آدَمَ، تَفْرَحُ عَلَى ظَهْرِي وَتَحْزَنُ فِي بَطْنِي، يَا ابْنَ آدَمَ، تَدُبُّ عَلَى ظَهْرِي وَتَخِرُّ فِي بَطْنِي، يَا ابْنَ آدَمَ، تُذْنِبُ عَلَى ظَهْرِي، ثُمَّ تُعَذَّبُ فِي بَطْنِي، يَا ابْنَ آدَمَ، تَضْحَكُ عَلَى ظَهْرِي ثُمَّ تَبِكي فَي بَطْنِي، يَا ابْنَ آدَمَ، تَأْكُلُ الْحَرَامَ عَلَى ظَهْرِي، ثُمَّ يَأْكُلُكَ الدُّودُ فِي بَطْنِي ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 بَابٌ مُنْتَخَبٌ مِنْ مَحَاسِنِ مَا كُتِبَ عَلَى الْقُبُورِ قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي طَاهِرِ بْنِ الصَّقْرِ، أَنْبَأنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصَّوَّافُ، أَنْبَأنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الضَّرَّابُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمُنْعِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: أُصِيبَ عَلَى قَبْرِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلامُ مَكْتُوبٌ فِي حَجَرٍ: إِلَهِي جَهُولا لا ... أَمَلُّهُ يَمُوتُ مَنْ جَاءَ أَجَلُهُ وَمَنْ دَنَا مِنْ حَتْفِهِ ... لَمْ تُغْنِ عَنْهُ حِيَلُهُ وَكَيْفَ يَبْقَى آخَرُ ... قَدْ مَاتَ عَنْهُ أَوَّلُهُ أَنْبَأنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْحَرِيرِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقْرِئُ، أَنْبَأنَا ابْنُ دُوَسْتِ الْعَلافُ، حَدَّثَنَا ابْنُ صَفْوَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الأَزْدِيُّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى قَبْرٍ بِشَاطِئِ الْفُرَاتِ مَكْتُوبٌ: يَا عَجَبًا لِلأَرْضِ مَا تَشْبَعْ ... وكُلُّ حَيٍّ فَوْقَهَا يَضْجَعْ ابْتَعَلَتْ عَادًا فَأَفْنَتْهُمْ ... وَبَعْدَ عَادٍ أَهْلَكَتْ تُبَعْ وَقَوْمَ نُوحٍ أَدْخَلَتْ بَطْنَهَا ... فَظَهْرُهَا مِنْ جَمْعِهِمْ بَلْقَعْ يَا أَيُّهَا الرَّاجِي لِمَا قَدْ مَضَى ... هَلْ لَكَ فِيمَا قَدْ بَقَى مَطْمَعْ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 وَبِهِ حَدَّثَنَا الْقُرَشِيُّ، أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَدَقَةَ بْنِ مَرَادِسَ الْبَكْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى ثَلاثَةِ أَقْبُرٍ عَلَى شَرَفٍ مِنَ الأَرْضِ، فَإِذَا عَلَى أَحَدِهِمَا مَكْتُوبٌ: وَكَيْفَ يَلَذُّ الْعَيْشَ مِنْ هُوَ عَالِمٌ ... بِأَنَّ إِلَهَ الْخَلْقِ لا بُدَّ سَائِلُهُ؟ فَيَأْخُذُ مِنْهُ ظُلْمَهُ لِعِبَادِهِ ... وَيَجْزِيهِ بِالْخَيْرِ الَّذِي هُوَ فَاعِلُهُ وَعَلَى الْقَبْرِ الثَّانِي مَكْتُوبٌ: وَكَيْفَ يَلَذُّ الْعَيْشَ مَنْ كَانَ مُوقِنًا ... بِأَنَّ الْمَنَايَا بَغْتَةً سَتُعَاجِلُهُ فَتَسْلُبُهُ مُلْكًا عَظِيمًا وَنَخْوَةً ... وَتُسْكِنُهُ الْبَيْتَ الَّذِي هُوَ آهِلُهُ وَإِذَا عَلَى الْقَبْرِ الثَّالِثِ مَكْتُوبٌ: وَكَيْفَ يَلَذُّ الْعَيْشَ مَنْ هُوَ صَائِرٌ ... إِلَى جَدَثٍ يُبْلِي الشَّبَابَ مَنَاهِلُهُ وَيُذْهِبُ رَسْمَ الْوَجْهِ مِنْ بَعْدِ ضَوْئِهِ ... وَيَبْلَى سَرِيعًا جِسْمُهُ وَمَفَاصِلُهُ أَصْلَحْتُ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ كَلِمَةً حَتَّى اسْتَقَامَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقْرِئُ، أَنْبَأنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ الثَّعَالِبِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الدَّقَّاقُ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْجِيلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الشَّاعِرُ، قَالَ: قُرِئَ عَلَى قَبْرٍ: الْمَوْتُ أَخْرَجَنِي مِنْ دَارِ مَمْلَكَتِي ... فَالتُّرْبُ مُضْطَجَعِي مِنْ بَعْدِ تَتْرِيفِي لِلَّهِ عَبْدٌ رَأَى قَبْرِي فَأَحْزَنَهُ ... وَخَافَ مِنْ دَهْرِهِ رَيْبَ التَّصَارِيفِ هَذَا مَصِيرُ ذَوِي الدُّنْيَا وَإِنْ جَمَعُوا ... فِيهَا وَغَرَّهُمْ طُولُ التَّسَاوِيفِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ عَمْدِي وَمِنْ خَطَئِي ... وَأَسْأَلُ اللَّهَ فَوْزِي يَوْمَ تَوْقِيفِي قَالَ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ وَحَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى قَبْرٍ: أَيَضْمَنُ لِي فَتًى تَرْكَ الْمَعَاصِي ... وَأَرْهَنُهُ الْكَفَالَةَ بِالْخَلاصِ أَطَاعَ اللَّهَ قَوْمٌ فَاسْتَرَاحُوا ... وَلَمْ يَتَجَرَّعُوا غُصَصَ الْمَعَاصِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 وَبِالإِسْنَادِ، أَنْبَأنَا الْجِيلِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا سَيَّارٌ، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ دَينَارٍ، يَقُولُ: مَرَرْتُ بِطَرِيقِ الشَّامِ فَإِذَا قَبْرٌ عَلَيْهِ مَكْتُوبٌ: يَا أَيُّهَا الرَّكْبُ سِيرُوا إِنَّ قَصْرَكُمْ ... أَنْ تُصْبِحُوا ذَاتَ يَوْمٍ لا تَسِيرُونَا حُثُّوا الْمَطَايَا وَارْخُوا مِنْ أَزِمَّتِهَا ... قَبْلَ الْمَمَاتِ وَنُصُّوا مَا يَنُصُّونَا قَالَ وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْعَتَاهِيَةِ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ الْكَلْبِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَصَبْتُ جُمْجُمَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَيْهَا مَكْتُوبٌ: أُذُنُ حَيٍّ تَسْمَعِي ... ثُمَّ عِي وَعِي أَنَا رَهْنٌ بِمَصْرَعِي ... فَاحْذَرِي مِثْلَ مَصْرَعِي قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبِي، فَأَخْبَرْتُهُ، فَاسْتَحْسَنَهُ. وَزَادَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ شَيْءٌ سِوَى النَّعِي ... فَخُذِي مِنْهُ أَوْ دَعِي قَالَ إِسْحَاقُ وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي صَدِيقٌ لِي أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى قَبْرٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّي قَدْ ... صِرْتُ فِي الْقَبْرِ وَحْدِي فَلَسْتُ أَعْرِفُ شَيْئًا ... مِنْ أَمْرِ مُلْكِي بَعْدِي مُسْتَوْحِشٌ ذُو ذُنُوبٍ ... خَطِئْتُ فِيهَا بِجَهْدِي فَاغْفِرْ إِلَهِي جُرْمِي ... فَكَمْ بِذَلِكَ عِنْدِي أَنْتَ الْجَوَّادُ بِفَضْلٍ ... فَأَحْسِنِ الْيَوْمَ رِفْدِي وَقَالَ إِسْحَاقُ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُسَامَةَ، يَقُولُ: وَجَدْتُ عَلَى قَبْرٍ مَكْتُوبٌ: قَبْرُ عَزِيزٍ عَلَيْنَا ... لَوْ أَنَّهُ كَانَ يُفْدَى أَسْكَنْتُ قُرَّةَ عَيْنِي ... وَمُنْيَةَ النَّفْسِ لَحْدَا مَا جَارَ خَلْقٌ عَلَيْنَا ... وَلا الْقَضَاءُ تَعَدَّى وَالصَّبْرُ أَحْسَنُ شَيْءٍ ... بِهِ الْفَتَى يَتَرَدَّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 وَقَالَ إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ، أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى قَبْرٍ: وَلَيْسَ لِلْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ ... فِطْرٌ وَلا أَضْحَى وَلا عَشْرُ نَأَى عَنِ الأَهْلِ عَلَى قُرْبِهِ ... كَذَاكَ مَنْ مَسْكَنُهُ الْقَبْرُ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ، وَالْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالا: أَنْبَأنَا الْحَسَنُ الْعَلافُ، أَنْبَأنَا أَبُو الْحَسَنِ الْحَمَامِيُّ، أَنْبَأنَا جَعْفَرٌ الْخُلْدِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ، يَقُولُ: مَرَرْتُ بِبَعْضِ بِلادِ الشَّامِ، فَرَأَيْتُ مَقْبُرَةً، وَإِذَا عَلَى قَبْرٍ عَالٍ مُشْرِفٍ كِتَابٌ، فَإِذَا فِيهِ عِبَرٌ وَكَلامٌ حَسَنٌ، وَكَانَ يَقُولُهُ كَثِيرًا: مَا أَحَدٌ أَكْرَمُ مِنْ مُفْرَدٍ ... فِي قَبْرِهِ أَعْمَالُهُ تُؤْنِسُهْ مُنَعَّمٌ فِي الْقَبْرِ فِي رَوْضَةٍ ... زَيَّنَهَا اللَّهُ فَهِيَ مَجْلِسُهْ قَالَ وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ، قَالَ: مَرَرْتُ فِي بَعْضِ جِبَالِ الشَّامِ، وَإِذَا حَجَرٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: كلُّ حَيٍّ وَإِنْ بَقِي ... فَمِنَ الْعُمُرِ يَسْتَقِي فَاعْمَلِ الْيَوْمَ وَاجْتَهِدْ ... وَاحْذَرِ الْمَوْتَ يَا شَقِي فَبَيْنَمَا أَنَا وَاقِفٌ أَقْرَأُ وَأَبْكِي، وَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ أَشْعَثَ، أَغْبَرَ، عَلَيْهِ مَدْرَعَةٌ مِنْ شَعْرٍ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ، فَرَأَى بُكَائِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقُلْتُ قَرَأْتُ هَذَا النَّقْشَ فَأَبْكَانِي. فَقَالَ: وَأَنْتَ لا تَتَّعِظُ، وَتَبْكِي حَتَّى تُوعَظَ، ثُمَّ قَالَ: سِرْ مَعِي حَتَّى أُقْرِئَكَ غَيْرَهُ، فَمَضَيْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَإِذَا أَنَا بِصَخْرَةٍ عَظِيمَةٍ، فَقَالَ: اقْرَأْ وَابْكِ، وَلا تُقَصِّرْ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَإِذَا فَي أَعْلاهَا: لا تَبْتَغِي جَاهًا وَجَاهُكَ سَاقِطُ ... عِنْدَ الْمَلِيكِ، وَكُنْ لِجَاهِكَ مُصْلِحَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 وَفِي الْجَانِبِ الأَيْمَنِ: مَنْ لَمْ يَثِقْ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ ... لاقَى هُمُومًا كَثِيرَةَ الضَّرَرِ وَفِي الْجَانِبِ الأَيْسَرِ: مَا أَزْيَنَ التُّقَى وَمَا أَقْبَحَ الْخَنَا ... وَكُلُّ مَأْخُوذٍ بِمَا جَنَى وَعِنْدَ اللَّهِ الْجَزَاءُ وَفِي أَسْفَلِ الْمِحْرَابِ: إِنَّمَا الْفَوْزُ وَالْغِنَى ... فِي تُقَى اللَّهِ وَالْعَمَلِ فَلَمَّا تَدَبَّرْتُهُ وَكَتَبْتُهُ، الْتَفَتُّ إِلَى صَاحِبِي فَلَمْ أَرَهْ، فَلا أَدْرِي مَضَى أَوْ حُجِبَ عَنِّي أَنْبَأنَا الْحَرِيرِيُّ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَيَّاطُ، أَنْبَأنَا ابْنُ صَفْوَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنِي أَبُو عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، حَدَّثَنِي سَيْفُ بْنُ بِشْرٍ الصَّنْعَانِيُّ، قَالَ: مَرَرْتُ عَلَى وَادِي حَضْرَمَوْتَ فَإِذَا بِقَبْرٍ مِنْ قُبُورِ أُولَئِكَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ بِالْحِمْيَرِيَّةِ: أَنَا ابْنُ مَنْ عَمَّرَ الدُّنْيَا لِيَسْكُنَهَا ... فَأَخْرَبَتْ نَفْسَهُ الأَقْدَارُ وَالأَجَلُ حَدَّثَنَا الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، حَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ يُوسُفَ الْمَكِّيُ، قَالَ: خَرَجْتُ يَوْمًا وَأَنَا أُرِيدُ الطَّائِفَ، فَحَادَتْ بِي رَاحِلَّتِي عَنِ الطَّرِيقِ فَانْتَهَيْتُ إِلَى عَيْنِ مَاءٍ، فَإِذَا بِقَبْرٍ عِنْدَ الْعَيْنِ جَدِيدٍ، فِي مَوْضِعٍ مُنْقَطِعٍ مِنَ النَّاسِ لا يَكَادُ يَمُرُّ عَلَيْهِ إِلا رَاعٍ أَوْ ضَالٌّ، فَإِذَا عَلَى الْقَبْرِ مَكْتُوبٌ: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ بَكَى ... لِغَرِيبٍ قَدْ عَفَى غَيَّرَ الْقَبْرُ وَجْهَهُ ... مَحَا الْحُسْنَ وَالصَّفَا قَالَ: فَبَكَيْتُ وَاللَّهَ يَوْمَئِذٍ حَتَّى اشْتَفَيْتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 وَبِهِ حَدَّثَنَا الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يُونُسَ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى قَبْرٍ بِشِيرَازَ. ذَهَبَ الأَحِبَّةُ بَعْدَ طُولِ تَوَدُّدٍ ... وَنَأَى المْزَارُ، فَأَسْلَمُوكَ وَأَقْشَعُوا خَذَلُوكَ أَفْقَرَ مَا تَكُونُ لِغُرْبَةٍ ... لَمْ يُؤْنِسُوكَ، وَكُرْبَةً لَمْ يَدْفَعُوا قَضَى الْقَضَاءُ وَصِرْتَ صَاحِبَ حُفْرَةٍ ... عَنْكَ الأَحِبَّةُ أَعْرَضُوا وَتَصَدَّعُوا وَبِهِ حَدَّثَنِي الْقُرَشِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَصْحَابِنَا، يَقُولُ: قَرَأَ عَلَى قَبْرٍ بِالْبَصْرَةِ. لَئِنْ كُنْتَ لَهْوًا لَلْعُيُونِ وَقُرَّةً ... لَقَدْ صِرْتَ سُقْمًا لَلْقُلُوبِ الصَّحَائِحِ وَهَوَّنَ وَجْدِي أَنَّ يَوْمَكَ مُدْرِكِي ... وَأَنِّي غَدًا مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الضَّرَائِحِ وَبِهِ حَدَّثَنِي الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى حَائِطِ مَقْبُرَةٍ مَكْتُوبٌ: يَا أَيُّهَا الْوَاقِفُ بِالْقُبُورِ ... بَيْنَ أُنَاسٍ غُيَّبٍ حُضُورِ قَدْ سَكَنُوا فِي خِرَبٍ مَهْجُورِ ... بَيْنَ الثَّرَى وَجَنْدَلِ الصُّخُورِ لا تَكُ عَنْ حَظِّكَ فِي غُرُورِ قَالَ الْقُرُشِيُّ: وَكَانَ عَلَى قَبْرٍ مَكْتُوبٌ: سَلَبَ الْمَوْتُ مُهْجَتِي وَشَبَابِي ... وَجَفَانِي فِي غُرْبَتِي أَحْبَابِي بَعْدَ مُلْكٍ وَظِلٍّ عَجِيبِ ... صِرْتُ رَهْنًا لِجَنْدلٍ وَتُرَابِ وَقُرِئَ عَلَى قَبْرٍ مَكْتُوبٌ: عِشْتُ دَهْرًا فِي نَعِيمٍ ... وَسُرُورٍ وَاغْتِبَاطِ ثُمَّ صَارَ الْقَبْرُ بَيْتِي ... وَثَرَى الأَرْضِ بِسَاطِي وَبِهِ حَدَّثَنَا الْقُرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ إِلَى مَقَابِرِ الْبَصْرَةِ فَبَيْنَمَا هُوَ يَتَخَطَّاهَا إِذْ بَصُرَ بِقَبْرٍ عَلَيْهِ مَكْتُوبٌ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 يَا غَافِلَ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ الْمَنِيَّاتِ ... عَمَّا قَلِيلٍ سَتُثْوَى بَيْنَ أَمْوَاتِ فَاذْكُرِ مَحِلَّكَ مِنْ قَبْلِ الْحُلُولِ بِهِ ... وَتُبْ إِلَى اللَّهِ مِنْ لَهْوٍ وَلَذَّاتِ إِنَّ الْحِمَامَ لَهُ وَقْتٌ إِلَى أَجَلٍ ... فَاذْكُرْ مَصَائِبَ أَيَّامٍ وَسَاعَاتِ لا تَطْمَئِنَّ إِلَى الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا ... قَدْ حَانَ لِلْمَوْتِ يَا ذَا اللُّبّ أَنْ يَأْتِي وَبِهِ حَدَّثَنَا الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَجُلٍ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى قَبْرٍ مَكْتُوبٌ: يَا أَيُّهَا الْوَاقِفُ بِالْقَبْرِ عِشَاءً وَسَحَرْ إِنَّ فِي الْقَبْرِ عِظَامًا بَالِيَاتٍ وَعِبَرْ قَالَ الْقُرَشِيُّ، وَقَرَأْتُ أَنَا عَلَى قَبْرٍ بِالأَيْلَةِ: الْمَوْتُ بَحْرٌ غَالِبٌ مَوْجُهُ ... تَضِلُّ فِيهِ حِيلَةُ السَّابِحِ يَا نَفْسُ إِنِّي قَائِلٌ فَاسْمَعِي ... مَقَالَةً مِنْ مُشْفِقٍ نَاصِحِ مَا اسْتَصْحَبَ الإِنْسَانُ فِي قَبْرِهِ ... مِثْلَ التُّقَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَقَالَ: رَأَيْتُ عَلَى قَبْرٍ مَكْتُوبٌ: يَا مَنْ أَبْطَرَهُ الْغِنَى، وَأَسْكَرَتْهُ شَهْوَةُ الدُّنْيَا، اسْتَعِدُّوا لِلسَّفْرَةِ الْعُظْمَى، فَقَدْ دَنَا مَوْرِدُكُمْ عَلَى أَهْلِ الْبَلاءِ قَالَ وَحَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ نَقِيفٍ، قَالَ: وَجَدْتُ عَلَى مَقْبُرَةٍ بِالْحِيرَةِ حَجَرًا مَنْقُورٌ فِيهِ مَكْتُوبٌ أَنَا عَبْدُ الْمَسِيحِ بْنُ حَنَّانٍ: حَلَبْتُ الدَّهْرهَ أَشْطَرَهُ سَعِيدَا ... وَنِلْتُ مِنَ الْمُنَى فَوْقَ الْمَزِيدِ وَكَافَحْتُ الأُمُورَ وَكَافَحَتْنِي ... وَلَمْ أَخْضَعْ لِمُعْضَلَةٍ كَؤودِ وُلِدْتُ أَنَالُ فِي الشَّرَفِ الثُّرُيَّا ... وَلَكِنْ لا سَبِيلَ إِلَى الْخُلُودِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 قَالَ وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، حَدَّثَنَا الْخَثْعَمِيُّ، قَالَ: أَوْصَى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ أَنْطَاكِيَةَ أَنْ يُكْتَبَ عَلَى قَبْرِهِ: أَعَدَّ لِلَّهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ ... إِسْحَاقُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا هُو يَقُولُهَا مُخْلِصًا عَسَاهُ ... يَرْحَمُهُ فِي الْقِيَامَةِ اللَّهُ قَالَ وَحَدَّثَنِي الْفُضَيْلُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَجَلِيُّ، قَالَ: وُجِدَ عَلَى قَبْرِ عَادٍ، مَكْتُوبٌ هَذِهِ الأَبْيَاتَ: اصْبِرْ لِدَهْرٍ نَالَ مِنْكَ ... فَهَكَذَا مَضَتِ الدُّهُورُ فَرَحٌ وَحُزْنٌ مَرَّةً لا ... الْحُزْنُ دَامَ وَلا السُّرُورُ قال وَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ السُّكَرِيِّ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ وُجِدَ عَلَى قَبْرٍ مَكْتُوبٌ: وَغَافِلٍ أُوذِنَ بِالصَّوْتِ ... لَمْ يَأْخُذِ الْعُدَّةَ لِلْفَوْتِ إِنْ لَمْ تَزُلْ نِعْمَتُهُ قَبْلَهُ ... زَالَ عَنِ النِّعْمَةِ بِالْمَوْتِ قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبِو عَلِيٍّ النَّجَّارُ: أَنَّهُ نَقَشَ عَلَى لَوْحٍ لِقَبْرٍ: يَا أَيُّهَا الْمَيِّتُ الْمُغَيَّبُ فَي الثَّرَى ... زُرْتَ الْقُبُورَ فَمَا تَحِسُّ وَلا تَرَى لَمَّا نُقِلْتَ إِلَى الْمَقَابِرِ مَيِّتَا ... لَمْ يَبْقَ دَمْعٌ جَامِدٌ إِلا جَرَى جَاوَرْتَ قَوْمًا لا تَوَاصُلَ بَيْنَهُمْ ... وَيَفُوتُ ضَيْفَهُمُ الْكَرَامَةُ وَالْقِرَى قَالَ: وَأَخْرَجَ إِلَيَّ أَبُو عَلِيٍّ لَوْحًا وَقَدْ نَقَشَهُ لِرَجُلٍ، فَجَعَلَهُ عَلَى قَبْرٍ لِبَعْضِ أَهْلِهِ: وَكَيْفَ بَقَائِي بَعْدَ إِلْفِي وَصَاحِبِي ... وَنَفْسِي قَدْ ذَابَتْ وَمَاتَ سُرُورُهَا وَإِنِّي لآتٍ قَبْرَهُ فَمُسَلِّمٌ ... وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ حُفْرَةَ مَنْ يَزُورُهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَرَأَيْتُ عَلَى قَبْرٍ مَكْتُوبٌ: أَنَا فِي الْقَبْرِ وَحِيدٌ ... قَدْ فَرَّ الأَهْلُ مِنِّي أَسْلَمُونِي لِذُنُوبِي ... خِبْتُ إِنْ لَمْ يَعْفُ عَنِّي قَالَ: وَرَأَيْتُ عَلَى قَبْرٍ: الْقَبْرُ بَيْتٌ سَوْفَ تَسْكُنُهُ ... مَاذَا عَمِلْتَ لِيَوْمِ الْقَبْرِ يَا سَاهِي وَبِالإِسْنَادِ، قَالَ الْقُرَشِيُّ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ، قَالَ: مَرَّ صَالِحٌ الْمُرِيُّ بِقَصْرٍ قَدْ خَرِبَ، وَبِفِنَائِهِ قَبْرَانِ، وَأَسْوَدٌ جَالِسٌ عِنْدَهَا، فَقَالَ: يَا صَالِحُ، ادْنُ تَرَى عِبَرًا، فَإِنَّ رَبَّا هَذَا الْقَصْرِ صَارَا إِلَى مَا تَرَى، قَالَ: وَعَلَى الْقَبْرِ مَكْتُوبٌ: يَا أَيُّهَا الرَّكْبُ سِيرُوا الْيَوْمَ وَاعْتَبِرُوا ... فَعَنْ قَلِيلٍ تَكُونُوا مِثْلَنَا عِبَرَا كُنَّا وَكَانَتْ لَنَا الدُّنْيَا بِلَذَّتِهَا ... فَمَا اعْتَبَرْنَا وَمَا كُنَّا لِنَزْدَجِرَا حَتَّى رَمَانَا الرَّدَى مِنْهُ بِأَسْهُمِهِ ... فَلَمْ يُبْقِ لَنَا عَيْنًا وَلا أَثَرَا وَقُرِئَ عَلَى قَبْرٍ: هَذِي مَنَازِلُ أَقْوَامٍ عَهِدْتُهُمْ ... فِي ظِلِّ عَيْشٍ عَجِيبٍ مَا لَهُ خَطَرُ صَاحَتْ بِهِمْ حَادِثَاتُ الدَّهْرِ فَانْقَلَبُوا ... إِلَى الْقُبُورِ فَلا عَيْنٌ وَلا أَثَرُ وَقُرِئَ عَلَى قَبْرٍ: يَمُرُّ أَقَارِبِي جَنَبَاتِ قَبْرِي ... كَأَنَّ أَقَارِبِي لَمْ يَعْرِفُونِي وَقَدْ أَخَذُوا سِهَامَهُمُ وَعَاشُوا ... فَيَا اللَّهَ أَسْرَعَ مَا نَسُونِي وَقُرِئَ عَلَى قَبْرٍ: أَقُولُ وَقَدْ فَاضَتْ دُمُوعِي جَمَّةً ... أَرَى الأَرْضَ تَبْقَى وَالأَخِلَّةَ تَذْهَبُ أَخِلايَ لَوْ غَيْرَ الْمَمَاتِ أَصَابَكُمْ ... عَتِبْتُ وَلَكِنْ مَا عَلَى الْمَوْتِ مُعْتِبُ وَقُرِئَ عَلَى قَبْرٍ: تَزَوَّدْ قَرِينًا مِنْ فِعَالِكَ إِنَّمَا ... قَرِينُ الْفَتَى فِي الْقَبْرِ مَا كَانَ يَعْمَلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 فَإِنْ تَكُ مَشْغُولا فَلا تَكُ يَا فَتَى ... بِغَيْرِ الَّذِي يَرْضَى بِهِ اللَّهُ تُشْغَلُ فَلَنْ يَصْحَبَ الإِنْسَانَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ ... إِلَى قَبْرِهِ إِلا الَّذِي كَانَ يَفْعَلُ أَلا إِنَّمَا الإِنْسَانُ ضَيْفٌ لأَهْلِهِ ... يُقِيمُ قَلِيلا عِنْدَهُمْ ثُمَّ يَرْحَلُ وَقُرِئَ عَلَى قَبْرِ مُحِبَّيْنِ: كُنَّا عَلَى ظَهْرِهَا وَالدَّهْرُ فِي مَهَلٍ ... وَالْعَيْشُ وَالدَّارُ وَالْوَطَنُ فَفَرَّقَ الدَّهْرُ بِالتَّصْرِيفِ أُلْفَتَنَا ... فَالْيَوْمَ يَجْمَعُنَا فِي بَطْنِهَا الْكَفَنُ وَقُرِئَ عَلَى بَابِ قَصْرٍ: أَصْبَحُوا بَعْدَ اجْتِمَاعٍ فُرَقَا ... وَكَذَا كُلُّ جَمِيعٍ مُفْتَرِقْ ضَحِكُوا وَالدَّهْرُ عَنْهُمْ سَاكِتٌ ... ثُمَّ أَبْكَاهُمْ دَمًا حِينَ نَطَقْ وَقُرِئَ عَلَى قَبْرٍ: مُقِيمٌ إِلَى أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ خَلْقَهُ ... لِقَاؤُكَ لا يُرْجَى وَأَنْتَ قَرْيبُ يَزِيدُ بِلًى فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ... وَتُنْسَى كَمَا تَبْلَى وَأَنْتَ حَبِيبُ وَقُرِئَ عَلَى قَبْرٍ: وَلَقَدْ وَقَفْتَ كَمَا وَقَفْتُ ... وَلَقَدْ نَظَرْتَ فَمَا اعْتَبَرْتُ حَصِّلْ لِنَفْسِكَ مَنْزِلا ... قَبْلَ الْحُصُولِ كَمَا حَصَّلْتُ وَأَمَرَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ أَنْ يُكْتَبَ عَلَى قَبْرِهِ: أَيُّهَا الْمَغْرُورُ فِي الدُّنْيَا ... بِعِزٍّ يَقْتَنِيهِ وَبِأَهْلٍ وَبِمَالٍ ... وَبِقَصْرٍ تَبْتَنِيهِ كَمْ عَلَيْهَا قَدْ سَحَبْنَا ... ذَيْلَ سُلْطَانِ وَتِيهِ نَحْسَبُ الأَفْلاكَ تَجْرِي ... بِخُلُودٍ نَرْتَجِيهِ إِذْ طَوَانَا الدَّهْرُ طَيَّا ... فَاعْتَبِرْ مَا نَحْنُ فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 بَابٌ مِنْ فُنُونِ الْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ بَعْدَمَا انْتَهَيْنَا مِمَّا قَصَدْنَا لَهُ، أَحْبَبْتُ أَنْ نَخْتِمَ الْكِتَابَ بِكَلِمَاتٍ تَحْتَوِي عَلَى حِكَمٍ وَمَوَاعِظَ، وَإِلَى اللَّهِ الرَّغْبَةُ فِي النَّفْعِ بِسَائِرِ الْعُلُومِ. أَخْبَرَنَا الْكَرُوخِيُّ، أَنْبَأنَا الْجَرَّاحِيُّ، أَنْبَأنَا الْمَحْبُوبِيُّ، حَدَّثَنَا التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ: «يَا غُلامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تِجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: عِظْنِي وَأَوْجِزْ، قَالَ: «إِذَا قُمْتَ فِي صَلاتِكَ فَصَلِّ صَلاةَ مُوَدِّعٍ، وَلا تَكَلَّمْ بِكَلامٍ يُعْتَذَرُ مِنْهُ غَدًا، وَاجْمَعِ الإِيَاسِ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ» . أَنْبَأنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَنْبَأنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَنْبَأنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ التُّونِيِّ، أَنْبَأنَا عُمَرُ بْنُ ثَابِتٍ، أَنْبَأنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي قَيْسٍ، أَنْبَأنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ كُلَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَصِيبِ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ الأَفْطَسُ، قَالَ: قَدِمَتْ رَسُلُ الرُّومِ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْكُمْ إِذَا مَلَّكْتُمْ مُلُوكَكُمْ؟ قَالُوا: إِذَا مَلَّكْنَا الرَّجُلَ، فَقَعَدَ، غَدَا عَلَيْهِ الْحَافِرُ صَلاةَ الْغَدَاةِ، فَيَقُولُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ كَانَ إِذَا جَلَسَ مَجْلِسَهُ , غَدَوْتُ عَلَيْهِ , فَيَأْمُرُنِي كَيْفَ اتُّخِذَ قَبْرُهُ، فَيَكُبُّوا لَهَا مَلِيًّا، ثُمَّ يَقُولُ: انْطَلِقْ فَاجْعَلْهُ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا جَاءَ مِنَ الْغَدِ، غَدَا صَاحِبُ الأَكْفَانِ، فَيَقُولُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، إِنَّهُ مَنْ كَانَ مِنْ قَبْلِكَ إِذَا جَلَسَ مَجْلِسَهُ، غَدَوْتُ عَلَيْهِ، فَيَأْخُذَ أَكْفَانَهُ، فَيَكُبُّوا لَهَا سَاعَةً، ثُمَّ يَأْخُذُهَا فَيَجْعَلُهَا فِي سَفَطٍ، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ، غَدَا عَلَيْهِ صَاحِبُ الْحَنُوطِ، فَيَقُولُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، إِنَّهُ مَنْ كَانَ مِنْ قَبْلِكَ إِذَا جَلَسَ مَجْلِسَهُ، غَدَوْتُ عَلَيْهِ، فَيَأَخْذُ حَنُوطَهُ، فَيَكُبُّوا لَهَا سَاعَةً، ثُمَّ يَقُولُ: هَاتِهِ، فَيَجْعَلُهُ فِي سَفَطٍ بَيْنَ عَيْنَيْهِ هُوَ وَالأَكْفَانُ وَقَدْ فَرَغَ مِنْ قَبْرِهِ. قَالَ عُمَرُ: هَذَا لِمَنْ لا يَرْجُو اللَّهَ، ثُمَّ سَقَطَ عَنْ فِرَاشِهِ، فَمَا رُئِيَ عَلَى فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: «لا تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو الآخِرَةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ، وَيُؤَخِّرُ التَّوْبَةَ لِطُولِ الأَمَلِ، وَيَقُولُ فِي الدُّنْيَا قَوْلَ الزَّاهِدِينَ، وَيَعْمَلُ فِيهَا عَمَلَ الرَّاغِبِينَ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ لِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِ، وَيُقِيمَ عَلَى مَا يَكْرَهُ الْمَوْتَ لَهُ، إِنْ سَقِمَ ظَلَّ نَادِمًا، وَإِنْ صَحَّ قَامَ لاهِيًا، تَغْلِبُهُ نَفْسُهُ عَلَى مَا يَظُنُّ، وَلا يَغْلِبُهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 عَلَى مَا يَسْتَيْقِنُ» . وَقَالَ فِي ذَمِّ الدُّنْيَا: أَوَّلُهَا عَنَاءٌ وَآخِرُهَا فَنَاءٌ، مَنْ صَحَّ فِيهَا أَمِنَ، وَمَنِ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ، وَمَنْ قَعَدَ عَنْهَا أَتَتْهُ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا أَعْمَتْهُ، وَمَنْ بَطِرَ بِهَا بَصُرَتْهُ. وَقَالَ: إِنِّي لأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَكُونُ ذَنْبٌ أَعْظَمَ مِنْ عَفْوِي، أَوْ جَهْلٌ أَعْظَمَ مِنْ حِلْمِي، أَوْ عَوْرَةٌ لا يُوَارِيهَا سَتْرِي، أَوْ خُلَّةٌ لا يَسُدُّهَا جُودِي، وَقَالَ: إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدِوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْرَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. وَقَالَ: إِنَّكُمْ مَخْلُوقُونَ اقْتِدَارًا، وَمُرَبُّونَ اقْتِسَارًا، وَمَضْمُنُونَ أَجْدَاثًا، وَكَامِنُونَ رُفَاتًا، وَمَبْعُوثُونَ أَفْرَادًا، فَرَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا اقْتَرَفَ فَاعْتَرَفَ، وَوَجِلَ فَعَمِلَ، وَحَاذَرَ فَبَادَرَ، وَعَمَّرَ فَاعْتَبَرَ، وَتَأَهَّبَ لِلْمَعَادِ، وَاسْتَظْهَرَ بِالزَّادِ لِيَوْمِ رَحِيلِهِ، وَوَجْهِ سَبِيلِهِ، وَحَالِ حَاجَتِهِ وَمَوْطِنِ فَاقَتِهِ، فَهَلْ يَنْتَظِرُ أَهْلُ عَضَارَةِ الشَّبَابِ إِلا حَوَانِيَ الْهَرَمِ، وَأَهْلُ نَضَاضَةِ الصِّحَّةِ إِلا نَوَازِلَ السَّقَمِ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: إِنَّكُمْ فِي مَمَرٍّ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَي آجَالٍ مَنْقُوصَةٍ، وَأَعْمَالٍ مَحْفُوظَةٍ، وَالْمَوْتُ يَأْتِي بَغْتَةً، فَمَنْ زَرَعَ خَيْرًا يُوشِكُ أَنْ يَحْصُدَ رِبْحَهُ، وَمَنْ زَرَعَ شَرًّا فَيُوشِكُ أَنْ يَحْصُدَ مَدَامَةً. وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، يَقُولُ: مَا لِي أَرَاكُمْ تَبْنُونَ مَا لا تَسْكُنُونَ، وَتَجْمَعُونَ مَا لا تَأْكُلُونَ، وَتَأْمَلُونَ مَا لا تُدْرِكُونَ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بَنَوْا شَدِيدًا، وَجَمَعُوا كَثِيرًا، وَأَمِلُوا بَعِيدًا، فَأَصْبَحَ أَمَلُهُمْ غُرُورًا، وَجَمْعُهُمْ بُورًا، وَمَسَاكِنُهُمْ قُبُورًا، كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا، وَبِالدَّهْرِ مُفَرِّقًا، الْيَوْمَ فِي الدُّورِ، وَغَدًا فِي الْقُبُورِ أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْعَلافِ، أَنْبَأنَا أَبُو الْحَسَنِ الْحَمَامِيُّ، أَنْبَأنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الصَّوَّافِ، أَنْبَأنَا بَشِيرُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حُمَيْدِ بْنُ عِنَبَةَ، قَالَ: كَتَبَ الأَوْزَاعِيُّ إِلَى أَخٍ لَهُ: أَمَّا بَعْدُ. فَإِنَّهُ قَدْ أُحِيطَ بِكَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُسَارُ بِكَ فِي كُلِّ يَوْمٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 وَلَيْلَةٍ، فَاحْذَرِ اللَّهَ وَالْقِيَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِكَ بِهِ، وَالسَّلامُ. وَكَتَبَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ إِلَى أَخٍ لَهُ: أَمَّا بَعْدُ. . فَإِنَّ الدُّنْيَا حُلْمٌ، وَالآخِرَةُ يَقَظَةٌ، وَالْمُتَوَسِّطُ بَيْنَهُمَا الْمَوْتُ، وَنَحْنُ فِي أَضْغَاثٍ، وَالسَّلامُ. وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: أَعَيْنَيَّ هَلا تَبْكِيَانِ عَلَى عُمُرِي ... تَنَاثَرَ عُمُرِي مِنْ يَدَيَّ وَلا أَدْرِي إِذَا كُنْتُ قَدْ جَاوَزْتُ خَمْسِينَ حِجَّةً ... وَلَمْ أَتَأَهَّبْ لِلْمَعَادِ فَمَا عُذْرِي وَأَنْشَدَ آخَرُ: تَزَوَّدْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ رَاحِلُ ... وَبَادِرْ فَإِنَّ الْمَوْتَ لا شَكَّ نَازِلُ وَإِنَّ امْرَءًا قَدْ عَاشَ خَمْسِينَ حِجَّةً ... وَلَمْ يَتَزَوَّدْ لِلْمَعَادِ لَجَاهِلُ وَأَنْشَدَ غَيْرُهُ: أَحَدٌ وَستِوُّنَ لَوْ مَرَّتْ عَلَى حَجَرٍ ... لَكَانَ مِنْ حُكْمِهَا أَنْ يَخْلَقَ الْحَجَرُ تُؤَمِّلُ النَّفْسُ آمَالا لِتَبْلُغَهَا ... كَأَنَّهَا لا تَرَى مَا يَصْنَعُ الْقَدَرُ وَأَنْشَدُوا: رُوَيْدَكَ يَا ذَا الْقَصْرِ فِي شُرُفَاتِهِ ... فَإِنَّكَ عَنْهُ تُسْتَحَثُّ وَتُزْعَجُ وَلا بُدَّ مِنْ بَيْتِ انْقِطَاعٍ وَوَحْشَةٍ ... وَإِنْ غَرَّكَ الْبَيْتُ الأَنِيقُ الْمُدْبَجُ وَقِيلَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عِنْدَ مَوْتِهِ: اعْهَدْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: أُحَذِّرُكُمْ مَصْرَعِي هَذَا فَإِنَّهُ لا بُدَّ لَكُمْ مِنْهُ، وَإِذَا وَضَعْتُمُونِي فِي قَبْرِي فَانْزَعُوا عَنِّي لِينَهُ، وَانْظُرُوا مَا لَحِقَنِي مِنْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ. وَوَعَظَ رَجُلٌ بَعْضَ الْمُلُوكِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَنْ لَوْ لَمْ تُخْلَقْ إِلا أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُ الْمَوْتِ مِنْ بَابِ بَيْتِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 وَمِنْ كَلامِ الْحُكَمَاءِ الْمَنْثُورِ: الظُّلْمُ أَدْعَى شَيْءٍ إِلَى تَغَيُّرِ النِّعْمَةِ. مَنِ انْتَجَعَكَ مُؤَمِّلا لَكَ فَقَدْ أَسْلَفَكَ حُسْنَ الظَّنِّ بِكَ. الْجُودُ حَارِسُ الأَعْرَاضِ. الْحِلْمُ فِدَامُ السَّفِيهِ. الْعَفْوُ زَكَاةُ الْعَقْلِ. الْوَفَاءُ أُنْسُكَ مِمَّنْ نَكَثَ. الصَّبْرُ يُنَاضِلُ الْحَدَثَانِ، وَالْجَزَعُ مِنْ أَعْوَانِ الزَّمَانِ. مَنْ لَمْ يَعْصَ عَلَى الْقِدَا لَمْ يَرْضَ أَبَدًا. أَكْثَرُ مَصَارِعِ الْعُقُولِ تَحْتَ بُرُوقِ الْمَطَامِعِ. بِالسِّيرَةِ الْعَادِلَةِ تَقْهَرُ الْمُنَاوِي. الْمُطَاوِعُ فِي وَثَاقِ الذُّلِ. أَبْدَانُ الْمُلُوكِ تَعِبَةٌ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا. وَكُلَّمَا حَصَلُوا عَلَى حُلَّةٍ رَامُوا الَّتِي تَلِيهَا، فَلا اسْتَرَاحُوا، وَلا بَقُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشُّغُلِ، حَتَّى أَتَى الْمَوْتُ فَاسْتَلَبَهُمْ عَلَى وِزْرِ الْمَظَالِمِ، وَطُولِ الْوُقُوفِ لِلْقَصَّاصِ. مَنْ ظَلَمَ يَتِيمًا ظَلَمَ أَوْلادَهُ. مَنْ أَحَبَّ نَفْسَهُ اجْتَنَبَ الآثَامَ. مَنْ سَلَّ سَيْفَ الْبَغْيِ أُغْمِدَ فِي رَأْسِهِ، وَالسَّعِيدُ مَنِ اعْتَبَرَ بِأَمْسِهِ وَاسْتَظْهَرَ لِنَفْسِهِ، وَالشَّقِيُّ مَنْ جَمَعَ لِغَيْرِهِ، وَبَخِلَ عَلَى نَفْسِهِ. أَيْدِي الْعُقُولِ تُمْسِكُ أَعِنَّةَ النُّفُوسِ. أَنْفَاسُ الْحَيِّ خُطَاهُ إِلَى أَجَلِهِ، وَالأَمَانِيُّ تُعْمِي الْبَصَائِرَ، وَمَنْ شَارَكَ السُّلْطَانَ فِي عِزِّ الدُّنْيَا شَارَكَهُ فِي ذُلِّ الآخِرَةِ. الدَّهْرُ سَرِيعُ الْوَثْبَةِ، شَفِيعُ الْعَثْرَةِ. أَهْلُ الدُّنْيَا رَكْبٌ يُسَارُ بِهِمْ وَهُمْ نِيَامٌ، وَالْمَرْءُ نَهْبُ الْحَوَادِثِ وَأَسِيرُ الاغْتِرَابِ. الْفُرَصُ سَرِيعَةُ الْفَوْتِ بَعِيدَةُ الْعَوْدَةِ. الأَيَّامُ صَحَائِفُ الأَعْمَارِ فَقَلِّدُوهَا أَحْسَنَ الأَعْمَالِ. دَوَامُ الذِّكْرِ لِحُسْنِ السِّيَرِ. لا تَقُلْ فِي السِّرِّ مَا تَسْتَحِي أَنْ تَذْكُرَهُ فِي الْعَلانِيَةِ. الْحِدَّةُ وَالنَّدَامَةُ فَرَسَا رِهَانٍ. مَنْ لَمْ يَكِسْ وُكِسَ. السَّفَهُ نِتَاجُ الإِنْسَانِ. مُعَاشَرَةُ ذَوِي الأَلْبَابِ عِمَارَةُ الْقُلُوبِ. وَمَنْ عَرَفَ تَصَرُّفَ الأَيَّامِ لَمْ يَغْفُلْ عَنِ الاسْتِعْدَادِ. الْمَنِيَّةُ تَضْحَكُ مِنَ الأُمْنِيَةِ. بِكَثْرَةِ الصَّمْتِ تَكُونُ الْهَيْبَةُ. تَاجُ الْمَلِكِ عَفَافُهُ، وَحِصْنُهُ إِنْصَافُهُ، وَصَلاحُهُ كَفَافُهُ. إِذَا عُدِمَ الإِخْلاصُ فِي الأَعْمَالِ فَهِيَ تَعَبٌ ضَائِعٌ. وَمَنْ لَمْ يَتَفَكَّرْ فِي نَفْسِهِ، وَمَا يُرَادُ بِهِ، وَإِلَى أَيْنَ يُذْهَبُ بِهِ، فَقَدْ حُرِمَ مَعْنَى الإِنْسَانِيَّةِ، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ فَقَدْ حُرِمَ التَّوْفِيقَ، وَمَنْ لَمْ يَنْهَبْ زَمَانَهُ بِكَفِّ الاسْتِلابِ، فَمَا عَرَفَ الدَّهْرَ. إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْهُدَى فَيَسِيرُ الْمَوَاعِظِ يُقْنِعُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ النُّزْهَةَ فَالْكَثِيرُ لا يَكْفِي وَلا يَنْجَعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521